تفسير سورة الجاثية

الصراط المستقيم في تبيان القرآن الكريم
تفسير سورة سورة الجاثية من كتاب الصراط المستقيم في تبيان القرآن الكريم .
لمؤلفه الكَازَرُوني . المتوفي سنة 923 هـ

إلَّا آية:﴿ قُل لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ يَغْفِرُواْ ﴾[الجاثية: ١٤] لَمَّا قال:﴿ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾[الدخان: ٥٨] بين شرفه بقوله: ﴿ بِسمِ ٱللهِ ٱلرَّحْمٰنِ ٱلرَّحِيـمِ * حـمۤ * تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ ﴾: كائن ﴿ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ * إِنَّ فِي ﴾: خلق ﴿ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ لأيَٰتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ ﴾: لما فيها من العجائب ﴿ وَفِي خَلْقِكُمْ وَ ﴾: في ﴿ مَا يَبُثُّ ﴾: يفرق في الأرض ﴿ مِن دَآبَّةٍ ءَايَٰتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾: يريدون اليقين ﴿ وَ ﴾: في ﴿ ٱخْتِلاَفِ ٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ ﴾: كما مر ﴿ وَمَآ أَنَزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَّن ﴾: سبب ﴿ رِّزْقٍ ﴾: كالمطر ﴿ فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾: يبسها ﴿ وَتَصْرِيفِ ﴾: تقليب ﴿ ٱلرِّيَاحِ ﴾: حرارة وبرودة كما مر ﴿ ءَايَٰتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾: واختلاف الفواصل الثلاث لاختلاف الآيات دقة ﴿ تَلْكَ ﴾: الآيات ﴿ ءَايَٰتُ ٱللَّهِ ﴾: دلائل وحدانيته ﴿ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ ﴾: ملتبسة ﴿ بِٱلْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ ٱللَّهِ ﴾: أي: حديثه أو قدمه تعظيما ﴿ وَءَايَٰتِهِ ﴾: حججه ﴿ يُؤْمِنُونَ * وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ ﴾: كذاب ﴿ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ تُتْلَىٰ عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ ﴾: على كفره ﴿ مُسْتَكْبِراً ﴾: عن الانقياد ﴿ كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ ﴾: أعلمه، أو للتهكم ﴿ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * وَإِذَا عَلِمَ مِنْ ءَايَٰتِنَا شَيْئاً ٱتَّخَذَهَا هُزُواً ﴾: وأفاد بتأنيث أنه إذا علم أنه من جملتها استهزأ بجميعها إجمالا وإن لم يعلمها تفصيلا ﴿ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ * مِّن وَرَآئِهِمْ ﴾: قدامهم ﴿ جَهَنَّمُ وَلاَ يُغْنِي ﴾: يدفع ﴿ عَنْهُم مَّا كَسَبُواْ ﴾: من الأموال ﴿ شَيْئاً ﴾: من العذاب ﴿ وَلاَ مَا ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَوْلِيَآءَ ﴾: كالأصنام ﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * هَـٰذَا ﴾: القرآن ﴿ هُدًى وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَٰتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ ﴾: أشد عذاب ﴿ أَلِيمٌ * ٱللَّهُ ٱلَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ ٱلْبَحْرَ ﴾: بجعله أملس السطح يطفو عليه ما يتخلخل كالخشب ولا يمنع الغوص فيه ﴿ لِتَجْرِيَ ٱلْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ ﴾: بتسخيره ﴿ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ ﴾: بالتجارة ﴿ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾: المنعم ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ ﴾: لانتفاعكم ﴿ مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً ﴾: كائنة ﴿ مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لأيَٰتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * قُل لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ ﴾: لا يخافون ﴿ أَيَّامَ ٱللَّهِ ﴾: وقائعها الموعودة قيل: نسخت بآية القتال و قيل: أمر بالعفو ﴿ لِيَجْزِيَ ﴾: الله ﴿ قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴾: مغفرة أو إساءه ﴿ مَنْ عَمِلَ صَـٰلِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا ﴾: كما مر ﴿ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ﴾: فيجازيكم ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحُكْمَ ﴾: به بين الناس ﴿ وَٱلنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ ﴾: كالمنِ ﴿ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى ٱلْعَالَمينَ ﴾: كما مر ﴿ وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ ٱلأَمْرِ ﴾: أمر دينهم، و منه بعثة محمد صلى الله عليه و سلم ﴿ فَمَا ٱخْتَلَفُوۤاْ ﴾: فيه ﴿ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ ﴾: بحقيقة الحال ﴿ بَغْياً ﴾: لحسد حدث ﴿ بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بِيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾: بالمجازاة ﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ ﴾: طريقة ﴿ مِّنَ ٱلأَمْرِ ﴾: أمر الدين ﴿ فَٱتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾: في عبادة آلهتهم ﴿ إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ ﴾: يدفعوا ﴿ عَنكَ مِنَ ٱللَّهِ ﴾: عذابه ﴿ شَيْئاً ﴾: إن اتبعتهم ﴿ وَإِنَّ ٱلظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ ﴾: وحاشاك من الظلم ﴿ وَٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلْمُتَّقِينَ ﴾: وأنت سيدهم ﴿ هَـٰذَا ﴾: القرآن ﴿ بَصَائِرُ ﴾: معالم تبصر بها وجه الفلاح ﴿ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾: يطلبون اليقين.
﴿ أَمْ ﴾: بلل، أ ﴿ حَسِبَ ٱلَّذِينَ ٱجْتَرَحُواْ ﴾: اكتسبوا ﴿ ٱلسَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ سَوَآءً ﴾: مستو ﴿ مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ﴾: في السرور بل محياهم رغد و مماتهم نكد، وأما رفعا فالجملة بدل و نصبا: فحال من الضمير في الكاف ﴿ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾: به ﴿ وَ ﴾: قد ﴿ خَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ ﴾: المقتضي للعدل المقتضي للجزاء ليدل على كمال قدرته ﴿ وَلِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾: لا يقابلون عمل الظالم بنقص ثواب او تضعيف عقاب، سماه ظلما نظرا إلى صدوره منا كما في الابتلاء و الاختبار ﴿ أَفَرَأَيْتَ ﴾: أخبريني ﴿ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ ﴾: يعبد حجرا فإذا رأى أحسن منه رفضه إليه ﴿ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ ﴾: أزلي منه بضلاله ﴿ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً ﴾: فلم سيمع الهدى ولم يَعْقِلَهُ ولم يبصره ﴿ فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ ﴾: إضلال ﴿ ٱللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ * وَقَالُواْ مَا هِيَ ﴾: الحياة ﴿ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا نَمُوتُ ﴾: يموت بعضنا ﴿ وَنَحْيَا ﴾: بتولد بعضنا بلا بعث ﴿ وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ ٱلدَّهْرُ ﴾: من الزمان و أصله: مدة بقاء العالم، وهو أعم من الزمان ﴿ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ ﴾: المدعي ﴿ مِنْ عِلْمٍ إِنْ ﴾: ما ﴿ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ ﴾: بلا دليل ﴿ وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتُنَا بَيِّنَاتٍ ﴾: واضحات الدلالة على خلاف عقيدتهم ﴿ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ ﴾: في ردها ﴿ إِلاَّ أَن قَالُواْ ٱئْتُواْ بِآبَآئِنَآ ﴾: أحياء ﴿ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾: في البعث ﴿ قُلِ ٱللَّهُ يُحْيِيكُمْ ﴾: حين كونكم نطفا ﴿ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ ﴾: أحياء فيقدر على الإتيان بآبائكم، ولكن الحكم يقتضي تأخير بعث الكل ﴿ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ ﴾: و منهم هؤلاء ﴿ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾: لجهلهم ﴿ لِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاَعةُ يَوْمَئِذٍ ﴾: بدل من يوم ﴿ وَ يَخْسَرُ ٱلْمُبْطِلُونَ * وَتَرَىٰ كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً ﴾: مجتمعة أو باركة على الركب خوفا ﴿ كُلُّ أمَّةٍ تُدْعَىٰ إِلَىٰ كِتَابِهَا ﴾: صحائف أعمالها، يقال لهم: ﴿ ٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * هَـٰذَا كِتَابُنَا ﴾: الذي كتب بأمرنا ﴿ يَنطِقُ عَلَيْكُم بِٱلْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ ﴾: نأمر الملائكة بنسخ ﴿ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾: فنحتج به عليكم، وورد أن الملك إذا صعد بالعمل يؤمر بالمقابلة على ما في اللوح ﴿ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ﴾: جنته ﴿ ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْمُبِينُ * وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ ﴾: فيقال لهم ﴿ أَفَلَمْ تَكُنْ ءَايَٰتِى تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ * وَإِذَا قِيلَ ﴾: لكم ﴿ إِنَّ وعْدَ ﴾: موعد ﴿ ٱللَّهِ حَقٌّ ﴾: كائن ﴿ وَٱلسَّاعَةُ لاَ رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا ﴾: أيّ شيء ﴿ ٱلسَّاعَةُ إِن ﴾: مَا ﴿ نَّظُنُّ ﴾: في إتيانها ﴿ إِلاَّ ظَنّاً ﴾: قبائح نزل ﴿ وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ﴾: إتيانها ﴿ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ ﴾: قبائح ﴿ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ ﴾: نزل ﴿ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * وَقِيلَ ٱلْيَوْمَ نَنسَاكُمْ ﴾: نترككم في العذاب كالمنسي ﴿ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـٰذَا وَمَأْوَاكُمُ ٱلنَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ * ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ ٱتَّخَذْتُمْ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا ﴾: فنسيتم الآخرة ﴿ فَٱلْيَوْمَ لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلاَ هُمْ يُسْتَعَتَبُونَ ﴾: أي: يطلب منهم أن يعتبروا، أي: يرضوا ربهم بالتوبة ﴿ فَلِلَّهِ ٱلْحَمْدُ ﴾: على وفاء وعده ﴿ رَبِّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَرَبِّ ٱلأَرْضِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ ﴾: أذ الكل نعمته ﴿ وَلَهُ ٱلْكِبْرِيَآءُ ﴾: العظمة التامة كائنة ﴿ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ ﴾: اذ يظهر فيهما آثارهما ﴿ وَهُوَ ٱلْعِزِيزُ ﴾: في ملكه ﴿ ٱلْحَكِيمُ ﴾: في فعله.
Icon