ﰡ
أمر الله تعالى خَلْقَهُ بِتَقْوَاهُ، وَهِيَ عِبَادَتُهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَمُنَبِّهًا لَهُمْ عَلَى قُدْرَتِهِ الَّتِي خَلَقَهُمْ بِهَا مِّن ﴿نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ وَهِيَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ وَهِيَ حَوَّاءُ عَلَيْهَا السَّلَامُ، خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعِهِ الْأَيْسَرِ مِنْ خَلْفِهِ وهو نائم فاستيقظ فرآها فأعجبته، فأنس إليه وأنست إليه. وقال ابن أبي حاتم عن ابن عباس: خلقت المرأة من الرجل فجعلت نَهْمَتُهَا فِي الرَّجُلِ، وَخُلِقَ الرَّجُلُ مِنَ الْأَرْضِ فجعلت نهمته في الأرض فاحبسوا نساءكم (رواه ابن أبي حاتم عن قتادة عن ابن عباس) وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلَاهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنِ اسْتَمْتَعْتَ بِهَا اسْتَمْتَعْتَ بِهَا وَفِيهَا عِوَجٌ» وَقَوْلُهُ: ﴿وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً﴾ أَيْ وَذَرَأَ مِنْهُمَا: أَيْ مِنْ آدَمَ وَحَوَّاءَ رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً، ونَشَرَهُمْ فِي أَقْطَارِ الْعَالَمِ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْنَافِهِمْ وَصِفَاتِهِمْ وَأَلْوَانِهِمْ وَلُغَاتِهِمْ، ثُمَّ إِلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ الْمَعَادُ وَالْمَحْشَرُ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ﴾ أَيْ وَاتَّقُوا اللَّهَ بِطَاعَتِكُمْ إياه، قال مجاهد وَالْحَسَنُ: ﴿الَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ﴾ أَيْ كَمَا يُقَالُ أَسْأَلُكَ بِاللَّهِ وَبِالرَّحِمِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: وَاتَّقُوا اللَّهَ الذي تعاقدون وتعاهدون به وَاتَّقُوا الْأَرْحَامَ أَنْ تَقْطَعُوهَا وَلَكِنْ بِرُّوهَا وَصِلُوهَا قاله ابن عباس وعكرمة. وقرأ بعضهم: ﴿والأرحام﴾ بالخفض عطفاً عَلَى الضَّمِيرِ فِي (بِهِ) أَيْ تَسَاءَلُونَ بِاللَّهِ وَبِالْأَرْحَامِ كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ.
وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾ أَيْ هُوَ مُرَاقِبٌ لجميع أحوالكم وأعمالكم، كَمَا قَالَ: {وَاللَّهُ عَلَى
- ٣ - وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا
- ٤ - وَآتُواْ النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئًا
يَأْمُرُ تَعَالَى بِدَفْعِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى إِلَيْهِمْ إِذَا بَلَغُوا الْحُلُمَ كَامِلَةً مُوَفَّرَةً، وَيَنْهَى عَنْ أَكْلِهَا وَضَمِّهَا إِلَى أَمْوَالِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ﴾ قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: لَا تَعْجَلْ بِالرِّزْقِ الْحَرَامِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكَ الرِّزْقُ الْحَلَالُ الَّذِي قُدِّرَ لَكَ، وَقَالَ سَعِيدُ بن جبير: لا تتبدلوا الْحَرَامَ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْحَلَالِ مِنْ أَمْوَالِكُمْ، يقول: لا تبدلوا أَمْوَالَكُمُ الْحَلَالَ وَتَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمُ الْحَرَامَ، وَقَالَ سَعِيدُ بن المسيب: لا تعط مهزولاً وتأخذ سميناً، وقال الضحاك لا تعط زيقاً وَتَأْخُذْ جَيِّدًا، وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ أَحَدُهُمْ يَأْخُذُ الشاة السمينة من غنم اليتيم، ويجعل مَكَانَهَا الشَّاةَ الْمَهْزُولَةَ، وَيَقُولُ: شَاةٌ بِشَاةٍ، وَيَأْخُذُ الدِّرْهَمَ الْجَيِّدَ وَيَطْرَحُ مَكَانَهُ الزَّيِّفَ وَيَقُولُ دِرْهَمٌ بِدِرْهَمٍ. وَقَوْلُهُ: ﴿وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾ قال مجاهد وسعيد بن جبير: أَيْ لَا تَخْلِطُوهَا فَتَأْكُلُوهَا جَمِيعًا، وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيرًا﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ إثماً عظيماً. وفي الحديث المروي في سنن أبو دَاوُدَ: «اغْفِرْ لَنَا حُوبَنَا وَخَطَايَانَا» وَرَوَى ابْنُ مردويه بإسناده عن ابن عباس: أنا أيا أَيُّوبَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَبَا أَيُّوبَ إِنَّ طَلَاقَ أُمِّ أَيُّوبَ كَانَ حُوبًا» قَالَ ابْنُ سيرين: الحوب الإثم، وعن أنَس: أن أبا ايوب أرد طلاق أم أيوب، فاستأذن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «إِنَّ طلاق أم أيوب لحوب» فأمسكها وَالْمَعْنَى: إِنَّ أَكْلَكُمْ أَمْوَالَهُمْ مَعَ أَمْوَالِكُمْ إِثْمٌ عَظِيمٌ وَخَطَأٌ كَبِيرٌ فَاجْتَنِبُوهُ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى﴾ أَيْ إِذَا كَانَ تحت حجر أحدكم يتيمة وخاف أن لا يُعْطِيَهَا مَهْرَ مِثْلِهَا فَلْيَعْدِلْ إِلَى مَا سِوَاهَا، فَإِنَّهُنَّ كَثِيرٌ وَلَمْ يُضَيِّقِ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَقَالَ البخاري عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ رَجُلًا كَانَتْ لَهُ يَتِيمَةٌ فَنَكَحَهَا وَكَانَ لَهَا عَذْقٌ، وَكَانَ يُمْسِكُهَا عَلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا مِنْ نَفْسِهِ شَيْءٌ فَنَزَلَتْ
وَقَوْلُهُ ﴿مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ﴾ أَيِ انْكِحُوا مَا شِئْتُمْ مِّن النِّسَاءِ سِوَاهُنَّ إِنْ شَاءَ أَحَدُكُمْ ثِنْتَيْنِ، وَإِنْ شَاءَ ثَلَاثًا، وَإِنْ شَاءَ أَرْبَعًا، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: ﴿جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ﴾ أي منهم من له جناحان، ومنه مَنْ لَهُ ثَلَاثَةٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ أَرْبَعَةٌ، وَلَا يَنْفِي مَا عَدَا ذَلِكَ فِي الْمَلَائِكَةِ لِدَلَالَةِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ قَصْرِ الرِّجَالِ عَلَى أربع فمن هذه الآية كما قال ابْنُ عَبَّاسٍ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ امْتِنَانٍ وَإِبَاحَةٍ، فَلَوْ كَانَ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ لَذَكَرَهُ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَقَدْ دَلَّتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُبِيِّنَةُ عَنِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِأَحَدٍ غَيْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ نسوة، وهذا الذي قاله الشافعي مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ الشِّيعَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ إِلَى تِسْعٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بِلَا حَصْرٍ وَقَدْ يَتَمَسَّكُ بَعْضُهُمْ بِفِعْلِ رسول الله ﷺ في جَمْعِهِ بَيْنَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ إِلَى تِسْعٍ كما ثبت في الصحيح، وهذا عند العلماء من خصائصه دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأُمَّةِ لِمَا سَنَذْكُرُهُ مِنَ الأحاديث الدالة على الحصر في أربع، ولنذكر الأحاديث في ذلك. قال الإمام أحمد عَنْ سَالِمٍ عَنِ أَبِيهِ: أَنَّ (غَيْلَانَ بْنَ سلمة الثقفي) أسلم وتحته عشر نِسْوَةٍ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اخْتَرْ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا»، فَلَمَّا كَانَ فِي عَهْدِ عُمَرَ طَلَّقَ نِسَاءَهُ، وَقَسَّمَ مَالَهُ بَيْنَ بَنِيهِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ فَقَالَ: إِنِّي لَأَظُنُّ الشَّيْطَانَ فِيمَا يَسْتَرِقُ مِنَ السَّمْعِ سَمِعَ بِمَوْتِكَ فقذفه في نفسك، ولعلك لا تلبث إِلَّا قَلِيلًا، وَايْمُ اللَّهِ لَتُرَاجِعَنَّ نِسَاءَكَ وَلَتَرْجِعَنَّ مَالِكَ أَوْ لَأُورِثُهُنَّ مِنْكَ وَلَآمُرَنَّ بِقَبْرِكَ فَيُرْجَمُ كما رجم قبر أبي رغال (رواه الترمذي وابن ماجة والدارقطني إلى قوله: ﴿اختر منهن أربعاً﴾ والباقي من رواية أحمد} وعن ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ (غَيْلَانَ بْنَ سَلَمَةَ) كَانَ عِنْدَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ، فَأَسْلَمَ وَأَسْلَمْنَ مَعَهُ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَخْتَارَ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا، هَكَذَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ. فَوَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ لَسَوَّغَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَائِرَهُنَّ فِي بقاء العشرة وقد أسلمن، فَلَمَّا أَمَرَهُ بِإِمْسَاكِ أَرْبَعٍ وَفِرَاقِ سَائِرِهِنَّ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ أَكْثَرَ من أربع بحال، فإذا كَانَ هَذَا فِي الدَّوَامِ، فَفِي الِاسْتِئْنَافِ بِطَرِيقِ الأولى والأحرى، والله سبحانه أعلم بالصواب.
(حديث آخر) قال الشافعي في مسنده عن نوفل بن معاوية الديلي قَالَ: أَسْلَمْتُ وَعِنْدِي خَمْسُ نِسْوَةٍ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اخْتَرْ أَرْبَعًا أَيَّتَهُنَّ شِئْتَ وَفَارِقِ الْأُخْرَى»، فَعَمَدْتُ إِلَى أَقْدَمِهِنَّ صُحْبَةً، عَجُوزٍ عَاقِرٍ
فَمَا يَدْرِي الْفَقِيرُ مَتَى غِنَاهُ * ومَا يَدرِي الْغَنِيُّ مَتَى يُعِيلُ؟
وَتَقُولُ الْعَرَبُ: عَالَ الرَّجُلُ يُعِيلُ عَيْلَةً إِذَا افْتَقَرَ، وَلَكِنْ في هذا التفسير ههنا نَظَرٌ، فَإِنَّهُ كَمَا يُخْشَى كَثْرَةُ الْعَائِلَةِ مِنْ تعداد الحرائر كذلك يخشى من تعداد السراي أَيْضًا، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ: ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ﴾ أَيْ لَا تَجُورُوا يُقَالُ: عَالَ فِي الْحُكْمِ إِذَا قَسَطَ وَظَلَمَ وَجَارَ، وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ فِي قَصِيدَتِهِ الْمَشْهُورَةِ:
بِمِيزَانِ قِسْطٍ لَا يَخِيسُ شُعَيْرَةً * لَهُ شَاهِدٌ مِنْ نَفْسِهِ غَيْرُ عائل
عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ﴾ قَالَ: «لَا تجوروا»، روي مرفوعاً والصحيح عن عائشة أنه موقوف، وروي عن ابن عباس وعائشة ومجاهد أنهم قالوا: لا تميلوا.
وقوله تعالى: ﴿وَآتُواْ النسآء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾ قال ابن عباس: النحلة: المهر عن عائشة نحلة: فريضة، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: النِّحْلَةُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الواجب، يقول: لا تنكحها إلا بشي واجب لها، وليس ينبغي لأحد بعيد النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَنْكِحَ امرأة إلا بصداق واجب، وَمَضْمُونُ كَلَامِهِمْ أَنَّ الرَّجُلَ يَجِبُ عَلَيْهِ دَفْعُ الصَّدَاقِ إِلَى الْمَرْأَةِ حَتْمًا، وَأَنْ يَكُونَ طَيِّبَ النَّفْسِ بِذَلِكَ، كَمَا يَمْنَحُ الْمَنِيحَةَ وَيُعْطِي النِّحْلَةَ طيباً، كَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يُعْطِيَ الْمَرْأَةَ صَدَاقَهَا طَيِّبًا بِذَلِكَ، فَإِنْ طَابَتْ هِيَ لَهُ بِهِ بَعْدَ تَسْمِيَتِهِ أَوْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ فَلْيَأْكُلْهُ حَلَالًا طيباً، ولهذا قال: ﴿فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً﴾ وقال هشيم: كان الرجل إذا زوج بنته أَخَذَ صَدَاقَهَا دُونَهَا فَنَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ وَنَزَلَ: ﴿وَآتُواْ النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾ (رَوَاهُ ابْنُ أبي حاتم وابن جرير).
- ٦ - وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وكفى بالله حَسِيباً
ينهى سبحانه وتعالى عَنْ تَمْكِينِ السُّفَهَاءِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْأَمْوَالِ، الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ لِلنَّاسِ قِيَامًا، أَيْ تَقُومُ بها
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى﴾ أَيِ اخْتَبِرُوهُمْ ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي الْحُلُمَ، قَالَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ: الْبُلُوغُ فِي الْغُلَامِ تَارَةً يَكُونُ بِالْحُلُمِ، وَهُوَ أَنْ يَرَى فِي مَنَامِهِ مَا يُنْزِلُ بِهِ الماء الدافق الذي يكون منه الولد، وعن علي: قَالَ حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا يُتْمَ (١) بَعْدَ احْتِلَامٍ، وَلَا صُمَات يومٍ إِلَى اللَّيْلِ» وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ عن عائشة وغيرها مِنَ الصَّحَابَةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يحلم - أي يستكمل خمس عشرة سنة - وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يفيق»، وأخذوا ذلك من الحديث الثابت في الصحيحن عن ابن عُمَرَ قَالَ: عُرِضتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحد وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشَرَةَ فَلَمْ يُجِزْنِي، وَعُرِضْتُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني، فقال عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَمَّا بَلَغَهُ هَذَا الْحَدِيثُ: إِنَّ هَذَا الْفَرْقَ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وقال أبو عبيد في الغريب عَنْ عُمَرَ: أَنَّ غُلَامًا ابْتَهَرَ جَارِيَةً فِي شعره، فقال عمر: انْظُرُوا إِلَيْهِ فَلَمْ يُوجَدْ أَنْبَتَ فَدَرَأَ عَنْهُ الحد، قال أبو عبيدة: ابْتَهَرَهَا أَيْ قَذَفَهَا، وَالِابْتِهَارُ: أَنْ يَقُولَ فَعَلْتُ بِهَا وَهُوَ كَاذِبٌ، فَإِنْ كَانَ صَادِقًا فَهُوَ الإبتهار قَالَ الْكُمَيْتُ فِي شِعْرِهِ:
قَبِيحٌ بِمِثْلِي نَعْتُ الفتاة * إما ابتهاراً وإما ابتياراً
وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾ يعني صلاحاً في دينهم وحفظاً لأموالهم كذا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَغَيْرِ واحد من الأئمة، وهكذا قال الفقهاء: إذا بَلَغَ الْغُلَامُ مُصْلِحًا لِدِينِهِ وَمَالِهِ انْفَكَّ الْحَجْرُ عَنْهُ، فَيُسَلَّمُ إِلَيْهِ مَالُهُ الَّذِي تَحْتَ يَدِ وليه، وَقَوْلُهُ: ﴿وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ﴾ يَنْهَى تَعَالَى عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى مِنْ غير حاجة ضرورية ﴿إِسْرَافاً وَبِدَاراً﴾ أي مبادرة قَبْلَ بُلُوغِهِمْ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ﴾ عنه ولا يأكل منه شيئاً، وقال الشَّعْبِيُّ: هُوَ عَلَيْهِ كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ،
روي أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ عِنْدِي يَتِيمًا عِنْدَهُ مَالٌ وَلَيْسَ لي مال، آكل من ماله؟ قال: «كل بالمعروف غير مسرف» (رواه ابن أبي حاتم وأبو داود والنسائي). وقال ابن جرير: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: إِنَّ فِي حِجْرِي أَيْتَامًا، وَإِنَّ لَهُمْ إِبِلًا وَلِي إبل، وأنا أمنح من إبلي فقراء، فماذا يحل مِنْ أَلْبَانِهَا؟ فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ تَبْغِي ضَالَّتَهَا وتهنا جرباها وتلوط حوضها وتسعى عَلَيْهَا فَاشْرَبْ غَيْرَ مُضِرٍّ بِنَسْلٍ، وَلَا نَاهِكٍ في الحلب (أخرجه ابن جرير ورواه مالك في الموطأ). (وَالثَّانِي): نَعَمْ، لِأَنَّ مَالَ الْيَتِيمِ عَلَى الْحَظْرِ، وَإِنَّمَا أُبِيحَ لِلْحَاجَةِ، فَيَرُدُّ بَدَلَهُ كَأَكْلِ مَالِ الغير للمضطر عند الحاجة، وقد قال ابن أبي الدنيا: قال عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنِّي أَنْزَلْتُ نَفْسِي من هذا المال منزلة وَالِي الْيَتِيمِ، إِنِ اسْتَغْنَيْتُ اسْتَعْفَفَتُ، وَإِنِ احْتَجْتُ استقرضت، فإذا أيسرت قضيت. وعن ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾، قال: يأكل من ماله يقوت على نفسه حتى لا يحتاج إلى مال اليتيم، وَقَالَ عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ: لَا يَأْكُلْ مِنْهُ إِلَّا أن يضطر إليه كما يضطر إلى الميتة فإن أكل منه قضاه ﴿وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ﴾ يَعْنِي مِنَ الْأَوْلِيَاءِ ﴿وَمَن كَانَ فَقِيراً﴾ أَيْ مِنْهُمْ ﴿فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ أَيْ بِالَّتِي هِيَ أحسن كما قال في الآية الأخرة: ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ﴾ أي لا تقربوه إلا مصلحين له فإن احتجتم إليه أكلتم منه بالمعروف.
وقوله تعالى: ﴿فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾ يَعْنِي بَعْدَ بُلُوغِهِمُ الحلم وإيناسكم الرشد منهم فحينئذ سلموا إليهم أَمْوَالَهُمْ، فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ﴿فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ﴾ وهذا أمر من اللَّهِ تَعَالَى لِلْأَوْلِيَاءِ أَنْ يُشْهِدُوا عَلَى الْأَيْتَامِ إِذَا بَلَغُوا الْحُلُمَ وَسَلَّمُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ لِئَلَّا يَقَعَ مِنْ بَعْضِهِمْ جُحُودٌ وَإِنْكَارٌ لِمَا قَبَضَهُ وَتَسَلَّمَهُ. ثُمَّ قَالَ: ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً﴾ أَيْ وكفى بالله حَسِيباً وشاهداً وَرَقِيبًا عَلَى الْأَوْلِيَاءِ، فِي حَالِ نَظَرِهِمْ لِلْأَيْتَامِ وحال تسليمهم لأموالهم، هَلْ هِيَ كَامِلَةٌ مُوَفَّرَةٌ أَوْ مَنْقُوصَةٌ مَبْخُوسَةٌ؟ وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَا أَبَا ذَرٍّ إِنِّي أَرَاكَ ضَعِيفًا، وَإِنِّي أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي: لَا تَأَمرنَّ عَلَى اثنين، ولا تَلِينَ مال يتيم".
- ٨ - وَإِذَا حَضَرَ القسمة أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفًا
- ٩ - وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وليقولوا قولا
- ١٠ - إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَجْعَلُونَ الْمَالَ لِلرِّجَالِ الْكِبَارِ، وَلَا يُوَرِّثُونَ النِّسَاءَ وَلَا الْأَطْفَالَ شَيْئًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مما ترك الوالدان والأقربون﴾ الآية. أَيِ الْجَمِيعُ فِيهِ سَوَاءٌ فِي حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى، يَسْتَوُونَ فِي أَصْلِ الْوِرَاثَةِ، وَإِنْ تَفَاوَتُوا بحسب ما فرض الله لِكُلٍّ مِنْهُمْ، بِمَا يُدْلِي بِهِ إِلَى الْمَيِّتِ مِنْ قَرَابَةٍ، أَوْ زَوْجِيَّةٍ، أَوْ وَلَاءٍ، فَإِنَّهُ لحمة كلحمة النسب. وروى ابن مردويه عن جابر قال: ﴿أتت أم كحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِيَ ابْنَتَيْنِ قد مَاتَ أَبُوهُمَا وَلَيْسَ لَهُمَا شَيْءٌ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ﴾ الآية. وقوله: ﴿وَإِذَا حَضَرَ القسمة﴾ الآية. قِيلَ: الْمُرَادُ: وَإِذَا حَضَرَ قِسْمَةَ الْمِيرَاثِ ذَوُو الْقُرْبَى مِمَّنْ لَيْسَ بِوَارِثٍ، ﴿وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ﴾ فَلْيَرْضَخْ لَهُمْ مِنَ التَّرِكَةِ نَصِيبٌ، وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ وَاجِبًا فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ، وَقِيلَ: يُسْتَحَبُّ، وَاخْتَلَفُوا هَلْ هُوَ مَنْسُوخٌ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، فقال البخاري عن ابن عباس: هي محكمة وليست بمنسوخة، وقال عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿وَإِذَا حضر القسمة أولو الْقُرْبَى﴾ نَسَخَتْهَا الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ في أَوْلاَدِكُمْ﴾ وروى العوفي عن ابن عباس: كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الْفَرَائِضُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ الْفَرَائِضَ فَأَعْطَى كُلَّ ذِي حَقِّ حَقَّهُ، فَجُعِلَتِ الصَّدَقَةُ فِيمَا سمَّى الْمُتَوَفَّى، وقال ابن أبي حاتم عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ﴾ نَسَخَتْهَا آيَةُ الْمِيرَاثِ، فَجُعِلَ لِكُلِّ إِنْسَانٍ نُصِيبُهُ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أو كثر. وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَأَصْحَابِهِمْ، والمعنى: أَنَّهُ إِذَا حَضَرَ هَؤُلَاءِ الْفُقَرَاءُ مِنَ الْقَرَابَةِ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ قِسْمَةَ مَالٍ جَزِيلٍ، فَإِنَّ أَنْفُسَهُمْ تَتُوقُ إِلَى شَيْءٍ مِنْهُ، وإذا رأوا هذا يَأْخُذُ وَهَذَا يَأْخُذُ وَهُمْ يَائِسُونَ لَا شَيْءَ يُعطَونه، فأمر الله تعالى وهو الرؤوف الرَّحِيمُ أَنْ يُرْضَخَ لَهُمْ شَيْءٌ مِنَ الْوَسَطِ يَكُونُ بِرًّا بِهِمْ وَصَدَقَةً عَلَيْهِمْ، وَإِحْسَانًا إِلَيْهِمْ وَجَبْرًا لِكَسْرِهِمْ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ وَذَمَّ الَّذِينَ يَنْقُلُونَ الْمَالَ خِفْيَةً خَشْيَةَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِمُ الْمَحَاوِيجُ وَذَوُو الْفَاقَةِ كَمَا أَخْبَرَ به عَنِ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ: ﴿إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ﴾ أَيْ بِلَيْلٍ، وَقَالَ: ﴿فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ* أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِّسْكِينٌ﴾ ف ﴿دَمَّرَ الله عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا﴾ فَمَنْ جَحَدَ حَقَّ اللَّهِ عَلَيْهِ عَاقَبَهُ فِي أعز ما يملكه.
وقوله تعالى: ﴿وليخش الذي لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ﴾ الآية، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: هَذَا فِي الرَّجُلِ يَحْضُرُهُ الْمَوْتُ، فيسمعه رجل يُوصِي بِوَصِيَّةٍ تَضُرُّ بِوَرَثَتِهِ، فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الَّذِي يَسْمَعُهُ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ وَيُوَفِّقَهُ وَيُسَدِّدَهُ للصواب، فينظر لورثته كما كان يجب أَنْ يُصْنَعَ بِوَرَثَتِهِ إِذَا خَشِيَ عَلَيْهِمُ الضَّيْعَةَ؛ وَهَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَخَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَاصٍّ يَعُودُهُ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي ذُو مَالٍ وَلَا يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةً، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي، قَالَ: لَا، قَالَ: فَالشَّطْرُ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَالثُّلُثُ قَالَ: «الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٍ». ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إنك إن تذر ورثتك أغنياء خر مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ» وَفِي الصحيح عن ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: لَوْ أَنَّ النَّاسَ غَضُّوا مِنَ الثُّلُثِ إِلَى الرُّبُعِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ».
قَالَ الْفُقَهَاءُ: إِنْ كَانَ وَرَثَةُ الْمَيِّتِ أغنياء استحب للميت أن يستوفي في وصيته الثلث، وَإِنْ كَانُوا فَقُرَاءَ اسْتُحِبَّ
هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ وَالَّتِي بَعْدَهَا، وَالْآيَةُ الَّتِي هِيَ خَاتِمَةُ هَذِهِ السُّورَةِ هُنَّ آيَاتُ عِلْمِ الْفَرَائِضِ، وَهُوَ مُسْتَنْبَطٌ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ، وَمِنَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ مِمَّا هو كَالتَّفْسِيرِ لِذَلِكَ، وَلْنَذْكُرْ مِنْهَا مَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِتَفْسِيرِ ذَلِكَ، وَأَمَّا تَقْرِيرُ الْمَسَائِلِ وَنَصْبُ الْخِلَافِ والأدلة، والحجاج بين الأئمة، فموضعه كتب الأحكام والله الْمُسْتَعَانُ.
وَقَدْ وَرَدَ التَّرْغِيبُ فِي تَعَلُّمِ الْفَرَائِضِ، وهذه الفرائض الخاصة من أهم ذلك؛ روى أبو دَاوُدَ وَابْنِ مَاجَهْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عمروا مرفوعاً: "الْعِلْمُ ثَلَاثَةٌ وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ فَضْلٌ: آيَةٌ مُحْكَمَةٌ، أَوْ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ، أَوْ فَرِيضَةٌ عَادَلةٌ"، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم: «تعلموا الفرائض وعلموه الناس فَإِنَّهُ نِصْفُ الْعِلْمِ، وَهُوَ يُنْسَى، وَهُوَ أَوَّلُ شيء ينزع مِنْ أُمَّتِي» (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَفِي إِسْنَادِهِ ضعيف) قال ابْنُ عُيَيْنَةَ: إِنَّمَا سَمَّى الْفَرَائِضَ نِصْفَ الْعِلْمِ لِأَنَّهُ يُبْتَلَى بِهِ النَّاسُ كُلُّهُمْ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ عند تفسيره هذه الآية: عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: عَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ فِي بَنِي سَلَمَةَ مَاشِيَيْنِ، فَوَجَدَنِي
(حديث آخر) عَنْ جَابِرٍ قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةُ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَاتَانِ ابْنَتَا سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ قُتِلَ أَبُوهُمَا مَعَكَ فِي يوم أُحد شَهِيدًا، وَإِنَّ عَمَّهُمَا أَخَذَ مَالَهُمَا فَلَمْ يَدَعْ لَهُمَا مَالًا وَلَا يُنْكَحَانَ إِلَّا وَلَهُمَا مال، فقال: «يقضي الله في ذلك» فَنَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عَمِّهِمَا فَقَالَ: «أَعْطِ ابْنَتَيْ سَعْدٍ الثُّلُثَيْنِ، وَأُمَّهُمَا الثُّمُنَ، وَمَا بَقِيَ فهو لك» (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ)
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ أَيْ يَأْمُرُكُمْ بِالْعَدْلِ فِيهِمْ، فَإِنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَجْعَلُونَ جَمِيعَ الْمِيرَاثِ للذكر دُونَ الْإِنَاثِ، فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمْ فِي أَصْلِ الْمِيرَاثِ، وَفَاوَتَ بَيْنَ الصِّنْفَيْنِ، فَجَعَلَ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَذَلِكَ لِاحْتِيَاجِ الرَّجُلِ إِلَى مُؤْنَةِ النَّفَقَةِ وَالْكُلْفَةِ، وَمُعَانَاةِ التِّجَارَةِ وَالتَّكَسُّبِ، تحمل المشاق فناسب أن يعطي ضعفي ما تأخذه مَا تَأْخُذُهُ الْأُنْثَى، وَقَدِ اسْتَنْبَطَ بَعْضُ الْأَذْكِيَاءِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ أَنَّهُ تَعَالَى أَرْحَمُ بخلقه من الوالدة بولدها، حَيْثُ أَوْصَى الْوَالِدَيْنِ بِأَوْلَادِهِمْ، فَعُلِمَ أَنَّهُ أَرْحَمُ بهم منهم. وقال البخاري عن ابن عباس: كَانَ الْمَالُ لِلْوَلَدِ، وَكَانَتِ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ؛ فَنَسَخَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ مَا أَحَبَّ فَجَعَلَ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَجَعَلَ لِلْأَبَوَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ منهما السدس والثلث، وجعل للزوجة الثمن الربع، وَلِلزَّوْجِ الشَّطْرَ وَالرُّبُعَ. وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عباس: لَمَّا نَزَلَتِ الْفَرَائِضُ الَّتِي فَرَضَ اللَّهُ فِيهَا مَا فَرَضَ لِلْوَلَدِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالْأَبَوَيْنِ كَرِهَهَا النَّاسُ أَوْ بَعْضُهُمْ وَقَالُوا: تُعْطَى الْمَرْأَةُ الرُّبُعَ أو الثمن، وتعطى الابنة النصف، ويعطى الغلام الصغير، وليس من هؤلاء أحد يُقَاتِلُ الْقَوْمَ؛ وَلَا يَحُوزُ الْغَنِيمَةَ؛ اسْكُتُوا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ لَعَلَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْسَاهُ؛ أَوْ نَقُولُ لَهُ فَيُغَيِّرُ! فقالوا: يا رسول الله تعطى الْجَارِيَةَ نِصْفَ مَا تَرَكَ أَبُوهَا؛ وَلَيْسَتْ تَرْكَبُ الفرس؛ ولا تقاتل القوم، ويعطى الصَّبِيَّ الْمِيرَاثَ وَلَيْسَ يُغْنِي شَيْئًا؛ وَكَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ؛ لَا يُعْطُونَ الْمِيرَاثَ إِلَّا لمن قاتل القوم؛ ويعطونه الأكبر فالأكبر، فنزلت الآية.
وَقَوْلُهُ: ﴿فَإِن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ﴾ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: قَوْلُهُ «فَوْقَ» زَائِدَةٌ، وَتَقْدِيرُهُ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً اثْنَتَيْنِ كما في قوله: ﴿فاضربوا فوق الأعناق﴾ وَهَذَا غَيْرُ مسلَّم لَا هُنَا وَلَا هُنَاكَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ شَيْءٌ زَائِدٌ لَا فَائِدَةَ فِيهِ. وَهَذَا مُمْتَنِعٌ، ثُمَّ قَوْلُهُ: ﴿فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ﴾ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مَا قَالُوهُ لَقَالَ فَلَهُمَا ثُلُثَا مَا تَرَكَ: وَإِنَّمَا اسْتُفِيدَ كَوْنُ الثُّلُثَيْنِ لِلْبِنْتَيْنِ مِنْ حُكْمِ الْأُخْتَيْنِ فِي الْآيَةِ الْأَخِيرَةِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ فِيهَا لِلْأُخْتَيْنِ بِالثُّلُثَيْنِ. وَإِذَا وَرِثَ الْأُخْتَانِ الثُّلُثَيْنِ فَلَأَنْ يرث البنتان الثلثين بالطريق الْأَولَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَمَ لِابْنَتَيْ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ بِالثُّلُثَيْنِ فَدَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى ذَلِكَ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ: ﴿وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النصف﴾، فلو كانت للبنتين النصف لنص عليه أيضاً لما حَكَمَ بِهِ لِلْوَاحِدَةِ عَلَى انْفِرَادِهَا؛ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْبِنْتَيْنِ فِي حُكْمِ الثَّلَاثِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وقوله تعالى: ﴿وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحد منهما السدس﴾ إلى آخره، الأبوان لهما في الإرث أَحْوَالٌ: (أَحَدُهَا) أَنْ يَجْتَمِعَا مَعَ الْأَوْلَادِ فَيُفْرَضُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ إِلَّا بِنْتٌ وَاحِدَةٌ، فُرِضَ
(وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ): أَنَّهَا تَأْخُذُ ثُلُثَ جَمِيعِ الْمَالِ في (مسألة الزوجة) خاصة، فَإِنَّهَا تَأْخُذُ الرُّبُعَ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ، وَتَأْخُذُ الْأُمُّ الثُّلُثَ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ، فَيَبْقَى خَمْسَةٌ لِلْأَبِ، وَأَمَّا فِي (مَسْأَلَةِ الزَّوْجِ) فَتَأْخُذُ ثُلُثَ الْبَاقِي لِئَلَّا تَأْخُذَ أَكْثَرَ مِنَ الْأَبِ لَوْ أَخَذَتْ ثُلُثَ الْمَالِ، فَتَكُونُ الْمَسْأَلَةُ مِنْ ستة: للزوج النصف ثلاثة وللأم ثلث الباقي بعد ذلك وَهُوَ سَهْمٌ، وَلِلْأَبِ الْبَاقِي بَعْدَ ذَلِكَ وَهُوَ سهمان. ويحكى هذا عن ابن سيرين، وهو مركب من القولين الأولين، وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ (وَالْحَالُ الثَّالِثُ) مِنْ أَحْوَالِ الْأَبَوَيْنِ وَهُوَ اجْتِمَاعُهُمَا مع الأخوة، سواء كَانُوا مِنَ الْأَبَوَيْنِ أَوْ مِنَ الْأَبِ أَوْ مِنَ الْأُمِّ، فَإِنَّهُمْ لَا يَرِثُونَ مَعَ الْأَبِ شَيْئًا، وَلَكِنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَحْجُبُونَ الْأُمَّ عَنِ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ، فَيُفْرَضُ لَهَا مَعَ وُجُودِهِمُ السدس، فإن لم يكن وراث سِوَاهَا وَسِوَى الْأَبِ أَخَذَ الْأَبُ الْبَاقِي وَحُكْمُ الْأَخَوَيْنِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ كَحُكْمِ الْإِخْوَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
وقوله: ﴿فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ﴾ أَضَرُّوا بالأم ولا يرثون، ولا يحجبها الأخر الواحد عن الثُّلُثِ وَيَحْجُبُهَا مَا فَوْقَ ذَلِكَ، وَكَانَ أَهْلُ العلم يرون أنهم إنما حجبوا أمهم عن الثلث أن أباهم يلي إنكاحهم ونفقتهم عليه دون أمهم، وهذا كلام حسن.
وقوله ﴿مِّن بعد وصية يوصي بها أو دَيْنٍ﴾ أجمع العلماء من السلف والخلف على أَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَصِيَّةِ، وَذَلِكَ عِنْدَ إِمْعَانِ النَّظَرِ يُفْهَمُ مِنْ فَحْوَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وروى أحمد والترمذي عن علي بن أبي طالب قال: إنكم تقرأون ﴿مِن بعد وصية يوصي بِهَآ أَوْ دَيْنٍ﴾ وإن رسول الله ﷺ قَضَى بِالدَّيْنِ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ، وَإِنَّ أَعْيَانَ بَنِي الأم يتوارثون دون بني العلات (الاعيان: الإخوة من الأب والأم و (العلات): الذين أبوهم واحد وأمهاتهم شتى)، يَرِثُ الرَّجُلُ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ دُونَ أَخِيهِ لأبيه.
وقوله: ﴿آياؤكم وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً﴾ أي إنما فرضنا للآباء والأبناء، وَسَاوَيْنَا بَيْنَ الْكُلِّ فِي أَصْلِ الْمِيرَاثِ، عَلَى خِلَافِ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَأْتِيهِ النَّفْعُ الدُّنْيَوِيُّ أَوِ الْأُخْرَوِيُّ أَوْ هُمَا مِنْ أَبِيهِ مَا لَا يأتيه من ابنه، وقد يكون بالعكس، ولذا قَالَ: ﴿آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً﴾ أي أن النَّفْعَ مُتَوَقَّعٌ وَمَرْجُوٌّ مِنْ هَذَا كَمَا هُوَ مُتَوَقَّعٌ وَمَرْجُوٌّ مِنَ الْآخَرِ، فَلِهَذَا فَرَضْنَا لِهَذَا وهذا، وَسَاوَيْنَا بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ فِي أَصْلِ الْمِيرَاثِ، وَاللَّهُ أعلم.
يَقُولُ تَعَالَى: وَلَكُمْ أَيُّهَا الرِّجَالُ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِذَا مُتْنَ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ، فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ الوصية أو الدين، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَصِيَّةِ، وَبَعْدَهُ الْوَصِيَّةُ ثُمَّ الْمِيرَاثُ، وَهَذَا أَمْرٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَحُكْمُ أَوْلَادِ الْبَنِينَ وَإِنْ سَفُلُوا حُكْمُ أَوْلَادِ الصُّلْبِ، ثُمَّ قَالَ: ﴿وَلَهُنَّ الربع مِمَّا تَرَكْتُمْ﴾ إلى آخره، وَسَوَاءٌ فِي الرُّبُعِ أَوِ الثُّمُنِ الزَّوْجَةُ وَالزَّوْجَتَانِ الِاثْنَتَانِ، وَالثَّلَاثُ وَالْأَرْبَعُ يَشْتَرِكْنَ فِيهِ. وَقَوْلُهُ: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ﴾ إِلَخْ. الْكَلَامُ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وقوله تعالى: ﴿وَإِن كان رجل يوث كَلاَلَةً﴾ الْكَلَالَةُ: مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْإِكْلِيلِ، وَهُوَ الَّذِي يُحِيطُ بِالرَّأْسِ مِنْ جَوَانِبِهِ، وَالْمُرَادُ هُنَا مَنْ يَرِثُهُ مِنْ حَوَاشِيهِ لَا أُصُولِهِ وَلَا فُرُوعِهِ، كَمَا رَوَى الشَّعْبِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصَّدِيقِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْكَلَالَةِ فَقَالَ: أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي فَإِنْ يَكُنْ صَوَابًا فَمِنَ اللَّهِ، وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنَ الشَّيْطَانِ، وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ بَرِيئَانِ مِنْهُ: الْكَلَالَةُ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ ولا والد. فلما ولي عمر قال: إني لأستحي أَنْ أُخَالِفَ أَبَا بَكْرٍ فِي رَأْيٍ رَآهُ، كذا رواه ابن جرير وغيره، وهو قول الأئمة الأربعة وجمهور السلف والخلف وقد حكى الإجماع عليه غير واحد.
وقوله تعالى: ﴿وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ﴾ أَيْ مِنْ أُمٍّ كما هو في قراءة (سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ) وَكَذَا فَسَّرَهَا أَبُو بكر الصدّيق: ﴿فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَآءُ فِي الثُّلُثِ﴾ وَإِخْوَةُ الْأُمِّ يُخَالِفُونَ بَقِيَّةَ الْوَرَثَةِ مِنْ وُجُوهٍ: (أَحَدُهَا) أَنَّهُمْ يَرِثُونَ مَعَ مَنْ أَدْلَوْا بِهِ وَهِيَ الأم، (والثاني) أن ذكورهم وإناثهم في الميراث سواء، (والثالث) لا يرثون إلا إن كَانَ مَيِّتُهُمْ يُورَثُ كَلَالَةً فَلَا يَرِثُونَ مَعَ أَبٍ وَلَا جَدٍّ وَلَا وَلَدٍ وَلَا وَلَدِ ابْنٍ، (الرَّابِعُ) أَنَّهُمْ لَا يُزَادُونَ عَلَى الثُّلُثِ وإن كثر ذكورهم وإناثهم، قضى عمر أَنَّ مِيرَاثَ الْإِخْوَةِ مِنَ الْأُمِّ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مثل حظ الأنثى، قال الزهري: ولا أرى عمر قضى بذلك حتىعلم ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهذه الآية هي التي قال الله تعالى فيها: ﴿فَإِن كَانُوا أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَآءُ فِي الثلث﴾.
وقوله: ﴿إِلاَّ مِن بَعْدِ وصية يوصي بها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ﴾ أي لتكن وَصِيَّتُهُ عَلَى الْعَدْلِ لَا عَلَى الْإِضْرَارِ وَالْجَوْرِ وَالْحَيْفِ، بِأَنْ يَحْرِمَ بَعْضَ الْوَرَثَةِ أَوْ يَنْقُصَهُ، أو يزيده على ما فرض الله له من الفريضة، فمن سَعَى فِي ذَلِكَ كَانَ كَمَنْ ضَادَّ اللَّهَ في حكمه وشرعه، ولهذا قال ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْإِضْرَارُ فِي الْوَصِيَّةِ مِنَ الْكَبَائِرِ» (رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) ورواه ابن جرير عن ابن عباس موقوفاً، قال: وَالصَّحِيحُ الْمَوْقُوفُ، وَلِهَذَا اخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ فِي الْإِقْرَارِ لِلْوَارِثِ هَلْ هُوَ صَحِيحٌ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ (أَحَدُهُمَا): لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ التُّهْمَةِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلَا وصية لوارث»، وهذا مذهب مالك وأحمد بن حنبل وأبي حنيفة وَالْقَوْلُ الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَذَهَبَ فِي الْجَدِيدِ إِلَى أَنَّهُ يَصِحُّ الْإِقْرَارُ، وَهُوَ مَذْهَبُ طاوس وعطاء وهو اختيار الْبُخَارِيِّ فِي صَحِيحِهِ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ رَافِعَ بْنَ خديج أوصى أن لا تَكْشِفَ الفَزَارِيَّةُ عَمَّا أُغْلِقَ عَلَيْهِ بَابُهَا قَالَ: وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَا يَجُوزُ إِقْرَارُهُ لِسُوءِ الظن بالورثة، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ»، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الْأَمَانَاتِ إِلَى أهلها﴾ فَلَمْ يَخُصَّ وَارِثًا وَلَا غَيْرَهُ، انْتَهَى مَا ذَكَرَهُ، فَمَتَى كَانَ الْإِقْرَارُ صَحِيحًا مُطَابِقًا لِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، جَرَى فِيهِ هَذَا الْخِلَافُ، وَمَتَى كَانَ حِيلَةً وَوَسِيلَةً إِلَى زِيَادَةِ بَعْضِ الْوَرَثَةِ وَنُقْصَانِ بَعْضِهِمْ فَهُوَ حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ وَبِنَصِّ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: ﴿غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ الله، والله عَلِيمٌ حليم﴾.
- ١٤ - وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ
أَيْ هَذِهِ الْفَرَائِضُ وَالْمَقَادِيرُ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ لِلْوَرَثَةِ، بِحَسَبِ قُرْبِهِمْ مِنَ الْمَيِّتِ وَاحْتِيَاجِهِمْ إِلَيْهِ وَفَقْدِهِمْ لَهُ عِنْدَ عَدَمِهِ، هِيَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَلَا تُجَاوِزُوهَا، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ أَيْ فِيهَا فَلَمْ يَزِدْ بَعْضُ الْوَرَثَةِ، وَلَمْ يَنْقُصْ بعضهم بِحِيلَةٍ وَوَسِيلَةٍ بَلْ تَرَكَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَفَرِيضَتِهِ وَقِسْمَتِهِ: {يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
- ١٦ - وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا
كَانَ الْحُكْمُ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ أَنَّ المرأة إذا ثبت زِنَاهَا بِالْبَيِّنَةِ الْعَادِلَةِ، حُبِسَتْ فِي بَيْتٍ فَلَا تُمَكَّنُ مِنَ الْخُرُوجِ مِنْهُ إِلَى أَنْ تَمُوتَ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ﴾ يَعْنِي الزِّنَا ﴿مِن نِّسَآئِكُمْ فاستشهدوا علين أَرْبَعةً مِّنْكُمْ؛ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا﴾ فَالسَّبِيلُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ هُوَ النَّاسِخُ لذلك، قال ابن عباس رضي الله عنه: كَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ سُورَةَ النور فنسخها بالجلد أو الرجم؛ وهو أمر متفق عليه، وروى مسلم وأصحاب السنن عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «خُذُوا عَنِّي خُذُوا عَنِّي؛ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا؛ الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عام؛ والثب بالثيب جلد مائة والرجم» وقد روى الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «خُذُوا عَنِّي خُذُوا عَنِّي؛ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا؛ الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سنة؛ والثيب بالثيب جلد مائة والرجم». وَقَدْ ذَهَبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ إِلَى الْقَوْلِ بِمُقْتَضَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ فِي حَقِّ الثَّيِّبِ الزَّانِي، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الثَّيِّبَ الزَّانِي إِنَّمَا يُرْجَمُ فَقَطْ مِنْ غَيْرِ جَلْدٍ، قَالُوا: لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَمَ مَاعِزًا وَالْغَامِدِيَّةَ وَالْيَهُودِيَّيْنِ، وَلَمْ يَجْلِدْهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْجَلْدَ لَيْسَ بِحَتْمٍ، بَلْ هُوَ مَنْسُوخٌ على قولهم، والله أعلم.
وقوله تعالى: ﴿واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا﴾ أي واللّان يفعلان الفاحشة فآذوهما، قال ابن عباس: أَيْ بِالشَّتْمِ وَالتَّعْيِيرِ وَالضَّرْبِ بِالنِّعَالِ، وَكَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ حَتَّى نَسَخَهُ اللَّهُ بِالْجَلْدِ أَوِ الرَّجْمِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي الرَّجُلَيْنِ إِذَا فَعَلَا اللواط وقد روى أهل السنن عن ابن عباس مرفوعاً قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «من رأيتموه يعمل علم قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ». وَقَوْلُهُ ﴿فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا﴾ أي أقلعا نزعا عَمَّا كَانَا عَلَيْهِ
- ١٨ - وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً
ومعناه: إنما يقبل اللَّهُ التَّوْبَةَ مِمَّنْ عَمِلَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يتوب قبل الغرغرة، قال مجاهد: كُلَّ مَنْ عَصَى اللَّهَ خَطَأً أَوْ عَمْدًا فَهُوَ جَاهِلٌ حَتَّى يَنْزِعَ عَنِ الذَّنْبِ، وَقَالَ قتادة، كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقولون: كل ذنب أصابه عبد فهو جهالة، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ﴾ قَالَ: مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَلَكِ اموت. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مَا كَانَ دُونَ الْمَوْتِ فَهُوَ قَرِيبٌ، وَقَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: مَا دَامَ فِي صحته، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: ﴿ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ﴾، ما لم يغرغر، (ذكر الأحاديث في ذلك): قال الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: ﴿ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ﴾، مَا لم يغرغر، (ذِكْرُ الْأَحَادِيثِ فِي ذَلِكَ) قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يغرغر»
(حديث آخر): قال ابن مردويه عَنْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا مِنْ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ يَتُوبُ قَبْلَ الْمَوْتِ بِشَهْرٍ إِلَّا قبل الله منه أدنى مِن ذَلِكَ؛ وَقَبْلَ مَوْتِهِ بِيَوْمٍ وَسَاعَةٍ يَعْلَمُ اللَّهُ مِنْهُ التَّوْبَةَ وَالْإِخْلَاصَ إِلَيْهِ إِلَّا قَبِلَ منه».
(وحديث أخر): قال أبو داود الطيالسي عن عبد الله بن عمر، يقول: إن تَابَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِعَامٍ تِيبَ عَلَيْهِ، وَمَنْ تَابَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ تِيبَ عَلَيْهِ، وَمَنْ تَابَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِجُمُعَةٍ تِيبَ عَلَيْهِ، وَمَنْ تَابَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِيَوْمٍ تِيبَ عَلَيْهِ، وَمَنْ تَابَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَاعَةٍ تِيبَ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّمَا قَالَ اللَّهُ: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ﴾ فقال إنما أحدثك ما سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم
(حَدِيثٌ آخَرُ): قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ توبة عبده ما لم يغرغر».
- ٢٠ - وَإِنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً
- ٢١ - وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظًا
- ٢٢ - وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلاً
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ﴾ أَيْ لَا تُضارُّوهُنَّ فِي الْعِشْرَةِ لِتَتْرُكَ لَكَ مَا أَصْدَقْتَهَا أَوْ بَعْضَهُ أَوْ حَقًّا مِنْ حُقُوقِهَا عَلَيْكَ، أَوْ شَيْئًا مِنْ ذلك على وجه القهر لها والإضرار، وقال ابن عباس في قَوْلُهُ: ﴿وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ﴾، يَقُولُ: وَلَا تَقْهَرُوهُنَّ ﴿لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ﴾ يَعْنِي الرَّجُلُ تَكُونُ لَهُ المرأة وَهُوَ كَارِهٌ لِصُحْبَتِهَا وَلَهَا عَلَيْهِ مَهْرٌ فَيَضُرُّهَا لتفتدي به، وَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَالَ ابْنُ المبارك عن ابن السلاماني قَالَ: نَزَلَتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ إِحْدَاهُمَا فِي أَمْرِ الجاهلية، والأخرى في أمر الإسلام يعني قوله تَعَالَى: ﴿لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاءَ كَرْهاً﴾ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، ﴿وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ﴾ فِي الْإِسْلَامِ، وَقَوْلُهُ: ﴿إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ﴾ قَالَ ابن مسعود، وابن عباس: يَعْنِي بِذَلِكَ الزِّنَا، يَعْنِي إِذَا زَنَتْ فَلَكَ أَنْ تَسْتَرْجِعَ مِنْهَا الصَّدَاقَ الَّذِي أَعْطَيْتَهَا، وتُضَاجِرَهَا حَتَّى تَتْرُكَهُ لَكَ وَتُخَالِعَهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أن يخافاً أن لا يُقِيمَا حُدُودَ الله﴾ الآية، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ: الْفَاحِشَةُ الْمُبَيِّنَةُ النُّشُوزُ وَالْعِصْيَانُ، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّهُ يَعُمُّ ذَلِكَ كُلَّهُ الزِّنَا وَالْعِصْيَانَ، وَالنُّشُوزَ وَبَذَاءَ اللِّسَانِ، وغير ذلك، يعني أن كُلَّهُ يُبِيحُ مُضَاجَرَتَهَا حَتَّى تُبْرِئَهُ مِنْ حَقِّهَا أَوْ بَعْضِهِ وَيُفَارِقَهَا، وَهَذَا جَيِّدٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ السِّيَاقُ كُلُّهُ كَانَ فِي أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ وَلَكِنْ نُهِيَ الْمُسْلِمُونَ عَنْ فعله في الإسلام: وقال عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ: كَانَ الْعَضْلُ فِي قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ: يَنْكِحُ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ الشَّرِيفَةَ، فَلَعَلَّهَا لا توافقه فيفارقها على أن لا تتزوج إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَيَأْتِي بِالشُّهُودِ فَيَكْتُبُ ذَلِكَ عَلَيْهَا ويشهد، فإذا جاء الخاطب، فإن أعطته وأرضته أذن لها وإلاعضلها، قَالَ فَهَذَا قَوْلُهُ: ﴿وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ﴾ الْآيَةَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ ما آيتمون﴾ هو كالعضل في سورة البقرة، وقوله تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ أَيْ طَيِّبُوا أَقْوَالَكُمْ لَهُنَّ وَحَسِّنُوا أَفْعَالَكُمْ وَهَيْئَاتِكُمْ بِحَسَبِ قُدْرَتِكُمْ، كَمَا تُحِبُّ ذَلِكَ مِنْهَا فَافْعَلْ أَنْتَ بِهَا مِثْلَهُ،
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً﴾، أَيْ فَعَسَى أَن يَكُونَ صَبْرُكُمْ في إمساكهن مع الكراهة، فِيهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ لَكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، كما قال ابن عباس: هُوَ أَنْ يَعْطِفَ عَلَيْهَا فَيُرْزَقَ مِنْهَا وَلَدًا، وَيَكُونُ فِي ذَلِكَ الْوَلَدِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «لَا يَفْرَكُ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إِنْ سَخِطَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ».
وَقَوْلُهُ تعالى: ﴿وَإِن أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً﴾ أَيْ إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُفَارِقَ امْرَأَةً وَيَسْتَبْدِلَ مَكَانَهَا غَيْرَهَا، فَلَا يأخذ مِمَّا كَانَ أَصْدَقَ الْأُولَى شَيْئًا وَلَوْ كَانَ قنطاراً من المال، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ الْإِصْدَاقِ بِالْمَالِ الْجَزِيلِ، وَقَدْ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ نَهَى عَنْ كَثْرَةِ الْإِصْدَاقِ ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذلك كما قال الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب يقول: ألا لا تغالوا فِي صَدَاقِ النِّسَاءِ، فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَكْرُمَةً فِي الدُّنْيَا أَوْ تَقْوًى عِنْدَ اللَّهِ كَانَ أَوْلَاكُمْ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا أَصْدَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ وَلَا أُصْدِقَتِ امْرَأَةٌ مِنْ بَنَاتِهِ أَكْثَرَ مِنِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً.
(طَرِيقٌ أُخرى عَنْ عُمَرَ): قَالَ الْحَافِظُ أَبُو يعلى عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: رَكِبَ عُمَرُ بن الخطاب مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم قال: أيها الناس ما إكثاركم في صداق النِّسَاءِ!! وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه والصدقات فِيمَا بَيْنَهُمْ أَرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَمَا دُونَ ذَلِكَ. وَلَوْ كَانَ الْإِكْثَارُ فِي ذَلِكَ تَقْوًى عِنْدَ الله أو كرامة لم تسبقوهم إليها. فلأعرفن مَا زَادَ رَجُلٌ فِي صَدَاقِ امْرَأَةٍ عَلَى أَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ. قَالَ: ثُمَّ نَزَلَ. فَاعْتَرَضَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالَتْ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ نَهَيْتَ الناس عن يزيدوا في مهر النساء عَلَى أَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَتْ أَمَا سَمِعْتَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ؟ قَالَ: وَأَيُّ ذَلِكَ؟ فَقَالَتْ: أَمَا سَمِعْتَ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً﴾ الآية. قال: اللَّهُمَّ غَفْرًا، كُلُّ النَّاسِ أَفْقَهُ مِنْ عُمَرَ. ثم رجع فركب المنبر فقال: أيها الناس إِنِّي كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ أَنْ تَزِيدُوا النِّسَاءَ فِي صدقاتهن عَلَى أَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَمَنْ شَاءَ أَنْ يُعْطِيَ مِنْ مَالِهِ مَا أَحَبَّ. قَالَ أَبُو يَعْلَى: وظنه قَالَ: فَمَنْ طَابَتْ نَفْسُهُ فَلْيَفْعَلْ. إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ قوي. وفي
رواية: امرأة أصابت ورجل أخطأ، ولهذا قال مُنْكِرًا: ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾ أَيْ وَكَيْفَ تَأْخُذُونَ الصَّدَاقَ مِنَ الْمَرْأَةِ وَقَدْ أَفْضَيْتَ إِلَيْهَا وَأَفْضَتْ إِلَيْكَ قَالَ ابْنُ عباس: يَعْنِي بِذَلِكَ الْجِمَاعَ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قَالَ لِلْمُتَلَاعِنَيْنِ بَعْدَ فَرَاغِهِمَا مِنْ تَلَاعُنِهِمَا: «اللَّهُ
وقوله تعالى: ﴿وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً﴾ المراد بذلك العقد، وقال سفيان الثوري فِي قَوْلِهِ: ﴿وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً﴾ قَالَ: إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، وقال الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ فِي الْآيَةِ: هُوَ قَوْلُهُ: «أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ»، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ فِي خُطْبَةِ حجة الوداع: أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فيها: «واستوصوا بالنساء خيراً فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ».
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء﴾ الآية، يحرم الله تَعَالَى زَوْجَاتِ الْآبَاءِ تَكْرِمَةً لَهُمْ، وَإِعْظَامًا وَاحْتِرَامًا أَنْ تُوطَأَ مِنْ بَعْدِهِ، حَتَّى إِنَّهَا لَتَحْرُمُ عَلَى الِابْنِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا، وَهَذَا أَمْرٌ مجمع عليه. قال ابن أبي حاتم عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو قَيْسٍ - يَعْنِي ابْنَ الْأَسْلَتِ - وَكَانَ مِنْ صَالِحِي الْأَنْصَارِ، فَخَطَبَ ابْنُهُ قَيْسٌ امْرَأَتَهُ فَقَالَتْ: إِنَّمَا أعدُّك وَلَدًا وأنت من صالحي قومك، ولكني أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: إِنَّ أَبَا قَيْسٍ تُوُفِّيَ فَقَالَ: «خَيْرًا»، ثم قالت: إن ابنته قَيْسًا خَطَبَنِي وَهُوَ مِنْ صَالِحِي قَوْمِهِ، وَإِنَّمَا كُنْتُ أعدُّه وَلَدًا فَمَا تَرَى؟ فَقَالَ لَهَا: «ارجعي إلى بيتك» قال فنزلت: ﴿وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النِّسَاءِ﴾ الآية. وَقَدْ زَعَمَ السُّهَيْلِيُّ أَنَّ نِكَاحَ نِسَاءِ الْآبَاءِ كَانَ مَعْمُولًا بِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ كَمَا قَالَ: ﴿وَإِن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ قَالَ: وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ كِنَانَةُ بْنُ خُزَيْمَةَ، تَزَوَّجَ بِامْرَأَةِ أَبِيهِ فَأَوْلَدَهَا ابْنَهُ النَّضْرَ بْنَ كِنَانَةَ، قَالَ: وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وُلِدْتَ مِنْ نِكَاحٍ لَا مِنْ سِفَاحٍ» قَالَ: فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ سَائِغًا لَهُمْ ذلك، فأراد أنهم كانوا يعدونه نكاحاً؛ وعن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا امْرَأَةَ الْأَبِ وَالْجَمْعَ بين الأختين، فأنزل الله تَعَالَى: ﴿وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النِّسَاءِ﴾، ﴿وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ﴾، وَهَكَذَا قَالَ عَطَاءٌ وَقَتَادَةُ، وَلَكِنْ فِيمَا نَقَلَهُ السُّهَيْلِيُّ مِنْ قصة كنانة نظر والله أعلم، وعلى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَهُوَ حَرَامٌ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، مبشع غاية التشبع، ولهذا قال تعالى: ﴿إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلاً﴾، وقال: ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾، وَقَالَ: ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سبيلاً﴾ فزاد ههنا: ﴿وَمَقْتاً﴾ أَيْ بُغْضًا أَيْ هُوَ أَمْرٌ كَبِيرٌ فِي نَفْسِهِ، وَيُؤَدِّي إِلَى مَقْتِ الِابْنِ أَبَاهُ بَعْدَ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِامْرَأَتِهِ، فَإِنَّ الْغَالِبَ أَنَّ مَنْ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ يُبْغِضُ مَنْ كَانَ زَوْجَهَا قَبْلَهُ، وَلِهَذَا حُرِّمَتْ أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْأُمَّةِ لِأَنَّهُنَّ أُمَّهَاتٌ لِكَوْنِهِنَّ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم وهو كالأب، بَلْ حَقُّهُ أَعْظَمُ مِنْ حَقِّ الْآبَاءِ بِالْإِجْمَاعِ، بَلْ حُبُّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى حُبِّ النُّفُوسِ صَلَوَاتُ الله وسلامه عليه.
وقال عطاء في قوله تعالى: ﴿وَمَقْتاً﴾ أَيْ يَمْقُتُ اللَّهُ عَلَيْهِ، ﴿وَسَآءَ سَبِيلاً﴾ أَيْ وَبِئْسَ طَرِيقًا لِمَنْ سَلَكَهُ مِنَ النَّاسِ، فَمَنْ تَعَاطَاهُ بَعْدَ هَذَا فَقَدِ ارْتَدَّ عَنْ دِينِهِ، فَيُقْتَلُ وَيَصِيرُ مَالُهُ فَيْئًا لِبَيْتِ الْمَالِ، كما رواه الإمام أحمد وأهل السنن عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ عَنْ خَالِهِ أَبِي بردة: أَنَّهُ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ مِنْ بَعْدِهِ أَنْ يَقْتُلَهُ وَيَأْخُذَ مَالَهُ، وَقَالَ الْإِمَامُ أحمد عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: مَرَّ بِي عمي (الحارث بن عمير) وَمَعَهُ لِوَاءٌ قَدْ عَقَدَهُ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ لَهُ: أَيْ عَمِّ أين بعثك النبي؟ قَالَ: بَعَثَنِي إِلَى رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ فأمرني أن أضرب عنقه.
- ٢٤ - وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا
هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ هِيَ آيَةُ تَحْرِيمِ الْمَحَارِمِ مِنَ النَّسَبِ، وَمَا يَتْبَعُهُ مِنَ الرَّضَاعِ وَالْمَحَارِمِ بِالصِّهْرِ، كَمَا قال ابن عباس: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ سبعُ نَسَبًا وَسَبْعٌ صِهْرًا، وَقَرَأَ: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ﴾ الآية. وَقَدِ اسْتَدَلَّ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى تَحْرِيمِ الْمَخْلُوقَةِ مِنْ مَاءِ الزَّانِي عَلَيْهِ، بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَبَنَاتُكُمْ﴾ فَإِنَّهَا بِنْتٌ فَتَدْخُلُ فِي الْعُمُومِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَقَدْ حُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ شَيْءٌ فِي إِبَاحَتِهَا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِنْتًا شَرْعِيَّةً، فَكَمَا لَمْ تَدْخُلْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حظ الأنثيين﴾ فَإِنَّهَا لَا تَرِثُ بِالْإِجْمَاعِ، فَكَذَلِكَ لَا تَدْخُلُ في هذه الآية والله أعلم. وقوله تعالى: ﴿وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ﴾ أَيْ كما يحرم عَلَيْكَ أُمُّكَ الَّتِي وَلَدَتْكَ، كَذَلِكَ يَحْرُمُ عَلَيْكَ أمك التي أرضعتك، ولهذا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ الرَّضَاعَةَ تُحَرِّمُ مَا تُحَرِّمُ الْوِلَادَةُ» وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: «يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يحرم من النسب». ثُمَّ اخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ فِي عَدَدِ الرَّضَعَاتِ الْمُحَرِّمَةِ، فَذَهَبَ ذَاهِبُونَ إِلَى أَنَّهُ يُحَرِّمُ مُجَرَّدُ الرَّضَاعِ لعموم هذه الآية، وهذا قول مالك، ويروى عن ابن عمر، وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يُحَرِّمُ أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثِ رضعات لما ثبت في صحيح مسلم عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال: «لا تحرم المصة وَلَا الْمَصَّتَانِ»، وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: «لَا تُحَرِّمُ الإملاجة ولا الإملاجتان». وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بن حنبل، وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يُحَرِّمُ أَقَلُّ مِنْ خَمْسِ رضعات لما ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: (كَانَ فيما أنزل مِنَ الْقُرْآنِ «عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ» ثُمَّ نسخن بخمس معلومات فتوفي النبي صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُنَّ فِيمَا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ) وَكَانَتْ عَائِشَةُ تَأْمُرُ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَدْخُلَ عليها أن يرضع خمس رضعات، ولهذا قال الشافعي وَأَصْحَابُهُ، ثُمَّ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ الرَّضَاعَةُ فِي سِنِّ الصِّغَرِ دُونَ الْحَوْلَيْنِ على قول الجمهور، وقد قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي سُورَةِ البقرة عند قوله: ﴿والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حولين كاملين لم أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة﴾.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ﴾ أَمَّا (أمُّ الْمَرْأَةِ) فَإِنَّهَا تَحْرُمُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ على بنتها،
وأما قوله تعالى: ﴿وَرَبَائِبُكُمُ اللاتي فِي حُجُورِكُمْ﴾ فالجمهور عَلَى أَنَّ الرَّبِيبَةَ حَرَامٌ سَوَاءٌ كَانَتْ فِي حِجْرِ الرَّجُلِ أَوْ لَمْ تَكُنْ فِي حِجْرِهِ، قَالُوا: وَهَذَا الْخِطَابُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ فَلَا مَفْهُومَ لَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تحصنا﴾ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ انْكِحْ أُخْتِي بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ، وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ (عَزَّةَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ) قَالَ: «أَوْ تُحِبِّينَ ذَلِكَ»؟ قَالَتْ: نَعَمْ لَسْتُ بك بِمُخَلِّيَةٍ، وَأَحَبُّ مَنْ شَارَكَنِي فِي خَيْرٍ أُخْتِي، قَالَ: «فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَحِلُّ لِي» قَالَتْ: فَإِنَّا نُحَدَّثُ أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَنْكِحَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: «بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ» قَالَتْ: نَعَمْ قَالَ: «إِنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي فِي حِجْرِي مَا حَلَّتْ لِي، إِنَّهَا لَبِنْتُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ، أَرْضَعَتْنِي وَأَبَا سَلَمَةَ ثُوَيْبَةُ، فَلَا تَعْرِضُنَّ عليَّ بَنَاتِكُنَّ وَلَا أَخَوَاتِكُنَّ». وَفِي رواية للبخاري: «إن لَوْ لَمْ أَتَزَوَّجْ أُمَّ سَلَمَةَ مَا حَلَّتْ لي» فجعل المناط في التحريم مجرد تزوجه أم سلمة وحكم بالتحريم بذلك، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَالْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ وَجُمْهُورِ الْخَلَفِ وَالسَّلَفِ، وَقَدْ قِيلَ بِأَنَّهُ لَا تَحْرُمُ الرَّبِيبَةُ إِلَّا إِذَا كَانَتْ فِي حِجْرِ الرجل فإذا لم تكن كذلك فلا تحرم وَهُوَ قَوْلٌ غَرِيبٌ جِدًّا، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ داود الظاهري وأصحابه، وَاخْتَارَهُ ابْنُ حَزْمٍ، وَحَكَى لِي شَيْخُنَا الْحَافِظُ الذَّهَبِيُّ أَنَّهُ عَرَضَ هَذَا عَلَى الشَّيْخِ الْإِمَامِ تقي الدين ابن تيمية رحمه الّه فاستشكله وتوقف في ذلك والله أعلم؛ وَأَمَّا الرَّبِيبَةُ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ فَقَدْ قَالَ الإمام مالك بن أنس: إن عمر ابن الْخَطَّابِ سُئِلَ عَنِ الْمَرْأَةِ وَبِنْتِهَا مِنْ مِلْكِ الْيَمِينِ تُوطَأُ إِحْدَاهُمَا بَعْدَ الْأُخْرَى فَقَالَ عُمَرُ: ما أحب أن أجيزهما جَمِيعًا: يُرِيدُ أَنْ أَطَأَهُمَا جَمِيعًا بِمِلْكِ يَمِينِي، وعن طارق بن عبد الرحمن بن قَيْسٍ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَيَقَعُ الرَّجُلُ على المرأة وابنتها مملوكين له؟ فقال آية وحرمتهما آية، ولم أكن لأفعله، وقال الشيخ ابن عَبْدِ الْبَرِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا خِلَافَ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَطَأَ امرأة وبنتها مِنْ مِلْكِ الْيَمِينِ لِأَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ ذَلِكَ فِي النِّكَاحِ، قَالَ: ﴿وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ﴾، وملك اليمين عندهم تَبَعٌ لِلنِّكَاحِ إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَيْسَ عَلَى ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْفَتْوَى وَلَا مَنْ تَبِعَهُمْ، وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ قَتَادَةَ: بِنْتُ الرَّبِيبَةِ وَبِنْتُ ابْنَتِهَا لَا تصلح إن كانت أسفل ببطون كثيرة، ومعنى قوله: ﴿اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ أَيْ نَكَحْتُمُوهُنَّ قَالَهُ ابْنُ عباس وغير واحد، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي إِجْمَاعِ الْجَمِيعِ عَلَى أن خلوة الرجل بامرأة لا تحرم ابْنَتَهَا عَلَيْهِ إِذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ مَسِيسِهَا وَمُبَاشَرَتِهَا، وقبل النَّظَرِ إِلَى فَرْجِهَا بِشَهْوَةٍ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ هُوَ الْوُصُولُ إِلَيْهَا بِالْجِمَاعِ.
وقوله تعالى: ﴿وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ﴾ أَيْ وَحُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ زَوْجَاتُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ وَلَّدْتُمُوهُمْ
وقوله تعالى: ﴿وَإِن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ الآية، أي وحرم عليكم الجمع بن الْأُخْتَيْنِ مَعًا فِي التَّزْوِيجِ وَكَذَا فِي مِلْكِ الْيَمِينِ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْكُمْ فِي جَاهِلِيَّتِكُمْ فقد عفونا عنه وَغَفَرْنَاهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا مَثْنَوِيَّةَ فِيمَا يستقبل لأنه استثنى مما سلف، كما قال: ﴿وَلاَ يذوقون فيه الموت إِلاَّ الموتة الأولى﴾ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ أَبَدًا، وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ وَالْأَئِمَّةِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي النِّكَاحِ، وَمَنْ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ أُخْتَانِ خُيِّرَ فَيُمْسِكُ إِحْدَاهُمَا وَيُطَلِّقُ الْأُخْرَى لَا محالة، قال الإمام أحمد: عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ فَيْرُوزَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: اسلمت وعند امْرَأَتَانِ أُخْتَانِ فَأَمَرَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أن أطلق إحداهما، وَفِي لَفْظٍ لِلتِّرْمِذِيِّ: فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: «اختر أيتهما شئت» (أخرجه أحمد والترمذي، وقال الترمذي: حديث حسن) وعن أَبِي خِرَاشٍ الرُّعَيْنِيِّ قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدِي أُخْتَانِ تَزَوَّجْتُهُمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَالَ: «إِذَا رَجَعْتَ فَطَلِّقْ إحداهما». وَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ فحرام أيضاً لعموم الآية، وروى ابن أبي حاتم عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يَجْمَعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فَكَرِهَهُ، فَقَالَ لَهُ - يَعْنِي السائل - يقول الله تعالى: ﴿إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ﴾، فَقَالَ لَهُ ابْنُ مسعود رضي الله تعالى عنه: وَبَعِيرُكَ مِمَّا مَلَكَتْ يَمِينَكَ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنِ الْجُمْهُورِ وَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَإِنْ كَانَ بعض السلف قد توقف في ذلك، وقال الإمام مالك: سأل رجل (عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانٍ) عَنِ الْأُخْتَيْنِ فِي مِلْكِ اليمين هل يجع بَيْنَهُمَا؟ فَقَالَ عُثْمَانُ: أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ، وما كنت لأمنع ذَلِكَ، فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ فَلَقِيَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: لَوْ كَانَ لِيَ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ ثُمَّ وَجَدْتُ أَحَدًا فَعَلَ ذَلِكَ لجعلته نكالاً، وقال مَالِكٌ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: أَرَاهُ عَلِيَّ بْنَ أبي طالب.
وعن إِيَاسُ بْنُ عَامِرٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَلِيَّ بْنَ أبي طالب فَقُلْتُ: إِنَّ لِي أُخْتَيْنِ مِمَّا مَلَكَتْ يَمِينِي اتَّخَذْتُ إِحْدَاهُمَا سُرِّيَّةً فَوَلَدَتْ لِي أَوْلَادًا ثُمَّ رَغِبْتُ فِي الْأُخْرَى فَمَا أَصْنَعُ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: تَعْتِقُ الَّتِي كُنْتَ تَطَأُ ثُمَّ تَطَأُ الْأُخْرَى، قُلْتُ: فَإِنَّ نَاسًا يَقُولُونَ بَلْ تزوّجُها ثُمَّ تَطَأُ الْأُخْرَى، فَقَالَ عَلِيٌّ: أَرَأَيْتَ إِنْ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا أَلَيْسَ تَرْجِعُ إِلَيْكَ؟ لَأَنْ تَعْتِقَهَا أَسْلَمُ لَكَ، ثُمَّ أَخَذَ عَلِيٌّ بِيَدِي فَقَالَ لِي: إِنَّهُ يحرم عليك مما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مَا يَحْرُمُ عَلَيْكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عزَّ وَجَلَّ مِنَ الْحَرَائِرِ إِلَّا الْعَدَدَ أَوْ قَالَ إِلَّا الْأَرْبَعَ وَيَحْرُمُ عَلَيْكَ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ عَلَيْكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ من النسب (رواه ابن عبد البر في الاستذكار) ثم قال أبو عمر: هذا الحديث لو رحل رجل ولم يصب من أقصى المغرب والمشرق إلى مكة غيره لما خابت رحلته. وروى الإمام أحمد عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: يَحْرُمُ مِنَ الْإِمَاءِ ما يحرم من الحرائر إلا العدد، وَجَمَاعَةُ الْفُقَهَاءِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ فِي الْوَطْءِ كَمَا لَا يَحِلُّ ذَلِكَ فِي النِّكَاحِ، وَقَدْ أجمع المسلمون على أن معنى قوله: ﴿حرمت عليكم أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ﴾ إلى آخر
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ أي وحرم عليكم من الْأَجْنَبِيَّاتُ الْمُحْصَنَاتُ وَهُنَّ الْمُزَوَّجَاتُ ﴿إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ﴾ يَعْنِي إِلَّا مَا مَلَكْتُمُوهُنَّ بِالسَّبْيِ فَإِنَّهُ يَحِلُّ لَكُمْ وَطْؤُهُنَّ إِذَا اسْتَبْرَأْتُمُوهُنَّ فَإِنَّ الْآيَةَ نزلت في ذلك، وقال الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري قال: أصبنا سبياً مِنْ سَبْيِ أَوْطَاسَ، وَلَهُنَّ أَزْوَاجٌ فَكَرِهْنَا أَنْ نَقَعَ عَلَيْهِنَّ وَلَهُنَّ أَزْوَاجٌ، فَسَأَلْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إلاّ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ فاستحللنا فروجهن. وفي رواية مسلم أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أصابوا سبياً يَوْمَ أَوَطَاسَ لَهُنَّ أَزْوَاجٌ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ، فكان أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفُّوا وَتَأَثَّمُوا مِنْ غَشَيَانِهِنَّ قَالَ: فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النساء إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ﴾ وَقَدْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ إِلَى أَنَّ بَيْعَ الْأَمَةِ يَكُونُ طَلَاقًا لَهَا مِنْ زَوْجِهَا أخذاً بعموم هذه الآية، وقال ابن جرير: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَقُولُ: بَيْعُهَا طَلَاقُهَا وَيَتْلُو هذه الآية: ﴿والمحصنات من النساء إلا مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ وعن ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِذَا بِيعَتِ الْأَمَةُ وَلَهَا زوج فسيدها أحق ببضعها وعن ابن المسيب قوله: ﴿المحصنات مِنَ النساء﴾، قال: هذه ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ حَرَّمَ اللَّهُ نِكَاحَهُنَّ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يمينك فبيعها طلاقها.
فهذا قول هؤلاء من السلف وَقَدْ خَالَفَهُمُ الْجُمْهُورُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، فَرَأَوْا أَنَّ بيع الأمة ليس طلاقاً لها، لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ نَائِبٌ عَنِ الْبَائِعِ، وَالْبَائِعَ كَانَ قَدْ أَخْرَجَ عَنْ مِلْكِهِ هَذِهِ الْمَنْفَعَةَ وَبَاعَهَا مَسْلُوبَةً عَنْهَا، وَاعْتَمَدُوا فِي ذَلِكَ عَلَى حَدِيثِ بَرِيرَةَ الْمُخَرَّجِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، فَإِنَّ عَائِشَةَ أمّ المؤمنين اشترتها وأعتقتها وَلَمْ يَنْفَسِخْ نِكَاحُهَا مِنْ زَوْجِهَا مُغِيثٍ، بَلْ خيّرها رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالْبَقَاءِ، فَاخْتَارَتِ الْفَسْخَ وَقِصَّتُهَا مَشْهُورَةٌ فَلَوْ كَانَ بَيْعُ الْأَمَةِ طَلَاقُهَا كَمَا قَالَ هَؤُلَاءِ مَآ خَيَّرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا خَيَّرَهَا دَلَّ عَلَى بَقَاءِ النِّكَاحِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ الْمَسْبِيَّاتُ فَقَطْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَدْ قِيلَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ﴾ يَعْنِي الْعَفَائِفَ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ حَتَّى تَمْلِكُوا عِصْمَتَهُنَّ بِنِكَاحٍ وَشُهُودٍ وَمُهُورٍ وَوَلِيٍّ وَاحِدَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا، حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ وَطَاوُسٍ وَغَيْرُهُمَا، وَقَالَ عُمَرُ وَعُبَيْدَةُ: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ﴾ مَا عَدَا الْأَرْبَعِ حَرَامٌ عليكم إلا مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ.
وقوله تعالى: ﴿كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ أَيْ هَذَا التَّحْرِيمُ كِتَابٌ كتبه الله عليكم، يعني الأربع فَالْزَمُوا كِتَابَهُ، وَلَا تَخْرُجُوا عَنْ حُدُودِهِ، وَالْزَمُوا شرعه وما فرضه. وقال عطاء وَالسُّدِّيُّ فِي قَوْلِهِ: ﴿كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ يَعْنِي الْأَرْبَعَ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: ﴿كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ يَعْنِي ما حرم عليكم، وقوله تعالى: ﴿وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ﴾ أَيْ مَا عدا من ذكرن مِنَ الْمَحَارِمِ هُنَّ لَكُمْ حَلَالٌ، قَالَهُ عَطَاءٌ وغيره، وَقَالَ قَتَادَةُ: ﴿وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ﴾: يعني مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، وهذه الآية الَّتِي احْتَجَّ بِهَا مَنِ احْتَجَّ عَلَى تَحْلِيلِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، وَقَوْلِ مَنْ قَالَ: أَحَلَّتْهُمَا آية وحرمتهما آية، وقوله تعالى: ﴿وَإِن تبتغوا بأمواركم مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ﴾ أَيْ تَحَصَّلُوا بِأَمْوَالِكُمْ مِنَ الزَّوْجَاتِ إِلَى أَرْبَعٍ، أَوِ السَّرَارِي مَا شِئْتُمْ بِالطَّرِيقِ الشَّرْعِيِّ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ﴾.
(يتبع... )
وقوله تعالى: ﴿فَمَا استمعتم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أجورهم فَرِيضَةً﴾ أي كما تستمعون بهن فآتوهن مهورهن
وقوله تعالى: ﴿وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بعد الفريضة﴾ أَيْ إِذَا فَرَضْتَ لَهَا صَدَاقًا فَأَبْرَأَتْكَ مِنْهُ أَوْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ وَلَا عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: أَنَّ رِجَالًا كَانُوا يَفْرِضُونَ الْمَهْرَ، ثُمَّ عَسَى أَنْ يُدْرِكَ أَحَدُهُمُ الْعُسْرَةُ فَقَالَ: وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ، يَعْنِي إِنْ وَضَعَتْ لَكَ مِنْهُ شيئاً فهو لك سائغ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عباس: ﴿ولا جناج عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ﴾ والتراضي أن يوفيها صداقها، ثم يخيرها يعني في المقام أو الفراق، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً﴾ مُنَاسِبُ ذِكْرِ هذين الوصفين بعد شرع هذه المحرمات.
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَجِدْ مِنكُمْ طَوْلاً﴾ أَيْ سَعَةً وَقُدْرَةً ﴿أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ المؤمنات﴾ أي الحرائر العفائف المؤمنات، ﴿فمما مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ﴾ أَيْ فَتَزَوَّجُوا من الإمام الْمُؤْمِنَاتِ اللَّاتِي يَمْلِكُهُنَّ الْمُؤْمِنُونَ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿مِّن فَتَيَاتِكُمُ المؤمنات﴾ قال ابن عباس: فلينكح من إماء المؤمنين، ثُمَّ اعْتَرَضَ بِقَوْلِهِ: ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِّن بَعْضٍ﴾ أَيْ هُوَ الْعَالِمُ بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ وَسَرَائِرِهَا، وَإِنَّمَا لَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ الظَّاهِرُ مِنَ الْأُمُورِ، ثُمَّ قَالَ: ﴿فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ﴾ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ السَّيِّدَ هُوَ وَلِيُّ أَمَتِهِ لَا تُزَوَّجُ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَكَذَلِكَ هُوَ وَلِيُّ عَبْدِهِ
وَقَوْلُهُ تعالى: ﴿وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ أَيْ وَادْفَعُوا مُهُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، أَيْ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْكُمْ، وَلَا تَبْخَسُوا مِنْهُ شَيْئًا اسْتِهَانَةً بِهِنَّ لِكَوْنِهِنَّ إِمَاءً مَمْلُوكَاتٍ، وقوله تعالى: ﴿مُحْصَنَاتٍ﴾ أَيْ عَفَائِفَ عَنِ الزِّنَا لَا يَتَعَاطَيْنَهُ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ﴾ وَهُنَّ الزَّوَانِي اللَّاتِي لا يمعنعن من أرادهن بالفاحشة، وقوله تعالى ﴿وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْمُسَافِحَاتُ هن الزواني المعلنات يَعْنِي الزَّوَانِي اللَّاتِي لَا يَمْنَعْنَ أَحَدًا أَرَادَهُنَّ بالفاحشة ومتخذات أخدان يعني أَخِلَّاءَ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: يَعْنِي الصَّدِيقَ، وَقَالَ الضحاك: ذات الخليل الواحد الْمُقِرَّةُ بِهِ، نَهَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ يَعْنِي تزويجها ما دامت كذلك.
وقوله تعالى: ﴿فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ فاحشة فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ﴾ اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي ﴿أُحْصِنَّ﴾ فَقَرَأَهُ بَعْضُهُمْ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الصَّادِ مَبْنِيٌّ لِمَا لَمْ يُسَمَّ فاعله، وقرىء بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالصَّادِ فِعْلٌ لَازِمٌ، ثُمَّ قِيلَ: مَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ، وَاخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
(أحدها) أن المراد بالإحصان ههنا الإسلام روي ذلك عن ابن مسعود وابن عمر وقيل: المراد به ههنا التزويج وهو قَوْلِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ وغيرهم، وقد روى عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: إِحْصَانُ الاّمَة أَنْ يَنْكِحَهَا الْحُرُّ، وَإِحْصَانُ الْعَبْدِ أَنْ يَنْكِحَ الْحُرَّةَ، وَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَوَاهُمَا ابْنُ جَرِيرٍ فِي تفسيره، وَقِيلَ: مَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ مُتَبَايِنٌ، فَمَنْ قَرَأَ ﴿أحصنَّ﴾ بضم الهمزة فمراده التزيج، ومن قرأ بفتحها فمراده الإسلام، اختاره أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ وَقَرَّرَهُ وَنَصَرَهُ؛ وَالْأَظْهَرُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِحْصَانِ ههنا التَّزْوِيجُ، لِأَنَّ سِيَاقَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَيْهِ حَيْثُ يقول سبحانه: ﴿وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المحصنات المؤمنات فمما مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّن فَتَيَاتِكُمُ المؤمنات﴾، والآية الكريمة سياقها فِي الْفَتَيَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: ﴿فَإِذَآ أُحْصِنَّ﴾ أَيْ تَزَوَّجْنَ كَمَا فَسَّرَهُ ابْنُ عباس وغيره. وَعَلَى كُلٍّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ إِشْكَالٌ عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الْأَمَةَ إِذَا زَنَتْ فَعَلَيْهَا خَمْسُونَ جِلْدَةً سَوَاءٌ كَانَتْ مُسْلِمَةً أَوْ كَافِرَةً، مُزَوَّجَةً أَوْ بِكْرًا، مَعَ أَنَّ مفهوم الآية يقتضي أنه لا حد غير المحصنة من الإماء، وقد اختلف أجوبتهم عن ذلك، فأما الجمهور فقالوا: الْمَنْطُوقَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَفْهُومِ، وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ عَامَّةٌ فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى الْإِمَاءِ فَقَدَّمْنَاهَا عَلَى مَفْهُومِ الْآيَةِ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ خَطَبَ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أقيموا الحد على إمائكم من أحصن منهن وَمَنْ لَمْ يُحْصَنْ، فَإِنَّ أَمَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَنَتْ فَأَمَرَنِي أَنْ أَجْلِدَهَا، فَإِذَا هِيَ حَدِيثَةُ عَهْدٍ بِنِفَاسٍ فَخَشِيتُ إِنْ جَلَدْتُهَا أَنْ أَقْتُلَهَا، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «أَحْسَنْتَ اتْرُكْهَا حتى تتماثل» وفي رواية: «فإذا تعافت من نفاسها فاجلدها خَمْسِينَ» وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِذَا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتِ الثَّانِيَةَ فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتِ الثَّالِثَةَ فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا فَلْيَبِعْهَا وَلَوْ بِحَبْلٍ من شعر».
(الْجَوَابُ الثَّانِي): جَوَابُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْأَمَةَ إِذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصَنَ فَلَا حَدَّ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا تُضْرَبُ تَأْدِيبًا
وقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ﴾ أَيْ إِنَّمَا يُبَاحُ نِكَاحُ الْإِمَاءِ بِالشُّرُوطِ الْمُتَقَدِّمَةِ لِمَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ الْوُقُوعَ فِي الزِّنَا، وَشَقَّ عَلَيْهِ الصبر عن الجماع، فله حينئذ أن يتزوج بالأمة، وإن ترك تزوجها وَجَاهَدَ نَفْسَهُ فِي الْكَفِّ عَنِ الزِّنَا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ، لِأَنَّهُ إِذَا تَزَوَّجَهَا جَاءَ أَوْلَادُهُ أرقاء لسيدها، إلا أن يكون الزوج غريباً فَلَا تَكُونُ أَوْلَادُهُ مِنْهَا أَرِقَّاءَ فِي قَوْلٍ قَدِيمٍ لِلشَّافِعِيِّ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ وَمِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الكريمة استدل جمهور العلماء في جواز العلماء نِكَاحِ الْإِمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ عدم الطول لنكاح الحرائر، من خَوْفِ الْعَنَتِ، لِمَا فِي نِكَاحِهِنَّ مِنْ مَفْسَدَةِ رِقِّ الْأَوْلَادِ، وَلِمَا فِيهِنَّ مِنَ الدَّنَاءَةِ فِي العدول عن الحرائر إليهن، وخالف الجمهور أبو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابَهُ فِي اشْتِرَاطِ الْأَمْرَيْنِ فَقَالُوا: مَتَى لَمْ يَكُنِ الرَّجُلُ مُزَوَّجًا بِحُرَّةِ جَازَ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ الْمُؤْمِنَةِ وَالْكِتَابِيَّةِ أَيْضًا، سَوَاءٌ كَانَ واجداً لطول حرة أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ خَافَ الْعَنَتَ أَمْ لَا وعمدتهم فيما ذهبوا إليه قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِّن قَبْلِكُمْ﴾ أَيِ الْعَفَائِفُ وَهُوَ يَعُمُّ الْحَرَائِرَ وَالْإِمَاءَ، وَهَذِهِ الْآيَةُ عَامَّةٌ وَهَذِهِ أَيْضًا ظَاهِرَةٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى مَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
- ٢٧ - وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلًا عَظِيمًا
- ٢٨ - يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُبَيِّنَ لَكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ مَا أَحَلَّ لَكُمْ وَحَرَّمَ عَلَيْكُمْ، مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا، ﴿وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ يَعْنِي طَرَائِقَهُمُ الْحَمِيدَةَ وَاتِّبَاعَ شَرَائِعِهِ الَّتِي يُحِبُّهَا وَيَرْضَاهَا، ﴿وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ﴾ أَيْ مِنَ الْإِثْمِ وَالْمَحَارِمِ، ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ أَيْ فِي شَرْعِهِ وَقَدَرِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ، ﴿وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً﴾ أَيْ يُرِيدُ أَتْبَاعُ الشَّيَاطِينِ مِنَ الْيَهُودِ والنصارى والزناة أن تميلوا عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ
- ٣٠ - وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا
- ٣١ - إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً
ينهى تَبَارَكَ وَتَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ أَنْ يَأْكُلُوا أَمْوَالَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا بِالْبَاطِلِ، أَيْ بِأَنْوَاعِ الْمَكَاسِبِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ شَرْعِيَّةٍ كَأَنْوَاعِ الرِّبَا وَالْقِمَارِ وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ مِنْ سَائِرِ صُنُوفِ الحيل، وإن ظهرت في قلب الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ مِمَّا يَعْلَمُ اللَّهُ أَنَّ مُتَعَاطِيَهَا إِنَّمَا يُرِيدُ الْحِيلَةَ عَلَى الرِّبَا، حَتَّى قَالَ ابن جرير، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الرَّجُلِ يَشْتَرِي مِنَ الرَّجُلِ الثَّوْبَ فَيَقُولُ: إِنْ رَضِيتُهُ أَخَذْتُهُ وَإِلَّا رددت مَعَهُ دِرْهَمًا، قَالَ: هُوَ الَّذِي قَالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ فيه: ﴿ولا تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل﴾ وعن علقمة بن عبد الله في الآية قال: إنها مَحْكَمَةٌ مَا نُسِخَتْ وَلَا تُنْسَخُ إِلَى يَوْمِ القيامة، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ قَالَ الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ نَهَانَا أَنْ نَأْكُلَ أَمْوَالَنَا بَيْنَنَا بِالْبَاطِلِ وَالطَّعَامُ هُوَ أَفْضَلُ أموالنا، فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ مِنَّا أَنْ يَأْكُلَ عِنْدَ أَحَدٍ فَكَيْفَ لِلنَّاسِ؟! فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ: ﴿لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ﴾ الآية.
وقوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ﴾ الاستثناء مُنْقَطِعٌ كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَا تَتَعَاطَوُا الْأَسْبَابَ الْمُحَرَّمَةَ فِي اكْتِسَابِ الْأَمْوَالِ، لَكِنَّ الْمَتَاجِرَ الْمَشْرُوعَةَ الَّتِي تَكُونُ عَنْ تَرَاضٍ مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فَافْعَلُوهَا، وَتَسَبَّبُوا بِهَا فِي تَحْصِيلِ الْأَمْوَالِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بالحق﴾، وَكَقَوْلِهِ: ﴿لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولَى﴾، ومن هذه الآية الكريمة احتج الشافعي عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ إِلَّا بِالْقَبُولِ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى التَّرَاضِي نَصًّا بِخِلَافِ الْمُعَاطَاةِ فإنها قد لا تدل على الرضا، وَخَالَفَ الْجُمْهُورَ فِي ذَلِكَ (مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وأحمد) فَرَأَوْا أَنَّ الْأَقْوَالَ كَمَا تَدُلُّ عَلَى التَّرَاضِي، فكذلك الْأَفْعَالُ تَدُلُّ فِي بَعْضِ الْمَحَالِّ قَطْعًا، فَصَحَّحُوا بَيْعَ الْمُعَاطَاةِ مُطْلَقًا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَصِحُّ فِي الْمُحَقَّرَاتِ وَفِيمَا يَعُدُّهُ النَّاسُ بَيْعًا، وَهُوَ احْتِيَاطُ نَظَرٍ مِنْ مُحَقِّقِي الْمَذْهَبِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وقال مُجَاهِدٌ: ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ﴾ بَيْعًا أَوْ عَطَاءً يُعْطِيهِ أَحَدٌ أَحَدًا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْبَيْعُ عَنْ تَرَاضٍ، وَالْخِيَارُ بَعْدَ الصَّفْقَةِ، وَلَا يحل لمسلم أن يغش مسلماً» (أخرجه ابن جرير وهو حديث مرسل" هَذَا حَدِيثٌ مُرْسَلٌ، وَمِنْ تَمَامِ التَّرَاضِي
وَقَوْلُهُ: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ أَيْ بِارْتِكَابِ مَحَارِمِ اللَّهِ وَتَعَاطِي مَعَاصِيهِ وَأَكْلِ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً﴾ أَيْ فِيمَا أمركم به ونهاكم عنه. عن عمروا بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا بَعَثَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ (ذَاتِ السَّلَاسِلِ) قَالَ: احْتَلَمْتُ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ شَدِيدَةِ الْبَرْدِ فَأَشْفَقْتُ إِنِ اغْتَسَلْتُ أَنْ أَهْلِكَ، فَتَيَمَّمْتُ ثُمَّ صَلَّيْتُ بِأَصْحَابِي صَلَاةَ الصُّبْحِ، قال: فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: «يَا عَمْرُو صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ»؟ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي احْتَلَمْتُ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ شَدِيدَةِ الْبَرْدِ، فَأَشْفَقْتُ إِنِ اغْتَسَلْتُ أَنْ أَهْلِكَ فَذَكَرْتُ قَوْلَ اللَّهِ عزَّ وَجَلَّ: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً﴾ فَتَيَمَّمْتُ ثُمَّ صَلَّيْتُ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يقل شيئاً (رواه أحمد وأبو داود) وأورد ابن مردويه عند هذه الآية الكريمة عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَجَأُ بِهَا بَطْنَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِسُمٍّ فَسُمُّهُ فِي يَدِهِ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مخلداً فيها أبداً»، وفي الصحيحين: «مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ القيامة». وفي الصحيحين أيضاً عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَانَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَكَانَ بِهِ جُرْحٌ فَأَخَذَ سِكِّينًا نَحَرَ بِهَا يَدَهُ فَمَا رَقَأَ الدَّمُ حَتَّى مَاتَ، قَالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: عَبْدِي بَادَرَنِي بِنَفْسِهِ حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ" ولهذا قال تَعَالَى: ﴿وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً﴾ أَيْ ومن يتعاطى ما نهاه الله عنه معتدياً فِيهِ، ظَالِمًا فِي تَعَاطِيهِ، أَيْ عَالِمًا بِتَحْرِيمِهِ متجاسراً على انتهاكه ﴿فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً﴾ وَهَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ فَلْيَحْذَرْ مِنْهُ كُلُّ عَاقِلٍ لَبِيبٍ مِمَّنْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ.
وقوله تعالى: ﴿وَإِن تجتنبوا كبارئر ما تهون عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ الآية. أَيْ إِذَا اجْتَنَبْتُمْ كَبَائِرَ الْآثَامِ الَّتِي نُهِيتُمْ عَنْهَا، كَفَّرْنَا عَنْكُمْ صَغَائِرَ الذُّنُوبِ وَأَدْخَلْنَاكُمُ الْجَنَّةَ، ولهذا قال: ﴿ولنخلكم مُّدْخَلاً كَرِيماً﴾، وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ مُتَعَلِّقَةٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَلْنَذْكُرْ مِنْهَا مَا تَيَسَّرَ. قَالَ أبو جعفر بن جرير عن صهيب مولى الصواري، أنه سمع أبا هريرة وأبا سَعِيدٍ يَقُولَانِ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَقَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ أَكَبَّ فَأَكَبَّ كُلُّ رَجُلٍ منا يبكي لا ندري مَاذَا حَلَفَ عَلَيْهِ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَفِي وَجْهِهِ الْبِشْرُ فَكَانَ أَحَبَّ إِلَيْنَا مِنْ حُمْرِ النعم فقال: «مَا مِنْ عَبْدٍ يُصَلِّي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَيَصُومُ رَمَضَانَ، وَيُخْرِجُ الزَّكَاةَ، وَيَجْتَنِبُ الْكَبَائِرَ السَّبْعَ إِلَّا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ ثُمَّ قِيلَ لَهُ ادخل بسلام» (رواه النسائي والحاكم وابن حبان)
(حَدِيثٌ آخَرُ فيه ذكر قتل الولد): عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ وَفِي رِوَايَةٍ أَكْبَرُ؟ قَالَ: «أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ»، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ» قُلْتُ: ثُمَّ أي؟ قَالَ: «أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ»، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ - إلى قوله - إِلاَّ من تاب﴾ (الحديث في الصحيحين)
(حديث آخر في اليمن الغموس): قال ابن أبي حاتم، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ الْجُهَنِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «أكبر الكبائر الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، واليمني الْغَمُوسُ، وَمَا حَلَفَ حَالِفٌ بِاللَّهِ يَمِينَ صَبْرٍ فَأَدْخَلَ فِيهَا مِثْلَ جَنَاحِ الْبَعُوضَةِ إِلَّا كَانَتْ وكتة في قلبه إلى يوم القيامة». (حديث آخر) في التسبب إلى شتم الوالدين: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: «من أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ». قَالُوا: وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: «يَسُبُّ الرَّجُلُ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أمه» (رواه البخاري ومسلم) وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ».
(ذِكْرُ أَقْوَالِ السلف في ذلك) قال ابن جرير عن الحسن: أنا نَاسًا سَأَلُوا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو بِمِصْرَ، فقالوا: نرى أشاياء من كتاب الله عزَّ وجلَّ أمر أن يعمل بها لا يُعْمَلُ بِهَا، فَأَرَدْنَا أَنْ نَلْقَى أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ في ذلك فقدم وقدموا معه، فلقي عمر رضي الله عنه، فقال: متىقدمت؟ مُنْذُ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: أبإذنٍ قَدِمْتَ؟ قَالَ: فَلَا أَدْرِي كَيْفَ رَدَّ عَلَيْهِ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ نَاسًا لَقَوْنِي بِمِصْرَ، فَقَالُوا: إنا نرى أشياء في كتبا اللَّهِ أَمَرَ أَنْ يُعْمَلَ بِهَا فَلَا يُعْمَلُ بها، فأحبوا أن يلقوك في ذلك. قال فاجمعهم لِي قَالَ: فَجَمَعْتُهُمْ لَهُ. قَالَ ابْنُ عَوْنٍ - أَظُنُّهُ قَالَ فِي بَهْوٍ -: فَأَخَذَ أَدْنَاهُمْ رَجُلًا فقال: أنشدك بالله بحق الْإِسْلَامِ عَلَيْكَ، أَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قال: فهل أحصيته في نفسك؟ فقال: اللَّهُمَّ لَا، قَالَ: وَلَوْ قَالَ نَعَمْ لَخَصَمَهُ. قَالَ: فَهَلْ أَحْصَيْتَهُ فِي بَصَرِكَ؟ فَهَلْ أَحْصَيْتَهُ في لفظك؟ هل أحصيته في أثرك؟ ثم تتبعهم حتى أتى علي آخرهم، فقال: ثكلت عُمَرَ أُمُّهُ أَتُكَلِّفُونَهُ أَنْ يُقِيمَ النَّاسَ عَلَى كتاب الله؟ قد علم ربنا أن سَتَكُونُ لَنَا سَيِّئَاتٌ، قَالَ: وَتَلَا ﴿إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ الآية. ثُمَّ قَالَ: هَلْ عَلِمَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ؟ أَوْ قَالَ: هَلْ عَلِمَ أَحَدٌ بِمَا قَدِمْتُمْ؟ قَالُوا: لا، قال: لو علموا لوعظت بكم (أخرجه ابن جرير وقال ابن كثير: إسناد صحيح ومتن حسن)
(أَقْوَالُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ)
رَوَى ابْنُ جرير عَنْ طَاوُسٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: أَرَأَيْتَ الْكَبَائِرَ السَّبْعَ الَّتِي ذَكَرَهُنَّ اللَّهُ مَا هُنَّ؟ قَالَ: هُنَّ إِلَى السَّبْعِينَ أَدْنَى مِنْهُنَّ إِلَى سَبْعٍ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ قِيلَ: لِابْنِ عَبَّاسٍ الْكَبَائِرُ سَبْعٌ؟ قَالَ: هُنَّ إلى السبعين أقرب؛ وقال ابن جرير عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ النب عَبَّاسٍ: كَمِ الْكَبَائِرُ، سَبْعٌ؟ قَالَ: هُنَّ إِلَى سَبْعِمِائَةٍ أَقْرَبُ مِنْهَا إِلَى سَبْعٍ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا كَبِيرَةَ مَعَ اسْتِغْفَارٍ: وَلَا صَغِيرَةَ مَعَ إصرار. وعن ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ ﴿إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ﴾ قَالَ: الْكَبَائِرُ كُلُّ ذَنْبٍ خَتَمَهُ اللَّهُ بِنَارٍ، أَوْ غَضِبَ، أَوْ لَعْنَةٍ، أو عذاب. وسئل ابن عباس عن الكبائر فقال: كل شيء عصي الله به فهو كبيرة. وَقَدِ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ فِي حَدِّ الْكَبِيرَةِ، فَمِنْ قَائِلٍ: هِيَ مَا عَلَيْهِ حَدٌّ فِي الشَّرْعِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ مَا عليه وعيد مخصوص مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. قَالَ أبو القاسم عبد الكريم الرافعي في كتابه
ثم قال: وفصَّل الرُّويَانِيُّ فَقَالَ: الْكَبَائِرُ سَبْعٌ: قَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ الحق، والزنا واللواطة، وَشُرْبُ الْخَمْرِ، وَالسَّرِقَةُ، وَأَخْذُ الْمَالِ غَصْبًا، وَالْقَذْفُ؛ وَزَادَ فِي (الشَّامِلِ) عَلَى السَّبْعِ الْمَذْكُورَةِ: شَهَادَةَ الزور، أضاف إِلَيْهَا صَاحِبُ (الْعُدَّةِ): أَكْلَ الرِّبَا، وَالْإِفْطَارَ فِي رَمَضَانَ بِلَا عُذْرٍ، وَالْيَمِينَ الْفَاجِرَةَ، وَقَطْعَ الرَّحِمِ، وَعُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ، وَالْفِرَارَ مِنَ الزَّحْفِ، وَأَكْلَ مَالِ اليتيم، والخيانة في الكيل والوزن، وتقديم اللاة عَلَى وَقْتِهَا، وَتَأْخِيرَهَا عَنْ وَقْتِهَا بِلَا عُذْرٍ، وضرب المسلم بلا حق، والكذب على رسول الله ﷺ عَمْدًا؛ وَسَبَّ أَصْحَابِهِ، وَكِتْمَانَ الشَّهَادَةِ بِلَا عُذْرٍ، وَأَخْذَ الرِّشْوَةِ، وَالْقِيَادَةَ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَالسِّعَايَةَ عِنْدَ السُّلْطَانِ، وَمَنَعَ الزَّكَاةِ، وَتَرْكَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ والنهي عن النكر مَعَ الْقُدْرَةِ، وَنِسْيَانَ الْقُرْآنِ بَعْدَ تَعَلُّمِهِ، وَإِحْرَاقَ الْحَيَوَانِ بِالنَّارِ، وَامْتِنَاعَ الْمَرْأَةِ مِنْ زَوْجِهَا بِلَا سَبَبٍ، وَالْيَأْسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَالْأَمْنَ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ، وَيُقَالُ الْوَقِيعَةُ فِي أَهْلِ الْعِلْمِ، وَحَمَلَةِ الْقُرْآنِ. وَمِمَّا يُعَدُّ مِنَ الْكَبَائِرِ: الظِّهَارُ، وَأَكَلُ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَالْمِيتَةِ إِلَّا عَنْ ضَرُورَةٍ. قُلْتُ: وَقَدْ صَنَّفَ النَّاسُ فِي الْكَبَائِرِ مُصَنَّفَاتٌ مِنْهَا مَا جَمَعَهُ شَيْخُنَا الْحَافِظُ (أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الذَّهَبِيُّ) الَّذِي بَلَغَ نَحْوًا مِنْ سَبْعِينَ كبيرة، وَإِذَا قِيلَ: إِنَّ الكبيرة ما توعد عليها الشارع بِالنَّارِ بِخُصُوصِهَا كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ وما يتبع ذَلِكَ، اجْتَمَعَ مِنْهُ شَيْءٌ كَثِيرٌ، وَإِذَا قِيلَ: كل ما نهى الله عنه فكثير جداً. والله أعلم.
عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ، قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ يَغْزُو الرِّجَالُ وَلَا نَغْزُو، وَلَنَا نصف الميراث؟ فأنزل الله: ﴿وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ على بعض﴾ (رواه أحمد والترميذي) وقال عبد الرزاق عن معمر قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي قَوْلِ النِّسَاءِ لَيْتَنَا الرِّجَالُ فَنُجَاهِدَ كَمَا يُجَاهِدُونَ، وَنَغْزُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ في الآية، قال: أتت امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَشَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ برجل، ونحن في العمل هكذا، إن فعلت امرأة حسنة كتب لَهَا نِصْفُ حَسَنَةٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ﴾ الآية (أخرجه ابن أبي حاتم) قال ابن عباس: لا يَتَمَنَّى الرَّجُلُ فَيَقُولُ: لَيْتَ لَوْ أَنَّ لِي مَالَ فُلَانٍ وَأَهْلَهُ، فَنَهَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، ولكن يسأل الله مِن فَضْلِهِ. وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ، وَلَا يَرِدُ عَلَى هَذَا مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: "لَا حَسَدَ
ثم قال تعالى: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ﴾ أَيْ كُلٌّ لَهُ جَزَاءٌ عَلَى عَمَلِهِ بِحَسَبِهِ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ. هذا قَوْلُ ابْنِ جَرِيرٍ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ فِي الميراث أي كل يرث بحسبه، رواه الوابلي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ثُمَّ أَرْشَدَهُمْ إِلَى مَا يصلحهم، فقال: ﴿واسألوا الله مِن فَضْلِهِ﴾ وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فضلنا بِهِ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ محتوم، أي أن التمني لَا يُجْدِي شَيْئًا، وَلَكِنْ سَلُونِي مِنْ فَضْلِي أُعْطِكُمْ، فَإِنِّي كَرِيمٌ وَهَّابٌ، وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يسأل، وإن أفضل العبادة انتظار الفرج» (أخرجه الترمذي من حديث ابن مسعود) ثُمَّ قَالَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً﴾ أَيْ هُوَ عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الدُّنْيَا فَيُعْطِيهِ مِنْهَا، وَبِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْفَقْرَ فَيُفْقِرُهُ، وَعَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْآخِرَةَ فَيُقَيِّضُهُ لِأَعْمَالِهَا، وَبِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْخِذْلَانَ فَيَخْذُلُهُ عَنْ تَعَاطِي الْخَيْرِ وَأَسْبَابِهِ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿إِنْ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾.
وقوله تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ﴾ أَيْ وَرَثَةً، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ: أَيْ عَصَبَةً، قَالَ ابْنُ جرر: وَالْعَرَبُ تُسَمِّي ابْنَ الْعَمِّ مَوْلًى كَمَا قَالَ الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ:
مَهْلًا بَنِي عَمِّنَا، مَهْلًا موالينا * لا يظهرن بيننا ما كَانَ مَدْفُونَا
قَالَ: وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ ﴿مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ﴾ مِنْ تَرِكَةِ وَالِدَيْهِ وَأَقْرَبِيهِ مِنَ الْمِيرَاثِ، فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: وَلِكُلِّكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ جَعَلْنَا عَصَبَةً يَرِثُونَهُ مِمَّا تَرَكَ وَالِدَاهُ وَأَقْرَبُوهُ من ميراثهم له. وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ﴾ أَيْ وَالَّذِينَ تَحَالَفْتُمْ بِالْأَيْمَانِ الْمُؤَكَّدَةِ أَنْتُمْ وَهُمْ، فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ مِنَ الْمِيرَاثِ كَمَا وَعَدْتُمُوهُمْ فِي الْأَيْمَانِ الْمُغَلَّظَةِ، إِنَّ اللَّهَ شَاهِدٌ بَيْنَكُمْ فِي تِلْكَ الْعُهُودِ وَالْمُعَاقَدَاتِ، وَقَدْ كَانَ هَذَا فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ نُسِخَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَأُمِرُوا أَنْ يُوَفُّوا من عاقدوا ولا ينسوا بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مُعَاقَدَةً، قَالَ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ﴾ قَالَ وَرَثَةً، ﴿وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ كَانَ الْمُهَاجِرُونَ لَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ يَرِثُ الْمُهَاجِرِيُّ الْأَنْصَارِيَّ دُونَ ذَوِي رحمه للأخوة التي آخرى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمْ، فَلَمَّا نَزَلَتْ: ﴿وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ﴾ نُسِخَتْ، ثُمَّ قَالَ: ﴿وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ﴾ مِنَ النَّصْرِ وَالرِّفَادَةِ وَالنَّصِيحَةِ، وَقَدْ ذَهَبَ الْمِيرَاثُ وَيُوصَى لَهُ (أخرجه البخاري عن ابن عباس)
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ (دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ) قَالَ: كُنْتُ أَقْرَأُ عَلَى أُمِّ سَعْدٍ بِنْتِ الرَّبِيعِ مَعَ ابْنِ ابنها (موسى بن سعد) وكان يتيماً فِي حِجْرِ أَبِي بَكْرٍ، فَقَرَأْتُ عَلَيْهَا: وَالَّذِينَ عاقدت أَيْمَانُكُمْ فَقَالَتْ: لَا، وَلَكِنْ ﴿وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ قَالَتْ: إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ وَابْنِهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حِينَ أَبَى أَنْ يُسْلِمَ فَحَلَفَ أبو بكر أن لا يروثه، فلما أسلم حُمِلَ عَلَى الْإِسْلَامِ بِالسَّيْفِ، أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يورثه نصيبه (رواه ابن جرير) وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَأَنَّ هَذَا كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ يَتَوَارَثُونَ بِالْحِلْفِ ثُمَّ نُسِخَ وَبَقِيَ تَأْثِيرُ الْحِلْفِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ أُمِرُوا أن يوفوا بالعهود والعقود، والحلف الذي كانوا قد تعاقدوه قبل ذلك. وهذا نص في الرد على من ذَهَبَ إِلَى التَّوَارُثِ بِالْحِلْفِ الْيَوْمَ، كَمَا هُوَ مذهب أبو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، والصحيح قول الجمهور (مالك وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ) فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ والأقربون﴾ أي ورثة من قراباته مِنْ أَبَوَيْهِ وَأَقْرَبِيهِ، وَهُمْ يَرِثُونَهُ دُونَ سَائِرِ النَّاسِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ قَالَ: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فلأولى رَجُلٍ ذَكَرٍ» أَيِ اقْسِمُوا الْمِيرَاثَ عَلَى أَصْحَابِ الفرائض الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِي آيَتَيِ الْفَرَائِضِ، فَمَا بقي بعد ذلك فأعطوه للعصبة، وَقَوْلُهُ: ﴿وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ أَيْ قَبْلَ نُزُولِ هذه الآية فآتوهم نصبهم أَيْ مِنَ الْمِيرَاثِ، فَأَيُّمَا حِلْفٌ عُقِدَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا تَأْثِيرَ لَهُ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَسَخَتِ الْحِلْفَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَحُكْمَ الحلف الْمَاضِي أَيْضًا فَلَا تَوَارُثَ بِهِ، كَمَا قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ ﴿فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ﴾ قَالَ: مِنَ النُّصْرَةِ والنصيحة والرفادة، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: ﴿فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ﴾ أَيْ من الميراث، وقد اختار ابن جرر أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ ﴿فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ﴾ أَيْ مِنَ النُّصْرَةِ وَالنَّصِيحَةِ وَالْمَعُونَةِ، لَا أَنَّ الْمُرَادَ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ مِنَ الْمِيرَاثِ حَتَّى تَكُونَ الْآيَةُ مَنْسُوخَةً، وَلَا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ حُكْمًا ثُمَّ نُسِخَ، بَلْ إِنَّمَا دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى الْوَفَاءِ بِالْحِلْفِ الْمَعْقُودِ عَلَى النُّصْرَةِ وَالنَّصِيحَةِ فَقَطْ، فَهِيَ (مَحْكَمَةٌ) لا (مسوخة) وهذا الذي قال فِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ مِنَ الْحِلْفِ مَّا كَانَ عَلَى الْمُنَاصَرَةِ وَالْمُعَاوَنَةِ، وَمِنْهُ مَّا كَانَ عَلَى الأرض كَمَا حَكَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ، وَكَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَانَ الْمُهَاجِرِيُّ يَرِثُ الْأَنْصَارِيَّ دُونَ قِرَابَاتِهِ وَذَوِي رَحِمِهِ، حَتَّى نُسِخَ ذَلِكَ فكيف يقولون إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُحْكَمَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ؟ وَاللَّهُ أعلم.
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ﴾ أَيِ الرَّجُلُ قَيِّمٌ عَلَى الْمَرْأَةِ، أَيْ هُوَ رَئِيسُهَا وَكَبِيرُهَا وَالْحَاكِمُ عَلَيْهَا وَمُؤَدِّبُهَا إِذَا اعْوَجَّتْ ﴿بِمَا فضَّل اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ أَيْ لِأَنَّ الرِّجَالَ أَفْضَلُ مِنَ النِّسَاءِ، وَالرَّجُلُ خَيْرٌ مِنَ الْمَرْأَةِ وَلِهَذَا كَانَتِ النُّبُوَّةُ مُخْتَصَّةٌ بِالرِّجَالِ، وَكَذَلِكَ الْمُلْكُ الْأَعْظَمُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ ولَّو أمرهم امرأة» رواه البخاري، وَكَذَا مَنْصِبُ الْقَضَاءِ وَغَيْرُ ذَلِكَ ﴿وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾ أَيْ مِنَ الْمُهُورِ وَالنَّفَقَاتِ وَالْكُلَفِ الَّتِي أَوْجَبَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ لَهُنَّ فِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَالرَّجُلُ أَفْضَلُ مِنَ الْمَرْأَةِ فِي نَفْسِهِ، وَلَهُ الْفَضْلُ عَلَيْهَا وَالْإِفْضَالُ، فَنَاسَبَ أَنْ يَكُونَ قَيِّمًا عَلَيْهَا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ الآية، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ﴾ يَعْنِي أمراء عليهن، أي تطيعه فيما أمرها الله بِهِ مِنْ طَاعَتِهِ، وطاعتُه أَنْ تَكُونَ مُحْسِنَةً لأهله حافظة لماله. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم تشكو أن زوجها لَطَمَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْقِصَاصُ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ﴾ الْآيَةَ. فَرَجَعَتْ بِغَيْرِ قِصَاصٍ، وقد أسنده ابن مردويه عنعلي قَالَ: أَتَى رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ بِامْرَأَةٍ لَهُ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ زَوْجَهَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ الْأَنْصَارِيُّ وَإِنَّهُ ضَرَبَهَا فَأَثَّرَ فِي وَجْهِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ له ذلك، فأنزل الله تعالى: ﴿الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء﴾ أي فِي الْأَدَبِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرَدْتُ أَمْرًا وَأَرَادَ اللَّهُ غَيْرَهُ» أورد ذلك كله ابن جرير.
وقوله تعالى: ﴿فَالصَّالِحَاتُ﴾ أَيْ مِنَ النِّسَاءِ ﴿قَانِتَاتٌ﴾، قَالَ ابْنُ عباس: يعني مطيعات لأزواجهن ﴿حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ﴾ وقال السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ: أَيْ تَحْفَظُ زَوْجَهَا فِي غَيْبَتِهِ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهِ، وَقَوْلُهُ: ﴿بِمَا حَفِظَ اللَّهُ﴾ أي المحفوظ من حفظه الله. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُ النِّسَاءِ امْرَأَةٌ إِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهَا سَرَّتْكَ، وَإِذَا أَمَرْتَهَا أَطَاعَتْكَ، وَإِذَا غِبْتَ عَنْهَا حَفِظَتْكَ فِي نَفْسِهَا وَمَالِكَ»، قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النسآء﴾ إلى آخرها (رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ) وَقَالَ الإمام أحمد عن عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا صَلَّتِ الْمَرْأَةُ خَمْسَهَا، وَصَامَتْ شَهْرَهَا، وَحَفِظَتْ فَرْجَهَا، وَأَطَاعَتْ زَوْجَهَا قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الْجَنَّةَ مِنْ أَيِّ الأبواب شئت" وقوله تعالى: ﴿والاتي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ﴾ أي النساء اللَّاتِي تَتَخَوَّفُونَ أَنْ يَنْشُزْنَ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ، وَالنُّشُوزُ هُوَ الِارْتِفَاعُ، فَالْمَرْأَةُ النَّاشِزُ هِيَ الْمُرْتَفِعَةُ عَلَى زوجها، التاركة لأمره، والمعرضة عنه، المبغضة له، فمتى ظهر لها مِنْهَا أَمَارَاتُ النُّشُوزِ فَلْيَعِظْهَا، وَلْيُخَوِّفْهَا عِقَابَ اللَّهِ فِي عِصْيَانِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْجَبَ حَقَّ الزوج عليها طاعته، وحرم عليها معصيته لما له عليه مِنَ الْفَضْلِ وَالْإِفْضَالِ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا مِنْ عِظَمِ حَقِّهِ عَلَيْهَا» (أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة) وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا دَعَا الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ فَأَبَتْ عَلَيْهِ لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ» وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَلَفْظُهُ: «إِذَا بَاتَتِ الْمَرْأَةُ هَاجِرَةً فِرَاشَ زَوْجِهَا لَعْنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ»، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ﴾.
وقوله تعالى: ﴿فَإِن أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً﴾ أَيْ إذا أطاعت المرأة زوجها في جميع ما يريده مِنْهَا، مِمَّا أَبَاحَهُ اللَّهُ لَهُ مِنْهَا فَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَيْسَ لَهُ ضَرْبُهَا وَلَا هِجْرَانُهَا. وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً﴾ تَهْدِيدٌ لِلرِّجَالِ إِذَا بَغَوْا عَلَى النِّسَاءِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ، فَإِنَّ اللَّهَ الْعَلِيَّ الكبير وليهُنَّ، وهو ينتقم مِمَّنْ ظلمهُنَّ وَبَغَى عَلَيْهِنَّ.
ذكر الْحَالَ الْأَوَّلَ، وَهُوَ: إِذَا كَانَ النُّفُورُ وَالنُّشُوزُ مِنَ الزَّوْجَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْحَالَ الثَّانِيَ: وَهُوَ إِذَا كَانَ النُّفُورُ مِنَ الزَّوْجَيْنِ فَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ﴾، وقال الْفُقَهَاءُ: إِذَا وَقَعَ الشِّقَاقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ أَسْكَنَهُمَا الْحَاكِمُ إِلَى جَنْبِ ثِقَةٍ، يَنْظُرُ فِي أَمْرِهِمَا وَيَمْنَعُ الظَّالِمَ مِنْهُمَا مِنَ الظُّلْمِ، فَإِنْ تَفَاقَمَ أَمَرُهُمَا وَطَالَتْ خُصُومَتُهُمَا، بَعَثَ الْحَاكِمُ ثِقَةً مَنْ أَهْلِ الْمَرْأَةِ وَثِقَةً مِنْ قَوْمِ الرَّجُلِ، لِيَجْتَمِعَا فينظرا فِي أَمْرِهِمَا وَيَفْعَلَا مَا فِيهِ الْمَصْلَحَةُ، مِمَّا يَرَيَانِهِ مِنَ التَّفْرِيقِ أَوِ التَّوْفِيقِ، وتشوَّف الشَّارِعُ إلى التوفيق، ولهذا قال تَعَالَى: ﴿إِنْ يُرِيدَآ إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَآ﴾، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: أَمَرَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ أَنْ يَبْعَثُوا رَجُلًا صَالِحًا مَنْ أَهْلِ الرَّجُلِ، وَرَجُلًا من أهل
وقد أجمع العلماء على ان الحكمين لهما الْجَمْعُ وَالتَّفْرِقَةُ، حَتَّى قَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ إِنْ شَاءَ الْحَكَمَانِ أَنْ يُفَرِّقَا بَيْنَهُمَا بِطَلْقَةٍ أَوْ بِطَلْقَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ فَعَلَا، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: الْحَكَمَانِ يُحَكَّمَانِ فِي الجمع لا في التفرقة، وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ، وَمَأْخَذُهُمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِن يُرِيدَآ إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَآ﴾، وَلَمْ يُذْكَرِ التَّفْرِيقَ، وَأَمَّا إِذَا كَانَا وَكِيلَيْنِ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجَيْنِ فَإِنَّهُ يُنَفَّذُ حكمهما في الجمع والتفرقة بلا خوف. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ فِي الْحُكْمَيْنِ: هَلْ هُمَا منصوبان من جهة الْحَاكِمِ فَيَحْكُمَانِ وَإِنْ لَمْ يَرْضَ الزَّوْجَانِ؟ أَوْ هُمَا وَكِيلَانِ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجَيْنِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، والجمهور على الأول لقوله تعالى: ﴿فابعثوا حكمً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ﴾ فَسَمَّاهُمَا حَكَمَيْنِ، وَمِنْ شَأْنِ الْحَكَمِ أَنْ يَحْكُمَ بِغَيْرِ رِضَا الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، وَهَذَا ظَاهِرُ الْآيَةِ. وَالْجَدِيدُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، والثاني منهما لقول عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلزَّوْجِ حِينَ قَالَ أما الفرقة قَالَ: كَذَبْتَ حَتَّى تُقِرَّ بِمَا أَقَرَّتْ بِهِ، قالوا: فلو كانا حكمين لَمَا افْتَقَرَ إِلَى إِقْرَارِ الزَّوْجِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
يَأْمُرُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَإِنَّهُ هُوَ الْخَالِقُ الرَّازِقُ الْمُنْعِمُ الْمُتَفَضِّلُ عَلَى خَلْقِهِ فِي جميع
ثم قال تعالى: ﴿واليتامى﴾ وذلك لأنهم فَقَدُوا مَنْ يَقُومُ بِمَصَالِحِهِمْ وَمَنْ يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ، فَأَمَرَ اللَّهُ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ وَالْحُنُوِّ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قَالَ: ﴿وَالْمَسَاكِينِ﴾ وَهُمُ الْمَحَاوِيجُ مِنْ ذَوِي الْحَاجَاتِ الذين لاَ يَجِدُونَ من يقوم بكفايتهم، فأمر الله سبحانه بِمُسَاعَدَتِهِمْ بِمَا تَتِمُّ بِهِ كِفَايَتُهُمْ وَتَزُولُ بِهِ ضَرُورَتُهُمْ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الجنب﴾ قال ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى﴾ يَعْنِي الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ قَرَابَةٌ ﴿وَالْجَارِ الْجُنُبِ﴾ الَّذِي لَيْسَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ قُرَابَةٌ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ ومجاهد، وقال نَوْفٍ الْبُكَالِيِّ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى﴾ يعني الجار الْمُسْلِمَ ﴿وَالْجَارِ الْجُنُبِ﴾ يَعْنِي الْيَهُودِيَّ وَالنَّصْرَانِيَّ (رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ) وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ ﴿وَالْجَارِ الْجُنُبِ﴾ يَعْنِي: الرَّفِيقَ فِي السَّفَرِ، وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ بالوصايا بالجار فلنذكر منها ما تيسر وبالله المستعان.
(الحديث الأول) قال الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سيورثه» أخرجاه في الصحيحين.
(الحدث الثاني): عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «خَيْرُ الْأَصْحَابِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره» (رواه أحمد والترمذي)
(الحدث الثالث): قال الإمام أحمد عن المقداد بن الأسود قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: «مَا تَقُولُونَ فِي الزِّنَا»؟ قَالُوا: حرام حرمه الله ورسوله وهو حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَأَنْ يَزْنِيَ الرَّجُلُ بِعَشْرِ نِسْوَةٍ أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَزْنِيَ بحليلة جاره»، قال: «ما تقولون في السرقة»؟ قالو: حرمها الله ورسوله فهي حرام إلى يوم القيامة، قَالَ: «لَأَنْ يَسْرِقَ الرَّجُلُ مِنْ عَشْرَةِ أَبْيَاتٍ أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَسْرِقَ مِنْ جَارِهِ» (تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ وَلَهُ شَاهِدٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ)
(الحديث الرابع): قال أبو بكر البزار عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْجِيرَانُ ثَلَاثَةٌ، جَارٌ لَهُ حَقٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَدْنَى الجيران حقاً. جار لَهُ حَقَّانِ، وَجَارٌ لَهُ ثَلَاثَةُ حُقُوقٍ وَهُوَ أفضل الجيران حقاً، فأما الجار الَّذِي لَهُ حَقٌّ وَاحِدٌ فَجَارٌ مُشْرِكٌ لَا رحم له، له حق الجوار، وأما الجار الَّذِي لَهُ حَقَّانِ فَجَارٌ مُسْلِمٌ لَهُ حَقُّ الْإِسْلَامِ، وَحَقُّ الْجِوَارِ، وَأَمَّا الَّذِي لَهُ ثَلَاثَةُ حُقُوقٍ فَجَارٌ مُسْلِمٌ ذُو رَحِمٍ لَهُ حَقُّ الجوار، وحق الإسلام، وحق الرحم».
وقوله تعالى: ﴿والصاحب بالجنب﴾ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ قَالَا: هِيَ الْمَرْأَةُ، وقال ابن عباس ومجاهد: هُوَ الرَّفِيقُ فِي السَّفَرِ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ الرَّفِيقُ الصَّالِحُ، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: هُوَ جَلِيسُكَ فِي الْحَضَرِ وَرَفِيقُكَ فِي السَّفَرِ، وَأَمَّا ابْنُ السَّبِيلِ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وجماعة هو الضيف، وقال مجاهد وَالضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ: هُوَ الَّذِي يَمُرُّ عَلَيْكَ مُجْتَازًا فِي السَّفَرِ، وَهَذَا أَظْهَرُ وَإِنْ كَانَ مُرَادُ الْقَائِلِ بِالضَّيْفِ الْمَارَّ فِي الطَّرِيقِ فَهُمَا سَوَاءٌ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى أَبْنَاءِ السَّبِيلِ فِي سُورَةِ براءة وبالله الثقة وعليه التكلان.
وقوله تعالى: ﴿وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ وَصِيَّةٌ بِالْأَرِقَّاءِ لِأَنَّ الرَّقِيقَ ضعيف الحيلة، أسير في أيدي الناس، فلهذا ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ يُوصِي أُمَّتَهُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ يَقُولُ: «الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» فَجَعَلَ يُرَدِّدُهَا حَتَّى مَا يَفِيضُ بِهَا لِسَانُهُ، وَقَالَ الإمام أحمد عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يَكَرِبَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «ما أَطْعَمْتَ نَفْسَكَ فَهُوَ لَكَ صَدَقَةٌ، وَمَا أَطْعَمْتَ ولدك فهو لك صدقة، وما أطعمت زووجتك فَهُوَ لَكَ صَدَقَةٌ، وَمَا أَطْعَمْتَ خَادِمَكَ فَهُوَ لك صدقة» ورواه النسائي وإسناده صحيح.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ قَالَ لِقَهْرَمَانَ لَهُ: هَلْ أَعْطَيْتَ الرَّقِيقَ قُوتَهُمْ؟ قَالَ: لَا قَالَ: فَانْطَلِقْ فَأَعْطِهِمْ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَفَى بِالْمَرْءِ إثماً أن يحبس عمن يملك قوتهم» (رواهما مُسْلِمٌ) وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لِلْمَمْلُوكِ طَعَامُهُ وَكِسْوَتُهُ وَلَا يُكَلَّفُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا يُطِيقُ» (رواهما مسلم) وعنه أَيْضًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا أَتَى أَحَدَكُمْ خَادِمُهُ بِطَعَامِهِ فَإِنْ لَمْ يُجْلِسْهُ مَعَهُ فَلْيُنَاوِلْهُ لُقْمَةً أَوْ لُقْمَتَيْنِ أَوْ أَكْلَةً أَوْ أَكْلَتَيْنِ فَإِنَّهُ وَلِيَ حَرَّهُ وَعِلَاجَهُ» أَخْرَجَاهُ، وَلَفْظُهُ لِلْبُخَارِيِّ وَلِمُسْلِمٍ: «فَلْيُقْعِدْهُ مَعَهُ فَلْيَأْكُلْ، فَإِنْ كَانَ الطَّعَامُ مَشْفُوهًا قَلِيلًا، فَلْيَضَعْ فِي يَدِهِ أَكْلَةً أَوْ أَكْلَتَيْنِ» وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «هُمْ إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ» أخرجاه.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً﴾ أي مختالاً في نفسه، بمعجباً مُتَكَبِّرًا فَخُورًا عَلَى النَّاسِ يَرَى أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْهُمْ، فَهُوَ فِي نَفْسِهِ كَبِيرٌ، وَهُوَ عِندَ اللَّهِ حَقِيرٌ، وَعِنْدَ النَّاسِ بَغِيضٌ، قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً﴾ يعني متكبراً، ﴿فَخُوراً﴾ يعني: بعدما أعطى وهو لا يشكر الله تعالى، يَعْنِي: يَفْخَرُ عَلَى النَّاسِ بِمَا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنْ نِعَمِهِ، وَهُوَ قَلِيلُ الشُّكْرِ لِلَّهِ عَلَى ذلك، وقال ابن جرير عن أبي رجاء الهروي: لا تجد سيء الْمَلَكَةِ إِلَّا وَجَدَّتَهُ مُخْتَالًا فَخُورًا، وَتَلَا: ﴿وَمَا ملكت أيمانكم﴾ الآية، وَلَا عَاقًّا إِلَّا وَجَدَّتَهُ جَبَّارًا شَقِيًّا، وَتَلَا: ﴿وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جباراً شقياً﴾ وقال مُطَرِّفٌ: كَانَ يَبْلُغُنِي عَنْ أَبِي ذَرٍّ حَدِيثٌ كُنْتُ أَشْتَهِي لِقَاءَهُ، فَلَقِيتُهُ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا ذَرٍّ بَلَغَنِي أَنَّكَ تَزْعُمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ ثَلَاثَةً وَيُبْغِضُ ثَلَاثَةً، قَالَ: أجل، قُلْتُ: مَنِ الثَّلَاثَةُ الَّذِينَ يُبْغِضُ اللَّهُ؟ قَالَ: الْمُخْتَالُ الْفَخُورُ أَوَلَيْسَ تَجِدُونَهُ عِنْدَكُمْ فِي كِتَابِ الله
- ٣٨ - وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَآءَ قَرِينًا
- ٣٩ - وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا
يَقُولُ تَعَالَى ذَامًّا الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِأَمْوَالِهِمْ أَنْ يُنْفِقُوهَا فِيمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنْ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْأَقَارِبِ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ، وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى، وَالْجَارِ الْجُنُبِ، وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ، وَابْنِ السَّبِيلِ، وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّن الْأَرِقَّاءِ، وَلَا يَدْفَعُونَ حَقَّ اللَّهِ فِيهَا وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ أَيْضًا، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِيَّاكُمْ وَالشُّحَ فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، أَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالْفُجُورِ فَفَجَرُوا».
وَقَوْلُهُ تعالى: ﴿وَيَكْتُمُونَ مَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ فَالْبَخِيلُ جحودُ لنعمة الله ولا تظهر عليه، ولا تبين لا في مأكله وَلَا فِي مَلْبَسِهِ وَلَا فِي إِعْطَائِهِ وَبَذْلِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ* وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ﴾ أَيْ بِحَالِهِ وَشَمَائِلِهِ، ﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾ وقال ههنا: ﴿وَيَكْتُمُونَ مَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾، وَلِهَذَا تَوَعَّدَهُمْ بِقَوْلِهِ: ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً﴾ وَالْكَفْرُ هُوَ السَّتْرُ وَالتَّغْطِيَةُ، فَالْبَخِيلُ يَسْتُرُ نِعْمَةَ اللَّهِ عليه، ويكتمها ويجحدها فهو كافر لنعمة اللَّهِ عَلَيْهِ، وَفِي الْحَدِيثِ: إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَنْعَمَ نِعْمَةً عَلَى عَبْدٍ أَحَبَّ أَنْ يَظْهَرَ أَثَرُهَا عَلَيْهِ"، وَفِي الدُّعَاءِ النَّبَوِيِّ: «وَاجْعَلْنَا شَاكِرِينَ لنعمتك، مثنين بها عليك قابليها - وَأَتْمِمْهَا عَلَيْنَا» وَقَدْ حَمَلَ بَعْضُ السَّلَفِ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى بُخْلِ الْيَهُودِ بِإِظْهَارِ الْعِلْمِ الَّذِي عندهم مِنْ صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكِتْمَانِهِمْ ذَلِكَ، وَلِهَذَا قال تعالى: ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً﴾ ولا شكر أَنَّ الْآيَةَ مُحْتَمِلَةٌ لِذَلِكَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ السِّيَاقَ فِي الْبُخْلِ بِالْمَالِ، وَإِنْ كَانَ الْبُخْلُ بِالْعِلْمِ داخلاً في ذلك بطريق الأوْلى، فإن السياق في الإنفاق على الأقارب والضعفاء كذلك الآية التي بعدها، وهي قوله: ﴿الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَآءَ الناس﴾ فإنه ذكر الممسكين المذمومني وهم البخلاء، ثم ذكر الباذلين المرائين الذين يَقْصِدُونَ بِإِعْطَائِهِمُ السُّمْعَةَ وَأَنْ يُمْدَحُوا بِالْكَرَمِ، وَلَا يريدون بذلك وجه الله. وفي حديث: "الثلاة الَّذِينَ هُمْ أَوَّلُ مَنْ تُسَجَّرُ بِهِمُ النَّارُ، وهم: (العالم والغازي والمنفق والمراؤون بِأَعْمَالِهِمْ) يَقُولُ صَاحِبُ الْمَالِ مَا تَرَكْتُ مِنْ شي تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهِ إِلَّا أَنْفَقْتُ فِي سَبِيلِكَ، فَيَقُولُ اللَّهُ: كَذَبْتَ إِنَّمَا أَرَدْتَ أَنْ يقال جواد فقد قيل: أي أَخَذْتَ جَزَاءَكَ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ الَّذِي أَرَدْتَ بِفِعْلِكَ، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال لعدي بن حاتم: «إن أباك أرد أَمْرًا فَبَلَغَهُ» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّ رَسُولَ الله ﷺ سئل عن (عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ) هَلْ يَنْفَعُهُ إِنْفَاقُهُ وَإِعْتَاقُهُ؟ فَقَالَ: «لَا، إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ»، ولهذا قال تعالى: ﴿وَلاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر﴾ الآية. أَيْ إِنَّمَا حَمَلَهُمْ عَلَى صَنِيعِهِمْ هَذَا الْقَبِيحِ، وَعُدُولِهِمْ عَنْ فِعْلِ الطَّاعَةِ عَلَى وَجْهِهَا الشَّيْطَانُ، فَإِنَّهُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ، وَقَارَنَهُمْ فَحَسَّنَ لهم القبائح، ولهذا قال تعالى:
عَنِ الْمَرْءِ لَا تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ * فَكُلُّ قَرِينٍ بِالْمَقَارَنِ يَقْتَدِي
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ﴾ الآية، أي وأيّ شيء يضرهم لو آمنوا بالله وسلكوا الطَّرِيقَ الْحَمِيدَةَ، وَعَدَلُوا عَنِ الرِّيَاءِ إِلَى الْإِخْلَاصِ والإيمان بالله، رجاء موعوده في الدار الآخرة لمن يحسن عمله، وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ فِي الْوُجُوهِ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ وَيَرْضَاهَا؟! وَقَوْلُهُ: ﴿وَكَانَ اللَّهُ بِهِم عَلِيماً﴾ أَيْ وَهُوَ عَلِيمٌ بِنِيَّاتِهِمُ الصَّالِحَةِ وَالْفَاسِدَةِ، وَعَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ التَّوْفِيقَ مِنْهُمْ فَيُوَفِّقُهُ وَيُلْهِمُهُ رُشْدَهُ، وَيُقَيِّضُهُ لِعَمَلٍ صَالِحٍ يَرْضَى بِهِ عَنْهُ، وَبِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْخِذْلَانَ وَالطَّرْدَ عَنْ جَنَابِهِ الْأَعْظَمِ الْإِلَهِيِّ، الَّذِي مَنْ طُرِدَ عَنْ بَابِهِ فَقَدْ خَابَ، وَخَسِرَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ عِيَاذًا بِاللَّهِ من ذلك.
- ٤١ - فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيداً
- ٤٢ - يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا
يُخْبِرُ جلَّ ثناؤه عباده بأنه سيوفيهم أجورهم، ولا يظلم خلقه يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِثْقَالَ حَبَّةِ خَرْدَلٍ، وَلَا مِثْقَالَ ذرة بل يوفيها له وَيُضَاعِفُهَا لَهُ إِنْ كَانَتْ حَسَنَةً، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿وَنَضَعُ الموازين القسط﴾ الآية، وَقَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ لُقْمَانَ: أَنَّهُ قَالَ: ﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ﴾ الآية، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ﴾ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ الطويل، وفيه: «يقول اللَّهُ عزَّ وجلَّ ارْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ مِنَ النَّارِ»؛ وَفِي لَفْظٍ: أَدْنَى أَدْنَى أَدْنَى مِثْقَالِ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ مِنَ النَّارِ، «فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا»، ثُمَّ يَقُولُ أَبُو سَعِيدٍ: اقرأوا إِنْ شِئْتُمْ ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ الْآيَةَ وقال ابن أبي حاتم، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: يُؤْتَى بِالْعَبْدِ أو الأمة يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُنَادِي مُنَادٍ عَلَى رُؤُوسِ الْأَوَّلِينَ الآخرين: هَذَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، مَنْ كَانَ لَهُ حَقٌّ فَلْيَأْتِ إِلَى حَقِّهِ، فَتَفْرَحُ الْمَرْأَةُ أَنْ يكون لها الحق على أبيها أو أمها أَوْ أَخِيهَا أَوْ زَوْجِهَا، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ﴾ فَيَغْفِرُ اللَّهُ مِنْ حَقِّهِ مَا يَشَاءُ وَلَا يَغْفِرُ مِنْ حُقُوقِ النَّاسِ شَيْئًا، فَيُنْصَبُ لِلنَّاسِ، فيقول ائتوا إلى الناس حقوقهم، فيقول: يا رَبِّ فَنِيَتِ الدُّنْيَا مِنْ أَيْنَ أُوتِيهِمْ حُقُوقَهُمْ؟ فيقول: خُذُوا مِنْ أَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ فَأَعْطُوا كُلَّ ذِي حق حقه بقدر مظلمته، فَإِنْ كَانَ وَلِيًّا لِلَّهِ فَفَضَلَ لَهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ ضَاعَفَهَا اللَّهُ لَهُ حَتَّى يُدْخِلَهُ بِهَا الْجَنَّةَ، ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْنَا: ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا﴾، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا شَقِيًّا. قَالَ الْمَلَكُ: رَبِّ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ وَبَقِيَ طَالِبُونَ كَثِيرٌ، فَيَقُولُ: خُذُوا مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ فَأَضِيفُوهَا إِلَى سَيِّئَاتِهِ، ثُمَّ صُكُّوا لَهُ صَكًّا إِلَى النَّارِ وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَلِبَعْضِ هَذَا الْأَثَرِ شَاهَدٌ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ.
وقوله تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا﴾ أَيْ لَوِ انْشَقَّتْ وَبَلَعَتْهُمْ مِمَّا يَرَوْنَ مِنْ أَهْوَالِ الْمَوْقِفِ وَمَا يَحِلُّ بِهِمْ مِنَ الْخِزْيِ وَالْفَضِيحَةِ وَالتَّوْبِيخِ، كَقَوْلِهِ: ﴿يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ﴾ الآية. وقوله: ﴿وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حديثا﴾ إخبار عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِجَمِيعِ مَا فَعَلُوهُ وَلَا يكتمون منه شيئاً، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ له: سَمِعْتُ اللَّهَ عزَّ وَجَلَّ يَقُولُ - يَعْنِي إِخْبَارًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ - أَنَّهُمْ قَالُواْ: ﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾، وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى ﴿وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً﴾ فقال ابن عباس: أَمَّا قَوْلُهُ ﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ فَإِنَّهُمْ لَمَّا رَأَوْا أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا أَهْلُ الْإِسْلَامِ، قَالُوا: تَعَالَوْا فَلْنَجْحَدْ، فَقَالُوا: ﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ فَخَتَمَ اللَّهُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتَكَلَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ ﴿وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حديثاً﴾ (أخرجه ابن جرير) وقال عبد الرزاق عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: أَشْيَاءٌ تَخْتَلِفُ عليَّ فِي الْقُرْآنِ، قَالَ مَا هُوَ، أَشُكُّ فِي الْقُرْآنِ؟ قَالَ: لَيْسَ هُوَ بِالشَّكِّ، وَلَكِنِ اخْتِلَافٌ قَالَ: فَهَاتِ مَا اخْتَلَفَ عَلَيْكَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ أَسْمَعُ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾، وَقَالَ: ﴿وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً﴾ فَقَدْ كَتَمُوا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَّا قَوْلُهُ {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ
وقال الضَّحَّاكِ: إِنَّ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ أَتَى ابنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ قَوْلُ اللَّهِ تعالى ﴿يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا﴾ وَقَوْلُهُ: ﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنِّي أَحْسَبُكَ قُمْتَ مِنْ عِنْدِ أَصْحَابِكَ، فَقُلْتَ أُلْقِي عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ مُتَشَابِهُ الْقُرْآنِ فَإِذَا رَجَعْتَ إِلَيْهِمْ فَأَخْبِرْهُمْ: أَنَّ الله تعالى يجمع الناس يوم القياة فِي بَقِيعٍ وَاحِدٍ، فَيَقُولُ الْمُشْرِكُونَ: إِنِ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا إِلَّا مِمَّنْ وحَّده، فيقولون تعالوا نجحد، فَيَسْأَلُهُمْ فَيَقُولُونَ: ﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾، فعند ذلك يتمنون لو أن الأرض سويت لهم ﴿وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حديثاً﴾ (أخرجه ابن جرير عن الضحاك).
ينهى تبارك وتعالى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ فِعْلِ الصَّلَاةِ فِي حَالِ السُّكْرِ، الَّذِي لَا يَدْرِي مَعَهُ الْمُصَلِّي مَا يقول، وعن قربان محالها - التي هي الْمَسَاجِدُ - لِلْجُنُبِ إِلَّا أَنَّ يَكُونَ مُجْتَازًا مِنْ بَابٍ إِلَى بَابٍ مِنْ غَيْرِ مُكْثٍ؛ وَقَدْ كَانَ هَذَا قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ كَمَا دَلَّ عليه الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ عِنْدَ قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر﴾ الْآيَةَ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَاهَا عَلَى عُمَرَ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا»، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَلَاهَا عَلَيْهِ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا»، فَكَانُوا لَا يشربون الخمر في أوقات الصلوات، حتى نَزَلَتْ: ﴿يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ واليمسر والأنصاب والأزلام رجلس مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، إِلَى قوله تعالى: ﴿فهل أنت منتهون﴾؟ فقال عمر: انتهينا انتهينا وفي رواية عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخُطَّابِ فِي قِصَّةِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ: فَنَزَلَتِ الْآيَةُ التِي فِي النِّسَاءِ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُواْ الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾ فكان منادي رسول الله إذا قامت الصلاة ينادي: أن لا يقربن الصلاة سكران.
(سبب آخر): عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: صَنَعَ لَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ طَعَامًا فَدَعَانَا وَسَقَانَا مِنَ الْخَمْرِ
وقوله تعالى: ﴿وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُواْ﴾ عن ابن عباس قَالَ: لَا تَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ وَأَنْتُمْ جُنُبٌ إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ، قَالَ تَمُرُّ بِهِ مَرًّا وَلَا تجلس، يروى أَنَّ رِجَالًا مِنَ الْأَنْصَارِ كَانَتْ أَبْوَابُهُمْ فِي الْمَسْجِدِ فَكَانَتْ تُصِيبُهُمُ الْجَنَابَةُ وَلَا مَاءَ عِنْدَهُمْ، فَيَرِدُونَ الْمَاءَ وَلَا يَجِدُونَ مَمَرًّا إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَلاَ جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سبيل﴾، ويشهد لصحته مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «سُدُّوا كُلَّ خَوْخَةٍ فِي الْمَسْجِدِ إِلَّا خَوْخَةَ أَبِي بَكْرٍ»، وَهَذَا قَالَهُ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِلْمًا مِنْهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَيَلِي الْأَمْرَ بَعْدَهُ، وَيَحْتَاجُ إِلَى الدُّخُولِ فِي الْمَسْجِدِ كَثِيرًا لِلْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ فِيمَا يَصْلُحُ لِلْمُسْلِمِينَ، فَأَمَرَ بِسَدِّ الْأَبْوَابِ الشَّارِعَةِ إِلَى الْمَسْجِدِ إِلَّا بَابَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ رَوَى (إِلَّا بَابَ عَلِيٍّ) كَمَا وقع في بعض السنن فهو خطأ، والصواب مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ. وَمِنْ هَذِهِ الْآيَةِ احْتَجَّ كَثِيرٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ على الجنب المكث فِي الْمَسْجِدِ، وَيَجُوزُ لَهُ الْمُرُورُ، وَكَذَا الْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ أَيْضًا فِي مَعْنَاهُ، إِلَّا أَنَّ بَعْضَهَمْ قال: يحرم مُرُورَهُمَا لِاحْتِمَالِ التَّلْوِيثِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنْ أَمِنَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا التَّلْوِيثَ فِي حَالِ الْمُرُورُ وَإِلَّا فَلَا، وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ، قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَاوِلِينِي الخُمرة مِنَ الْمَسْجِدِ»، فَقُلْتُ: إِنِّي حَائِضٌ، فَقَالَ: «إِنَّ حَيْضَتَكِ لَيْسَتْ فِي يَدِكِ» وفيه دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ مُرُورِ الْحَائِضِ فِي الْمَسْجِدِ وَالنُّفَسَاءُ فِي مَعْنَاهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَرَوَى أَبُو داود عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنِّي لَا أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لِحَائِضٍ وَلَا جُنُبٍ»، قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْخَطَّابِيُّ: ضعف هذا
وعن علي: ﴿وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عابر سَبِيلٍ﴾ قَالَ: لَا يَقْرَبُ الصَّلَاةَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُسَافِرًا تُصِيبُهُ الْجَنَابَةُ فَلَا يَجِدُ الْمَاءَ فيصلي حتى يجد الماء، ويستشهد لهذا القول بالحديث الذي رواه أحمد وأهل السنن عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ، وَإِنْ لَمْ تَجِدِ الْمَاءَ عَشْرَ حِجَجٍ فإذا وجدت الماء فأمسه بشرتك فإن ذلك خير لك» (رواه أحمد وأهل السنن من حديث أبي ذر) ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ بَعْدَ حِكَايَتِهِ الْقَوْلَيْنِ: وَالْأَوْلَى قَوْلُ مَنْ قَالَ ﴿وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ﴾ أي إلا عابري طَرِيقٍ فِيهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ بيَّن حُكْمَ الْمُسَافِرِ إِذَا عَدِمَ الْمَاءَ وَهُوَ جُنُبٌ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾ إِلَى آخِرِهِ، فَكَانَ مَعْلُومًا بِذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: ﴿وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُواْ﴾ لَوْ كَانَ مَعْنِيًّا بِهِ الْمُسَافِرُ لَمْ يَكُنْ لِإِعَادَةِ ذِكْرِهِ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَأَنَّ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾ مَعْنًى مَفْهُومٌ، وَقَدْ مَضَى حَكْمُ ذِكْرِهِ قَبْلَ ذَلِكَ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الْمَسَاجِدَ لِلصَّلَاةِ مُصَلِّينَ فِيهَا وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ، وَلَا تَقْرَبُوهَا أَيْضًا جَنْبًا حَتَّى تَغْتَسِلُوا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ. قَالَ: وَالْعَابِرُ السَّبِيلَ الْمُجْتَازُ مَرًّا وَقَطْعًا، يُقَالُ منه: عبرت بهذا الطريق فأنا أعبره عبراً وعبوراً، ومنه يقال: عَبَرَ فُلَانٌ النَّهْرَ إِذَا قَطَعَهُ وَجَاوَزَهُ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلنَّاقَةِ الْقَوِيَّةِ عَلَى الْأَسْفَارِ: هِيَ عُبْرُ الأسفار لِقُوَّتِهَا عَلَى قَطْعِ الْأَسْفَارِ، وَهَذَا الَّذِي نَصَرَهُ هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ، وَكَأَنَّهُ تَعَالَى نَهَى عَنْ تَعَاطِي الصَّلَاةِ عَلَى هيئة ناقصة تناقص مَقْصُودَهَا، وَعَنِ الدُّخُولِ إِلَى مَحَلِّهَا عَلَى هَيْئَةٍ نَاقِصَةٍ، وَهِيَ الْجَنَابَةُ الْمُبَاعِدَةُ لِلصَّلَاةِ وَلِمَحَلِّهَا أَيْضًا. والله أعلم.
وقوله تعالى: ﴿حَتَّى تَغْتَسِلُواْ﴾ دَلِيلٌ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ (أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالُكٌ وَالشَّافِعِيُّ) أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْجُنُبِ الْمُكْثُ فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى يَغْتَسِلَ أَوْ يَتَيَمَّمَ إِنَّ عَدِمَ الْمَاءَ، أَوْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ بِطَرِيقَةٍ، وَذَهَبَ (الْإِمَامُ أَحْمَدُ) إِلَى أَنَّهُ مَتَى تَوَضَّأَ الْجُنُبُ جَازَ لَهُ المكث في المسجد، لما روي بسند صَحِيحٍ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ. قَالَ سعيد بن منصور في سننه عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: رَأَيْتُ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْلِسُونَ فِي الْمَسْجِدِ وَهُمْ مُجْنِبُونَ إِذَا تَوَضَؤُوا وُضُوءَ الصَّلَاةِ، وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ عَلَى شرط مسلم، والله أعلم.
وقوله تعالى: ﴿وإن، كنتم مرضى على عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً﴾ أَمَّا الْمَرَضُ الْمُبِيحُ لِلتَّيَمُّمِ فَهُوَ الَّذِي يُخَافُ مَعَهُ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فَوَاتُ عُضْوٍ أَوْ شَيْنُهُ أَوْ تَطْوِيلُ الْبُرْءِ، وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ جَوَّزَ التَّيَمُّمَ بِمُجَرَّدِ الْمَرَضِ لعموم الآية، قال مجاهد: نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ كَانَ مَرِيضًا، فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَقُومَ فَيَتَوَضَّأَ، وَلَمْ يَكُنْ له خادم فيناوله، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فأنزل الله هذه الآية وَالسَّفَرُ مَعْرُوفٌ وَلَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ الطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ، وَقَوْلُهُ: ﴿أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ﴾ الْغَائِطُ هُوَ الْمَكَانُ الْمُطْمَئِنُّ مِنَ الْأَرْضِ، كَنَّى بِذَلِكَ عَنِ التَّغَوُّطِ وَهُوَ الْحَدَثُ الْأَصْغَرُ.
وأما قوله تعالى: ﴿أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء﴾ فقرئ لمستم ولامستم، واختلف المفسرون الأئمة فِي مَعْنَى ذَلِكَ عَلَى
«ولمست كفي كفه أطلب الغنى».
وقال ابْنُ جَرِيرٍ وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: عَنَى اللَّهُ بِقَوْلِهِ ﴿أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾ الْجِمَاعَ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ مَعَانِي اللَّمْسِ لِصِحَّةِ الْخَبَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قبَّل بَعْضَ نِسَائِهِ ثم صلى ولم يتوضأ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ ثُمَّ يُقَبِّلُ، ثُمَّ يُصَلِّي وَلَا يَتَوَضَّأُ، وحدَّث عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبَّل بَعْضَ نِسَائِهِ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ، قُلْتُ: مَنْ هِيَ إلا أنت؟ فضحكت (رواه أبو داود والترمذي وابن اجة) وعن أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُقَبِّلُهَا وَهُوَ صَائِمٌ ثُمَّ لا يفطر ولا يحدث وضوءاً. وقوله تَعَالَى: ﴿فَإِن لَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً﴾ اسْتَنْبَطَ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ لِعَادِمِ الْمَاءِ إلا بعد طلب الماء، فَمَتَى طَلَبَهُ فَلَمْ يَجِدْهُ جَازَ لَهُ حِينَئِذٍ التيمم لحديث (عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ) أَنَّ رَسُولَ
وَلَمَّا رَأَتْ أَنَّ الْمَنِيَّةَ وِرِدُهَا * وَأَنَّ الْحَصَى من تحت أقدامها دامي
تَيَمَّمَتِ الْعَيْنَ الَّتِي عِنْدَ ضَارِجٍ * يَفِيءُ عَلَيْهَا الفيء عرمضها طامي
وَالصَّعِيدُ قِيلَ: هُوَ كُلُّ مَا صَعِدَ عَلَى وجه الارض، فيدخل الأرض، فيدخل فيه التراب والرمل والشجر وَالنَّبَاتُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَقِيلَ: مَا كَانَ من جنس التراب كالرمل وَالزَّرْنِيخُ وَالنَّوْرَةُ وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقِيلَ: هو التراب فقط، وهو قول الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَصْحَابِهِمَا وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً﴾ أَيْ تُرَابًا أَمْلَسَ طَيِّبًا، وَبِمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِثَلَاثٍ: جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ، وَجُعِلَتْ لَنَا الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدًا، وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُورًا إِذَا لَمْ نَجِدِ الْمَاءَ" وَفِي لَفْظٍ: «وَجُعِلَ تُرَابُهَا لَنَا طَهُورًا إِذَا لَمْ نَجِدِ الْمَاءَ» قَالُوا فَخَصَّصَ الطَّهُورِيَّةَ بِالتُّرَابِ في مقام الإمتنانن فلو كان غيره يقوم مقام لذكره معه، والطيب ههنا: قيل الحلال، وقيل الذي ليس بنجس.
(يتبع... )
وقوله تعالى: ﴿فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ﴾ التَّيَمُّمُ بَدَلٌ عَنِ الْوُضُوءِ في التطهير بِهِ، لَا أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْهُ فِي جَمِيعِ أَعْضَائِهِ، بَلْ يَكْفِي مَسْحُ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ فَقَطْ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَكِنِ اخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ فِي كَيْفِيَّةِ التَّيَمُّمِ عَلَى أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا - وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ - أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَمْسَحَ الْوَجْهَ وَالْيَدَيْنِ إِلَى الْمَرْفِقَيْنِ بِضَرْبَتَيْنِ، لِأَنَّ لَفْظَ الْيَدَيْنِ يَصْدُقُ إطلاقها عَلَى مَا يَبْلُغُ الْمَنْكِبَيْنِ وَعَلَى مَا يَبْلُغُ الْمِرْفَقَيْنِ كَمَا فِي آيَةِ الْوُضُوءِ، وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِمَا مَا يَبْلُغُ الْكَفَّيْنِ كَمَا فِي آيَةِ السرقة: ﴿فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا﴾، قالو: وحمل ما أطلق ههنا عَلَى مَا قُيِّدَ فِي آيَةِ الْوُضُوءِ أَوْلَى لجامع الطهورية، وذكر بعضهم ما رواه الدارقطني عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «التَّيَمُّمُ ضَرْبَتَانِ، ضَرْبَةٌ للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين» (أخرجه الإمام أحمد والدارقطني عن ابن عمر) وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُ يَجِبُ مَسْحُ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ إلى الكفين بضربتين، وهو قول الشافعي في القديم، وَالثَّالِثُ أَنَّهُ يَكْفِي مَسْحُ الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ بِضَرْبَةٍ واحدة لما روي أَنَّ رَجُلًا أَتَى عُمَرَ فَقَالَ: إِنِّي أَجْنَبْتُ فَلَمْ أَجِدْ مَاءً؛ فَقَالَ عُمَرُ: لَا تُصَلِّ. قال عَمَّارٌ: أَمَا تَذْكُرُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ أَنَا وَأَنْتَ فِي سَرِيَّةٍ فَأَجْنَبْنَا فَلَمْ نَجِدْ مَاءً، فَأَمَّا أَنْتَ فَلَمْ تُصَلِّ، وَأَمَّا أَنَا فَتَمَعَّكْتُ فِي التُّرَابِ فَصَلَّيْتُ، فَلَمَّا أَتَيْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: «إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ وَضَرَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ الْأَرْضَ ثُمَّ نَفَخَ فيها ومسح بها وجهه وكفيه» (رواه النسائي وأحمد)؟ (طريق أخرى): قال أحمد عن سُلَيْمَانُ الْأَعْمَشُ، حَدَّثَنَا شَقِيقٌ قَالَ: كُنْتُ قَاعِدًا مع (عبد الله) و (أبي موسى) فقال أبو يعلى لِعَبْدِ اللَّهِ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا لَمْ يَجِدِ الماء، لم يصلِّ؟ فقال عبد الله أت تذكر ما قال عمرا لعمر؟ أَلَا تَذْكُرُ إِذْ بَعَثَنِي
وقوله تعالى: ﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ﴾ أَيْ فِي الدِّينِ الَّذِي شَرَعَهُ لَكُمْ ﴿وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ﴾ فلهذا أباح التيمم. إِذَا لَمْ تَجِدُوا الْمَاءَ أَنْ تَعْدِلُوا إِلَى التيمم بالصعيد، والتيمم نعمة عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، وَلِهَذَا كَانَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ مخصوصة بمشروعية التَّيَمُّمِ دُونَ سَائِرِ الْأُمَمِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصحيحن عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي، نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ؛ وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أدركته الصلاة فليصل»، وفي لفظ: «فعنده مسجده وطهوره، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وأعطيت الشفاعة وكان يبعث النبي إلى قومه وبعثت إلى الناس كافة» وَقَالَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: ﴿فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً﴾ أي ومن عفوه عنكم وغفرانه ولكم أن شرع لكم التَّيَمُّمَ، وَأَبَاحَ لَكُمْ فِعْلَ الصَّلَاةِ بِهِ إِذَا فَقَدْتُمِ الْمَاءَ، تَوْسِعَةً عَلَيْكُمْ وَرُخْصَةً لَكُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ فِيهَا تَنْزِيهُ الصَّلَاةِ أَنْ تُفْعَلَ عَلَى هَيْئَةٍ نَاقِصَةٍ مِنْ سُكْرٍ حتى يصحوا الْمُكَلَّفُ وَيَعْقِلَ مَا يَقُولُ، أَوْ جَنَابَةٍ حَتَّى يَغْتَسِلَ، أَوْ حَدَثٍ حَتَّى يَتَوَضَّأَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَرِيضًا أَوْ عَادِمًا لِلْمَاءِ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وجلَّ قَدْ أَرْخَصَ فِي التَّيَمُّمِ - وَالْحَالَةُ هَذِهِ - رَحْمَةً بِعِبَادِهِ وَرَأْفَةً بِهِمْ، وَتَوْسِعَةً عَلَيْهِمْ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
(ذِكْرُ سَبَبِ نُزُولِ مَشْرُوعِيَّةِ التيمم)
وإنما ذكرنا ذلك ههنا لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الَّتِي فِي النِّسَاءِ مُتَقَدِّمَةُ النُّزُولِ عَلَى آيَةِ الْمَائِدَةِ، وَبَيَانُهُ أَنَّ هَذِهِ نزلت قبل تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَالْخَمْرُ إِنَّمَا حُرِّمَ بَعْدَ أُحُد بيسير، فِي مُحَاصَرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لبني النضير، وأما المائدة فإنها من آخر مانزل وَلَا سِيَّمَا صَدْرُهَا، فَنَاسَبَ أَنْ يُذْكَرَ السَّبَبُ هنا وبالله الثقة. قال البخاري عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، حتى إذا كنا بالبيداء أَوْ بِذَاتِ الْجَيْشِ انْقَطَعَ عِقْدٌ لِي، فَأَقَامَ رسول الله ﷺ على الْتِمَاسِهِ، وَأَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، فَأَتَى النَّاسُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالُوا: أَلَا تَرَى مَا صَنَعَتْ عَائِشَةُ؟ أَقَامَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالنَّاسِ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاضِعٌ رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِي قَدْ نَامَ، فَقَالَ: حبستِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسَ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ!! قَالَتْ عَائِشَةُ: فَعَاتَبَنِي أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ وَجَعَلَ يَطْعَنُ بِيَدِهِ فِي خَاصِرَتِي، وَلَا يَمْنَعُنِي مِنَ التحرك إلا مكان رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فَخِذِي، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على غير ماء حين أصبح، فأنزل الله آية التيمم فتيموا، فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ: مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ، قَالَتْ: فَبَعَثْنَا الْبَعِيرَ الَّذِي كُنْتُ عَلَيْهِ فَوَجَدْنَا الْعِقْدَ تَحْتَهُ.
(حديث آخر): قال الحافظ بن مردويه عَنْ الْأَسْلَعِ بْنِ شَرِيكٍ، قَالَ: كُنْتُ أرحِّل ناقة رسول الله ﷺ فَأَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ، وَأَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرِّحْلَةَ، فَكَرِهْتُ أن أُرَحِّلُ نَاقَةَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا جُنُبٌ، وَخَشِيتُ أَنْ أَغْتَسِلَ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ فَأَمُوتَ أَوْ أَمْرَضَ، فَأَمَرْتُ رجُلاً مِنَ الْأَنْصَارِ فَرَحَّلَهَا، ثُمَّ رَضَفْتُ أَحْجَارًا فَأَسْخَنْتُ بِهَا مَاءً واغتسلت، ثُمَّ لَحِقْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ، فَقَالَ: «يَا أَسْلَعُ مَالِي أَرَى رحلتك قد تغيرت»، قلت يا رسول الله: ألم أُرَحِّلْهَا، رَحَّلَهَا رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، قَالَ: "وَلِمَ؟ قالت: إِنِّي أَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ فَخَشِيتُ الْقُرَّ عَلَى نَفْسِي، فَأَمَرْتُهُ أَنْ يُرَحِّلَهَا وَرَضَفْتُ أَحْجَارًا فَأَسْخَنْتُ بِهَا مَاءً فَاغْتَسَلْتُ بِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾ إلى قوله ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً﴾ وَقَدْ رُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ.
- ٤٥ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً
- ٤٦ - مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْيَهُودِ عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ الْمُتَتَابِعَةُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَنَّهُمْ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى، وَيُعْرِضُونَ عما أنزل الله على رسوله، وَيَتْرُكُونَ مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْعِلْمِ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ الْأَوَّلِينَ فِي صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا مِنْ حُطَامِ الدُّنْيَا ﴿وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ﴾ أَيْ يَوَدُّونَ لَوْ تَكْفُرُونَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، وَتَتْرُكُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ النافع ﴿والله أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ﴾ أي: هو أعلم بِهِمْ وَيُحَذِّرُكُمْ مِنْهُمْ، ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً﴾ أَيْ: كَفَى بِهِ وَلَيًّا لِمَنْ لجأ إليه نصيراً لِمَنِ اسْتَنْصَرَهُ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ﴾ «من» في هذا لِبَيَانِ الْجِنْسِ كَقَوْلِهِ: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ﴾، وقوله: ﴿يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ﴾ أي: يتأولونه عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ، وَيُفَسِّرُونَهُ بِغَيْرِ مُرَادِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ قَصْدًا مِنْهُمْ وَافْتِرَاءً، ﴿وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا﴾ أي: سَمْعَنَا مَا قُلْتَهُ يَا مُحَمَّدُ، وَلَا نُطِيعُكَ فيه... هكذا فسره مجاهد وهو المراد، وهذا أبلغ في كفرهم وعنادهم، وأنهم يتولون عن كتاب الله بعدما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ مَا عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ من الإثم والعقوبة.
وقولهم: ﴿وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ﴾ أَيْ: اسْمَعْ مَا نَقُولُ لا سمعت، رواه ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ: وَاسْمَعْ
- ٤٨ - إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا
يأمر الله تعالى أهل الكتاب بالإيمان بِمَا نُزِّلَ عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْكِتَابِ الْعَظِيمِ، الَّذِي فِيهِ تَصْدِيقُ الْأَخْبَارِ الَّتِي بِأَيْدِيهِمْ من البشارات، ومتهدداً لهم إن لم يفعلوا بقوله: ﴿ومن قبل أن نطمس وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا على أَدْبَارِهَآ﴾ قَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وجوها، فطمسها هُوَ رَدُّهَا إِلَى الْأَدْبَارِ وَجَعْلُ أَبْصَارِهِمْ مِنْ وَرَائِهِمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَبْلِ أن نطمس وجوها فلا نبقي لها سمعاً ولا بصراً ولا أنفاً، ومع ذلك نردها إلى ناحية الأدبار، وقال ابن عباس: طمسها أَنْ تَعْمَى ﴿فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَآ﴾ يَقُولُ: نَجْعَلُ وُجُوهَهُمْ مِنْ قِبَلِ أَقَفِيَتِهِمْ فَيَمْشُونَ الْقَهْقَرَى، وَنَجْعَلُ لأحدهم عينين من قفاه، وَهَذَا أَبْلَغُ فِي الْعُقُوبَةِ وَالنَّكَالِ، وَهَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لَهُمْ فِي صَرْفِهِمْ عَنِ الْحَقِّ وَرَدِّهِمْ إِلَى الْبَاطِلِ، وَرُجُوعِهِمْ عَنِ الْمَحَجَّةِ الْبَيْضَاءِ إلى سبيل الضَّلَالَةِ يَهْرَعُونَ وَيَمْشُونَ الْقَهْقَرَى عَلَى أَدْبَارِهِمْ، وَهَذَا كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلَالًا فهي إلا الْأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سداً﴾ الآية: أي هَذَا مَثَلُ سُوءٍ ضَرَبَهُ اللَّهُ لَهُمْ فِي ضَلَالِهِمْ وَمَنْعِهِمْ عَنِ الْهُدَى، قَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ نَّطْمِسَ وُجُوهاً﴾ يَقُولُ عَنْ صِرَاطِ الحق ﴿فَنَرُدَّهَا على أَدْبَارِهَآ﴾ أي في الضلال، قَالَ السُّدِّيُّ: ﴿فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَآ﴾ فَنَمْنَعَهَا عَنِ الحق، قال: نرجعها كفاراً ونردهم قردة. وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ كَعْبَ الْأَحْبَارِ أَسْلَمَ حِينَ سمع هذه الآية. قَالَ ابن جرير عَنْ عِيسَى بْنِ الْمُغِيرَةِ، قَالَ: تَذَاكَرْنَا عِنْدَ إِبْرَاهِيمَ إِسْلَامَ كَعْبٍ، فَقَالَ: أَسْلَمَ كَعْبٌ زَمَانَ عُمَرَ، أَقْبَلَ وَهُوَ يُرِيدُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَمَرَّ عَلَى الْمَدِينَةِ فَخَرَجَ إِلَيْهِ عُمَرُ، فَقَالَ: يَا كعب أسلم فقال: ألستم تقولون في كتابكم: ﴿مَثَلُ الذين حملوا التوراة - إلى أَسْفَارًا﴾، وَأَنَا قَدْ حَمَلْتُ التَّوْرَاةَ، قَالَ: فَتَرَكَهُ عُمَرُ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى حِمْصَ فَسَمِعَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِهَا حَزِينًا، وَهُوَ يَقُولُ: ﴿يَا أَيُّهَآ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ مِّن قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَآ﴾ الْآيَةَ. قَالَ كعب: يَا رَبُّ أَسْلَمْتُ مَخَافَةَ أَنْ تُصِيبَهُ هَذِهِ الْآيَةُ، ثُمَّ رَجَعَ فَأَتَى أَهْلَهُ فِي الْيَمَنِ، ثم جاء بهم مسلمين.
(الحديث الأول): عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الظُّلْمُ ثَلَاثَةٌ، فَظُلْمٌ لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ، وَظُلْمٌ يَغْفِرُهُ اللَّهُ، وَظُلْمٌ لا يترك الله منه شيئاً. فَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ فَالشِّرْكُ، وقال: ﴿إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عظيم﴾، وَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي يَغْفِرُهُ اللَّهُ فَظُلْمُ الْعِبَادِ لِأَنْفُسِهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ، وَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لَا يَتْرُكُهُ فَظُلْمُ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا حتى يدين لبعضهم من بعض" (رواه الشيخان)
(الحديث الثاني): عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ قَالَ، سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ يَقُولُ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يَقُولُ: «كُلُّ ذَنْبٍ عَسَى اللَّهُ أَن يَغْفِرَهُ إلا الرجل يموت كافرا أو الرجل يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً»
(الحديث الثالث): عن أبي ذر أن رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ. قُلْتُ: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وَإِنْ سَرَقَ. قُلْتُ: وَإِنَّ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: وَإِنَّ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ - ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ فِي الرَّابِعَةِ: عَلَى رَغْمِ أَنْفِ أَبِي ذَرٍّ"، قَالَ فَخَرَجَ أَبُو ذَرٍّ وَهُوَ يَجُرُّ إِزَارَهُ وَهُوَ يَقُولُ: وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ أَبِي ذَرٍّ، وَكَانَ أَبُو ذَرٍّ يُحَدِّثُ بِهَذَا بَعْدُ ويقول: وإن رغم أنف أبي ذر (رواه الشيخان) وعن أبي ذر قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَرَّةِ الْمَدِينَةِ عِشَاءً وَنَحْنُ نَنْظُرُ إِلَى أُحُدٍ، فقال: "يا أبا ذر! قلت: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي أُحُدًا ذَاكَ عِنْدِي ذَهَبًا أُمْسِي ثَالِثَةً وَعِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ إِلَّا دِينَارًا أَرْصُدُهُ، يَعْنِي لِدَيْنٍ، إِلَّا أَنْ أَقُولَ بِهِ فِي عباد الله هكذا وهكذا» فحثا عن يمينه وعن يساره وبين يديه، قَالَ ثُمَّ مَشَيْنَا فَقَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّ الْأَكْثَرِينَ هُمُ الْأَقَلُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا من قال هكذا وَهَكَذَا»، فَحَثَا عَنْ يَمِينِهِ وَمِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَعَنْ يَسَارِهِ، قَالَ: ثُمَّ مَشَيْنَا فَقَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ كَمَا أَنْتَ حَتَّى آتِيَكَ»، قَالَ: فانطلق حتى تورى عَنِّي، قَالَ: فَسَمِعْتُ لَغَطًا، فَقُلْتُ: لَعَلَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَضَ لَهُ، قال: فهممت أن أتبعه، قال: فذكرت قَوْلَهُ لَا تَبْرَحْ حَتَّى آتِيَكَ، فَانْتَظَرْتُهُ حَتَّى جَاءَ، فَذَكَرْتُ لَهُ الَّذِي سَمِعْتُ، فَقَالَ: "ذَاكَ جِبْرِيلُ أَتَانِي، فَقَالَ: مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِكَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخْلَ الْجَنَّةَ". قُلْتُ: وإن زنى وإن سرق؟ قال: «وإن زنى وإن سرق» (رواه أحمد والشيخان)
(الحديث الرابع): عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْمُوَجِبَتَانِ؟ قَالَ: «مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ وَمَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا وَجَبَتْ لَهُ النار».
(الحديث الخامس): قال الإمام أحمد، عن ضمضم بن جوش الْيَمَامِيِّ قَالَ، قَالَ لِي أَبُو هُرَيْرَةَ: يَا يمامي! لا تقولن لرجل لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ، أَوْ لَا يُدْخِلُكَ الجنة أبداً، فقلت: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ إِنَّ هَذِهِ كَلِمَةٌ يَقُولُهَا أحدنا لأخيه
- ٥٠ - انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُبِينًا
- ٥١ - أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً
- ٥٢ - أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَّصِيراً
قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ - وَهِيَ قَوْلُهُ: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ - فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى حِينَ قَالُوا: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وأحباؤه، وفي قولهم ﴿لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أو نصارى﴾، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانُوا يُقَدِّمُونَ الصِّبْيَانَ أَمَامَهُمْ فِي الدعاء والصلاة يؤمونهم ويزعمون أنهم لا ذنوب لهم، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ وَذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا: إن أبناءنا توفوا وهم لنا قربة ويشفعون لنا ويزكوننا، فأنزل الله على محمد: ﴿أم تَرَ إِلَى الذين يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ الآية. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: قَالُوا لَيْسَ لَنَا ذُنُوبٌ كَمَا ليس لأبنائنا ذنوب، فأنزل اللَّهُ: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ فِيهِمْ، وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي ذَمِّ التَّمَادُحِ وَالتَّزْكِيَةِ؛ وفي صحيح مُسْلِمٍ عَنِ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نحثوا في وجوه المداحين التراب، وفي الصحيحين عن عبد الله بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ رَجُلًا يُثْنِي عَلَى رَجُلٍ فَقَالَ: «وَيْحَكَ قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ» ثُمَّ قَالَ: إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ مَادِحًا صَاحِبَهُ لَا مَحَالَةَ فَلْيَقُلْ أَحْسَبُهُ كَذَا وَلَا يزكي على الله أحداً"، وروى ابن مردويه عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: إِنْ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ إِعْجَابُ الْمَرْءِ بِرَأْيِهِ، فَمَنْ قَالَ إنه مُؤْمِنٌ فَهُوَ كَافِرٌ، وَمَنْ قَالَ هُوَ عَالَمٌ فَهُوَ جَاهِلٌ، وَمَنْ قَالَ هُوَ فِي الْجَنَّةِ فهو في النار، وقال الإمام أحمد عَنْ مَعْبَدٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: كَانَ مُعَاوِيَةُ قَلَّمَا كان يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: وكان قلما يكاد يَدَعَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ أَنْ يُحَدِّثَ بِهِنَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهُهُ فِي الدِّينِ، وَإِنَّ هَذَا الْمَالَ حُلْوٌ خَضِرٌ، فمن يأخذه بحقه يبارك فيه، وإياكم والتمادح فإنه الذبح» وقال ابن جرير قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: إِنَّ الرَّجُلَ ليغدوا بِدِينِهِ ثُمَّ يَرْجِعُ وَمَا مَعَهُ مِنْهُ شَيْءٌ يلقى الرجل ليس يملك له ضراً ولا نفعاً فيقول له إنك والله كيت وكيت فلعله أن يرجع ولم يحظ مِنْ حَاجَتِهِ بِشَيْءٍ وَقَدْ أَسْخَطَ اللَّهَ ثُمَّ قَرَأَ: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ الآية ولهذا قال
وقوله تعالى: ﴿انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾ أَيْ فِي تَزْكِيَتِهِمْ أَنْفُسَهُمْ وَدَعْوَاهُمْ أَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَقَوْلِهِمْ: ﴿لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أو نصارى﴾، وقولهم: ﴿لن تمسنا النار إلا أياما معدودات﴾، وَاتِّكَالِهِمْ عَلَى أَعْمَالِ آبَائِهِمُ الصَّالِحَةِ، وَقَدْ حَكَمَ اللَّهُ أَنَّ أَعْمَالَ الْآبَاءِ لَا تُجْزِي عَنِ الْأَبْنَاءِ شَيْئًا فِي قَوْلِهِ: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ﴾ الآية، ثُمَّ قَالَ: ﴿وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُّبِيناً﴾ أَيْ وكفى بصنيعهم هَذَا كَذِبًا وَافْتِرَاءً ظَاهِرًا. وَقَوْلُهُ: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ﴾. أَمَّا الجبت فقال عمر بن الخطاب: (الجبتْ) السِّحْرُ، وَ (الطَّاغُوتُ) الشَّيْطَانُ، وَهَكَذَا رُوِيَ عن ابن عباس ومجاهد. وعن ابن عباس وأبي العالية: (الجبت) الشيطان، وعنه: الجبت الأصنام. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: الْجِبْتُ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ. وَقَالَ الجوهري في كتاب الصِّحَاحِ: الْجِبْتُ كَلِمَةٌ تَقَعُ عَلَى الصَّنَمِ وَالْكَاهِنِ وَالسَّاحِرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَفِي الْحَدِيثِ: «الطِّيَرَةُ وَالْعِيَافَةُ والطرق من الجبت». وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الطَّاغُوتِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ ههنا.
وقوله تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً﴾ أَيْ يُفَضِّلُونَ الْكَفَّارَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِجَهْلِهِمْ، وَقِلَّةِ دِينِهِمْ، وَكَفْرِهِمْ بِكِتَابِ اللَّهِ الَّذِي بأيديهم، وقد روى ابن أبي حاتم عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: جَاءَ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ وَكَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ، فَقَالُوا لَهُمْ: أَنْتُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ وَأَهْلُ الْعِلْمِ فَأَخْبِرُونَا عَنَّا، وَعَنْ مُحَمَّدٍ، فَقَالُوا: مَا أَنْتُمْ وَمَا مُحَمَّدٌ؟ فَقَالُوا نَحْنُ نَصِلُ الْأَرْحَامَ، وَنَنْحَرُ الْكَوْمَاءَ، ونسقي الماء على اللبن، ونفك العاني، وَنَسْقِي الْحَجِيجَ، وَمُحَمَّدٌ صُنْبُورٌ قَطَّعَ أَرْحَامَنَا وَاتَّبَعَهُ سراق الحجيج من غِفَارٍ فَنَحْنُ خَيْرٌ أَمْ هُوَ؟ فَقَالُوا: أَنْتُمْ خَيْرٌ وَأَهْدَى سَبِيلًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً﴾ الآية. وقال الإمام أحمد عن ابن عباس لَمَّا قَدِمَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ مَكَّةَ قَالَتْ قُرَيْشٌ: أَلَا تَرَى هَذَا الصُّنْبُورَ الْمُنْبَتِرَ مِنْ قَوْمِهِ يَزْعُمُ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنَّا، وَنَحْنُ أَهْلُ الْحَجِيجِ وَأَهْلُ السِّدَانَةِ، وَأَهْلُ السِّقَايَةِ، قَالَ: أَنْتُمْ خَيْرٌ، قَالَ: فَنَزَلَتْ: ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ﴾ وَنَزَلَ: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب﴾ إِلَى قَوْلِهِ عزَّ وجلَّ ﴿وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيمًا﴾، وَهَذَا لَعْنٌ لَهُمْ وَإِخْبَارٌ بِأَنَّهُمْ لَا نَاصِرَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا ذَهَبُوا يَسْتَنْصِرُونَ بِالْمُشْرِكِينَ، وَإِنَّمَا قَالُوا لَهُمْ ذَلِكَ لِيَسْتَمِيلُوهُمْ إِلَى نُصْرَتِهِمْ، وَقَدْ أَجَابُوهُمْ وَجَاءُوا مَعَهُمْ يَوْمَ الْأَحْزَابِ حَتَّى حَفَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ حَوْلَ الْمَدِينَةِ الْخَنْدَقَ فَكَفَى اللَّهُ شَرَّهُمْ، ﴿وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عزيزاً﴾.
- ٥٤ - أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً
- ٥٥ - فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً
- ٥٧ - وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً
يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّا يُعَاقِبُ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ مَنْ كَفَرَ بِآيَاتِهِ وَصَدَّ عَنْ رُسُلِهِ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ الذين كفروا بِآيَاتِنَا﴾ الْآيَةَ، أَيْ نُدْخِلُهُمْ نَارًا دُخُولًا يُحِيطُ بِجَمِيعِ أَجْرَامِهِمْ وَأَجْزَائِهِمْ، ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ دَوَامِ عُقُوبَتِهِمْ وَنَكَالِهِمْ فَقَالَ: ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ﴾ قَالَ الْأَعْمَشُ عَنِ ابْنِ عمر: إذا احترقت جلودهم بدلوا جلوداً غيرها بيضاً أمثال القراطيس، وعن الحسن قوله: ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ﴾ الْآيَةَ قَالَ: تُنْضِجُهُمْ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ أَلْفَ مرة، ثم قيل لهم: عودوا فعادوا، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَرَأَ رَجُلٌ عِنْدَ عُمَرَ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا﴾ فَقَالَ عُمَرُ: أَعِدْهَا عليَّ، فَأَعَادَهَا، فَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: عِنْدِي تَفْسِيرُهَا، تُبَدَّلُ فِي سَاعَةٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، فَقَالَ عُمَرُ: هَكَذَا سمعت رسول الله ﷺ (رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ) وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: مَكْتُوبٌ فِي الْكِتَابِ الْأَوَّلِ أَنَّ جِلْدَ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا، وَسِنَّهُ سبعون ذِرَاعًا، وَبَطْنَهُ لَوْ وُضِعَ فِيهِ جَبَلٌ لَوَسِعَهُ،
وقوله تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً﴾، هَذَا إِخْبَارٌ عَنْ مَآلِ السُّعَدَاءِ فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي تَجْرِي فِيهَا الْأَنْهَارُ فِي جَمِيعِ فِجَاجِهَا، ومحالها وأرجائها حيث شاءوا وَأَيْنَ أَرَادُوا، وَهُمْ خَالِدُونَ فِيهَا أَبَدًا لَا يُحَوَّلُونَ وَلَا يَزُولُونَ وَلَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا. وَقَوْلُهُ: ﴿لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ﴾ أَيْ مِنَ الْحَيْضِ، وَالنِّفَاسِ، وَالْأَذَى، وَالْأَخْلَاقِ الرَّذِيلَةِ، وَالصِّفَاتِ النَّاقِصَةِ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مُطَهَّرَةٌ مِنَ الْأَقْذَارِ والأذى. وقال مجاهد: مطهرة من البول والحيض النخام وَالْبُزَاقِ وَالْمَنِيِّ وَالْوَلَدِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: مُطَهَّرَةٌ مِنَ الْأَذَى وَالْمَآثِمِ، وَلَا حَيْضَ وَلَا كَلَفَ. وَقَوْلُهُ: ﴿وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظليلاُ﴾ أَيْ ظَلَّا عَمِيقًا كَثِيرًا غزيراً طيباً أنيقاً، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَشَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لَا يقطعها - شجرة الخلد» (رواه ابن جرير وأخرجه الشيخان بنحوه)
يخبر الله تَعَالَى أَنَّهُ يَأْمُرُ بِأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا، وفي الحديث: «أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخنمن خانك» (رواه أحمد وأصحاب السنن) وهو يَعُمُّ جَمِيعَ الْأَمَانَاتِ الْوَاجِبَةِ عَلَى الْإِنْسَانِ، مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ عَزَّ وجلَّ عَلَى عِبَادِهِ مِنَ الصلاة والزكاة والصيام والكفارات النذور وغير ذلك، ما هُوَ مُؤْتَمَنٌ عَلَيْهِ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الْعِبَادُ، وَمِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، كَالْوَدَائِعِ وغير ذلك مما يأتمون به مِنْ غَيْرِ اطِّلَاعِ بَيِّنَةٍ عَلَى ذَلِكَ فَأَمَرَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ بِأَدَائِهَا، فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا أُخِذَ مِنْهُ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «لَتُؤَدَّنَّ الْحُقُوقُ إِلَى أَهْلِهَا حَتَّى يُقْتَصَّ لِلشَّاةِ الْجَمَّاءِ مِنَ الْقَرْنَاءِ»، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِنَّ الشَّهَادَةَ تُكَفِّرُ كُلَّ ذَنْبٍ إِلَّا الْأَمَانَةَ، يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِنْ كَانَ قَدْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقَالُ: أَدِّ أَمَانَتَكَ، فَيَقُولُ: فأنَّى أُؤَدِّيهَا وَقَدْ ذَهَبَتِ الدُّنْيَا؟ فَتُمَثَّلُ لَهُ الْأَمَانَةُ فِي قَعْرِ جَهَنَّمَ فَيَهْوِي إِلَيْهَا فَيَحْمِلُهَا عَلَى عاتقه فَتَنْزِلُ عَنْ عَاتِقِهِ فَيَهْوِي عَلَى أَثَرِهَا أَبَدَ الآبدين (أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن مسعود موقوفاً) قال أَبُو الْعَالِيَةِ: الْأَمَانَةُ مَا أُمِرُوا بِهِ وَنُهُوا عنه. وروى ابن أبي حاتم عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ، قَالَ (أُبيّ بْنُ كَعْبٍ): من الأمانات أَنَّ الْمَرْأَةَ ائْتُمِنَتْ عَلَى فَرْجِهَا، وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: هِيَ مِنَ الْأَمَانَاتِ فِيمَا بَيْنَكَ وبين الناس. وَقَدْ ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ (عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ) حَاجِبُ الْكَعْبَةِ الْمُعَظَّمَةِ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ شَيْبَةَ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الَّذِي صَارْتِ الْحِجَابَةُ فِي نَسْلِهِ إِلَى الْيَوْمِ، أَسْلَمَ عُثْمَانُ هَذَا فِي الْهُدْنَةِ بَيْنَ
وَسَبَبُ نُزُولِهَا فِيهِ لَمَّا أَخَذَ مِنْهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِفْتَاحَ الْكَعْبَةِ يَوْمَ الْفَتْحِ ثُمَّ رَدَّهُ عَلَيْهِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بن إسحاق: أن رسول الله ﷺ لَمَّا نَزَلَ بِمَكَّةَ وَاطْمَأَنَّ النَّاسُ خَرَجَ حَتَّى جاء إلى الْبَيْتَ فَطَافَ بِهِ سَبْعًا عَلَى رَاحِلَتِهِ يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ فِي يَدِهِ، فَلَمَّا قَضَى طَوَافَهُ دَعَا (عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ) فَأَخْذَ مِنْهُ مِفْتَاحَ الكعبة ففتحت له فدخلها، وفوجد فِيهَا حَمَامَةً مِنْ عِيدَانٍ فَكَسَرَهَا بِيَدِهِ ثُمَّ طَرَحَهَا، ثُمَّ وَقَفَ عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ وَقَدِ استكن له الناس في المسجد فَقَالَ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، صَدَقَ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الأحزاب وحده، أن كُلُّ مَأْثُرَةٍ أَوْ دَمٍ أَوْ مَالٍ يُدْعَى فَهُوَ تَحْتَ قدميَّ هَاتَيْنِ، إِلَّا سِدَانَةَ الْبَيْتِ وَسِقَايَةَ الْحَاجِّ» وَذَكَرَ بقيِّة الْحَدِيثِ فِي خُطْبَةِ النبي ﷺ يومئذ إلىأن قَالَ: ثُمَّ جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَامَ إِلَيْهِ (عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ) وَمِفْتَاحُ الْكَعْبَةِ فِي يَدِهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اجْمَعْ لَنَا الْحِجَابَةَ مَعَ السِّقَايَةِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيْنَ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ»؟ فَدُعِيَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ: «هَاكَ مِفْتَاحَكَ يَا عُثْمَانُ، الْيَوْمُ يَوْمُ وَفَاءٍ وَبِرٍّ». قال ابن جرير: نَزَلَتْ فِي عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ، قَبَضَ مِنْهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِفْتَاحَ الكعبة فدخل في الْبَيْتَ يَوْمَ الْفَتْحِ، فَخَرَجَ وَهُوَ يَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ الآية، فدعا عثمان إليه فدفع إليه المفتاح، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْكَعْبَةِ وهو يتلو هَذِهِ الْآيَةَ ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ فِدَاهُ أَبِي وَأُمِّي مَا سَمِعْتُهُ يَتْلُوهَا قَبْلَ ذلك.
وَهَذَا مِنَ الْمَشْهُورَاتِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ في ذلك، وسواء كانت فِي ذَلِكَ أَوْ لَا فَحَكَمُهَا عَامٌّ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ: هِيَ لِلْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، أَيْ هِيَ أَمْرٌ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ﴾ أَمْرٌ مِنْهُ تَعَالَى بِالْحُكْمِ بِالْعَدْلِ بَيْنَ الناس، ولهذا قال زيد بن أسلم: أن هذه الآية: إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي الْأُمَرَاءِ يَعْنِي الْحُكَّامِ بَيْنَ النَّاسِ، وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنِ اللَّهَ مَعَ الْحَاكِمِ مَا لَمْ يَجُرْ، فَإِذَا جَارَ وَكَلَهُ إِلَى نَفْسِهِ»، وَفِي الْأَثَرِ: «عَدْلُ يَوْمٍ كَعِبَادَةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً»، وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّ اللَّهَ نعمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ﴾ أَيْ يَأْمُرُكُمْ بِهِ مِنْ أَدَاءِ الْأَمَانَاتِ، وَالْحُكْمِ بِالْعَدْلِ بَيْنَ النَّاسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَوَامِرِهِ وشرائعه الكاملة العظيمة الشاملة، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الله كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً﴾ سميعاً لأقوالكم، بصيراً بأفعالكم.
قال البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾، قَالَ نَزَلَتْ: فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيٍّ إِذْ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سرية، وقال الإمام أحمد عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ رجُلاً مِنَ الْأَنْصَارِ، فَلَمَّا خَرَجُوا وَجَدَ عَلَيْهِمْ فِي شَيْءٍ قَالَ، فَقَالَ لَهُمْ: أَلَيْسَ قَدْ أَمَرَكُمْ رسول الله ﷺ إن تطيعوني؟ قالوا: بلى، قال: فاجمعوا لِي حَطَبًا - ثُمَّ دَعَا بِنَارٍ فَأَضْرَمَهَا فِيهِ، ثم قال: عزمت عليكم لتدخلنها، قَالَ، فَقَالَ لَهُمْ شَابٌّ مِنْهُمْ: إِنَّمَا فَرَرْتُمْ إلى رسول الله ﷺ مِنَ النَّارِ، فَلَا تَعْجَلُوا حَتَّى تَلْقَوْا
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «كانت بنوا إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ، كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي، وَسَيَكُونُ خُلَفَاءُ فَيَكْثُرُونَ». قَالُوا، يَا رَسُولَ اللَّهِ: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: «أَوْفُوا بِبَيْعَةِ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ، وَأَعْطَوْهُمْ حَقَّهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ» أَخْرَجَاهُ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "من رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا فَكَرِهَهُ فَلْيَصْبِرْ فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يُفَارِقُ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَيَمُوتُ إِلَّا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً} أَخْرَجَاهُ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا حُجَّةَ لَهُ، وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَرَوَى مُسْلِمٌ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ رَبِّ الْكَعْبَةِ قَالَ: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ جَالِسٌ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ وَالنَّاسُ حَوْلَهُ مُجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ، فَأَتَيْتُهُمْ فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سفر فنزلنا منزلاً فما مَنْ يُصْلِحُ خِبَاءَهُ، وَمِنَّا مَنْ يَنْتَضِلُ، وَمِنَّا من هو في جشره (أصل الجشر: الدواب ترعى في مكان وتبيت فيه اهـ) إذا نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ! فَاجْتَمَعْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّهُ لَمْ يكن نبي من قَبْلِي إِلَّا كَانَ حَقًا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَيُنْذِرَهُمْ شر ما يعلمه لهم، وإن هذه الأمة جعلت عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا، وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلَاءٌ، وَأُمُورٌ ينكرونها، وتجيء فتن يُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ مُهْلِكَتِي، ثُمَّ تَنْكَشِفُ وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ هَذِهِ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ وَيَدْخُلَ الْجَنَّةَ فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر، وليأتي إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ، وَمَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ وَثَمَرَةَ فؤاده فَلْيُطِعْهُ إِنِ اسْتَطَاعَ، فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الْآخَرِ، قَالَ فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَقُلْتُ: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ أَنْتَ؟؟ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَأَهْوَى إِلَى أذنيه وقلبه بيده وَقَالَ: سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ، وَوَعَاهُ قَلْبِي، فَقُلْتُ لَهُ: هَذَا ابْنُ عَمِّكَ مُعَاوِيَةُ يَأْمُرُنَا أَنْ نَأْكُلَ أموالنا بيننا بالباطل،
وقال ابْنِ عَبَّاسٍ ﴿وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ يَعْنِي أَهَّلَ الفقه والدين، وكذا قال مجاهد وعطاء ﴿وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ يَعْنِي الْعُلَمَاءُ، وَالظَّاهِرُ - وَاللَّهُ أعلم - أنها عامة في كل أُولِي الْأَمْرِ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَالْعُلَمَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ، وقال تَعَالَى: ﴿لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإثم وَأَكْلِهِمُ السحت﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ﴾، وفي الحديث الصحيح المتفق على صحته عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدَ عَصَا اللَّهَ، وَمَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي وَمَنْ عصا أمير فَقَدْ عَصَانِي»، فَهَذِهِ أَوَامِرٌ بِطَاعَةِ الْعُلَمَاءِ وَالْأُمَرَاءِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿أَطِيعُواْ اللَّهَ﴾ أَيْ اتَّبِعُوا كِتَابَهُ، ﴿وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ﴾ أَيْ خُذُوا بِسُنَّتِهِ، ﴿وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ أَيْ فِيمَا أَمَرُوكُمْ بِهِ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ لَا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي المعروف».
وقال الإمام أحمد عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَا طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ» وَقَوْلُهُ: ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ والرسول﴾ قال مجاهد: أَيْ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسَنَةِ رَسُولِهِ، وَهَذَا أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ بِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ تَنَازَعَ النَّاسُ فِيهِ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ أَنْ يَرُدَّ التَّنَازُعَ فِي ذَلِكَ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى الله﴾، فما حكم به الكتاب والسنّة وَشَهِدَا لَهُ بِالصِّحَّةِ فَهُوَ الْحَقُّ، وَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلَالُ؟ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ أَيْ رَدُّوا الْخُصُومَاتِ وَالْجَهَالَاتِ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وسنَّة رَسُولِهِ، فَتَحَاكَمُوا إِلَيْهِمَا فِيمَا شَجَرَ بَيْنَكُمْ ﴿إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ من لم يتحاكم في محل النِّزَاعِ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَا يَرْجِعْ إِلَيْهِمَا فِي ذَلِكَ فَلَيْسَ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَقَوْلُهُ: ﴿ذَلِكَ خَيْرٌ﴾ أَيِ التَّحَاكُمُ إِلَى كتاب الله وسنة رسوله، والرجوع إليهما في فصل النزاع خَيْرٌ ﴿وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾، أَيْ وَأَحْسَنُ عَاقِبَةً وَمَآلًا كما قاله السدي وَقَالَ مُجَاهِدٌ: وَأَحْسَنُ جَزَاءً، وَهُوَ قَرِيبٌ.
- ٦١ - وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً
- ٦٢ - فَكَيْفَ إِذَآ أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أيديهم ثُمَّ جَاؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَآ إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقًا
- ٦٣ - أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً
هَذَا إِنْكَارٌ مِنَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ عَلَى مَنْ يَدَّعِي الْإِيمَانَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْأَنْبِيَاءِ الأقدمين، وهو مع
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فِي ذَمِّ الْمُنَافِقِينَ: ﴿فَكَيْفَ إِذَآ أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ أَيْ فَكَيْفَ بِهِمْ إِذَا سَاقَتْهُمُ الْمَقَادِيرُ إِلَيْكَ فِي مَصَائِبَ تَطْرُقُهُمْ بِسَبَبِ ذُنُوبِهِمْ، وَاحْتَاجُوا إِلَيْكَ فِي ذلك؟ ﴿ثم جاؤك يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَآ إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً﴾ أَيْ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكَ وَيَحْلِفُونَ مَا أَرَدْنَا بِذَهَابِنَا إلى غيرك، وتحاكمنا إلى أعدائك إِلَّا الْإِحْسَانَ وَالتَّوْفِيقَ أَيِ الْمُدَارَاةَ وَالْمُصَانَعَةَ لَا اعتقاداً منا صحة تلك الحكومة، كما في قوله تَعَالَى: ﴿فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ﴾، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ (أَبُو بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيُّ) كَاهِنًا يَقْضِي بَيْنَ الْيَهُودِ فِيمَا يَتَنَافَرُونَ فيه، فتنافر إليه ناس من المشركين فَأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ - إِلَى قَوْلِهِ - إِنْ أَرَدْنَآ إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً﴾ (رواه الطبراني).
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ﴾ هَذَا الضَّرْبُ مِنَ النَّاسِ هُمُ الْمُنَافِقُونَ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ وَسَيَجْزِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، فَاكْتَفِ بِهِ يا محمد فيهم فإنه عَالِمٌ بِظَوَاهِرِهِمْ وَبَوَاطِنِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ لَهُ: ﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ أَيْ لَا تُعَنِّفْهُمْ عَلَى مَا فِي قلوبهم، ﴿وَعِظْهُمْ﴾ أي وانههم عما فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ النِّفَاقِ وَسَرَائِرِ الشَّرِّ، ﴿وَقُل لَّهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً﴾ أَيْ وَانْصَحْهُمْ فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ بِكَلَامٍ بَلِيغٍ رَادِعٍ لَهُمْ
- ٦٥ - فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ﴾ أَيْ فُرِضَتْ طَاعَتُهُ عَلَى مَنْ أَرْسَلَهُ إِلَيْهِمْ، وَقَوْلُهُ: ﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ لَا يطيع أحد إلى بإذني، يعني لا يطيعه إِلَّا مَنْ وَفَّقْتُهُ لِذَلِكَ، كَقَوْلِهِ: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ إِذْ تحسونه بإذنه﴾ أَيْ عَنْ أَمْرِهِ وَقَدْرِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَتَسْلِيطِهِ إِيَّاكُمْ عليهم، وقوله: ﴿ولو أنهم إذا ظلموا أَنْفُسَهُمْ﴾ الآية، يُرْشِدُ تَعَالَى الْعُصَاةَ وَالْمُذْنِبِينَ إِذَا وَقَعَ مِنْهُمُ الْخَطَأُ وَالْعِصْيَانُ أَنْ يَأْتُوا إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَسْتَغْفِرُوا اللَّهَ عِنْدَهُ وَيَسْأَلُوهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُمْ، فَإِنَّهُمْ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَحِمَهُمْ وَغَفَرَ لَهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ: {لَوَجَدُواْ اللَّهَ
يَا خَيْرَ مَنْ دُفِنَتْ بِالْقَاعِ أَعْظُمُهُ * فَطَابَ مِنْ طِيبِهِنَّ الْقَاعُ وَالْأَكَمُ
نَفْسِي الْفِدَاءُ لقبرٍ أَنْتَ سَاكِنُهُ * فِيهِ الْعَفَافُ وَفِيهِ الْجُودُ وَالْكَرَمُ
ثُمَّ انْصَرَفَ الأعرابي، فغلبنتي عَيْنِي فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ فَقَالَ: «يَا عُتْبِيُّ الْحَقِ الْأَعْرَابِيَّ فَبَشِّرْهُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَهُ».
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾، يُقْسِمُ تَعَالَى بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ الْمُقَدَّسَةِ، أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ أَحَدٌ حَتَّى يُحَكِّمَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ، فَمَا حَكَمَ بِهِ فَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي يَجِبُ الِانْقِيَادُ لَهُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً﴾ أَيْ إِذَا حَكَّمُوكَ يُطِيعُونَكَ فِي بَوَاطِنِهِمْ، فَلَا يَجِدُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا حَكَمْتَ بِهِ، وَيَنْقَادُونَ لَهُ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ فَيُسَلِّمُونَ لِذَلِكَ تَسْلِيمًا كُلِّيًّا، مِنْ غَيْرِ مُمَانِعَةٍ وَلَا مُدَافِعَةٍ وَلَا مُنَازِعَةٍ، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حتى يكون هواه تباً لما جئت به»، وقال البخاري عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: خَاصَمَ الزُّبَيْرُ رَجُلًا فِي شراج الحرة، فقال النبي «اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ» فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ؟ فتلوَّن وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: «اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ احْبِسِ الْمَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الجَدْر ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ»؟؟ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلزُّبَيْرِ حَقَّهُ فِي صَرِيحِ الْحُكْمِ حِينَ أَحْفَظَهُ الْأَنْصَارِيُّ، وَكَانَ أشار عليهما ﷺ بِأَمْرٍ لَهُمَا فِيهِ سَعَةٌ، قَالَ الزُّبَيْرُ: فَمَا أَحْسَبُ هَذِهِ الْآيَةَ إِلاَّ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بينهمْ الْآيَةَ. وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ: خَاصَمَ الزُّبَيْرُ رَجُلًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَضَى لِلزُّبَيْرِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنَّمَا قَضَى لَهُ لِأَنَّهُ ابْنُ عَمَّتِهِ فَنَزَلَتْ: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ الآية.
- ٦٧ - وَإِذاً لأَتَيْنَاهُم مِّن لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا
- ٦٨ - وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً
- ٦٩ - وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً
- ٧٠ - ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ أَكْثَرِ النَّاسِ أَنَّهُمْ لَوْ أُمِرُوا بِمَا هم مرتكبوه مِنَ الْمَنَاهِي لَمَا فَعَلُوهُ، لَأَنَّ طِبَاعَهُمُ الرَّدِيئَةَ مَجْبُولَةٌ عَلَى مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ، وَهَذَا مِنْ عِلْمِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِمَا لَمْ يَكُنْ أَوْ كَانَ فَكَيْفَ كَانَ يَكُونُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ
(ذِكْرُ سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ الكريمة)
روى ابن جرير عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ من الأنصار إلى رسول الله ﷺ وَهُوَ مَحْزُونٌ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يا فلان مالي أراك محزوناً»؟ فقال: يا نبي الله شيء فكرت فيه، فقال ما هو؟ قال: نحن نغدوا وَنَرُوحُ نَنْظُرُ إِلَى وَجْهِكَ وَنُجَالِسُكَ، وَغَدًا تُرْفَعُ مَعَ النَّبِيِّينَ، فَلَا نَصِلُ إِلَيْكَ، فَلَمْ يَرُدَّ عليه النبي ﷺ شَيْئًا، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ بِهَذِهِ الْآيَةِ: ﴿وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النبيين﴾ الآية، فَبَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَشَّرَهُ وعن عَائِشَةَ، قَالَتْ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّكَ لَأَحَبُّ إليَّ مِنْ نَفْسِي، وَأَحَبُّ إليَّ مِنْ أَهْلِي، وَأَحَبُّ إليَّ مِنْ وَلَدِي، وَإِنِّي لَأَكُونُ فِي الْبَيْتِ فَأَذْكُرُكَ فَمَا أَصْبِرُ حَتَّى آتِيَكَ فَأَنْظُرَ إِلَيْكَ، وَإِذَا ذَكَرْتُ مَوْتِي وَمَوْتَكَ عَرَفْتُ أَنَّكَ إِذَا دخلتَ الْجَنَّةَ رفعتَ مَعَ النبييّن، وإن دخلتُ الجنة خشيت أن لا أَرَاكَ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نَزَلَتْ عَلَيْهِ ﴿وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً﴾.
وثبت في صحيح مسلم عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أَبِيتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَيْتُهُ بِوُضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ، فَقَالَ لِي: سَلْ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ، فَقَالَ: «أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ؟» قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ، قَالَ: «فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ» وقال الإمام أحمد عن عمروا بْنِ مُرَّةَ الْجُهَنِيِّ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم فقال: يا رَسُولَ اللَّهِ شَهِدْتُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ؛ وَصَلَّيْتُ الْخَمْسَ، وَأَدَّيْتُ زكاة
- ٧٢ - وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيدًا
- ٧٣ - وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا
- ٧٤ - فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً
يَأْمُرُ اللَّهُ تعالى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَخْذِ الْحَذَرِ مِنْ عَدُوِّهِمْ، وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ التَّأَهُّبَ لَهُمْ بِإِعْدَادِ الْأَسْلِحَةِ والعُدَدْ وَتَكْثِيرِ العدد بالنفير في سبيل الله، ﴿ثباتٍ﴾ أَيْ جَمَاعَةً بَعْدَ جَمَاعَةٍ، وَفِرْقَةً بَعْدَ فِرْقَةٍ، وَسَرِيَّةً بَعْدَ سَرِيَّةٍ، وَالثُّبَاتُ: جَمْعُ ثُبَةٍ وقد تجمع الثبة على ثبين، قال ابن عباس: يَعْنِي سَرَايَا مُتَفَرِّقِينَ ﴿أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً﴾ يَعْنِي كلكم. وقوله تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ﴾ قال مجاهد نزلت في المنافقين لَّيُبَطِّئَنَّ أَيْ لَيَتَخَلَّفَنَّ عَنِ الْجِهَادِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يكون المراد أن يتباطأ هو في نفسه، ويبطىء غَيْرَهُ عَنِ الْجِهَادِ، كَمَا كَانَ (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبي بْنِ سَلُولٍ) قَبَّحَهُ اللَّهُ يَفْعَلُ، يَتَأَخَّرُ عَنِ الْجِهَادِ وَيُثَبِّطُ النَّاسَ عَنِ الْخُرُوجِ فِيهِ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ جُرَيْجٍ وَابْنِ جَرِيرٍ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنِ الْمُنَافِقِ أَنَّهُ يَقُولُ إِذَا تَأَخَّرَ عَنِ الْجِهَادِ ﴿فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ﴾ أَيْ قَتْلٌ وَشَهَادَةٌ وَغَلَبُ الْعَدُوِّ لَكُمْ لِمَا لِلَّهِ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ ﴿قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عليَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً﴾ أي إذا لَمْ أَحْضُرْ مَعَهُمْ وَقْعَةَ الْقِتَالِ، يَعُدُّ ذَلِكَ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَدْرِ مَا فَاتَهُ مِنَ الْأَجْرِ فِي الصَّبْرِ أَوِ الشَّهَادَةِ إِنْ قُتِلَ، ﴿وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ﴾ أَيْ نَصْرٌ وَظَفَرٌ وَغَنِيمَةٌ ﴿لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُنْ بينك وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ﴾ أَيْ كَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ دِينِكُمْ {يَا لَيْتَنِي
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً﴾ أَيْ كُلُّ مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ سَوَاءٌ قُتِلَ أو غلب فله عند الله مثوبة عظيمة وأجر عظيم، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَتَكَفَّلَ اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِهِ إِنْ تَوَفَّاهُ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ يُرْجِعَهُ إِلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ بما نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ.
- ٧٦ - الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا
يحرِّض تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ وَعَلَى السَّعْيِ فِي اسْتِنْقَاذِ الْمُسْتَضْعَفِينَ بِمَكَّةَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ الْمُتَبَرِّمِينَ من المقام بِهَا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ﴾ يَعْنِي مَكَّةَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ التي أخرجتك﴾ ثُمَّ وَصَفَهَا بِقَوْلِهِ: ﴿الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ نَصِيراً﴾ أَيْ سَخِّرْ لَنَا مِنْ عِنْدِكَ وَلِيًّا وناصراً. قال البخاري عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ، سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ قال: كنت أنا وأمي من المستضعفين، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله والذي كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾.
- ٧٨ - أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِنْدِ اللَّهِ فما لهؤلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا
- ٧٩ - مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً
كَانَ الْمُؤْمِنُونَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ وهم بمكة مأمورين بالصلاة والزكاة، وكانوا مَأْمُورِينَ بِمُوَاسَاةِ الْفُقَرَاءِ مِنْهُمْ،
ولا خير في الدنيا لِمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ * مِنَ اللَّهِ فِي دَارِ الْمُقَامِ نَصِيبُ
فِإِنْ تُعْجِبِ الدُّنْيَا رِجَالًا فإنها * متاع قليل والزوال قريب
وقوله تَعَالَى: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ﴾ أَيْ أَنْتُمْ صَائِرُونَ إِلَى الْمَوْتِ لا محالة وَلاَ ينجوا مِنْهُ أَحَدٌ مِنْكُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾ الآية، وقال تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ﴾ وَالْمَقْصُودُ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ صَائِرٌ إِلَى الْمَوْتِ لَا مَحَالَةَ، وَلاَ يُنْجِيهِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ سواء جَاهَدَ أَوْ لَمْ يُجَاهِدْ فَإِنَّ لَهُ أَجَلًا محتوماً، ومقاماً مَقْسُومًا، كَمَا قَالَ (خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ) حِينَ جاء الْمَوْتُ عَلَى فِرَاشِهِ: لَقَدْ شَهِدْتُ كَذَا وَكَذَا مَوْقِفًا، وَمَا مِنْ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِي إِلَّا وَفِيهِ جُرْحٌ مِنْ طَعْنَةٍ أَوْ رَمْيَةٍ، وَهَا أَنَا أَمُوتُ عَلَى فِرَاشِي، فَلَا نَامَتْ أَعْيُنُ الْجُبَنَاءِ. وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ﴾ أي حصينة منيعة عالية رفيعة، أَيْ لَا يُغْنِي حَذَرٌ وَتَحَصُّنٌ مِنَ الْمَوْتِ كَمَا قَالَ زُهَيْرُ بْنُ أَبِي سُلْمَى:
وَمَنْ هاب أسباب المنايا ينلنه * وَلَوْ رَامَ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بسُلَّم
ثُمَّ قِيلَ: المُشَيَّدة هِيَ المُشَيَّدة كَمَا قَالَ (وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) وَقِيلَ: بَلْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ وَهُوَ أَنَّ الْمُشَيَّدَةَ بِالتَّشْدِيدِ هِيَ الْمُطَوَّلَةُ، وَبِالتَّخْفِيفِ هِيَ الْمُزَيَّنَةُ بِالشَّيْدِ وهو الجص.
ثم قال تَعَالَى مُخَاطِبًا لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ جِنْسُ الْإِنْسَانِ لِيَحْصُلَ الْجَوَابُ: ﴿مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾ أَيْ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ومنِّه وَلُطْفِهِ وَرَحْمَتِهِ، ﴿وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ﴾ أَيْ فَمِنْ قِبَلِكَ، وَمِنْ عَمَلِكَ أَنْتَ، كَمَا قال تعالى: ﴿وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مصيبة فيما كسبت أيديكم ويعفو عَن كَثِيرٍ﴾ قال السدي: ﴿فَمِن نَّفْسِكَ﴾ أي بذنبك، وقال قتادة في الآية: ﴿فَمِن نَّفْسِكَ﴾ عقوبة لك يَا ابْنَ آدَمَ بِذَنْبِكَ، قَالَ: وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يُصِيبُ رَجُلًا خَدْشُ عُودٍ وَلَا عَثْرَةُ قدم، والا اخْتِلَاجُ عِرْقٍ إِلَّا بِذَنْبٍ وَمَا يَعْفُو اللَّهُ أَكْثَرُ»، وَهَذَا الَّذِي أَرْسَلَهُ قَتَادَةُ قَدْ رُوِيَ مُتَّصِلًا فِي الصَّحِيحِ، «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ هَمٌّ وَلَا حَزَنٌ، وَلَا نَصَبٌ حَتَّى الشَّوْكَةُ يُشَاكُهَا إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ»، وقال أبو صالح ﴿وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ﴾ أَيْ بذنبك وأنا الذي قدرتها عليك وراه ابن جرير. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً﴾ أَيْ تُبْلِغُهُمْ شرائع الله وَمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ، وَمَا يَكْرَهُهُ وَيَأْبَاهُ ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً﴾ أَيْ عَلَى أَنَّهُ أَرْسَلَكَ وَهُوَ شَهِيدٌ أَيْضًا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ، وَعَالِمٌ بِمَا تُبْلِغُهُمْ إِيَّاهُ وَبِمَا يَرُدُّونَ عَلَيْكَ مِنَ الْحَقِّ كفراً وعناداً.
- ٨١ - وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن مَنْ أَطَاعَهُ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَاهُ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّهُ ﴿مَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى﴾ قال ابن أبي حاتم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ؛ وَمَنْ أَطَاعَ الْأَمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ عَصَى الأمير فقد
وقوله تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ﴾ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّهُمْ يُظْهِرُونَ الْمُوَافَقَةَ وَالطَّاعَةَ ﴿فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ﴾ أَيْ خَرَجُوا وَتَوَارَوْا عَنْكَ ﴿بيَّت طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ﴾ أَيْ اسْتَسَرُّوا لَيْلًا فِيمَا بينهم بغير ما أظهروه لك، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ﴾ أَيْ يَعْلَمُهُ وَيَكْتُبُهُ عَلَيْهِمْ بِمَا يَأْمُرُ بِهِ حَفِظْتَهُ الكاتبين الذين هم موكلون بالعباد، والمعنى في هذا التهديد أنه تعالى يخبر بِأَنَّهُ عَالِمٌ بِمَا يُضْمِرُونَهُ وَيُسِرُّونَهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَمَا يَتَّفِقُونَ عَلَيْهِ لَيْلًا مِنْ مُخَالَفَةِ الرَّسُولِ ﷺ وَعِصْيَانِهِ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ أَظْهَرُوا لَهُ الطَّاعَةَ وَالْمُوَافَقَةَ، وَسَيَجْزِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ويقولن آمَنَّا بالله وبالرسول وأطعنا﴾ الآية، وَقَوْلُهُ: ﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ أَيِ اصْفَحْ عَنْهُمْ وَاحْلُمْ عَلَيْهِمْ وَلَا تُؤَاخِذْهُمْ، وَلَا تَكْشِفْ أُمُورَهُمْ لِلنَّاسِ، وَلَا تَخَفْ مِنْهُمْ أَيْضًا، ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً﴾ أَيْ كَفَى بِهِ وَلِيًّا وَنَاصِرًا وَمُعِينًا لِمَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ وَأَنَابَ إِلَيْهِ.
- ٨٣ - وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قليلا
يقول تعالى آمراً لهم بتدبر القرآن ناهياً لَهُمْ عَنِ الْإِعْرَاضِ عَنْهُ، وَعَنْ تَفَهُّمِ مَعَانِيهِ الْمُحْكَمَةِ وَأَلْفَاظِهِ الْبَلِيغَةِ، وَمُخْبِرًا لَهُمْ أَنَّهُ لَا اختلاف فيه ولا اضطراب، وَلَا تَعَارُضَ لِأَنَّهُ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ فَهُوَ حَقٌّ مِنْ حَقٍّ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾، ثُمَّ قَالَ: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ﴾ أَيْ لَوْ كَانَ مُفْتَعَلًا مُخْتَلَقًا، كَمَا يقوله من يقول من جهلة المشركين والنافقين في بواطنهم لوجدوا فيه اختلافاً، أي اضطراباً وتضاداً كثيراً، وَهَذَا سَالِمٌ مِنَ الِاخْتِلَافِ فَهُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ حَيْثُ قَالُوا: ﴿آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا﴾ أَيْ مُحْكَمُهُ وَمُتَشَابِهُهُ حَقٌّ، فَلِهَذَا رَدُّوا الْمُتَشَابِهَ إِلَى الْمُحْكَمِ فَاهْتَدَوْا، وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ ردوا المحكم إلى المتشابه فغووا، وَلِهَذَا مَدَحَ تَعَالَى الرَّاسِخِينَ وَذَمَّ الزَّائِغِينَ. قَالَ الإمام أحمد عن عمرو ابن شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ وَالنَّاسُ يَتَكَلَّمُونَ فِي الْقَدَرِ فَكَأَنَّمَا يُفقأ فِي وَجْهِهِ حَبُّ الرُّمَّانِ مِنَ الْغَضَبِ، فَقَالَ لَهُمْ: «مَا لَكُمْ تَضْرِبُونَ كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ ببعض، بهذا هلك من كان قبلكم»، وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: هَجَّرْتُ إِلَى رسول الله يوماً، فإنّا لجلوس إذا اخْتَلَفَ اثْنَانِ فِي آيَةٍ فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا فَقَالَ: «إِنَّمَا هَلَكَتِ الْأُمَمُ قَبْلَكُمْ بِاخْتِلَافِهِمْ فِي الْكِتَابِ» (رواه مسلم والنسائي)
وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ﴾ إِنْكَارٌ عَلَى مَنْ يُبَادِرُ إِلَى الْأُمُورِ قَبْلَ تَحَقُّقِهَا
أشم، نديّ، كثير النوادي * قَلِيلَ الْمَثَالِبِ، وَالْقَادِحَةْ
يَعْنِي لَا مَثَالِبَ لَهُ وَلَا قَادِحَةَ فِيهِ.
- ٨٥ - مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً
- ٨٦ - وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا
- ٨٧ - اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا
يَأْمُرُ تَعَالَى عَبْدَهُ وَرَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن يباشر القتال بنفسه، ومن نكل عنه فَلَا عَلَيْهِ مِنْهُ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ﴾ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ، قُلْتُ لِلْبَرَاءِ: الرَّجُلُ يَحْمِلُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ أَهْوَ مِمَّنْ أَلْقَى بِيَدِهِ إلى التهلكة؟ قال: لا إن الله بعث برسوله ﷺ قولا: ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ﴾ إنما فذلك في النفقة (رواه أحمد وابن أبي حاتم).
وقوله: ﴿حرض الْمُؤْمِنِينَ﴾ أَيْ عَلَى الْقِتَالِ وَرَغِّبْهُمْ فِيهِ وَشَجِّعْهُمْ عليه، كما قال لهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ وَهُوَ يسوي الصفوف: «قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض» وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي التَّرْغِيبِ فِي ذَلِكَ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَصَامَ رَمَضَانَ، كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ هَاجَرَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ جَلَسَ فِي أَرْضِهِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا». قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نُبَشِّرُ النَّاسَ بِذَلِكَ؟ فَقَالَ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سبيل
وقوله تعالى: ﴿عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ أَيْ بِتَحْرِيضِكَ إِيَّاهُمْ عَلَى الْقِتَالِ تَنْبَعِثُ هِمَمُهُمْ عَلَى مُنَاجَزَةِ الْأَعْدَاءِ، وَمُدَافَعَتِهِمْ عَنْ حَوْزَةِ الْإِسْلَامِ وأهله، ومقاومتهم ومصابرتهم، وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً﴾ أَيْ هُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ ليبلو بعضكم ببعض﴾ الآية، وَقَوْلُهُ ﴿مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مِنْهَا﴾ أي من يسعى في أمر فيترتب عَلَيْهِ خَيْرٌ كَانَ لَهُ نَصِيبٌ مِنْ ذَلِكَ، ﴿وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يكن له كفر مِّنْهَا﴾ أي يكون علي وِزْرٌ مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ الَّذِي تَرَتَّبَ عَلَى سعيه ونيته كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا؛ وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا شَاءَ» وَقَالَ مُجَاهِدُ بْنُ جَبْرٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي شَفَاعَاتِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ لبعض وقول: ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً﴾ قَالَ ابن عباس: أَيْ حَفِيظًا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: شَهِيدًا، وَفِي رِوَايَةٍ عنه حسيباً. وقال الضحاك: المقيت الرزاق، وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ: وَسَأَلَهُ رجُل عَنْ قول الله تعالى: ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً﴾ قَالَ: مقيت لكل إنسان بقدر عمله.
وقوله تَعَالَى: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ﴾ أَيْ إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمُ الْمُسْلِمُ فَرَدُّوا عَلَيْهِ أَفْضَلَ مِمَّا سَلَّمَ، أَوْ رَدُّوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا سلم فَالزِّيَادَةُ مَنْدُوبَةٌ، وَالْمُمَاثَلَةُ مَفْرُوضَةٌ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: «وَعَلَيْكَ السَّلَامُ ورحمة الله» ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ؛ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَعَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ»، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وبركات، فَقَالَ لَهُ: «وَعَلَيْكَ» فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي: أَتَاكَ فُلَانٌ وفلان فسلما عليك فرددت عليهم أَكْثَرَ مِمَّا رَدَدْتَ عَلَيَّ؟ فَقَالَ: "إِنَّكَ لَمْ تَدَعْ لَنَا شَيْئًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ﴾ فرددناها عليك"
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا زِيَادَةَ فِي السَّلَامِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ [السَّلَامُ عليكم ورحمة الله وبركاته]، إذا لَوْ شُرِعَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ لَزَادَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ الْإِمَامُ أحمد عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فقال: السلام عليكم يا رسول الله فَرَدَّ عَلَيْهِ ثُمَّ جَلَسَ، فَقَالَ: «عَشْرٌ» ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ يا رسول اللَّهِ فَرَدَّ عَلَيْهِ ثُمَّ جَلَسَ فَقَالَ «عِشْرُونَ» ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ فَرَدَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ جَلَسَ فَقَالَ: «ثلاثون». وقال ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: من سلّم عَلَيْكَ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ فَارْدُدْ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مَجُوسِيًّا ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ﴾ وقال فأما أهل الذمة فلا يُبدأون بِالسَّلَامِ وَلَا يُزَادُونَ بَلْ يُرَدُّ عَلَيْهِمْ بِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قال: «إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمُ الْيَهُودُ فَإِنَّمَا يَقُولُ أَحَدُهُمْ السام عليكم فَقُلْ وَعَلَيْكَ» وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «لا تبدأوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى بِالسَّلَامِ، وَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فِي طَرِيقٍ فاضطروهم إلى أضيقه»، وقال الحسن البصري: السَّلَامُ تَطَوُّعٌ وَالرَّدُّ فَرِيضَةٌ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ هُوَ قَوْلُ الْعُلَمَاءِ قَاطِبَةً أَنَّ الرَّدَّ وَاجِبٌ عَلَى مَنْ سُلِّمَ
وقوله تعالى: ﴿آللَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ﴾ إِخْبَارٌ بِتَوْحِيدِهِ وَتَفَرُّدِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ وَتَضَمَّنَ قَسَمًا لِقَوْلِهِ: ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ هذه الام موطئة للقسم فقوله تالله لا غله إلا هو خير وقسم أنه يجمع الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَيُجَازِي كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً﴾ أَيْ لَا أَحَدَ أَصْدَقُ مِنْهُ فِي حَدِيثِهِ وَخَبَرِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، فَلَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ.
- ٨٩ - وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءً فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ حَتَّى يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً
- ٩٠ - إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وبينهم ميثاق أو جاؤوكم حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً
- ٩١ - سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قومهم كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُواْ فِيهَا فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً
يَقُولُ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي اخْتِلَافِهِمْ فِي الْمُنَافِقِينَ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَاخْتُلِفَ في سبب ذلك، فقال الإمام أحمد عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إِلَى أُحُدٍ فَرَجَعَ نَاسٌ خَرَجُوا مَعَهُ، فَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ فِرْقَتَيْنِ، فرقة تقول: نقتلهم، وفرقة تقول: لا، هم المؤمنون فأنزل الله: ﴿فما لهم فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ﴾، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهَا طَيْبَةُ وَإِنَّهَا تَنْفِي الخبث كما ينفي الكير خبث الحديد» (رواه الشيخان) وقد ذكر محمد بن إسحاق فِي وَقْعَةِ أُحد: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبي بْنِ سَلُولٍ رجع يومئذ بثلث الجيش، رجع بثلثمائة وَبَقِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سبعمائة، وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا﴾ أَيْ رَدَّهُمْ وَأَوْقَعَهُمْ فِي الْخَطَأِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ﴿أَرْكَسَهُمْ﴾ أَيْ أَوْقَعَهُمْ، وَقَالَ قَتَادَةُ: أَهْلَكَهُمْ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَضَلَّهُمْ، وَقَوْلُهُ: ﴿بِمَا كَسَبُوا﴾ أَيْ بِسَبَبِ عِصْيَانِهِمْ وَمُخَالَفَتِهِمُ الرَّسُولَ وَاتِّبَاعِهِمُ الْبَاطِلَ ﴿أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً﴾ أَيْ لَا طَرِيقَ لَهُ
وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ (سُرَاقَةَ بْنَ مَالِكٍ الْمُدْلِجِيَّ) قال: لما ظهر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ وأُحد وَأَسْلَمَ مَنْ حَوْلَهُمْ، قَالَ سُرَاقَةُ بَلَغَنِي أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَبْعَثَ (خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ) إِلَى قَوْمِي بَنِي مُدْلِجٍ فَأَتَيْتُهُ، فَقُلْتُ: أَنْشُدُكَ النِّعْمَةَ، فَقَالُوا صَهٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «دَعُوهُ، مَا تُرِيدُ؟» قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَبْعَثَ إِلَى قَوْمِي وَأَنَا أُرِيدُ أَنَّ تُوَادِعَهُمْ، فَإِنْ أَسْلَمَ قَوْمُكَ أَسْلَمُوا وَدَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ، وَإِنْ لَمْ يُسْلِمُوا لَمْ تَخْشُنْ قُلُوبُ قَوْمِكَ عَلَيْهِمْ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ فَقَالَ: «اذْهَبْ مَعَهُ فَافْعَلْ مَا يُرِيدُ»، فصالحهم خالد على أن لا يُعِينُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، وإن أسلمت قريش أسلموا معهم، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءً فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ﴾ وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ نَسَخَهَا قَوْلُهُ: ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الحُرُم فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وجدتموهم﴾ الآية، وقوله: ﴿أَوْ جاؤوكم حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾ هؤلاء قوم آخرون من المستثنين من الْأَمْرِ بِقِتَالِهِمْ وَهُمُ الَّذِينَ يَجِيئُونَ إِلَى الْمَصَافِّ وَهُمْ حَصِرَةٌ صُدُورُهُمْ أَيْ ضَيِّقَةٌ صُدُورُهُمْ، مُبْغِضِينَ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ وَلَا يَهُونُ عَلَيْهِمْ أَيْضًا أَنْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ مَعَكُمْ بَلْ هُمْ لَا لَكُمْ وَلَا عَلَيْكُمْ ﴿وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ﴾ أَيْ مِنْ لُطْفِهِ بِكُمْ أَنْ كَفَّهُمْ عنكم ﴿فَإِنِ اعتزلوكم فَلَمْ يقاتلوكم وألقو إِلَيْكُمُ السَّلَمَ﴾ أَيِ الْمُسَالَمَةَ ﴿فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً﴾ أَيْ فَلَيْسَ لَكُمْ أَنْ تقاتلوهم مَا دَامَتْ حَالُهُمْ كَذَلِكَ، وَهَؤُلَاءِ كَالْجَمَاعَةِ الَّذِينَ خَرَجُوا يَوْمَ بِدْرٍ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ مَعَ الْمُشْرِكِينَ فَحَضَرُوا الْقِتَالَ وَهُمْ كَارِهُونَ كَالْعَبَّاسِ وَنَحْوِهِ وَلِهَذَا نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومئذ عن قتل العباس وأمر بأسره.
وقوله تعالى: ﴿سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ﴾ الْآيَةَ، هَؤُلَاءِ فِي الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ كَمَنْ تَقَدَّمَهُمْ، وَلَكِنْ نِيَّةُ هَؤُلَاءِ غَيْرُ نِيَّةِ أُولَئِكَ، فَإِنَّ هؤلاء قوم مُنَافِقُونَ، يُظْهِرُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَصْحَابِهِ الْإِسْلَامَ لِيَأْمَنُوا بِذَلِكَ عِنْدَهُمْ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَذَرَارِيهِمْ، وَيُصَانِعُونَ الْكَفَّارَ فِي الْبَاطِنِ فَيَعْبُدُونَ مَعَهُمْ مَا يَعْبُدُونَ لِيَأْمَنُوا بِذَلِكَ عِنْدَهُمْ وَهُمْ فِي الْبَاطِنِ مَعَ أُولَئِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ﴾ الآية، وقال ههنا: ﴿كُلَّمَا رُدّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُواْ فِيِهَا﴾ أَيْ انهمكوا فيها، وقال السدي: الفتنة ههنا الشِّرْكُ، وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ كَانُوا يَأْتُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُسَلِّمُونَ رِيَاءً، ثُمَّ يَرْجِعُونَ إِلَى قُرَيْشٍ فَيَرْتَكِسُونَ فِي الأوثان، يبتغون بذلك أن يأمنوا ههنا وههنا، فأمر بقتلهم إِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوا وَيُصْلِحُوا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ ويلقوا إِلَيْكُمُ السلم﴾ المهادنة والصلح ﴿ويكفوا أَيْدِيَهُمْ﴾ أي عن القتال ﴿فَخُذُوهُمْ﴾ أسراء ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ أَيْ أَيْنَ لَقِيتُمُوهُمْ ﴿وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً﴾ أَيْ بَيِّنًا واضحاً.
- ٩٣ - وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيماً
يَقُولُ تَعَالَى: لَيْسَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ أَخَاهُ الْمُؤْمِنَ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا يَحِلُّ دَمُ امرىء مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، والثب الزَّانِي، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ"، ثُمَّ إِذَا وقع شي مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثِ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ آحَادِ الرَّعِيَّةَ أَنْ يَقْتُلَهُ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ إِلَى الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ، وَقَوْلُهُ: ﴿إِلاَّ خَطَأً﴾ قَالُوا: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
مِنَ الْبِيضِ لَمْ تَظْعَنْ بَعِيدًا وَلَمْ تَطَأْ * عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ ريط بردٍ مرحّل
واختلف في سبب نزول هذه، فقال مجاهد: نزلت في (عياش بن أبي ربيعة) وذلك أنه قتل رجلاً يُعَذِّبُهُ مَعَ أَخِيهِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَهُوَ (الْحَارِثُ بن يزيد الغامدي) فَأَسْلَمَ ذَلِكَ الرَّجُلُ وَهَاجَرَ، وَعِيَاشٌ لَا يَشْعُرُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ رَآهُ فَظَنَّ أَنَّهُ عَلَى دِينِهِ فَحَمَلَ عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هذه الآية. قال ابن أَسْلَمَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي الدَّرْدَاءِ لِأَنَّهُ قَتَلَ رجلاُ وقد قال كلمة الإيمان حين رفع عليه السَّيْفَ فَأَهْوَى بِهِ إِلَيْهِ، فَقَالَ كَلِمَتَهُ، فَلَمَّا ذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: إِنَّمَا قَالَهَا مُتَعَوِّذًا، فَقَالَ لَهُ: هَلْ شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ؟ وَهَذِهِ الْقِصَّةُ فِي الصَّحِيحِ لغير أبو الدرداء.
وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ﴾، هَذَانَ وَاجِبَانِ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ، أَحَدُهُمَا: الْكَفَّارَةُ لِمَا ارْتَكَبَهُ مِنَ الذَّنْبِ الْعَظِيمِ وَإِنْ كَانَ خطأ، ومن شروطها أن تكون عتق ﴿رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ﴾ فلا تجزىء الكافرة، وفي موطأ مالك ومسند الشافعي وأحمد عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ: أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ بِتِلْكَ الْجَارِيَةِ السَّوْدَاءِ، قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيْنَ اللَّهُ» قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ، قَالَ: «مَنْ أَنَا» قَالَتْ: رَسُولُ اللَّهِ قَالَ: «أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ» وَقَوْلُهُ: ﴿وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ﴾ هُوَ الْوَاجِبُ الثَّانِي فِيمَا بَيْنُ الْقَاتِلِ وَأَهْلِ القتيل عوضاً لهم عما فاتهم من قتيلهم، وَهَذِهِ الدِّيَةُ إِنَّمَا تَجِبُ أَخْمَاسًا كَمَا رَوَاهُ أحمد وأهل السنن عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دِيَةِ الْخَطَأِ (عِشْرِينَ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَعِشْرِينَ بَنِي مَخَاضٍ ذُكُورًا وَعِشْرِينَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَعِشْرِينَ جَذَعَةً، وَعِشْرِينَ حِقَّةً) وإنما تَجِبُ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ لَا فِي مَالِهِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَمْ أَعْلَمْ مُخَالِفًا أن رسول الله ﷺ قَضَى بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَهُوَ أَكْثَرُ مِنْ حَدِيثِ الْخَاصَّةِ، وَهَذَا الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ رَحِمَهُ اللَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي غَيْرِ مَا حَدِيثٍ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «اقْتَتَلَتِ امْرَأَتَانِ مِنْ هُذَيْلٍ، فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِحَجَرٍ فَقَتَلَتْهَا وَمَا فِي بَطْنِهَا، فَاخْتَصَمُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَضَى أَنَّ دِيَةَ جَنِينِهَا غُرَّةُ عبد أو
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عمر، قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى بَنِي جُذَيْمَةَ، فَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَلَمْ يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا أَسْلَمْنَا، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: صَبَأْنَا صَبَأْنَا، فَجَعَلَ خَالِدٌ يَقْتُلُهُمْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَفَعَ يَدَيْهِ، وَقَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ» وَبَعَثَ علياً فودى قتلاهم، وما أتلف من أمولاهم حتى مليغة الْكَلْبِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ خَطَأَ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ يَكُونُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَقَوْلُهُ: ﴿إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ﴾ أَيْ فَتَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَتَصَدَّقُوا بِهَا فَلَا تَجِبُ، وَقَوْلُهُ: ﴿فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ﴾ أَيْ إِذَا كَانَ الْقَتِيلُ مُؤْمِنًا، وَلَكِنْ أَوْلِيَاؤُهُ مِنَ الْكُفَّارِ أَهْلَ حَرْبٍ فَلَا دِيَةَ لهم على الْقَاتِلِ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ لَا غَيْرَ.
وَقَوْلُهُ تعالى: ﴿وَإِن كَانَ مِن قَوْمِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ﴾ الْآيَةَ أَيْ فَإِنْ كَانَ الْقَتِيلُ أَوْلِيَاؤُهُ أَهْلَ ذِمَّةٍ أَوْ هُدْنَةٍ فَلَهُمْ دِيَةُ قَتِيلِهِمْ، فَإِنْ كان مؤمناً فيدة كَامِلَةٌ وَكَذَا إِنْ كَانَ كافراُ أَيْضًا عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَقِيلَ: يَجِبُ فِي الْكَافِرِ نِصْفُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، وَقِيلَ: ثُلُثُهَا كَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ، وَيَجِبُ أَيْضًا عَلَى الْقَاتِلِ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، ﴿فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ﴾ أَيْ لَا إِفْطَارَ بَيْنَهُمَا، بَلْ يَسْرُدُ صَوْمَهُمَا إِلَى آخِرِهِمَا، فَإِنْ أَفْطَرَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ مِنْ مَرَضٍ أَوْ حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ اسْتَأْنَفَ، وَاخْتَلَفُوا فِي السَّفَرِ هَلْ يقطع أم لا على قولين، وقول: ﴿تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً﴾ أَيْ هَذِهِ تَوْبَةُ الْقَاتِلِ خَطَأً إِذَا لَمْ يَجِدِ الْعِتْقَ صَامَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ لَا يَسْتَطِيعُ الصِّيَامَ، هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ إِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا كَمَا فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، كَمَا هُوَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ في كفارة الظهار، وإنما لم يذكر ههنا لِأَنَّ هَذَا مَقَامُ تَهْدِيدٍ وَتَخْوِيفٍ وَتَحْذِيرٍ، فَلَا يُنَاسِبُ أَنْ يُذْكَرَ فِيهِ الْإِطْعَامُ لِمَا فِيهِ من التسهيل والترخيص، والقول الثاني: لا يعدل إلى الطعام لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمَا أَخَّرَ بَيَانَهُ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً﴾ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ، ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى حُكْمَ الْقَتْلِ الْخَطَأِ شَرَعَ فِي بينا حُكْمِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ، فَقَالَ: ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً متعمدا﴾ الآية، وَهَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ لِمَنْ تَعَاطَى هَذَا الذَّنْبَ الْعَظِيمَ الَّذِي هُوَ مَقْرُونٌ بِالشِّرْكِ بِاللَّهِ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ، حَيْثُ يَقُولُ سُبْحَانَهُ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ: ﴿والذين لاَ يَدْعُونَ من اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق﴾ الآية، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عليكم أن لا تشركوا به شيئاً﴾ ً الآية.
والآيات والأحاديث في تحريم القتل كثيرة جداً فَمِنْ ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ الناس يوم القيامة في الدماء»، وفي حديث آخر: «لزوال الدنيا أهول عِنْدَ اللَّهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ»، وَفِي الحديث الآخر: «لو اجتمع أهل السموات وَالْأَرْضِ عَلَى قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ لَأَكَبَّهُمُ اللَّهُ فِي النَّارِ»، وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «مَنْ أَعَانَ على قتل المسلم وَلَوْ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ»، وَقَدْ كان ابن عباس يرى أنه لا توبة لقاتل المؤمن عمداً، وقال البخاري عن المغيرة بن النعمان قال: سمعت بان جُبَيْرٍ قَالَ: اخْتَلَفَ فِيهَا أَهْلُ الْكُوفَةِ فَرَحَلْتُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَسَأَلْتُهُ عَنْهَا فَقَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّم﴾ هِيَ آخِرُ مَا نَزَلَ وَمَا نَسَخَهَا شَيْءٌ. وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ:
وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: يجيء المقتلول مُتَعَلِّقًا بِقَاتِلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ آخِذًا رَأْسَهُ بِيَدِهِ الْأُخْرَى، فَيَقُولُ: يَا رَبُّ سَلْ هَذَا فِيمَ قَتَلَنِي؟ قَالَ، فَيَقُولُ: قَتَلْتُهُ لِتَكُونَ الْعِزَّةُ لَكَ، فَيَقُولُ: فَإِنَّهَا لِي، قَالَ: وَيَجِيءُ آخَرُ مُتَعَلِّقًا بِقَاتِلِهِ، فَيَقُولُ: رَبِّ سَلْ هَذَا فِيمَ قَتَلَنِي؟ قَالَ، فَيَقُولُ: قَتَلَتُهُ لِتَكُونَ الْعِزَّةُ لِفُلَانٍ قَالَ: فَإِنَّهَا لَيْسَتْ لَهُ بُؤْ بِإِثْمِهِ، قَالَ فَيَهْوِي في النار سبعين خريفاً" (رواه أحمد والنسائي. ومعنى (بؤ) أي ارجع بإثمه)
(حديث آخر): قال الإمام أحمد عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ، قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ الله عنه يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «كُلُّ ذَنْبٍ عَسَى اللَّهُ أَن يَغْفِرَهُ إِلَّا الرجل يموت كافرا، أو الرجل يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً». وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَخَلَفِهَا: أَنَّ الْقَاتِلَ لَهُ تَوْبَةٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الله عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنْ تَابَ وَأَنَابَ، وَخَشَعَ وَخَضَعَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا بَدَّلَ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِ حَسَنَاتٍ، وعوَّض المقتول من ظلامته وأرضاه عن ظلامته. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله أله آخَرَ - إِلَى قَوْلِهِ: إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا﴾ الآية وَهَذَا خَبَرٌ لَا يَجُوزُ نُسْخُهُ وَحَمْلُهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَحَمْلُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ خِلَافُ الظَّاهِرِ وَيَحْتَاجُ حَمْلُهُ إِلَى دَلِيلٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وقوله تَعَالَى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ من رحمة الله﴾ الآية، وَهَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ الذُّنُوبِ مِنْ كُفْرٍ وَشِرْكٍ وَشَكٍّ وَنِفَاقٍ وَقَتْلٍ وَفِسْقٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، كل من تاب تاب الله عليه، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يشاء﴾ فَهَذِهِ الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الذُّنُوبِ مَا عَدَا الشِّرْكَ وَهِيَ مَذْكُورَةٌ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ وَقَبْلَهَا، لِتَقْوِيَةِ الرَّجَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ خَبَرُ الْإِسْرَائِيلِيِّ الَّذِي قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ، ثُمَّ سَأَلَ عَالِمًا هَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ فَقَالَ: وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟ ثُمَّ أَرْشَدَهُ إِلَى بَلَدٍ يَعْبُدُ اللَّهَ فِيهِ، فَهَاجَرَ إِلَيْهِ فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ، فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ غَيْرَ مرة. وإذا كَانَ هَذَا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَأَنْ يَكُونَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ التَّوْبَةُ مَقْبُولَةٌ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى والأحرى، لأن الله وضع عنا الآصار والأغلال الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ، وَبَعَثَ نَبِيَّنَا بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ، فَأَمَّا الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً﴾ الآية، فَقَدْ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَجَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ، هذا جزاؤه إن جازاه، وَكَذَا كُلُّ وَعِيدٍ عَلَى ذَنْبٍ لَكِنْ قَدْ يكون كذلك
وَأَمَّا مَنْ مَاتَ كَافِرًا فالنص إن الله لَا يُغْفَرُ لَهُ الْبَتَّةَ، وَأَمَّا مُطَالَبَةُ الْمَقْتُولِ الْقَاتِلَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَإِنَّهُ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ الآدميين وهي لا تسقط بالتوبة، ولكن لا بد من ردها إليهم وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَقْتُولِ وَالْمَسْرُوقِ مِنْهُ، وَالْمَغْصُوبِ مِنْهُ وَالْمَقْذُوفِ وَسَائِرِ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ منعقد على أنها لا تسقط بالتوبة، ولكنه لا بد من ردها إِلَيْهِمْ فِي صِحَّةِ التَّوْبَةِ فَإِنَّ تَعَذَّرَ ذَلِكَ فلا بد من المطالبة يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ وُقُوعِ المطالبة وقوع المجازاة، إذ قد يَكُونُ لِلْقَاتِلِ أَعْمَالٌ صَالِحَةٌ تُصْرَفُ إِلَى الْمَقْتُولِ أَوْ بَعْضُهَا، ثُمَّ يَفْضُلُ لَهُ أَجْرٌ يَدْخُلُ به الجنة أو يعوض الله المقتول بما يشاء مِن فَضْلِهِ مِنْ قُصُورِ الْجَنَّةِ وَنَعِيمِهَا، وَرَفْعِ دَرَجَتِهِ فِيهَا نحو ذلك والله أعلم.
ثم لقاتل الْعَمْدِ أَحْكَامٌ فِي الدُّنْيَا وَأَحْكَامٌ فِي الْآخِرَةِ، فأما فِي الدُّنْيَا فَتَسَلُّطُ أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ عَلَيْهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا﴾ الآية، ثُمَّ هُمْ مُخَيَّرُونَ بَيْنَ أَنْ يَقْتُلُوا، أَوْ يَعْفُوا، أَوْ يَأْخُذُوا دِيَةً مُغَلَّظَةً - أَثْلَاثًا - ثَلَاثُونَ حِقَّةً وَثَلَاثُونَ جَذْعَةً وَأَرْبَعُونَ خِلْفَةً، كَمَا هُوَ مقرر في كتاب الْأَحْكَامِ، وَاخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ هَلْ تَجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ عِتْقُ رَقَبَةٍ، أَوْ صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ أَوْ إِطْعَامٌ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي كَفَّارَةِ الْخَطَأِ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ: نَعَمْ يَجِبُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ إذا وجبت عليه الْكَفَّارَةُ فِي الْخَطَأِ فَلَأَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ فِي العمد أولى فطردوا هذا في كفارة اليمن الغموس، وقال أَصْحَابُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَآخَرُونَ: قَتْلُ الْعَمْدِ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُكَفَّرَ فَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ وَكَذَا اليمين الغموس، وَقَدِ احْتَجَّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ بِمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَرٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ فَقَالُوا: إِنَّ صَاحِبًا لَنَا قَدْ أَوْجَبَ، قَالَ: «فَلْيُعْتِقْ رَقَبَةً يَفْدِي اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ منها عضواً منه من النار».
روى أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ بِنَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرعى غنماً له فسلم عليهم فقالوا: لا يسلم عَلَيْنَا إِلَّا لِيَتَعَوَّذَ مِنَّا، فَعَمَدُوا إِلَيْهِ فَقَتَلُوهُ، واتو بِغَنَمِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {يَا أَيُّهَا الذين
وَقَوْلُهُ تعالى ﴿كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ أَيْ قَدْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِ هَذِهِ الْحَالِ كَهَذَا الَّذِي يُسِرُّ إِيمَانَهُ وَيُخْفِيهِ مِنْ قَوْمِهِ كما قَالَ تَعَالَى: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأرض﴾ الآية. عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِّن قَبْلُ﴾ تَسْتَخْفُونَ بِإِيمَانِكُمْ كَمَا اسْتَخْفَى هَذَا الرَّاعِي بِإِيمَانِهِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَوْلُهُ: ﴿كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِّن قَبْلُ﴾ لَّمْ تَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ، ﴿فمنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ أَيْ تَابَ عَلَيْكُمْ فَحَلَفَ أُسَامَةُ لَا يَقْتُلُ رَجُلًا يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ الرَّجُلِ، وَمَا لَقِيَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ، وَقَوْلُهُ ﴿فَتَبَيَّنُواْ﴾ تَأْكِيدٌ لِمَا تَقَدَّمَ، وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً﴾ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هَذَا تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ.
- ٩٦ - دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً
قَالَ البخاري عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ ﴿لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْدًا فَكَتَبَهَا، فَجَاءَ ابْنُ أم مكتوم فشكا ضرارته، فأنزل الله ﴿غَيْرُ أُوْلِي الضرر﴾ وقال البخاري أيضاً عن سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ: أَنَّهُ رَأَى مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ فِي الْمَسْجِدِ قَالَ: فَأَقْبَلْتُ حَتَّى جَلَسْتُ إِلَى جَنْبِهِ، فَأَخْبَرَنَا أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ أَخْبَرَهُ أنَّ
وعن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ﴿لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضرر﴾ عن بدر والخارجون إلى بدر، ولما نَزَلَتْ غَزْوَةُ بَدْرٍ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ: إِنَّا أَعْمَيَانِ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَهَلْ لَنَا رُخْصَةٌ؟ فَنَزَلَتْ: ﴿لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ﴾ وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً فَهَؤُلَاءِ الْقَاعِدُونَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ ﴿وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجَاتٍ مِنْهُ﴾ عَلَى القاعدين من المءمنين غَيْرُ أُوْلِي الضرر. فقوله ﴿لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ كَانَ مُطْلَقًا فَلَمَّا نَزَلَ بِوَحْيٍ سَرِيعٍ ﴿غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ﴾ صَارَ ذَلِكَ مَخْرَجًا لِذَوِي الْأَعْذَارِ الْمُبِيحَةِ لِتَرْكِ الْجِهَادِ مِنِ الْعَمَى وَالْعَرَجِ وَالْمَرَضِ عَنْ مُسَاوَاتِهِمْ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ.
ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى بِفَضِيلَةِ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ﴿غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ﴾ وَكَذَا يَنْبَغِي أن يكون كما ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا سرتم من مسير وقال قَطَعْتُمْ مِنْ وَادٍ إِلَّا وَهُمْ مَعَكُمْ فِيهِ قَالُوا: وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: نعم حبسهم العذر" وفي رواية عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لقد تركتم بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا سِرْتُمْ مِنْ مَسِيرٍ وَلَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ وَلَا قَطَعْتُمْ مِنْ وَادٍ إلا وهم معكم فيه» قالوا: وكيف يكونون معنا فيه يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «نَعَمْ حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ» قال الشاعر في هذا المعنى:
يَا رَاحِلِينَ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ لَقَدْ * سِرْتُمْ جُسُومًا وَسِرْنَا نَحْنُ أَرْوَاحَا
إنَّا أَقَمْنَا عَلَى عُذْرٍ وَعَنْ قَدَرٍ * وَمَنْ أَقَامَ عَلَى عُذْرٍ فقد راحا
وقوله تعالى: ﴿وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾ أَيِ الْجَنَّةَ وَالْجَزَاءَ الْجَزِيلَ، وَفِيهِ دِلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْجِهَادَ لَيْسَ بِفَرْضِ عَيْنٍ بَلْ هُوَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً﴾ ثم أخبر سبحانه بِمَا فَضَّلَهُمْ بِهِ مِنَ الدَّرَجَاتِ، فِي غُرَفِ الجنات العاليات، ومغفرة الذنوب والزلات، وأحوال الرَّحْمَةِ وَالْبَرَكَاتِ، إِحْسَانًا مِنْهُ وَتَكْرِيمًا وَلِهَذَا قَالَ: ﴿دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً﴾.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ، مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ».
- ٩٨ - إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا
- ٩٩ - فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُورًا
- ١٠٠ - وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى
عن ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ نَاسًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا مع المشركين، يكثرون سوادهم عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يأتي السهم يرمى بِهِ فَيُصِيبُ أَحَدَهُمْ فَيَقْتُلُهُ أَوْ يُضْرَبُ عُنُقُهُ فيقتل، فأنزل الله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾ (رَوَاهُ البخاري) وقال ابن أبي حاتم عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَسْلَمُوا وَكَانُوا يَسْتَخِفُونَ بِالْإِسْلَامِ، فَأَخْرَجَهُمُ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ بَدْرٍ مَعَهُمْ فَأُصِيبَ بعضهم، قَالَ الْمُسْلِمُونَ: كَانَ أَصْحَابُنَا هَؤُلَاءِ مُسْلِمِينَ وَأُكْرِهُوا فَاسْتَغْفَرُوا لَهُمْ فَنَزَلَتْ ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظالمي أَنْفُسِهِمْ﴾ الْآيَةِ، قَالَ: فَكَتَبَ إِلَى مَنْ بَقِيَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ لَا عُذْرَ لَهُمْ. قَالَ: فخرجوا فلقيهم المشركون فأعطوهم التقية فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يِقُولُ آمَنَّا بالله﴾ (أخرجه ابن أبي حاتم) الآية، قال الضَّحَّاكُ: نَزَلَتْ فِي نَاسٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ وَخَرَجُوا مَعَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ فَأُصِيبُوا فِيمَنْ أُصِيبَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَامَّةً فِي كُلِّ مَنْ أَقَامَ بَيْنَ ظَهَرَانَيِ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْهِجْرَةِ وَلَيْسَ مُتَمَكِّنًا مِنْ إِقَامَةِ الدِّينِ فَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُرْتَكِبٌ حَرَامًا بِالْإِجْمَاعِ، وَبِنَصِّ هَذِهِ الْآيَةِ حَيْثُ يَقُولُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾ أَيْ بِتَرْكِ الْهِجْرَةِ ﴿قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ﴾ أَيْ لِمَ مكثتم ها هنا وَتَرَكْتُمُ الْهِجْرَةَ؟ ﴿قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ﴾ أَيْ لَا نَقْدِرُ عَلَى الْخُرُوجِ مِنَ الْبَلَدِ، وَلَا الذَّهَابِ فِي الْأَرْضِ ﴿قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً﴾ الآية، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ جَامَعَ الْمُشْرِكَ وَسَكَنَ مَعَهُ فَإِنَّهُ مِثْلُهُ» (أخرجه أبو داود في السنن)
وقوله تعالى: ﴿إِلاَّ المستضعفين﴾ إلى آخر الآية، هذا عذر من الله لِهَؤُلَاءِ فِي تَرْكِ الْهِجْرَةِ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْ أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ وَلَوْ قَدَرُوا مَا عَرَفُوا يَسْلُكُونَ الطَّرِيقَ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً﴾ قَالَ مجاهد: يَعْنِي طَرِيقًا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ﴾ أي يتجاوز الله عنهم بترك الهجرة، و (عسى) مِنَ اللَّهِ مُوجِبَةٌ ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً﴾ قال البخاري عن أبي هريرة قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الْعِشَاءَ إِذْ قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ؛ ثُمَّ قَالَ قَبْلَ أَنْ يَسْجُدَ: "اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة، اللهم أنج سلمة بن هشام، اللهم أنج الوليد بن الوليد اللهم أنج الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا سِنِينَ كَسِنِيِّ يُوسُفَ}، وَقَالَ البخاري عن ابن عباس: ﴿إِلاَّ المستضعفين﴾ قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَأُمِّي مِمَّنْ عَذَرَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ.
وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأرض مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً﴾ وهذا تَحْرِيضٌ عَلَى الْهِجْرَةِ، وَتَرْغِيبٌ فِي مُفَارَقَةِ الْمُشْرِكِينَ وَأَنَّ الْمُؤْمِنَ حَيْثُمَا ذَهَبَ وَجَدَ عَنْهُمْ مَنْدُوحَةً وملجأ يتحصن فيه، والمراغم مَصْدَرٌ تَقُولُ الْعَرَبُ: رَاغَمَ فُلَانُ قَوْمَهُ مُرَاغَمًا ومراغمة، قال النابغة ابن جَعْدَةَ:
كَطَوْدٍ يُلَاذُ بِأَرْكَانِهِ * عَزِيزُ الْمُرَاغَمِ وَالْمَهْرَبِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُرَاغَمُ التَّحَوُّلُ مِنْ أَرْضٍ إلى أرض، وَقَالَ مُجَاهِدٌ ﴿مُرَاغَماً كَثِيراً﴾ يَعْنِي: مُتَزَحْزَحًا عَمَّا يكره، والظاهر والله أعلم أنه المنع الذي يتخلص بِهِ وَيُرَاغَمُ بِهِ الْأَعْدَاءُ، قَوْلُهُ: ﴿وَسَعَةً﴾ يَعْنِي الرِّزْقَ قَالَهُ غَيْرُ
وقوله تَعَالَى: ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ على الله﴾ أي وَمَن يَخْرُجْ مِن مَنْزِلِهِ بِنِيَّةِ الْهِجْرَةِ فَمَاتَ فِي أَثْنَاءِ الطريق فقد حصل له عند اللَّهِ ثَوَابُ مَنْ هَاجَرَ كَمَا ثَبَتَ فِي الصحيحين عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بالنيات وإنما لكل امرىء مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَن كَانَتْ هجرته إلى دنيا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» وَهَذَا عَامٌّ فِي الْهِجْرَةِ وَفِي جميع الْأَعْمَالِ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ الثَّابِتُ فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي الرجل الذي قتل تسعو وَتِسْعِينَ نَفْسًا، ثُمَّ أَكْمَلَ بِذَلِكَ الْعَابِدِ الْمِائَةَ ثُمَّ سَأَلَ عَالِمًا هَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ، فقال له: وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟ ثُمَّ أَرْشَدَهُ إِلَى أَنْ يَتَحَوَّلَ مِنْ بَلَدِهِ إِلَى بَلَدٍ أخرى يَعْبُدُ اللَّهَ فِيهِ، فَلَمَّا ارْتَحَلَ مِنْ بَلَدِهِ مهاجراً إلى البلد الأخرى أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، فَقَالَ هَؤُلَاءِ إِنَّهُ جَاءَ تَائِبًا، وَقَالَ هَؤُلَاءِ: إِنَّهُ لَمْ يَصِلْ بَعْدُ، فَأُمِرُوا أَنَّ يَقِيسُوا مَا بَيْنَ الْأَرْضَيْنِ فَإِلَى أَيِّهِمَا كان أقرب فهو منها، فأمر الله هذه أن تقترب مِنْ هَذِهِ، وَهَذِهِ أَنْ تَبْعُدَ فَوَجَدُوهُ أَقْرَبَ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي هَاجَرَ إِلَيْهَا بِشِبْرٍ، فَقَبَضَتْهُ ملائكة الرحمة.
قال الإمام أحمد عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَتِيكٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ خرج من بيته مجاهداً في سبيل الله، فخرَّ عن دابته فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، أَوْ لَدَغَتْهُ دَابَّةٌ فَمَاتَ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، أَوْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ على الله» وقال ابن أبي حاتم عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تعالى عنهما قَالَ: خَرَجَ (ضَمْرَةُ بْنُ جُنْدَبٍ) إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فنزلت الآية، وقال الحافظ أبو يعلى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ خَرَجَ حَاجًّا فَمَاتَ كُتِبَ لَهُ أَجْرُ الْحَاجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ خَرَجَ مُعْتَمِرًا فَمَاتَ كُتِبَ لَهُ أَجْرُ الْمُعْتَمِرِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ خَرَجَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمَاتَ كُتِبَ لَهُ أجر الغازي إلى يوم القيامة».
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ أَيْ سَافَرْتُمْ فِي الْبِلَادِ كَمَا قَالَ تعالى: ﴿وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرض﴾ وَقَوْلُهُ: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلَاةِ﴾ أَيْ تُخَفِّفُوا فِيهَا إِمَّا مِنْ كَمِّيَّتِهَا بِأَنْ تُجْعَلَ الرُّبَاعِيَّةُ ثُنَائِيَّةً كَمَا فَهِمَهُ الْجُمْهُورُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَاسْتَدَلُّوا بِهَا عَلَى قَصْرِ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ فَمِنْ قَائِلٍ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ سَفَرَ طَاعَةٍ: مِنْ جِهَادٍ، أَوْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، أو طلب علم، أو زيارة، أو غير ذلك.
وَمِنْ قَائِلٍ لَا يُشْتَرَطُ سَفَرُ الْقُرْبَةِ، بَلْ لا بد أن كون مُبَاحًا لِقَوْلِهِ: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ متجانف لإثم﴾ الآية، كما أباح له تناول الميتة مع الاضطرار بشرط أن لا يَكُونَ عَاصِيًا بِسَفَرِهِ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ
فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ دَالَّةٌ صَرِيحًا عَلَى أَنَّ الْقَصْرَ لَيْسَ مَنْ شَرْطِهِ وُجُودُ الْخَوْفِ وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِنَّ الْمُرَادَ مِنَ القصر ههنا إِنَّمَا هُوَ قَصْرُ الْكَيْفِيَّةِ لَا الْكَمِّيَّةِ وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ وَالسُّدِّيِّ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، وَاعْتَضْدُوا أَيْضًا بِمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ مَالِكٌ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: فُرَضَتِ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فِي السِّفْرِ وَالْحَضَرِ فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السفر؛ وزيد في صلاة الحضر، قَالُوا: فَإِذَا كَانَ أَصْلُ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ اثنتين فكيف يكون المراد بالقصر ههنا قَصْرَ الْكَمِّيَّةِ لِأَنَّ مَا هُوَ الْأَصْلُ لَا يُقَالُ فِيهِ: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلَاةِ﴾ وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ دَلَالَةً عَلَى هذا ما رواه الإمام أحمد عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: صَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ، وَصَلَاةُ الْأَضْحَى رَكْعَتَانِ، وَصَلَاةُ الْفِطْرِ رَكْعَتَانِ، وَصَلَاةُ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَانِ تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، زاد مسلم والنسائي عن عبد الله بن عابس قَالَ: فَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ، وَفِي الخوف ركعة، فَكَمَا يُصَلَّى فِي الْحَضَرِ قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا فَكَذَلِكَ يصلي في السفر. فَهَذَا ثَابِتٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ
وقال ابن جرير عَنْ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدِ بن أسيد قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: إِنَّا نَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ قَصْرَ (صَلَاةِ الْخَوْفِ) وَلَا نَجِدُ قَصْرَ (صَلَاةِ الْمُسَافِرِ) فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إِنَّا وَجَدْنَا نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْمَلُ عَمَلًا عَمِلْنَا بِهِ، فَقَدْ سَمَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ مَقْصُورَةً وَحَمَلَ الْآيَةَ عَلَيْهَا لَا عَلَى قَصْرِ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ، وَأَقَرَّهُ ابْنُ عُمَرَ عَلَى ذلك واحتج على قصر الصلاة بِفِعْلِ الشَّارِعِ لَا بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَأَصْرَحُ مِنْ هذا ما رواه ابن جرير أيضاً عن سماك الحنفي قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ عَنْ صَلَاةِ السَّفَرِ فَقَالَ: رَكْعَتَانِ تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ إِنَّمَا الْقَصْرُ في صَلَاةُ الْمَخَافَةِ فَقُلْتُ: وَمَا صَلَاةُ الْمَخَافَةِ؟ فَقَالَ: يُصَلِّي الْإِمَامُ بِطَائِفَةٍ رَكْعَةً ثُمَّ يَجِيءُ هَؤُلَاءِ إِلَى مَكَانِ هَؤُلَاءِ وَيَجِيءُ هَؤُلَاءِ إِلَى مَكَانِ هَؤُلَاءِ فَيُصَلِّي بِهِمْ رَكْعَةً فَيَكُونُ لِلْإِمَامِ رَكْعَتَانِ وَلِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَةٌ رَكْعَةٌ.
صَلَاةُ الْخَوْفِ أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ فَإِنَّ الْعَدُوَّ تَارَةً يَكُونُ تُجَاهَ الْقِبْلَةِ، وَتَارَةً يَكُونُ فِي غَيْرِ صَوْبِهَا، والصلاة تارة تكون رباعية، وتارة تكون ثلاثة كالمغرب، وتارة تكون ثُنَائِيَّةً كَالصُّبْحِ وَصَلَاةِ السَّفَرِ، ثُمَّ تَارَةً يُصَلُّونَ جَمَاعَةً وَتَارَةً يَلْتَحِمُ الْحَرْبُ فَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى الجماعة، بل يصلون فرادى مستقبلي القبلة غير مُسْتَقْبِلِيهَا وَرِجَالًا وَرَكِبَانَا، وَلَهُمْ أَنْ يَمْشُوا وَالْحَالَةُ هَذِهِ وَيَضْرِبُوا الضَّرْبَ الْمُتَتَابِعَ فِي مَتْنِ الصَّلَاةِ. وَمِنِ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: يُصَلُّونَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ رَكْعَةً وَاحِدَةً لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَقَدِّمِ وَبِهِ قال أحمد بن حنبل، وقال إسحاق بن راهوية: أما عند المسايفة فيجزيك ركعة واحدى تومىء بِهَا إِيمَاءً. فَإِنْ لَمْ تَقْدِرْ فَسَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ لأنها ذِكْرِ الله. وَمَن الْعُلَمَاءِ مَنْ أَبَاحَ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ لِعُذْرِ
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ﴾ أَيْ إِذَا صَلَّيْتَ بِهِمْ إِمَامًا فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ وَهَذِهِ حَالَةٌ غَيْرُ الْأُولَى، فَإِنَّ تلك قصرها إلى ركعتة - كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ - فُرَادَى وَرِجَالًا وَرُكْبَانَا مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةَ وَغَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا، ثُمَّ ذَكَرَ حَالَ الِاجْتِمَاعِ وَالِائْتِمَامِ بِإِمَامٍ وَاحِدٍ وَمَا أَحْسَنَ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ ذَهَبَ إِلَى وُجُوبِ الْجَمَاعَةِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ حَيْثُ اغْتُفِرَتْ أَفْعَالٌ كثيرة لأجل الجماعة فلولا أنها واجبة ما سَاغَ ذَلِكَ وَأَمَّا مَنِ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ مَنْسُوخَةٌ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِهِ ﴿وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ﴾ فَبَعْدَهُ تَفُوتُ هَذِهِ الصِّفَةُ فَإِنَّهُ اسْتِدْلَالٌ ضَعِيفٌ، وَيُرَدُّ عَلَيْهِ مِثْلَ قَوْلِ مَانِعِي الزَّكَاةِ الَّذِينَ احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سكن لهم﴾ قَالُوا: فَنَحْنُ لَا نَدْفَعُ زَكَاتَنَا بَعْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَحَدٍ، بَلْ نُخْرِجُهَا نحن بأيديدنا معلى من نراه، ولا ندفعها إلى إلى صِلَاتُهُ أَيْ دُعَاؤُهُ سَكَنٌ لَنَا، وَمَعَ هَذَا رَدَّ عَلَيْهِمُ الصَّحَابَةُ وَأَبَوْا عَلَيْهِمْ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ وَأَجْبَرُوهُمْ عَلَى أَدَاءِ الزَّكَاةِ وَقَاتَلُوا مَنْ مَنَعَهَا منهم.
ولنذكر سبب نزل هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَوَّلًا قَبْلَ ذِكْرِ صِفَتِهَا قال ابن جرير عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَأَلَ قَوْمٌ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَضْرِبُ فِي الْأَرْضِ فَكَيْفَ نُصَلِّي؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلَاةِ﴾ ثم انقطع الوحي، فلما كان كذلك بِحَوْلٍ غَزَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى الظُّهْرَ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ لَقَدْ أَمْكَنَكُمْ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ مِنْ ظُهُورِهِمْ هلاَّ شَدَدْتُمْ عَلَيْهِمْ؟ فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: إِنَّ لَهُمْ أُخْرَى مِثْلَهَا فِي إِثْرِهَا قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ ﴿إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ الآيتين فنزلت صلاة الخوف.
وعن أبي عياش الزرقي قال: منا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعُسْفَانَ فَاسْتَقْبَلَنَا الْمُشْرِكُونَ عَلَيْهِمْ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وهم بيننا وبين القبلة فَصَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ فَقَالُوا: لَقَدْ كَانُوا عَلَى حَالٍ لو أصبنا غرتهم، ثم قالوا: يأتي عَلَيْهِمُ الْآنَ صَلَاةٌ هِيَ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنْ أَبْنَائِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، قَالَ: فَنَزَلَ جِبْرِيلُ بِهَذِهِ الْآيَاتِ بين الظهر العصر ﴿وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ﴾ قَالَ: فحضرت فَأَمَرَهُمْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذُوا السِّلَاحَ قَالَ: فَصَفَّنَا خَلْفَهُ صَفَّيْنِ قَالَ: ثُمَّ رَكَعَ فَرَكَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ رَفَعَ فَرَفَعْنَا جَمِيعًا ثُمَّ سَجَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّفِّ الَّذِي يَلِيهِ وَالْآخَرُونَ قِيَامٌ يَحْرُسُونَهُمْ، فَلَمَّا سَجَدُوا وَقَامُوا جَلَسَ الْآخَرُونَ فَسَجَدُوا فِي مَكَانِهِمْ، ثُمَّ تَقَدَّمَ هَؤُلَاءِ إِلَى مَصَافِّ هَؤُلَاءِ ثم هَؤُلَاءِ إِلَى مَصَافِّ هَؤُلَاءِ ثُمَّ رَكَعَ فَرَكَعُوا جَمِيعًا ثُمَّ رَفَعَ فَرَفَعُوا جَمِيعًا، ثُمَّ سَجَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ وَالْآخَرُونَ قِيَامٌ يَحْرُسُونَهُمْ، فَلَمَّا جَلَسُوا جَلَسَ الْآخَرُونَ فَسَجَدُوا، ثُمَّ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ انْصَرَفَ قَالَ: فَصَلَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً
وروى الإمام أحمد عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَاتِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَارِبَ خَصَفَةَ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ (غَوْرَثُ بْنُ الْحَارِثِ) حَتَّى قَامَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسَّيْفِ فَقَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قَالَ: «اللَّهُ» فَسَقَطَ السَّيْفُ مِنْ يَدِهِ فَأَخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «وَمَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي» قَالَ: كُنْ خَيْرَ آخِذٍ قَالَ: «أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ»؟ قَالَ: لَا، وكن أعاهدك أن لا أُقَاتِلَكَ وَلَا أَكُونُ مَعَ قَوْمٍ يُقَاتِلُونَكَ فَخَلَّى سبيله، فَقَالَ: جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ خَيْرِ النَّاسِ، فَلَمَّا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْخَوْفِ فَكَانَ النَّاسُ طَائِفَتَيْنِ، طائفة بإزاء العدو. وَطَائِفَةٌ صَلَّوْا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى بِالطَّائِفَةِ الَّذِينَ مَعَهُ رَكْعَتَيْنِ وانصرفوا فكانوا مكان الطائفة الذين كانوا بإزاء العدو ثم انصرف الذين كانوا بإزاء العدو فَصَّلُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْنِ فَكَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ وَلِلْقَوْمِ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ (تفرد به الإمام أحمد) وَأَمَّا الْأَمْرُ بِحَمْلِ السِّلَاحِ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ فَمَحْمُولٌ عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْوُجُوبِ لِظَاهِرِ الْآيَةِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ وَيَدُلُّ عليه قول الله تعالى: ﴿وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مرضى أن تضعو أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ﴾ أَيْ بِحَيْثُ تَكُونُونَ عَلَى أُهْبَةٍ إِذَا احْتَجْتُمْ إِلَيْهَا لَبِسْتُمُوهَا بِلَا كُلْفَةٍ ﴿إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾.
- ١٠٤ - وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيمًا
يَأْمُرُ اللَّهُ تَعَالَى بِكَثْرَةِ الذِّكْرِ عُقَيْبَ صَلَاةِ الْخَوْفِ وَإِنْ كَانَ مَشْرُوعًا مُرَغَّبًا فِيهِ أَيْضًا بعد غيرها ولكن ها هنا آكَدُ، لِمَا وَقَعَ فِيهَا مِنَ التَّخْفِيفِ فِي أَرْكَانِهَا، وَمِنَ الرُّخْصَةِ فِي الذَّهَابِ فِيهَا وَالْإِيَابِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ يُوجَدُ فِي غَيْرِهَا كما قال تعالى في الأشهر الحرام: ﴿فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أنفسكم﴾ وإن كان منهياًعنه في غيرها، ولكن فيه آكَدُ لِشِدَّةِ حُرْمَتِهَا وَعِظَمِهَا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ﴾ أَيْ فِي سَائِرِ أَحْوَالِكُمْ، ثُمَّ قال تعالى: ﴿فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ﴾ أَيْ فَإِذَا أَمِنْتُمْ وَذَهَبَ الْخَوْفُ، وَحَصَلَتِ الطُّمَأْنِينَةُ ﴿فَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ﴾ أَيْ فأتموها وأقيموها كما أمرتم بحدودها، وخشوعها، وركعوعها، وسجودها، وجميع شؤونها وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً﴾ قال ابن عباس: أي مفروضاً، وقال ابْنُ مَسْعُودٍ: إِنَّ لِلصَّلَاةِ وَقْتًا كَوَقْتِ الْحَجِّ، وقال زيد بن أسلم: منجماً كلما مضى نجم جاء نجم، يَعْنِي كُلَّمَا مَضَى وَقْتٌ جَاءَ وَقْتٌ.
وَقَوْلُهُ تعالى: ﴿وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ﴾ أَيْ لَا تَضْعُفُوا فِي طَلَبِ عَدُّوِّكُمْ، بَلْ جِدُّوا فِيهِمْ، وَقَاتَلُوهُمْ، وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ﴿إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ﴾ أَيْ كَمَا يُصِيبُكُمُ الْجِرَاحُ وَالْقَتْلُ كَذَلِكَ
- ١٠٦ - وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً
- ١٠٧ - وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا
- ١٠٨ - يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا
- ١٠٩ - هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم الْقِيَامَةِ أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا
يَقُولُ تَعَالَى مُخَاطِبًا لِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ أَيْ هُوَ حَقٌّ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ يَتَضَمَّنُ الْحَقَّ فِي خَبَرِهِ وَطَلَبِهِ، وَقَوْلُهُ: ﴿لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ﴾ احْتَجَّ بِهِ مَنْ ذَهَبَ من علماء الأصول إلى أنه كان ﷺ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِالِاجْتِهَادِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَبِمَا ثبت فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ جَلَبَةَ خَصْمٍ بِبَابِ حُجْرَتِهِ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: «أَلَا إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ وَإِنَّمَا أَقْضِي بِنَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ وَلَعَلَّ أَحَدَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِي لَهُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ فَإِنَّمَا هي قطعة من النار فليحملها أو ليذرها» وقال الإمام أحمد عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: جَاءَ رَجُلَانِ مِنَ الْأَنْصَارِ يَخْتَصِمَانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوَارِيثَ بَيْنَهُمَا قَدْ دَرَسَتْ لَيْسَ عِنْدَهُمَا بيِّنه، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَإِنَّمَا أنا بشر، ولعل بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، وَإِنَّمَا أَقْضِي بَيْنَكُمْ عَلَى نَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذْهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ يَأْتِي بِهَا انتظاماً فِي عُنُقِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» فَبَكَى الرَّجُلَانِ وَقَالَ كُلٌّ مِنْهُمَا: حَقِّي لِأَخِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَمَّا إِذَا قُلْتُمَا فاذهبا فاقتسما، ثم توخيا الحق بينكما ثم استهما، ثم ليحلل كل منكما صاحبه».
وقد روى ابن مردويه عن ابن عباس: إِنَّ نَفَرًا مِنَ الْأَنْصَارِ غَزَوْا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ فَسُرِقَتْ دِرْعٌ لِأَحَدِهِمْ فَأُظِنَّ بِهَا رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَأَتَى صَاحِبُ الدِّرْعِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: {إِنْ طُعْمَةَ بْنَ أُبَيْرِقٍ) سَرَقَ دِرْعِي، فَلَمَّا رَأَى السَّارِقُ ذَلِكَ عَمَدَ إِلَيْهَا فَأَلْقَاهَا فِي بَيْتِ رَجُلٍ بَرِيءٍ وَقَالَ لِنَفَرٍ مِنْ عَشِيرَتِهِ: إِنِّي غيَّبتُ الدِّرْعَ وَأَلْقَيْتُهَا فِي بَيْتِ فُلَانٍ وَسَتُوجَدُ عِنْدَهُ، فَانْطَلِقُوا إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلًا فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّ صَاحِبَنَا بَرِيءٌ وَإِنَّ صَاحِبَ الدِّرْعِ فُلَانٌ وَقَدْ أَحَطْنَا بِذَلِكَ عِلْمًا فَاعْذُرْ صَاحِبَنَا عَلَى رُؤُوسِ الناس وجادل عنه، فإنه إن لم يَعْصِمْهُ اللَّهُ بِكَ يَهْلِكْ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَرَّأَهُ وَعَذَرَهُ عَلَى رُؤُوسِ النَّاسِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ
وقد روى هذه القصة الترمذي وابن جرير عن (قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كان أهل بيت منا يقال لهم (بنوا أُبَيْرِقٍ) بِشْرٌ وَبُشَيْرٌ وَمُبَشِّرٌ، وَكَانَ بُشَيْرٌ رَجُلًا منافقاً يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يمحله لبعض الْعَرَبِ، ثُمَّ يَقُولُ: قَالَ فُلَانٌ كَذَا وَكَذَا، وَقَالَ فُلَانٌ كَذَا وَكَذَا، فَإِذَا سَمِعَ أَصْحَابُ رسول الله ﷺ ذلك الشِّعْرَ قَالُوا: وَاللَّهِ مَا يَقُولُ هَذَا الشِّعْرَ إلا هذا الرجل الْخَبِيثُ - أَوْ كَمَا قَالَ الرَّجُلُ - وَقَالُوا: ابْنُ الْأُبَيْرِقِ قَالَهَا، قَالُوا: وَكَانُوا أَهْلَ بَيْتِ حَاجَةٍ وَفَاقَةٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ، وَكَانَ النَّاسُ إِنَّمَا طَعَامُهُمْ بِالْمَدِينَةِ التَّمْرُ وَالشَّعِيرُ، وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا كان له يسار فقدمت ضافطة (المكارون الذين ينقلون التجارة من بلد إلى بلد) من الشام من الدرمك الدقيق الابيض) ابتاع الرجل منها فخص بها نفسه، أما الْعِيَالُ فَإِنَّمَا طَعَامُهُمُ التَّمْرُ وَالشَّعِيرُ فَقَدِمَتْ ضَافِطَةٌ مِنَ الشَّامِ فَابْتَاعَ عَمِّي (رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ) حملاً من الدرمك فجعله في مشربة له، وفي المشربة سلاح ودرع وَسَيْفٌ، فَعُدِيَ عَلَيْهِ مِنْ تَحْتِ الْبَيْتِ فَنُقِبَتِ الْمَشْرَبَةُ وَأُخِذَ الطَّعَامُ وَالسِّلَاحُ. فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَانِي عَمِّي (رِفَاعَةُ) فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي إِنَّهُ قَدْ عُدِيَ عَلَيْنَا فِي لَيْلَتِنَا هَذِهِ فَنُقِبَتْ مشربتنان فذهب بطعامنا وسلاحنا، قال فتحسسنا فِي الدَّارِ وَسَأَلْنَا فَقِيلَ لَنَا: قَدْ رَأَيْنَا بَنِي أُبَيْرِقٍ اسْتَوْقَدُوا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ وَلَا نَرَى فِيمَا نَرَى إِلَّا عَلَى بَعْضِ طَعَامِكُمْ قال: وكان بنوا أُبَيْرِقٍ قَالُوا - وَنَحْنُ نَسْأَلُ فِي الدَّارِ - وَاللَّهِ مَا نَرَى صَاحِبَكُمْ إِلَّا (لَبِيدَ بْنَ سَهْلٍ) رَجُلًا مِنَّا لَهُ صَلَاحٌ وَإِسْلَامٌ، فَلَمَّا سَمِعَ لَبِيدٌ اخْتَرَطَ سَيْفَهُ، وَقَالَ: أَنَا أَسْرِقُ!؟ وَاللَّهِ لَيُخَالِطَنَّكُمْ هَذَا السَّيْفُ، أَوْ لتبينُنَّ هَذِهِ السَّرِقَةَ، قالو: إِلَيْكَ عَنَّا أَيُّهَا الرَّجُلُ فَمَا أَنْتَ بِصَاحِبِهَا، فَسَأَلْنَا فِي الدَّارِ حَتَّى لَمْ نَشُكَّ أَنَّهُمْ أَصْحَابُهَا، فَقَالَ لِي عَمِّي: يَا ابْنَ أَخِي لَوْ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْتَ ذَلِكَ لَهُ قَالَ قَتَادَةُ: فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلت: إِنَّ أَهْلَ بَيْتٍ مِنَّا أَهَّلُ جَفَاءٍ عَمَدُوا إِلَى عَمِّي رِفَاعَةَ بْنِ زَيْدٍ فَنَقَبُوا مُشْرَبَةً له، أخذوا سِلَاحَهُ وَطَعَامَهُ، فَلْيَرُدُّوا عَلَيْنَا سِلَاحَنَا، فَأَمَّا الطَّعَامُ فَلَا حَاجَةَ لَنَا فِيهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «سَآمُرُ فِي ذَلِكَ» فَلَمَّا سمع بذلك (بنوا أبيرق) أتو رجلاً منها يقال له (أسيد بن عروة) فَكَلَّمُوهُ فِي ذَلِكَ، فَاجْتَمَعَ فِي ذَلِكَ أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ الدَّارِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ قَتَادَةَ بْنَ النُّعْمَانِ وَعَمَّهُ عَمِدَا إِلَى أَهْلِ بَيْتٍ مِنَّا أَهْلِ إِسْلَامٍ وَصَلَاحٍ يَرْمُونَهُمْ بِالسَّرِقَةِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلَا ثَبْتٍ، قَالَ قَتَادَةُ: فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلكلمته فَقَالَ: «عَمَدْتَ إِلَى أَهْلِ بَيْتٍ ذُكِرَ مِنْهُمْ إِسْلَامٌ وَصَلَاحٌ تَرْمِيهِمْ بِالسَّرِقَةِ عَلَى غَيْرِ ثَبْتٍ وَلَا بَيِّنَةٍ»، قَالَ: فَرَجَعْتُ وَلَوَدِدْتُ أَنِّي خَرَجْتُ مِنْ بَعْضِ مَالِي وَلَمْ أُكَلِّمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ، فَأَتَانِي عَمِّي رِفَاعَةُ فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي مَا صَنَعْتَ؟ فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، فَلَمْ نَلْبَثْ أَنْ نَزَلَ الْقُرْآنُ: ﴿إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ المتاب بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً﴾ يعني بين أبيرق ﴿واستغفر الله﴾ أي مِمَّا قُلْتَ لِقَتَادَةَ ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً، ولا تجادل الذين يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ - إِلَى قَوْلِهِ - رَّحِيماً﴾ أَيْ لَوِ اسْتَغْفَرُوا اللَّهَ لَغَفَرَ لَهُمْ {وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ على نفسه
فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ أَتَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسِّلَاحِ فَرَدَّهُ إِلَى رِفَاعَةَ، فَقَالَ قَتَادَةُ: لَمَّا أَتَيْتُ عَمِّي بِالسِّلَاحِ وَكَانَ شَيْخًا قَدْ عمي أو عشي فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكُنْتُ أَرَى إِسْلَامَهُ مَدْخُولًا فَلَمَّا أتيته بالسلاح قال: يا ابن أخي هي فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَعَرَفْتُ أَنَّ إِسْلَامَهُ كَانَ صَحِيحًا، فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ لَحِقَ بُشَيْرٌ بِالْمُشْرِكِينَ فَنَزَلَ عَلَى (سُلَافَةَ بِنْتِ سَعْدِ بْنِ سُمَيَّةَ) فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهدى ويتع غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً، إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً﴾ فلما نزل على سلافة بنت سعد هجاها (حسان بن ثابت) بأبيات من شعر فَأَخَذَتْ رَحْلَهُ فَوَضَعَتْهُ عَلَى رَأْسِهَا ثُمَّ خَرَجَتْ به فرمته فِي الْأَبْطَحِ، ثُمَّ قَالَتْ: أَهْدَيْتَ لِي شِعْرَ حسان ما كنت تأتيني بخير (رواه الترمذي وابن جرير من حديث قتادة بن النعمان)
وقوله تَعَالَى: ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ﴾ الْآيَةَ، هَذَا إِنْكَارٌ عَلَى الْمُنَافِقِينَ فِي كَوْنِهِمْ يَسْتَخْفُونَ بِقَبَائِحِهِمْ مِنَ النَّاسِ لِئَلَّا يُنْكِرُوا عَلَيْهِمْ، ويجاهرون الله بها مع أنه مُطَّلِعٌ عَلَى سَرَائِرِهِمْ وَعَالَمٌ بِمَا فِي ضَمَائِرِهِمْ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً﴾ تَهْدِيدٌ لَهُمْ وَوَعِيدٌ، ثُمَّ قَالَ تعالى: وها أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الآية، أَيْ هَبْ أَنَّ هَؤُلَاءِ انْتَصَرُوا فِي الدُّنْيَا بِمَا أَبْدَوْهُ أَوْ أُبْدِيَ لَهُمْ عِنْدَ الْحُكَّامِ الَّذِينَ يَحْكُمُونَ بِالظَّاهِرِ وَهُمْ مُتَعَبِّدُونَ بِذَلِكَ، فَمَاذَا يَكُونُ صَنِيعُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تعالى الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى؟ وَمَنْ ذَا الَّذِي يتوكل لهم يومئذ يوم القيامة في ترويج دعواهم؟ أي لا أحد يومئذ يكون لَهُمْ وَكِيلًا، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً﴾؟..
- ١١١ - وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيمًا
- ١١٢ - وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً
- ١١٣ - وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ كَرَمِهِ وَجُودِهِ أَنَّ كُلَّ مَنْ تَابَ إِلَيْهِ تَابَ عَلَيْهِ مِنْ أَيِّ ذَنْبٍ كَانَ ﴿وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً﴾ قَالَ ابن عباس: أخبر الله عباده بعفوه وحلمه وَكَرَمِهِ، وَسَعَةِ رَحْمَتِهِ، وَمَغْفِرَتِهِ، فَمَنْ أَذْنَبَ ذَنَبًا صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا ﴿ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً﴾ وَلَوْ كَانَتْ ذُنُوبُهُ أعظم من السموات والأرض والجبال (أخرجه ابن جري عن ابن عباس) وقال ابن جرير قال عبد الله: كان بنوا إِسْرَائِيلَ إِذَا أَصَابَ أَحَدُهُمْ ذَنْبًا أَصْبَحَ
وقوله تعالى: ﴿وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ﴾ الآية، كقوله تعالى: ﴿ولا تزرو وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى﴾ الآية، يعني أنه لا يغني أحد عن أَحَدٍ، وَإِنَّمَا عَلَى كُلِّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ لَا يَحْمِلُ عَنْهَا غَيْرُهَا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً﴾ أَيْ مِنْ عِلْمِهِ وَحَكْمَتِهِ، وَعَدْلِهِ وَرَحْمَتِهِ كَانَ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً﴾ الآية يَعْنِي كَمَا اتَّهَمَ بَنُو أُبَيْرِقٍ: بِصَنِيعِهِمُ الْقَبِيحِ ذَلِكَ الرَّجُلَ الصَّالِحَ وَهُوَ لَبِيدُ بْنُ سَهْلٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ، أَوْ زَيْدُ بْنُ السَّمِينِ الْيَهُودِيُّ عَلَى مَا قَالَهُ الْآخَرُونَ وَقَدْ كَانَ بَرِيئًا وَهُمُ الظَّلَمَةُ الْخَوَنَةُ كَمَا أَطْلَعَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ ثُمَّ هَذَا التَّقْرِيعُ وَهَذَا التَّوْبِيخُ عَامٌّ فيهم وفي غيرهم ممن اتصف بصفتهم فارتكب مِثْلَ خَطِيئَتِهِمْ فَعَلَيْهِ مَثَلَ عُقُوبَتِهِمْ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ﴾ وقال الإمام ابن أبي حاتم عن قَتَادَةَ بْنَ النُّعْمَانِ وَذَكَرَ قِصَّةَ بَنِي أُبَيْرِقٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿لَهَمَّتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ﴾ يعني أسيد بْنَ عُرْوَةَ وَأَصْحَابَهُ يَعْنِي بِذَلِكَ لَمَّا أَثْنَوْا عَلَى بَنِي أُبَيْرِقٍ وَلَامُوا قَتَادَةَ بْنَ النُّعْمَانِ فِي كَوْنِهِ اتَّهَمَهُمْ وَهُمْ صُلَحَاءُ بُرَآءُ وَلَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَمَا أَنْهَوْهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِهَذَا أَنْزَلَ اللَّهُ فصل القضية وجلاءها لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ امْتَنَّ عَلَيْهِ بِتَأْيِيدِهِ إِيَّاهُ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ؛ وَعِصْمَتِهِ لَهُ؛ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَهُوَ الْقُرْآنُ وَالْحِكْمَةُ؛ وَهِيَ السُّنَّةُ ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾ أي قَبِلَ نُزُولِ ذَلِكَ عَلَيْكَ كَقَوْلِهِ: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب﴾ إلى آخر السورة؛ وقال تعالى: ﴿وما كُنتَ ترجوا أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ﴾ ولهذا قال: ﴿وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾.
- ١١٥ - وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءْتُ مَصِيرًا
وقوله تَعَالَى: ﴿وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى﴾ أَيْ وَمَنْ سَلَكَ غَيْرَ طَرِيقِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَارَ فِي شِقٍّ، وَالشَّرْعُ فِي شِقٍّ وَذَلِكَ عَنْ عَمْدٍ مِنْهُ، بَعْدَمَا ظَهَرَ لَهُ الْحَقُّ وَتَبَيَّنَ لَهُ وَاتَّضَحَ لَهُ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ هَذَا مُلَازِمٌ لِلصِّفَةِ الْأُولَى، وَلَكِنْ قَدْ تَكُونُ الْمُخَالَفَةُ لِنَصِّ الشارع وقد تكون لما اجتمعت عَلَيْهِ الْأُمَّةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ، فِيمَا عُلِمَ اتِّفَاقُهُمْ عَلَيْهِ تَحْقِيقًا، فَإِنَّهُ قَدْ ضُمِنَتْ لَهُمُ الْعِصْمَةُ فِي اجْتِمَاعِهِمْ مِنَ الْخَطَأِ، تَشْرِيفًا لَهُمْ وَتَعْظِيمًا لِنَبِيِّهِمْ، وقد وردت أحاديث صحيحة كثيرة في ذلك. وَمِنِ الْعُلَمَاءِ مَنِ ادَّعَى تَوَاتُرَ مَعْنَاهَا، وَالَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الِاحْتِجَاجِ عَلَى كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً تَحْرُمُ مُخَالَفَتُهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ بَعْدَ التَّرَوِّي وَالْفِكْرِ الطَّوِيلِ، وَهُوَ مِنْ أَحْسَنِ الِاسْتِنْبَاطَاتِ وَأَقْوَاهَا وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ قد استشكل ذلك فاستبعد الدِّلَالَةَ مِنْهَا عَلَى ذَلِكَ وَلِهَذَا تَوَعَّدَ تَعَالَى على ذلك بقول: ﴿نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً﴾ أي إذا سلك هذه الطريق جازيناه علىذلك بِأَنْ نُحْسِّنَهَا فِي صَدْرِهِ وَنُزَيِّنَهَا لَهُ اسْتِدْرَاجًا لَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ وَقَوْلُهُ: ﴿وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ وَجَعْلَ النَّارَ مَصِيرَهُ فِي الْآخِرَةِ لِأَنَّ مَنْ خَرَجَ عَنِ الْهُدَى لَمْ يَكُنْ لَهُ طَرِيقٌ إِلَّا إِلَى النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ﴾ الآية وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مصرفاً﴾.
- ١١٧ - إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً
- ١١٨ - لَّعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً
- ١١٩ - وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا
- ١٢٠ - يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا
- ١٢١ - أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا
- ١٢٢ - وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ
قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك﴾ الآية، وَذَكَرْنَا مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي صدر هذه السورة وقد روى الترمذي عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ هذه الآية: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ الآية. وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً﴾ أَيْ فَقَدْ سَلَكَ غَيْرَ الطَّرِيقِ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنِ الْهُدَى وَبَعُدَ عَنِ الصَّوَابِ وَأَهْلَكَ نفسه، وخسرها في الدنيا والآخرة، فاتته سَعَادَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَقَوْلُهُ: ﴿إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً﴾، عن عائشة قالت: أوثاناً، وقال ابن جرير عن الضحاك في الآية قال المشركون للملائكة: بَنَاتُ اللَّهِ، وَإِنَّمَا نَعْبُدُهُمْ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زلفى، قال: فاتخذوهن أبابا وصوروهن جواري فَحَكَمُوا وَقَلَّدُوا، وَقَالُوا: هَؤُلَاءِ يُشْبِهْنَ بَنَاتَ اللَّهِ الَّذِي نَعْبُدُهُ يَعْنُونُ الْمَلَائِكَةَ وَهَذَا التَّفْسِيرُ شَبِيهٌ بقول الله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللات والعزى﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَجَعَلُواْ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً﴾، وقال: ﴿وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً﴾ وقال ابْنِ عَبَّاسٍ ﴿إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً﴾ قال: عني موتى، وقال الْحَسَنُ: الْإِنَاثُ كُلُّ شَيْءٍ مَيِّتٍ لَيْسَ فِيهِ رُوحٌ، إِمَّا خَشَبَةٌ يَابِسَةٌ، وَإِمَّا حَجَرٌ يَابِسٌ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيداً﴾ أَيْ هو الذي أمرهم بذلك وحسنه وزينه لهم وهم إنما يعبدون إبليس في نفسه الأمر كما قال تعالى: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إليك يا بني آدم إلا تعبدوا الشيطان﴾ الآية، وَقَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنِ الْمَلَائِكَةِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ يوم القيامة عن المشركني الذي ادَّعَوْا عِبَادَتَهُمْ فِي الدُّنْيَا ﴿بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ﴾ وقول: ﴿لَّعَنَهُ اللَّهُ﴾ أَيْ طَرَدَهُ وَأَبْعَدَهُ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ جِوَارِهِ وَقَالَ: ﴿لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً﴾ أَيْ مُعَيَّنًا مُقَدَّرًا مَعْلُومًا، قَالَ قتادة مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِائَةٌ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ إِلَى النَّارِ، وَوَاحِدٌ إِلَى الْجَنَّةِ ﴿وَلأُضِلَّنَّهُمْْ﴾ أَيْ عَنِ الْحَقِّ ﴿وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ﴾ أَيْ أُزَيِّنُ لَهُمْ تَرْكَ التَّوْبَةِ، وَأَعِدُهُمُ الْأَمَانِيَ، وَآمُرُهُمْ بِالتَّسْوِيفِ وَالتَّأْخِيرِ، وَأَغُرُّهُمْ مِنْ أنفسهم. قوله: ﴿وَلأَمُرَنَّهُمْ فلّيبتكنَّ آذَانَ الأنعام﴾ قال قتادة يَعْنِي تَشْقِيقَهَا وَجَعْلَهَا سِمَةً، وَعَلَامَةً لِلْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ والوصيلة ﴿وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يعني بذللك خصي الدواب، وقال الْحَسَنِ الْبَصْرِيُّ: يَعْنِي بِذَلِكَ الْوَشْمَ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ النَّهْيُ عَنِ الْوَشْمِ فِي الْوَجْهِ، وَفِي لَفْظٍ، لَعَنَ اللَّهُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: لَعَنَ الله الواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنمصات (النامصات: ناتفات الزغب والشعر من الوجه، والمتنمصات: اللواتي ينتف الشعر من وجوههن) والمتفلجات (المتفلجات: اللواتي يبردن أطراف أسنانهن للتجميل) للحُسْن الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، ثُمَّ قَالَ أَلَا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ يَعْنِي قَوْلَهُ: ﴿وَمَآ آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا﴾
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ وَمُجَاهِدٌ والضحاك فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ﴾ يَعْنِي دين الله عزَّ وجلَّ وهذا كقوله: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لخلق الله﴾ عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ ذَلِكَ أَمْراً أَيْ لا تبدلوا فطرة الله ودعوا النا عَلَى فِطْرَتِهِمْ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
وقوله تَعَالَى: ﴿يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً﴾ وهذا إخبار عن الواقع فإن الشَّيْطَانَ يَعِدُ أَوْلِيَاءَهُ وَيُمَنِّيهِمْ بِأَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَقَدْ كَذَبَ وَافْتَرَى فِي ذلك، ولهذا قال الله تعالى: ﴿وَمَا يَعِدُهُمُ الشيطان إلاغروراً﴾، كَمَا قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ إِبْلِيسَ يَوْمَ الْمَعَادِ: ﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ - إلى قوله - وَإِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أليم﴾. وقوله: ﴿أولئك﴾ أَيِ الْمُسْتَحْسِنُونَ لَهُ فِيمَا وَعَدَهُمْ ومنَّاهم ﴿مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ﴾ أي مصيرهم ومآلهم يوم القيامة ﴿وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً﴾ أَيْ لَيْسَ لَهُمْ عَنْهَا مَنْدُوحَةٌ وَلَا مَصْرِفٌ، وَلَا خَلَاصٌ، وَلَا مناص، ثم ذكر تعالى حال السعداء والأتقياء وما لهم من الكرامة التامة فقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ﴾ أَيْ صَدَّقَتْ قُلُوبُهُمْ وَعَمِلَتْ جَوَارِحُهُمْ بِمَا أُمِرُوا بِهِ مِنَ الْخَيِّرَاتِ، وتركوا ما نهو عنها مِنَ الْمُنْكَرَاتِ ﴿سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنهار﴾ أي يصرفونها حيث شاءوا وأين شاءوا ﴿خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً﴾ أَيْ بِلَا زَوَالٍ وَلَا انْتِقَالٍ ﴿وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً﴾ أَيْ هَذَا وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ وَوَعْدُ اللَّهِ مَعْلُومٌ حَقِيقَةً أَنَّهُ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ، وَلِهَذَا أَكَّدَهُ بِالْمَصْدَرِ الدَّالِّ عَلَى تَحْقِيقِ الْخَبَرِ وَهُوَ قَوْلُهُ ﴿حَقًّا﴾ ثُمَّ قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً﴾؟ أَيْ لَا أحد أصدق منه قولاً أي خبراً لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ: «إِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كَلَامُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هديُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بدعة، وكل بدعة ضلالة، كل ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ».
- ١٢٤ - وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَالِحَاتِ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً
- ١٢٥ - وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا
- ١٢٦ - وَللَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا
قَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلَ الْكِتَابِ افْتَخَرُوا، فَقَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ: نَبِيُّنَا قَبْلَ نَبِيِّكُمْ وَكِتَابُنَا قَبْلَ كِتَابِكُمْ فَنَحْنُ أَوْلَى بِاللَّهِ مِنْكُمْ، وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: نَحْنُ أَوْلَى بِاللَّهِ مِنْكُمْ ونبينا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَكِتَابُنَا يَقْضِي عَلَى الْكُتُبِ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزّ بِهِ﴾ {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمَّا نَزَلَتْ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، قَالَ الإمام أحمد بسنده أخبرت إن أبا بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كيف الفلاح بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يعمل سوءاً يجزبه﴾ فكل سوء عملناه جُزيناه بِهِ! فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «غَفَرَ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَسْتَ تمرض؟ ألست تنصب؟ أَلَسْتَ تُصِيبُكَ اللَّأْوَاءُ»؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: «فَهُوَ مما تجزون به» وروى أبو بكر بن مردويه عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصَّدِّيقِ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً﴾ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يا أبا بكر ألا أقرئك آية أنزلت عليّ» قلت: بلى يا رسول الله قال: فأقرأنيها فلا أعلم أني قد وجدت انفصاماً في ظهري حتى تمطيت لَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مالك يَا أَبَا بَكْرٍ»؟ قُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يا رسول الله، وأينا لم يعلم السُّوءَ، وَإِنَّا لَمَجْزِيُّونَ بِكُلِّ سُوءٍ عَمِلْنَاهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أما أنت يا أبا بكر وأصحابك المؤمنون فإنكم تجزون بذلك في الدنيا حتى تلقوا الله ليس لكم ذنوب، وأما الآخرون فيجمع ذلك لهم حتى يجزوا به يوم القيامة». وقال ابن جرير: لما نزلت هذه الآية قال أبو بكر: جَاءَتْ قَاصِمَةُ الظَّهْرِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنما هي المصيبات في الدنيا». (حَدِيثٌ آخَرُ) قَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ عائشة: أن رجلاً تلى هذه الآية: ﴿من يعمل سوءا يُجْزَ بِهِ﴾ فقال: إنا لنجزى بكل ما عملناه هَلَكْنَا إذًا فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «نَعَمْ يُجْزَى بِهِ الْمُؤْمِنُ فِي الدُّنْيَا فِي نَفْسِهِ فِي جَسَدِهِ فِيمَا يُؤْذِيهِ».
(طَرِيقٌ أُخْرَى) قَالَ ابْنُ أَبِي حاتم عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ، قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَشَدَّ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ فَقَالَ: "ما هي يا عائشة؟ قتل: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ فَقَالَ: «هُوَ مَا يُصِيبُ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ حَتَّى النَّكْبَةُ يُنْكَبُهَا». وعن علي بن زيد عن ابنته أَنَّهَا سَأَلَتْ عَائِشَةَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿مَنْ يعلم سوءاً يُجْزَ بِهِ﴾ فقالت: ما سألني أحد عن هذه الآية منه سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يَا عَائِشَةُ هَذِهِ مُبَايَعَةُ اللَّهِ لِلْعَبْدِ مِمَّا يُصِيبُهُ مِنَ الْحُمَّى وَالنَّكْبَةِ وَالشَّوْكَةِ حَتَّى البضاعة فيضعها فِي كُمِّهِ فَيَفْزَعُ لَهَا فَيَجِدُهَا فِي جَيْبِهِ حَتَّى إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِيَخْرُجُ
(حديث آخر): قال سعد بن منصور عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمةَ: أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَدِّدُوا وَقَارِبُوا فَإِنَّ فِي كُلِّ مَا يُصَابُ بِهِ الْمُسْلِمُ كَفَّارَةٌ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا وَالنَّكْبَةِ يُنْكَبُهَا» وَهَكَذَا رَوَاهُ أحمد وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ بَكَيْنَا وَحَزِنَّا وَقُلْنَا يَا رسول الله: ما أبقت هذه الأمة مِنْ شَيْءٍ قَالَ: «أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنها لكما أنزلت وَلَكِنْ أَبْشِرُوا وَقَارِبُوا وَسَدِّدُوا فَإِنَّهُ لَا يُصِيبُ أحداً منكم مصيبة في الدنيا إلا كفر الله بِهَا مِن خَطِيئَتَهُ حَتَّى الشَّوْكَةُ يُشَاكُهَا أَحَدُكُمْ فِي قَدَمِهِ»
(حديث آخر): روى ابن مردويه عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ قَالَ: «نَعَمْ وَمَنْ يَعْمَلْ حَسَنَةً يُجْزَ بِهَا عَشْرًا» فهلك من غلب واحدته عشراته. وقال ابن جرير عَنِ الْحَسَنِ ﴿مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ قَالَ: الْكَافِرُ ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الكفور﴾، وَقَوْلُهُ ﴿وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً﴾ قال ابْنِ عَبَّاسٍ: إِلَّا أَنْ يَتُوبَ فَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ وَاللَّهُ أعلم.
وقوله تعالى: ﴿وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ الْآيَةَ، لما ذكر الجزاء على السيئات ولأنه لَا بُدَّ أَنْ يَأْخُذَ مُسْتَحَقَّهَا مِنَ الْعَبْدِ أما في الدنيا وهو أجود لَهُ، وَإِمَّا فِي الْآخِرَةِ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ؛ وَنَسْأَلُهُ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالصَّفْحَ وَالْعَفْوَ وَالْمُسَامَحَةَ، شَرَعَ فِي بَيَانِ إِحْسَانِهِ وَكَرَمِهِ ورحمته في قبول الأعمال الصلاحة مِنْ عِبَادِهِ، ذُكْرَانِهِمْ وَإِنَاثِهِمْ بِشَرْطِ الْإِيمَانِ، وَأَنَّهُ سَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ وَلَا يَظْلِمُهُمْ مِنْ حَسَنَاتِهِمْ وَلَا مِقْدَارَ النَّقِيرِ، وَهُوَ النَّقْرَةُ الَّتِي فِي ظَهْرِ نَوَاةِ التَّمْرَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْفَتِيلِ، وَهُوَ الْخَيْطُ الَّذِي فِي شِقِّ النَّوَاةِ، وَهَذَا النقير وهما في نواة التمرة والقطمير وهو اللفاقة التي على نوات التمرة، والثلاثة في القرآن. ثم قال تعالى: ﴿وم أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أسلم وجهه لله﴾؟ ايأخلص الْعَمَلَ لِرَبِّهِ عزَّ وجلَّ فَعَمِلَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا ﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ أَيِ اتَّبَعَ فِي عَمَلِهِ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ لَهُ وَمَا أَرْسَلَ بِهِ رَسُولَهُ مِنَ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ، وَهَذَانَ الشَّرْطَانِ لَا يَصِحُّ عَمَلُ عَامِلٍ بِدُونِهِمَا أَيْ يَكُونُ (خَالِصًا صواباً) والخالص أن يكون له، والصواب أن يكون متابعاً للشرعة فَيَصِحُّ ظَاهِرُهُ بِالْمُتَابَعَةِ، وَبَاطِنُهُ بِالْإِخْلَاصِ فَمَتَى فَقَدَ الْعَمَلُ أَحَدَ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ فَسَدَ، فَمَنْ فَقَدَ الْإِخْلَاصَ كَانَ مُنَافِقًا وَهُمُ الَّذِينَ يُرَاؤُونَ النَّاسَ، وَمَنْ فَقَدَ الْمُتَابَعَةَ كَانَ ضَالًّا جَاهِلًا وَمَتَى جمعهما كان عمل المؤمنين ﴿الَّذِينَ يَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَيَتَجَاوَزُ عن سيئاتهم﴾، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً﴾ وَهُمْ مُحَمَّدٌ وَأَتْبَاعُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتبعوه وهذا النبي﴾ الآية. وَقَالَ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ وَالْحَنِيفُ هُوَ الْمَائِلُ عَنِ الشِّرْكِ قَصْدًا أَيْ تَارِكًا لَهُ عَنْ بَصِيرَةٍ وَمُقْبِلٌ عَلَى الْحَقِّ بِكُلِّيَّتِهِ لَا يَصُدُّهُ عَنْهُ صَادٌّ، وَلَا يَرُدُّهُ عنه راد.
وقوله تعالى: ﴿واتخذ الله إبراهم خَلِيلاً﴾ وَهَذَا مِنْ بَابِ التَّرْغِيبِ فِي اتِّبَاعِهِ، لِأَنَّهُ إِمَامٌ يُقْتَدَى بِهِ حَيْثُ وَصَلَ
وروى أبو بكر بن مردويه عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَلَسَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْتَظِرُونَهُ فَخَرَجَ حَتَّى إِذَا دَنَا مِنْهُمْ سَمِعَهُمْ يَتَذَاكَرُونَ فَسَمِعَ حَدِيثَهُمْ وَإِذَا بَعْضُهُمْ يقول: عجب إِنِ اللَّهَ اتَّخَذَ مِنْ خَلْقِهِ خَلِيلًا فَإِبْرَاهِيمُ خَلِيلُهُ، وَقَالَ آخَرُ: مَاذَا بِأَعْجَبِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا، وَقَالَ آخَرُ: فَعِيسَى رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ، وَقَالَ آخَرُ: آدَمُ اصْطَفَاهُ اللَّهُ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ فَسَلَّمَ وَقَالَ: "قَدْ سَمِعْتُ كَلَامَكُمْ وَتَعَجُّبَكُمْ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلُ اللَّهِ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَمُوسَى كَلِيمُهُ، وَعِيسَى رُوحُهُ وَكَلِمَتُهُ، وَآدَمَ اصطفاه الله، وهو كذلك، وكذلك محمد ﷺ قال: أَلَا وَإِنِّي حَبِيبُ اللَّهِ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أول من يحرك حلقة الجنة فيفتح الله ويدخلنيها، وَمَعِي فُقَرَاءُ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَكْرَمُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ". وَهَذَا حديث غريب ولبعضه شواهد في الصحاح وغيرها
وعن إسحاق بن يسار قال: لما اتخذ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا أَلْقَى فِي قَلْبِهِ الْوَجَلَ حَتَّى أن خَفَقَانُ قَلْبِهِ لَيُسْمَعُ مِنْ بَعِيدٍ كَمَا يُسْمَعُ خَفَقَانُ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ، وَهَكَذَا جَاءَ فِي صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يُسْمَعُ لِصَدْرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ إذا اشتد غليانها من البكاء وقوله: ﴿وَللَّهِ مَا في السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ أَيِ الْجَمِيعُ مِلْكُهُ وَعَبِيدُهُ وَخَلْقُهُ، وَهُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ، لَا رَادَّ لِمَا قَضَى، وَلَا مُعَقِّبَ لِمَا حَكَمَ، وَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ لِعَظَمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَعَدْلِهِ وَحِكْمَتِهِ وَلُطْفِهِ وَرَحْمَتِهِ وَقَوْلُهُ: ﴿وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطاً﴾ أَيْ عِلْمُهُ نَافِذٌ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ مِنْ عِبَادِهِ، وَلَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السموات وَلَا فِي الْأَرْضِ، وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ، وَلَا تَخْفَى عَلَيْهِ ذَرَّةٌ لِمَا تَرَاءَى لِلنَّاظِرِينَ وَمَا تَوَارَى.
روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ - إلى قوله - وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ﴾ قالت عائشة: هُوَ الرَّجُلُ تَكُونُ عِنْدَهُ الْيَتِيمَةُ هُوَ وَلِيُّهَا ووارثها فأشركته فِي مَالِهِ حَتَّى فِي الْعَذْقِ، فَيَرْغَبُ أَنْ يَنْكِحَهَا وَيَكْرَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا رَجُلًا فَيَشْرَكَهُ فِي مَالِهِ بِمَا شَرِكَتْهُ فَيَعْضُلُهَا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ قَالَتْ عَائِشَةُ: ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ اسْتَفْتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ فِيهِنَّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ﴾ الْآيَةَ، قَالَتْ: وَالَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ أَنَّهُ يتلى عليه فِي الْكِتَابِ، الْآيَةُ الْأَوْلَى الَّتِي قَالَ اللَّهُ: ﴿وَإِنْ خفتم أن لا تُقْسِطُواْ فِي اليتامى فانكحوا ماطاب لَكُمْ مِّنَ النِّسَاءِ﴾ وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: وَقَوْلُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: ﴿وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ﴾ رَغْبَةَ أَحَدِكُمْ عَنْ يَتِيمَتِهِ الَّتِي تَكُونُ فِي حِجْرِهِ، حِينَ تَكُونُ قَلِيلَةَ الْمَالِ وَالْجِمَالِ، فَنُهُوا أَنْ ينكحوا من رَغِبُوا فِي مَالِهَا وَجِمَالِهَا مِنْ يَتَامَى النِّسَاءِ إِلَّا بِالْقِسْطِ، مِنْ أَجْلِ رغبتهم عنهن. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا كَانَ فِي حِجْرِهِ يَتِيمَةٌ يَحِلُّ لَهُ تَزْوِيجُهَا فَتَارَةً يَرْغَبُ فِي أن يتزوجها فأمره الله أن يمهرها أسوة أمثالها من النساء، إن لَمْ يَفْعَلْ فَلْيَعْدِلْ إِلَى غَيْرِهَا مِنَ النِّسَاءِ فَقَدْ وَسَّعَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ، وَهَذَا الْمَعْنَى فِي الْآيَةِ الْأُولَى الَّتِي فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، وتارة لا يكون له فِيهَا رَغْبَةٌ لِدَمَامَتِهَا عِنْدَهُ أَوْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَنَهَاهُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ أَنْ يُعْضِلَهَا عَنِ الْأَزْوَاجِ، خَشْيَةَ أَنْ يَشْرَكُوهُ فِي مَالِهِ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، كَمَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ، وهي قوله: ﴿فِي يَتَامَى النسآء﴾ كان الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَكُونُ عِنْدَهُ الْيَتِيمَةُ فَيُلْقِي عليها ثوبه، فإذا فعل ذلك لم يقدر أَنْ يَتَزَوَّجَهَا أَبَدًا، فَإِنْ كَانَتْ جَمِيلَةً وَهَوِيَهَا تَزَوَّجَهَا وَأَكَلَ مَالَهَا، وَإِنْ كَانَتْ دَمِيمَةً مَنْعَهَا الرِّجَالَ أَبَدًا حَتَّى تَمُوتَ، فَإِذَا مَاتَتْ وَرِثَهَا، فحرم الله ذلك ونهى عنه.
وقال ابن عباس: ﴿والمستضعفين مِنَ الولدان﴾ وكانوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا يُورِثُونَ الصِّغَارَ وَلَا الْبَنَاتَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿لاَ تؤتونهنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ﴾ فَنَهَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ وَبَيَّنَ لِكُلِّ ذِي سَهْمٍ سَهْمَهُ فَقَالَ: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ صغيرا أو كبيرا، وقال سعيد بن جبير: ﴿وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ﴾ كَمَا إِذَا كَانَتْ ذَاتَ جِمَالٍ وَمَالٍ نَكَحْتَهَا وَاسْتَأْثَرْتَ بِهَا، كَذَلِكَ إذا لم تكن ذات مال ولا جمال فأنكحها وستأثر بِهَا. وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله كَانَ به عليماً﴾ تهييجاً على فعل الخيرات وامتثالاً للأوامر، وَأَنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ عَالِمٌ بِجَمِيعِ ذَلِكَ، وَسَيَجْزِي عَلَيْهِ أَوْفَرَ الْجَزَاءِ وَأَتَمَّهُ.
- ١٢٩ - وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً
- ١٣٠ - وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيماً
وروى ابن جرير عَنْ عَائِشَةَ: ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ قَالَتْ: هَذَا في المرأة تكون عند الرجل، فلعله لا يكون بمستكثر منها، ولا يكون لها ولد، ويكون لها صُحْبَةٌ فَتَقُولُ: لَا تُطَلِّقْنِي وَأَنْتَ فِي حِلٍّ من شأني، وفي رواية أخرى عن عائشة: هو الرجل لها المرأتان إحداهما قد كبرت والآخرى دَمِيمَةٌ وَهُوَ لَا يَسْتَكْثِرُ مِنْهَا فَتَقُولُ: لَا تطلقني وأنت في حل من شأني. وعن ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ بن الخطاب فسأله عن آية فكرهه فضربه بِالدِّرَّةِ، فَسَأَلَهُ آخَرُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً﴾ ثم قال مثل هذا فاسألوا، ثُمَّ قَالَ: هَذِهِ الْمَرْأَةُ تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ قَدْ خَلَا مِنْ سِنِّهَا فَيَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ الشَّابَّةَ يَلْتَمِسُ وَلَدَهَا، فَمَا اصْطَلَحَا عَلَيْهِ مِنْ شَيْءٍ فهو جائز. وقال ابن أبي حاتم عَنْ خَالِدِ بْنِ عَرْعَرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلى علي بن أبي طالب فسأله عن قوله الله عزَّ وجلَّ ﴿وَإِنِ امرأة خَافَتْ مِن بَعْلِهَا شوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ﴾ قَالَ عَلِيٌّ: يكون الرجل عنده المرأة فتنبوا عيناه عنها من دمامته، أَوْ كِبَرِهَا، أَوْ سُوءِ خُلُقِهَا، أَوْ قُذَذِهَا فَتَكْرَهُ فِرَاقَهُ، فَإِنْ وَضَعَتْ لَهُ مِنْ مَهْرِهَا شَيْئًا حَلَّ لَهُ، وَإِنْ جَعَلَتْ لَهُ مِنْ أيامها فلا حرج.
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي عَنِ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ: أَنَّ السُّنَّةَ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ اللتين ذكر الله فيهما نشوز الرجل وَإِعْرَاضَهُ عَنِ امْرَأَتِهِ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً﴾
وقوله تعالى: ﴿والصلح خير﴾ قال ابن عباس: يعني التخيير، وهذه هي الحالة الثانية: أَنْ يُخَيِّرَ الزَّوْجُ لَهَا بَيْنَ الْإِقَامَةِ وَالْفِرَاقِ خَيْرٌ مِنْ تَمَادِي الزَّوْجِ عَلَى أَثَرَةِ غَيْرِهَا عَلَيْهَا، وَالظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ صُلْحَهُمَا عَلَى تَرْكِ بَعْضِ حَقِّهَا لِلزَّوْجِ وَقَبُولِ الزَّوْجِ ذَلِكَ خَيْرٌ مِنَ الْمُفَارَقَةِ بِالْكُلِّيَّةِ، كَمَا أَمْسَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ) عَلَى أَنْ تَرَكَتْ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَلَمْ يُفَارِقْهَا بَلْ تَرَكَهَا مِنْ جُمْلَةِ نِسَائِهِ، وَفِعْلُهُ ذَلِكَ لِتَتَأَسَّى بِهِ أُمَّتُهُ فِي مَشْرُوعِيَّةٍ ذَلِكَ وَجَوَازِهِ، فَهُوَ أَفْضَلُ فِي حَقِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَلَمَّا كَانَ الْوِفَاقُ أَحَبَّ إلى الله مِنَ الْفِرَاقِ قَالَ: ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾، بَلِ الطَّلَاقُ بَغِيضٌ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَبْغَضُ الحلال إلى الله الطلاق».
وقوله تعالى: ﴿وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً﴾، وإن تتجشموا مشقة الصبر على ما تَكْرَهُونَ مِنْهُنَّ، وَتُقْسِمُوا لَهُنَّ أُسْوَةَ أَمْثَالِهِنَّ فَإِنَّ اللَّهَ عَالِمٌ بِذَلِكَ وَسَيَجْزِيَكُمْ عَلَى ذَلِكَ أَوْفَرَ الْجَزَاءِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ﴾ أَيْ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْ تُسَاوُوا بَيْنَ النِّسَاءِ مِنْ جميع الوجوه، فإنه وإن وقع الْقَسْمُ الصُّورِيُّ لَيْلَةً وَلَيْلَةً فَلَا بُدَّ مِنَ التَّفَاوُتِ فِي الْمَحَبَّةِ وَالشَّهْوَةِ وَالْجِمَاعِ كَمَا قَالَهُ ابن عباس ومجاهد والضحاك. وجاء فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَهْلُ السنن عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ بَيْنَ نِسَائِهِ فَيَعْدِلُ، ثُمَّ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أملك»، يعني القلب. وَقَوْلُهُ: ﴿فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ﴾ أَيْ فَإِذَا ملتم إلى واحدة منهن فلا تبالغوا في اميل بِالْكُلِّيَّةِ ﴿فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ﴾ أَيْ فَتَبْقَى هَذِهِ الْأُخْرَى معلقة، قال ابن عباس وآخرون: معناه لا ذات زوج ولا مطلقة؛ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ فَمَالَ إِلَى إِحْدَاهُمَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَحَدُ شقيه ساقط» (رواه أحمد وأصحاب السنن)
وقوله تعالى: ﴿وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً﴾ أَيْ وَإِنْ أَصْلَحْتُمْ فِي أُمُورِكُمْ، وَقَسَمْتُمْ بِالْعَدْلِ فِيمَا تَمْلِكُونَ، وَاتَّقَيْتُمِ اللَّهَ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ غَفَرَ اللَّهُ لَكُمْ مَا كَانَ مِنْ مَيْلٍ إِلَى بَعْضِ النِّسَاءِ دُونَ بَعْضٍ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعاً حَكِيماً﴾ وَهَذِهِ هِيَ الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: وَهِيَ حَالَةُ الْفِرَاقِ: وَقَدْ أخبر الله تَعَالَى أَنَّهُمَا إِذَا تَفَرَّقَا فَإِنَّ اللَّهَ يُغْنِيهِ عنها ويغنيها عنه، بأن يعوضه الله مَنْ هُوَ خَيْرٌ لَهُ مِنْهَا وَيُعَوِّضَهَا
- ١٣٢ - وَللَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً
- ١٣٣ - إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيراً
- ١٣٤ - مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيرًا
يُخْبِرُ تَعَالَى أنه مالك السموات وَالْأَرْضِ وَأَنَّهُ الْحَاكِمُ فِيهِمَا وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ﴾ أَيْ وَصَّيْنَاكُمْ بِمَا وَصَّيْنَاهُمْ بِهِ مِنْ تَقْوَى الله عزّض وجلَّ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، ثُمَّ قَالَ: ﴿وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِي السموات وما في الأرض﴾ الآية، كَمَا قَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ مُوسَى أَنَّهُ قَالَ لِقَوْمِهِ: ﴿إِن تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ الله لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ وَقَالَ: ﴿فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ أَيْ غَنِيٌّ عَنْ عِبَادِهِ، ﴿حَمِيدٌ أَيْ مَحْمُودٌ فِي جَمِيعِ مَا يُقَدِّرُهُ وَيَشْرَعُهُ، وَقَوْلُهُ: {وَللَّهِ مَا فِي السموات وما في الأرض الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً﴾ أَيْ هُوَ الْقَائِمُ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ، الرَّقِيبُ الشَّهِيدُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَقَوْلُهُ: ﴿إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيراً﴾ أَيْ هُوَ قَادِرٌ عَلَى إِذْهَابِكُمْ وتبديلكم بغيركم إذا عصيتموه، كما قال: ﴿وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم﴾ قال بَعْضُ السَّلَفِ: مَا أَهْوَنَ الْعِبَادَ عَلَى اللَّهِ إِذَا أَضَاعُوا أَمْرَهُ!! وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ* وَمَا ذَلِكَ عَلَى الله بِعَزِيزٍ﴾ أي وما هو عليه بممتنع.
وقوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ ثَوَابُ الدينا والآخرة﴾ أي يا من ليس له هَمُّهُ إِلَّا الدُّنْيَا اعْلَمْ أَنَّ عِنْدَ اللَّهِ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَإِذَا سَأَلْتَهُ مِنْ هَذِهِ وَهَذِهِ أَعْطَاكَ وَأَغْنَاكَ وَأَقْنَاكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حرثه﴾ الآية، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لمن نريد﴾ الآية. وقوله: ﴿فَعِندَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ ظَاهِرٌ فِي حصول الْخَيْرِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَيْ بِيَدِهِ هَذَا وهذا، فلا يقتصران قَاصِرُ الْهِمَّةِ عَلَى السَّعْيِ لِلدُّنْيَا فَقَطْ، بَلْ لِتَكُنْ هِمَّتُهُ سَامِيَةٌ إِلَى نَيْلِ الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَإِنَّ مَرْجِعَ ذَلِكَ كُلِّهِ إِلَى الَّذِي بِيَدِهِ الضُّرُّ وَالنَّفْعُ، وَهُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، الَّذِي قَدْ قسم السعادة والشقاوة بين الناس في الدنيا والآخرة، وَعَدَلَ بَيْنَهُمْ فِيمَا عَلِمَهُ فِيهِمْ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ هَذَا، وَمِمَّنْ يَسْتَحِقُّ هَذَا، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾
وقوله تعالى: ﴿وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ﴾ قال مجاهد: تلووا أن تُحَرِّفُوا الشَّهَادَةَ وَتُغَيِّرُوهَا، وَاللَّيُّ: هُوَ التَّحْرِيفُ وَتَعَمُّدُ الكذب. قال تَعَالَى: ﴿وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ﴾ الآية، والإعراض: هو كتمان الشهادة وتركها. قال تعالى: ﴿ون يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قلبه﴾، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُ الشهداء الذي يأتي بالشهادة قَبْلَ أَنْ يُسألها»، وَلِهَذَا تَوَعَّدَهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً﴾ أَيْ وسيجازيكم بذلك.
يأمر تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالدُّخُولِ فِي جَمِيعِ شَرَائِعِ الْإِيمَانِ وَشُعَبِهِ وَأَرْكَانِهِ وَدَعَائِمِهِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ باب تحصيل الحاصل، بل هو من باب تكميل الكامل وتقريره وتثبيته الاستمرار عَلَيْهِ، كَمَا يَقُولُ الْمُؤْمِنُ فِي كُلِّ صَلَاةٍ ﴿اهدنا الصراط المستقيم﴾ أي بصّرنا وَزِدْنَا هُدَى، وَثَبِّتْنَا عَلَيْهِ، فَأَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَبِرَسُولِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتقوا الله وَآمِنُواْ بِرَسُولِهِ﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ﴾ يَعْنِي الْقُرْآنَ ﴿وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ﴾ وَهَذَا جِنْسٌ يَشْمَلُ جَمِيعَ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَقَالَ فِي الْقُرْآنِ ﴿نَزَّلَ﴾ لِأَنَّهُ نَزَلَ مُفَرَّقًا مُنَجَّمًا عَلَى الوقائع بحسب ما يحتج إليه العباد في معاشهم ومعادهم، وَأَمَّا الْكُتُبُ الْمُتَقَدِّمَةُ فَكَانَتْ تَنْزِلُ جُمْلَةً وَاحِدَةً، لهذا قال تعالى: ﴿وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ﴾، ثُمَّ قَالَ تعالى: ﴿ومن يَكْفُرْ بالله وَمَلآئِكَتِهِ وكتبه ورسله اليوم الآخر فَقَدْ ضَلَّ صلالاً بَعِيداً﴾ أَيْ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ طَرِيقِ الْهُدَى، وَبَعُدَ عَنِ الْقَصْدِ كُلَّ الْبُعْدِ.
- ١٣٨ - بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً
- ١٣٩ - الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ للَّهِ جَمِيعًا
- ١٤٠ - وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا
يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّنْ دَخَلَ فِي الْإِيمَانِ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ، ثُمَّ عَادَ فِيهِ، ثُمَّ رَجَعَ وَاسْتَمَرَّ عَلَى ضَلَالِهِ وَازْدَادَ حَتَّى مَاتَ، فَإِنَّهُ لَا تَوْبَةَ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَلَا يَغْفِرُ اللَّهُ لَهُ، وَلَا يَجْعَلُ لَهُ مِمَّا هُوَ فِيهِ فَرَجًا وَلَا مَخْرَجًا وَلَا طَرِيقًا إِلَى الْهُدَى، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً﴾ قَالَ ابن أبي حاتم عن ابن عباس، في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ ازدادوا كُفْراً﴾ قال: تمادوا على كفرهم حتى ماتوا. وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: يُسْتَتَابُ الْمُرْتَدُّ ثَلَاثًا، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً﴾، ثُمَّ قَالَ: ﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾ يَعْنِي أَنَّ الْمُنَافِقِينَ مِنْ هَذِهِ الصِّفَةِ فَإِنَّهُمْ آمَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا، فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ، ثُمَّ وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، بِمَعْنَى أَنَّهُمْ مَعَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ يُوَالُونَهُمْ وَيُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ، وَيَقُولُونَ لَهُمْ إِذَا خَلَوْا بِهِمْ ﴿إنما نحن مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مستهزءون﴾ أَيْ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي إِظْهَارِنَا لَهُمُ الْمُوَافَقَةَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ فِيمَا سَلَكُوهُ مِنْ مُوَالَاةِ الْكَافِرِينَ ﴿أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ﴾ ثُمَّ أَخْبَرَ الله تعالى بأن العزة كلها له وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَلِمَنْ جَعَلَهَا لَهُ كما قال تعالى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يعلمون﴾، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا التَّهْيِيجِ عَلَى طَلَبِ الْعِزَّةِ من جناب الله، والإقبال على عُبُودِيَّتِهِ وَالِانْتِظَامِ فِي جُمْلَةِ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، الَّذِينَ لهم النصرة في الحياة الدنيا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَدْ نزَّل عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ}، أَيْ إنكم إِذَا ارْتَكَبْتُمِ النَّهْيَ بَعْدَ وُصُولِهِ إِلَيْكُمْ، وَرَضِيتُمْ بِالْجُلُوسِ مَعَهُمْ فِي الْمَكَانِ الَّذِي يُكْفَرُ فِيهِ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيُسْتَهْزَأُ وَيُنْتَقَصُ بِهَا، وَأَقْرَرْتُمُوهُمْ عَلَى ذلك فقد شاركتموهم في الذي هم في فلهذا قال تعالى: ﴿إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ﴾ فِي الْمَأْثَمِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَجْلِسْ عَلَى مَائِدَةٍ يُدَارُ عَلَيْهَا الْخَمْرُ» وَالَّذِي أُحِيلَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ النَّهْيِ فِي ذَلِكَ، هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ الآية. قَالَ مُقَاتِلُ بُنُ حَيَّانَ: نَسَختْ هَذِهِ الْآيَةُ التي في سورة الْأَنْعَامِ، يَعْنِي نُسِخَ قَوْلُهُ: ﴿إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ﴾، لِقَوْلِهِ: ﴿وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ من شيء ولكن ذكرى لَعَلَّهُمْ يتقون﴾ وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً﴾، أَيْ كَمَا أَشْرَكُوهُمْ فِي الْكُفْرِ، كذلك يشارك اللَّهُ بَيْنَهُمْ فِي الْخُلُودِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ أبداً، ويجمع بَيْنَهُمْ فِي دَارِ الْعُقُوبَةِ وَالنَّكَالِ وَالْقُيُودِ وَالْأَغْلَالِ وشراب الحميم والغسلين.
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْمُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ يَتَرَبَّصُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ دَوَائِرَ السُّوءِ، بِمَعْنَى يَنْتَظِرُونَ زَوَالَ دَوْلَتِهِمْ وظهور الكفرة عَلَيْهِمْ وَذَهَابَ مِلَّتِهِمْ، ﴿فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ﴾ أَيْ نَصْرٌ وَتَأْيِيدٌ وَظَفَرٌ وَغَنِيمَةٌ: ﴿قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ﴾؟ أَيْ يَتَوَدَّدُونَ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ، ﴿وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ﴾: أَيْ إِدَالَةٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ كَمَا وَقَعَ يَوْمَ أُحد، فَإِنَّ الرُّسُلَ تُبْتَلَى ثُمَّ يَكُونُ لَهَا الْعَاقِبَةُ، ﴿قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾؟ أَيْ سَاعَدْنَاكُمْ فِي الْبَاطِنِ وَمَا أَلَوْنَاهُمْ خَبَالًا وَتَخْذِيلًا حَتَّى انْتَصَرْتُمْ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ: نَغْلِبْ عَلَيْكُمْ، كقوله: ﴿استحوذ عليهم الشيطان﴾ وَهَذَا أَيْضًا تَوَدُّدٌ مِنْهُمْ إِلَيْهِمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُصَانِعُونَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ لِيَحْظَوْا عِنْدَهُمْ وَيَأْمَنُوا كَيْدَهُمْ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِضَعْفِ إِيمَانِهِمْ وَقِلَّةِ إِيقَانِهِمْ. قال تَعَالَى: ﴿فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ أَيْ بِمَا يَعْلَمُهُ مِنْكُمْ أَيُّهَا الْمُنَافِقُونَ مِنِ الْبَوَاطِنِ الرَّدِيئَةِ، فَلَا تَغْتَرُّوا بِجَرَيَانِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَيْكُمْ ظاهراً في الحياة الدنيا، لما له فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ، فَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا تَنْفَعُكُمْ ظَوَاهِرُكُمْ، بَلْ هُوَ يَوْمٌ تُبْلَى فِيهِ السرائر ويحصل مَا فِي الصدور.
وقوله تَعَالَى: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سبيلاًؤ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: كَيْفَ هَذِهِ الْآيَةُ {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾؟ فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ الله عنه: ادنه ادنه ﴿فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً﴾ قَالَ ذَاكَ يوم القيامة، وكذا روى السدي: يعني يوم القيامة، وقال السدي ﴿سَبِيلاً﴾ أي حجة، ويحتمل أن يكون المعنى: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا أَيْ فِي الدُّنْيَا، بِأَنْ يُسَلَّطُوا عَلَيْهِمُ اسْتِيلَاءَ اسْتِئْصَالٍ بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِنْ حَصَلَ لَهُمْ ظَفَرٌ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ، فَإِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدنيا﴾ الآية، وعلى هذا يكون رداً على المافقين فيما أمَّلوه ورجوه وَانْتَظَرُوهُ مِنْ زَوَالِ دَوْلَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَفِيمَا سَلَكُوهُ مِنْ مُصَانَعَتِهِمُ الْكَافِرِينَ خَوْفًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْهُمْ، إذا هم ظهروا على المؤمنين فاستأصلوهم، كا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ - إلى قوله - نَادِمِينَ﴾، وقد استدل كثير من العلاماء بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَلَى أَصَحِّ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ وهو المنع من بيع (العبد المسلم) للكافرين لِمَا فِي صِحَّةِ ابْتِيَاعِهِ مِنَ التَّسْلِيطِ لَهُ عَلَيْهِ وَالْإِذْلَالِ، وَمَنْ قَالَ مِنْهُمْ بِالصِّحَّةِ يَأْمُرُهُ بِإِزَالَةِ مِلْكِهِ عَنْهُ فِي الْحَالِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾
- ١٤٣ - مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلَاءِ وَلاَ إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً
وقوله تعالى: ﴿إذا قاموا إِلَى الصلاة قَامُواْ كسالى﴾ الآية، هَذِهِ صِفَةُ الْمُنَافِقِينَ فِي أَشْرَفِ الْأَعْمَالِ وَأَفْضَلِهَا وَخَيْرِهَا، وَهِيَ (الصَّلَاةُ) إِذَا قَامُوا إِلَيْهَا قَامُوا وَهُمْ كُسَالَى عَنْهَا، لِأَنَّهُمْ لَا نِيَّةَ لَهُمْ فِيهَا وَلَا إِيمَانَ لَهُمْ بِهَا وَلَا خَشْيَةَ، وَلَا يَعْقِلُونَ مَعْنَاهَا كَمَا رَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: يُكْرَهُ أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ إِلَى الصَّلَاةِ وَهُوَ كَسْلَانُ وَلَكِنْ يَقُومُ إِلَيْهَا طَلْقَ الْوَجْهِ، عَظِيمَ الرَّغْبَةِ شَدِيدَ الْفَرَحِ، فإنه يناجي الله، وإن الله تجاهه يَغْفِرُ لَهُ وَيُجِيبُهُ إِذَا دَعَاهُ، ثُمَّ يَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُواْ كسالى﴾، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُواْ كُسَالَى﴾ هَذِهِ صِفَةُ ظَوَاهِرِهِمْ كَمَا قَالَ: ﴿وَلاَ يَأْتُونَ الصلاة إِلاَّ وَهُمْ كسالى﴾، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى صِفَةَ بَوَاطِنِهِمُ الْفَاسِدَةِ، فَقَالَ: ﴿يُرَآءُونَ النَّاسَ﴾ أَيْ لَا إِخْلَاصَ لَهُمْ وَلَا مُعَامَلَةَ مَّعَ الله، بَلْ إنما يشهدون الناس تقيَّة لهم ومصانعة، وَلِهَذَا يَتَخَلَّفُونَ كَثِيرًا عَنِ الصَّلَاةِ الَّتِي لاَ يَرَوْنَ فِيهَا غالباً ك (صلاة العشاء) في وَقْتَ الْعَتَمَةِ وَصَلَاةِ الصُّبْحِ فِي وَقْتِ الْغَلَسِ. كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَثْقَلُ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ صَلَاةُ الْعِشَاءِ وَصَلَاةُ الْفَجْرِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا، وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنَّ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَتُقَامَ ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فَيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، ثُمَّ أَنْطَلِقَ مَعِي بِرِجَالٍ ومعهم حُزَمٌ مِنْ حَطَبٍ إِلَى قَوْمٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ» وَفِي رِوَايَةٍ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ عَلِمَ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ يَجِدُ عِرْقاً سَمِينًا أَوْ مَرْمَاتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ لَشَهِدَ الصَّلَاةَ، وَلَوْلَا مَا فِي الْبُيُوتِ مِنَ النِّسَاءِ والذرية لحرقت عليهم بوتهم بالنار» وقال الحافظ أبو يعلى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَحْسَنَ الصَّلَاةَ حَيْثُ يَرَاهُ النَّاسُ، وَأَسَاءَهَا حَيْثُ يَخْلُو، فَتِلْكَ اسْتِهَانَةٌ اسْتَهَانَ بِهَا رَبَّهُ عزَّ وجلَّ»؛ وَقَوْلُهُ: ﴿وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ أَيْ فِي صلاتهم لا يخشعون وَلَا يَدْرُونَ مَا يَقُولُونَ، بَلْ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ لَاهُونَ، وَعَمَّا يُرَادُ بِهِمْ مِنَ الْخَيْرِ مُعَرِضُونَ. وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ مَالِكٌ عَنِ أنس بن مالك عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تلكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ، تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ، تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ: يَجْلِسُ يَرْقُبُ الشَّمْسَ حَتَّى إِذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ قَامَ فَنَقَرَ أَرْبَعًا لَا يَذْكُرُ الله فيها إلا قليلاً".
وقوله تَعَالَى: ﴿مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلَاءِ وَلاَ إِلَى هَؤُلَاءِ﴾ يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ مُحَيَّرِينَ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ فَلَا هُمْ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَلَا مَعَ الْكَافِرِينَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، بَلْ ظَوَاهِرُهُمْ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَبَوَاطِنُهُمْ مَعَ الْكَافِرِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَرِيهِ الشَّكُّ فَتَارَةً يَمِيلُ إِلَى هَؤُلَاءِ وَتَارَةً يَمِيلُ إِلَى أُولَئِكَ، {كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عليهم
وقال ابن جرير عَنْ قَتَادَةَ ﴿مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلَاءِ وَلاَ إِلَى هَؤُلَاءِ﴾ يَقُولُ: لَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ مُخْلِصِينَ، وَلَا مُشْرِكِينَ مُصَرِّحِينَ بِالشِّرْكِ قَالَ: وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَضْرِبُ مَثَلًا لِلْمُؤْمِنِ وَلِلْمُنَافِقِ وَلِلْكَافِرِ كَمَثَلِ رَهْطٍ ثَلَاثَةٍ دَفَعُوا إِلَى نَهْرٍ فَوَقَعَ الْمُؤْمِنُ فَقَطَعَ، ثُمَّ وَقَعَ الْمُنَافِقُ حَتَّى إِذَا كَادَ يَصِلُ إِلَى الْمُؤْمِنِ نَادَاهُ الْكَافِرُ: أَنْ هلم إليّ فإني أخشى عليك، وناداه المؤمنين: أن هلم إلي فإن عِنْدِي وَعِنْدِي يُحْصَى لَهُ مَا عِنْدَهُ، فَمَا زال المنافق يتردد بينهما حتى أتى عليه الماء فَغَرَّقَهُ، وَإِنَّ الْمُنَافِقَ لَمْ يَزَلْ فِي شَكٍّ وَشُبْهَةٍ حَتَّى أَتَى عَلَيْهِ الْمَوْتُ وَهُوَ كَذَلِكَ، قَالَ: وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: «مَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ ثَاغِيَةٍ بَيْنَ غَنَمَيْنِ رَأَتْ غَنَمًا عَلَى نَشَزٍ فَأَتَتْهَا وَشَامَّتْهَا فَلَمْ تَعْرِفْ، ثُمَّ رَأَتْ غنماً على نشز فأتتها فشامتها فَلَمْ تَعْرِفْ»، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً﴾ أَيْ وَمَنْ صَرَفَهُ عَنْ طَرِيقِ الْهُدَى ﴿فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِدًا﴾، فَإِنَّهُ ﴿مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ﴾، وَالْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ أَضَلَّهُمْ عَنْ سَبِيلِ النَّجَاةِ فَلَا هَادِيَ لَهُمْ، وَلَا مُنْقِذَ لَهُمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ.
- ١٤٥ - إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً
- ١٤٦ - إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً
- ١٤٧ - مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عليما
ينهى الله تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ اتِّخَاذِ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، يَعْنِي مُصَاحَبَتَهُمْ وَمُصَادَقَتَهُمْ، وَمُنَاصَحَتَهُمْ وَإِسْرَارَ الْمَوَدَّةِ إِلَيْهِمْ، وَإِفْشَاءَ أَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ الْبَاطِنَةِ إِلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ المؤمنين﴾ ولهذا قال ههنا: ﴿أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً﴾؟ أَيْ حُجَّةً عَلَيْكُمْ فِي عُقُوبَتِهِ إِيَّاكُمْ، قَالَ ابن أبي حاتم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: ﴿سُلْطَاناً مُّبِيناً﴾ قَالَ: كُلُّ سُلْطَانٍ فِي الْقُرْآنِ حُجَّةٌ، وَهَذَا إِسْنَادٌ صحيح، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾ أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جَزَاءً على كفرهم الغليظ، قال ابن عباس: أَيْ فِي أَسْفَلِ النَّارِ، وَقَالَ غَيْرُهُ النَّارُ (دَرَكَاتٌ) كَمَا أَنَّ الْجَنَّةَ (دَرَجَاتٌ) وَقَالَ سُفْيَانُ الثوري ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾ قال: في توابيت تُرْتَج عليهم.
وعن أبي هريرة قَالَ ﴿الدَّرْكُ الْأَسْفَلُ﴾: بُيُوتٌ لَهَا أَبْوَابٌ تُطْبَقُ عليهم فتوقد عليهم من تحتهم ومن فوقهم، قال ابن جرير عن عبد الله بن مَسْعُودٍ ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾ قَالَ: فِي تَوَابِيتَ مِنْ نَارٍ تُطْبِقُ عليهم
- ١٤٩ - إِن تُبْدُواْ خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا
قال ابن عباس في الآية يقول: لا يحب الله أن يدعوا أحدا عَلَى أَحَدٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَظْلُومًا، فَإِنَّهُ قد أرخص له يدعوا عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿إِلاَّ مَن ظُلِمَ﴾، وَإِنْ صَبَرَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَا يدعُ عَلَيْهِ، وَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَيْهِ وَاسْتَخْرِجْ حَقِّي مِنْهُ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ قَالَ: قَدْ أُرْخِصَ لَهُ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْتَدِيَ عليه، وقال عبد الكريم الْجَزَرِيُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: هُوَ الرَّجُلُ يَشْتُمُكَ فَتَشْتُمُهُ، وَلَكِنْ إِنِ افْتَرَى عَلَيْكَ فَلَا تَفْتَرِ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ: ﴿وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ﴾، وقال أبو داود عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْمُسْتَبَّانِ مَا قَالَا فعلى البادىء منهما ما لم يعتد المظلوم» وعن مُجَاهِدٍ ﴿لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ﴾ قَالَ، قَالَ: هُوَ الرَّجُلُ يَنْزِلُ بِالرَّجُلِ فَلَا يُحْسِنُ ضِيَافَتَهُ فَيَخْرُجُ فيقول: أساء ضيافتي ولم يحسن. وقد روى الجماعة سوى النسائي والترمذي عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ تَبْعَثُنَا فَنَنْزِلُ بِقَوْمٍ فَلَا يقرونا، فما ترى في ذلك؟ "فقال: إذا نزلت بِقَوْمٍ فَأَمَرُوا لَكُمْ بِمَا يَنْبَغِي لِلضَّيْفِ فَاقْبَلُوا مِنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الضيف الذي ينبغي لهم"، وعن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَيُّمَا مُسْلِمٍ ضَافَ قَوْمًا فَأَصْبَحَ الضَّيْفُ مَحْرُومًا فَإِنَّ حَقًا عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ نَصْرَهُ حَتَّى يَأْخُذَ بِقِرَى لَيْلَتِهِ مِنْ زَرْعِهِ وَمَالِهِ» تَفَرَّدَ به أحمد.
وَمِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَأَمْثَالِهَا ذَهَبَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ إِلَى وُجُوبِ الضِّيَافَةِ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إن لي جَارًا يُؤْذِينِي، فَقَالَ لَهُ: «أَخْرِجْ مَتَاعَكَ فَضَعْهُ عَلَى الطَّرِيقِ»، فَأَخَذَ الرَّجُلُ مَتَاعَهُ فَطَرَحَهُ عَلَى الطريق، فكل مَنْ مَرَّ بِهِ قَالَ: مَالَكَ؟ قَالَ جَارِي يُؤْذِينِي، فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ الْعَنْهُ، اللَّهُمَّ أَخْزِهِ قَالَ، فقال الرجل ارجع إلى منزلك والله لا أوذيك أبداً. وَقَوْلُهُ: ﴿إِن تُبْدُواْ خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً﴾، أي إن أظهرتم أَيُّهَا النَّاسُ خَيْرًا أَوْ أَخْفَيْتُمُوهُ أَوْ عَفَوْتُمْ عَمَّنْ أَسَاءَ إِلَيْكُمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُقَرِّبُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَيُجْزِلُ ثَوَابَكُمْ لَدَيْهِ، فَإِنَّ مِنْ صِفَاتِهِ تَعَالَى أَنْ يَعْفُوَ عَنْ عِبَادِهِ مَعَ قدرته على عقابهم، ولهذا قال: ﴿فَإِن اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً﴾، وَلِهَذَا وَرَدَ فِي الْأَثَرِ أَنَّ حَمَلَةَ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ
- ١٥١ - أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِينًا
- ١٥٢ - وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيمًا
يَتَوَعَّدُ تَبَارَكَ وتعالى الْكَافِرِينَ بِهِ وَبِرُسُلِهِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، حَيْثُ فَرَّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ فِي الْإِيمَانِ فَآمَنُوا بِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ وَكَفَرُوا بِبَعْضٍ، بِمُجَرَّدِ التَّشَهِّي وَالْعَادَةِ وَمَا أَلْفَوْا عَلَيْهِ آبَاءَهُمْ، لَا عَنْ دَلِيلٍ قَادَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، بَلْ بِمُجَرَّدِ الْهَوَى وَالْعَصَبِيَّةِ، فَالْيَهُودُ عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ آمَنُوا بِالْأَنْبِيَاءِ إِلَّا عِيسَى ومحمد عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَالنَّصَارَى آمَنُوا بِالْأَنْبِيَاءِ وَكَفَرُوا بِخَاتَمِهِمْ وَأَشْرَفِهِمْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مَنْ كَفَرَ بِنَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَقَدْ كَفَرَ بِسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ وَاجِبٌ بكل نبيب بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، فَمَنْ رَدَّ نُبُوَّتَهُ لِلْحَسَدِ أَوِ الْعَصَبِيَّةِ أَوِ التَّشَهِّي تَبَيَّنَ أَنَّ إِيمَانَهُ بِمَنْ آمَنَ بِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ لَيْسَ إِيمَانًا شَرْعِيًّا، إِنَّمَا هُوَ عَنْ غَرَضٍ وَهَوًى وَعَصَبِيَّةٍ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ﴾ فَوَسْمَهُمْ بِأَنَّهُمْ كُفَّارٌ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ﴿وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ﴾ أَيْ فِي الْإِيمَانِ، ﴿وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً﴾ أَيْ طَرِيقًا وَمَسْلَكًا، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْهُمْ فَقَالَ: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً﴾ أَيْ كُفْرُهُمْ مُحَقَّقٌ لَا مَحَالَةَ بِمَنِ ادَّعَوُا الْإِيمَانَ بِهِ لأنه ليس شرعياً، إذا لَوْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِهِ لِكَوْنِهِ رَسُولَ اللَّهِ لَآمَنُوا بِنَظِيرِهِ، وَبِمَنْ هُوَ أَوْضَحُ دَلِيلًا وَأَقْوَى برهاناً منه، أو نظروا حق النظر في نبوته.
وقوله تعالى: ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً﴾ أَيْ كَمَا اسْتَهَانُوا بِمَنْ كَفَرُوا بِهِ إِمَّا لِعَدَمِ نَظَرِهِمْ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنَ اللَّهِ وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْهُ وَإِقْبَالِهِمْ عَلَى جَمْعِ حُطَامِ الدُّنْيَا مِمَّا لَا ضَرُورَةَ إلي، وَإِمَّا بِكُفْرِهِمْ بِهِ بَعْدَ عِلْمِهِمْ بِنُبُوَّتِهِ كَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم حَيْثُ حَسَدُوهُ عَلَى مَا آتَاهُ اللَّهُ مِنَ النُّبُوَّةِ الْعَظِيمَةِ، وَخَالَفُوهُ وَكَذَّبُوهُ وَعَادُوهُ وَقَاتَلُوهُ، فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الذُّلَّ الدُّنْيَوِيَّ الْمَوْصُولَ بِالذُّلِّ الْأُخْرَوِيِّ، ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ﴾ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ﴾ يَعْنِي بِذَلِكَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنهم يؤمنون بكل كتاب أنزله الله بكل نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ ربه والمؤمنيون كُلٌّ آمَنَ بالله﴾ الآية، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى بِأَنَّهُ قَدْ أَعَدَّ لَهُمُ الْجَزَاءَ الْجَزِيلَ وَالثَّوَابَ الْجَلِيلَ وَالْعَطَاءَ الْجَمِيلَ، فَقَالَ: ﴿أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ﴾ عَلَى مَا آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ، ﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً﴾ أَيْ لِذُنُوبِهِمْ، أَيْ إِنْ كَانَ لِبَعْضِهِمْ ذُنُوبٌ.
- ١٥٤ - وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظًا
قال السدي وَقَتَادَةُ: سَأَلَ الْيَهُودُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ كَمَا نَزَلَتِ التَّوْرَاةُ عَلَى مُوسَى مَكْتُوبَةً وقال ابْنُ جُرَيْجٍ: سَأَلُوهُ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ صُحُفًا مِنَ اللَّهِ مَكْتُوبَةً إِلَى فُلَانٍ وَفُلَانٍ وَفُلَانٍ بِتَصْدِيقِهِ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ، وَهَذَا إِنَّمَا قَالُوهُ عَلَى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ وَالْعِنَادِ وَالْكُفْرِ وَالْإِلْحَادِ، كَمَا سَأَلَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ قَبْلَهُمْ نَظِيرَ ذَلِكَ كَمَا هو مذكور في سورة الإسراء: ﴿وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً﴾ الْآيَاتِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ، فَقَالُوا: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ﴾، أَيْ بِطُغْيَانِهِمْ وَبَغْيِهِمْ، وَعُتُوِّهِمْ وَعِنَادِهِمْ وَهَذَا مُفَسَّرٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ حَيْثُ يَقُولُ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تنظرون﴾، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ أَيْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوْا مِنَ الْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ وَالْأَدِلَّةِ الْقَاهِرَةِ عَلَى يَدِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي بِلَادِ مِصْرَ، وما كان من إهلاك عدوهم فِرْعَوْنَ وَجَمِيعِ جُنُودِهِ فِي الْيَمِّ، فَمَا جَاوَزُوهُ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى أَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ فَقَالُوا لِمُوسَى: ﴿اجْعَلْ لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾.
ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى قِصَّةَ اتِّخَاذِهِمُ الْعِجْلَ مَبْسُوطَةً فِي سُورَةِ (الْأَعْرَافِ) وَفِي سُورَةِ (طَهَ) بَعْدَ ذَهَابِ مُوسَى إِلَى مُنَاجَاةِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، ثُمَّ لَمَّا رَجَعَ وَكَانَ مَا كَانَ، جَعَلَ اللَّهُ تَوْبَتَهُمْ مِنَ الَّذِي صَنَعُوهُ وَابْتَدَعُوهُ أَنْ يَقْتُلَ مَنْ لَمْ يَعْبُدِ الْعِجْلَ مِنْهُمْ مَنْ عَبَدَهُ فَجَعَلَ يَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، ثُمَّ أَحْيَاهُمُ الله عزَّ وجلَّ، وقال الله تعالى: ﴿فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُّبِيناً﴾، ثم قال: ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ﴾، وَذَلِكَ حِينَ امْتَنَعُوا مِنَ الِالْتِزَامِ بِأَحْكَامِ التَّوْرَاةِ وَظَهَرَ مِنْهُمْ إِبَاءٌ عما جاءهم به موسى عليه السلام رفع الله على رؤوسهم جبالً، ثُمَّ أُلْزِمُوا فَالْتَزَمُوا وَسَجَدُوا وَجَعَلُوا يَنْظُرُونَ إِلَى فَوْقِ رُؤُوسِهِمْ خَشْيَةَ أَنْ يَسْقُطَ عَلَيْهِمْ، كَمَا قال تعالى: ﴿وإذن نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خذوا ما آتيناكم بقوة﴾ الآية، ﴿وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا﴾ أَيْ فَخَالَفُوا مَا أُمِرُوا بِهِ مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، فَإِنَّهُمْ أمروا أن يدخلوا باب (بيت المقدس) سُجَّدًا وَهُمْ يَقُولُونَ حِطَّةٌ، أَيْ «اللَّهُمَّ حُطَّ عَنَّا ذُنُوبَنَا» فِي تَرْكِنَا الْجِهَادَ وَنُكُولِنَا عَنْهُ حَتَّى تُهْنَا فِي التِّيهِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَدَخَلُوا يَزْحَفُونَ عَلَى اسْتَاهِهِمْ، وَهُمْ يَقُولُونَ حِنْطَةٌ فِي شَعْرَةٍ ﴿وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السَّبْتِ﴾ أَيْ وُصَّيْنَاهُمْ بِحِفْظِ السَّبْتِ وَالْتِزَامِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا دَامَ مَشْرُوعًا لَهُمْ، ﴿وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظاً﴾ أَيْ شَدِيدًا فَخَالَفُوا وَعَصَوْا وتحيلوا على ارتكاب ما حرم اللَّهِ عزَّ وجلَّ، كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي سورة الأعراف عند قوله: ﴿اسألهم عَنِ القرية التي كَانَت حاضرة البحر﴾ الْآيَاتِ، وَسَيَأْتِي حَدِيثُ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ فِي سُورَةِ سُبْحَانَ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ وفيه «وعليكم خاصة يهود أن لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ».
- ١٥٦ - وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً
- ١٥٧ - وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً
- ١٥٨ - بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا
- ١٥٩ - وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا
وهذا مِنَ الذُّنُوبِ الَّتِي ارْتَكَبُوهَا مِمَّا أَوْجَبَ لَعْنَتَهُمْ ورطدهم وَإِبْعَادَهَمْ عَنِ الْهُدَى، وَهُوَ نَقْضُهُمُ الْمَوَاثِيقَ وَالْعُهُودَ الَّتِي أُخِذَتْ عَلَيْهِمْ ﴿وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللَّهِ﴾ أَيْ حججه وبراهينه، والمعجزات التي شاهدوها على يد الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، قَوْلُهُ: ﴿وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ وَذَلِكَ لِكَثْرَةِ إِجْرَامِهِمْ وَاجْتِرَائِهِمْ عَلَى أَنْبِيَاءِ اللَّهِ، فَإِنَّهُمْ قَتَلُوا جَمًّا غَفِيرًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ ﴿وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ قَالَ ابْنُ عباس: أَيْ فِي غِطَاءٍ، وَهَذَا كَقَوْلِ الْمُشْرِكِينَ: ﴿وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ﴾ الآية، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُمُ ادَّعَوْا أَنَّ قُلُوبَهُمْ غُلُفٌ لِلْعِلْمِ أَيْ أَوْعِيَةٌ لِلْعِلْمِ قَدْ حَوَتْهُ وَحَصَّلَتْهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ﴾، فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: كَأَنَّهُمْ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ بِأَنَّ قُلُوبَهُمْ لَا تَعِي مَا يَقُولُ لِأَنَّهَا في غلف وفي أكنة، قال الله بل هي مَطْبُوعٌ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي: عَكَسَ عَلَيْهِمْ مَا ادَّعَوْهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مِثْلِ هَذَا فِي سُورَةِ البقرة. ﴿فلا يؤمنون إِلاَّ قَلِيلاً﴾ أي تمرنت قُلُوبُهُمْ عَلَى الْكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ، وَقِلَّةِ الْإِيمَانِ ﴿وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً﴾ قال ابن عباس: يعني أنهم رموها بالزنا. قال السدي: والظاهر مِنَ الْآيَةِ أَنَّهُمْ رَمَوْهَا وَابْنَهَا بِالْعَظَائِمِ، فَجَعَلُوهَا زَانِيَةً وَقَدْ حَمَلَتْ بِوَلَدِهَا مِنْ ذَلِكَ. زَادَ بَعْضُهُمْ وَهِيَ حَائِضٌ، فَعَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ الْمُتَتَابِعَةِ إلى يوم القيامة، وقوله: ﴿إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ﴾ أَيْ هَذَا الَّذِي يَدَّعِي لِنَفْسِهِ هَذَا الْمَنْصِبَ قَتَلْنَاهُ وَهَذَا مِنْهُمْ مَنْ بَابِ (التَّهَكُّمِ وَالِاسْتِهْزَاءِ) كَقَوْلِ الْمُشْرِكِينَ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾.
وَكَانَ مِنْ خَبَرِ الْيَهُودِ عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ وَسُخْطِهِ وَغَضَبِهِ وَعِقَابِهِ، أَنَّهُ لَمَّا بَعَثَ اللَّهُ عيسى بن مَرْيَمَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى، حَسَدُوهُ عَلَى مَا آتَاهُ الله تعالى من النبوة والمعجزات الباهرات، التي كان يبرىء بِهَا الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَيُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَيُصَوِّرُ مِنَ الطِّينِ طَائِرًا ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَائِرًا يُشَاهَدُ طَيَرَانُهُ بِإِذْنِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي أكرمه الله بها أجراها عَلَى يَدَيْهِ وَمَعَ هَذَا كَذَّبُوهُ وَخَالَفُوهُ، وَسَعَوْا فِي أَذَاهُ بِكُلِّ مَا أَمْكَنَهُمْ، حَتَّى جَعَلَ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يُسَاكِنُهُمْ فِي بَلْدَةِ، بَلْ يُكْثِرُ السِّيَاحَةَ هُوَ وَأُمُّهُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، ثُمَّ لَمْ يُقْنِعْهُمْ ذَلِكَ حَتَّى سَعَوْا إِلَى مَلِكِ دِمَشْقَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَكَانَ رَجُلًا مُشْرِكًا مِنْ عَبَدَةِ الْكَوَاكِبِ، وَكَانَ يُقَالُ لِأَهْلِ مِلَّتِهِ الْيُونَانُ، وَأَنْهُوا إِلَيْهِ أَنَّ في بيت الْمَقْدِسِ رَجُلًا يَفْتِنُ النَّاسَ وَيُضِلُّهُمْ وَيُفْسِدُ عَلَى الْمَلِكِ رَعَايَاهُ، فَغَضِبَ الْمَلِكُ مِنْ هَذَا وَكَتَبَ إلى نائبه بالمقدس أَنْ يَحْتَاطَ عَلَى هَذَا الْمَذْكُورِ، وَأَنْ يَصْلُبَهُ ويضع الشوك على رأسه ويكف أذاه عن الناس، فلما وصل الكتاب امتثل والي بيت المقدس ذلك وذهب هو طائفة مِنَ الْيَهُودِ إِلَى الْمَنْزِلِ الَّذِي فِيهِ عِيسَى
رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَرْفَعَ عِيسَى إِلَى السَّمَاءِ خَرَجَ عَلَى أَصْحَابِهِ وَفِي الْبَيْتِ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا مِنَ الحواريين، فخرج عليهم وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ مَاءً، فَقَالَ: إِنَّ مِنْكُمْ مَنْ يكفر بي اثني عَشْرَةَ مَرَّةً بَعْدَ أَنْ آمَنَ بِي، قَالَ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّكُمْ يُلقى عَلَيْهِ شَبَهِي فَيُقْتَلُ مَكَانِي وَيَكُونَ مَعِي فِي دَرَجَتِي؟ فَقَامَ شَابٌّ من أحدثم سِنًّا، فَقَالَ لَهُ: اجْلِسْ، ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِمْ، فَقَامَ ذَلِكَ الشَّابُّ، فَقَالَ: اجْلِسْ، ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِمْ، فَقَامَ الشَّابُّ، فَقَالَ: أنا، فقال: هو أنت ذَاكَ، فأُلقي عَلَيْهِ شَبَهُ عِيسَى وَرُفِعَ عِيسَى مِنْ رَوْزَنَةٍ فِي الْبَيْتِ إِلَى السَّمَاءِ، قَالَ: وَجَاءَ الطَّلَبُ مِنَ الْيَهُودِ، فَأَخَذُوا الشَّبَهَ فَقَتَلُوهُ، ثم صلبوه، فكفر بِهِ بَعْضُهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مَرَّةً بَعْدَ أَنْ آمن به، وافترقوا ثَلَاثَ فِرَقٍ، فَقَالَتْ فِرْقَةٌ: كَانَ اللَّهُ فِينَا مَا شَاءَ ثُمَّ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ وَهَؤُلَاءِ (الْيَعْقُوبِيَةُ) وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: كَانَ فِينَا ابْنُ اللَّهِ مَا شَاءَ ثُمَّ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ، وَهَؤُلَاءِ (النُّسْطُورِيَّةُ) وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: كَانَ فِينَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَهَؤُلَاءِ (الْمُسْلِمُونَ) فَتَظَاهَرَتِ الْكَافِرَتَانِ عَلَى الْمُسْلِمَةِ فَقَتَلُوهَا، فَلَمْ يَزَلِ الْإِسْلَامُ طامساً حتى يبعث الله محمداً ﷺ (قال الحافظ ابن كثير: هذا إسناد صحيح إلى ابن عباس)
وروى ابن جرير عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: كَانَ اسْمُ مَلِكِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِي بُعِثَ إِلَى عِيسَى لِيَقْتُلَهُ رَجُلًا مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ (دَاوُدُ)، فَلَمَّا أَجْمَعُوا لِذَلِكَ مِنْهُ لَمْ يَفْظَعْ عَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ بِالْمَوْتِ - فِيمَا ذُكِرَ لِي - فَظَعَهُ، وَلَمْ يجزع منه جزعه ولم يدع فِي صَرْفِهِ عَنْهُ دُعَاءَهُ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَقُولُ فِيمَا يَزْعُمُونَ: اللَّهُمَّ إِنَّ كُنْتَ صَارِفًا هَذِهِ الْكَأْسَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِكَ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي رَجُلٌ كَانَ نَصْرَانِيًّا فَأَسْلَمَ، أَنَّ عِيسَى حِينَ جَاءَهُ مِنَ اللَّهِ إني رافعك إِلَيَّ، قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْحَوَارِيِّينَ أَيُّكُمْ يُحِبُّ أن يكون رفيقي في الجنة حتى يُشَبَّهَ لِلْقَوْمِ فِي صُورَتِي فَيَقْتُلُوهُ فِي مَكَانِي؟ فَقَالَ (سِرْجِسُ): أَنَا يَا رُوحَ اللَّهِ، قَالَ: فَاجْلِسْ فِي مَجْلِسِي فَجَلَسَ فِيهِ، وَرُفِعَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَأَخَذُوهُ فَصَلَبُوهُ، فَكَانَ هُوَ الَّذِي صَلَبُوهُ وَشُبِّهَ لَهُمْ بِهِ، وَكَانَتْ عِدَّتُهُمْ حِينَ دَخَلُوا مَعَ عِيسَى مَعْلُومَةً، قَدْ رأوهم فأحصوا عدتهم، فلما دخلوا عليهم ليأخذوه وجدوا عيسى وأصحابه فيما يرون وَفَقَدُوا رَجُلًا مِنَ الْعِدَّةِ، فَهُوَ الَّذِي اخْتَلَفُوا فيه، وكانوا لا يعرفون عيسى جعلوا ل (ليودس ركريا يُوطَا) ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا عَلَى أَنْ يَدُلَّهُمْ عَلَيْهِ وَيُعَرِّفَهُمْ إِيَّاهُ، فَقَالَ لَهُمْ: إِذَا دَخَلْتُمْ عَلَيْهِ فَإِنِّي سَأُقَبِّلُهُ، وَهُوَ الَّذِي أقبِّل فَخُذُوهُ، فَلَمَّا دَخَلُوا وَقَدْ رُفِعَ عِيسَى وَرَأَى سِرْجِسَ فِي صورة عيسى فلم يشك أنه هو، فَأَكَبَّ عَلَيْهِ فَقَبَّلَهُ، فَأَخَذُوهُ فَصَلَبُوهُ، ثُمَّ إِنْ (ليودس ركريا يُوطَا) نَدِمَ عَلَى مَا صَنَعَ، فَاخْتَنَقَ بِحَبْلٍ حَتَّى قَتَلَ نَفْسَهُ وَهُوَ مَلْعُونٌ فِي النَّصَارَى، وَقَدْ كَانَ أَحَدَ الْمَعْدُودِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَبَعْضُ النصارى يزعم أنه (ليودس ركريا يوطا) وهو الَّذِي شُبِّهَ لَهُمْ فَصَلَبُوهُ، وَهُوَ يَقُولُ: إِنِّي لَسْتُ بِصَاحِبِكُمْ، أَنَا الَّذِي دَلَلْتُكُمْ عَلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَيَّ ذَلِكَ كَانَ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ عن مجاهد: صلبوا رجلاً شبه بِعِيسَى وَرَفَعَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ عِيسَى إِلَى السَّمَاءِ حَيًّا، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ شَبَهَ عِيسَى أُلْقِيَ عَلَى جَمِيعِ أَصْحَابِهِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَإِن مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً﴾ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ مَعْنَى ذَلِكَ: ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ يَعْنِي قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى، يُوَجِّهُ ذَلِكَ إِلَى أَنَّ جَمِيعَهُمْ يُصَدِّقُونَ بِهِ إِذَا نَزَلَ لِقَتْلِ الدَّجَّالِ، فَتَصِيرُ الْمِلَلُ كُلُّهَا وَاحِدَةً، وَهِيَ مِلَّةُ (الْإِسْلَامِ الْحَنِيفِيَّةُ) دِينُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. عن ابن عباس ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ قَالَ: قَبْلَ موت عيسى بن مريم عليه السلام، وَقَالَ أَبُو مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ قَالَ: ذَلِكَ عِنْدَ نُزُولِ عيسى وقبل موت عيسى بن مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَبْقَى أَحَدٌ مِنْ أهل الكتاب إلا آمن به وقال: الحسن: قبل موت عيسى والله إنه لحي الآن عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنْ إِذَا نَزَلَ آمَنُوا بِهِ أجمعون. قال ابن جرير وقال آخرون يعني بذلك ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ﴾ بعيسى قبل موت صاحب الكتاب لِأَنَّ كُلَّ مَنْ نَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ لَمْ تَخْرُجْ نَفْسُهُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ مِنَ الباطل في دينه. قال ابن عباس في الآية: لا يموت يهودي حتى يؤمن بعيسى وعن مجاهد: كُلُّ صَاحِبِ كِتَابٍ يُؤْمِنُ بِعِيسَى قَبْلَ مَوْتِهِ؛ قبل موت صاحب الكتاب.
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ قَالَ: هِيَ فِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ (قَبْلَ مَوْتِهِمْ) لَيْسَ يَهُودِيٌّ يَمُوتُ أَبَدًا حَتَّى يُؤْمِنَ بِعِيسَى، قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَرَأَيْتَ إِنْ خَرَّ مِنْ فَوْقِ بَيْتٍ؟ قَالَ: يَتَكَلَّمُ بِهِ فِي الهويّ قيل: أرأيت إن ضربت عنق أحدهم قال: يلجلج بها لسانه، فَهَذِهِ كُلُّهَا أَسَانِيدُ صَحِيحَةٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وكذا صح عن مجاهد وعكرمة وابن سيرين وبه يقول الضحاك وقال السدي وَحَكَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،
ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِالصِّحَّةِ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَبْقَى أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بَعْدَ نُزُولِ عِيسَى عليه السلام إلا آمن به قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَلَا شَكَّ أن هذا الذي قاله ابن جرير هو الصحيح، لأنه المقصود من سياق الآية فِي تَقْرِيرِ بُطْلَانِ مَا ادَّعَتْهُ الْيَهُودُ مِنْ قَتْلِ عِيسَى وَصَلْبِهِ، وَتَسْلِيمِ مَنْ سَلَّمَ لَهُمْ من النصارى الجهلة ذلك، فأختبر اللَّهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَإِنَّمَا شبه لهم فقتلوا الشبه وَهُمْ لَا يَتَبَيَّنُونَ ذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّهُ رَفَعَهُ إِلَيْهِ وَإِنَّهُ بَاقٍ حَيٌّ، وَإِنَّهُ سَيَنْزِلُ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الْمُتَوَاتِرَةُ التي سنودرها إِنْ شَاءَ اللَّهُ قَرِيبًا فَيَقْتُلُ مَسِيحَ الضَّلَالَةِ، وَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ يَعْنِي لَا يَقْبَلُهَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ، بَلْ لَا يَقْبَلُ إِلَّا الْإِسْلَامَ أَوِ السَّيْفَ فأخبرت هذه الآية الكريمة أنه يُؤْمِنَ بِهِ جَمِيعُ أَهْلِ الْكِتَابِ حِينَئِذٍ وَلَا يَتَخَلَّفُ عَنِ التَّصْدِيقِ بِهِ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ أَيْ قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى عَلَيْهِ السلام الَّذِي زَعَمَ الْيَهُودُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنَ النَّصَارَى أَنَّهُ قُتِلَ وَصُلِبَ. ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً﴾ أَيْ بِأَعْمَالِهِمُ الَّتِي شَاهَدَهَا مِنْهُمْ قَبْلَ رَفْعِهِ إِلَى السَّمَاءِ وَبَعْدَ نُزُولِهِ إِلَى الْأَرْضِ، فَأَمَّا مَنْ فَسَّرَ هَذِهِ الْآيَةَ بِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ كِتَابِيٍّ لَا يَمُوتُ حَتَّى يُؤْمِنَ بعيسى أو بمحمد عليهما الصلاة وَالسَّلَامُ فَهَذَا هُوَ الْوَاقِعُ، وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ أحد عند احتضاره، ينجلي لَهُ مَا كَانَ جَاهِلًا بِهِ فَيُؤْمِنُ بِهِ، وَلَكِنْ لَا يَكُونُ ذَلِكَ إِيمَانًا نَافِعًا لَهُ إِذَا كَانَ قَدْ شَاهَدَ الْمَلَكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ﴾ الآية، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ* فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا﴾ الآية.
(ذكر الأحاديث الواردة في نزول (عيسى بن مَرْيَمَ) إِلَى الْأَرْضِ مِنَ السَّمَاءِ فِي آخِرِ الزمان
(يتبع... )
قَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي (كِتَابِ ذِكْرِ الأنبياء) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلًا، فَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، وحتى تكون السجدة خيراً له مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا»، ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: اقْرَأُوا إِنْ شِئْتُمْ: ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا﴾ (أخرجه الشيخان واللفظ للبخاري) وقال أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «ينزل عيسى بن مَرْيَمَ فَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ وَيَمْحُو الصَّلِيبَ وَتُجْمَعُ لَهُ الصَّلَاةُ وَيُعْطِي الْمَالَ حَتَّى لَا يُقْبَلَ وَيَضَعُ الْخَرَاجَ وَيَنْزِلُ الرَّوْحَاءَ فَيَحُجُّ مِنْهَا أَوْ يَعْتَمِرُ أَوْ يَجْمَعُهُمَا» قَالَ وَتَلَا أَبُو هُرَيْرَةَ: ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ الآية، فَزَعَمُ حَنْظَلَةُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: يُؤْمِنُ بِهِ قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى، فَلَا أَدْرِي هَذَا كُلُّهُ حَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو شيء قاله أبو هريرة.
(طريق أخرى): قال البخاري عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: «كيف بكم إذا نزل فيكم المسيح بن مريم وإمامكم منكم» (أخرجه البخاري ومسلم والإمام أحمد)
(حديث آخر): وروى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حتى تنزل الرُّومُ بِالْأَعْمَاقِ أَوْ بِدَابِقٍ، فَيَخْرُجُ إِلَيْهِمْ جَيْشٌ مِنَ الْمَدِينَةِ مِنْ خِيَارِ أَهْلِ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ، فإذا تصافوا قالت الرُّومُ: خَلَوْا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الَّذِينَ سَبَوْا مِنَّا نُقَاتِلْهُمْ، فَيَقُولُ الْمُسْلِمُونَ: لَا وَاللَّهِ لَا نُخَلِّي بينكم وبين إخواننا، فيقاتلوهم فيهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبداً يقتل ثلث هم أفضل الشهداء عند الله، ويفتح الثلث لا يفتنون أبداً فيفتحون (قُسْطَنْطِينِيَّةَ) فَبَيْنَمَا هُمْ يَقْسِمُونَ الْغَنَائِمَ قَدْ عَلَّقُوا سُيُوفَهُمْ بِالزَّيْتُونِ إِذْ صَاحَ فِيهِمُ الشَّيْطَانُ: إِنَّ المسيح قد خلفَكم (خَلَفكم في أهليكم: أي طرق أهلهم وهم غائبون عنهم) في أهليكم فيخرجون، وذلك باطل، فإذا جاءوا الشَّامَ خَرَجَ، فَبَيْنَمَا هُمْ يُعِدُّونَ لِلْقِتَالِ يُسَوُّونَ الصفوف، إذا أقيمت الصلاة فينزل عيسى بن مريم فيؤمهم، فَإِذَا رَآهُ عَدُوُّ اللَّهِ ذَابَ كَمَا يَذُوبُ الملح في الماء، فلو تركه لذاب حَتَّى يَهْلِكَ، وَلَكِنْ يَقْتُلُهُ اللَّهُ بِيَدِهِ فَيُرِيهِمْ دمه في حربته".
(حديث آخر): روى ابن ماجة في سننه عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ أَكْثَرُ خُطْبَتِهِ حَدِيثًا حَدَّثَنَاهُ عَنِ الدَّجَّالِ وَحَذَّرَنَاهُ فَكَانَ مِنْ قَوْلِهِ أَنْ قَالَ: "لَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ مُنْذُ ذَرَأَ اللَّهُ ذُرِّيَّةَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَعْظَمَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ وَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْ نَبِيًّا إِلَّا حَذَّرَ أُمَّتَهُ الدَّجَّالَ وَأَنَا آخِرُ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَنْتُمْ آخَرُ الْأُمَمِ، وَهُوَ خَارِجٌ فِيكُمْ لَا مَحَالَةَ، فَإِنْ يَخْرُجْ وأنا بين ظهرانيكم فأنا حجيج كل مُسْلِمٍ، وَإِنْ يَخْرُجْ مِنْ بَعْدِي فَكَلٌّ حَجِيجُ نفسه، وأن الله خَلِيفَتِي عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، وَإِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ خَلَّة بَيْنَ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ، فَيَعِيثُ يَمِينًا وَيَعِيثُ شمالاً، ألا يَا عِبَادَ اللَّهِ: أَيُّهَا النَّاسُ فَاثْبُتُوا وَإِنِّي سَأَصِفُهُ لَكُمْ صِفَةً لَمْ يَصِفْهَا إِيَّاهُ نَبِيٌّ قَبْلِي: إِنَّهُ يَبْدَأُ فَيَقُولُ: أَنَا نَبِيٌّ فَلَا نَبِيَّ بَعْدِي، ثُمَّ يُثَنِّي فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ وَلَا تَرَوْنَ رَبَّكُمْ حَتَّى تَمُوتُوا. وَإِنَّهُ أَعْوَرُ وَإِنَّ رَبَّكُمْ عزَّ وَجَلَّ لَيْسَ بِأَعْوَرَ، وَإِنَّهُ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ يَقْرَؤُهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ كَاتِبٍ وَغَيْرِ كَاتِبٍ، وَإِنَّ مِنْ فِتْنَتِهِ أَنَّ مَعَهُ جَنَّةً وَنَارًا فَنَارُهُ جَنَّةٌ وَجَنَّتُهُ نَارٌ فَمَنِ ابْتُلِيَ بِنَارِهِ فَلْيَسْتَغِثْ بِاللَّهِ، وَلْيَقْرَأْ فَوَاتِحَ الْكَهْفِ فَتَكُونُ عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلَامًا كَمَا كَانَتِ النار بَرْداً وسلاما على إبراهيم وإن من فتنته أن يقول للأعرابي: أرايت إن بعثت لك أمك وأباك أَتَشْهَدُ أَنِّي رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ نَعَمْ، فَيَتَمَثَّلُ لَهُ شيطان فِي صُورَةِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ، فَيَقُولَانِ: يَا بَنُيَّ اتَّبِعْهُ فَإِنَّهُ رَبُّكَ، وَإِنَّ مِنْ فِتْنَتِهِ أَنْ يسلط على نفس واحدة فينشرها
وَإِنَّ مِنْ فِتْنَتِهِ: أَنْ يَأْمُرَ السَّمَاءَ أَنْ تمطر فتمطر، ويأمر الأرض أن تنبت فتنبت، وَإِنَّ مِنْ فِتْنَتِهِ أَنْ يَمُرَّ بِالْحَيِّ فَيُكَذِّبُونَهُ فَلَا تَبْقَى لَهُمْ سَائِمَةٌ إِلَّا هَلَكَتْ، وَإِنَّ مِنْ فِتْنَتِهِ أَنْ يَمُرَّ بِالْحَيِّ فَيُصَدِّقُونَهُ فَيَأْمُرُ السماء أن تمطر فتمطر ويأمر الأرض أن تُنْبِتَ فَتُنْبِتَ، حَتَّى تَرُوحَ مَوَاشِيهِمْ مِنْ يَوْمِهِمْ ذَلِكَ أَسْمَنَ مَا كَانَتْ وَأَعْظَمَهُ، وَأَمَدَّهُ خَوَاصِرَ وأدره ضروعاً، وأنه لا يبقى شء مِنَ الْأَرْضِ إِلَّا وَطِئَهُ وَظَهَرَ عَلَيْهِ إِلَّا (مكة) و (المدينة) فإنه لا يأتيهم مِنْ نَقْبٍ مِنْ نِقَابِهِمَا إِلَّا لَقِيَتْهُ الْمَلَائِكَةُ بِالسُّيُوفِ صَلْتَةً حَتَّى يَنْزِلَ عِنْدَ الظَّرِيبِ الْأَحْمَرِ عِنْدَ مُنْقَطَعِ السَّبَخَةِ فَتَرْجُفُ الْمَدِينَةُ بِأَهْلِهَا ثَلَاثَ رجفات فال يَبْقَى مُنَافِقٌ وَلَا مُنَافِقَةٌ إِلَّا خَرَجَ إِلَيْهِ، فينفى الْخَبَثَ مِنْهَا كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ، وَيُدْعَى ذَلِكَ الْيَوْمُ (يَوْمَ الْخَلَاصِ) فَقَالَتْ أُمُّ شَرِيكٍ بِنْتُ أَبِي الْعَكَرِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَيْنَ الْعَرَبُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: "هُمْ قَلِيلٌ وَجُلُّهُمْ يومئذ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَإِمَامُهُمْ رَجُلٌ صَالِحٌ، فَبَيْنَمَا إِمَامُهُمْ قَدْ تَقَدَّمَ يُصَلِّي بِهِمُ الصُّبْحَ إِذْ نَزَلَ عليه عيسى بن مريم عليه السلام، فرجع ذلك الإمام يمشي القهقرى ليتقدم عيسى عليه السلام فيضع عيسى يَدَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، ثُمَّ يَقُولُ: تَقَدَّمَ فَصَلِّ فَإِنَّهَا لَكَ أُقِيمَتْ، فَيُصَلِّي بِهِمْ إِمَامُهُمْ، فَإِذَا انصرف قال عيسى: افْتَحُوا الْبَابَ فَيُفْتَحُ وَوَرَاءَهُ الدَّجَّالُ مَعَهُ سَبْعُونَ ألف يهودي كلهم ذو سيف محلى وتاج، فَإِذَا نَظَرَ إِلَيْهِ الدَّجَّالُ ذَابَ كَمَا يَذُوبُ الملح في الماء وينطلق هارباً، فيقول عيسى إن لي فيك ضربة لن تسبقني بِهَا فَيُدْرِكُهُ عِنْدَ بَابَ لُدّ) الشَّرْقِيِّ فَيَقْتُلُهُ، وَيَهْزِمُ اللَّهُ الْيَهُودَ فَلَا يَبْقَى شَيْءٌ مِمَّا خلق الله تعالى يتوارى به يهودي إِلَّا أَنْطَقَ اللَّهُ ذَلِكَ الشَّيْءَ - لَا حَجَرَ وَلَا شَجَرَ وَلَا حَائِطَ وَلَا دَابَّةَ، إِلَّا الفرقدة فَإِنَّهَا مِنْ شَجَرِهِمْ لَا تَنْطِقُ - إِلَّا قَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ الْمُسْلِمَ: هَذَا يَهُودِيٌّ فَتَعَالَ اقْتُلْهُ.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِنَّ أَيَّامَهُ أَرْبَعُونَ سَنَةً، السَّنَةُ كَنِصْفِ السَّنَةِ، وَالسَّنَةُ كَالشَّهْرِ، وَالشَّهْرُ كَالْجُمُعَةِ، وَآخِرُ أَيَّامِهِ كَالشَّرَرَةِ يُصْبِحُ أَحَدُكُمْ عَلَى بَابِ الْمَدِينَةِ فَلَا يَبْلُغُ بَابَهَا الْآخَرَ حَتَّى يُمْسِيَ»، فَقِيلَ لَهُ: كيف نصلي يا نبي الله في تلك الأيام القصار؟ قال: «تقدرون الصَّلَاةَ كَمَا تُقَدِّرُونَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الطِّوَالِ ثُمَّ صَلُّوا»، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فيكون عيسى بن مَرْيَمَ فِي أُمَّتِي حَكَمًا عَدْلًا وَإِمَامًا مُقْسِطًا، يدق الصليب ويذبح الْخِنْزِيرَ وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ وَيَتْرُكُ الصَّدَقَةَ، فَلَا يُسْعَى عَلَى شَاةٍ وَلَا بَعِيرٍ، وَتَرْتَفِعُ الشَّحْنَاءُ وَالتَّبَاغُضُ، وتنزح حُمَةُ كُلِّ ذَاتِ حُمَةٍ حَتَّى يُدْخِلَ الْوَلِيدُ يَدَهُ فِي الْحَيَّةِ فَلَا تَضُرَّهُ، وَتُفِرُّ الْوَلِيدَةُ الْأَسَدَ فَلَا يَضُرَّهَا، وَيَكُونُ الذِّئْبُ فِي الْغَنَمِ كَأَنَّهُ كَلْبُهَا، وَتُمْلَأُ الْأَرْضُ مِنَ السِّلْمِ كَمَا يُمْلَأُ الْإِنَاءُ مِنَ الْمَاءِ، وَتَكُونُ الْكَلِمَةُ وَاحِدَةً فَلَا يُعْبَدُ إِلَّا اللَّهُ، وَتَضَعُ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا، وتسلب قريش ملكها، وتكون الأرض لها نور الفضة، وتنبت نَبَاتَهَا كَعَهْدِ آدَمَ حَتَّى يَجْتَمِعَ النَّفَرُ عَلَى الْقِطْفِ مِنَ الْعِنَبِ فَيُشْبِعَهُمْ، وَيَجْتَمِعَ النَّفَرُ عَلَى الرُّمَّانَةِ فَتُشْبِعَهُمْ، وَيَكُونُ الثَّوْرُ بِكَذَا وَكَذَا مِنَ الْمَالِ وَيَكُونُ الْفَرَسُ بِالدُّرَيْهِمَاتِ» قِيلَ يَا رَسُولَ الله ومايرخص الْفَرَسَ؟ قَالَ: «لَا تُرْكَبُ لِحَرْبٍ أَبَدًا»، قِيلَ له فما يغلي الثور؟ قال: «يحرث الْأَرْضُ كُلُّهَا، وَإِنَّ قَبْلَ خُرُوجِ الدَّجَّالِ ثَلَاثَ سَنَوَاتٍ شِدَادٍ يُصِيبُ النَّاسَ فِيهَا جُوعٌ شَدِيدٌ، ويأمر اللَّهُ السَّمَاءَ فِي السَّنَةِ الْأُولَى أَنْ تَحْبِسَ ثُلُثَ مَطَرِهَا، وَيَأْمُرُ الْأَرْضَ فَتَحْبِسُ ثُلُثَ نَبَاتِهَا، ثم يأمر الله السماء في السنة الثَّانِيَةِ فَتَحْبِسُ ثُلُثَيْ مَطَرِهَا، وَيَأْمُرُ الْأَرْضَ فَتَحْبِسُ ثلثي نباتها، ثم يأمر الله عزَّ وجلَّ السَّمَاءَ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ فَتَحْبِسُ مَطَرَهَا كُلَّهُ فَلَا تَقْطُرُ قَطْرَةً،
(حديث آخر): وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون حتى يختبيء اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله - إلا الفرقد فإنه من شجر اليهود" (رواه مسلم عن أبي هريرة مرفوعاً).
(حديث آخر): وقال مسلم في صحيحه عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدَّجَّالَ ذَاتَ غَدَاةٍ فَخَفَّضَ فِيهِ وَرَفَّعَ حَتَّى ظَنَنَّاهُ فِي طَائِفَةِ النَّخْلِ، فَلَمَّا رُحْنَا إليه عرف ذلك في وجوهنا، فَقَالَ: «مَا شَأْنُكُمْ»؟ قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَكَرْتَ الدَّجَّالَ غَدَاةً فَخَفَّضْتَ فِيهِ وَرَفَّعْتَ حَتَّى ظَنَنَّاهُ فِي طَائِفَةِ النخل، قال: «غَيْرُ الدَّجَّالِ أخْوَفُنِي عَلَيْكُمْ، إِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا فِيكُمْ، فَأَنَا حَجِيجُهُ دُونَكُمْ، وَإِنْ يَخْرُجْ وَلَسْتُ فِيكُمْ فَامْرُؤٌ حَجِيجُ نَفْسِهِ، وَاللَّهُ خَلِيفَتِي عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، إِنَّهُ شَابٌّ قَطَطٌ، عَيْنُهُ طَافِيَةٌ كَأَنِّي أَشْبِّهُهُ بِعَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قَطَنٍ، مِنْ أَدْرَكَهُ مِنْكُمْ فَلْيَقْرَأْ عَلَيْهِ فَوَاتِحَ سُورَةِ الْكَهْفِ، إنه خارج من خَلَّةً بَيْنَ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ، فَعَاثَ يَمِينًا وَعَاثَ شِمَالًا، يَا عِبَادَ اللَّهِ فَاثْبُتُوا» قُلْنَا: يَا رسول الله فما لبثه في الأرض؟ قال: «أربعون يَوْمًا، يَوْمٌ كَسَنَةٍ، وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ، وَيَوْمٌ كَجُمُعَةٍ، وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ» قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وذلك الْيَوْمُ الَّذِي كَسَنَةٍ أَتَكْفِينَا فِيهِ صَلَاةُ يَوْمٍ؟ قا: «لَا، اقْدِرُوا لَهُ قَدْرَهُ»، قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا إِسْرَاعُهُ فِي الْأَرْضِ؟ قَالَ: "كَالْغَيْثِ اسْتَدْبَرَتْهُ الرِّيحُ، فَيَأْتِي عَلَى قَوْمٍ فَيَدْعُوهُمْ فَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَجِيبُونَ لَهُ، فَيَأْمُرُ السَّمَاءَ فَتُمْطِرُ، وَالْأَرْضَ فَتُنْبِتُ، فَتَرُوحُ عَلَيْهِمْ سَارِحَتُهُمْ أَطْوَلَ مَا كَانَتْ ذرى أسبغه ضُرُوعًا وَأَمَدَّهُ خَوَاصِرَ، ثُمَّ يَأْتِي الْقَوْمَ فَيَدْعُوهُمْ فيردون عليهم قَوْلَهُ، فَيَنْصَرِفُ عَنْهُمْ، فَيُصْبِحُونَ مُمْحِلِينَ لَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ شَيْءٌ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَيَمُرُّ بِالْخَرِبَةِ فَيَقُولُ لَهَا: أَخْرِجِي كنوزك فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل (يعاسيب النحل: ذكروها)، ثُمَّ يَدْعُو رَجُلًا مُمْتَلِئًا شَبَابًا فَيَضْرِبُهُ بِالسَّيْفِ فَيَقْطَعُهُ جَزْلَتَيْنِ رَمْيَةَ الْغَرَضِ، ثُمَّ يَدْعُوهُ فَيُقْبِلُ وتهلل وَجْهُهُ وَيَضْحَكُ. فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ الله (المسيح بن مَرْيَمَ) عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَيَنْزِلُ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ بَيْنَ مَهْرُودَتَيْنِ وَاضِعًا كَفَّيْهِ عَلَى أجنحة ملكين، إذا طأطأ رأسه قطر، وإذار رفعه تحَّر منه كجمان اللُّؤْلُؤِ، وَلَا يَحِلُّ لِكَافِرٍ يَجِدُ رِيحَ نَفَسِهِ إِلَّا مَاتَ، وَنَفَسُهُ يَنْتَهِي حَيْثُ يَنْتَهِي طَرْفُهُ، فَيَطْلُبُهُ حَتَّى يُدْرِكَهُ بِبَابِ لُدٍّ، فَيَقْتُلُهُ، ثُمَّ يَأْتِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَوْمًا قَدْ عَصَمَهُمُ اللَّهُ مِنْهُ فَيَمْسَحُ عَنْ وُجُوهِهِمْ، وَيُحَدِّثُهُمْ بِدَرَجَاتِهِمْ في الجنة، فبينما هو كذلك إذا أَوْحَى اللَّهُ عزَّ وجلَّ إِلَى عِيسَى: إِنِّي قَدْ أَخْرَجْتُ عِبَادًا لِي لَا يَدَانِ لِأَحَدٍ بِقِتَالِهِمْ فَحَرِّزْ عِبَادِي إِلَى الطُّورِ.
وَيَبْعَثُ اللَّهُ (يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ) وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ ينسلون، فيمر أولهم عَلَى بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ فَيَشْرَبُونَ مَا فِيهَا، وَيَمُرُّ آخرهم فيقولون: لقد كان بهذا مرة ماء، ويحضر نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ حَتَّى يَكُونَ رَأْسُ الثَّوْرِ لِأَحَدِهِمْ خَيْرًا مِنْ مِائَةِ دِينَارٍ لِأَحَدِكُمُ الْيَوْمَ، فَيَرْغَبُ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ فَيُرْسِلُ اللَّهُ عَلَيْهِمُ النَّغَفَ فِي رِقَابِهِمْ فَيُصْبِحُونَ فرْسى (أي: قتلى) كَمَوْتِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ يَهْبِطُ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى الْأَرْضِ فَلَا يَجِدُونَ فِي الأرض موضع شبر إلا
ثُمَّ يُقَالُ لِلْأَرْضِ أَخْرِجِي ثَمَرَكِ وَرُدِّي بَرَكَتَكِ، فَيَوْمَئِذٍ تَأْكُلُ الْعِصَابَةُ مِنَ الرُّمَّانَةِ وَيَسْتَظِلُّونَ بِقَحْفِهَا، وَيُبَارِكُ اللَّهُ فِي الرِّسْلِ حَتَّى إِنَّ اللَّقْحَةَ مِنَ الْإِبِلِ لتكفي الفئام (الرسل بالتحريك: القطيع الجمع أرسال، واللقحة - بالكسر وبالفتح لغة - هي ذات اللبن، والفئام الجماعة) مِنَ النَّاسِ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ الله ريحاً طيبة فتأخذهم تحت آباطهم، فيقبض الله رُوحَ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَكُلِّ مُسْلِمٍ، وَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ يَتَهَارَجُونَ فِيهَا تَهَارُجَ الْحُمُرِ، فَعَلَيْهِمْ تَقُومُ الساعة" (أخرجه مسلم ورواه أحمد وأهل السنن)
(يتبع... )
(حديث آخر}: قال مسلم في صحيحه عن يَعْقُوبَ بْنَ عَاصِمِ بْنِ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ الثقفي يقول، سمعت عبد الله ابن عَمْرٍو - وَجَاءَهُ رَجُلٌ - فَقَالَ: مَا هَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي تُحَدِّثُ بِهِ؟ تَقُولُ: إِنَّ السَّاعَةَ تَقُومُ إِلَى كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ: (سُبْحَانَ اللَّهِ) أَوْ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) أو كلمة نحوهما، لقد هممت أن لا أُحَدِّثَ أَحَدًا شَيْئًا أَبَدًا، إِنَّمَا قُلْتُ: إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدَ قَلِيلٍ أَمْرًا عَظِيمًا: يُحْرَّقُ الْبَيْتُ وَيَكُونُ وَيَكُونُ، ثُمَّ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَخْرُجُ الدَّجَّالُ فِي أُمتي فَيَمْكُثُ أَرْبَعِينَ، لَا أَدْرِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا، أَوْ أَرْبَعِينَ شَهْرًا، أَوْ أَرْبَعِينَ عَامًا، فَيَبْعَثُ الله تعالى عيسى بن مَرْيَمَ كَأَنَّهُ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ، فَيَطْلُبُهُ فَيُهْلِكُهُ، ثُمَّ يَمْكُثُ النَّاسُ سَبْعَ سِنِينَ لَيْسَ بَيْنَ اثْنَيْنِ عَدَاوَةٌ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ رِيحًا بَارِدَةً مِنْ قِبَلِ الشَّامِ فَلَا يَبْقَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ - أَوْ إِيمَانٍ - إِلَّا قَبَضَتْهُ، حَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ دَخَلَ فِي كَبَدِ جَبَلٍ لَدَخَلَتْهُ عَلَيْهِ حَتَّى تَقْبِضَهُ».
قَالَ: سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "بيبقى شِرَارُ النَّاسِ فِي خِفَّةِ الطَّيْرِ وَأَحْلَامِ السِّبَاعِ، لَا يَعْرِفُونَ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُونَ مُنْكَرًا، فَيَتَمَثَّلُ لهم الشيطان، فيقول: لا تَسْتَجِيبُونَ؟ فَيَقُولُونَ: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ فَيَأْمُرُهُمْ بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وهم في ذلك دارٌّ رزقهم، حسُ عَيْشُهُمْ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَلَا يَسْمَعُهُ أَحَدٌ إِلَّا أَصْغَى لِيتًا وَرَفَعَ لِيتًا، قَالَ: وأول من سمعه رجل يلوط حوض إبله، فيصعق ويصعق الناسن ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ - أَوْ قَالَ يُنْزِلُ اللَّهُ - مَطَرًا كَأَنَّهُ الطَّلُّ - أَوْ قَالَ الظِّلُّ - نُعْمَانُ الشَّاكُّ - فَتَنْبُتُ مِنْهُ أَجْسَادُ النَّاسِ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ. ثُمَّ يقال: أَيُّهَا النَّاسُ هَلُمُّوا إِلَى رَبِّكُمْ ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مسؤولون﴾، ثم يقال: أخرجوا بعث الناس، فَيُقَالُ مِنْ كَمْ؟ فَيُقَالُ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تسعمائة وتسعة وتسعين، قال فذلك ﴿يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شَيْبًا﴾ وَذَلِكَ ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَن ساق﴾ (أخرجه مسلم والنسائي)
(حديث آخر) قال الإمام أحمد، أخبرنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عبد الله بن عبيد الله ابن ثعلبة الأنصاري، عن عبد الله بن زيد الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ مُجَمِّعِ بْنِ جَارِيَةَ، قَالَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: «يَقْتُلُ ابْنُ مَرْيَمَ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ بِبَابِ لُدٍّ - أَوْ إِلَى جَانِبِ لُدٍّ -» وَرَوَاهُ أَحْمَدُ أَيْضًا عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ مِنْ
(حديث آخر): وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَرَوْا عَشْرَ آيَاتٍ: طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَالدُّخَانُ، وَالدَّابَّةُ، وَخُرُوجُ يأجوج ومأجوج، ونزول عيسى بن مَرْيَمَ، وَالدَّجَّالُ، وَثَلَاثَةُ خُسُوفٍ: خَسْفٌ بِالْمُشْرِقِ، وَخَسْفٌ بِالْمَغْرِبِ، وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَنَارٌ تَخْرُجُ مِنْ قَعْرِ عَدَنٍ تَسُوقُ - أَوْ تَحْشُرُ - النَّاسَ، تَبِيتُ مَعَهُمْ حَيْثُ بَاتُوا وَتَقِيلُ مَعَهُمْ حَيْثُ قَالُوا" (رواه أحمد ومسلم واصحاب السنن) وَذَكَرَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِرَ فِي ترجمة عيسى بن مَرْيَمَ مِنْ تَارِيخِهِ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ: أَنَّهُ يُدْفَنُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حُجْرَتِهِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً﴾ قَالَ قَتَادَةُ: يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَهُمُ الرِّسَالَةَ مِنَ اللَّهِ، وأقر بعبودية الله عزَّ وجلَّ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آخِرِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ: ﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ - إلى قوله - العزيز الحكيم﴾.
- ١٦١ - وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً
- ١٦٢ - لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ بِسَبَبِ ظُلْمِ الْيَهُودِ بِمَا ارْتَكَبُوهُ مِنَ الذُّنُوبِ الْعَظِيمَةِ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ كَانَ أَحَلَّهَا لهم، كما قال ابن أبي حاتم عن عمرو، قال قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (طَيِّبَاتٍ كَانَتْ أُحِلَّتْ لَهُمْ) وَهَذَا التَّحْرِيمُ قَدْ يَكُونُ (قَدَرِيًّا) بِمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى قَيَّضَهُمْ لِأَنْ تَأَوَّلُوا فِي كِتَابِهِمْ، وحرَّفوا وَبَدَّلُوا أَشْيَاءَ كَانَتْ حَلَالًا لَهُمْ، فَحَرَّمُوهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ تَشْدِيدًا مِنْهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَتَضْيِيقًا وَتَنَطُّعًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ (شَرْعِيًّا) بِمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ أَشْيَاءَ كَانَتْ حَلَالًا لَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تنزل التوراة﴾ وَقَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ وَأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْجَمِيعَ مِنَ الْأَطْعِمَةِ كَانَتْ حَلَالًا لَهُمْ، مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ مَا عَدَا مَا كَانَ حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ وَأَلْبَانِهَا. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى
وقوله تعالى: ﴿وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ﴾، ﴿أَيْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ نَهَاهُمْ عَنِ الرِّبَا فَتَنَاوَلُوهُ وَأَخَذُوهُ وَاحْتَالُوا عَلَيْهِ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْحِيَلِ وَصُنُوفٍ مِنَ الشُّبَهِ، وَأَكَلُوا أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، قَالَ تَعَالَى: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ﴾ أَيِ الثَّابِتُونَ فِي الدِّينِ، لَهُمْ قَدَمٌ رَاسِخَةٌ فِي العلم النافع، ﴿والمؤمنون﴾ عطف على الرسخين، وَخَبَرُهُ ﴿يُؤْمِنُونَ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أُنْزِلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَثَعْلَبَةَ بْنِ سَعْيَةَ (في نسخة الأميرية: تحريف في هذه الأسماء واعتمد في تصحيحها على ما في الإصابة وغيرها، وسعيه بفتح السين المهملة وسكون الياء التحتانية) وأسد بْنِ سَعْيَةَ وَأَسَدِ بْنِ عُبَيْدٍ الَّذِينَ دَخَلُوا في الإسلام صدقوا بِمَا أَرْسَلَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿والمقيمين الصلاة﴾ هكذا، هو في جميع مصاحف الْأَئِمَّةِ وَكَذَا هُوَ فِي مُصْحَفِ (أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ)، وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّهَا فِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ ﴿وَالْمُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾، قَالَ: وَالصَّحِيحُ قِرَاءَةُ الجميع، رَدَّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ غَلَطِ الْكُتَّابِ، ثُمَّ ذَكَرَ اخْتِلَافَ النَّاسِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَدْحِ، كَمَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ والضراء وَحِينَ البأس﴾، قال وَهَذَا سَائِغٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَمَا قَالَ الشاعر:
لا يبعدن قومي الذن همو * أسد الْعُدَاةِ وَآفَةُ الْجُزْرِ
النَّازِلِينَ بِكُلِّ مُعْتَرَكٍ * وَالطَّيِّبُونَ مَعَاقِدَ الْأَزْرِ
وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ مَخْفُوضٌ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: ﴿بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ﴾ يَعْنِي وَبِالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةِ، وَكَأَنَّهُ يَقُولُ: وبإقامة الصلاة التي يعترفون بوجوبها وكتابتها عليهم. وَقَوْلُهُ: ﴿وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ زَكَاةَ الْأَمْوَالِ، وَيَحْتَمِلُ زَكَاةَ النُّفُوسِ، وَيَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ أَيْ يُصَدِّقُونَ بِأَنَّهُ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) وَيُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا، وَقَوْلُهُ: ﴿أُولَئِكَ﴾ هُوَ الْخَبَرُ عَمَّا تَقَدَّمَ، ﴿سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً﴾ يَعْنِي الْجَنَّةَ.
- ١٦٤ - وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا
- ١٦٥ - رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً
قال ابن عباس، قال سكن وَعَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ: يَا مُحَمَّدُ مَا نَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ بَعْدَ مُوسَى، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمَا: ﴿إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ﴾ إِلَى آخَرِ الْآيَاتِ. ثُمَّ ذَكَرَ فَضَائِحَهُمْ وَمَعَايِبَهُمْ وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ الْآنَ مِنَ الْكَذِبِ وَالِافْتِرَاءِ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ أَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا أَوْحَى إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ، فَقَالَ: ﴿إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَى نُوحٍ والنبيين من بعده﴾، إلى قوله: ﴿وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً﴾ وَالزَّبُورُ اسْمُ الْكِتَابِ الَّذِي أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَى دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَسَنَذْكُرُ تَرْجَمَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عِنْدَ قَصَصِهِمْ من سورة الأنبياء إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَبِهِ الثِّقَةُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.
وقوله تعالى: ﴿وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ﴾، أَيْ مِنْ قَبْلِ هَذِهِ الْآيَةِ، يَعْنِي فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ وَغَيْرِهَا وَهَذِهِ تسمية الأنبياء الذين نص الله عَلَى أَسْمَائِهِمْ فِي الْقُرْآنِ وَهُمْ: (آدَمُ، وَإِدْرِيسُ، ونوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، ولوط، وإسماعيل، وإسحق، ويعقوب، ويوسف، وأيوب، وشعيب، وموسى، وهرون، وَيُونُسُ، وَدَاوُدُ، وَسُلَيْمَانُ، وَإِلْيَاسُ وَالْيَسَعُ، وَزَكَرِيَّا، وَيَحْيَى، وعيسى، وَكَذَا ذُو الْكِفْلِ، عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَسَيِّدُهُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَقَوْلُهُ: ﴿ورسلاً لمن نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ﴾ أَيْ خَلْقًا آخَرِينَ لَمْ يُذْكَرُوا فِي الْقُرْآنِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي عِدَّةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، وَالْمَشْهُورُ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ الطَّوِيلُ، وَذَلِكَ فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ رَحِمَهُ الله في تفسيره عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمِ الْأَنْبِيَاءُ؟ قَالَ: «مِائَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمِ الرُّسُلُ مِنْهُمْ؟ قَالَ: «ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ، جَمٌّ غَفِيرٌ»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ كَانَ أَوَّلَهُمْ؟ قَالَ: «آدَمُ»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ؟ قَالَ: «نَعَمْ خَلَقَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ من روحه ثم سواه قبيلاً» وقد روى هذا الْحَدِيثُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ صَحَابِيٍّ آخَرَ، فقال ابن أبي حاتم عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ، قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ كَمِ الْأَنْبِيَاءُ؟ قَالَ: «مِائَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وعشرون ألفاً، والرسل من ذلك ثلثمائة وخمسة عشر، جماً غفيراً».
وقوله تعالى: ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً﴾، وَهَذَا تَشْرِيفٌ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَلِهَذَا يُقَالُ لَهُ الْكِلِيمُ، وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا يَقْرَأُ ﴿وَكَلَّمَ اللهَ مُوسَى (قرأ هذا الرجل لفظ الجلالة بالنصب وموسى بالرفع) تَكْلِيمًا﴾، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا قَرَأَ هَذَا إِلَّا كَافِرٌ. قَرَأْتُ عَلَى الْأَعْمَشِ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ عَلَى يَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ، وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ عَلَى أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، وَقَرَأَ أبو عبد الرحمن السلمي عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَقَرَأَ
وقوله تعالى: ﴿رُّسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ﴾ أَيْ يُبَشِّرُونَ مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَاتَّبَعَ رِضْوَانَهُ بِالْخَيِّرَاتِ، وَيُنْذِرُونَ مَنْ خَالَفَ أَمْرَهُ وكذَّب رُسُلَهُ بِالْعِقَابِ وَالْعَذَابِ، وَقَوْلُهُ: ﴿لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً﴾، أَيْ أَنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ كُتُبَهُ وَأَرْسَلَ رُسُلَهُ بِالْبِشَارَةِ وَالنِّذَارَةِ، وَبَيَّنَ مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ مِمَّا يَكْرَهُهُ وَيَأْبَاهُ، لِئَلَّا يَبْقَى لِمُعْتَذِرٍ عُذْرٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى﴾، وكذا قوله: ﴿وَلَوْلَا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ الآية، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «لا أحد أغيرَ من الله، من أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ من الله عزَّ وجلَّ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ مَدَحَ نَفْسَهُ، وَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللَّهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ بَعَثَ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ»، وَفِي لَفْظٍ آخر: «مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَرْسَلَ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ كُتُبَهُ».
- ١٦٧ - إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّواْ ضَلَالًا بَعِيدًا
- ١٦٨ - إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا
- ١٦٩ - إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا
- ١٧٠ - يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُواْ خَيْراً لَّكُمْ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً
لَمَّا تَضْمَّنَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إليك﴾ إِلَى آخَرِ السِّيَاقِ إِثْبَاتَ نُبُوَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالرَّدَّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ نُبُوَّتَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ﴾ أَيْ وَإِنْ كَفَرَ بِهِ مَنْ كَفَرَ بِهِ مِمَّنْ كَذَّبَكَ وَخَالَفَكَ، فَاللَّهُ يَشْهَدُ لَكَ بِأَنَّكَ رَسُولُهُ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ وَهُوَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الذِي: ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بيه يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حميد﴾، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ﴾، أَيْ فِيهِ عِلْمُهُ الَّذِي أَرَادَ أَنْ يُطْلِعَ الْعِبَادَ عَلَيْهِ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى وَالْفَرْقَانِ، وَمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ، وَمَا يَكْرَهُهُ وَيَأْبَاهُ، وَمَا فِيهِ مِنَ الْعِلْمِ بِالْغُيُوبِ مِنَ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ، وَمَا فِيهِ مِنْ ذِكْرِ صِفَاتِهِ تَعَالَى الْمُقَدَّسَةِ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ وَلَا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ إِلَّا أَنْ
وقال ابن أبي حاتم عن عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ قَالَ: أَقْرَأَنِي أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلُمِيُّ الْقُرْآنَ، وَكَانَ إِذَا قَرَأَ عَلَيْهِ أَحَدُنَا الْقُرْآنَ قَالَ: قَدْ أَخَذْتَ عِلْمَ اللَّهِ، فَلَيْسَ أَحَدٌ الْيَوْمَ أَفْضَلَ مِنْكَ إِلَّا بِعَمَلٍ، ثم يقرأ قوله: ﴿أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً﴾ قوله: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ﴾ أَيْ بِصِدْقِ مَا جَاءَكَ وَأُوحِيَ إِلَيْكَ وَأُنْزِلَ عَلَيْكَ مَعَ شَهَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى بذلك، ﴿وكفى بالله شَهِيداً﴾ قال محمد بن إسحاق عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالَ لَهُمْ: «إِنِّي لَأَعْلَمُ وَاللَّهِ إِنَّكُمْ لَتَعْلَمُونِ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ»، فَقَالُوا: مَا نَعْلَمُ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: ﴿لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ﴾ الآية.
وقوله تعالى: ﴿إن الذين كفورا وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّواْ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ أَيْ كَفَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ فَلَمْ يَتَّبِعُوا الْحَقَّ، وَسَعَوْا فِي صَدِّ النَّاسِ عَنِ اتِّبَاعِهِ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِ، قَدْ خَرَجُوا عَنِ الْحَقِّ وَضَلُّوا عَنْهُ وَبَعُدُوا مِنْهُ بُعْدًا عَظِيمًا شَاسِعًا، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ حُكْمِهِ فِي الْكَافِرِينَ بِآيَاتِهِ وَكِتَابِهِ وَرَسُولِهِ، الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ بِذَلِكَ وَبِالصَّدِّ عَنْ سَبِيلِهِ، وَارْتِكَابِ مَآثِمِهِ، وَانْتِهَاكِ مَحَارِمِهِ بِأَنَّهُ لَا يغفر لهم ﴿ولا يهديهم طَرِيقاً﴾ أَيْ سَبِيلًا إِلَى الْخَيْرِ ﴿إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ﴾، وَهَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ ﴿خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً﴾ الآية.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُواْ خَيْراً لَّكُمْ﴾، أَيْ قَدْ جَاءَكُمْ مُحَمَّدٌ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ وَالْبَيَانِ الشَّافِي مِنَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، فَآمِنُوا بِمَا جَاءَكُمْ به وابتعوه يَكُنْ خَيْرًا لَكُمْ، ثُمَّ قَالَ: ﴿وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِي السموات وَالْأَرْضِ﴾ أَيْ فَهُوَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَعَنْ إِيمَانِكُمْ، وَلَا يَتَضَرَّرُ بِكُفْرَانِكُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾، وقال ههنا: ﴿وَكَانَ الله عَلِيماً﴾ أي بمن يستحق منكم الهداية فيهديه، وبم يَسْتَحِقُّ الْغَوَايَةَ فَيُغْوِيهِ ﴿حَكِيماً﴾ أَيْ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَشَرْعِهِ وَقَدَرِهِ.
يَنْهَى تَعَالَى أَهْلَ الْكِتَابِ عَنِ الْغُلُوِّ وَالْإِطْرَاءِ، وَهَذَا كَثِيرٌ في النصارى فإنهم تجاوزوا الحد في عيسى حَتَّى رَفَعُوهُ فَوْقَ الْمَنْزِلَةِ الَّتِي أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهَا، فَنَقَلُوهُ مِنْ حَيِّزِ النُّبُوَّةِ إِلَى أَنِ اتَّخَذُوهُ إِلَهًا مِنْ دُونِ اللَّهِ يَعْبُدُونَهُ كَمَا يعبدونه، بل قد غلوا في أبتاعه وَأَشْيَاعِهِ مِمَّنْ زَعَمَ أَنَّهُ عَلَى دِينِهِ فَادَّعَوْا فيهم العصمة، واتبعوهم في كل ما قالوا سَوَاءٌ كَانَ حَقًا أَوْ بَاطِلًا، أَوْ ضَلَالًا أَوْ رَشَادًا، أَوْ صَحِيحًا أَوْ كَذِبًا، وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله﴾ الآية، وقال الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تطروني كما أطرت النصارى عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ، فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ». وهكذا رواه البخاري عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهِ
وَقَوْلُهُ تعالى: ﴿وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ﴾ أَيْ لَا تَفْتَرُوا عَلَيْهِ وَتَجْعَلُوا لَهُ صَاحِبَةً وَوَلَدًا، تعالى الله عزَّ وجلَّ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، وَتَنَزَّهَ وَتَقَدَّسَ وَتَوَحَّدَ فِي سُؤْدُدِهِ وَكِبْرِيَائِهِ وَعَظَمَتِهِ، فَلَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿إِنَّمَا المسيح ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ﴾ أَيْ إِنَّمَا هُوَ عَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَخَلْقٌ مِنْ خَلْقِهِ، قَالَ لَهُ كُن فَكَانَ، وَرَسُولٌ مِنْ رُسُلِهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ أَيْ خَلَقَهُ بِالْكَلِمَةِ الَّتِي أَرْسَلَ بِهَا جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى مَرْيَمَ فَنَفْخَ فِيهَا مِنْ رُوحِهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ عزَّ وجلَّ، فكان عيسى بإذنه عزَّ وجلَّ، وكانت تِلْكَ النَّفْخَةُ الَّتِي نَفَخَهَا فِي جَيْبِ دِرْعِهَا، فَنَزَلَتْ - حَتَّى وَلَجَتْ فَرْجَهَا - بِمَنْزِلَةِ لَقَاحِ الْأَبِ والأم، وَالْجَمِيعُ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ عزَّ وجلَّ، وَلِهَذَا قِيلَ لِعِيسَى: إِنَّهُ كَلِمَةُ اللَّهِ وَرُوحٌ مِنْهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبٌ تَوَلَّدَ مِنْهُ، وَإِنَّمَا هو ناشىء عَنِ الْكَلِمَةِ الَّتِي قَالَ لَهُ بِهَا كُنْ فَكَانَ، وَالرُّوحِ الَّتِي أُرْسِلَ بِهَا جِبْرِيلُ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ، وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطعام﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾، وقال تَعَالَى: ﴿وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا﴾ إلى آخر السورة. وَقَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ الْمَسِيحِ: ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ﴾ الآية، وقال قتادة: ﴿وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه﴾ هو كقوله: ﴿كُن فيكون﴾. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سنان الوسطي قَالَ: سَمِعْتُ شَاذَّ بْنَ يَحْيَى يَقُولُ فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ﴾ قَالَ: لَيْسَ الْكَلِمَةُ صَارَتْ عِيسَى، وَلَكِنْ بِالْكَلِمَةِ صَارَ عِيسَى، وَهَذَا أَحْسَنُ مِمَّا ادَّعَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي قَوْلِهِ. ﴿أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ﴾ أَيْ أَعْلَمَهَا بِهَا كَمَا زَعَمَهُ فِي قَوْلِهِ: ﴿إذا قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ﴾ أي يعلمك بكلمة منه، ويجعل ذلك كقوله تعالى: ﴿وَمَا كُنتَ ترجوا أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ﴾، بَلِ الصَّحِيحُ أَنَّهَا الْكَلِمَةُ الَّتِي جَاءَ بِهَا جِبْرِيلُ إِلَى مَرْيَمَ فَنَفْخَ فِيهَا بِإِذْنِ اللَّهِ فكان عيسى عليه السلام، وقال البخاري عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَأَنَّ الْجَنَّةَ حُقٌّ وَالنَّارُ حَقٌّ، أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى ما كان من العمل». وقوله فِي الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ: «وَرُوحٌ مِنْهُ»، كَقَوْلِهِ: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرض جَمِيعاً مِّنْهُ﴾ أَيْ مِنْ خَلْقِهِ وَمِنْ عِنْدِهِ وَلَيْسَتْ (مِنْ) لِلتَّبْعِيضِ كَمَا تَقُولُهُ النَّصَارَى عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ الْمُتَتَابِعَةُ بَلْ هِيَ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ كَمَا فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى، وَقَدْ قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَرُوحٌ مِّنْهُ﴾ أَيْ وَرَسُولٌ مِنْهُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: ومحبة منه، والأظهر الأول، وهو أَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ رُوحٍ مَخْلُوقَةٍ، وَأُضِيفَتِ الرُّوحُ إِلَى اللَّهِ عَلَى وَجْهِ التَّشْرِيفِ، كَمَا أُضِيفَتِ النَّاقَةُ وَالْبَيْتُ إِلَى اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: ﴿هَذِهِ نَاقَةُ الله﴾، وفي قوله: ﴿وَطَهِّرْ بيتي للطائفين﴾، وكما روي فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «فَأَدْخُلُ عَلَى رَبِّي فِي داره»، أضافها إليه إضافة تشريف وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ قَبِيلٍ وَاحِدٍ وَنَمَطٍ وَاحِدٍ.
وَلَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ عُلَمَائِهِمُ المشاهير عندهم وهو (بَتْرَكُ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ) فِي حُدُودِ سَنَةِ أَرْبَعِمِائَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ، أَنَّهُمُ اجْتَمَعُوا الْمَجْمَعَ الْكَبِيرَ الَّذِي عَقَدُوا فِيهِ الْأَمَانَةَ الْكَبِيرَةَ الَّتِي لَهُمْ - وَإِنَّمَا هِيَ الْخِيَانَةُ الْحَقِيرَةُ الصَّغِيرَةُ - وَذَلِكَ فِي أَيَّامِ قسطنطين باني المدينة المشهورة، وأنه اخْتَلَفُوا عَلَيْهِ اخْتِلَافًا لَا يَنْضَبِطُ وَلَا يَنْحَصِرُ، فَكَانُوا أَزْيَدَ مِنْ أَلْفَيْنِ أَسْقُفًا، فَكَانُوا أَحْزَابًا كَثِيرَةً كُلُّ خَمْسِينَ مِنْهُمْ عَلَى مَقَالَةٍ، وَعِشْرُونَ عَلَى مَقَالَةٍ، وَمِائَةٌ عَلَى مَقَالَةٍ، وَسَبْعُونَ عَلَى مَقَالَةٍ وَأَزْيَدُ مِنْ ذَلِكَ وَأَنْقَصُ، فَلَمَّا رَأَى منهم عصابة قد زادوا على الثلثمائة بثمانية عشر نفر وَقَدْ تَوَافَقُوا عَلَى مَقَالَةٍ، فَأَخَذَهَا الْمَلِكُ وَنَصَرَهَا وأيدها، وكان فيلسوفاً داهية، وَمَحَقَ مَا عَدَاهَا مِنَ الْأَقْوَالِ وَانْتَظَمَ دَسْتُ أولئك الثلثمائة وَالثَّمَانِيَةَ عَشَرَ وَبُنِيَتْ لَهُمُ الْكَنَائِسُ، وَوَضَعُوا لَهُمْ كتباً وقوانين وأحدثوا فيها الْأَمَانَةَ الَّتِي يُلَقِّنُونَهَا الْوِلْدَانَ مِنَ الصِّغَارِ لِيَعْتَقِدُوهَا ويعمدونهم عليها، وأتباع هؤلاء هم (الملكانية)، ثُمَّ إِنَّهُمُ اجْتَمَعُوا مَجْمَعًا ثَانِيًا فَحَدَثَ فِيهِمِ (الْيَعْقُوبِيَّةُ)، ثُمَّ مَجْمَعًا ثَالِثًا فَحَدَثَ فِيهِمُ (النُّسْطُورِيَّةُ) وَكُلُّ هَذِهِ الْفِرَقِ تُثْبِتُ الْأَقَانِيمَ الثَّلَاثَةَ فِي الْمَسِيحِ، وَيَخْتَلِفُونَ فِي كَيْفِيَّةِ ذَلِكَ وَفِي اللَّاهُوتِ والناسوت على زعمهم، هل اتحدوا أو ما اتحدوا، أو امْتَزَجَا أَوْ حَلَّ فِيهِ؟ عَلَى ثَلَاثِ مَقَالَاتٍ، وَكُلٌّ مِنْهُمْ يُكَفِّرُ الْفِرْقَةَ الْأُخْرَى، وَنَحْنُ نُكَفِّرُ الثَّلَاثَةَ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿انْتَهُوا خَيْراً لَّكُمْ﴾ أَيْ يَكُنْ خَيْرًا لَكُمْ، ﴿إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ﴾ أَيْ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا ﴿لَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وكفى بالله وَكِيلاً﴾ أي الجميع ملكه وخلقه وجميع ما فيهما عُبَيْدُهُ، وَهُمْ تَحْتَ تَدْبِيرِهِ وَتَصْرِيفِهِ، وَهُوَ وَكِيلٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَكَيْفَ يَكُونُ لَهُ مِنْهُمْ صاحبة وولد كما قال في الآية الأخرى: ﴿بديع السموات والأرض أنى يَكُونُ له ولد﴾ الآية، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً لَّقَدْ جِئْتُمْ شيئاً إداً﴾ الآيات.
- ١٧٣ - فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً
قال عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: ﴿لَّن يَسْتَنكِفَ﴾ لَنْ يَسْتَكْبِرَ، وَقَالَ قَتَادَةُ: لَنْ يَحْتَشِمَ {الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ
وَقَدْ رَوَى ابْنُ مردويه عن عبد الله مرفوعاً قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: ﴿فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ﴾، أجورهم، قال: «أَدْخَلَهُمُ الْجَنَّةَ» ﴿وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ﴾ قَالَ: «الشَّفَاعَةُ فِيمَنْ وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ مِمَّنْ صَنَعَ إِلَيْهِمُ الْمَعْرُوفَ فِي دُنْيَاهُمْ»، وَهَذَا إِسْنَادٌ لَا يَثْبُتُ، وَإِذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا فَهُوَ جَيِّدٌ، ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا﴾ أَيِ امْتَنَعُوا عن طَاعَةِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَاسْتَكْبَرُوا عَنْ ذَلِكَ ﴿فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا لا نَصِيراً﴾ كَقَوْلِهِ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ أَيْ صَاغِرِينَ حَقِيرِينَ ذَلِيلِينَ، كَمَا كَانُوا مُمْتَنِعِينَ مستكبرين.
- ١٧٥ - فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُسْتَقِيمًا
يَقُولُ تَعَالَى مُخَاطِبًا جَمِيعَ النَّاسِ وَمُخْبِرًا بِأَنَّهُ قَدْ جَاءَهُمْ مِنْهُ بُرْهَانٌ عَظِيمٌ، وَهُوَ الدَّلِيلُ الْقَاطِعُ للعذر والحجة المزيلة للشبه، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً﴾ أَيْ ضِيَاءً وَاضِحًا عَلَى الْحَقِّ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَغَيْرُهُ: وَهُوَ الْقُرْآنُ ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ﴾ أَيْ جَمَعُوا بَيْنَ مَقَامَيِ الْعِبَادَةِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِمْ، وَقَالَ ابن جريج: آمنوا بالله واعتصموا بالقرآن ﴿فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ﴾ أَيْ يَرْحَمُهُمْ فيدخلهم الجنة، ويزيدهم ثواباً مضاعفة وَرَفْعًا فِي دَرَجَاتِهِمْ مِنْ فَضْلِهِ عَلَيْهِمْ وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ، ﴿وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً﴾ أَيْ طَرِيقًا وَاضِحًا قَصْدًا قَوَامًا لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ وَلَا انْحِرَافَ، وَهَذِهِ صِفَةُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَهُمْ فِي الدُّنْيَا عَلَى مِنْهَاجِ الِاسْتِقَامَةِ وَطَرِيقِ السلامة في جميع الاعتقادات العمليات وَفِي الْآخِرَةِ عَلَى صِرَاطِ اللَّهِ الْمُسْتَقِيمِ الْمُفْضِي إِلَى رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ، وَفِي حَدِيثِ الْحَارِثِ الْأَعْوَرِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الْقُرْآنُ صِرَاطُ اللَّهِ الْمُسْتَقِيمُ، وَحَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ»، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ بِتَمَامِهِ فِي أَوَّلِ التَّفْسِيرِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
قال البخاري عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ، قَالَ آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ بَرَاءَةٌ، وَآخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ يَسْتَفْتُونَكَ وقال الإمام أحمد عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا مَرِيضٌ لَا أَعْقِلُ، قَالَ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ صَبَّ عَلَيَّ - أَوْ قَالَ صُبُّوا عَلَيْهِ - فَعَقِلْتُ فَقُلْتُ: إِنَّهُ لا يرثني إلا كلالة فكيف الميراث؟ فأنزل الله آية الفرائض. وَفِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ فَنَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة﴾ الآية (أخرجه الشيخان) وَكَأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ: يَسْتَفْتُونَكَ عَنِ الْكَلَالَةِ ﴿قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ﴾ فِيهَا، فَدَلَّ الْمَذْكُورُ عَلَى الْمَتْرُوكِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْكَلَالَةِ واشتقاقها، وأنها مأخوذة من الإكليل الذي يحدي بِالرَّأْسِ مِنْ جَوَانِبِهِ، وَلِهَذَا فَسَّرَهَا أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ: بِمَنْ يَمُوتُ وَلَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَا وَالِدٌ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: الْكَلَالَةُ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿إِن امرؤ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ﴾، وَقَدْ أُشْكِلَ حُكْمُ الْكَلَالَةِ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ: ثَلَاثٌ وَدِدْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَهِدَ إِلَيْنَا فِيهِنَّ عَهْدًا نَنْتَهِي إِلَيْهِ: الْجَدُّ، والكلالة، وباب من أبواب الربا (يعني ما نزل آخر سورة البقرة من آيات الربا وقد نزلت بعد آية آل عمران ﴿لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة﴾ فهل الربا فيهما واحد على القاعدة، أم هو في الأخيرة أعم؟ استشكل عمر رضي الله عنه والجمهور على الثاني واستشكاله في إرث الجد والكلالة أشهر وأظهر) عَنْ عُمَرَ قَالَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم الْكَلَالَةِ فَقَالَ: «يَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ» فَقَالَ: لَأَنْ أكون سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لي حمر النعم (قال ابن كثير: وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ إِلَّا أَنَّ فِيهِ انْقِطَاعًا) وَكَأَنَّ الْمُرَادَ بِآيَةِ الصَّيْفِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي فَصْلِ الصَّيْفِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَلَمَّا أَرْشَدَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى تَفَهُّمِهَا فَإِنَّ فِيهَا كِفَايَةً، نَسِيَ أَنْ يَسْأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مَعْنَاهَا، وَلِهَذَا قَالَ: فَلَأَنْ أَكُونُ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِي حُمْرُ النَّعَمِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: سَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْكَلَالَةِ، فَقَالَ: «أَلَيْسَ قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ ذلك» فنزلت: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ﴾ الآية. قال قتادة: وذكر لنا أن أبا بكر الصديق قَالَ فِي خُطْبَتِهِ: أَلَا إِنَّ الْآيَةَ الَّتِي نزلت فِي أَوَّلِ سُورَةِ النِّسَاءِ فِي شَأْنِ الْفَرَائِضِ أَنْزَلَهَا اللَّهُ فِي الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ، وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ أَنْزَلَهَا فِي الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ وَالْإِخْوَةِ مِنَ الْأُمِّ، وَالْآيَةُ الَّتِي خَتَمَ بِهَا سُورَةَ النِّسَاءِ أَنْزَلَهَا فِي الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ، وَالْآيَةُ الَّتِي خَتَمَ بِهَا سُورَةَ الْأَنْفَالِ أَنْزَلَهَا فِي أُولِي الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مما جرت الرحم من العصبة.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِن امْرُؤٌ هَلَكَ﴾ أَيْ مَاتَ، قال الله تعالى: ﴿كُلُّ شي هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ﴾ كل شي يَفْنَى وَلَا يَبْقَى إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وجلَّ، كَمَا قَالَ: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجلال والإكرام﴾ وقوله:
وقال الإمام أحمد عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ (زَوْجٍ وَأُخْتٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ) فَأَعْطَى الزَّوْجَ النِّصْفَ وَالْأُخْتَ النِّصْفَ، فَكُلِّمَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: حَضَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بذلك. وقد روى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُمَا كَانَا يَقُولَانِ فِي الْمَيِّتِ تَرَكَ بِنْتًا وَأُخْتًا إِنَّهُ لَا شَيْءَ لِلْأُخْتِ لِقَوْلِهِ: ﴿إِن امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ﴾ قَالَ فَإِذَا تَرَكَ بِنْتًا فَقَدْ ترك ولداً فلا شي للأخت، خالفهما الْجُمْهُورُ فَقَالُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِلْبِنْتِ النِّصْفُ بِالْفَرْضِ، وَلِلْأُخْتِ النِّصْفُ الْآخَرُ بِالتَّعْصِيبِ، بِدَلِيلٍ غَيْرِ هذه الآية، وهذه الآية نصت أَنْ يُفْرَضَ لَهَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَأَمَّا وراثتها بالتعصيب، فلما رواه البخاري عَنِ الْأَسْوَدِ، قَالَ: قَضَى فِينَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم النصف للبنت والنصف للأخت.
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَيْضًا عَنْ هُزَيْلِ بْنِ شُرَحْبِيلَ قَالَ سُئِلَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ عَنِ ابْنَةٍ وَابْنَةِ ابْنٍ وَأُخْتٍ فَقَالَ: لِلِابْنَةِ النِّصْفُ وللأخت النصف وأت ابن مسعود فسيتابعني، فسأل ابن مسعود فأخبره بِقَوْلِ أَبِي مُوسَى فَقَالَ: لَقَدْ ضَلَلْتُ إذًا وَمَآ أَنَآ مِنَ الْمُهْتَدِينَ، أَقْضِي فِيهَا بِمَا قضى النبي ﷺ النصف للبنت ولبنت الِابْنِ السُّدُسَ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ وَمَا بَقِيَ فَلِلْأُخْتِ، فأتيا فَأَخْبَرْنَاهُ بِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَقَالَ: لَا تَسْأَلُونِي ما دام هذا الحبر فيكم.
وقوله تعالى: ﴿وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَآ وَلَدٌ﴾ أي والأخ يرث جميع مالها إِذَا مَاتَتْ كَلَالَةً وَلَيْسَ لَهَا وَلَدٌ أَيْ ولا والد، لأنها لَوْ كَانَ لَهَا وَالِدٌ لَمْ يَرِثِ الْأَخُ شَيْئًا فَإِنْ فُرِضَ أَنَّ مَعَهُ مَنْ لَهُ فَرْضٌ صُرِفَ إِلَيْهِ فَرْضُهُ كَزَوْجٍ أَوْ أَخٍ مِنْ أُمٍّ، وَصُرِفَ الْبَاقِي إِلَى الْأَخِ لِمَا ثت فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا أَبْقَتِ الْفَرَائِضُ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» وَقَوْلُهُ: ﴿فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ﴾، أَيْ فَإِنْ كَانَ لِمَنْ يَمُوتُ كَلَالَةً أُخْتَانِ فُرِضَ لَهُمَا الثُّلُثَانِ وَكَذَا مَا زاد على الأختين في حكمهما، ومن ههنا أَخَذَ الْجَمَاعَةُ حُكْمَ الْبِنْتَيْنِ كَمَا اسْتُفِيدَ حُكْمُ الْأَخَوَاتِ مِنَ الْبَنَاتِ فِي قَوْلِهِ: ﴿فَإِنَّ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ﴾ وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِن كَانُوا إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَآءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ هَذَا حُكْمُ الْعَصَبَاتِ مِنَ الْبَنِينَ وَبَنِي الْبَنِينَ وَالْإِخْوَةِ إِذَا اجْتَمَعَ ذُكُورُهُمْ وَإِنَاثُهُمْ أُعْطِيَ الذَّكَرُ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ.
وَقَوْلُهُ تعالى: ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ﴾ أَيْ يَفْرِضُ لَكُمْ فَرَائِضَهُ، وَيَحُدُّ لَكُمْ حُدُودَهُ، وَيُوَضِّحُ لَكُمْ شَرَائِعَهُ. وَقَوْلُهُ: ﴿أَن تَضِلُّواْ﴾ أَيْ لِئَلَّا تَضِلُّوا عَنِ الْحَقِّ بَعْدَ الْبَيَانِ، ﴿وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ أَيْ هُوَ عَالِمٌ بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ وَمَصَالِحِهَا وَمَا فِيهَا من الخير لعباده وما يستحقه كل واد من القرابات بحسب قربه من المتوفى. وقال ابن جرير عن سعيد ابن الْمُسَيَّبِ: أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ فِي الْجَدِّ وَالْكَلَالَةِ كتاباً فمكث يستخير الله يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنْ عَلِمْتَ فِيهِ خَيْرًا فَأَمْضِهِ، حَتَّى إِذَا طَعِنَ دَعَا بِكِتَابٍ فَمُحِيَ وَلَمْ يَدْرِ أَحَدٌ مَا كَتَبَ فِيهِ، فَقَالَ: إِنِّي كتبت كتاباً في الجد والكلالة،
[مقدمة]
قال الإمام أحمد عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ، قَالَتْ: إِنِّي لَآخِذَةٌ بِزِمَامِ الْعَضْبَاءِ، نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ الْمَائِدَةُ كُلُّهَا، وكادت من ثقلها تدق عضد الناقة. وقال أحمد أيضاً، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: أُنْزِلَتْ على رسول الله ﷺ سُورَةُ الْمَائِدَةِ وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى رَاحِلَتِهِ فَلَمْ تستطع أن تحمله، فنزل عنها، وقد روى الترمذي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: آخِرُ سورة أنزلت سورة المائدة والفتح، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: آخِرُ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ ﴿إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ والفتح﴾، وعن جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، قَالَ: حَجَجْتُ، فَدَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ، فَقَالَتْ لِي: يَا جُبَيْرُ تَقْرَأُ الْمَائِدَةَ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَتْ: أَمَا إِنَّهَا آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ، فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهَا مِنْ حَلَالٍ فَاسْتَحِلُّوهُ، وما وجدتم فيها من حرام فحرموه (رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ) ورواه الإمام أحمد عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، وَزَادَ: وَسَأَلْتُهَا عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت: القرآن.بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ