والسورة مشتملة على تهذيب وتشريع من شأنها رسم معالم كاملة لعالم رفيع كريم. وذلك لما تحويه السورة من القواعد والأصول والمبادئ التي يقوم عليها هذا العالم، وما فيها من جهد ضخم رصين، تمثله توجيهات القرآن الكريم والتربية النبوية الحكيمة، لإنشاء الجماعة المسلمة وتربيتها لإبداع ذلك العالم الرفيع الكريم.
وقد جاء في السورة الكريمة خمسة نداءات بلفظ ﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ وجاء نداء واحد بلفظ ﴿ يا أيها الناس ﴾ لأن الخطاب كان عاما للمؤمنين والكافرين، وذلك في الآية العظيمة التي تضع مبدأ أن الشرف والعظمة هو بالتقوى، لا بالأحساب والأنساب، في قوله تعالى :﴿ يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم ﴾.
افتتحت السورة بنهي المؤمنين عن الحكم بأي شيء قبل أن يأمر به الله ورسوله، وعن رفع أصواتهم فوق صوت النبي الكريم، وأثنت على الذين يخفضون أصواتهم في حضرته، وندّدت بمن لا يتأدبون فينادونه من وراء الحجرات بأصواتهم الجافية. ثم أمرت المؤمنين بالتثبت من أخبار الفاسقين وضعاف الإيمان، وبينت الحكم عندما يتقاتل فريقان من المؤمنين وماذا يفعل الباقون إزاء ذلك. ونهت المؤمنين عن استهزاء بعضهم ببعض، وتعييب بعضهم بعضا، وعن ظن السوء بأهل الخير، وعن تتبع بعضهم بعضا، ونهت الأعراب عن ادّعاء الإيمان قبل أن يستقر في قلوبهم. ثم بينت من هم المؤمنون الصادقون، وختمت الحديث بالنهي عن المن على رسول الله بالإسلام، فالمنة لله عليهم بهدايتهم إلى الإيمان، إن كانوا صادقين ﴿ إن الله يعلم غيب السموات والأرض، والله بصير بما تعملون ﴾.
ﰡ
في هذه الآية الكريمة وما يليها تأديبٌ للصحابة وتعليم وتهذيب، فقد طلَب الله إليهم أن ينقادوا لأوامر الله ونواهيه، ولا يعجَلوا بقولٍ أو فعل قبل الرسول الكريم.
قراءات :
قرأ يعقوب : لا تقدموا بفتح التاء والدال، والباقون : لا تُقْدموا بضم التاء وكسر الدال المشدَّدة.
ثم أدّبهم في الآية الثانية في الحديث والخطاب مع رسول الله، وأن يوقّروه،
فلا يرفعوا أصواتَهم فوق صوت النبي إذا تكلم، بل يخفَضوها ولا يتكلّموا معه كما يتكلم بعضهم مع بعض. وأن يتأدبوا في مخاطبته فلا تقولوا : يا محمد، بل قولوا : يا نبيّ الله، أو يا رسول الله، وبكل إجلال وتعظيم، حتى لا تبطُل أعمالكم وأنتم لا تشعرون.
ثم نوه الله تعالى بتقواهم، وغضّهم أصواتَهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعبير لطيف فقال :
﴿ إِنَّ الذين يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ الله أولئك الذين امتحن الله قُلُوبَهُمْ للتقوى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾.
هنا يرغّبهم الله ويتلطف بهم بعد ذلك التحذير المخيف، ويقول : إن الذين يخفضون أصواتهم في مجلس رسول الله، إجلالاً له، أولئك قد طهّر الله قلوبهم ونقّاها وأخلصَها للتقوى، فلهم مغفرةٌ لذنوبهم، وأجر عظيم لتأدّبهم وغضّ أصواتهم وتقواهم.
من وراء الحجرات : من خارجها.
كان الأعراب ( وهم قريبو عهد بالجاهلية ) أكثرهم جُفَاة يأتون إلى المدينة فيجتمعون عند حجُرات أزواج رسول الله، وينادونه بأصواتهم المزعجة :
يا محمد، اخرج إلينا. وكان هذا في العام التاسع من الهجرة وهو عام
« الوفود » لدخول الناس في دين الله أفواجا. فكان ذلك يؤذي النبيَّ الكريم عليه الصلاة والسلام.
فأدّبهم الله بهذا القرآن الكريم، ووصفهم بأن أكثرهم لا يعقِلون، ثم بين لهم أن النداء بهذا الجفاء منافٍ للأدب والتوقيرِ اللائق بشخص النبي الكريم،
هذه السورة كما مرّ في المقدمة من أواخر السور نزولا، وفيها على قِصَرها قواعدُ وتعاليم للمؤمنين، وترسيخٌ لإيمانهم، و تأديبٌ لهم ليتهيأوا لقيادة العالم.
والحُجرات التي ورد ذكرها في الآية الكريمة هي تسعُ حجرات كانت لكل زوجة حجرة من جريد النخل، وعلى أبوابها المسوح من شعر أسود. وكانت غير مرتفعة يُتناول سقفها باليد، وفي غاية البساطة. قال سعيد بن المسيب وهو أكبر التابعين في المدينة : وددتُ أنهم تركوها على حالها حتى يراها الناس بما فيها من البساطة، فيروا ما اكتفى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، فيكون ذلك مما يزهِّد الناسَ في التفاخُر والتكاثر.
وقد أُدخلت هذه الحجرات في عهدِ الوليدِ بن عبد الملك بأمرِه في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكى الناس لذلك.
بنبأ : بخبر. قال الراغب في مفرداته : لا يقال للخبر نبأ إلا إذا كان ذا فائدة عظيمة.
فتبينوا : فتثبتوا، وفي قراءة فتثبتوا.
بجهالة : بغير علم.
تقرر هذه الآية الكريمة مبدأً عظيماً للمؤمنين : كيف يتلقَّون الأنباء وكيف يتصرفون بها، وأن عليهم أن يتثبَّتوا من مصدرها. وقد خُصَّ الفاسقُ لأنه مظنّةُ الكذب، أما إذا كان مصدر الخبر من المأمون في دينه وخلقه فإنه يؤخذ بأخباره، ولا يجوز أن يُشك فيه، وإلا تعطّلت المصالح، وتزعزعت الثقة بين المؤمنين، وتعطل سير الحياة وتنظيمها في الجماعة. والإسلام يدعُ الحياة تسير في مجراها الطبيعي، ويضع الضماناتِ والحواجز فقط لصيانتها لا لتعطيلها. وقد روي في سبب نزول هذه الآيات روايات قَبِلها كثير من المفسرين وضعّفها بعضهم، ومنهم الرازي. والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي : فتثبتوا، من التثبت والتريث في الأمور، وقرأ الباقون : فتبينوا، من التبين والتريث، والفعلان قريبان من بعض.
الفسوق : الخروج عن الحد كالكذب والغيبة وغيرها.
العصيان : عدم الانقياد إلى الحق.
الرشاد : إصابة الحق واتباع الطريق السوي.
بعد أن حذّرهم الله تعالى من التعجّل في الأمور، ووضّح كيف يتلقون الأخبار ويتصرفون بها، بيّن لهم هنا أمراً عظيماً جدا، ونعمة كبيرةً ورحمة لهم، تعيش بينهم ليدركوا قيمتها وينعموا بوجودها فقال :﴿ واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله ﴾ فاقدُروه حقَّ قدره، واصدُقوه، فإنه لو يطيعكم في كثير من الأمور، لوقعتم في المشقة والهلاك.
﴿ ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الأيمان وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر والفسوق والعصيان ﴾.
وفي هذا توجيه من الله تعالى إلى نعمة الإيمان الذي هداهم إليه، وكشف لهم عن جماله، وجعلهم يكرهون الكفرَ والفسوق والعصيان.. وكلّ هذا من رحمته الواسعة. ثم بين أن من يتصف بهذه الصفات الحسنة ويتجنب الصفاتِ السيئة لهو من أهل الرشاد السالكين الطريقَ السوي.
فأصلحوا بينهما : بأية طريقة : بالنصيحة، بالتفاوض، بالتهديد، بكل وسيلة.
فإن بغتْ : فإن تعدت وجارت.
تفيء : ترجع.
أمر الله : الصلح.
فأصلحوا بينهما بالعدل : بإزالة آثار القتال والخلاف، وبضمان ما تلف بحيث يكون الحكم عادلا.
وأقسطوا : واعدلوا.
في هذه الآية تشريعٌ عملي عظيم لصيانة المجتمع الإسلامي، وحمايته من الخصام والتفكك والتمزق. فبعدّ أن حذّر الله تعالى من النبأ الصادر عن الفاسق، وحثّ على التوثق من مصادر الأخبار، وعدم العَجلةِ والاندفاع وراء الحَمِيّة والحماسة الطائشة قال : إن حصل أن اقتتلتْ طائفتان من المؤمنين فإن على المؤمنين أن يقوموا بالإصلاح بينهما. فإن تعدت إحدى الطائفتين على الأخرى ولم تقبل الصلح، فعليهم أن يقاتلوا تلك التي تتعدى حتى ترجع إلى حكم الله. فان قبلت الصلح ورجعت إلى حكم الله، فأصلِحوا أيها المؤمنون بينهما بالعدل والإنصاف حتى لا يتجدد القتال مرة أخرى.
ثم أمرنا الله تعالى بالعدل في كل الأمور فقال :
﴿ وأقسطوا إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين ﴾
واعدِلوا أيها المؤمنون، بين الناس جميعا في كل الأمور، إن الله يحب العادلين في جميع أعمالهم.
إنما المؤمنون بالله ورسوله إخوةٌ جَمَعَ الإيمانُ بين قلوبهم ووحّدهم. وفي الحديث الصحيح :« المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يُسْلمه، ولا يَعيبُه، ولا يخذُله » فأصلحوا بين أخويكم رعايةً لأخوة الإيمان، ﴿ واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ واجعلوا لأنفسكم وقاية من عذاب الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه حتى يرحمكم، لتكونوا إخوة على الحب والسلام والتعاون والوحدة في مجتمعكم، وبذلك تكونون أقوياء أعزاء تحت راية الإسلام.
فإن قاتلَ جماعة المؤمنين الفئةَ التي لم تقبل الصلح، فإنه لا يجوز أن يُجهز على جريح، ولا يقتل أسير، ولا يجوز أن يُتعقّب من هرب وترك المعركة، ولا تؤخذ أموال البغاة غنيمة، لأن الغرضَ من قتالهم ردُّهم إلى صفّ المؤمنين، وضمُّهم إلى لواء الأخوّة الإسلامية.
قراءات :
قرأ يعقوب : فأصلحوا بين إخوتكم، بالجمع. والباقون : بين أخَويكم بالتثنية.
ولا تلمزوا أنفسكم : لا يعيب أحد منكم أخاه، وعبّر بأنفسكم كأنهم جميعا نفسٌ واحدة فإذا عابَ المؤمن أخاه المؤمنَ كأنه عاب نفسَه.
يريد الله تعالى أن يكون المجتمع الإسلامي مجتمعاً فاضلا، فأدّبنا بهذا الأدب الرفيع، فلكل إنسان كرامتُه، وهي من كرامة الجميع، فإذا حصل ضرر لأي فرد فإنه ضرر للناس كلهم. لذلك ينهى الله تعالى أن يسخَرَ رجالٌ من رجال آخرين لعلّهم خير منهم عند الله، أو نساء من نساءٍ لعلّهن خير منهن عند الله.
﴿ وَلاَ تلمزوا أَنفُسَكُمْ ﴾
لا يعب بعضُكم بعضا بقول أو إشارة على وجه الخفية، فإنكم أيها المؤمنون كالجسدِ الواحد إن اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. وهذا حديث صحيح رواه مسلم.
﴿ وَلاَ تَنَابَزُواْ بالألقاب ﴾
ولا يدعو بعضكم بعضاً بالألقاب المستكرَهة، ولا تدعوا أحدا بما لا يحبّ من الألقاب القبيحة.
أما الألقاب اللطيفة التي تدل على معانٍ حسنة فلا مانع من استعمالها كما قيل لأبي بكر عتيق، ولعمر بن الخطاب : الفاروق، ولعثمان : ذو النورين الخ..
﴿ بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان ﴾
بئس الاسم أن تُسمَّوا فاسقين بعد أن تكونوا مؤمنين. ومن لم يتبْ ويرجع عما نهى الله عنه فأولئك هم الظالمون الذين ظلموا أنفسَهم وغيرهم بعصيانهم أوامر الله.
الإثم : الذنب.
ولا تجسّسوا : أصلها تتجسسوا بتائين : لا تبحثوا عن عورات الناس ومعايبهم. الغيبة : ذِكر الإنسان بما يكره في غيابه.
في هذه الآية الكريمة أدبٌ رفيع للمؤمنين حتى يعيشوا في مجتمع فاضل، تكون فيه حرياتُهم مكفولة، وحقوقهم محفوظة، فلا يؤخذون بالظن، ولا يحاكَمون بريبة، فالإنسان بريء حتى يثبت عليه الجرم.
روى الطبراني عن حارثة بن النعمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :« إذا ظننتَ فلا تحقّق » وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال :« لا تظننّ بكلمة خرجتْ من أخيك إلا خيرا، وأنتَ تجدُ لها في الخير محملا ».
يا أيها الذين آمنوا : ابتعِدوا عن كثير من ظنّ السوء بالناس، إن بعض الظن إثمٌ يستوجب العقوبة. وهذا تهذيبٌ رفيع لنا يرفع من مستوى مجتمعنا، ويديم الوئامَ والمودة بيننا، ويزيد توثيقَ رباط المجتمع الإسلامي الفاضل قُوةً ومنعة.
﴿ وَلاَ تَجَسَّسُواْ ﴾
وهذا أمر ثانٍ من أوامر الله العليا يُبعدنا فيه عن الأعمال الدنيئة، لتطهير قلوبنا ونظافة أخلاقنا، حتى يكفُلَ حرياتِ الناس وحرماتِهم وكرامتهم، التي لا يجوز أن تُنتهَك ولا تمسّ بحال من الأحوال. فما دام الإنسان في بيته قد ستر نفسه عن الناس فلا يجوز لنا أن نتتبّع عوراتِه، ولا البحث عن سرائره، لأن الإسلام يريد أن يعيش الناس آمنين على أنفسهم مطمئنين في بيوتهم، ولنا الظواهُر، ولا يجوز لنا أن نتعقب بواطن الناس وما أخفوه.
قال عبد الرحمن بن عوف : حرستُ مع عمر بن الخطاب رضي الله عنهما بالمدينة، إذ تبين لنا سراجٌ في بيتٍ بابه مغلقٌ على قوم لهم أصوات مرتفعة ولَغَط، فقال عمر : هذا بيت ربيعة بن أمية بن خلف، وهم الآن يشربون، فما ترى ؟ قلت : أرى أنّا قد أتينا ما نهى الله عنه، قال تعالى :﴿ وَلاَ تَجَسَّسُواْ ﴾ وقد تجسّسنا. فانصرفَ عمر وتركهم.
وفي الحديث الصحيح :« من ستر عورةً فكأنما استحيا موْؤدة من قبرِها » رواه أبو داود والنسائي.
وفي الحديث أيضا عن سفيان الثوري عن معاوية بن أبي سفيان : قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول :« إنك إن اتبعت عوراتِ الناس أفسدتَهم أو كِدتَ تفسدهم » رواه أبو داود.
﴿ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ ﴾
ولا يذكرْ بعضكم بعضا بما يكره في غيبته ولو بإشارة أو نحو ذلك، لما في ذلك من أذى للناس. والمراد بما يكره : ما يكرهه في دينه أو دنياه أو خلُقه أو خلْقه أو ماله أو ولده أو زوجته وفي كل ما يؤذيه.
قال الحسن البصري : الغيبة ثلاثة أوجه كلّها في كتاب الله : الغيبة، والإفك والبهتان.
فأما الغيبة : فهي أن تقول في أخيك ما هو فيه. وأما الإفك : فأن تقول فيه ما بلغك عنه وقد يكون ذلك غير صحيح. وأما البهتان : فأن تقول فيه ما ليس فيه. والغيبة من الجرائم الكبيرة، والذي يريد التوبة منها عليه أن يستغفر لمن اغتابه، أو يذهب إليه ويطلب العفو منه.
ولبشاعة الغيبة، وكراهتها يعبّر عنها الله تعالى بهذا التعبير العجيب للتنفير منها والبعد عن إيذاء الناس فيقول :
﴿ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ ﴾
تصوروا هذا التمثيلَ الفظيع الذي تتأذى منه النفوس. وقد وردتْ أحاديثُ كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم تنفر المسلمين من الغيبة، ليرفع الله من نفوسهم ويطهرها، ويبني مجتمعا طاهرا مثاليا.
واستثنى العلماء من تحريم الغيبة، الملحدَ في الدين، والحاكمَ الجائر، والفاسقَ المجاهِر بالفسق، وتجريحَ الشاهد عند القاضي، والمتظلّمَ في أمر هام، وراوي حديث الرسول الكريم، ﴿ لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسوء مِنَ القول إِلاَّ مَن ظُلِمَ ﴾ [ النساء : ١٤٨ ].
ثم بعد ذلك يأتي تعبير لطيف ﴿ واتقوا الله إِنَّ الله تَوَّابٌ رَّحِيمٌ ﴾ بابُه دائماً مفتوح للتوبة، وهو مع كل ما يأتيه الناس من مخالفات ومعاصي رحيم يقبل التوبة فلا تقنطوا من رحمة الله.
قراءات :
قرأ يعقوب : ميتا بتشديد الياء. والباقون : ميتا بإسكان الياء.
بعد أن أدّب الله تعالى المؤمنين بالآداب الرفيعة بيّن هنا أن الناسَ جميعاً من أبٍ واحد وأمٍ واحدة، فكيف يسخَر الأخ من أخيه أو يغتابه أو يظلمه ! ؟ وبين للناس أن القرآن يدعو إلى أمةٍ إنسانية واحدة، وعالمٍ واحدٍ يسوده العدل والمحبة، وأعلن هنا حقوقَ الإنسان بصرف النظرِ عن لونه وجنسه، فالناس إخوة في النسَب، كرامتُهم محفوظة، والإنسان مخلوق الله المختار، وهو خليفته في الأرض.
يا أيها الناس : إنّا خلقناكم متساوين من أصلٍ واحد هو آدم وحواء، وجعلناكم جموعا عظيمة، شعوباً وقبائل متعددة، لتتعارفوا وتتعاونوا على ما فيه خيرُكم وصلاحكم، إن أكرَمَكُم عند الله وأرفعَكم منزلة في الدنيا والآخرة هو اتقاكم له وأنفعكم لخلْقِه، ﴿ إِنَّ الله عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ بكم وبأعمالكم وبباطن أحوالكم، فاجعلوا التقوى زادَكم لمعادِكم.
آمنا : صدّقنا بما جئت به من الشرائع، فالإيمان هو التصديق بالقلب.
أسلمنا : انقدْنا لك ونطقنا بالشهادتين وعملنا بما تأمرنا به.
لا يَلِتْكم : لا ينقصكم.
يمنّون عليك أن أسلموا : يذكرون ذلك ذِكر من اصطنع لك صنيعة، وأسدى إليك معروفا.
ثم بعد أن بيّن الله لنا أن الناس جميعاً إخوة لأمٍ وأبٍ وحثّنا على التقوى والعمل الصالح، بين هنا أن الإيمان وحده لا يكفي، والإيمانُ هو التصديق بالقلب، وأن الإسلام هو التصديقُ والطاعة الظاهرة بأداء الواجبات واجتناب النواهي. وكان في زمن الرسول الكريم أناسٌ من الأعراب في إيمانهم ضَعف، وقلوبهم مشغولة تريد المغانم وعرض الدنيا. فقال الله تعالى :
﴿ قَالَتِ الأعراب آمَنَّا..... ﴾
قالت الأعراب بألسنتهم : آمنا، فقل لهم يا محمد : إنكم لم تؤمنوا، لأن قلوبكم لم تصدّق ما نطقتم به، ولكن قولوا أسلمنا وانقدنا ظاهراً لرسالتك، لأن الإيمان لم يدخل في قلوبكم بعد. وإن تطيعوا اللهَ ورسوله صادقين لا يَنقصُكم الله من ثواب أعمالكم شيئا.
ثم يؤكد الله رحمته ولطفه بعباده فيقول :﴿ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ سَتّارٌ للهفوات غفارٌ للزلات، فسارِعوا إلى التوبة.
قراءات :
قرأ أهل البصرة : لا يألتكم بالهمزة، والباقون : لا يَلتكم بلا همزة، وهما لغتان : ألت يألت، ولات يليت. واللغتان في القرآن الكريم. ففي سورة الطور ﴿ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ ﴾ [ الطور : ٢١ ].
﴿ إِنَّمَا المؤمنون الذين آمَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله أولئك هُمُ الصادقون ﴾.
المؤمنون حقاً هم الذين صدّقوا ولا تشوبهم الريبة في عقائدهم، ويبذلون النفسَ والنفيس لإحقاقِ الحق وإزهاق الباطل، أولئك هم الصادقون.
﴿ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السماوات والأرض والله بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾
فهو يعلم الإيمان الصادق، والكاذب، ويميز بين الأعمال التي يطلبون بها الدنيا، والأعمال التي يقصدون بها وجه الله.
والحمد لله رب العالمين