ﰡ
قوله تعالى: ﴿فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما عدد نعماءه على عباده (١)، وما يجب من شكرهم عليها، ثم أرشدهم إلى أن هذه النعم لا بقاء لها، ولا ثبات، ثم ذكر أن الناس محاسبون على الصغير والكبير من أعمالهم، وسيلقون الجزاء عليها، ولا مهرب حينئذٍ منها، ولا نصير لهم ينقذهم مما سيحل بهم عن العذاب.. ذكر هنا أنه إذا جاء ذلك اليوم اختل نظام العالم، فتتصدع السموات، ويحمر لونها، وتصير مذابة غير متماسكة، كالزيت ونحوه مما يدهن به، ويكون للمجرمين حينئذٍ علامات يمتازون بها عن سواهم، فيتعرفهم الرائي لهم دون حاجة إلى سؤال نكالًا وخزيًا لهم، ثم يجرون إلى جهنم من نواصيهم وأرجلهم، ويقال لهم توبيخًا وتقريعًا: هذه جهنم التي كنتم تكذبون بها، وينتقل بهم من جهنم إلى ماء حار كالمهل يشوي الوجوه، ومن عذاب إلى ما هو أشد منه.
أسباب النزول
سبب نزول هذه السورة؛ فيما قال مقاتل (٢): أنه لما نزل: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ﴾ الآية، قالوا: ما نعرف الرحمن. فنزلت: ﴿الرَّحْمَنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢)﴾.
وقيل: لما قالوا: ﴿إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ﴾ أكذبهم الله تعالى، وقال: ﴿الرَّحْمَنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢)﴾.
التفسير وأوجه القراءة
١ - ولمَّا (٣) كانت هذه السورة الكاملة شاملة لتعداد النعم الدنيوية والأخروية، والجسمانية والروحانية.. طرزها بطراز اسم الرحمن الذي هو اسم الذات المشتمل على جميع الأسماء والصفات ليسند إليه النعم المختلفة بعده، فقال: ﴿الرَّحْمَنُ (١)﴾ مرفوع على أنه مبتدأ، وما بعده من الأفعال مع ضمائرها أخبار له. وإخلاؤها عن العاطف لمجيئها على نمط التعداد، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أي:
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
٢ - ولمَّا (١) كان القرآن أعظم النعم شأنًا لأنه مدار جميع السعادات، ولذا قال - ﷺ -: "أشراف أمتي حملة القرآن"؛ أي: ملازمو قراءته، وأصحاب الليل، وقال: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه". وفيه جميع حقائق الكتب السماوية. وكان تعليمه من آثار الرحمة الواسعة، وأحكامها بدأ به. فقال: ﴿عَلَّمَ﴾ محمدًا - ﷺ - ﴿الْقُرْآنَ﴾ بواسطة جبريل عليه السلام، وبواسطة محمد - ﷺ - علم غيره من الأمة. وقيل: ﴿عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢)﴾؛ أي (٢): يسره للذكر ليحفظ ويتلى. وذلك أن الله سبحانه عدد نعمه على عباده، فقدم أعظمها نعمة، وأعلاها رتبة. وهو القرآن العزيز؛ لأنه أعظم وحي الله تعالى إلى أنبيائه، وأشرفه منزلة عند أوليائه وأصفيائه، وأكثره ذكرًا، وأحسنه في أبواب الدين. وهو سنام الكتب المنزلة على أفضل البرية.
قال ابن عطاء رحمه الله تعالى: لما قال الله تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ أراد أن يخص أمة محمد - ﷺ - بخاصية مثله، فقال: ﴿الرَّحْمَنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢)﴾؛ أي: الذي علم آدم الأسماء وفضله بها على الملائكة هو الذي علمكم القرآن، وفضلكم به على سائر الأمم.
وفي الآية: إشارة إلى أن التعليم والتسهيل إنما هو من الله تعالى، لا من المعلمين والحافظين. وقد علم آدم الأسماء، ووفقه لتعلمها، وسهله بإذنه، وعلم داود صنعة الدرع كما قال: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ﴾، وعلم عيسى علم الطب كما قال: ﴿وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾، وعلم الخضر العلم اللدني كما قال: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا﴾، وعلم نبينا محمدًا - ﷺ - القرآن، وأسرار الألوهية كما قال: ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾، وعلم الإنسان البيان.
قال في "فتح الرحمن": ومن الدليل على أن القرآن غير مخلوق: أن الله تعالى ذكره في كتابه العزيز في أربعة وخمسين موضعًا ما فيها موضع صرح فيه بلفظ
(٢) الخازن.
٣ - ثم امتن بعد هذه النعمة بنعمة الخلق الذي هي مناط كل الأمور، ومرجع جميع الأشياء، فقال: ﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ﴾؛ أي: آدم من أديم الأرض، قاله ابن عباس.
٤ - ﴿عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (٤)﴾؛ أي: ألهمه الله سبحانه وتعالى بيان كل شيء، وأسماء كل دابة تكون على وجه الأرض. وفي "بحر العلوم": ﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ﴾؛ أي: آدم، وعلمه الأسماء واللغات كلها، وكان آدم يتكلم بسبع مئة لغة، أفضلها العربية، انتهى.
يقول الفقير: وفيه إشارة إلى أن الله تعالى قد تكلم بجميع اللغات سواء كان التعليم بواسطة أم لا، فإن قلت (١): كيف يتكلم الله باللغات المختلفة، والكلام النفسي عار عن جميع الأكسية؟
قلت: نعم، ولكنه في مراتب التنزلات والاسترسالات لا بد له من الكسوة. فالعربية مثلًا كسوة عارضة بالنسبة إلى الكلام في نفسه، وقد ذقنا في أنفسنا أنه يجيء الإلهام والخطاب تارة باللفظ العربي، وأخرى بالفارسيّ، وبالتركي مع كونه بلا واسطة ملك؛ لأن الأخذ عن الله لا ينقطع إلى يوم القيامة. وذلك بلا واسطة، وإن كان الغالب وساطة الملك من حيث لا يرى، فاعرف ذلك.
وقيل (٢): المراد بالإنسان: الجنس، وأراد به جميع الناس. فعلى هذا يكون معنى ﴿عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (٤)﴾؛ أي: علمه النطق الذي يتميز به عن سائر الحيوانات، وقيل: علمه الكتابة، والفهم، والإفهام، حتى عرف ما يقول، وما يقال له. وقيل: علم كل قوم لسانهم الذي يتكلمون به. وقيل: أراد بالإنسان: محمدًا - ﷺ - ﴿عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (٤)﴾ يعني: بيان ما يكون وما كان. لأنّه - ﷺ - ينبىء عن خبر الأولين والآخرين، وعن يوم الدين. وقيل: علمه بيان الأحكام من الحلال والحرام، والحدود والأحكام. والأولى حمل الإنسان على الجنس، وحمل البيان على تعليم كل قوم لسانهم الذي يتكلمون به.
(٢) الخازن.
٥ - ولما كان الإنسان مدنيًا بيبعه لا يعيش إلا مجتمعًا بسواه كان لا بد له من لغة يتفاهم بها مع سواه من أبناه جنسه، ويكتب إليه في الأقطار النائية، والبلاد النازحة، ويحفظ علوم السلف لينتفع بها الخلف، ويزيد فيها اللاحق على ما فعل السابق. وهذه منة روحية كبرى، لا تعدلها منة أخرى في هذه الحياة. ومن ثم قدمها على النعم الأخرى الآتية.
وقد بدأ أوّلًا بما يتعلم، وهو القرآن الذي به السعادة، ثم ثنى بالتعلم، ثم ثلث بطريق التعلم وكيفيته، ثم انتقل إلى ذكر الأجرام العلوية التي ينتفع بها الناس في معاشهم. فقال: ﴿الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ﴾ يجريان ﴿بِحُسْبَانٍ﴾ مبتدأ وخبر، أي: يجريان بحسبان مقدر معلوم في بروجهما ومنازلهما، بحيث ينتظم بذلك أمور الكائنات السفلية، ويختلف الفصول والأوقات، ويعلم السنون والحساب، فالسنة القمرية ثلاث مئة وأربعة وخمسون يومًا، والشمسية ثلاث مئة وخمسة وستون يومًا وربع يوم أو أقل. وبهذا (٢) الحسبان انتفع بهما الناس في شؤون الزراعات كمواعيد البذر والحصاد، وما ينفع منها في كل فصل من الفصول الأربعة، وفي الأمور المالية من بيع وشراء لآجال محدودة من شهور وسنين، وفي تقدير الأعمار والآجال التي تقدمت، وجاءت في أخبار الماضين، والشعبي ستكون للحاضرين. ولولا الليل والنهار والشمس والقمر لم يدر أحد كيف يحسب. لأن الدهر يكون كله ليلًا أو نهارًا.
٦ - وبعد أن ذكر أن الشمس والقمر طوع قدرته، وقد جعل لهما النظم الدقيقة في الحسبان.. أردفه بانقياد العوالم الأرضية له، فقال: ﴿وَالنَّجْمُ﴾؛ أي: النبات الذي ينجم؛ أي: يطلع من الأرض ولا ساق له. مثل القمح والشعير، والقرع، والبطيخ، ونحو ذلك. وقيل (٣): النجم: هو الكوكب، وسجوده طلوعه. والقول الأول أظهر؛
(٢) المراغي.
(٣) الخازن.
﴿وَالشَّجَرُ﴾ الذي له ساق يبقى في الشتاء. وفي "المنتقى": كل نابت إذا ترك حتى يبرز انقطع.. فليس بشجر، وكل شيء يبرز ولا ينقطع من سنته فهو شجر. ﴿يَسْجُدَانِ﴾؛ أي: ينقادان له تعالى فيما يريد بهما طبعًا انقياد الساجد من المكلفين طوعًا أو يسجد ظلهما على ما بين في قوله تعالى: ﴿يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ﴾.
وذكر سبحانه هنا في مقابلة النعمتين السماويتين اللتين هما الشمس والقمر نعمتين أرضيتين (١)، وهما: النجم والشجر، وكلاهما من قبيل النبات الذي هو أصل الرزق من الحبوب، والثمار، والحشيش للدوابّ. وإخلاء الجمل الأولى عن العطف لورودها على منهاج التعداد تنبيهًا على تقاعده في الشكر، كما في قولك: زيد أغناك بعد فقر، أعزك بعد ذل، كثرك بعد قلة، فعل بك ما لم يفعل أحد بأحد. وأما عطف جملة ﴿وَالنَّجْمُ﴾ على ما قبلها فلتناسبها من حيث التقابل لما أن الشمس والقمر علويان، والنجم والشجر سفليان، ومن حيث إن كلا من حال العُلويين وحال السفليين من باب الانقياد لأمر الله تعالى. ولما كانت هذه الأربعة مغايرة لجنس الإنسان في ذاته وصفاته غير النظم بإيرادها في صورة الاسمية تحقيقًا للتغاير بينهما وضعًا، وطبعًا، وصورة، ومعنى.
والمعنى (٢): أي والزرع والشجر ينقادان لله سبحانه فيما أراد بهما طبعًا كما ينقاد المكلف اختيارًا. فما اختلاف ثمرهما في الشكل، والهيئة، واللون، والمقدار، والطعم، والرائحة إلا انقياد للقدرة التي أرادت ذلك. وقال الفرّاء (٣): المراد بسجودهما: أنهما يستقبلان الشمس إذا طلعت، ثم يميلان معها حين ينكسر الفيء. وقال الزجاج: سجودهما دوران الظل معهما، كما في قوله: ﴿يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ﴾. وقال الحسن، ومجاهد: المراد بالنجم: نجم السماء، وسجوده طلوعه.
(٢) المراغي.
(٣) الشوكاني.
وقيل: سجوده أفوله، وسجود الشجر تمكينها من الاجتناء لثمارها، وهذه الجملة والتي قبلها خبران آخران لـ ﴿الرَّحْمَنُ (١)﴾، وترك الرابط فيهما لظهوره، كأنه قيل: الشمس والقمر بحسبانه، والنجم والشجر يسجدان له.
ولما ذكر ما به حياة الأرواح من تعليم القرآن.. ذكر ما به حياة الأشباح من النبات الذي له ساق. وكان تقديم النجم، وهو ما لا ساق له؛ لأنّه أصل القوت، والذي له ساق ثمره يتفكه به غالبًا.
٧ - ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا﴾، أي: خلقها مرفوعة فوق الأرض، حيث جعلها مصدر قضاياه، ومسكن ملائكته الذين ينزلون بالوحي على أنبيائه. ونبه بذلك على عظم شأنه، وملكه. وقرأ الجمهور (١) ﴿وَالسَّمَاءَ﴾ بالنصب على الاشتغال روعي مشاكلة الجملة التي تليه، وهي ﴿يَسْجُدَانِ﴾. وقرأ أبو السمال ﴿وَالسَّمَاءَ﴾ بالرفع، راعى مشاكلة الجملة الابتدائية.
أي: خلقها مرفوعة محلًّا، كما هو محسوس مشاهد، وكذا رتبه، حيث جعلها منشأ أحكامه، وقضاياه، وتنزل أوامره، ومحل ملائكته. وقال بعضهم: رفعها من السفل إلى العلو سقفًا لمصالح العباد، وجعل ما بينهما مسيرة خمس مئة عام. وذلك لأن السماء دخان فار به موج الماء الذي كان تحت الأرض.
﴿وَوَضَعَ﴾ الله سبحانه في الأرض ﴿الْمِيزَانَ﴾؛ أي (٢): شرع العدل وأمر به بأن وفر كل مستحق لما استحقه، ووفى كل ذي حق حقه حتى انتظم به أمر العالم، واستقام. كما قال عليه السلام: "بالعدل قامت السموات والأرض". قيل: فعلى هذا الميزان هو القرآن. وقيل: هو ما يعرف به مقادير الأشياء من ميزان، ومكيال، ونحوهما. فالمعنى: خلق كل ما توزن به الأشياء، ويعرف به مقاديرها موضوعًا مخفوضًا على الأرض، حيث علق به أحكام عباده، وقضاياهم، وما تعبدهم به من التسوية والتعديل في أخذهم وإعطائهم. قال سعدي المفتي: وأنت خبير بأن قوله: ﴿أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (٨) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (٩)﴾ أشد ملاءمة
(٢) روح البيان.
٨ - و ﴿أن﴾ في قوله: ﴿أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (٨)﴾ ناصبة، و"لا" نافية، ولام العلة مقدرة متعلقة بوضع الميزان، أي: وضع الله سبحانه الميزان في الأرض لئلا تطغوا وتعتدوا، ولا تجاوزوا الإنصاف.
قال ابن الشيخ (١)، الطغيان: مجاوزة الحد. فمن قال: الميزان العدل.. قال: طغيانه الجور، ومن قال: إنه الميزان الذي هو آلة التسوية قال: طغيانه البخس؛ أي: النقص، وقيل: ﴿أن﴾ مفسرة لأنّ في الوضع معنى القول. وقرأ الجمهور ﴿وَوَضَعَ الْمِيزَانَ﴾ فعلًا ماضيًا ناصبًا الميزان؛ أي: أقره وأثبته. وقرأ إبراهيم ﴿وَوَضَعَ الْمِيزَانَ﴾ بالخفض وإسكان الضاد، انتهى من "البحر".
ومعنى الآية (٢): أي وجعل العالم العلوي رفيع القدر. إذ هو مبتدأ أحكامه، ومتنزل أوامره ونواهيه لعباده، وسكن ملائكته الذين يهبطون بالوحي على أنبيائه. وجعل نظم العالم الأرضيّ تسير على نهج العدل فعدل في الاعتقاد كالتوحيد إذ هو وسط بين إنكار الإله والشرك به، وعدل في العبادات والفضائل والآداب، وعدل بين القوى الروحية والبدنية، فأمر عباده بتزكية نفوسهم، وأباح لهم كثيرًا من الطيبات لحفظ البدن، ونهى عن الغلو في الدين، والإسراف في حب الدنيا. وهكذا ترى أن
عدله شامل لكل ما في هذا العالم، لا يغادر الصغير منه، ولا الكبير. وقوله: ﴿أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (٨)﴾؛ أي: فعل ذلك لئلا تعتدوا، وتتجاوزوا ما ينبغي من العدل والنصفة، وجري الأمور وفق ما وضع لكم من سنن الميزان في كل أمر، فترقى شؤونكم، وتنتظم أعمالكم وأخلاقكم.
قال قتادة في هذه الآية: اعدل يا ابن آدم كما تحب أن يعدل عليك، وأوف كما تحب أن يوفى لك. فإنَّ في العدل صلاح الناس.
٩ - ثم أكد هذا بقوله: ﴿وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ﴾؛ أي: قوموا وزنكم ﴿بِالْقِسْطِ﴾؛ أي: بالعدل؛ أي: اجعلوه مستقيمًا له. وفي "المفردات": الوزن: معرفة قدر الشيء، والمتعارف في الوزن عند العامة ما يقدر بالقسطاس والقبان. وقوله: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ
(٢) المراغي.
﴿وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ﴾؛ أي: لا تنقصوه؛ لأنَّ من حقه أن يسوى؛ لأنه المقصود من وضعه. قال سعدي المفتي: المراد: لا تنقصوا الموزون في الميزان لا الميزان نفسه، أمر أوّلًا بالتسوية، ثم نهى عن الطغيان الذي هو اعتداء وزيادة، ثم عن الخسران الذي هو تطفيف ونقصان، وكرر لفظ الميزان تشديدًا للتوصية به، وتأكيدًا للأمر باستعماله، والحث عليه.
وقرأ الجمهور (١): ﴿تُخْسِرُوا﴾ بضم التاء وكسر السين، من أخسر إذا أفسد ونقص، كقوله تعالى: ﴿وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (٣)﴾؛ أي: ينقصون. وقرأ بلال بن أبي برزة، وأبان بن عثمان، وزيد بن عليّ ﴿تَخْسَرُوا﴾ بفتح التاء والسين من خسر من باب سمع. وهما لغتان، يقال: أخسرت الميزان، وخسرته، وقرىء أيضًا ﴿تُخْسُرُوْا﴾ بفتح التاء وضم السين لما منع من الزيادة. وهو الطغيان.
وفي "فتح الرحمن": قوله تعالى: ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (٧)﴾ قرنه برفع السماء؛ لأنّه تعالى عدد نعمه على عباده، ومن أجلها الميزان الذي هو العدل الذي به نظام العالم وقوامه، وقيل: هو القرآن، وقيل: هو العقل، وقيل: ما يعرف به المقادير كالميزان المعروف، والمكيال والذراع.
إن قلت: ما فائدة تكرار لفظ ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (٧)﴾ ثلاث مرات مع أن القياس بعد الأولى الإضمار؟
قلت: فائدته بيان أنَّ كلًّا من الآيات مستقلة بنفسها، أو أن كلًّا من الألفاظ الثلاثة مغاير لكل من الآخرين، إذ الأول ميزان الدنيا، والثاني ميزان الآخرة، والثالث ميزان العقل؛ أي: العدل.
فإن قلت: قوله: ﴿أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (٨)﴾؛ أي: لا تجاوزوا فيه العدل، مغن عن الجملتين المذكورتين بعده؟
١٠ - وبعد أن ذكر نعمه الدالة على قدرته برفع السماء ذكر مقابلها، وهو الأرض. فقال: ﴿وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (١٠)﴾؛ أي: والأرض بسطها على وجه الماء لسكنى الحيوان من كل ما له روح، وفيه حياة لينتفع بما في ظاهرها ومافي باطنها في معايشه على ضروب مختلفة وأشكال لا حصر لها. ولا وجه لتخصيص الأنام بالإنس والجن كما قيل. وهو جمع لا واحد له من لفظه بمعنى الخلق، والجن، والإنس مما على الأرض كما في "القاموس". فهي كالفراش والمهاد لهم، ينقلبون عليها، ويتصرفون فوقها. وقرأ الجمهور (١): ﴿وَالْأَرْضَ﴾ بالنصب على الاشتغال. وقرأ أبو السمال بالرفع على الابتداء.
١١ - وجملة قوله: ﴿فِيهَا﴾؛ أي: في الأرض ﴿فَاكِهَةٌ﴾؛ أي: ضروب كثيرة مما يتفكه به، ويتلذذ من أنواع الثمار، فلفظ فاكهة يشعر باختلاف الأنواع، في محل نصب على أنها حال مقدرة من الأرض، وقيل: مستأنفة لتقرير مضمون الجملة التي قبلها.
ثم أفرد سبحانه النخل بالذكر لشرفه، ومزيد فائدته على سائر الفواكه، فقال: ﴿وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ﴾؛ أي: وفيها النخل صاحبة الغلاف الذي يكون فيه الثمر أول ظهوره. والأكمام: جمع كم بالكسر. وهو وعاء الثمر. قال الحسن: ذات الأكمام؛ أي: ذات الليف. فإن النخلة تكتم بالليف، وكمامها ليفها، وقال ابن زيد: ذات الطلع قبل أن يتفتق، وقال عكرمة: ذات الأحمال؛ أي: وفيها النخل ذات الأوعية لثمرها حين ظهوره، وأفردها بالذكر لكثرتها بالبلاد العربية، وكثرة فوائدها؛ لأنّه ينتفع بثمارها رطبة ويابسة، وينتفع بجميع أجزائها، فيتخذ من خوصها السلال والزنابيل، ومن ليفها الحبال، ومن جريدها سقف البيوت، ويؤكل جمارها. ومن ثم ذكرها باسمها، وذكر الفاكهة دون أشجارها.
١٢ - ﴿وَ﴾ فيها ﴿الْحَبُّ﴾؛ أي: جميع الحبوب التي يقتات بها: كالحنطة،
وذكر أولًا الفاكهة (١)؛ لأنها للتفكه فحسب، ثم النخل لأن ثمرها فاكهة وغذاء، ثم الحب الذي عليه المعول في الغذاء في جميع البلاد. فهو أتم نعمة لموافقته لمزاج الإنسان. ومن ثم خلقه الله تعالى في سائر البلاد، وجعل النخل في البلاد الحارة دون غيرها.
قال أبو حيان: وبدأ بقوله (٢): ﴿فَاكِهَةٌ﴾ إذ هو من باب الابتداء بالأدنى، والترقي إلى الأعلى. ونكر لفظها؛ لأن الانتفاع بها دون الانتفاع بما يذكر بعدها. ثم ثنى بالنخل، فذكر الأصل، ولم يذكر ثمرتها، وهو التمر لكثرة الانتفاع بها من ليف، وسعف، وجريد، وجذوع، وجمار، وثمر. ثم أتى ثالثًا بالحب الذي هو قوام عيش الإنسان في أكثر الأقاليم. وهو البر، والشعير وكل ما له سنبل وأوراق متشعبة على ساقه. ووصفه بقوله: ﴿ذُو الْعَصْفِ﴾ تنبيهًا على إنعامه عليهم بما يقوتهم من الحب، ويوقت بهائهم من ورقه الذي هو التبن. وبدأ بالفاكهة، وختم بالمشموم، وبينهما النخل والحب ليحصل ما به يتفكه، وما به يتقوت، وما به تقع اللذاذة من الرائحة الطيبة. وذكر النخل باسمها، والفاكهة دون شجرها لعظم المنفعة بالنخل من جهات متعددة، وشجرة الفاكهة بالنسبة إلى ثمرتها حقيرة، فنص على ما يعظم به الانتفاع من شجرة النخل، ومن الفاكهة دون شجرتها، انتهى.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (١٢)﴾ برفع الثلاثة عطفًا على المرفوع قبله. وقرأ ابن عامر، وأبو حيوة، وابن أبي عبلة بنصب الثلاثة؛ أي:
(٢) البحر المحيط.
(٣) البحر المحيط.
والمعنى: والحبّ ذو العصف الذي هو علف البهائم، والريحان الذي هو مطعم الناس. ويبعد دخول المشموم في قراءة الجر.
١٣ - ولما عدد تعالى نعمه خاطب الثقلين بقوله: ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (١٣)﴾؛ أي: إن نعمه كثيرة لا تحصى، فبأيها تكذبان أيها الثقلان. وكان هذا الخطاب للثقلين؛ لأنهما داخلان في الأنام على أصح الأقوال، ثم خصص بهذا الخطاب من يعقل. ولقوله: ﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ﴾، ﴿خَلَقَ الْجَانَّ﴾. ويدل عليه قوله فيما سيأتي. ﴿سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (٣١)﴾ وهذا ما عليه جمهور المفسرين. وقيل: الخطاب للإنس، وثناه على قاعدة العرب في خطاب الواحد بلفظ التثنية، كما في قوله: ﴿أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ﴾ كما مر.
والآلاء: جمع إلى، وألى مثل معى وعصى. قال في "بحر العلوم": الآلاء: النعم الظاهرة والباطنة الواصلة إلى الفريقين. وبهذا يظهر فساد ما قيل: من أن الآلاء هي النعم الظاهرة، والنعماء هي النعم الباطنة. والصواب أنهما من الألفاظ المترادفة، كالأسود والليوث، والفلك والسفن. ومعنى تكذيبهم بالآلاء كفرهم بها. والتعبير عن الكفر بالتكذيب لما أن دلالة الآلاء المذكورة على وجوب الإيمان والشكر شهادة منها بذلك، فكفرهم بها تكذيب بها لا محالة. والفاء فيه للإفصاح؛ أي: فإذا كان الأمر كما فصل فبأي فرد من أفراد نعم ربكما، ومالككما، ومربيكما بتلك الآلاء أيها الجن، والإنس تنكران أنها ليست من الله، مع أن كلًّا منها ناطق بالحق، شاهد بالصدق، أفبتلك النعم المذكورة هنا أم بغيرها. والاستفهام للتقرير؛ أي: للحمل على الإقرار بتلك النعم، ووجوب الشكر عليها. وتكرار هذه الآية في هذه السورة لطرد الغفلة، وتأكيد الحجة، وتذكير النعمة، وتقرير الكرامة من قولهم: كم نعمة كانت لكم، كم وكم، وكقولك لرجل أحسنت إليه بأنواع الأيادي، وهو ينكرها، ألم تكن نقيرًا فأغنيتك أفتنكر هذا، ألم تكن عريانًا فكسوتك أفتنكر هذا، ألم تكن خاملًا فعززتك، أفتنكر هذا؟ وهذا أسلوب كثير الاستعمال في كلام العرب. فكأنه تعالى قال: ألم أخلق الإنسان، وأعلمه البيان، وأجعل الشمس
عَلَى أنْ لَيْسَ عَدْلًا مِنْ كُلَيْبٍ | إِذَا مَاضِيْمَ جِيْرَانُ الْمُجِيْرِ |
عَلَى أَنْ لَيْسَ عَدْلًا مِنْ كُلَيْبٍ | إِذَا خَرَجَتْ مُخَبَّأَةُ الْخُدُوْرِ |
عَلَى أنْ لَيْسَ عَدْلًا مِنْ كُلَيْبٍ | إِذَا خِيْفَ الْمَخُوْفُ مِنَ الْثُغُوْرِ |
عَلَى أنْ لَيْسَ عَدْلًا مِنْ كُلَيْبٍ | إِذَا مَا خَارَ جَأْشُ الْمُسْتَجِيْرِ |
والمعنى (١): أي فبأي النعم المتقدمة يا معشر الثقلين من الجن والإنس تكذّبان، وتنكران. والمراد من تكذيب آلائه: كفرهم بربهم؛ لأنَّ إشراكهم آلهتهم به تعالى في العبادة دليل عى كفرانهم بها. إِذ من حق النعم أن تشكر. والشكر إنما يكون بعبادة من أسداها إليهم، والتعبير بالرب للإشارة إلى أنها نعم صادرة من المالك المربي لهما الذي ينميهما أجسامًا وعقولًا، فهو الحقيق بالحمد والشكر على ما أولى وأنعم، والعبادة له دون سواه. وقال في "برهان القرآن": تكررت (٢) هذه الآية إحدى وثلاثين مرة، ثمان منها ذكرها عقيب آيات فيها تعداد عجائب خلق الله، وبدائع صنعه، ومبدأ الخلق، ومعادهم، ثم سبع منها عقيب آيات فيها ذكر النار، وشدائدها على عدد أبواب جهنم. وحسن ذكر الآلاء عقيها؛ لأن في خوفها ودفعها نعمًا توازي النعم المذكورة؛ أو لأنها حلت بالأعداء، وذلك يعد من أكبر النعماء. وبعد هذه السبع ثمان في وصف الجنات وأهلها على عدد أبواب الجنة، وثمان أخرى بعدها للجنتين اللتين دونهما. فمن اعتقد الثاني الأولى، وعمل بموجبها استحق كلتا الثمانيتين من الله تعالى، ووقاه الله تعالى السبع السابقة.
يقول الفقير: من لطائف أسرار هذا المقام: أن لفظ أل في أول اسم الرحمن المعنون به هذه السورة الجليلة دل على تلك الإحدى والثلاثين، انتهى. قال
(٢) روح البيان.
ويسن لسامع القارىء لهذه السورة أن يجيبه كلما قرأ هذه الآية (١). وهي مكررة في أحد وثلاثين موضعًا بأن يقول: ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب، فلك الحمد؛ لأن رسول الله - ﷺ - أقر الجن على ذلك الجواب فيما روي عن جابر رضي الله عنه: أنه قال: قرأ علينا رسول الله - ﷺ - سورة الرحمن حتى ختمها، قال: "ما لي أراكم سكوتًا، لَلجن كانوا أحسن منكم ردًّا ما قرأت عليهم هذه الآية مرة ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (١٣)﴾ إلَّا قالوا ولا شيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد". أخرجه الترمذي، وقال: حديث غريب.
١٤ - ولما ذكر سبحانه خلق العالم الكبير وهو السماء والأرض وما فيهما ذكر العالم الصغير، فقال: ﴿خَلَقَ﴾ الله سبحانه وتعالى ﴿الْإِنْسَانَ﴾؛ أي: آدم. فالمراد بالإنسان هنا: آدم. قال القرطبي باتفاق من أهل التأويل: ولا يبعد أن يراد (٢) الجنس لأن بني آدم مخلوقون في ضمن خلق أبيهم آدم. ﴿مِنْ صَلْصَالٍ﴾ أي: من طين يابس له صلصلة؛ أي: صوت إذا نقر لشدة يبسه. وقيل: هو طين خلط برمل. وقيل: هو الطين المنتن. ﴿كَالْفَخَّارِ﴾؛ أي: شبيه بالخزف الذي طبخ بالنار في صوته إذا نقر، كأنه (٣) صور بصورة من يكثر التفاخر، أو لأنه أجوف. وقد خلق الله آدم عليه السلام من تراب جعله طينًا، ثم حمأً مسنونًا، ثم صلصالًا، ثم صب عليه ماء الأحزان، فلا ترى ابن آدم إلا ويكابد حزنًا.
والمعنى: أنه خلق الإنسان من طين يشبه في يبسه الخزف.
فإن قلت (٤): كيف قال ذلك هنا، وقال في الحجر: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٦)﴾؛ أي: من طين أسود متغير، وقال في الصافات: ﴿مِنْ طِينٍ لَازِبٍ﴾؛ أي: لازم يلصق باليد، وقال في آل عمران: ﴿كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ﴾؟
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
(٤) متشابه القرآن.
إيضاح هذا (١): أن الطين المطبوخ مركب من الطين والحرارة التي أنضجته وسوته لتخفظ كيانه، وهكذا الإنسان، له شهوة الطعام والشراب والتزاوج، لتبقى بنيته، وتدوم حياته بالمادة الأرضية التي اجتذبها النبات من الأرض، وله قوة غضبية تورثه الشجاعة والقوة؛ ليحافظ على بقائه وحياته، ويمنع عن نفسه عاديات الكواسر، ومهاجمات الجيوش، والأعداء المحيطة به من كل جانب. وهذه القوة في الإنسان تقابل طبخ الطعام ليصير فخارًا، فتتماسك أجزاوه، ولولاها لما استطاع المحافظة علي هيكله المنصوب، وجسمه المحبوب من الكواسر، وأهل القسوة من بني الإنسان. ولأصبح قتيلًا في الفلوات تأكله الطير، أو تهوي بأجزائه الريح في مكان سحيق. كما أن الطين إذا لم يطبخ يتفتت، وتذروه الرياح، أو يذوب في أجزاء الأرض.
١٥ - ﴿وَخَلَقَ﴾ سبحانه ﴿الْجَانَّ﴾؛ أي: الجن أو أبا الجن أو إبليس، وبه قال الضحاك. وفي "الكشف": الجان: أبو الجن، كما أن الإنسان أبو الإنس، وإبليس أبو الشياطين. ﴿مِنْ مَارِجٍ﴾؛ أي: من لهب صاف من الدخان. وقال مجاهد: المارج: هو المختلط بعضه ببعض من اللهب الأحمر، والأصفر والأخضر الذي يعلو النار إذا وقدت من مرج أمر القوم إذا اختلط واضطرب. فمعنى ﴿مِنْ مَارِجٍ﴾ من لهب مختلط. ﴿مِنْ نَارٍ﴾ بيان لـ ﴿مَارِجٍ﴾. كأنه قيل: من صاف من نار، أو مختلط من نار. وفي "كشف الأسرار": خلق الجن من مارج من نار، والملائكة من نورها، والشياطين من دخانها.
أي (٢): وخلق الجن من النار الصافية المختلط بعضها ببعض، فمن لهب أصفر إلى أحمر إلى مثوب بالخضرة. فكما أن الإنسان من عناصر مختلفات
(٢) المراغي.
١٦ - ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (١٦)﴾ أيها الثقلان أَمِمَّا أفاض عليكما في تضاعيف خلقكما من سوابغ النعم حتى صيركما أفضل المركبات، وخلاصة الكائنات، أم من غيره تكذبان، فإنه أنعم عليكما في تضاعيف خلقكما من ذلك بنعم لا تحصى.
١٧ - ﴿رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (١٧)﴾ قرأ الجمهور (١) ﴿رَبُّ﴾ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: الذي فعل ما ذكر من الأفاعيل البديعة رب مشرقي الصيف والشتاء، ومغربيهما، ومن قضيته ان يكون رب ما بينهما من الموجودات قاطبة. يعني: أن ذكر غاية ارتفاعهما، وغاية انحطاطهما إشارة إلى أن الطرفين يتناولان ما بينهما، كما إذا قلت في وصف ملك عظيم الملك: له المشرق والمغرب، فإنه يفهم منه أن له ما بينهما أيضًا. وقيل: مبتدأ، خبره ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ﴾، وما بينهما اعتراض. والأول أولى. وقرأ أبو حيوة، وابن أبي عبلة بالخفض بدلًا من ﴿رَبِّكُمَا﴾. قال في "كشف الأسرار": أحد المشرقين هو الذي تطلع منه الثمس في أطول يوم من السنة، والثاني الذي تطلع منه في أقصر يوم، وبينهما مئة وثمانون مشرقًا، وكذا الكلام في المغربين. وقيل: أحد المشرقين للشمس، والثاني للقمر.
فإن قلت (٢): لِمَ كرر ذكر الرب هنا دون سورتي المعارج والمزمل؟
قلت: كرره هنا تأكيدًا. وخص ما هنا بالتأكيد لأنه موضع الامتنان، وتعديد النعم، ولأن الخطاب فيه من جنسين، هما الإنس والجن، بخلاف ذينك.
والمعنى (٣): أي هو سبحانه رب مشرقي الصيف والشتاء، ومغربيهما اللذين يترتب عليهما تقلب الفصول الأربعة، وتقلب الهواء، وتنوعه، وما يلي ذلك من الأمطار، والشجر، والنبات، والأنهار الجاريات،
١٨ - فبأي نعمة من هذه النعم تكذبان أيها الثقلان، أفتنكران الأمطار وفوائدها؟ أم تكران ما لاختلاف الفصول من منافع
(٢) متشابه القرآن.
(٣) المراغي.
١٩ - ولما ذكر نعمه التي تترى على عباده في البر أعقبها بنعمه عليهم في البحر، فقال: ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ﴾؛ أي: أرسلهما من منبعهما، من مرجت الدابة إذا أرسلتها، وخليتها للرعي.
والمعنى: والله سبحانه أرسل البحر الملح، والبحر العذب ﴿يَلْتَقِيَانِ﴾ حال من البحرين، قريبة من الحال المقدرة؛ أي (١) حال كونهما يتجاوران، ويتماس سطوحهما، لا فصل بينهما في مرأى العين. وذلك كدجلة تدخل البحر، فتشقه، فتجري في خلاله فراسخ لا يتغير طعمها. وقيل: أرسل بحر فارس والروم يلتيقان في المحيط؛ لأنهما خليجان يتشعبان منه. قال سعدي المفتي: وعلى هذا فقوله: ﴿يَلْتَقِيَانِ﴾ إما حال مقدرة إن كان المراد: إرسالهما إلى المحيط، أو المعنى: اتحاد أصليهما إن كان المراد: إرسالهما منه. فلكل وجه. وقال ابن جريج: هما البحر المالح، والأنهار العذبة. وقيل: بحر المشرق والمغرب. وقيل: بحر اللؤلؤ والمرجان. وقيل: بحر الأرض، وبحر السماء. قال سعيد بن جبير: يلتقيان في كل عام. وقيل: يلتقي طرفاهما.
والمعنى (٢): أنه أرسل كل واحد منهما يلتقيان؛ أي: يتجاوران، لا فصل بينهما في رأي العين، ومع ذلك فلم يختلطا،
٢٠ - ولهذا قال: ﴿بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ﴾؛ أي: حاجز من قدرة الله أو من الأرض يحجز بينهما. والجملة الاسمية يجوز أن تكون مستأنفة أو حالًا. ﴿لَا يَبْغِيَانِ﴾؛ أي: لا يبغي أحدهما على الآخر بالممازجة، وإبطال الخاصية مع أن شأنهما الاختلاط على الفور، بل يبقيان على حالهما زمانًا يسيرًا مع أن شأنهما الاختلاط، وانفعال كل واحد منهما عن الآخر على الفور، أو لا يتجاوزان حديهما بإغراق ما بينهما من الأرض لتكون الأرض بارزة يتخذها أهلها مسكنًا ومهادًا. فقوله: ﴿لَا يَبْغِيَانِ﴾ إما من الابتغاء، وهو الطلب؛ أي: لا يطلبان غير ما قدر لهما، أو من البغي، وهو مجاوزة كل واحد منهما ما حد له.
(٢) الشوكاني.
٢١ - ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٢١)﴾؛ أي: فبأيّ هذه المنافع تكذبان إذ لو بغى الملح على العذب لم نجد ماء للشرب، ولا لسقي الحيوان والنبات، ولم نجد ما نقتات به، فنهلك جوعًا. ولو بغى العذب على الملح.. لم نجد ما يصلح الهواء ويمنع عاديات الجراثيم التي فيه. وليس من البحرين شيء يقبل الكذيب لما فيه من الفوائد والعبر، هذا وهما جمادان لا نطق لهما، ولا إدراك، فكيف يبغي بعضكم على بعض أيها العقلاء!.
وقال الخطيب: ومعنى ﴿لَا يَبْغِيَانِ﴾؛ أي: لا يتجاوز كل واحد منهما ما حده له خالقه، لا في الظاهر ولا في الباطن، حتى إن العذب الداخل في الملح باق على حاله لم يمتزج بالملح. فمتى حفرت في جنب الملح في بعض الأماكن.. وجدت الماء العذب. قال البقاعي: بل كلما قربت الحفرة من الملح كان الماء الخارج منها أحلى. فخلطهما الله تعالى في رأي العين، وحجز بينهما في غيب القدرة، اهـ.
٢٢ - ﴿يَخْرُجُ مِنْهُمَا﴾؛ أي: من البحرين ﴿اللُّؤْلُؤُ﴾؛ أي: الدر المخلوق في الأصداف. ﴿وَالْمَرْجَانُ﴾؛ أي: الخرز الأحمر المشهور. وقيل: اللؤلؤ كبار الدر، والمرجان صغاره.
واعلم (٢): أنه إن أريد بالبحرين هنا بحر فارس، وبحر الروم، فلا حاجة في قوله: ﴿مِنْهُمَا﴾ إلى التأويل. إذ اللؤلؤ والمرجان بمعنييه يخرجان منهما. لأن كلا منهما ملح، ولا عذب في البحار السبعة إلا على قول من قال في الآية: يخرج من
(٢) روح البيان.
وقرأ الجمهور (١): ﴿يَخْرُجُ﴾ مبيًا للفاعل. ونافع، وأبو عمرو، وأهل المدينة مبنيًا للمفعول. والجعفي عن أبي عمرو بالياء مضمومة، وكسر الراء؛ أي: يخرج الله. وعنه، وعن أبي عمرو، وعن ابن مقسم ﴿نخرج﴾ بالنون واللؤلؤ والمرجان نصب في هاتين القراءتين. وقرأ طلحة ﴿اللُّؤْلِؤُ﴾ بكسر اللام الثالثة. وهي لغة. وعبد الولي بقلب الهمزة المتطرفة ياء ساكنة بعد كسرة ما قبلها. وهي لغة، قاله أبو الفضل الرازي.
وقد ثبت في الكشف (٢): أن اللؤلؤ كما يستخرج من البحر الملح يستخرج من البحر العذب، وكذلك المرجان، وإن كان الغالب أنه لا يستخرج إلا من الماء الملح.
٢٣ - ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٢٣)﴾؛ أي: فبأيّ هذه النعم تكذبان. فإن في ذلك من الآيات ما لا يستطيع أحد تكذيبه، ولا يقدر على إنكاره؛ أي: أبكثرة النعم من خلق المنانع في البحر، وإخراج الحلي العجيبة أم بغيرها.
٢٤ - ﴿وَلَهُ﴾ سبحانه السفن ﴿الْجَوَارِ﴾ في البحر. وهذه (٣) اللام لها معنيان:
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
لَهَا ثَنَايَا أَرْبعٌ حِسَانُ | وَأَرْبعٌ فَكُلُّهَا ثَمَانُ |
وقرأ الجمهور: ﴿الْجَوَارِ﴾ بكسر الراء، وحذف الياء لالتقاء الساكنين. وقرأ ابن مسعود، والحسن، وأبو عمر في رواية عنه برفع الراء تناسيًا للحذف. وقرأ يعقوب بإثبات الياء.
﴿الْمُنْشَآتُ﴾ قرأ الجمهور (٣) بفتح الشين اسم مفعول بمعنى المحدثات؛ أي: أنشأها الله تعالى، وأحدثها أو الناس أو المرفوعات الشرع؛ أي: القلع على أنه من أنشأه إذا رفعه. والشرع بضمتين: جمع شراع، نظير كتب وكتاب؛ أي: المرفوعات التي رفع بعض خشبها على بعض، وركب حتى ارتفعت وطالت، حتى صارت في
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
والمعنى: وله الجواري المنشئات؛ أي: المصنوعات ﴿فِي الْبَحْر﴾ حالة كونها ﴿كَالْأَعْلَامِ﴾ جمع علم. وهو الجبل الطويل؛ أي: كالجبال الشاهقة عظمًا وارتفاعًا، وهو حال من ضمير ﴿الْمُنْشَآتُ﴾. والسفن في البحر كالجبال في البر، كما أن الإبل في البر كالسفن في البحر.
والمعنى: أي وله تعالى السفن الكبار التي رفعت شرعها في الهواء كالجبال الشاهقة تجري في البحر بما ينفع الناس، فتنقل المتاجر من بلد إلى آخر، والأقوات من إقليم هي كثيرة فيه إلى آخر هو محروم منها. وبذا يتم تبادل السلع، وسد حاجات الأمم في أقواتها ومشاربها.
٢٥ - ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٢٥)﴾ أي: (١) فبأيّ هذه النعم تكذّبان أبخلق مواد السفن، أم بكيفية تركيبها، أم بإجرائها في البحر يابسات بأسباب لا يقدر عليها غيره سبحانه لقطع المسافات الكثيرة في الأوقات القليلة.
أي: عبادي هل ظننتم أن مجرد الإيمان كاف لكم في شكر هذه النعم؟ فهل خلقت الشمس والقمر، والنجم، والشجر، والزرع، والحب، والأنهار، والبحار، والدر، والمرجان لقوم لا يعقلون أم خلقتها لقوم يقبلون مني النعمة، وكيف يقبلونها دون أن يعرفوها.
٢٦ - ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا﴾؛ أي: على الأرض من الحيوانات والمركبات. فعبر (٢) بمن تغليبًا للعقلاء أو من الإنس والجن. والضمير عائد على الأرض في قوله: ﴿وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (١٠)﴾ وإن بعد. ﴿فَانٍ﴾؛ أي: هالك لا محالة. والفناء عبارة عن
(٢) روح البيان.
ولما نزلت هذه الآية قالت الملائكة: هلك بنو آدم، فلما نزلت: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ أيقنوا بهلاك أنفسهم. فإن لهم أجسامًا لطيفة، وأرواحًا متعلقة بتلك الأجسام كأرواح الإنسان. وأما الأرواح المجردة المهيمنة العالية فلا تفنى.
٢٧ - ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ﴾؛ أي: ذات ربك يا محمد أو أيها المخاطب. والوجه هنا بمعنى الذات، نظير قولهم: كرم الله وجهه؛ أي: ذاته. فالوجه عبارة عن العضو المعروف، استعير للذات؛ لأنه أشرف الأعضاء، ومجمع المشاعر، وموضع السجود، ومظهر آثار الخشوع.
قال القاضي: ولو استقريت جهات الموجودات، وتفحصت وجوهها وجدتها بأسرها فانية في حد ذاتها، إلا وجه الله الذي يلي جهته، انتهى، أي: يلي مقصده، ويحتمل (١) أن يكون الوجه بمعنى القصد؛ أي: ويبقى كل ما يقصد، وينوى به الله سبحانه، وأن يكون بمعنى الجهة؛ أي: كل من عليها من الثقلين، وما اكتسبوه من الأعمال هالك منعدم إلا ما توجهوا به جهة الله، وعملوه ابتغاء لمرضاته.
وقوله: ﴿ذُو الْجَلَالِ﴾؛ أي: ذو الاصتغناء المطلق أو ذو العظمة في ذاته وصفاته. ومعناه: الذي يجله الموحدون عن التشبيه بخلقه. ﴿وَ﴾ ذو ﴿الْإِكْرَامِ﴾؛ أي: ذو الفضل التام، والطول العام، ومعناه: المكرم لأنبيائه وأوليائه وجميع خلقه بلطفه وإحسانه إليهم مع جلاله وعظمته، اهـ من "الخازن". صفة لوجه. وقرأ الجمهور ﴿ذُو﴾ بالواو صفة للوجه. وقرأ أبي، وعبد الله ﴿ذي﴾ بالياء صفة للرب. والظاهر: أن الخطاب في قوله: ﴿وَجْهُ رَبِّكَ﴾ للرسول - ﷺ -. وفيه تشريف عظيم له - ﷺ -. وقيل: الخطاب لكل سامع. ومعنى ﴿ذُو الْجَلَالِ﴾ الذي يجله الموحدون عن التشبيه بخلقه، وعن أفعالهم، أو الذي يتعجب من جلاله، أو الذي عنده الجلال والإكرام للمخلصين من عباده. قال الطيبي: كيف (٢) أفرد الضمير في قوله: ﴿وَجْهُ رَبِّكَ﴾، وثناه في ﴿رَبِّكُمَا﴾ والمخاطب واحد؟
قلت: اقتضى الأول تعميم الخطاب لكل من يصلح للخطاب لعظم الأمر وفخامته، فيندرج فيه الثقلان اندراجًا أوليًا، ولا كذلك الثاني، فتركه على ظاهره.
(٢) روح البيان.
ثم وصف سبحانه نفسه بالاستغناء الحطلق، والفضل العام، وأنه ذو الجود والكبرياء، يعطي خلقه من النعم والإكرام ما يليق بحالهم، ولا يحجب فضله عن مخلوق خلقه، انظر إلى (٢) هذه النجوم الثواقب في ظلمات الليل تراها مشرقة ساطعة تتلألأ نورًا تشرح له الصدور، وتقر به العيون، فتتجلى لك عظمة الخالق وكبرياؤه، تموت الأحياء وتلك النجوم باقية، والأرض لم تتغير على ما نشاهد، وهذا مظهر الجلال والعظمة، جمال في النجوم، بهجة في الإشراق، مناظر باهرة، أنوار ساطعة، أجسام عظيمة، أحوال تتقلب، وأهوال تتعاقب، والناس من بينها يخرون صعقين. فهذا لعمرك هو الجلال والعظمة، فسبحان الخلاق العظيم!.
٢٨ - ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٢٨)﴾؛ أي: فبأيّ هذه النعم تكذّبان، فالفناء باب للبقاء، وللحياة الأبدية، والنعم السرمدية، ولولا تحليل أجسامنا بالموت لتعطلت الحياة؛ إذ المادة الأرضية إذا بقيت على حال واحدة كانت قواها محدودة، لكن انبعاث الصور الكثيرة، وتعاقبها جيلًا بعد جيل يلبس المادة جميع الصور والأشكال، ويجعل العالم في تجدد مستمر، وقال مقاتل: وجه النعمة في فناء الخلق التسوية بينهم في الموت، ومع الموت تستوي الأقدام. انظر إلى بني الإنسان مثلًا إذ توالدوا جيلًا بعد جيل، ولم يمت منهم أحد فلا تمضي إلا أجيال معدودة، حتى يكون على القدم ألف قدم، وتمتلىء الأرض بالآدميين، فلا يكفيهم حيوان أرضي ولا نبات مأكول، ولا يجدون وسيلة للعيش، إلا أن يأكل بعضهم بعضًا، وتمتلىء الأرض رممًا آدمية من السغب والمخمصة.
(٢) المراغي.
٢٩ - ولما كان ما ذكر يتضمن الافتقار المتجدد إليه تعالى أوضحه بقوله: ﴿يَسْأَلُهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ قاطبة من ملك وإنس وجن ما يحتاجون إليه من ذواتهم ووجوداتهم حدوثًا وبقاءً، وسائر أحوالهم سؤالًا مستمرًا بلسان المقال أو بلسان لحال، فلا يستغني أحد عنهم عنه تعالى. فإنهم من حيث حقائقهم الممكنة بمعزل عن استحقاق الوجود، وما يتفرع عليه من الكمالات بالمرة، بحيث لو انقطع ما بينهم وبين العناية الإلهية من العلائق.. لم يشموا رائحة الوجود أصلًا، فهم في كل آنٍ مستمرون على الاستدعاء والسؤال.
قال ابن عباس رضي الله عنه: فأهل السماء يسألونه لأهل الأرض المغفرة، وأهل الأرض يسألونه الرزق والمغفرة، وقيل: كل أحد يسأله الرحمة، وما يحتاج إليه في دينه أو دنياه، وفيه إشارة إلى كمال قدرته تعالى، وأن كل مخلوق وإن جل وعظم، فهو عاجز عن تحصيل ما يحتاج إليه، مفتقر إلى الله تعالى.
والحاصل: أنه يسأله كل مخلوق من مخلوقاته بلسان المقال، أو بلسان الحال ما يطلبونه من خيري الدنيا والآخرة أو من خيري إحداهما.
﴿كُلَّ يَوْمٍ﴾؛ أي: كل وقت من الأوقات (١). وهو اليوم الإلهي الذي هو الآن الغير المنقسم. ﴿هُوَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿فِي شَأْنٍ﴾ من الشؤون، وأمر من الأمور التي من جملتها إعطاء ما سألوا. فإنه تعالى لا يزال ينشىء أشخاصًا، ويفني آخرين، ويأتي بأحوال، ويذهب بأحوال من الغنى، والفقر، والعزة، والذلة، والنصب، والعزل، والصحة، والمرض، ونحو ذلك حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم والمصالح البالغة. وانتصاب ﴿كُلَّ﴾ بالاستقرار الذي تضمنه الخبر، والتقدير: استقر سبحانه في شأن كل وقت من الأوقات.
روى البغوي بإسناد الثعلبي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن مما خلق
وقال سفيان بن عيينة: الدهر عند الله سبحانه يومان:
يوم الدنيا، وشأنه فيه الاختبار بالأمر والنهي، والإحياء والإماتة، والإعطاء والمنع.
وشأن يوم القيامة الجزاء والحساب، والثواب والعقاب.
وقال الحسين بن الفضل: هو سوق المقادير إلى المواقيت، ومعناه: أنه تعالى كتب ما يكون في كل يوم، وقدر ما هو كائن، فإذا جاء ذلك الوقت تعلقت إرادته بالفعل، فيوجده في ذلك الوقت.
وعن عبد الله بن منيب قال: تلا علينا رسول الله - ﷺ - هذه الآية، فقلنا: يا رسول الله وما ذلك الشأن؟ قال: "أن يغفر ذنبًا، ويفرج كربًا، ويرفع قومًا، ويضع آخرين". أخرجه الحسن بن سفيان، والبزّار، وابن جرير، والطبراني، وأبو نعيم، وابن عساكر. وسأل عبد الله بن طاهر الحسين بن الفضل عن الجمع بين هذه الآية وما صح من قوله - ﷺ -: "جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة". فقال: شؤون يبديها، لا شؤون يبتديها.
والحاصل (١): أنّ المادّة دائمًا تلبس جديدًا، وتخلع قديمًا. فأجسامنا، وأجسام الحيوان على هذا المنوال فهما في حاجة إلى بقاء الأجسام، وتغذيتها. وإذا انحل جسم افتقر إلى شيء يعوض ما ذهب. فالتغيرات المستمرة افتقار، وهذا الافتقار مستمر في كل لحظة. وذلك يدعو إلى السؤال من الواهب المعطي، إما بالنطق، وإما بتوجه النفس، وطلبها العون والمدد والفيض من فضله.
وجماع القول: أنّ المادّة مفتقرة إلى بقاء ما يناسبها، فالنبات في كل لحظة مفتقر إلى ما يبقيه من ماء، وهواء، ومواد أخرى، والحيوان يطلب ما يحتاج إليه، والإنسان يسأل ما هو في حاجة إليه إما سؤال حال، وإما سؤال مقال في كل وقت
﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ فمن شؤونه أنه يحيى ويميت، يخلق ويرزق، يعز ويذل، يمرض ويشفي، يعطي ويمنع، يغفر ويعاقب، يرحم ويغضب إلى نحو أولئك. ومن شؤونه إعطاء أهل السموات والأرض ما يطلبون منه على اختلاف حاجاتهم، وتباين أغراضهم.
٣٠ - ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٣٠)﴾ مع مشاهدتكم لما ذكر من إحسانه، أي: فبأيّ هذه النعم تكذّبان. فكم من سؤال أجبته، وكم من جديد أحدثته، وكم من ضعيف في الحياة أرحته، إما بصحة تسعده، أو بموت من سجن المادة يخرجه.
٣١ - ولما ذكر تعالى ما أنعم به من تعليم العلم، وخلق الإنسان والسماء والأرض، وما أودع فيهما، وفناء ما على الأرض ذكر ما يتعلق بأحوال الآخرة، والجزاء. فقال: ﴿سَنَفْرُغُ لَكُمْ﴾؛ أي (١): سنتجرد لحسابكم وجزائكم يوم القيامة عند انتهاء شؤون الخلق المشار إليها بقوله تعالى: ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾. فلا يبقى حينئذٍ إلا شأن واحد. وهو الجزاء. فعبر عنه بالفراغ لهم على المجاز المرسل. فإن الفراغ يلزمه التجرد، وإلا فليس المراد الفراغ من الشغل؛ لأنه تعالى لا يشغله شأن عن شأن. وقيل: هو مستعار من قول المهدد لصاجه سأفرغ لك؛ أي: سأتجرد للإيقاع بك من كل ما يشغلني عنه. والمراد: التهيؤ للنكاية فيه، والانتقام منه، وعلى هذا فالخطاب للمجرمين منهما، بخلافه على الأول.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿سَنَفْرُغُ﴾ بنون العظمة، وضمّ الراء، من فرغ بفتح الراء. وهي لغة الحجاز. وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو حيوة، وزيد بن عليّ بالتحتية مفتوحة مع ضمّ الراء؛ أي: ﴿سيفرُغ﴾ الله تعالى لكم. وقرأ قتادة، والأعرج بالنون وفتح الراء، مضارع فرغ بكسرها. وهي لغة تميمية، وقرأ عيسى الثقفي، وأبو السمال بكسر النون وفتح الراء، قال أبو حاتم: وهي سفلى مضر. وقرأ الأعمش، وأبو حيوة بخلاف عنهما، وابن أبي عبلة، والزعفراني وإبراهيم بضم الياء وفتح الراء مبنيًا للمفعول. وقرأ عيسى أيضًا بفتح النون وكسر الراء، والأعرج أيضًا بفتح الياء، وفتح الراء، وهي رواية يونس، والجعفي وعبد الوارث عن أبي عمرو.
(٢) البحر المحيط.
وجمع في قوله (٢): ﴿لَكُمْ﴾، ثم قال: ﴿أَيُّهَ الثَّقَلَانِ﴾؛ لأنهما فريقان. وكل فريق جمع. وقرأ الجمهور ﴿أَيُّهَ الثَّقَلَانِ﴾ بفتح الهاء. وقرأ أهل الشام بضمها.
٣٢ - ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ التي من جملتها التنبيه على ما سيلقونه يوم القيامة للتحذير عما يؤدي إلى سوء الحساب ﴿تُكَذِّبَانِ﴾ بأقوالكما، وأفعالكما. قال في "كشف الأسرار": اعلم: أن بعض هذه السورة ذكر فيه الشدائد والعذاب والنار، والنعمة فيها من وجهين:
أحدهما: في صرفه عن المؤمنين إلى الكفار. وتلك نعمة عظيمة تقتضي شكرًا عظيمًا.
والثاني: أن في التخويف منها، والتنبيه عليها نعمة عظيمة. لأن اجتهاد الإنسان رهبة مما يؤلمه أكثر من اجتهاده رغبة فيما ينعمه.
والمعنى (٣): أي سنقصد لحسابكم، ومجازاتكم على أعمالكم، وهذا وعيد شديد، وتهديد من الله لعباده. كما يقول القائل لمن يهدده: إذًا أتفرغ لك؛ أي: أقصد قصدك، والفراغ هنا بحعنى القصد للشيء، لا بمعنى الفراغ منه؛ إذ معنى الفراغ من الشيء بذل الحجهود فيه. وهذا لا يقال في حقه تعالى، هذا وإن شأن
(٢) الشوكاني.
(٣) المراغي.
٣٣ - ثم ذكر أنه لا مهرب في هذا اليوم من جزاء كل عامل على عمله، فقال: ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ﴾؛ أي: يا جماعة الإنس والجنّ. وهذا (١) كالترجمة لقوله: ﴿أَيُّهَ الثَّقَلَانِ﴾ خوطبا باسم جنسهما لزيادة التقرير؛ ولأنّ الجن مشهورون بالقدرة على الأفاعيل الشاقة. فخوطبوا بما ينبىء عن ذلك؛ لبيان أن قدرتهم لا تفي لما كلفوه. والمعشر: الجماعة العظيمة، كما سيأتي في مبحث اللغة. وقدم الجن على الإنس في هذه الآية لتقدم خلقه. لأن أباهم الجان خلق قبل آدم. وقدم الإنس على الجن في قوله: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ﴾ لفضله. فإن التقديم يقتضي الأفضلية.
قال ابن الشيخ: لما بين الله تعالى أنه سيجيء وقت يتجرد فيه لمحاسبتهم ومجازاتهم، وهددهم بما يدل على شدة اهتمامه بها، كان مظنة أن يقال: فلم ذلك مع ما له من كمال الاهتمام به؟ فأشار إلى جوابه بما محصوله: هم جميعًا في قبضة قدرته وتصرفه، لا يفوته منهم أحد، فلم يتحقق باعث يبعثه على الاستعجال؛ لأن ما يبعث المستعجل إنما هو خوف الفوات، وحيث لم يخف ذلك قسم الدهر كله إلى قسمين. أحدهما: مدة أيام الدنيا، والآخر: يوم القيامة. وجعل المدة الأولى أيام التكليف والابتلاء، والمدة الثانية للحساب والجزاء. وجعل كل واحدة من الدارين محل الرزايا، والمصائب، ومنبع البلايا، والنوائب. ولم يجعل لواحد من الثقلين سبيلًا للفرار منهما، والهرب مما قضاه فيهما. فقوله: ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ﴾ متعلق بقوله: ﴿سَنَفْرُغُ لَكُمْ﴾، فكانا بمنزلة كلام واحد.
﴿إِنِ اسْتَطَعْتُمْ﴾ لم يقل (٢): إن استطعتما بلفظ التثنية؛ لأن كل واحد منهما فريق، كقوله: ﴿فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ﴾؛ أي: كل فريق منهم يختصم فجمع الضمير هنا نظرًا إلى معنى الثقلين، وثناه في قوله: ﴿يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا﴾ كما سيأتي نظرًا
(٢) روح البيان.
والمعنى (١): إن استطعتم أن تهربوا من الموت بالخروج من أقطار السموات والأرض فاهربوا، واخرجوا منها، فحيثما كنتم يدرككم الموت. وقيل: يقال لهم: هذا يوم القيامة.
والمعنى: إن استطعتم أن تخرجوا من أقطار السموات والأرض فتعجزوا ربكم حتى لا يقدر عليكم فاخرجوا. وقيل: معناه: إن استطعتم أن تهربوا من قضائي، وتخرجوا من ملكي، ومن سمائي وأرضي فافعلوا.
ثم قال تعالى: ﴿لَا تَنْفُذُونَ﴾؛ أي: لا تقدرون على النفوذ والخروج ﴿إِلَّا بِسُلْطَانٍ﴾؛ أي: إلا بقوّة، وقهر، وغلبة. وأنى لكم ذلك؟ لأنكم حيثما توجهتم كنتم في ملكي وسلطاني، وأنتم من ذلك بمعزل بعيد.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: معناه: إن استطعتم ان تعلموا ما في السموات والأرض فاعلموا، ولن تعلموه إلا بسلطان؛ أي: إلا ببينة من الله تعالى نصبها، فتعرجون عليها أفكاركم، روي: أن الملائكة تنزل، فتحيط بجميع الخلائق، فيهرب الإنس والجن، فلا يأتون وجهًا إلا وجدوا الملائكة أحاطت به، فتقول لهم الملائكة ذلك، فكما لا يقدر أحد على الفرار يوم القيامة، كذلك لا يقدر في الدنيا، فيدركه الموت والقضاء لا محالة.
٣٤ - ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ التي من جملتها هذه النعمة الحاصلة بالتحذير والتهديد. فإنها تزيد المحسن إحسانًا، وتكف المسيء عن إساءته. والمساهلة والعفو مع كمال الفدرة على العقوبة. ﴿تُكَذِّبَانِ﴾ وتنكران، وقرأ الجمهور ﴿إِنِ اسْتَطَعْتُمْ﴾ على خطاب الجماعة. لأنّ كلًّا من الفريقين تحته أفراد كثيرة، كقوله: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا﴾. وقرأ زيد بن علي ﴿إن استطعتما﴾ على خطاب تثنية الثقلين، ومراعاة
والخلاصة (١): أي إن قدرتم أن تخرجوا من جوانب السموات والأرض هاربين من عقاب الله، فارين من عذابه فافعلوا، والمراد أنكم لا تسطيعون ذلك. فهو محيط بكم لا تقدرون على الخلاص منه، فأينما ذهبتم أحيط بكم. ثم بين السبب في عدم إمكان الهرب، فقال: ﴿لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ﴾؛ أي: إنّ المهرب إنما يكون بالقوة والقهر، وأنى لكم بهما، وممن تستمدونهما، وأنتم لا تجدون إذ ذاك حولًا ولا طولًا. فبأيّ نعم ربكما التي من جملتها التحذير، والتهديد تكذّبان مع أن من حذركم، وأنذركم قادر على الإيقاع بكم دون مهلة، والعفو عن المذنب مع كمال القدرة عليه من أجل النعم التي يسديها الله تعالى إلى عباده.
٣٥ - ثم بين السبب في طلب المهرب فقال: ﴿يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا﴾ أيها الثقلان ﴿شُوَاظٌ﴾؛ أي: لهب خالص لا دخان فيه. وقيل: هو اللهب الأخضر المنقطع من النار ﴿مِنْ نَارٍ﴾ صفة لشواظ ﴿وَنُحَاسٌ﴾؛ أي: دخان لا لهب معه أو صفر مذاب يصب على رؤوسهم، يسوقانكما إلى المحشر. ﴿فَلَا تَنْتَصِرَانِ﴾؛ أي: لا تمتنعان من ذلك العذاب؛ أي: لا تقدران على الامتناع من عذاب الله تعالى.
والمعنى: أي يُصب عليكما ألوان من النيران، فمن لهب خالص يضيء كضوء السراج إلى نار مختلطة بالدخان، فلا تستطيعان المهرب منها، بل يسوقكم إلى المحشر سوقا.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿يُرْسَلُ﴾ بالتحتية، مبنيًا للمفعول. وقرأ زيد بن عليّ ﴿نُرْسل﴾ بالنون مبنيًا للفاعل، ﴿عَلَيْكُمَا شُواظًا﴾ بالنصب من نار، و ﴿نحاسا﴾ بالنصب عطفًا على ﴿شواظًا﴾. وقرأ الجمهور ﴿شُوَاظٌ﴾ بضم الشين. وقرأ عيسى، وابن كثير وشبل بكسرها. وقرأ الجمهور ﴿وَنُحَاسٌ﴾ بالرفع عطفًا على شواظ، وقرأ ابن أبي إسحاق، والنخعيّ، وابن كثير، وأبو عمرو بالجر عطفًا على نار. وقرأ الكلبي، وطلحة، ومجاهد بكسر نون نحاس والسين. وقرأ ابن جبير ﴿ونحس﴾ كما تقول: يوم نحس. وقرأ عبد الرحمن بن أبي بكرة، وابن أبي إسحاق أيضًا
(٢) البحر المحيط.
والنحاس (١): الصفر المذاب، يصب على رؤوسهم، قاله مجاهد، وقتادة، وغيرهما، وقال سعيد بن جبير: هو الدخان الذي لا لهب له، وبه قال الخليل، وقال الضحاك: هو درديُّ الزيت المغلي، وقال الكسائي: هو النار التي لها ريح شديدة، وقيل: هو المهل.
٣٦ - ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾؛ أي: فبأيّ هذه النعم ﴿تُكَذِّبَانِ﴾ فإن التهديد لطف. والتمييز بين المطيع والعاصي بالإنعام على الأول، والانتقام من الثاني من أجل نعم الإله القادر على جزاء عباده.
٣٧ - ﴿فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ﴾؛ أي: انصدعت يوم القيامة، وانفك بعضها من بعض لقيام الساعة أو انفرجت، فصارت أبوابًا لنزول الملائكة، كقوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (٢٥)﴾ ﴿فَكَانَتْ وَرْدَةً﴾؛ أي: صارت كوررة حمراء في اللون، وهي الزهرة المعروفة التي تشم، والغالب على الوردة الحمرة، قال الماوردي: وزعم المتقدمون أن أصل لون السماء الحمرة، وأنها لكثرة الحوائل، وبعد المسافة ترى بهذا اللون الأزرق. ﴿كَالدِّهَانِ﴾ خبر ثان لكانت، أي (٢): كدهن الزيت، فكانت في حمرة الوردة، وفي جريان الدهن؛ أي: تذوب، وتجري كذوبان الدهن وجريه، فتصير حمراء من حرارة جهنم، وتصير مثل الدهن في رقته، وذوبانه. وهو إما جمع دهن أو اسم لما يدهن به كالإدام لما يؤتدم به. وجواب إذا محذوف؛ أي: يكون من الأحوال والأهوال ما لا يحيط به دائرة المقال. قال سعدي المفتي: ناصب إذا محذوف؛ أي: كان ما كان من الأمر الهائل الذي لا يحيط به نطاق العبارة، أو رأيت أمرًا عظيمًا هائلًا. وبهذا الاعتبار تتسبب هذه الجملة عما قبلها؛ لأن إرسال الواظ يكون سببًا لحدوث الأمر الهائل أو رؤيته في ذلك الوقت.
٣٨ - ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ مع عظم شأنها؛ فإن من جملتها ما في هذا
(٢) روح البيان.
٣٩ - ﴿فَيَوْمَئِذٍ﴾؛ أي (١): يوم إذا انشقت السماء حسب ما ذكر ﴿لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ﴾ لأنهم يعرفون بسيماهم، فلا يحتاج في تمييز المذنب عن غيره إلى أن يسأل عن ذنبه إن أراد أحد أن يطلع على أحوال أهل المحشر، وذلك أول ما يخرجون من القبور، ويحشرون إلى الموقف فوجًا فوجًا على اختلاف مراتبهم. وأما قوله: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢)﴾ ونحوه في موقف المناقشة والحساب. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: لا يسألهم هل عملتم كذا، وكذا. فإنه أعلم بذلك منهم، ولكن يسألهم لم عملتم كذا، وكذا، وعنه أيضًا: لا يسألون سؤال شفاء وراحة، وإنما يسألون سؤال تقريع وتوبيخ. وضمير ﴿ذَنْبِهِ﴾ للإنس لتقدمه رتبةً. وإفراده لما أن المراد فرد من الإنس. كأنه قيل: لا يسأل عن ذنبه إنسي ولا جني. وأراد بالجان: الجن، كما يقال: تميم، ويراد ولده.
والمعنى (٢): فيوم إذ انشقت السماء لا يسأل أحد من الإنس، ولا من الجن عن ذنبه. لأنهم يعرفون عند خروجهم من قبورهم. ونحو الآية قوله: ﴿وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ﴾. والجمع بين هذه الآية، وبين نحو قوله: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢)﴾ أنَّ ما هنا يكون في موقف، والسؤال يكون في موقف آخر. لأن لأن مواقف القيامة مختلفة الأحوال والأهوال. وقرأ الحسن (٣)، وعمرو بن عبيد ﴿ولا جأن﴾ بالهمز فرارًا من التقاء الساكنين، وإن كان التقاؤهما على حده.
٤٠ - ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٤٠)﴾؛ أي: فبأيّ هذه النعم تكذّبان؛ فإن تخويف المجرم نعمة عليه، حتى يرتدع عن ذنبه، ويثوب إلى رشده، ويثوب إلى ربه.
٤١ - وجملة قوله: ﴿يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ﴾ مستأنفة، مسوقة لتعليل عدم السؤال. والسيماء: العلامة، كما سيأتي؛ أي: يعرف المشركون يومئذٍ بعلاقاتهم، وهي سواد
(٢) الشوكاني.
(٣) البحر المحيط.
﴿فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي﴾ جمع ناصية (١). وهي مقدم الرأس، والمراد هنا: شعرها، والجار والمجرور هو القائم مقام الفاعل. ﴿وَالْأَقْدَامِ﴾ جمع قدم. يقال: أخذه إذا كان المأخوذ مقصودًا بالأخذ، ومنه: قوله تعالي: ﴿خُذُوا حِذْرَكُمْ﴾، ونحوه. وأخذ به إذا كان المأخوذ شيئًا من ملابسات المقصود بالأخذ. ومنه: قوله تعالى: ﴿لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي﴾، وقول المستغيث: خذ بيدي أخذ الله بيدك.
والمعنى: تأخذ الملائكة بنواصيهم؛ أي: بشعور مقدم رؤوسهم، وأقدامهم، فيقذفونهم في النار، أو تسحبهم الملائكة إلى النار تارةً تأخذ بالنواصي، وتجرهم على وجوههم، أو يجمع بين نواصيهم وأقدامهم في سلسلة من وراء ظهورهم.
٤٢ - ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٤٢)﴾ من المواعظ والزواجر، فإن من جملتها هذا الترهيب الشديد، والوعيد البالغ الذي ترجف له القلوب، وتضطرب لهوله الأحشاء.
والمعنى (٢): أي يعرف المجرمون حينئذٍ بعلامات يمتازون بها عن سواهم، فلا حاجة حينئذٍ إلى السؤال والجواب؛ لأنَّ السيما ميزت كل مجرم بنوع جرمه، ولقد اهتدى الإنسان بعقله إلى فوائد هذه العلامات في الدنيا، فأنشأت الحكومات إدرات خاصة لعلامات المشتبه في سلوكهم، ومعتادي الإجرام فتأخذ إبهاماتهم، وتحفظها في أضابير خاصة بهم. ولكل امرىء خطوط في إبهامه، لا تشابه خطوط غيره فيه، ولا يحصل فيها التباس، فمتى أحدث أحدهم حدثًا، وجاء بجرم روجع ملفه الخاص، واستخرجت صورة إبهامه من ملفه، وطبقت على الصورة الخارجية، ولاقى في المحاكم ما يستحقه من عقاب.
والخلاصة: أنّ لكل امرىء أحوالًا تخصه في جسمه، وعقله، وأخلاقه. يعرف الناس منها الآن قليلًا، وبقية علمها عند الله تعالى، يعلمها ملائكته يوم القيامة، فيعرفون المجرمين بها.
(٢) المراغي.
٤٣ - ويقال لهم على سبيل التأنيب والتوبيخ: ﴿هَذِهِ﴾ النار التي تلقون فيها الآن ﴿جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ﴾؛ أي: جهنم التي كنتم تكذبون بها في الدنيا، فها أنتم الآن قد شاهدتموها، ورأيتموها رأي العين. فذوقوا عذابها، وهذه الجملة مستأنفة (١) واقعة في جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا يقال لهم عند الأخذ بالنواصي والأقدام؟ فقيل: يقال لهم: هذه جهنم تقريعًا لهم، وتوبيخًا.
٤٤ - وجملة قوله: ﴿يَطُوفُونَ بَيْنَهَا﴾؛ أي: بين جهنم، فتحرقهم ﴿وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ﴾ فتصب على وجوههم. حال من المجرمين أو مستأنفة؛ أي: يدورون بين النار، يحرقون بها، وبين حميم آن؛ أي: ماء بالغ من الحرراة أقصاها ونهايتها، يصب عليهم أو يسقون منه؛ أي: يطوفون من النار إلى الحميم، ومن الحميم إلى النار دهشًا وعطشًا أبدًا. والحميم: الماء الحار. والآني الذي قد انتهى حره، وبلغ غايته، من أنى يأني فهو آنٍ. مثل: تضى يقضي فهو قاض. قال أبو الليث: يسلط عليهم الجوع، فيؤتى بهم إلى الزقوم التي طلعها كرؤوس الشياطين، فأكلوا منها، فأخذت في حلوقهم، فاستغائوا بالماء، فأوتوا به من الحميم. فإذا قربوه إلى وجوههم تناثر لحم وجوههم، ويشربون، فتغلي أجوافهم، ويخرج جميع ما فيها. ثم يلقى عليهم الجوع، فمرة يذهب بهم إلى الجحيم، ومرة إلى الزقوم، وقيل: هو واد من أودية جهنم، يجمع فيه صديد أهل النار، فيغمسون فيه،
٤٥ - ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٤٥)﴾ فإنَّ من جملتها النعمة الحاصلة بهذا التخويف، وما يحصل به من الترغيب في الخير، والترهيب من الشر.
فإن قلت (٢): هذه الأمور المذكورة في هذه الآيات من قوله: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (٢٦)﴾ إلى هنا ليست نعمًا، فكيف عقبها بقوله: ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٤٢)﴾؟
(٢) الخازن.
وقرأ عليٌّ، والسلميّ (١): ﴿يطافون﴾. والأعمش، وطلحة، وابن مقسم ﴿يُطوِّفون﴾ بضم الياء، وفتح الطاء، وكسر ﴿الواو﴾ مشدّدة. وقرىء ﴿يطوفون﴾ أصله: يتطوفون. وقرأ الجمهور ﴿يَطُوفُونَ﴾ مضارع طاف الثلاثي.
الإعراب
﴿الرَّحْمَنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (٤) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (٥) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (٦) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (٧) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (٨)﴾.
﴿الرَّحْمَنُ (١)﴾ مبتدأ، وجملة ﴿عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢)﴾ خبره. وقد تعددت الأخبار في الأفعال التي وردت خالية من العاطف على نمط التعديد وإقامة الحجة على الكافرين. وهذا عند من لا يرى ﴿الرَّحْمَنُ (١)﴾ آية. ومن عدّها آية أعرب ﴿الرَّحْمَنُ (١)﴾ خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: الله الرحمن أو مبتدأ خبره محذوف؛ أي. الرحمن ربّنا. و ﴿عَلَّمَ﴾ يتعدّى إلى مفعولين، حذف أولهما لشموله؛ أي: علم من يتعلم. وهذا أولى من تخصيص المفعول الأول المحذوف بواحد معين. ﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ (٣)﴾ فعل ماض، وفاعل مستتر، ومفعول به، والجملة معطوفة بعاطف مقدر على جملة ﴿عَلَّمَ﴾، على كونها خبر المبتدأ. ﴿عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (٤)﴾ فعل، وفاعل مستتر، ومفعولان، معطوف على جملة ﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ (٣)﴾. ﴿الشَّمْسُ﴾ مبتدأ، ﴿وَالْقَمَرُ﴾ معطوف عليه، ﴿بِحُسْبَانٍ﴾ خبر المبتدأ. والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿الرَّحْمَنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢)﴾. ﴿وَالنَّجْمُ﴾ الواو: عاطفة، ﴿النَّجْمُ﴾ مبتدأ، ﴿وَالشَّجَرُ﴾ معطوف عليه، وجملة ﴿يَسْجُدَانِ﴾ خبر المبتدأ، وما عطف إليه. والجملة معطوفة على جملة ﴿الرَّحْمَنُ﴾. ﴿وَالسَّمَاءَ﴾ منصوب على الاشتغال بفعل محذوف وجوبًا يفسّره المذكور بعد، أي: ورفع السماء.
﴿وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (٩) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (١٠) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (١١) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (١٢) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (١٣)﴾.
﴿وَأَقِيمُوا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿أَقِيمُوا﴾ فعل أمر مبني على حذف النون، والواو: فاعل، ﴿الْوَزْنَ﴾ مفعول به، ﴿بِالْقِسْطِ﴾ حال من الوزن؛ أي: أقيموه حال كونه متلبسًا بالقسط والعدل. والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿أَلَّا تَطْغَوْا﴾. ﴿وَلَا﴾ الواو: عاطفة، ﴿لا﴾ ناهية، ﴿تُخْسِرُوا﴾ فعل، وفاعل، مجزوم بلا الناهية، ﴿الْمِيزَانَ﴾ مفعول به. والجملة معطوفة على ما قبلها. ﴿وَالْأَرْضَ﴾ الواو: عاطفة، ﴿الْأَرْضَ﴾ منصوب على الاشتغال بفعل محذوف وجوبًا، تقديره: ووضع الأرض. والجملة معطوفة على جملة ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا﴾. ﴿وَضَعَهَا﴾ فعل، وفاعل مستتر، ومفعول به، ﴿لِلْأَنَامِ﴾ متعلق به والجملة مفسرة، لا محل لها من الإعراب. ﴿فِيهَا﴾ خبر مقدم، ﴿فَاكِهَةٌ﴾ مبتدأ مؤخر. والجملة في محل النصب، حال من الأرض. ﴿وَالنَّخْلُ﴾ معطوف على فاكهة، ﴿ذَاتُ الْأَكْمَامِ﴾ صفة لـ ﴿النَّخْلُ﴾، ﴿وَالْحَبُّ﴾ معطوف على ﴿فَاكِهَةٌ﴾، ﴿ذُو الْعَصْفِ﴾ صفة لـ ﴿الْحَبُّ﴾، ﴿وَالرَّيْحَانُ﴾ معطوف على ﴿فَاكِهَةٌ﴾ أيضًا. هذا على قراءة الرفع. وأما على قراءة النصب، فالثلاثة منصوبة بفعل محذوف، تقديره: خلق. ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ﴾ الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم ما ذكرته لكم من النعم،
﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (١٤) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (١٥) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (١٦) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (١٧) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (١٨) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (١٩) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (٢٠) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٢١) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (٢٢) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٢٣)﴾.
﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ﴾ فعل، وفاعل مستتر، يعود على الله، ومفعول به، ﴿مِنْ صَلْصَالٍ﴾ متعلق بـ ﴿خَلَقَ﴾، ﴿كَالْفَخَّارِ﴾ صفة لصلصال. والجملة الفعلية مستأنفة، مسوقة لتوبيخهم على إخلائهم بواجب شكر المنعم على إنعامه. ﴿وَخَلَقَ الْجَانَّ﴾ فعل، وفاعل مستتر، ومفعول به، معطوف على ﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ﴾. ﴿مِنْ مَارِجٍ﴾ متعلق بـ ﴿خَلَقَ﴾، و ﴿مِنْ﴾ لابتداء الغاية، ﴿مِنْ نَارٍ﴾ صفة لـ ﴿مَارِجٍ﴾، و ﴿مِنْ﴾ للبيان أو للتبعيض. ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ تقدم إعراب هذه الآية آنفًا. ﴿رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ﴾ خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هو رب المشرقين، ﴿وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ﴾ معطوف عليه، والجملة مستأنفة. وقيل: هو مبتدأ، خبره جملة ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ﴾. والأوّل أولى. ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ تقدم إعرابها. ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ﴾ فعل ماض، وفاعل مستتر، ومفعول به. والجملة الفعلية مستأنفة. وجملة ﴿يَلْتَقِيَانِ﴾ في محل النصب حال من البحرين. وهي قريبة من الحال المقدرة. ويجوز أن تكون مقارنة. ﴿بَيْنَهُمَا﴾ ظرف، ومضاف، متعلق بمحذوف، خبر مقدم، ﴿بَرْزَخٌ﴾ مبتدأ مؤخر. والجملة في محل النصب، حال من الضمير في ﴿يَلْتَقِيَانِ﴾، أو مستأنفة. ﴿لَا﴾ نافية، ﴿يَبْغِيَانِ﴾ فعل، وفاعل، والجملة في محل النصب حال ثانية من فاعل ﴿يَلْتَقِيَانِ﴾. ومعنى ﴿لَا يَبْغِيَانِ﴾ كل منهما لا يتعدى حدوده. فالعذب منفرد بعذوبته، والملح منفرد بملوحته. ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ تقدّم إعرابها. ﴿يَخْرُجُ﴾ فعل مضارع، ﴿مِنْهُمَا﴾ متعلق بـ ﴿يَخْرُجُ﴾، ﴿اللُّؤْلُؤُ﴾ فاعل، ﴿وَالْمَرْجَانُ﴾ معطوف عليه. والجملة مستأنقة. ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ تقدّم إعرابها.
﴿وَلَهُ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿له﴾ خبر مقدم، ﴿الْجَوَارِ﴾ مبتدأ موخر، مرفوع، وعلامة رفعه ضمّة مقدرة على الياء المحذوفة للتخلص من التقاء الساكنين، منع من ظهورها الثقل؛ لأنّه اسم منقوص، وحذفت الياء خطًّا تبعًا لرسم المصحف العثماني. والجملة مستأنفة. ﴿الْمُنْشَآتُ﴾ صفة لـ ﴿الْجَوَارِ﴾، ﴿فِي الْبَحْرِ﴾ متعلق بـ ﴿الْمُنْشَآتُ﴾. ﴿كَالْأَعْلَامِ﴾ حال من الجوار أو من الضمير في ﴿الْمُنْشَآتُ﴾. ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ تقدّم إعرابها. ﴿كُلُّ﴾ مبتدأ، ﴿مَنْ﴾ اسم موصول، في محل الجر مضاف إليه، ﴿عَلَيْهَا﴾ جار ومجرور، صلة لمن الموصولة. ﴿فَانٍ﴾ خبر ﴿كُلُّ﴾ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء المحذوفة للتخلّص من التقاء الساكنين، منع من ظهورها الثقل؛ لأنه اسم منقوص. والجملة الاسمية مستأنفة. ﴿وَيَبْقَى﴾ الواو: عاطفة، ﴿يَبْقَى﴾ فعل مضارع، ﴿وَجْهُ رَبِّكَ﴾ فاعل، ومضاف إليه. والجملة الفعلية معطوفة على الجملة الاسمية ﴿ذُو﴾ صفة: لـ ﴿وَجْهُ﴾، ﴿الْجَلَالِ﴾ مضاف إليه، ﴿وَالْإِكْرَامِ﴾ معطوف على الجلال. ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ تقدم إعرابها. ﴿يَسْأَلُهُ﴾ فعل مضارع، ومفعول أوّل، والمفعول الثاني محذوف، تقديره: يسأله من في السموات المغفرة لأهل الأرض، ومن في الأرض المغفرة والرزق. ﴿مَنْ﴾ اسم موصول، فاعل، ﴿فِي السَّمَاوَاتِ﴾ صلته، ﴿وَالْأَرْضِ﴾ معطوف على السماوات. والجملة مستأنفة. ولك أن تجعله حالًا من ﴿وَجْهُ﴾، والعامل فيه ﴿يَبْقَى﴾؛ أي: يبقى وجه ربّك حال كونه مسؤولًا لأهل السموات والأرض. ﴿كُلَّ يَوْمٍ﴾ ظرف، متعلق بالاستقرار الذي تعلق به خبر هو، و ﴿هُوَ﴾ مبتدأ ﴿فِي شَأْنٍ﴾ خبره. والجملة مستأنفة. ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ تقدّم إعرابها.
﴿سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (٣١) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٣٢) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (٣٣) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٣٤)﴾.
﴿سَنَفْرُغُ﴾ السين: حرف استقبال، ﴿نفرغ﴾ فعل مضارع، وفاعل مستتر، يعود
﴿يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (٣٥) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٣٦) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (٣٧) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٣٨) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (٣٩) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٤٠)﴾.
﴿يُرْسَلُ﴾ فعل مضارع، مغيّر الصيغة، ﴿عَلَيْكُمَا﴾ متعلق بـ ﴿يُرْسَلُ﴾، ﴿شُوَاظٌ﴾ نائب فاعل، ﴿مِنْ نَارٍ﴾ صفة لـ ﴿شُوَاظٌ﴾، ﴿وَنُحَاسٌ﴾ بالرفع معطوف على ﴿شُوَاظٌ﴾. وقرىء بالجرّ عطفًا على ﴿نَارٍ﴾، ولكنه على حذف موصوف، أي: وشيء من نحاس، والجملة الفعلية مستأنفة، ﴿فَلَا﴾ الفاء: عاطفة، و ﴿لا﴾ نافية، ﴿تَنْتَصِرَانِ﴾ فعل مضارع، مرفوع بالنون، والألف فاعل. والجملة معطوفة على جملة ﴿يُرْسَلُ﴾. ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ تقدم إعرابها. ﴿فَإِذَا﴾ الفاء: استئنافية، ﴿إذا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان، ﴿انْشَقَّتِ السَّمَاءُ﴾ فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل الخفض بإضافة إذا إليها على كونها فعل شرط لها، ﴿فَكَانَتْ﴾ الفاء: عاطفة،
﴿يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (٤١) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٤٢) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (٤٣) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (٤٤) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٤٥)﴾.
﴿يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ﴾ فعل، ونائب فاعل. والجملة مستأنفة. ﴿بِسِيمَاهُمْ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿يُعْرَفُ﴾. والجملة مستأنفة، ﴿فَيُؤْخَذُ﴾ الفاء: عاطفة، ﴿يؤخذ﴾ فعل مضارع، مغير الصيغة، ﴿بِالنَّوَاصِي﴾ جار ومجرور، في محل الرفع، نائب فاعل، لـ ﴿يؤخذ﴾، ﴿وَالْأَقْدَامِ﴾ معطوف على النواصي. والجملة معطوفة على جملة ﴿يُعْرَفُ﴾. ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ تقدم إعرابها. ﴿هَذِهِ جَهَنَّمُ﴾ مبتدأ وخبر. والجملة مستأنفة. ﴿الَّتِي﴾ صفة لجهنم، ﴿يُكَذِّبُ﴾ فعل مضارع، ﴿بِهَا﴾ متعلق بـ ﴿يُكَذِّبُ﴾، ﴿الْمُجْرِمُونَ﴾ فاعل لـ ﴿يُكَذِّبُ﴾، والجملة الفعلية صلة الموصول. ﴿يَطُوفُونَ﴾ فعل، وفاعل، والجملة في محل النصب، حال من المجرمين، أو مستأنفة. ﴿بَيْنَهَا﴾ ظرف متعلق بـ ﴿يَطُوفُونَ﴾، ﴿وَبَيْنَ حَمِيمٍ﴾ ظرف، ومضاف إليه، معطوف على بينها، و ﴿آنٍ﴾ صفة لـ ﴿حَمِيمٍ﴾، مجرور، وعلامة جرّه كسرة مقدرة على الياء المحذوفة للتخلص من التقاء الساكنين، منع من ظهورها الثقل. لأنّه اسم منقوص نظير قاض. ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ تقدم إعرابها.
﴿الرَّحْمَنُ (١)﴾ اسم من أسماء الله تعالى الحسنى. ﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ (٣)﴾ والإنسان هو هذا النوع المعرّف بالحيوان الناطق. ﴿عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (٤)﴾ والبيان في اللغة: هو المنطق الفصيح المعرب عمّا في الضمير. وفي الاصطلاح: أحد فنون البلاغة الثلاثة، وهو يبحث في التشبيه، والاستعارة، والمجاز، والكناية، وقد تقدمت أمثلتها من القرآن في هذا الكتاب غير ما مرّة، وقال الراغب: البيان: هو الكشف عن الشيء، وهو أعم من النطق؛ لأنّ النطق مختص بالإنسان، وسمي الكلام بيانًا لكشفه عن المعنى المقصود، وإظهاره، انتهى. والمراد بالبيان هنا تعبير الإنسان عمّا في ضميره، وإفهامه لغيره.
﴿الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (٥)﴾؛ أي: يجريان بحساب دقيق منظم، والحساب يجوز فيه وجهان.
أحدهما: كونه مصدرًا بمعنى الحساب كالغفران، والكفران، والشكران، والرجحان. يقال: حسبه إذا عده، وبابه نصر حسابًا بالكسر، وحسبانًا بالضم. وأما الحسبان بالكسر فمصدر بمعنى الظن، من حسب بالكسر بمعنى ظن.
والثاني: أنه جمع حساب كشهاب وشهبان، ورغيف ورغفان.
﴿وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ﴾ والنجم: ما ليس له ساق قويّ، ولا يدوم فوق سنة أو سنتين كالزروع من الحنطة، والشعير، ونحوهما، وسائر العشب، والبقول، والأبازير. وأصل النجم الطلوع، يقال: نجم القرن والنبات إذا طلعا، وبه سمي نجم السماء. وقيل: المراد به: نجم السماء، وحده وأراد به جميع النجوم. والمراد بسجوده: أفوله من جانب الغرب. والشجر: ما له ساق قوي، ويدوم أكثر من سنتين فما فوق كالنخل، والمشمش، والتفاح، والتين، والزيتون.
﴿يَسْجُدَانِ﴾؛ أي: ينقادان لله طبعًا كما ينقاد المكلفون اختيارًا. ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا﴾؛ أي: خلقها مرفوعة المحل والمرتبة. ﴿وَوَضَعَ الْمِيزَانَ﴾؛ أي: أثبت العدل، وشرعه، وأوجبه. والميزان: العدل في النظام. وأصله: الموزان، لأنه من وزن فهو مفعال من الوزن، قلبت الواو ياء لسكونها إثر كسرة. ﴿أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (٨)﴾
﴿وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ﴾ أصله: وأقوموا، نقلت حركة الواو إلى القاف فسكنت إثر كسرة، فقلبت ياء حرف مد، وفي "المفردات": الوزن: معرفة قدر الشيء. والمتعارف في الوزن عند العامّة ما يقدر بالقسطاس والقبان. ﴿بِالْقِسْطِ﴾؛ أي: اجعلوه مستقيمًا بالعدل، وقال أبو عبيدة: الإقامة باليد، والقسط بالقلب. ﴿وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ﴾ يقال خسرت الشيء بالفتح، وأخسرته نقصته، وبابه ضرب. وأما خسر في البيع فبالكسر كما في "المختار". وقال في "القاموس": خسر كفرح، وضرب ضل. والخسر والإخسار: النقص؛ أي: لا تنقصوه. لأن من حقه أن يسوى. لأنه المقصود من وضعه.
فائدة: والفرق بين الطغيان والإخسار والقسط أن الطغيان: أخذ الزائد، والإخسارة إعطاء الناقص، والقسط: التوسط بين الطرفين المذمومين، اهـ كرخي.
﴿لِلْأَنَامِ﴾؛ أي: لمنافع الأنام. وهو جمع لا واحد له من لفظه بمعنى الخلق والجن، والإنس مما على الأرض، كما في "القاموس". ﴿فِيهَا فَاكِهَةٌ﴾ والفاكهة: كل ما يتفكه به الإنسان من الثمار. ﴿ذَاتُ الْأَكْمَامِ﴾ والأكمام: جمع كم بالكسر. وهو وعاء الزهرة قبل التفتق، وفي "الصحاح": والكم بالكسر والكمامة: وعاء الطلع، وغطاء النور، والجمع كمام، وأكمة، وأكمام، وأكاميم أيضًا والكمام بالكسر والكمامة أيضًا: ما يكم به فم البعير لئلا يعض. بقال منه: بعير مكموم؛ أي: محجوم، وتكممت الشيء غطيته. والكم: ما ستر شيئًا، وغطاه، ومنه: كم القميص بالضم. والجمع كمام، وكممة. والكمة: القلنسوة المدورة لأنها تغطي الرأس.
﴿وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ﴾ والحب: كل ما يتغدى به، ويقتات كالحنطة والشعير ونحوهما. والعصف: ورق الزرع أو ورق النبات اليابس. وقيل: ورق النبات على السنبلة كالتبن. وقيل: العصف: كل ما يعصف فيؤكل من الزرع. وقيل: ورق كل شيء يخرج منه الحب. ﴿وَالرَّيْحَانُ﴾ والريحان: كل مشموم طيب الرائحة من النبات. وقال في "المفردات": الريحان: كل ما له رائحة. وقيل: الرزق، ثم يقال
﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا﴾ الآلاء جمع إلى بكسر الهمزة وسكون اللام، كحمل وأحمال وأجمع ألى بضم الهمزة وسكون اللام كقفل وأقفال أو جمع إلى كمعي وأمعاء، أو جمع ألى كعصي. أربع لغات. أصله: أألا أبدلت الياء همزة لتطرفها إثر ألف زائدة، وأبدلت الهمزة الساكنة الثانية حرف مد لوقوعها إثر فتح، فصار آلاء. وتكرار هذه الآية في هذه السورة لطرد الغفلة، وتأكيد الحجة، وتذكير النعمة، وتقريرها. كما في قوله:
لَا تَقْطَعَنَّ الصَّدِيْقَ مَا طَرَفَتْ | عَيْنَاكَ مِنْ قَوْلٍ كَاشِحٍ أَشِرِ |
وَلاَ تَمَلَّنَّ مِنْ زَيارَتهِ | زُرْهُ وَزُرْهُ زُرْ ثمَّ زُرْ وَزُرِ |
﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ﴾؛ أي: أرسلهما، وأجراهما من قولك: مرجت الدابة في المرعى؛ أي: أرسلتها فيه. وقيل: معنى ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ﴾؛ أي: خلطهما العذب والملح في مرأى العين. ومع ذلك لا يتجاوز أحدهما على الآخر، وأصل المرج: الإهمال كما تمرج الدابة في المرعى. وفي "المصباح": والمرج أرض ذات نبات
﴿بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ﴾؛ أي: حاجز. والبزرخ: الحائل بين الشيئين، وجمعه برازخ. ومنه: سمي القبر برزخًا؛ لأنه بين الدنيا والآخرة، وقيل للوسوسة: برزخ الإيمان. لأنها طائفة بين الشك واليقين. ﴿يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (٢٢)﴾ واللؤلؤ: الدر المخلوق في الأصداف، والمرجان: الخرز الأحمر. وهو اسم أعجمي معرب. وقيل: عروق حمر تطلع من البحر كأصابع الكف. وقال في "خريدة العجائب": اللؤلؤ يتكوَّن في بحر الهند وفارس. والمرجان ينبت في البحر كالشجر، وإذا كلس المرجان عقد الزئبق، فمنه: أبيض، ومنه: أحمر، ومنه: أسود، وهو يقوي البصر كحلًا، وينشف رطوبة العين. انتهى. وقيل: اللؤلؤ: كبار الدر، والمرجان: صغاره.
﴿الْجَوَارِ﴾ السفن الكبار، جحع جارية. ﴿الْمُنْشَآتُ﴾؛ أي: المصنوعات. ﴿كَالْأَعْلَامِ﴾ الجبال، واحدها علم، وهو الجبل العالي كما في قول الخنساء:
وَإِنَّ صَخْرًا لَتَأْتَمُّ الْهُدَاةُ بِهِ | كأنَّهُ عَلَمٌ فِيْ رَأْسِهِ نَارُ |
﴿يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (٢٩)﴾، أي: يطلبون منه ما يحتاجون إليه في ذواتهم حدوثًا وبقاءً، وفي سائر أحوالهم بلسان المقال أو بلسان الحال، ﴿هُوَ فِي شَأْنٍ﴾؛ أي: في أمر من الأمور، فيحدث أشخاصًا، ويجدد أحوالًا. ﴿سَنَفْرُغُ لَكُمْ﴾؛ أي: سنتجرد لحسابكم وجزائكم يوم القيامة. والمراد: التوفر على الجزاء والانتقام منهما. قال الزجاج: الفراغ في اللغة على ضربين. أحدهما: الفراغ من الشغل، والآخر: القصد إلى الشيء، والإقبال عليه كما هنا اهـ. ﴿أَيُّهَ الثَّقَلَانِ﴾ قال الراغب: الثقل والخفة متقابلان، وكل ما يترجح على ما يوزن به أو يقدر به. يقال: هو ثقيل. وأصله في الأجسام، ثم يقال في المعاني، أثقله الغرم،
﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ﴾ والمعشر: الجماعة العظيمة، سميت به لبلوغه غاية الكثرة، فإن الشر هو الحدد الكامل الكثير الذي لا عدد بعده إلا بتركيبه بما فيه من الآحاد، تقول: أحد عشر، واثنا عشر وعشرون وثلاثون؛ أي: اثنتا عشرات وثلاث عشرات. فإذا قيل: معشر فكأنه قيل: محل العشر الذي هو الكثرة الكاملة.
﴿إِنِ اسْتَطَعْتُمْ﴾ أصله: استطوعتم، بوزن استفعلت، نقلت حركة الواو إلى الطاء فسكنت، لكنها حذفت لما التقت ساكنة بآخر الفعل المسكن، لمناسبة إسناد الفعل إلى ضمير الرفع المتحرك. ﴿أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ قال في "القاموس": النفاذ: جواز الشيء عن الشيء، والخلوص منه كالنفوذ. ومخالطة السهم جوف الرمية، وخروج طرفه من الشق الآخر، وسائره فيه كالنفذ ونفذهم جازهم وتخلفهم، كأنفذهم، والنافذ الماضي في جميع أموره، انتهى. الأقطار: جمع قطر. وهو الناحبة. يقال: طعنه فقطره، إذا ألقاه على أحد قطريه. وهما جانباه. ﴿بِسُلْطَانٍ﴾؛ أي: بقوة، وقهر، وغلبة. ﴿شُوَاظٌ﴾ الشواظ بضم الشين وكسرها. قال أبو عبيدة: هو اللهب الخالص الذي لا دخان فيه. ﴿وَنُحَاسٌ﴾ والنحاس: الدخان الذي لا لهب فيه قال النابغة الذبياني:
تُضِيء كَضَوْءِ السِّرَاجِ السَّلِيْـ | ـطِ لَمْ يَجْعَلِ الله فِيْهِ نُحَاسَا |
وَلَوْ كُنْتُ وَرْدًا لَوْنُهُ لَعَشِقْتنِيْ | وَلَكِنَّ رَبِّيْ شَانَنِي بِسَوَادِيَا |
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الحذف إفادة للعموم في قوله: ﴿الرَّحْمَنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢)﴾ فقد حذف المفعول الأول لدلالة المعنى عليه؛ لأنَّ النعمة في التعليم، لا في تعليم شخص دون شخص. كما يقال: فلان يطعم إشارة إلى كرمه، ولا يبين من أطعمه.
ومنها: الإيهام في قوله: ﴿الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (٥) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (٦)﴾ وهو عبارة عن إتيان المتكلم بكلام يوهم أنه أراد بالكلمة معنى يناسب ما قبلها، أو ما بعدها مع أنه ليس مرادًا له؛ فإن ذكر الشمس والقمر يوهم السامع أن النجم أحد نجوم السماء مع أن المراد به: النبت الذي لا ساق له.
ومنها: الجناس بين النجم والشجر.
ومنها: المقابلة اللطيفة بين قوله: ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا﴾، وقوله: ﴿وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (١٠)﴾، وكذلك المقابلة بين ﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ﴾، وبين ﴿وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (١٥)﴾.
ومنها: تكرير لفظ ﴿الْمِيزَانَ﴾ في قوله: ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (٧) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (٨)﴾ تشديدًا للتوصية به، وتأكيدًا للأمر باستعماله، والحث عليه.
ومنها: ذكر الخاص في قوله: ﴿وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ﴾ بعد العام في قوله: ﴿فِيهَا فَاكِهَةٌ﴾ إظهارًا لمزيته لما فيه من كثير الفوائد، كما مرّ.
ومنها: التكرير في قوله: ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (١٣)﴾ تقريرًا للنعم المعدودة، وتأكيدًا في التذكير بها كلها.
ومنها: الجناس المماثل بين الوزن والميزان في قوله: ﴿وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (٩)﴾.
ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: ﴿أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (٨)﴾ لأنّه على تقدير لام العلة؛ أي: لئلا تطغوا.
ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: ﴿وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (٢٤)﴾؛ أي: كالجبال في العظم. فقد ذكر أداة الشبه، وحذف وجه الشبه.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ﴾؛ أي: ذاته. فإنه من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل.
ومنها: المقابلة بين الفناء والبقاء اللذين هما ضدان في قوله: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (٢٦) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (٢٧)﴾ ويسمى هذا فن الافتنان، وهو أن يأتي المتكلم في كلامه بفنين إما متضادين كما هنا أو مختلفين أو متفقين، وقد جمع سبحانه بين التعزية والفخر إذ عَزّى جميع المخلوقات، وتمدح بالانفراد بالبقاء بعد فناء الموجودات مع وصفه ذاته بعد انفراده بالبقاء بالجلال والإكرام.
ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: ﴿سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (٣١)﴾ حيث شبه انتهاء الدنيا، وما فيها من تدبير شؤون الخلق بالأمر والنهي، والإماتة، والإحياء، والمنع، والإعطاء، ومجيء أمر الآخرة من الأخذ في الجزاء، وإيصال الثواب والعقاب إلى المكلفين، وبقاء شأن واحد. وهو محاسبة الإنس والجن بفراغ من
ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: ﴿أَيُّهَ الثَّقَلَانِ﴾ لأن الثقل الذي هو مفرد الثقلين حقيقة في حمل الدابة، قال ابن الشيخ: شبه الأرض بالحمولة التي تحمل الأثقال، وجعل الجن والإنس أثقالًا محمولة عليها.
ومنها: الأمر التعجيزي في قوله: ﴿إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا﴾ ﴿فَانْفُذُوا﴾ فالأمر فيه أمر تعجيز.
ومنها: التشبيه البليغ في قوله: ﴿فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (٣٧)﴾؛ أي: كالوردة في الحمرة حذف وجه الشبه وأداة التشبيه، فصار بليغًا.
ومنها: التشبيه التمثيلي في قوله: ﴿فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ﴾ حيث شبه تلون السماء حال انشقاقها بالوردة، وشبهت الوردة في اختلاف ألوانها بالدهن، واختلاف ألوانه.
ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: ﴿وَنُحَاسٌ﴾ حيث استعاره للدخان مع أنه حقيقة في الصفر.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (٤٦) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٤٧) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (٤٨) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٤٩) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (٥٠) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٥١) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (٥٢) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٥٣) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (٥٤) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٥٥) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (٥٦) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٥٧) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (٥٨) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٥٩) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (٦٠) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٦١) وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (٦٢) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٦٣) مُدْهَامَّتَانِ (٦٤) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٦٥) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (٦٦) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٦٧) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (٦٨) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٦٩) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (٧٠) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٧١) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (٧٢) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٧٣) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (٧٤) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٧٥) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (٧٦) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٧٧) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (٧٨)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنَّ الله سبحانه لمّا ذكر (١) ما يراه المشركون بربّهم والعاصون لأوامره ونواهيه من الأهوال من إرسال الشواظ من النار عليهم، ومن أخذهم بالنواصي والأقدام إهانة لهم واحتقارًا، ومن التنقل بهم بين النار والحميم الآني الذي يشوي الوجوه.. ذكر هنا ما أعده من النعيم الروحي والجسماني لمن خشي ربه، وراقبه في السر والعلن، من جنات متشابهة الثمار، والفواكه تجري من تحتها الأنهار جناها دان لمن طلبه وأحب نيله يجلس فيها على فرش بطائنها من الديباج، ومن نساء حسان لم يقرب منهن أحد لا من الإنس ولا من الجن، وهن كالياقوت صفاء، واللؤلؤ بياضًا. وذلك كفاء ما قدموا من صالح العمل، وما أسلفوا في الأيام الخالية، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (٤٦)﴾ الآية، سبب نزولها (١): ما روي عن ابن الزبير رضي الله عنه: أنه قال: نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، حين شرب لبنًا على ظمأ، فأعجبه، ثم أخبر أنه من غير حل فاستقاء، فقال - ﷺ - سمعه: "رحمك الله، لقد أنزلت فيك آية". يعني: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (٤٦)﴾. ودخل فيها كل من يهم بالمعصية، فيذكر الله، فيدعها من مخافة الله تعالى. ذكره في "عين المعاني".
التفسير وأوجه القراءة
٤٦ - ولما فرغ سبحانه من تعداد النعم الدنيوية على الثقلين ذكر نعمه الأخروية التي أنعم بها عليهم. فقال: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ﴾؛ أي: موقف ربه سبحانه. وهو الموقف الذي يقف فيه العباد للحساب، كما قال: ﴿يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٦)﴾. فالإضافة للاختصاص الملكي، إذ لا ملك يومئذٍ إلا لله تعالى. والمقام: اسم مكان كما فسرناه، أو مصدر ميمي؛ أي: خاف قيامه بين يدي ربه، وجزاءه على الأعمال خيرًا أو شرًا. وقيل: المعنى (٢): خاف قيام ربه عليه. وهو إشرافه على أحواله، واطلاعه صلى أفعاله وأقواله، كما في قوله: ﴿أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾. قال مجاهد، والنخعي: هو الرجل يهم بالمعصية، فيذكر الله فيدعها من خوفه.
والمعنى (٣): أي ولمن خشي ربه، وراقبه في أعماله، وأيقن بأنه مجازيه عليها يوم العرض والحساب يوم تجزى كل نفس بما كسبت، فإذا هو هم بمعصية ذكر
(٢) الشوكاني.
(٣) المراغي.
﴿جَنَّتَانِ﴾ جنة روحية تصل به إلى حظيرة القدس، وجمال الملكوت، ورضا الله عنه ﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾. وجنة جسمانية بمقدار ما عمل في الدنيا من خير، وقدم من صالح عمل.
٤٧ - ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٤٧)﴾؛ أي: بأي نعم ربكما أيها الثقلان تنكران، فإثابته المحسن منكم بما وصف، وعقابه العاصي بما عاقب من النعم العظمى والمنن الكبرى.
واختلف في الجنتين (١)، فقال مقاتل: يعني: جنّة عدن، وجنّة النعيم. وقيل: إحداهما التي خلقت له، والأخرى التي ورثها. وقيل: إحداهما: منزله، والأخرى: منزل أزواجه. وقيل: إحداهما: أسافل القصور، والأخرى: أعاليها. وقيل: جنة للخائف الإنسي، وجنة للخائف الجني على طريق التوزيع. فإن الخطاب للفريقين، والمعنى: لكل خائفين منكما جنة.
وفيه (٢) نظر لقوله - ﷺ -: "إنَّ مؤمني الجن لهم ثواب، وعليهم عقاب، وليسوا من أهل الجنة مع أمة محمد، هم على الأعراف حائط الجنة، تجري فيه الأنهار، وتنبت فيه الأشجار والثمار". يقول الفقير: قد سبق في أواخر الأحقاف أن المذهب أن الجن في حكم بني آدم ثوابًا وعقابًا؛ لأنهم مكلفون مثلهم، وإن لم نعلم كيفية ثوابهم. فارجع إلى التفصيل في تلك السورة. وقيل: جنة لعقيدته التي يعتقدها، وأخرى لعمله الذي يعمله. أو جنة لفعل الطاعات، وأخرى لترك المعاصي. أو جنة يثاب بها، وأخرى يتفضل بها عليه. وهذا ما جاء مثنى بعد. وقال الفراء: إنما هي جنة واحدة، والتثنية لأجل موافقة رؤوس الآي. قال النحاس: وهذا القول من أعظم الغلط على كتاب الله تعالى. فإن الله يقول: ﴿جَنَّتَانِ﴾ ويصفهما بقوله: ﴿فِيهِمَا﴾ إلخ.
٤٨ - ﴿ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (٤٨)﴾ صفة لجنتان (٣)، وما بينهما اعتراض وسط تنبيهًا على أن
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
٤٩ - ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٤٩)﴾ فإن كل واحد منهما.. ليس بمحل لتكذيب، ولا بموضع للإنكار.
٥٠ - ﴿فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (٥٠)﴾ صفة أخرى لجنتان، فصل بينهما بقوله: ﴿فبأيّ...﴾ إلخ، مع أنه لم يفصل به بين الصفات الكائنة من قبيل العذاب، حيث قال: ﴿يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ﴾ مع أن إرسال النحاس غير إرسال الشواظ.
أي: في كل واحدة من الجنتين عين جارية من ماء غير آسن، وعين من خمر لذة للشاربين، قاله عطية. وقال الحسن: إحداهما السلسبيل، والأخرى التسنيم تجريان، وتسيلان، وتسقيان تلك الأشجار والأغصان. وقال (٢) أبو بكر الوراق رحمه الله: فيهما عينان تجريان لمن كانت عيناه في الدنيا تجريان من مخافة الله عزَّ وجل، فتجريان في كل مكان شاء صاحبها، وإن علا مكانه كما تصعد المياه في الأشجار في كل غصن منها، وإن زاد علوها. وقيل: كل واحدة منهما مثل الدنيا أضعافًا مضاعفة.
٥١ - ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٥١)﴾ فإنَّ من جملتها هذه النعمة الكائنة في الجنة لأهل السعادة.
٥٢ - ﴿فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (٥٢)﴾؛ أي: صنفان رطب ويابس، لا ينقص أحدهما عن الآخر لذّة وطيبًا، بخلاف ثمار الدنيا؛ فإنّ الطازج فيها ألذ طعمًا وأشهى مأكلًا. وقيل: صنفان معهود وغريب، لم يره أحد، ولم يسمع به. وقيل: صنفان حلو وحامض. وقيل: لونان. وقيل: صنفان في المنظر دون المطعم.
(٢) المراغي.
٥٣ - ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٥٣)﴾؛ أي: من هذه النعم اللذيذة. فإن في مجرد تعداد هذه النعم، ووصفها في هذا الكتاب العزيز من الترغيب إلى فعل الخير، والترهيب من فعل الشر، ما لا يخفى على من يفهم. وذلك نعمة عظمى، ومنة كبرى. فكيف بالتنعم به عند الوصول إليه.
٥٤ - وبعد أن ذكر طعامهم ذكر فراشهم، فقال: ﴿مُتَّكِئِينَ﴾ حال من فاعل قوله: ﴿وَلِمَنْ خَافَ﴾. وإنما جمع حملًا على معنى ﴿من﴾. وقيل: عاملها محذوف، والتقدير: يتنعمون متكئين جالسين جلوس المتمكن المستريح.
والمعنى: يحصل لهم جنتان متكئين؛ أي: جالسين جلسة الملوك، جلوس راحة ودعة معتمدين ﴿عَلَى فُرُشٍ﴾ جمع فراش بالكسر. وهو ما يفرش، ويبسط، ويستمهد للجلوس والنوم. ﴿بَطَائِنُهَا﴾ ما يلي الأرض منها. جمع بطانة. وهي بالكسر من الثوب خلاف ظهارته. قال الزجاج: هي هنا ما يلي الأرض من الفرش. ﴿مِنْ إِسْتَبْرَقٍ﴾ وهو ما غلظ من ثياب الحرير. وإذا كانت البطائن من إستبرق فكيف تكون الظهائر. قيل لسعيد بن جير: البطائن من إستبرق فما الظهائر؟ قال: هذا مما قال الله فيه: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾. قيل: إنما اقتصر على البطائن؛ لأنّه لم يكن أحد في الأرض يعرف ما في الظهائر. وقال الحسن: بطائنها من إستبرق، وظهائرها من نور جامد. وقيل: ظهائرها من سندس.
والمعنى: مضطجعين على فرش بطائنها من ديباج ثخين، وحيث كانت بطائنها كذلك فما ظنك بظهائرها؟ يعني: أنَّ الظهارة أشرف وأعلى. كما قال - ﷺ -: "لَمَناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذه الحلة". فذكر المنديل دون غيره تنبيهًا بالأدنى على الأعلى.
وإنما ذكر الإتكاء (٢)؛ لأنه هيئة تدل على صحة الجسم، وفراغ القلب. إذ العليل لا يستطيع أن يستلقي أو يستند إلى شيء وهو مشغول القلب يتحرك تحرك المحضر للعقاب.
﴿وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ﴾؛ أي: وثمرهما قريب منهم متى شاؤوا. فهي لا تمتنع ممن أرادها، بل تنحط إليه من أغصانها. ومثل الآية قوله: ﴿قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (٢٣)﴾، وقوله: ﴿وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (١٤)﴾. وجنى (٣) بفتح الجيم اسم بمعنى المجني كالقبض بمعنى المقبوض. كما قال عليّ رضي الله عنه:
هَذَا جَنَايَ وَخِيَارُهُ فِيْهِ | وَكُلُّ جَانٍ يَدُهُ إِلَى فِيْهِ |
وقرأ الجمهور (٤): ﴿جَنَى﴾ بفتح الجيم. وقرأ عيسى بن عمر بكسرها. وقرأ عيسى أيضًا بكسر النون مع فتح الجيم، كأنه أمال النون، وإن كانت الألف قد حذفت في اللفظ، كما أمال أبو عمرو ﴿حتى نرى الله﴾. يقول الفقير: إنَّ البعد إنما ينشأ من كثافة الجسم، ولا كثافة في الجنة، وأهلها أجسام لطيفة نورانية في صورة الأرواح. وأيضًا إن الطاعات في الدنيا كانت في مشيئة المطيع، فثمراتها أيضًا في الجنة تكون كذلك. فيتناولها بلا مشقة، بل لا تناول أصلًا فإن سهولة التناول تصوير لسهولة الأكل، فتلك الثمار تقع في الفم بلا أخذ على ما قاله البعض.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
(٤) البحر المحيط.
٥٥ - ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٥٥)﴾ من هذه الآلاء اللذيذة الباقية، أبقدرة الله تعالى على ثني الأغصان، وتقريب الثمار تنكران أم بغيرها؟.
٥٦ - ثم ذكر أوصاف النساء اللواتي يمتعون بهن، فقال: ﴿فِيهِنَّ﴾؛ أي: في تلك الجنان المدلول عليها بقوله: ﴿جَنَّتَانِ﴾. لما عرفت أنهما لكل خائفين من الثقلين، أو لكل خائف حسب تعدد عمله. وقد اعتبر الجمعية في قوله: ﴿مُتَّكِئِينَ﴾ إذ كل (٢) فرد فرد له جنتان. فصح أنها جنان كثيرة، وإن كانت الجنتان. أريد بهما حقيقة التثنية، وأن لكل جنس من الجن والإنس جنة واحدة، فالضمير يعود على ما اشتملت عليه الجنة من المجالس، والقصور، والمنازل، وقيل: على الفرش؛ أي: فيهن معدات للاستمتاع. وهو قول حسن، قريب المأخذ.
﴿قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ﴾ من (٣) إضافة اسم الفاعل إلى منصوبه تخفيفًا، ومتعلق القصر محذوف للعلم به، تقديره: على أزواجهن.
والمعنى: فيهن نساء يقصرن أبصارهن على أزواجهن، لا ينظرن إلى غيرهم، وتقول كل منهن لزوجها: وعزة ربي ما أرى في الجنة شيئًا أحسن منك، فالحمد لله الذي جعلك زوجي، وجعلني زوجك. وقصر الطرف أيضًا من الحياء والغنج، وقد يقال: المعنى: قاصرات طرف غيرهن عليهن؛ أي: إذا رآهن أحد لم يتجاوز طرفه إلى غيرهن لكمال حسنهن.
والمعنى (٤): أي في الجنان نساء مانعات أعينهن من النظر إلى غير بعلهن. وللجنة اعتبارات ثلاثة، فلا تصال أشجارها، وعدم الأراضي الغامرة كأنها جنة
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
(٤) المراح.
﴿لَمْ يَطْمِثْهُنَّ﴾؛ أي: لم يجامع تلك القاصرات ﴿إِنْسٌ قَبْلَهُمْ﴾ أي: قبل أزواجهن ﴿وَلَا جَانٌّ﴾ والجملة (١) صفة لقاصرات الطرف؛ لأن إضافتها لفظية.
والمعنى: أي في تلك الجنات نساء غضيضات الطرف عن غير أزواجهن. فلا يرين فيها شيئًا أحسن منهم. وهن أبكار لم يسمهن أحد قبل أزواجهن، لا من الجن ولا من الإنس؛ أي: لم يمس الإنسيات منهن أحد من الإنس، ولا الجنيات أحد من الجن. يقال: طمث المرأة من باب ضرب إذا افتضها بالتدمية لها؛ أي: أزال بكارتها. الطمث: الجماع المؤدي إلى خروج دم البكر، ثم أطلق على كل جماع طمث، وإن لم يكن معه دم، كما سيأتي.
فهن كالرياض الأنف (٢). وهي التي لم ترعها الدواب قط، وفيه ترغيب لتحصيلهن، إذ الرغبة للأبكار فوق الرغبة بالثيِّبات. ودليل على أن الجن من أهل الجنة، وأنهم يطمثون كما يطمث الإنس. فإن مقام الإمتنان يقتضي ذلك، إذ لو لم يطمثوا كمن قبلهم لم يحصل لهم الامتنان به. ولكن ليس له ماء كماء الإنسان، بل لهم هواء بدل الماء، وبه يحصل العلوق في أرحام إناثهن، كما في "الفتوحات المكية". وهذا يستدعي أنه لا تصح المناكحة بين الإنس والجن، وكذا العكس. وقد ذهب إلى صحتها جم غفير من العلماء. منهم: صاحب "آكام المرجان".
ثم إن هؤلاء؛ أي: قاصرات الطرف من حور الجنة المخلوقات ما يبتذلن، ولم يمسسن، وهذا قول الجمهور وهو المشهور (٣). وقال الشعبي والكلبيُّ: من نساء الدنيا؛ أي: لم يجامعهن بعد النشأة الثانية أحد، سواء كن في الدنيا ثيبات أو أبكارًا.
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
٥٧ - ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٥٧)﴾؛ أي: فبأيّ نوع من أنواع هذه النعم تنكران، فإن في مجرد هذا الترغيب في هذه النعم نعمة جليلة، ومنة عظيمة؛ فإن به يحصل الحرص على الأعمال الصالحة، والفرار من الأعمال الطالحة، فكيف بالوصول إلى هذه النعم، والتنعم بها في جنات النعيم بلا انقطاع ولا زوال.
٥٨ - ﴿كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (٥٨)﴾ والجملة صفة ثانية لقاصرات الطرف أو حال من ﴿هن﴾. شبههن سبحانه في صفاء اللون مع حمرته بالياقوت والمرجان. قد سبق بيان المرجان، وأما الياقوت، فهو حجر صلب شديد اليبس رزين صاف منه: أحمر، وأبيض، وأصفر، وأخضر، وأزرق، وهو حجر لا تعمل فيه النار لقلة دهنيته، ولا يثقب لغلظة رطومته، ولا تعمل فيه المبارد لصلابته، بل يزداد حسنًا على مر الليالي والأيام، وهو عزيز، قليل الوجود، سيما الأحمر وبعده الأصفر أصبر على النار من سائر أصنافه. وأما الأخضر: فلا صبر له على النار.
ومعنى الآية (٢): مشبهات بالياقوت في حمرة الوجنة والمرجان؛ أي: صفار الدر في بياض البشرة، وصفائها؛ فإن صغار الدر أنصع بياضًا من كباره. وقال قتادة: في صفاء الياقوت، وبياض المرجان.
وأخرج أحمد، وابن حبان، والحاكم، وصححه، والبيهقي عن أبي سعيد الخدري عن النبي - ﷺ - في قوله: ﴿كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (٥٨)﴾ قال: "تنظر إلى وجهها في خدرها أصفى من المرآة، وإن أدنى لؤلؤة عليها تضيء ما بين المشرق والمغرب. وإنه يكون عليها سبعون ثوبًا، وينفذها بصره، حتى يرى مخ ساقها من وراء ذلك".
٥٩ - ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٥٩)﴾ فإنَّ نعمه كلها لا يمكن تكذيب شيء منها
(٢) روح البيان.
٦٠ - ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (٦٠)﴾؛ أي: ما جزاء الإحسان في العمل إلا الإحسان في الثواب، واعلم أن ﴿هَل﴾ يجيء (١) على أربعة أوجه. الأول: بمعنى قد، كقوله تعالى: ﴿هَلْ أَتَى﴾. والثاني: بمعنى الأمر، كقوله تعالى: ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾؛ أي: فانتهوا. والثالث: بمعنى الاستفهام، كقوله تعالى: ﴿فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا﴾. والرابع: بمعنى ما النافية، كما في هذه الآية. ونحو الآية قوله: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾.
وعن أنس بن مالك قال: قرأ رسول الله - ﷺ - ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (٦٠)﴾، وقال: "هل تدرون ما قال ربكم؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "ما جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنّة". أخرجه ابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي، وروي عن ابن عباس: هل جزاء من قال: لا إله إلا الله في الدنيا إلا الجنة في الآخرة.
٦١ - ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٦١)﴾ فإن من جملتها الإحسان إليكم في الدنيا والآخرة بالخلق، والرزق، والإرشاد إلى العمل الصالح، والزجر عن العمل الذي لا يرضاه.
٦٢ - ﴿وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (٦٢)﴾ مبتدأ وخبر (٢)؛ أي: ومن دون تينك الجنتين الموعودتين للخائفين المقربين جنتان أخريان لمن دونهم في الدرجة من أصحاب اليمين، فالخائفون قسمان: المقربون، وأصحاب اليمين، وهم دون المقربين بحسب الفضائل العلمية والعملية، ودون بمعنى الأدنى مرتبة ومنزلة، لا بمعنى غير. فالجنتان الأوليان أفضل من الأخريين، كفضل المقربين على الأبرار. وقيل: ليس "دون" من الدناءة، بل من الدنو. وهو القرب؛ أي: ومن دون هاتين الجنتين إلى العرش؛ أي: أقرب إليه منهما، وأرفع منهما؛ أي (٣): من أمامهما ومن قبلهما. وحمل بعض المفسرين ﴿دون﴾ على معنى غير. وقيل الجنتان الأوليان جنة عدن،
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
٦٣ - ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٦٣)﴾ فإنها كلها حق ونعم لا يمكن جحدها.
٦٤ - ثم وصف سبحانه هاتين الجنتين الأخريين، فقال: ﴿مُدْهَامَّتَانِ (٦٤)﴾ صفة لجنتان، وما بينهما اعتراض؛ أي (١): سوداوان يعني: علا لونها دهمة وسواد من شدة الخضرة والري. وإن شئت.. قلت: خضراوان، تضربان إلى السواد من شدة الخضرة.
فائدة: والنظر إلى الخضرة يجلو البصر، كما قال - ﷺ -: "ثلاث يجلون البصر: النظر إلى الخضرة، وإلى الماء الجاري، وإلى الوجه الحسن". قال ابن عباس رضي الله عنهما: والإثمد عند النوم. وهو الكحل الأسود. وأجوده الأصفهاني. وهو بارد يابس ينفع العين اكتحالًا، ويقوي أعصابها، ويمنع عنها كثيرًا من الآفات والأوجاع سيما الشيوخ والعجائز، وإن جعل معه شيء من المسك.. كان غاية في النفع، وينفع من حرق النار طلاء مع الشحم، ويقطع النزف، ويمنع الرعاف إذا كان من أغشية الدماغ. وفي الحديث: "خير أكحالكم الإثمد، ينبت الشعر، ويجلو البصر". اهـ "خريدة العجائب".
وفي قوله: ﴿مُدْهَامَّتَانِ (٦٤)﴾ إشعار (٢) بأن الغالب على هاتين الجنتين النبات والرياحين المنبسطة على وجه الأرض، وعلى الأوليين الأشجار والفواكه. ودل هذا على فضل الأوليين على الأخريين.
والمعنى: أي ومن وراه هاتين الجنتين وأقل منهما فضلًا جنتان تنبتان الباب، والرياحين الخضراء التي تضرب إلى السواد من شدة خضرتها لكثرة الريّ. وأما الجنتان السابقتان ففيهما أشجار وفواكه. وفرق ما بين الجنتين.
٦٥ - فبأيّ هذه النعم تكذّبان، وهي نعم واضحة لا تجحد، تتمتع أبصاركم بخضرة نباتات هاتين الجنتين،
(٢) روح البيان.
قال الفقهاء: إذا قرأ في الصلاة آية واحدة هي كلمة واحدة، نحو قوله: ﴿مُدْهَامَّتَانِ (٦٤)﴾ أو حرف واحد نحو ﴿ق﴾ و ﴿ص﴾ و ﴿ن﴾. فإن كل حرف منها آية عند البعض. فالأصح أنه لا يجزىء عن فرض القراءة. لأنه لا يسمى قارئًا؛ لأن القراءة ضم الحروف والكلمات بعضها إلى بعض في الترتيل.
٦٦ - ﴿فِيهِمَا﴾؛ أي: في هاتين الجنتين ﴿عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ﴾؛ أي: فوارتان بالماء، لا تنقطعان. من نضحه كمنعه رشه، ونضح الماء اشتد فورانه من ينبوعه.
قال الحسن، ومجاهد: تنضخ على أولياء الله بالمسك، والعنبر، والكافور في دور أهل الجنة، كما ينضح رش المطر. وهذا يدل أيضًا على فضل الأوليين على الأخرين. لأنه تعالى قال في الأوليين: ﴿عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ﴾، وفي الأخريين ﴿نَضَّاخَتَانِ﴾. والنضخ دون الجري؛ لأن النضخ هو الفوران، وهو يتحقق بأن يكون الماء بحيث لو أخذ منه شيء فار آخر مكانه. ولا يكفي هذا القدر في جريانه. فلا شك أن الجري أبلغ منه، قال ابن عباس رضي الله عنهما: نضَّاختان بالمسك والعنبر. وقال الكلبي: بالخير والبركة.
٦٧ - ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٦٧)﴾ فإنها ليست بموضع للتكذيب، ولا بمكان لجحد، حيث يحصل لكم الريُّ من شراب تينك العينين.
٦٨ - ﴿فِيهِمَا﴾؛ أي: في هاتين الجنتين ﴿فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ﴾ عطف الأخيرين على الفاكهة، كعطف جبريل، وميكائيل على الملائكة بيانًا لفضلهما. فإن ثمرة النخل فاكهة وغذاء، والرمان فاكهة ودواء، ولأنهما يوجدان في الخريف والشتاء، ولأنهما فاكهة وإدام. فيحنث بأكل أحدهما من حلف لا يأكل فاكهة، كما قاله الشافعي، وأكثر العلماء خلافًا لأبي حنيفة رحمه الله. يعني: بحسب (١) حال الدنيا، وإلّا فالكل في الجنة للتفكه. والرمان من الأشجار، هي التي لا تقوى إلا بالبلاد الحارة، وأجوده الكبار الحلو، وهو حار رطب يلين الصدر والحلق، ويجلو المعدة، وينفع من الخفقان، ويزيد في الباءة. وقشره تهرب منه الهوام.
٦٩ - ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٦٩)﴾ حيث هيَّأ لكم ما به تتلذذون من الفواكه. ومن جملتها هذه النعم التي في جنات النعيم، ومجرد الحكاية لها أثر في نفوس السامعين، وتجذبهم إلى طاعة رب العالمين.
٧٠ - ﴿فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ﴾ وهي صفة أخرى لجنتان كالجملة التي قبلها. والكلام في جمع الضمير كالذي مر فيما مرّ، و ﴿خَيْرَاتٌ﴾ مخففة من خيرات جمع خيّرة. لأنَّ خيرًا الذي بمعنى أخير لا يجمع، فلا يقال فيه: خيرون، ولا خيرات.
أي: في تلك (١) الجنان نساء خيرات الأخلاق حسان الوجوه. روى الحسن عن أمه عن أم سلمة قالت: قلت لرسول الله - ﷺ -: يا رسول الله أخبرني عن قوله تعالى: ﴿خَيْرَاتٌ حِسَانٌ﴾. قال: خيرات الأخلاق، حسان الوجوه. وقال الرازي: في باطنهن الخير، وفي ظاهرهن الحسن. وروي: أن الحور يغنين نحن الخيرات الحسان خلقن لأزواج كرام. وقيل في تفسير الخيرات (٢)؛ أي: لسن بدمرات، الدمر: النتن، ولا بخرات البخر بالتحريك: النتن في الفم، والإبط، وغيرهما. ولا متطلعات من التطلع على كلام من تكلم، ومنه قولهم: عافى الله من لم يتطلع في فمك؛ أي: لم يتعقب كلامك. ولا متشوفات من تشوف من السطح إذا تطاول، ونظر، وأشرف. ولا ذربات جمع ذرية بالكسر: السليطة اللسان من ذرب من باب فرح. ولا سليطات السلط والسليط: الشديد والطويل اللسان. ولا طماحات من طمح بصره كمنع، ارتفع. يقال: طمحت المرأة إذا نشزت. ولا طوافات في الطرق؛ أي: دوارات. حسان جمع حسنة وحسناء، أي: حسان الخلق والخلق. وهن من الحور، وقيل: من المؤمنات الخيرات. ويدل على الأول ما بعد الآية. وفي الحديث: "لو أن المرأة من نساء أهل الجنة.. اطلعت على السموات والأرض لأضاءت ما بينهما، ولملأت ما بينهما ريحًا، ولعصابتها على رأسها خير من الدنيا وما فيها".
(٢) روح البيان.
وفي هذا بيان أن هاتين الجنتين دون الأوليين (١)؛ لأنه تعالى قال في الأوليين في صفة الحور العين: ﴿كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (٥٨)﴾، وفي الآخريين: ﴿فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (٧٠)﴾. وليس كل حسن كحسن الياقوت والمرجان.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿خَيْرَاتٌ﴾ بالتخفيف. وقرأ قتادة، وابن السميقع، وأبو رجاء العطارديُّ، وبكر بن حببب السهمي، وابن مقسم، وأبو عثمان النهديُّ بالتشديد. فعلى القراءة الأولى هي جمع خيرة بزنة فعلة بسكون العين، ويقال امرأة خيرة، وأخرى شرة أو جمع خيرة مخفف خيرة، وعلى القراءة الثانية جمع خيرة بالتشديد.
٧١ - ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٧١)﴾ وقد أنعم عليكم بما فيه تستمتعون من النساء. فإنَّ شيئًا منها كائنًا ما كان لا يقبل التكذيب.
٧٢ - ﴿حُورٌ﴾ بدل (٣) من ﴿خَيْرَاتٌ﴾، جمع حوراء. وهي البيضاء، ووصفت في غير هذه الآية بالعِين. وهي جمع عيناء بمعنى واسعة العين. ﴿مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ﴾ قصرن في خدورهن، وحبسن فيها. يقال: امرأة مقصورة؛ أي: مخدرة مستورة لا تخرج، ومقصورات الطرف على أزواجهن لا يبغين بهم بدلًا. وفيه إشارة إلى أنهن لا يظهرن لغير المحارم، وإن لم تكن الجنة دار التكليف؛ وذلك لأنهن من قبيل الأسرار، وهي تصان عن الأغيار غيرة عليها، والخيام جمع خيمة، وهي القبة المضروبة على الأعواد، هكذا جمع خيام الدنيا. وهي لا تشبه خيام الدنيا إلا بالاسم، فإنه قد قيل: إن الخيمة من خيامهن درة مجوفة عرضها ستون ميلًا في كل زاوية منها أهلون، ما يرون إلا حين يطوف عليهم المؤمنون. وقال ابن مسعود: لكل زوجة
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
والمعنى: أي وهؤلاء الخيرات الحسان واسعات العيون، مع صفاء البياض حول السواد محبوسات في الحجال، فلسن بطوافات في الطرقات. والعرب يمدحون النساء اللازمات للبيوت للدلالة على شدة الصيانة.
٧٣ - ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٧٣)﴾ وقد خلق من النعم ما هن مقصورة ومحبوسة لكم. فإنها كلها نعم لا تكفر، ومنن لا تجحد.
٧٤ - ﴿لَمْ يَطْمِثْهُنَّ﴾ ولم يجامعهن ﴿إِنْسٌ قَبْلَهُمْ﴾؛ أي: قبل أصحاب الجنتين دل عليهم ذكر الجنتين، أو قبل أزواجهن. ﴿وَلَا جَانٌّ﴾ والكلام هنا كالذى مر في نظيره في جميع الوجوه. قال في "كشف الأسرار" (١): كرر ذلك زيادة في التشويق، وتأكيدًا للرغبة. وفيه إنه ليس بتكرير؛ لأنَّ الأول في أزواج المقربين وهذا في أزواج الأبرار. قال محمد بن كعب: إن المؤمن يزوج ألف ثيب، وألف بكر، وألف حوراء.
٧٥ - ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٧٥)﴾ مع أنها ليست كنعم الدنيا. إذ قد تطمث المرأة في الدنيا، ثم يتزوجها آخر ثيبًا فهن نعم باكورة. فيا لها من طيب وصالها، وبالها، وبراعة جمالها، لا يقدر أحد على حكايتها، ولا يبلغ وصف إلى نهايتها، والعقول فيها حيارى، والقلوب سكارى.
٧٦ - ﴿مُتَّكِئِينَ﴾ حال صاحبه محذوف، يدل عليه الضمير في ﴿قَبْلَهُمْ﴾، تقديره: لم يطمثهن أحد غير أزواجهن حال كونهم متكئين وجالسين ﴿عَلَى رَفْرَفٍ﴾ وفرش ﴿خُضْرٍ﴾ والرفرف (٢) إما اسم جنس أو اسم جمع، واحده رفرفة. قيل: هو ما تدلى من الأسرة من عالي الثياب، أو ضرب من البسط أو الوسائد، أو الرقيق من الديباج.
قال في "المفردات": الرفرف ضرب من الثياب، مشبه بالرياض، انتهى. ومن معاني الرفرف: الرياض. وكان بساط أنو شروان ستين ذراعا في ستين ذراعًا، يبسط له في إيوانه منظومًا باللؤلؤ والجواهر الملونة على ألوان زهر الربيع، وينشر إذا
(٢) روح البيان.
وقرأ الجمهور ﴿رَفْرَفٍ﴾ بالأفراد. وقرأ (١) عثمان بن عفان، والحسن، ونصر بن عاصم، والجحدري ومالك بن دينار، وابن محيصن، وزهير العرقي وغيرهم ﴿رفارف﴾ على صيغة منتهى الجموع. والخضر صفة لرفرف، وهو بسكون الضاد جمع أخضر، كحمر جمع أحمر، أي: صاحب خضرة. والخضرة: اللون بين البياض والسواد والحمرة. وهو إلى السواد أقرب، فلهذا سمي الأسود أخضر، والأخضر أسود. وقرأ ابن هرمز ﴿خضُر﴾ بضم الضاد. قال صاحب "اللوامح": وهي لغة قليلة، انتهى.
﴿وَعَبْقَرِيٍّ﴾ معطوف على ﴿رَفْرَفٍ﴾، والمراد به: الجنس، ولذا وصف بالجمع وهو قوله: ﴿حِسَانٍ﴾ حملًا على المعنى. وهو جمع حسن. والعبقري منسوب إلى عبقر، تزعم العرب أنه اسم بلد كثير الجن، فينسبون إليه كل شيء نفيس عجيب. وقال قطرب: ليس هو من المنسوب، بل هو بمنزلة كرسي، وبختيٍّ. قال في "القاموس": عبقر موضع كثير الجن، وقرية ثيابها في غاية الحسن. والعبقريُّ ضرب من البسط، كالعباقري. انتهى.
وفي "فتح الرحمن": العبقريُّ: بسط حسان، فيها صور، وغير ذلك. وقرأ الجمهور ﴿وعبقريٌّ﴾. وقرأ عثمان بن عفان، والحسن، والجحدريُّ ﴿عباقريُّ﴾. وقرىء ﴿عباقر﴾.
والمعنى: حال كونهم متكئين (٢) على ثياب ناعمة، وفرش رقيقة النسج من الديباج، ووسائد عظيمة، وبسط لها أطراف فاخرة غاية في كمال الصنعة، وحسن المنظر. وخص (٣) الأخضر بالذكر؛ لأن النفس أميل إليها في الدنيا، ولأنه يحصل فيه الألوان الثلاثة: الأبيض، والأسود، والأحمر. فالأبيض يفرق البصر، والأسود يجمع البصر، كالأحمر. فلما اجتمع في الأخضر الأمور الثلاثة دفع بعضها أذى بعض.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
قال أبو عبد الله الحكيم الترمذي: روي لنا في حديث المعراج: أن رسول الله - ﷺ - لما بلغ سدرة المنتهى.. جاءه الرفرف، فتناوله من جبريل، وطار به إلى مستقر العرش، وذكر أنه قال: "طار بي يخفضني ويرفعني حتى وقف بين يدي ربي، ثم لما حان الانصراف.. تناوله فطار به خفضًا ورفعًا يهوي به، حتى أداه إلى جبريل صلوات الله علبهما، وجبريل يبكي، ويرفع صوته بالتحميد". والرفرف خادم من الخدم بين يدي الله تعالى، له خواص الأمور في محل الدنو والقرب، كما أن البراق دابة يركبها الأنبياء مخصوصة بذلك في أرضه، فهذا الرفرف الذي سخره الله لأهل الجنتين وهو متكأهم وفرشهم، يرفرف بالولي، ويطير به على حافات تلك الأنهار، وحيث يشاء من خيامه، وأزواجه، وتصوره. انتهى من "نوادر الأصول" في الأصل التاسع والثمانين.
وقال الترمذي الحكيم أيضًا: وبلغنا في الرواية: أن سحابة مطرت من العرش، فخلقت الحور من قطرات الرحمة، ثم ضرب على كل واحدة منهن خيمة على شاطىء الأنهار، سعتها أربعون ميلًا، وليس لها باب حتى إذا دخل ولي الله الجنة، انصدعت الخيمة عن باب، ليعلم ولي الله أن أبصار المخلوقين من الملائكة والخدام لم تأخذها، فهي مقصورة قد قصرها بها عن أبصار المخلوقين. وهو معنى قوله: ﴿حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (٧٢)﴾. والله أعلم. اهـ قرطبي.
٧٧ - ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٧٧)﴾؛ أي (١): بأيَّ نعم ربكما المحسن الذي لا محسن غيره، ولا إحسان إلا منه تكذبان أبشيء من هذه النعم أم بغيرها، وقد هيأ لكم ما تتكئون عليه، فتستريحون، فإن كل واحد منها أجل أن يتطرق إليه التكذيب، وأعظم من أن يجحده جاحد أو ينكره منكر.
٧٨ - وقوله: ﴿تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ﴾؛ أي: تقدس، وتنزه عن كل ما لا يليق به تقديسٌ
إلى الحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السلامِ عليكُما | وَمَن يَبْكِ حَوْلًا كاملًا فقَدِ اعْتَذَرْ |
والمعنى: تقدس، وتنزه، وتعالى ربك عن كل ما لا يليق به من جميع النقائص. وقال في "فتح الرحمن": وهذا الموضع مما أريد فيه بالاسم مسماه؛ أي: تبارك مسمى ربك، وذاته الأقدس عن النقائص. وفي "التأويلات النجمية": وهذا يدل على أن الاسم هو المسمى؛ لأن المتعالي هو المسمى في ذاته لا الاسم، وكذا الموصوف بالقهر، واللطف، والجلال، والإكرام هو المسمى فحسب، انتهى.
وقوله: ﴿ذِي الْجَلَالِ﴾؛ أي: ذي العظمة والكبرياء ﴿وَالْإِكْرَامِ﴾؛ أي: ذي الإفضال التام والإحسان العام. وصف به الرب عز وجل تكميلًا لما ذكر من التنزيه والتقرير.
قال الزروقي: من عرف أنه تعالى ذو الجلال والاكرام هابه لمكان الجلال، وأنس به لمكان الإكرام، فكان بين الخوف والرجاء. وهو اسم الله الأعظم. وقال بعضهم: أسماء الله تعالى كلها أعظم لدلالتها على العظيم، فإنه إذا عظم الذات والمسمى عظم الأسماء والصفات، ويا ذا الجلال والإكرام من الأسماء التي جاء في الحديث أن يدعى الله بها، فقد قال - ﷺ -: "أَلِظُّوا بيا ذا الجلال والإكرام". وقرأ الجمهور ﴿ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾ على أنه صفة لربك، وابن عامر، وأهل الشام ﴿ذو﴾
والمعنى (١): أي تعالى ربك ذو الجلال والعظمة والتكريم على ما أنعم به، وتفضل من نعم غوال، ومنن عظام. وهذا تعليم منه لعباده بأن كل هذا من رحمته، فهو قد خلق السماء، والأرض، والجنة، والنار. وعذب العاصين، وأثاب المطيعين، وآتاهم من فضله ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
الإعراب
﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (٤٦) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٤٧) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (٤٨) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٤٩) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (٥٠) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٥١) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (٥٢) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٥٣) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (٥٤) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٥٥) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (٥٦) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٥٧) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (٥٨) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٥٩) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (٦٠) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٦١)﴾.
﴿وَلِمَنْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿لِمَنْ﴾ جار ومجرور، خبر مقدم، ﴿خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ﴾ فعل، وفاعل مستتر، ومفعول به، والجملة صلة الموصول. ﴿جَنَّتَانِ﴾ مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة. ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ...﴾ إلخ تقدم إعرابه. ﴿ذَوَاتَا﴾ صفة لـ ﴿جَنَّتَانِ﴾، مرفوع بالألف؛ لأنه مثنى ذات، ﴿أَفْنَانٍ﴾ مضاف إليه. ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ تقدم إعرابه. ﴿فِيهِمَا﴾ خبر مقدم، ﴿عَيْنَانِ﴾ مبتدأ مؤخر، وجملة ﴿تَجْرِيَانِ﴾ صفة لـ ﴿عَيْنَانِ﴾. والجملة الاسمية صفة ثانية لـ ﴿جَنَّتَانِ﴾. ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ...﴾ إلخ، تقدّم إعرابه. ﴿فِيهِمَا﴾ خبر مقدم، ﴿مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ﴾ حال من ﴿زَوْجَانِ﴾؛ لأنّه صفة قدمت على النكرة، ﴿زَوْجَانِ﴾ مبتدأ مؤخر. والجملة الاسمية صفة لـ ﴿جَنَّتَانِ﴾. ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ...﴾ إلخ تقدم إعرابه. ﴿مُتَّكِئِينَ﴾ حال من ﴿مِنْ﴾ في قوله: ﴿وَلِمَنْ خَافَ﴾؛ لأنَّ ﴿مَنْ﴾ فيها معنى الجمع، وقيل: عاملها محذوف، دل عليه قوله: ﴿وَلِمَنْ خَافَ﴾؛ أي: يتنعمون فيهما حال كونهم متكئين؛ أي: مضطجعين
﴿وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (٦٢) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٦٣) مُدْهَامَّتَانِ (٦٤) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٦٥) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (٦٦) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٦٧) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (٦٨) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٦٩) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (٧٠) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٧١) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (٧٢) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٧٣) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (٧٤) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٧٥) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (٧٦) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٧٧) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (٧٨)﴾.
﴿وَمِنْ دُونِهِمَا﴾ الواو: عاطفة، ﴿من دونهما﴾ خبر مقدم، ﴿جَنَّتَانِ﴾ مبتدأ مؤخّر. والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ﴾. ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ...﴾ إلخ تقدم إعرابها. ﴿مُدْهَامَّتَانِ (٦٤)﴾ صفة لـ ﴿جَنَّتَانِ﴾، ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ...﴾ إلخ تقدم إعرابها. ﴿فِيهِمَا﴾ خبر مقدم، ﴿عَيْنَانِ﴾ مبتدأ مؤخر، ﴿نَضَّاخَتَانِ﴾ صفة ﴿عَيْنَانِ﴾. والجملة صفة ثانية لـ ﴿جَنَّتَانِ﴾، ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ...﴾ إلخ تقدم إعرابها. ﴿فِيهِمَا﴾ خبر مقدم، ﴿فَاكِهَةٌ﴾ مبتدأ مؤخر، ﴿وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ﴾ معطوفان على ﴿فَاكِهَةٌ﴾ عطف خاص
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ﴾ الخوف في الأصل: توقع المكروه عند ظهور أمارة مظنونة أو محققة. وضده الأمن. ويراد به هنا: الكف عن المعاصي مع فعل الطاعات. و ﴿مَقَامَ رَبِّهِ﴾ قيامه عليه، وإطلاعه على أعماله.
وفي تفسير المقام ثلاث احتمالات:
الأوّل: أنه اسم مكان بمعنى موقفه الذي يقف فيه العباد للحساب، كما قال: ﴿يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٦)﴾.
والثاني: أنه مصدر بمعنى قيامه تعالى، وإطلاعه على أعمال عباده.
والثالث: أنه مصدر بمعنى قيام الخلائق بين يديه تعالى.
﴿جَنَّتَانِ﴾؛ أي: جنة روحية لقلبه، وجنة جسمانية على شاكلة ما عمل في
﴿ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (٤٨)﴾ وذوات مثنى ذات بمعنى صاحبة، وأصل ذات: ذوية، قلبت ﴿الواو﴾ ألفًا لتحركها بعد فتح. وفي تثنيتها لغتان. الرد على الأصل، فإن أصلها ذوية؛ لأنها مؤنثة ذوي. والتثنية على اللفظ بأن يقال: ذاتا، والأفنان: جمع فن بمعنى نوع؛ أي: ذواتا أنواع من الأشجار والثمار. يقال: افتن فلان في حديثه إذا أخذ في فنون منه، وضروب مختلفة، أو جمع فنن بمعنى غصن؛ أي: ذواتا أغصان دقيقة التي تتفرع من فروع الشجر، وخصت بالذكر؛ لأنها التي تورق، وتثمر، وتمد الظل.
﴿زَوْجَانِ﴾؛ أي: صنفان، رطب ويابس. ولا يقصر يابسه عن رطبه في الفضل والطيب. ﴿مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ﴾ جمع فراش. وهو البساط ﴿بَطَائِنُهَا﴾ جمع بطانة ضد الظهارة، ولكن المراد هنا: ما يلي الأرض، كما مرّ. والهمزة فيه بدلة عن الألف الواقعة حرف مد ثالثًا زائدًا في اسم مؤنث جمع على فعائل.
﴿مِنْ إِسْتَبْرَقٍ﴾ والإستبرق: ما غلظ من الحرير. قيل: استفعل من البريق. وهو الإضاءة. وقيل: من البرقة. وهو اجتماع ألوان، وجعل اسمًا وأعرب إعرابه.
﴿وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ﴾ والجنى: الثمرة التي قد أدركت على الشجرة. وهو اسم بمعنى المجني، كالقبض بمعنى المقبوض. وفيه إعلال بالقلب، أصله: جني قلبت الياه ألفًا لتحركها بعد فتح. وقوله: ﴿دَانٍ﴾ من الدنو بمعنى القرب، أصله: دانوا، مثل: غازو، فوزنه فاع لأعلاله إعلال غاز.
﴿قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ﴾ وهو من إضافة اسم الفاعل إلى منصوبه تخفيفًا، ومتعلق القصر محذوف، كما مر؛ أي: نساء يقصرن أبصارهن على أزواجهن، لا ينظرن إلى غيرهم. والطرف: أصله مصدر، فلذلك وحد. وقيل: الطرف طرف غيرهن؛ أي: قصرن عيني من ينظر إليهن عن النظر إلى غيرهن.
﴿لَمْ يَطْمِثْهُنَّ﴾؛ أي: لم يفتضهن. يقال: طمث المرأة من باب ضرب إذا افتضها بالتدمية؛ أي: أزال بكارتها. فالطمث: الجماع المؤدي إلى خروج دم البكر، ثم أطلق على كل جماع طمث، وإن لم يكن معه. وفي "المصباح" طمث
﴿كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ﴾ الياقوت: جوهر نفيس أحمر اللون. يقال: إن النار لا تؤثر فيه، من خواصه: أنه يقطع جميع الحجارة إلا الماس. فإنه يقطعه لصلابته، وقلة مائه، وشدة الشعاع، والثقل، والصبر على النار. قال بعضهم في مليح: اسمه ياقوتٌ:
يَاقُوتُ يَا قُوتَ قَلْبِ المُسْتَهَامِ بِهِ | مِنَ الْمُرُوءَةِ أنْ لَا يُمْنَعَ الْقُوتُ |
سَكَنْتَ قَلْبِيْ وَمَا تَخْشَى تَلَهُّبَهُ | وَكَيْفَ يَخْشَى لَهِيْبَ النَّارِ يَاقُوْتُ |
﴿مُدْهَامَّتَانِ (٦٤)﴾ مثنى مدهامة. وهي مؤنث مدهام، وصف من ادهام السداسي اسم فاعل. والأصل: مدهاممتان، أدغمت الميم الأولى في الثانية. يقال: ادهام الشيء يدهام ادهيامًا فهو مدهام، ذكره في "تاج المصادر" في باب الإفعيلال. وفي "المختار": دهمهم الأمر غشيهم، وبابه فهم، وكذا دهمتهم الخيل، ودهمهم بفتح الهاء لغة. والدهمة: السواد يقال: فرس أدهم، وبعير أدهم، وناقة دهماء. وادهام ادهيامًا؛ أي: اسود قال الله تعالى: ﴿مُدْهَامَّتَانِ (٦٤)﴾؛ أي: سوداوان من شدة الخضرة من الري. والعرب تقول لكل شيء أخضر: أسود. وسميت قرى العراق سوادًا لكثرة خضرتها. والشاة الدهماء الحمراء الخالصة الحمرة. ويقال للقيد: أدهم. وفي "القاموس": حديقه دهماء، ومدهامة خضراء تضرب إلى السواد نعمةً وريًّا. ومنه: ﴿مُدْهَامَّتَانِ﴾.
﴿نَضَّاخَتَانِ﴾؛ أي: فوارتان بالماء لا تنقطعان. والنضخ أكثر من النضح؛ لأن النضح بالحاء المهملة: الرش، وبالخاء المعجمة كالبزل والنضاخة: الفوارة التي ترمي بالماء صعدًا.
﴿حُورٌ﴾ واحدتهن حوراء؛ أي: بيضاء. قال ابن الأثير: الحوراء: هي
﴿عَلَى رَفْرَفٍ﴾ والرفرف: اسم جمع أو اسم جنس جمعي، وكذا يقال: في ﴿عبقري﴾. وعبارة "السمين": الرفرف اسم جنس. وقيل: اسم جمع نقلهما مكي. والواحدة رفرفة. وهي ما تدلى من الأسرة من غالي الثياب. واشتقاقه من رفرف الطائر؛ أي: ارتفع في الهواء، انتهت. وقال غيره: الرفرف: بسط أو وسائد "مخدات". ﴿وَعَبْقَرِيٍّ﴾ والعبقري: العجيب النادر الموشى من البسط، منسوب إلى عبقر. وتزعم العرب أنه اسم لبلد الجن، فينبون إليه كل شيء عجيب.
﴿تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ﴾؛ أي: تقدس، وتنزه ربنا الذي أفاض على عباده نعمه الجليلة والحقيرة.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الإضافة في قوله: ﴿مَقَامَ رَبِّهِ﴾ للدلالة على الاختصاص الملكي؛ إذ لا ملك يومئذٍ إلا لله تعالى.
ومنها: الجناس الناقص في قوله: ﴿وجنى الجنتين﴾ لتغير الشكل، والحروف.
ومنها: الإيجاز بالحذت في قوله: ﴿فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ﴾ فإنَّ فيه حذف الموصوف، وإبقاء الصفة؛ أي: نساء قصرن أبصارهن على أزواجهن. وفيه أيضًا
ومنها: الإرداف في قوله: ﴿قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ﴾ وهو أن يريد المتكلم معنى فلا يعبر عنه بلفظه الموضرع له، بل بلفظ هو ردف المعنى الخاص، وتابعه قريب من لفظ المعنى الخاص قرب الرديف من الردف.
والمعنى في الآية: فيهن عفيفات قد قصرف عفتهن طرفهن على بعولتهن. وعدل عن المعنى الخاص إلى لفظ الأرداف؛ لأن كل من عف غض الطرف عن الطموح. فقد يمتد نظر الإنسان إلى شيء، وتشتهيه نفسه، ويعف عنه مع القدرة عليه لأمر آخر. وقصر طرف المرأة على بعلها أو قصر طرفها حياء وخفرًا، أو قصر عيني من ينظر إليهن عن النظر إلى غيرهن أمر رائد على العفة؛ لأنَّ من لا يطمح طرفها لغير بعلها، أو لا يطمح حياء وخفرًا: فإنها ضرورة تكون عفيفة. فكل قاصرة الطرف عفيفة، وليست كل عفيفة قاصرة الطرف. فلذلك عدل عن اللفظ الخاص إلى لفظ الإرداف.
ومنها: التنبيه المرسل المجمل في قوله: ﴿كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (٥٨)﴾ لذكر الأداة، وحذف وجه الشبه. وهو الصفاء والبياض.
ومنها: عطف الخاص على العام في قوله: ﴿فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (٦٨)﴾ إظهارًا لفضله، وميزته. فإن في فصلهما بالواو عن الفاكهة بيانًا لفضلها على سائر الفواكه، كما مرَّ. حتى كأنهما من المزيّة جنسان آخران، كقوله تعالى: ﴿وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾. ولكن اختلف هل هو من عطف الخاص على العام أو عطف ما تضمنه الأول عليه. والظاهر: أن الآية ليست من عطف الخاص على العام؛ لأن النكرة في سياق الإثبات لا تعم عمومًا شموليًّا.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
١ - ذكر تعليم القرآن، وخلق الإنسان، وتعليمه البيان.
٢ - ذكر جريان الشمس والقمر بحسبان، وسجود النجم والشجر خضوعًا له تعالى.
٣ - وضع الميزان، والأمر بإقامته، وعدم الإخسار فيه.
٤ - بسط الأرض للأنام مع خلق ضروب الفواكه، وأنواع الزروع فيها لهم.
٥ - بيان مادة خلق الإنسان، ومادة خلق الجان.
٦ - ذكر ما يتعلق بالبحرين.
٧ - ذكر فناء المخلوق، وبقاء الخالق.
٨ - ذكر احتياج من في السموات والأرض إليه وكونه سبحانه في تدبير شؤونهم.
٩ - أمر الثقلين بخروجهم من أقطار السموات والأرض أمر تعجيز.
١٠ - ذكر أحوال يرم القيامة، وبيان أحوال المجرمين فيه.
١١ - ذكر ما أعده للمقربين والأبرار من الثقلين مطعمًا، وملبسًا، ومنكحًا إلى آخر السورة. اللهم يا ذا الجلال والإكرام صل وسلم على من أرسلته رحمة للأنام سيدنا محمد، وآله، وصحبه الكرام ما تعاقبت الليالي والأيام صلاة وسلامًا متلازمين دائمًا بلا انصرام (١).
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
سورة الواقعة مكية، نزلت بعد طه في قول الحسن (١)، وعكرمة، وجابر، وعطاء، وقال ابن عباس، وقتادة: مكية إلا آية منها نزلت بالمدينة. وهي قوله تعالى: ﴿وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (٨٢)﴾. وقال الكلبيّ: إنها مكيّة، إلّا أربع آيات منها: ﴿أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (٨١) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (٨٢)﴾، وقوله: ﴿ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (٤٠)﴾.
وآيها: ست أو سبع وتسعون آية (٢). وكلماتها: ثلاث مئة وثمان وسبعون كلمة. وحروفها: ألف وسبع مئة وثلاثة أحرف.
مناسبتها لما تجلها من ثلاثة أوجه (٣):
١ - إنّ في كل منهما وصف القيامة، والجنة، والنار.
٢ - إنه ذكر في السورة السابقة عذاب المجرمين، ونعيم المتقين، وفاضل بين جنتي بعض المؤمنين، وجنتي بعض آخر منهم، وبين هنا انقسام المكلفين إذ ذاك إلى أصحاب ميمنة، وأصحاب مشئمة، وسابقين.
٣ - إنه ذكر في سورة الرحمن انشقاق السماء، وذكر هنا رج الأرض. فكأن السورتين لتلازمهما، واتحادهما موضوعًا سورة واحدة مع عكس في الترتيب. فقد ذكر في أول هذه ما في آخر تلك، وفي آخر هذه ما في أول تلك. وعبارة أبي حيان: مناسبة هذه السورة لما قبلها (٤): أنَّ ما قبلها تتضمن العذاب للمجرمين، والنعيم للمؤمنين، وفاضل بين جنتي بعض المؤمنين، وجنتي
(٢) الخازن.
(٣) المراغي.
(٤) البحر المحيط.
الناسخ والمنسوخ منها: أجمع (١) المفسّرون على أن لا ناسخ فيها، ولا منسوخ إلا قول مقاتل بن سليمان، فإنه قال نسخ منها قوله تعالى: ﴿ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (١٤)﴾، الآية (١٤) من الواقعة، نسخ بقوله تعالى: ﴿ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (٤٠)﴾ الآية (٤٠) من الواقعة.
واسمها: سورة الواقعة، سميت بها لذكر الواقعة فيها. وهو اسم من أسماء القيامة.
ومن فضائلها: ما أخرجه أبو يعلى، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: "من قرأ سورة الواقعة كل لية لم تصبه فاقة أبدًا". ومنها: ما أخرجه ابن عساكر عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله - ﷺ - قال: "سورة الواقعة سورة الغنى فاقرؤوها، وعلموها أولادكم". وأخرج الديلمي عن أن قال: قال رسول الله - ﷺ -: "علموا نساؤكم سورة الواقعة، فإنها سورة الغنى".
ومنها: ما روى هلال بن يساف عن مسروق قال: من أراد أن يعلم نبأ الأولين والأخرين، ونبأ أهل الجنة، ونبأ أهل النار، ونبأ أهل الدنيا، ونبأ أهل الآخرة فليقرأ سورة الواقعة.
ومنها: ما ذكر أبو عمر ابن عبد البر في "التمهيد" و"التعليق"، والثعلبيُّ أيضًا: أن عثمان دخل على ابن مسعود يعوده في مرضه الذي مات منه، فقال: ما تشتكي؟ قال: ذنوبي، قال: فما تشتهي؟ قال: رحمة ربي، قال: أفلا ندعو لك طبيبًا؟ قال: الطبيب أمرضني، قال: أفلا نأمر لك بعطائك؟ قال: لا حاجة لي فيه، حبسته عني في حياتي، وتدفعه عند مماتي. قال: يكون لبناتك من بعدك، قال: أتخشى على
وفي رواية أخرى: من داوم على قراءة سورة الواقعة لم يفتقر أبدًا. قال ابن عطية: فيها ذكر القيامة، وحظوظ الناس في الآخرة، وفهم ذلك غنى لا فقر معه، ومن فهمه يشتغل بالاستعداد للآخرة.
قال الغزالي رحمه الله تعالى في "منهاج العابدين": قراءة هذه السورة عند الشدّة في أمر الرزق والخصاصة شيء وردت به الأخبار المأثورة عن النبيّ - ﷺ -، وعن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، حتى ابن مسعود رضي الله عنه حين عوتب في أمر أولاده؛ إذ لم يترك لهم في الدنيا، قال: لقد خلفت لهم سورة الواقعة.
فإن قلت: إرادة متاع الدنيا بعمل الآخرة لا تصح.
قلت: مراده أن يرزقهم الله تعالى قناعة أو قوة يكون لهم عدة على عبادة الله تعالى، وقوّة على درس العلم. وهذا من جملة إرادة الخير دون الدنيا فلا رياء، انتهى كلامه.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (١) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (٢) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (٣) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (٤) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (٥) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (٦) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (٧) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (٨) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (٩) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (١٢) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (١٤) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (١٥) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (١٦) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (١٧) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (١٨) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (١٩) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (٢٠) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢١) وَحُورٌ عِينٌ (٢٢) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (٢٣) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (٢٥) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (٢٦) وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (٢٧) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (٢٨) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (٢٩) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (٣٠) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (٣١) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (٣٢) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (٣٣) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (٣٤) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (٣٥) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (٣٦) عُرُبًا أَتْرَابًا (٣٧) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (٣٨) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (٤٠) وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (٤١) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (٤٢) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (٤٣) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (٤٤) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (٤٥) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (٤٦) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٤٧) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (٤٨) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (٤٩) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٥٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (٥١) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (٥٢) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٥٣) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (٥٤) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (٥٥) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (٥٦)﴾.المناسبة
بدأ سبحانه هذه السورة بأنه حين تقع الواقعة، ويجيء يوم القيامة لا تكذب نفس على الله، فتنكره. إذ تحقق بالمعاينة، وشهده كل احد. أمّا في الدنيا فما أكثر النفوس المكذّبة المنكرة له؛ لأنهم لم يذوقوا العذاب كما عاينه المعذبون في الآخرة.
ثم وصف هذه الواقعة بأنها تخفض أقوامًا، وترفع آخرين، وأن الأرض حينئذٍ
قوله تعالى: ﴿ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (١٤)...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنَّ الله سبحانه لما ذكر (١) أنَّ الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف: سابقون، وأصحاب ميمنة، وأصحاب مشأمة.. أعقب ذلك بذكر ما يتمتع به السابقون من النعيم في فرشهم، وطعامهم، وشرابهم، ونسائهم، وأحاديثهم التي تدل على صفاء النفس، وأدب الخلق، وسمو العقل.
قوله تعالى: ﴿وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (٢٧)...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنَّ الله سبحانه لما ذكر حال السابقين، وبين ما لهم من نعيم مقيم في جنّات النعيم.. أردف ذلك بذكر حال أصحاب اليمين، فبين أنهم في جنات يتخللها السدر المخضود، والموز المنضد بعضه فوق بمعنى، والفاكهة الكثيرة التي لا تنقطع أبدًا، ولا تمتنع عنهم متى شاؤوا، وفيها فرش وثيرة مرتفعة عالية، ونساء حسان أبكار في سن واحدة.
قوله تعالى: ﴿وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنَّ الله سبحانه لما ذكر زوجين من الأزواج الثلاثة، وبين ما يلقاه كل منهم من عز مقيم وشرف عظيم في جنات ونعيم، في جملة شؤونهم في مآكلهم، ومشاربهم، وفرشهم، وأزواجهم.. أردف ذلك بذكر الزوج الثالث، وبين ما يلقاه من النكال، والوبال، وسوء الحال. فهو يتلظى في السموم، ويشرب ماء كالمهل يشوي الوجوه، ثم أعقبه بذكر السبب في هذا بأنهم كانوا في دنياهم مترفين غارقين في ذنوبهم، منكرين هذا اليوم يوم الجزاء. ثم أمره أن يخبرهم بأن هذا اليوم واقع حتمًا، وأن مأكلهم سيكون من شجر الزقوم، يملؤون منه البطون، ثم يشربون؛ ولا يرتوون كالإبل الهيم. وهذا ما أعد لهم من كرم وحسن وفادة في هذا اليوم.