ﰡ
فائدةُ القسَمِ بها ما فيها من الدلالةِ على وحدانيَّة اللهِ تعالى ؛ لأنه لا يَملِكُ طُلوعَها وغروبَها إلاَّ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، فالقسَمُ قسَمٌ بربَها. وجوابُ القسَمِ :﴿ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ﴾ يعني النبيَّ ﷺ ؛ أي ما ضلَّ عن طريقِ الْهُدَى وعن الصَّواب فيما يُؤَدِّيهِ عنِ الله تعالى.
وعن مجاهد :(أنَّهُ أرَادَ بالنَّجْمِ الثُّرَيَّا إذا سَقَطَتْ وَغَابَتْ)، والعربُ تُسمِّي الثُّريا نَجماً وإنْ كانت في العددِ نُجوماً، قال أبو بكرٍ الدينوري :(هِيَ سَبْعَةُ أنْجُمٍ، فَسِتَّةٌ ظَاهِرَةٌ، وَوَاحِدٌ مِنْهَا خَفِيٌّ يَمْتَحِنُ النَّاسُ فِيْهِ أبْصَارَهُمْ).
وقال الضحَّاك :(مَعْنَاهُ : وَالْقُرْآنُ إذا نَزَلَ ثَلاَثَ آيَاتٍ أوْ أرْبَعَ آيَاتٍ وَسُورَةً، كَانَ أوَّلُ الْقُرْآنِ وَآخِرَهُ ثَلاَثٌ وَعِشْرِينَ سَنَةً، أقْسَمَ اللهُ بالْقُرْآنِ إذْ نَزَلَ نُجُوماً مُتَفَرِّقَةً عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم).
وذلك : أنَّ كُفَّارَ مكَّة قالوا : إنَّ مُحَمَّداً يقولُ القرآنَ من تَلقاءِ نفسهِ، فأقسمَ اللهُ بالقرآن ونزولهِ نَجْماً بعد نجمٍ، أنَّ مُحَمَّداً لم ينطِقُ إلاَّ عن وحيٍ يُوحَى، وإنه لم ينطِقْ به من هوَى نفسهِ.
وقولهُ تعالى :﴿ فَاسْتَوَى ﴾ يعني جبريلَ، وَقِيْلَ : المعنى :﴿ ذُو مِرَّةٍ ﴾ أي ذُو مُرورٍ في الجوِّ مُنحَدرٍ أو صاعدٍ على السُّرعة. وقولهُ تعالى :﴿ فَاسْتَوَى ﴾ أي فانتصبَ وَاقعاً على صورةِ الملائكةِ التي خلقَهُ اللهُ عليها، فرآهُ النبيُّ ﷺ مُنتَصباً في السَّماء بعدَ أن كان مُسرِعاً، فاستوَى في أفُقِ المشرقِ في رَأيِ العينِ، كما رُوي في الحديثِ :" أنَّهُ طَبَقَ الأُفُقَ كُلَّهُ بكَلْكَلِهِ، لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ فِيهَا ألْوَانٌ زَاهِرَةٌ، وَتَتَنَافَرُ مِنْهُ الدُّرَرُ " وذلك قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى ﴾ ؛ يعني جانبَ المشرقِ وهو فوق جانب المغرب.
فأمَّا في الأرضِ ففِي الأُفق الأعلى، يعني أفُقَ المشرقِ، وذلك أنَّ مُحَمَّداً ﷺ كان بحِرَاء فطلَعَ له جبريلُ من المشرقِ فسَدَّ الأُفُقَ إلى المغرب، فخَرَّ النبيُّ ﷺ مَغْشِيّاً عليه، فنَزلَ جبريلُ عليه السلام في صُورةِ الآدميِّين وضَمَّهُ إلى نفسهِ، وهو قولهُ ﴿ ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى ﴾ أي قَرُبَ بعدَ بُعدهِ وعُلُوِّهِ في الأُفق الأعلى.
والمعنى : نَزَلُ جبريلُ عليه السلام بعدَ استوائهِ، فدَنا إلى رسولِ الله ﷺ وتَدَلَّى اليه بأنْ نَكَّسَ رأسَهُ فرآهُ النبيُّ ﷺ مُتَدَلِّياً كما رآهُ مُنتصباً حتى بينَهُ وبينَ النبيِّ ﷺ قدرَ قاب قَوسَينِ مِن قِسِيِّ العرب أو أدنَى، معناهُ : وأقربُ في رأي العينِ.
قال الزجَّاجُ :(كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللهِ ﷺ مِقْدَارَ قَوْسَيْنِ، وَإنَّمَا خُصَّ الْقَوْصُ فِي الآيَةِ ؛ لأنَّ مِقدَارَهَا فِي الأَغْلَب لاَ يَتَفَاوَتُ بزِيَادَةٍ وَلاَ نُقْصَانٍ). ويقالُ : إنَّ المرادَ بالقوسِ هنا الذراعُ، وسُمي الذراعُ قًوْساً لأنه تُقَاسُ به الأشياءُ، قال ابنُ مسعودٍ :(مَعْنَاهُ : فَكَانَ قَدْرَ ذِرَاعَيْنِ أوْ أدْنَى مِنْ ذِرَاعَيْنِ).
وأما دخول (أوْ) ههُنا في قولهِ :﴿ أَوْ أَدْنَى ﴾ معناهُ : أو أدنَى فيما تقَدِّرون أنتُم واللهُ تعالى عالِمٌ بمقاديرِ الأشياءِ، ولكنَّهُ يُخاطِبُنا على ما جرَتْ به عادةُ المخاطَبة فيما بيننا.
ومعنى قولهِ تعالى :﴿ قَابَ قَوْسَيْنِ ﴾ أي قَدْرَ قَوسَين، يقالُ (قَابَ قَوْسَينِ) وَقِيبَ قَوسَين وقَيْدَ قَوسَين، كلٌّ بمعنىً واحد. والتَّدَلِّي في اللغة : هو الامتدادُ إلى جهةِ الأسفَلِ، ومنه تَدَلَّى القبرُ، ومنه إدلاءُ الدَّلوِ وهو إرسالُها في البئرِ.
ومن الدليلِ على أنَّ المرادَ بشَدِيدِ الْقِوَى جبريل عليه السلام، قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ﴾[التكوير : ١٩-٢٠]﴿ وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ ﴾[التكوير : ٢٣] وهو مَطلِعُ الشَّمسِ.
وَقِيْلَ : هذا إخبارٌ عن رؤيةِ النبيِّ ﷺ ليلةَ المعراجِ رَبَّهُ! قال ابنُ عبَّاس :(رَأى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ بفُؤَادِهِ وَلَمْ يَرَهُ بعَيْنِهِ، وَيَكُونُ ذلِكَ عَلَى أنَّ اللهَ جَعَلَ بَصَرَهُ فِي فُؤَادِهِ أوْ خَلَقَ لِفُؤَادِهِ بَصَراً حَتَّى رَأى رَبَّهُ رُؤْيَةً غَيْرَ كَاذِبَةٍ كَمَا يُرَى بالْعَيْنِ). وقال عكرمةُ :(إنَّهُ رَأَى رَبَّهُ بعَيْنِهِ!) وكان يحلفُ باللهِ لقد رأى مُحَمَّد ربَّهُ.
ومذهبُ ابنِ مسعود وعائشة في هذه الآية :(أنَّهُ رَأى جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا). وَالْفُؤَادُ دعاء القلب، فما ارتيابُ الفؤادِ فيما رأى الأصلُ وهو القلبُ.
وقرأ سعيدُ بن جبير وطلحة وابن مصرف (أفَتُمْرُونَهُ) بضمِّ التاءِ من غير ألفٍ ؛ أي تُشَكِّكُونَهُ. وقرأ الباقون (أفَتُمَارُونَهُ) أي أفَتُجَادِلُونَهُ. وفي الحديثِ :" لاَ تُمَارُوا في الْقُرْآنِ، فَإنَّ الْمِرَاءَ فِيْهِ كُفْرٌ ".
وعن الشعبيِّ عن عبدِالله بن الحارث قال :(اجْتَمَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَكَعْبٌ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : أمَّا نَحْنُ بَنُو هَاشِمٍ فَنَقُولُ : إنَّ مُحَمَّداً رَأى رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَرَّتَيْنِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : أتَعْجَبُونَ أنْ تَكُونَ الْخُلَّةُ لإبْرَاهِيمَ وَالْكَلاَمُ لِمُوسَى وَالرُّؤْيَةُ لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم).
وقال الشعبيُّ :(فَأَخْبَرَنِي مَسْرُوقُ أنَّهُ قَالَ لِعَائِشَةَ : يا أُمَّاهُ ؛ هَلْ رَأى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَطْ ؟ قَالَتْ : إنَّكَ لَتَقُولُ قَوْلاً لَيَقِفُ مِنْهُ شَعْرِي، قَالَ : قُلْتُ : رُوَيْداً فَقَرَأ عَلَيْهَا﴿ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىا... ﴾[النجم : ١] إلَى قَوْلِهِ﴿ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ﴾[النجم : ٩]. فَقَالَتْ : أيْنَ يَذْهَبُ بكَ! إنَّمَا رَأى جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ، مَنْ حَدَّثَكَ ِأنَّ مُحَمَّداً رَأى رَبَّهُ فَقَدْ كَذبَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ ﴾[الأنعام : ١٠٣].
وفي الرؤية قالَتْ عائشةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا :(مَنْ زَعَمَ أنَّ مُحَمَّداً رَأى رَبَّهُ فَقَدْ أعْظَمَ الْفِرْيَةَ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَنْ حَدَّثَكَ أنَّهُُ يَعْلَمُ الْخَمْسَ مِنَ الْغَيْب فَقَدْ كَذبَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ﴾[لقمان : ٣٤]، وَمَنْ حَدَّثَكَ أنَّ مُحَمَّداً كَتَمَ شَيْئاً مِنَ الْوَحْيِ فَقَدْ كَذبَ)، قال عبدُالرزاق :(فَذكَرْتُ هَذا الْحَدِيثَ لِمَُعَمَّرٍ فَقَالَ : مَا عَائِشَةُ عِنْدَنَا بأَعْلَمَ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ).
والسِّدرَةُ : هي شَجَرَةُ النَّبَقِ، وههنا شجرةٌ في السَّماء السابعةِ، قِيْلَ : إنَّها شجرَةُ طُوبَى، وقال الكلبيُّ :(هِيَ شَجَرَةٌ عَنْ يَمِينِ الْعَرْشِ فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابعَةِ، نَبْقُهَا مِثْلُ قِلاَلِ هَجَرٍ وَوَرَقُهَا مِثْلُ آذانِ الْفِيَلَةِ، يَخْرُجُ مِنْ بَاطِنِهَا نَهْرَانِ بَاطِنَانِ وَنَهْرَانِ ظَاهِرَانِ.
أمَّا الْبَاطِنَانِ فَفِي الْجَنَّةِ، وَهُمَا التَّسْنِيمُ وَالسَّلْسَبيلُ - وَقِيْلَ : التَّسْنِيمُ وَالْكَوْثَرُ. وَأمَّا الظَّاهِرَانِ فَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ، وَهِيَ تَحْمِلُ لأَهْلِ الْجَنَّةِ الْحُلِيَّ وَالْحُلَلَ وَجَمِيعَ الثِّمَار، وَسُمِّيَتِ الْمُنْتَهَى ؛ لأَنَّهُ يَنْتَهِي إلَيْهَا كُلُّ مَلَكٍ مُقَرَّبٍ وَنَبيٍّ مُرْسَلٍ، لاَ يَعْلَمُ مَا وَرَاءَهَا إلاَّ اللهُ سُبْحَانَهُ).
وقال ابنُ مسعودٍ :(سُمِّيَتِ الْمُنْتَهَى ؛ لأَنَّهُ يَنْتَهِي إلَيْهَا مَا يُصْعَدُ بهِ مِنَ الأَرْضِ فَيُقْبَضُ فِيهَا، وَإلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يُهْبَطُ بهِ مِنْ فَوْقِهَا، فَيُقْبَضُ فِيهَا). وَالْمُنْتَهَى : مَوْضِعُ الانْتِهَاءِ.
وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال :" لَمَّا أُسْرِيَ بالنَّبيِّ ﷺ فَانْتَهَى بهِ إلَى السِّدْرَةِ، فَإذا هِيَ شَجَرَةٌ يَخْرُجُ مِنْ أصْلِهَا أرْبَعَةُ أنْهَارٍ : نَهْرٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ، ونَهْرٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ، وَنَهْرٌ مِنْ خَمْرٍ لَذةٍ لِلشَّاربينَ، وَنَهْرٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفَّى. وَهِيَ شَجَرَةٌ يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا سَبْعِينَ عَاماً لاَ يَقْطَعُهَا، وَالْوَرَقَةُ الْوَاحِدَةُ مِنْهَا تُغَطِّي الأُمَّةَ كُلَّهَا ".
وعن أسماءَ بنتِ أبي بكرٍ ؛ قالت :" سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَذْكُرُ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى قَالَ :" يَسيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ " وقال مقاتلٍ :(هِيَ شَجَرَةٌ لَوْ أنَّ وَرَقَةً مِنْهَا وُضِعَتْ فِي الأَرْضِ أضَاءَتْ لأَهْلِ الأَرْضِ كُلِّهِمْ، تَحْمِلُ الْحُلِيَّ وَالْحُلَلَ وَالثِّمَارَ وَجَمِيعَ الأَلْوَانِ، وَهِيَ طُوبَى الَّتِي ذكَرَهَا اللهُ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ).
" وأما العُزَّى فقال مجاهدُ :(شَجَرَةٌ لِغَطَفَانَ يَعْبُدُونَهَا) وَهِيَ الَّتِي بَعَثَ إلَيْهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فَقَطَعَهَا، وَجَعَلَ خَالِدُ يَضْرِبُهَا بالْفَأْسِ وَيَقُولُ : يَا عُزَّى كُفْرَانَكِ لاَ سُبْحَانَكِ، إنِّي رَأيْتُ اللهَ قَدْ أهَانَكِ. فَخَرَجَتْ مِنْ تَحْتِهَا شَيْطَانَةٌ عَرْيَانَةٌ نَاشِرَةٌ شَعْرَهَا، دَاعِيَةٌ بوَيْلِهَا، وَاضِعَةٌ يَدَهَا عَلَى رَأسِهَا، فَقَتَلَهَا خَالِدٌ ثُمَّ رَجَعَ إلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ وَأخْبَرَهُ بذلِكَ، فَقَالَ :" تِلْكَ الْعُزَّى، وَلَنْ تُعْبَدَ أبَداً " ".
وأما مَنَاة فهو صنمٌ لخزاعة، وقال الضحَّاك :(مَعْنَاهُ : صَنَمٌ لِهُذيْلَ)، وقال :(إنَّ مَنَاةَ صَنَمٌ كَانَتْ لِهُذيْلَ وَخُزَاعَةَ يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ الله). وقال بعضُهم : اللاَّتُ والعُزَّى، ومناةُ أصنامٌ من حجارةٍ كانت في جوفٍ الكعبةِ.
والمعنى : أخبرُونا عن الآلهةِ التي تَعبُدونَها من دونِ الله، هل لها قدرةٌ تُوصَفُ بها كما يوصَفُ اللهُ بالقدرةِ والعَظَمةِ، وهي أسماءُ أصنامٍ يَعبدونَها، وانتقَوا لها اسماً من أسماءِ الله تعالى، فقالوا : مِن الله اللاَّت، ومن العزيزِ العزَّى، ومن المنَّانِ مناةُ بالهاءِ.
وقال الزجَّاجُ :(الْوَقْفُ عَلَيْهَا بالتَّاءِ لاتِّبَاعِ الْمُصْحَفِ)، وكان ابنُ كثيرٍ يقولُ :(وَمَنَأَةَ) بالمدِّ والهمزةِ، والصحيحُ : قراءةُ العامَّة بالقصرِ، و(الثَّالِثَةَ) نعتٌ لِمَنَاة، يعني الثالثةَ للصَّنمين في الذِّكرِ، والأُخرى نعتٌ لها أيضاً.
وقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى ﴾ ؛ معناهُ : ولقد جاءَهم من ربهم الكتابُ والرسولُ والبيانُ أنَّها ليست بآلهةٍ، وأنَّ العبادةَ لا تصلحُ لَها، وإنما تصلحُ للهِ عَزَّ وَجَلَّ. والمعنى : أنَّهم يَعقِلُون ذلك بعدَ أنْ جاءَهم الهدَى، وذلك أبلَغُ في الذمِّ.
وَقِيْلَ : معناهُ : أنَّ غايةَ عِلمِهم أنْ آثَرُوا الدُّنيا على الآخرةِ، وهذا غايةُ الجهلِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ﴾ ؛ إي إنه عالِمٌ بهم، فهو يُجازيهم، ﴿ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى ﴾ ؛ أي إنه عالِمٌ بالفَرِيقين.
ثم نعتَهم فقال :﴿ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ ﴾ ؛ فكبائرُ الإثمِ وهو كلُّ ذنبٍ خُتِمَ بالنار، والفواحشُ، كلُّ ذنبٍ فيه حَدٌّ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِلاَّ اللَّمَمَ ﴾ ؛ هذا استثناءٌ منقطعُ ليس الكبائرَ والفواحشَ.
وقال ابنُ عبَّاس :(أشْبَهُ شَيْءٍ باللَّمَمِ مَا قَالَهُ أبُو هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ : أنَّهُ قَالَ :" إنَّ اللهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَى، وَهُوَ الله يُدْركُ ذلِكَ لاَ مَحَالَةَ، فَزِنَى الْعَيْنَيْنِ النَّظَرُ، وَزَنَى اللّسَانِ النُّطْقُ، وَزنَى الشَّفَتَيْنِ التَّقْبيلُ، وَزنَى الْيَدَيْنِ الْبَطْشُ، وَزنَى الرِّجْلَيْنِ الْمَشْيُ، وَالنَّفْسُ تَتَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذلِكَ كُلَّهُ أوْ يُكَذِّبُهُ، فَإنْ تَقَدَّمَ بفَرْجِهِ كَانَ زَانِياً وَإلاَّ فَهُوَ اللَّمَمُ " ).
وفي هذا دليلٌ أن الأشياءَ إذا وُجدت على التعمُّدِ لم تكن مِن اللَّمَمِ، واللَّمَمُ ما يكون من الفلتات النادرةِ التي لا يملِكُها ابنُ آدمَ من نفسهِ ؛ لأنَّ الأُمَّة اجتمعَتْ على أنَّ مُتَعَمِّدَ النظرِ إلى ما لا يحلُّ فاسقٌ.
واللَّمَمُ في اللغة : هو مُقَارَبَةُ الشَّيءِ من غيرِ دُخولٍ فيه، يقالُ : ألَمَّ بالشَّيءِ يَلِمُّ إلْمَاماً إذا قاربَهُ. وعن هذا يقالُ : صغائرُ الذُّنوب كالنَّظرة والقُبلَةِ والغَمزَةِ، وما كان دُون الزِّنى، وقال ابنُ عبَّاسَ :" اللَّمَمُ : النَّظْرَةُ مِنْ غَيْرِ تَعَمُّدٍ وَهُوَ مَغْفُورٌ، فَإنْ أعَادَ النَّظَرَ فَلَيْسَ بلَمَمٍ وَهُوَ الذنْبُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ ﴾ ؛ أي إنَّ رحمةَ ربكَ تسَعُ جميعَ الذُّنوب، ﴿ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ ﴾ معناهُ : هو أعلمُ بكم مِن أنفُسِكم إذ خلق أبَاكُم آدمُ من الترابٍ. والجنينُ : ما كنتم صِغَاراً في أرحامِ أُمَّهاتِكم عَلِمَ عند ذلك ما يستَحصِلُ منكم، والأَجِنَّةُ : جمعُ جَنِينٍ، والمعنى : عَلِمَ اللهُ مِن كلِّ نفسٍ ما هي صَانِعَةٌ، وإلى ما هي صائرةٌ، ﴿ فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ ﴾ ؛ بما ليسَ فيها ولا تُبَرِّؤُونَها من العيُوب التي فيها.
وَقِيْلَ : معناهُ : لا تُزَكُّوا أنفُسَكم بما عَمِلتم، لا يقولَنَّ رجلٌ : عملتُ كذا، وتصدَّقتُ بكذا ؛ ليكون أبلغَ بالخضُوعِ وأبعدَ من الرِّياء. وَقِيْلَ : معناهُ : لا تُبَرِّؤُا أنفُسَكم من الآثامِ وتَمدَحُونَها بحُسنِ عملِها، ﴿ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ﴾ ؛ الشِّركَ وآمَنَ وأطاعَ وأخلصَ العملَ.
قال المفسِّرون :(أكْدَى) أي قطعَهُ ولم يُتِمَّ عليهِ، وأصله من الكِدْيَةِ، وهو حجَرٌ يظهرُ في البئرِ ويمنَعُ من الحفرِ ويُؤِسَ من الماءِ، قال الكلبيُّ :(يُقَالُ : أكْدَى الْحَافِرُ وَأجْبَلَ ؛ إذا بَلَغَ فِي الْحَفْرِ الْكِدْيَةَ وَالْجَبَلَ).
وَقِيْلَ : أكملَ ما يجبُ للهِ عليه من الطاعةِ في كلِّ ما أُمر به وامتُحِنَ به كما في قولهِ تعالى :﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ﴾[البقرة : ١٢٤]. وَقِيْلَ : معنى ذلك : أنَّهُ كان عَاهدَ أنْ لا يسألَ مَخلوقاً قطُّ خَوْفاً بذلك، حتى قالَ له جبريلُ في الوقتِ الذي أرادَ قومهُ أنْ يُلقوه في النار : هَلْ لَكَ حَاجَةٌ ؟ أجَابَهُ : أمَّا إلَيْكَ فَلاَ. وَقِيْلَ : معناهُ : وفي رُؤياه وقَدِمَ بذبحِ ابنه. وَقِيْلَ : أدَّى الأمانةَ ووفَّى شأنَ المناسكِ.
وعن ابنِ عبَّاس رضي الله عنه أنه قالَ :(كَانُوا قَبْلَ إبْرَاهِيمَ يَأْخُذُونَ الرَّجُلَ بذنْب غَيْرِهِ، وَيَأْخُذُونَ الَوَلِيَّ فِي الْقَتْلِ بابْنِهِ وَأخِيهِ وَأبيهِ وَعَمِّهِ وَخَالِهِ، وَالزَّوْجَ يُقْتَلُ بامْرَأتِهِ، وَالسَّيِّدُ بعَبْدِهِ، فَلَمَّا بُعِثَ مُحَمَّدٌ ﷺ نَهَاهُمْ عَنْ ذلِكَ وَبَلَّغَهُمْ أنْ لاَ تَزِرَ وَازرَةٌ وزْرَ أُخْرَى).
يقال : وَزَرْتُ الشَّيْء آزُرُهُ إذا حَمَلْتَهُ، والأَوْزَارُ : الأحمالُ، ويسمَّى الإثمُ وزْراً ؛ لأن الإثمَ يُثقِلُ صاحبَهُ، كما قال تعالى :﴿ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ ﴾[الانشراح : ٢-٣]. ويسمَّى الوزيرُ وزيراً ليَحمِلَ ثقلَ الملكِ في قيامهِ بالتدبُّر.
ون أُبَي بن كعبٍ " عن النبيِّ ﷺ في قولهِ تعالى ﴿ وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى ﴾ قال :" لاَ فِكْرَ فِي الرَّب " والشاهدُ في هذا الحديثِ قولهُ ﷺ :" إذا ذُكِرَ اللهُ فَانْتَهُوا ".
وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قالَ :" خَرَجَ رَسُولُ اللهِ ﷺ عَلَى أصْحَابهِ وَهُمْ يَتَفَكَّرُونَ، فَقَالَ :" فِيمَ أنْتُمْ تَتَفَكَّرُونَ ؟ " قَالُواْ : نَتَفَكَّرُ الْخَالِقَ، فَقَالَ :" تَفَكَّرُواْ فِي الْخَلْقِ وَلاَ تَتَفَكَّرُواْ فِي الْخَالِقِ، فَإنَّهُ لاَ يُحِيطُ بهِ الْفِكْرُ، تَفَكَّرُواْ فِي أنَّ اللهَ خَلَقَ السَّمَوَات سَبْعاً وَالأَرْضَ سَبْعاً ثِخَانَةً ؛ كُلُّ أرْضٍ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ، وَمَا بَيْنَ كُلِّ أرْضَينِ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ، وَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ، وَثِخَانَةُ كُلِّ سَمَاءٍ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ، مَا بَيْنَ كُلِّ سَمَائَيْنِ خَمْسُمِائَةٍ، وَفِي السَّمَاءِ السَّابعَةِ بَحْرٌ عُمْقُهُ مِثْلُ ذلِكَ كُلِّهِ، فِيْهِ مَلَكٌ قَائِمٌ لَمْ يُجَاوز الْمَاءُ كَفَّيْهِ " ".
وقال ذُو النُّون :(أضْحَكَ قُلُوبَ الْعَارفِينَ بشَمْسِ مَعْرِفَتِهِ، وَأبْكَى قُلُوبَ الْعَاصِينَ بظُلْمَةِ نُكْرَتِهِ وَمَعْصِيَتِهِ). وقال سهلٌ :(أضْحَكَ الْمُطِيعَ بالرَّحْمَةِ، وَأبْكَى الْعَاصِي بالسُّخْطِ). وسُئِلَ ظاهرُ المقدسيُّ : أتَضْحَكُ الْمَلاَئِكَةُ ؛ فَقَالَ :(مَا ضَحِكَتْ مِنْ دُونِ الْعَرْشِ مُنْذُ خَلَقَ اللهُ جَهَنَّمَ).
وَقِيْلَ لِعُمَرَ رضي الله عنه : هَلْ كَانَ أصْحَابُ رَسُولِ اللهِ يَضْحَكُونَ ؟ قَالَ :(نَعَمْ، وَالإِيْمَانُ وَاللهِ أثْبَتُ فِي قُلُوبهِمْ مِنَ الْجِبَالِ الرَّوَاسِي). وقال محمَّد بن علي الترمذي :(مَعْنَى الآيَةِ : هُوَ أضْحَكَ الْمُؤْمِنَ فِي الآخِرَةِ وَأبْكَاهُ فِي الدُّنْيَا، وَأضْحَكَ الْكَافِرَ فِي الدُّنْيَا وَأبْكَاهُ فِي الآخِرَةِ).
وقال ابنُ عبَّاس رضي الله عنه :(أغْنَى وَأرْضَى بمَا أعْطَى). وَقِيْلَ : معناهُ : أغنَى وأفقرَ، وَقِيْلَ : أغنَى ؛ أي أكثرَ، وأقنَى أي أقَلَّ، ونظيرهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ ﴾[الروم : ٣٧].
وقال الأخفشُ :(أقْنَى : أفْقَرَ وَأجْوَعَ)، وَقِيْلَ : أقْنَى بأرباحِ الأموالِ وفُروعِها، وأقنَى بأُصُولِها، فالأُولى : مثلُ الذهب والفضَّة، يتصرف بهما ويربحُ عليهما، والثانيةُ : مثلُ الضِّياعِ والأنعامِ، يستبقِي الإنسانُ أُصولَها وينتفعُ بما يحصلُ له منها.
وقرأ نافعُ وأبو عمرٍو ويعقوبُ :(عَاداً الأُولَى) مُدغَماً، وهمزَ الواوَ نافعُ، وقرئَ بإسكانِ اللام وإثباتِ الهمز وهي الأصلُ في الكلامِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَثَمُودَ فَمَآ أَبْقَى ﴾ وأهلكَ قومَ صالح بالصَّيحة فما أبقَى منهم أحداً. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ ﴾ ؛ أي وأهلَكنا قومَ نوحٍ من قبلِ عادٍ وثمودَ، ﴿ إِنَّهُمْ كَانُواْ هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى ﴾ ؛ من غيرِهم، لأنَّ نوحاً عليه السلام لَبثَ فيهم ألفَ سنةٍ إلاَّ خمسين عَاماً فما آمَنَ منهم إلاَّ أنفسٌ يَسِيرَةٌ.
وذلك أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا عدَّدَ ما فعلَهُ مما يدلُّ على و حدانيَّتهِ قال ﴿ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى ﴾. فإنْ قيلَ : ما معنى ذِكْرِ النِّعَمِ ههنا وقد تقدَّمَ ذِكرُ الإهلاكِ ؟ قُلْنَا : إنَّ النِّعَمَ التي عُدَّتْ قبلَ هذه نِعَمٌ علينا لِمَا نَالَنَا فيها من المزاجِرِ، كيلاَ يَسْلِكَ منا أحدٌ مَسالِكَها.
وعن أبي هريرة قالَ : لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ ﴿ أَفَمِنْ هَـاذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ ﴾ بكَى أهْلُ الصُّفَّةِ حَتَّى جَرَتْ دُمُوعُهُمْ عَلَى خُدُودِهِمْ، فَلَمَّا سَمِعَ النَّبِيُّ ﷺ حَنِينَهُمْ بَكَى مَعَهُمْ فَبَكَيْنَا، فَقَالَ ﷺ :" لاَ يَلِجُ النَّارَ مَنْ بَكَى مَعَهُمْ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ، وَلاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مُصِرٌّ عَلَى مَعْصِيَةِ اللهِ، وَلَوْ لَمْ تُذْنِبُواْ لَجَاءَ اللهُُ بقَوْمِ يُذْنِبُونَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ ".