تفسير سورة الحشر

كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل
تفسير سورة سورة الحشر من كتاب كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل .
لمؤلفه أبو بكر الحداد اليمني . المتوفي سنة 800 هـ

﴿ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ ﴾؛ ظاهرُ المعنى.
قَولُهُ تَعَالَى: ﴿ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَخْرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ ٱلْحَشْرِ ﴾؛ قال المفسِّرون:" نزَلت هذه الآيةُ والسُّورة بأَسرِها في بني النَّضير واليهودِ، وعاهدوهُ أن لا يكُونوا معَهُ ولا عليهِ، لا يُقاتِلون معه ولا يقاتلونَهُ، فكانوا على ذلكَ حتى كانت وقعةُ أحُدٍ، فأصابَتِ المسلمين يومئذٍ نَكْبَةٌ، فنقَضُوا العهدَ، ورَكِبَ كعبُ ابن الأشرَفِ في أربَعين راكباً إلى مكَّة، فأتَوا قُريشاً فطلَبُوا إلى أبي سُفيان وأصحابهِ فحالَفُوهم وعاقَدُوهم بين الكعبةِ والأستار على حرب النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأنَّ كلمَتَهم واحدةٌ. ثم رجعَ كعبُ بن الأشرف وأصحابهُ إلى المدينةِ. فنَزل جبريلُ عليه السلام على النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأخبرَهُ بأمرِهم وقال له: " إنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ بقَتْلِ كَعْب بْنِ الأَشْرَفِ " فَجَمَعَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أصْحَابَهُ وَأخْبَرَهُمْ بمَا صَنَعَ كَعْبُ بْنُ الأَشْرَفِ وَقَالَ لَهُمْ: " إنَّ اللهَ أمَرَنِي بقَتْلِهِ، فَانْتَدِبُوا إلَى ذلِكَ ". فَانْتَدَبَ رَهْطٌ مِنْهُمْ وَفِيْهِمْ مُحَمَّدُ بْنُ مَسلَمَةَ، وَكَانَ أخَا كَعْبٍ مِنَ الرِّضَاعَةِ وَحَلِيفَهُ، فَانْطَلَقُوا فِي أوَّلِ اللَّيْلِ إلَى دَار كَعْبٍ، فَنَادَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فَاسْتَنْزَلَهُ مِنْ دَارهِ، وَأوْهَمَهُ أنَّهُ يُكَلِّمُهُ فِي حَاجَةٍ، فَلَمَّا نَزَلَ أخَذ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ بنَاصِيَتِهِ وَكَبَّرَ، فَخَرَجَ أصْحَابُهُ وَكَانُواْ مِنْ وَرَاءِ الْحَائِطِ، فَضَرَبُوهُ حَتَّى بَرُدَ مَكَانُهُ، فَصَاحَتْ امْرَأتهُ وَتَصَايَحَتِ الْيَهُودُ، فَخَرَجُوا إلَيْهِمْ وَقَدْ رَجَعَ الْمُسْلِمُونَ. فَجَاءَ الْمُسْلِمُونَ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأخْبَرُوهُ بذلِكَ، فَلَمَّا أصْبَحَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ إلَيْهِمْ غَازياً، فَتَحَصَّنُوا فِي دُورهِمْ فَوَجَدَهُمْ فِي قَرْيَةٍ لَهُمْ يُقَالُ لَهَا (زَهْوَةُ) وَهُمْ ينُوحُونَ عَلَى كَعْبٍ وَكَانَ سَيِّدَهُمْ، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ؛ بَاغِيَةٌ عَلَى إثْرِ نَاعِيَةٍ، وَبَاكِيَةٌ عَلَى إثْرِ بَاكيَةٍ؟ قَالَ: " نَعَمْ " قَالُوا: ذرْنَا نَبْكِي شَجْواً عَلَى كَعْبٍ. وَقَدْ كَانَ عَبْدُاللهِ بْنُ أبي سَلُولٍ الْمُنَافِقُ وَأصْحَابُهُ أمَرَ إلَى الْيَهُودِ سِرّاً بأَنْ لاَ تَخْرُجُوا مِنَ الْحِصْنِ، وَقَاتِلُواْ مُحَمَّداً وَأصْحَابَهُ، فَإنْ قَاتَلُوكُمْ فَنَحْنُ مَعَكُمْ وَلاَ نُخْذُلُكُمْ وَلَنَنْصُرَنَّكُمْ، وَلَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ. فَدَرَبُواْ عَلَى الأَزقَّةِ وَحَصَّنُوهَا، فَحَاصَرَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إحْدَى وَعِشْرِينَ لَيْلَةً. فَلَمَّا عَجَزُوا عَنْ مُقَاوَمَةِ الْمُسْلِمِينَ وَآيَسُوا مِنْ نَصْرِ الْمُنَافِقِينَ لَهُمْ طَلَبُوا الصُّلْحَ، فَأَبَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلاَّ أنْ يَخْرُجُواْ مِنْ مَدِينَتِهِمْ عَلَى مَا يَأْمُرُهُمْ بهِ، فَقَبلُوا ذلِكَ، فَصَالَحَهُمْ عَلَى الْجَلاَءِ، وَعَلَى أنْ يَحْمِلَ كُلُّ أهْلِ ثَلاَثَةِ أبْيَاتٍ مِنْ مَتَاعِهِمْ عَلَى بَعِيرٍ وَاحِدٍ مَا شَاءَ، وَلِنَبيِّ اللهِ مَا بَقِيَ، وَيَخْرُجُوا، إلَى الشَّامِ، فَفَعَلُوا ذلِكَ وَخَرَجُواْ إلَى الشَّامِ إلَى أذْرُعَاتٍ وَأريحَا وَالْحِيرَةَ وَخَيْبَرَ. فذلكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَخْرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ ﴾ "يعني بني النَّضير من ديارهم التي كانت بيَثرِبَ وحصونِهم. قال ابنُ اسحاق: (كَانَ إجْلاَءُ بَنِي النَّضِيرِ عِنْدَ مَرْجِعِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أُحُدٍ، وَكَانَ فَتْحُ قُرَيْظَةَ عِنْدَ مَرْجِعِهِ مِنَ الأَحْزَاب، وَبَيْنَهُمَا سَنَتَانِ). قَولهُ: ﴿ لأَوَّلِ ٱلْحَشْرِ ﴾ معناهُ: هو الذي أخرجَ هؤلاءِ اليهود من منازلهم وحصونِهم لأوَّلِ جمعٍ أُجْلُوا من جزيرةِ العرب وهي أرضُ الحجاز حُشِرُوا إلى الشامِ، وذلكَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ لَهم يومئذٍ: " اخْرُجُوا " قَالُوا إلَى أيْنَ؟ قَالَ: " إلَى الْمَحْشَرِ " فَخَرَجُوا إلَى أذْرُعَاتٍ وَأريْحَا مِنَ الشَّامِ. وأمَّا ثاني الحشرُ فهو أن يُحشَرَ الخلائقُ يومَ القيامةِ إلى أرضِ الشَّام أيضاً. ويقالُ: إنما قالَ ﴿ لأَوَّلِ ٱلْحَشْرِ ﴾ لأنَّ الحشرَ أربعةٌ: حشرُ بني النَّضِير أوَّلاً، ثم حشرُ خَيبر، ثم أهلُ نَجران، ثم حشرُ جميعِ أهلِ الكتاب من جزيرةِ العرب في خلافة عُمر رضي الله عنه على ما رُوي: أنَّهُ أجْلاَهُمْ مِنْهَا، وَقَالَ: (عَهِدَ إلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنْ لاَ يَجْتَمِعَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَب دِينَانِ). قَوْلُهُ تَعَالى: ﴿ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ ﴾؛ أي ما ظَننتُم أيُّها المؤمنون أن يخرجَ بنُو النضير من منازلهم لشدَّة تَمكُّنِهم وقوَّتِهم بالأموالِ والمنَعَةِ، وذلك أنهم كانوا أهلَ حصُونٍ وعقارٍ ونخيل كثيرة وسلاح. قولهُ: ﴿ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ ٱللَّهِ ﴾؛ وظنَّ بنو النضيرِ أنَّ حُصونَهم تَمنَعُهم من اللهِ؛ أي من أمرِ الله فيهم.
﴿ فَأَتَاهُمُ ٱللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ ﴾؛ أي فأَتَاهم أمرُ اللهِ من حيث لم يظُنُّوا أن ينْزِل بهم ما نزلَ من قتلِ كعب ابن الأشرف وقَتلِهم وإجلائِهم ونصرِ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم من حيث لم يتوهَّمَ القومُ.
﴿ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ ﴾؛ بقتلِ سيِّدِهم كعبَ بن الأشرف، وكان ذلك أعظمُ شيءٍ عليهم إذ أتاهم ما لم يظُنُّوه. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾؛ وذلك أنَّهم لَمَّا أيقَنُوا بالجلاءِ حَسَدُوا المسلمين أن يَسكُنوا منازلَهم، فجعلوا يُخَرِّبونَها من داخلِ، والمسلمون يُخرِّبونَها من خارجِ. وَقِيْلَ: إنَّهم كانوا يَهدِمُونَها من داخلِ بأيديهم ليَرمُوا المسلمين بأحجَارها، ويَهدِمُها المؤمنون ليتمَكنَّوا من قتالِهم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَٱعْتَبِرُواْ يٰأُوْلِي ٱلأَبْصَارِ ﴾؛ معناه: فَليَعتَبرْ بما أصابَ بني النضير كلُّ مَن له بصرٌ بأمرِ الله، ولينظر إلى عاقبةِ الكُفرِ والغدر والطَّعنِ في النبُوَّة، وليحذرْ كلُّ قومٍ من الكفَّار مثلَ صنيعِ بني النضير. والمعنى: تدبَّرُوا وانظروا فيما صنع، نزلَ بهم يا أهلَ البيتِ والعقل والبصائرِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ ﴾، قرأ العامَّة بالتخفيفِ من الإخْرَاب؛ أي يَهِدِمُونَها، وقرأ الحسنُ وأبو عمرٍو (يُخَرِّبُونَ) بالتشديد من التَّخريب، قال أبو عمرٍو: وإنما اخترتُ التشديدَ؛ لأنَّ الإخرابَ تركُ الشيءِ خَراباً بغيرِ ساكنٍ، وبنو النضير لم يترُكوا منازلَهم فيرتَحِلُوا عنها، ولكنَّهم خرَّبُوهَا بالنقض والهدمِ. وقال بعضُهم: التخريبُ والإخرابُ بمعنى، قال الزهريُّ: (وَذلِكَ أنَّهُمْ لَمَّا أيْقَنُوا بالْخُرُوجِ كَانُوا يَهْدِمُونَ أعْمِدَةَ بُيُوتِهِمْ وَيَنْتَزِعُونَ الْخَشَبَ وَالاَلاَتِ وَيَنْقُضُونَ السُّقُوفَ وَيَنْقُبُونَ الْجِدَارَاتِ وَيَقْتَلِعُونَ الْخَشَبَ حَتَّى الأَوْتَادَ لِئَلاَّ يَسْكُنَهَا الْمُسْلِمُونَ حَسَداً وَبَغْضَاءً، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُخَرِّبُونَ مَا بَقِيَ مِنْ بنَائِهِمْ). وقولهُ تعالى: ﴿ وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمُ ٱلْجَلاَءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا ﴾؛ معناهُ: لولا أنْ قضَى اللهُ عليهم في اللَّوح المحفوظِ بالانتقال والخروجِ من أوطانِهم إلى الشَّام وخيبرَ لعَذبَهم في الدُّنيا بالقتلِ والسَّبي كما فعلَ ببني قُريظة.
﴿ وَلَهُمْ ﴾؛ مع ما أصابَهم في الدُّنيا.
﴿ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابُ ٱلنَّارِ ﴾؛ ولكنْ عَلِمَ اللهُ أن الجلاءَ أصلحُ. وقولهُ تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾؛ أي ذلكَ الجلاءُ والعذابُ بأنَّهم خالَفُوا أولياءَ اللهِ وأخذُوا في شِقٍّ غيرِ شِقِّ أولياءِ الله ورسولهِ.
﴿ وَمَن يُشَآقِّ ٱللَّهَ ﴾؛ ومَن يخالفِ اللهَ ورسولَهُ في الدِّين ففَعَلَ فِعْلَ هؤلاءِ.
﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ ﴾؛ له في الدُّنيا والآخرةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً عَلَىٰ أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ ٱللَّهِ ﴾؛ وذلك أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا نَزَلَ ببَنِي النَّضِير وَتَحَصَّنُوا فِي حُصُونِهِمْ، أمَرَ بقَطْعِ نَخِيلِهِمْ وَإحْرَاقِهَا، فَقَالَتِ الْيَهُودُ: مَا بُعِثَ نَبيٌّ إلاَّ بالصَّلاحِ، وَلَيْسَ فِي هَذا إلاَّ إفْسَادُ الْمَعِيشَةِ عَلَيْنَا وَعَلَيْهِمْ، وَقَالُواْ: يَا مُحَمَّدُ إنَّكَ تُرِيدُ الصَّلاَحَ، أفَمِنَ الصَّلاحِ قَطْعُ النَّخِيلِ وَالأَشْجَار؟ وَهَلْ وَجَدْتَ فِيمَا زَعَمْتَ أنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ. فَشُقَّ ذلِكَ عَلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَوَجَدَ الْمُسْلِمُونَ فِي أنْفُسِهِمْ مِنْ ذلِكَ مَشَقَّةً، وَكَانَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ يُمْعِنُونَ فِي قَطْعِ النَّخْلِ، وَبَعْضُهُمْ يَنْهَى عَنْ ذلِكَ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ تَصْدِيْقاً لِلَّذِينَ نَهَوا عَنْ قَطْعِ النَّخِيلِ وَتَحْلِيْلاً لِمَنْ قَطَعَهُ، وَبَرَاءَةً لَهُمْ مِنَ الإثمِ وَتَصْوِيْباً لِلْفَرِيقَيْنِ، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿ مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً عَلَىٰ أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ ٱللَّهِ ﴾ بيَّن أنَّ ما قُطِعَ منها قُطِعَ بإذنِ الله، وما تُرِكَ منها بإذنِ الله. واللِّينَةُ هي النَّخلَةُ، قال ابنُ عبَّاس وقتادةُ: (اللِّينَةُ هِيَ كُلُّ نَخْلَةٍ مَا لَمْ تَكُنْ عَجْوَةً)، وَقِيْلَ: اللِّينَةُ: مَا خَلاَ العجوةَ والبرني وجمعه لِيَانٌ، ورُوي:" أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْطَعُ نَخِيلَهُمْ إلاَّ الْعَجْوَةَ "قال عكرمةُ: (وَالنَّخْلُ كُلُّهُ لِيَانٌ مَا خَلاَ الْعَجْوَةَ)، وقال سفيانُ: (اللَّينَةُ هِيَ كِرَامُ النَّخْلِ). وقال مقاتلُ: (هُوَ ضَرْبٌ مِنَ النَّخْلِ ثَمَرُهَا شَدِيدُ الصُّفْرَةِ يَغِيبُ فِيْهِ الضِّرْسُ عِنْدَ أكْلِهِ، وَكَانَ مِنْ أجْوَدِ ثَمَرِهِمْ وَأعْجَبهِ إلَيْهِمْ)، والعربُ تُسمِّي النخلَ كُله لِيَانٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلِيُخْزِيَ ٱلْفَاسِقِينَ ﴾؛ معناهُ: ولِيُهِينَ اللهُ ويُذِلَّ اليهودَ ويُخْزِيَهُمْ بأن يُرِيَهم أموالَهم يتحكَّمُ فيها المؤمنون كيف أحَبُّوا لأنَّهم نقَضُوا العهدَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ ﴾؛ معناهُ: وما ردَّ اللهُ على رسولهِ من غنائمِ بني النضيرِ، فمِمَّا لم تُوجِفُوا عليه أنتم خيلاً ولا ركَاباً ولكن مَشَيتُم إليه مَشياً؛ لأن ذلك كان قَريباً من المدينةِ؛ أي لم يحصُلْ ذلك بقتَالِكم، فلا شيءَ لكم مِن ذلك.
﴿ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾؛ إنما كان ذلك بتسليطِ الله تعالى نَبيَّهُ صلى الله عليه وسلم، واللهُ يُمَكِّنُ رُسُلَهُ صلواتُ الله عليهم من أعدائهِ بغيرِ قتالٍ، واللهُ على كلِّ شيءٍ من النَّصرِ والغنيمةِ قادرٌ. والضميرُ في قوله ﴿ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ ﴾ أي على ما أفاءَ اللهُ، والإيجافُ الإسراعُ والإزعاجُ للسَّير، يقالُ: أوجفَ السَّيرَ، وأوْجَفْتُهُ أنَا، والوَجِيفُ: نوعٌ من السَّيرِ فوق التَّقريب، ويقال: وَجَفَ الفرسُ والبعير يَجِفُ وَجْفاً إذا أسرعَ السَّيرَ، وأوْجَفَهُ صاحبهُ إذا حملَهُ على السَّير السريعِ. ومعنى الآية: ﴿ وَمَآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ ﴾ من مالِ بني النَّضيرِ ﴿ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ ﴾ أي فما وضَعتُم عليه من خيلٍ ولا إبل ولم تنَالُوا فيه مشقَّةً ولم تلقَوا حَرباً وإنما مَشَيتُم إليه مَشْياً، إلاَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم فإنه رَكِبَ جَملاً فافتَتَحها النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأجْلاَهُم وأخذ أموالَهم. فسألَ المسلمون النبيَّ صلى الله عليه وسلم في القِسْمَةِ في تلك الأموالِ، فأنزلَ اللهُ تعالى هذه الآيةَ، فجعلَ أموالَ بني النضير خاصَّة لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يضعُها حيث يشاء، فقسَمَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرِين ولم يُعْطِ الأنصارَ منها شيئاً، إلاَّ ثَلاثةَ نفرٍ كانت لهم حاجةٌ، وهم: أبُو دُجَانَةَ؛ وسَهلُ بن حنيف؛ والحارثُ بن الصِّمَّةِ. وعن عمرَ رضي الله عنه: (أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُنْفِقُ عَلَى أهْلِهِ مِنْ مَالِ بَنِي النَّضِيرِ نَفَقَةَ سَنَةٍ، وَمَا بَقِيَ جَعَلَهُ فِي الْكِرَاعِ وَالسِّلاَحِ عُدَّةً فِي سَبيلِ الله؛ لأَنَّهُ مِمَّا أفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ، وَلَمْ يُوجِفِ الْمُسْلِمُونَ بخَيْلٍ وَلاَ ركَابٍ، فَكَانَ خَالِصاً لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم). وأرادَ بهذا ما كان يحصلُ من غُلَّةِ أراضِيهم في كلِّ سنةٍ. وفي هذه الآيةِ دلالةٌ على أنَّ كلَّ مالٍ من أموالِ أهلِ الشِّرك لم يغلِبْ عليه المسلمون عُنوَةً وإنما أُخِذ صُلْحاً أنْ يُوضَعَ في بيتِ مالِ المسلمين ويُصرَفَ إلى الوجُوهِ التي تُصرَفُ فيها الجزيةُ والْخَرَاجُ؛ لأن ذلك بمنْزِلَة أموالِ بني النضيرِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ ﴾؛ اختلفَ أهلُ اللغة في الفَيْءِ ما هُوَ؟ فقالَ بعضُهم: هو مما مَلَّكَهُ اللهُ المسلمين من أموالِ المشرِكين بغيرِ قتالٍ أو بقتالٍ، فالغنيمةُ فَيْءٌ والخراجُ فَيْءٌ. قال بعضُهم: الْغَنِيمَةُ اسمٌ لِمَا أخذهُ المسلمون من الكفَّار عُنوةً وقهراً، والفَيْءُ ما صالَحُوا عليهِ، فبيَّن اللهُ تعالى في هذه الآيةِ حُكمَ الفيءِ، فقالَ تعالى: ﴿ مَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ ﴾ أي من غنائمِ قُرَى المدنيةِ في قريظةَ وبني النضير وفدَكٍ، فإنَّ ذلك خاصَّة للنبيِّ صلى الله عليه وسلم دون الغانِمين، وكان أمرُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في ذلك جَائزاً، فكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يصرِفُها بأمرِ الله تعالى إلى قرائب نفسه وفُقراءِ قَرَابَتهِ ويتامَى الناسِ عامَّة والمساكين عامَّة، يعني المحتاجِين وأبناءِ السَّبيل والفُقَراء المهاجرِين. واختلفَ العلماءُ في حُكمِ هذه الآيةِ، فقالَ بعضُهم: أرادَ بقولهِ ﴿ مَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ ﴾ الغنائمَ التي يأخذُها المسلمون من أموالِ الكفَّار عُنوةً وغَلبةً، وكانت في بدءِ الإسلام لعامة الغانِمين المسلمين دون الغانِمين الْمُوجِفين عليها، ثم نَسَخَ اللهُ ذلك بقولهِ تعالى في سورة الأنفال﴿ وَٱعْلَمُوۤا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ ﴾[الأنفال: ٤١] والآيةُ التي قبلَ هذه الآية في بيانِ حُكم أموالِ بني النضير خاصَّة، وهذه الآيةُ في بيان حُكمِ جلب الأموال التي أُصيبت بغيرِ قتالٍ ولم يوجَفْ عليها بالخيلِ والجمالِ. وقال آخَرُون: هما واحدٌ، والثانيةُ بيان قسمِ المالِ الذي ذكر اللهُ تعالى في هذه الآيةِ الأُولى، والغنائمُ كانت في بدءِ الإسلام لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم يصنَعُ بها ما يشاءُ، كما قال تعالى﴿ قُلِ ٱلأَنفَالُ للَّهِ وَٱلرَّسُولِ ﴾[الأنفال: ١] ثم نُسِخَ ذلك بقوله﴿ وَٱعْلَمُوۤا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ ﴾[الأنفال: ٤١] الآيةُ، فجَعَلَ أربعةَ أخماسِها للغانِمين يُقسَمُ بينهم، وأما الْخُمْسُ الباقي فيقسمهُ على خمسةِ أسهُمٍ: سهمٌ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وسهمٌ لذوي القُربَى، وسهمٌ لليتَامَى، وسهمٌ للمساكين، وسهمٌ لبني السَّبيلَ. وقولهُ تعالى: ﴿ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ ٱلأَغْنِيَآءِ مِنكُم ﴾؛ معناه: كَي لا يكون الفَيءُ مُتدَاولاً بين الأغنياءِ منكم، والفرقُ بين الدُّولَةِ والدَّوْلَةِ بفتحِ الدال عبارةٌ عن المدَّة من الاستيلاءِ والغَلبَةِ، والدُّولَةُ اسمٌ للشيءِ المتداوَل، والمعنى: كي لا يتداولهُ الأغنياءُ منكم، يكون لِهذا مرَّة ولهذا مرة، كما يُعمَلُ في الجاهليَّة، وكانوا إذا أخَذُوا غنيمةً أخذ الرئيسُ رُبعَها وهو الرِّبَاعُ، والأغنياءُ والرُّؤساء، وقال مقاتل: (كَيْ لاَ يَغْلِبَ الأَغْنِيَاءُ الْفُقَرَاءَ فَيَقْسِمُونَهُ بَيْنَهُمْ). ثُم قالَ: ﴿ وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ ﴾؛ من الفَيءِ والغنيمةِ.
﴿ فَخُذُوهُ ﴾؛ فهو حلالٌ لكم.
﴿ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ ﴾؛ أي عن أخذهِ.
﴿ فَٱنتَهُواْ ﴾؛ وهذا نازلٌ في أمرِ الفيءِ، ثم هو عامٌّ في كلِّ ما أمَرَ اللهُ به النبيَّ صلى الله عليه وسلم ونَهى عنه، قال الحسنُ في قولهِ: ﴿ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ ﴾: (يَعْنِي مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ مِنَ الْغَلُولِ). وقولهُ تعالى: ﴿ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾؛ معناهُ: اتَّقوا عذابَ اللهِ.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ ﴾؛ إذا عاقبَ فعقوبتهُ شديدةٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ﴾؛ معناه: كَي لا يكون دُولَةً بين الأغنياءِ، ولكن يكون للفُقراء المهاجرين الذين أُخرِجُوا من ديارهم، يعني أنَّ كفارَ مكَّةَ أخرَجُوهم.
﴿ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ ﴾؛ أي رزْقاً يأتيهم.
﴿ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾؛ رضَى ربهم حين خرَجُوا إلى دار الهجرة ينصرون الله ورسوله.
﴿ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ ﴾؛ في إيمانِهم. والمعنى بقوله ﴿ لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ ﴾ بيانُ المحتاجِين المذكورين في الآيةِ التي قبلَ هذه الآيةِ، كأنَّهُ قال: لهؤلاءِ الفقراء المحتاجِين ما تقدَّمَ ذِكرهُ من الفَيءِ، وكانوا نحواً من مائةِ رجُلٍ، وكانوا شَهِدُوا بَدراً أجمعين، ولذلك أثْنَى اللهُ عليهم بقوله ﴿ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً ﴾ أي يطلُبون بتلك الهجرةِ ثوابَ الله ورضوانَهُ، وينصُرون بالسِّيف والجهادِ أولياءَ اللهِ وأولياءَ رسُولهِ.
﴿ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ ﴾ في الإيمان وطلب الثَّواب.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُوا ٱلدَّارَ وَٱلإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ ﴾؛ قال الكلبيُّ: ( ﴿ وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُوا ٱلدَّارَ ﴾ مُبْتَدَأ، وَخَبَرُهُ ﴿ يُحِبُّونَ ﴾ ). وَهَذا ثناءٌ على الأنصار،" وذلك أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أعْطَى الْمُهَاجِرِينَ مَا قَسَمَ لَهُمْ مِنْ فَيْءِ بَنِي النَّضِيرِ لَمْ يَأْمَنْ عَلَى غَيْرِهِمْ أنْ يَحْسِدَهُمْ إذْ لَمْ يَقْسِمْ لَهُمْ. فَقَالَ لِلأَنْصَار: " إنْ شِئْتُمْ قَسَمْتُمْ لَهُمْ مِنْ دُوركُمْ وَأمْوَالِكُمْ، وَقَسَمْتُ لَكُمْ مَا قَسَمْتُ لَهُمْ، وَإمَّا أنْ يَكُونَ لَهُمُ الْقَسْمُ وَلَكُمْ دِيَارُكُمْ وَأمْوَالُكُمْ " فَقَالُواْ: لاَ؛ بَلْ نَقْسِمُ لَهُمْ مِنْ دِيَارنَا وَأمْوَالِنَا وَلاَ نُشَاركُهُمْ فِي قَسْمِهِمْ. فَأَثْنَى اللهُ تعالَى عليهم بهذه الآيةِ ". والمعنى: لَزِمُوا دارَ الهجرةِ ولَزِمُوا الإيمانَ من قبلِ هجرةِ المهاجرِين ووَطَنُوا منازلَ أنفُسِهم، فهم يحبُّون مَن هاجرَ إليهم من مكَّة من أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
﴿ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً ﴾؛ ضِيقاً وحسَداً.
﴿ مِّمَّآ أُوتُواْ ﴾؛ مما أُعطِيَ المهاجرين من الغنائِم. ومعنى الآيةِ: ﴿ وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُوا ٱلدَّارَ ﴾ يعني المدينةَ، وهي دارُ الهجرةِ، وتبَوَّأها الأنصارُ قبلَ المهاجرِين. وتقديرُ الآية: والَّذين تَبوَّءوا الدارَ مِن قبلِهم والإيمانَ؛ لأن الأنصارَ لم يُؤمِنوا قبلَ المهاجرِين، وعطفُ (الإيْمَانَ) على (الدَّارَ) في الظاهرِ لا في المعنى؛ لأنَّ الإيمان ليس بمكانِ تَبَوَّءٍ. والتقديرُ: وآثَرُوا الإيمانَ واعتقَدُوا الإيمانَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾؛ معناهُ: ويُؤثِرُون المهاجرِين على أنفُسِهم بأموالِهم ومنازلهم، ولو كان بهم فقرٌ وحاجة إلى الدار والنَّفقةِ، بيَّن اللهُ أن إيثارَهم لم يكن عن غِنًى عن المالِ ولكن عن حاجةٍ، فكان ذلك أعظمَ لأجرِهم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:" جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إنِّي جَائِعٌ فَأَطْعِمْنِي؟ فَبَعَثَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إلَى أحَدِ أزْوَاجِهِ: " هَلْ عِنْدَكُنَّ شَيْءٌ؟ " فَكُلُّهُنَّ قُلْنَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بالْحَقِّ مَا عِنْدَنَا إلاَّ الْمَاءُ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " مَا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَا يُطْعِمُكَ هَذِهِ اللَّيْلَةَ " ثُمَّ قَالَ: " مَنْ يُضِيفُ هَذا هَذِهِ اللَّيْلَةَ رَحِمَهُ اللهُ؟ ". فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: أنَا يَا رَسُولَ اللهِ، - قالَ في صحيحِ مُسلم: هُوَ أبُو طَلْحَةَ، وَقِيْلَ: أبُو أيُّوبٍ، والضَّيْفُ أبُو هريرةَ - فَمَضَى بهِ إلَى مَنْزِلِهِ، فَقَالَ لأَهْلِهِ: هَذا ضيْفُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَكْرِمِيهِ وَلاَ تَدَّخِرِي عَنْهُ شَيْئاً، فَقَالَتْ: مَا عِنْدَنَا إلاَّ قُوتُ الصِّبْيَةِ، قَالَ: قُومِي فَعَلِّلِيهِمْ عَنْ قُوتِهِمْ حَتَّى يَنَامُوا، ثُمَّ أسْرِجِي وَأحْضِرِي الطَّعَامَ، فَإذا قَامَ الضَّيْفُ لِيَأْكُلَ قُومِي كَأَنَّكِ تُصْلِحِينَ السِّرَاجَ فَأَطْفِئِيهِ، وَتَعَالَي نَمْضُغْ الْسِنَتَنَا لِضَيْفِ رسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى يَشْبَعَ. فَقَامَتْ إلَى الصِّبْيَةِ فَعَلَّلَتْهُمْ حَتَّى نَامُوا وَلَمْ يَطْعَمُوا شَيْئاً، ثُمَّ قَامَتْ فَأَسْرَجَتْ، فَلَمَّا أخَذ الضَّيْفُ لِيَأْكُلَ قَامَتْ كَأَنَّهَا تُصْلِحُ السِّرَاجَ فَأَطْفَأَتْهُ، وَجَعَلاَ يَمْضُغَانِ ألْسِنَتَهُمَا، فَظَنَّ الضَّيْفُ أنَّهُمَا يَأْكُلاَنِ مَعَهَُ، فَأَكَلَ الضَّيْفُ حَتَّى شَبعَ، وَبَاتَا طَوِيَّيْنِ. فَلَمَّا أصْبَحَا غَدَوا إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا نَظَرَ إلَيْهِمَا تَبَسَّمَ ثُمَّ قَالَ: " لَقَدْ عَجِبَ اللهُ مِنْ فُلاَنٍ وَفُلاَنَةٍ هَذِهِ اللَّيْلَةَ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ ﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾ ". وقال أنسٌ رضي لله عنه: (أُهْدِيَ لِبَعْضِ الصَّحَابَةِ رَأسَ شَاةٍ مَشْوِيَّةٍ وَكَانَ مَجْهُوداً، فَقَالَ: لَعَلَّ جَاري أحْوَجُ إلَيْهِ مِنِّي، فَبَعَثَ بهِ إلَيْهِ، ثُمَّ إنَّ جَارَهُ قَالَ مِثْلَ ذلِكَ، فَوَجَّهَ بهِ إلَى جَارٍ لَهُ، فَتَدَاوَلَهُ تِسْعَةُ أنْفُسٍ حَتَّى رَجَعَ إلَى الأَوَّلِ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾ ). ويُحكى عن أبي الحسنِ الأنطاكيِّ: أنه اجتمعَ عندَهُ نَيِّفٌ وثلاثون رجُلاً بقريةٍ من قُرى الريِّ ومعَهم أرغفةٌ قليلة لم تُشبعْ جوعَتَهم، فكسَّروا الرِّغفَانَ وأطفَأُوا السِّراجَ وجلَسُوا ليأكلُوا، فلمَّا رفعَ فإذا الطعامُ بحالهِ لم يأكُلْ منه أحدٌ إيْثَاراً لصاحبهِ على نفسهِ. ويُحكى عن حذيفةَ العدويِّ قال: (انْطَلَقْتُ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ أطْلُبُ ابْنَ عَمٍّ لِي وَمَعِي شَيْءٌ مِنْ مَاءٍ، فَإذا أنَا بهِ فَقُلْتُ: أسْقِيكَ؟ فَأَشَارَ: أيْ نَعَمْ، فَإذا رَجُلٌ يَقُولُ: آهٍ، فَأَشَارَ ابْنُ عَمِّي أنْ انْطَلِقَ بهِ إلَيْهِ، فَإذا هُوَ هِشَامُ بْنُ الْعَاصِ، فَقُلْتُ: أسْقِيكَ؟ فَسَمِعَ آخَرَ يَقُولُ: آهٍ، فَأَشَارَ هِشَامُ: أنِ انْطَلِقْ بهِ إلَيْهِ، فَإذا هو قَدْ مَاتَ، ثُمَّ رَجَعْتُ إلَى هِشَامٍ فَإذا هُوَ قَدْ مَاتَ، ثُمَّ رَجَعْتُ إلَى ابْنِ عَمِّي فَإذا هُوَ قَدْ مَاتَ). ويحكى عن أبي يزيدٍ البسطاميِّ قال: " مَا غَلَبَنِي إلاَّ شَابٌّ مِنْ أهْلِ بَلَخٍ قَدِمَ عَلَيْنَا حَاجّاً، فَقَالََ لِي: يَا أبَا يَزِيدٍ مَا حَدُّ الزُّهْدِ عِنْدَكُمْ؟ قُلْتُ: إذا وَجَدْنَا أكَلْنَا، وَإذا فَقَدَْنَا صَبَرْنَا. قَالَ: هَكَذا عِنْدَنَا كِلاَبُ بَلَخٍ! فَقُلْتُ: مَا حَدُّّ الزُّهْدِ عِنْدَكُمْ؟ قَالَ: إذا فَقَدْنَا صَبَرْنَا، وَإذا وَجَدْنَا آثَرْنَا). وسُئل ذو النونُ عن الزُّهد فقالَ: (ثَلاَثٌ: تَفْرِيقُ الْمَجْمُوعِ، وَتَرْكُ الْمَفْقُودِ، وَالإيْثَارُ عِنْدَ الْقُوتِ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ ﴾؛ أي مَن يدفَعُ عنه غائلةَ نفسهِ وحرصَ النفسِ حتى تطيبَ نفسهُ بذلك، فأُولئك همُ النَّاجُونَ السُّعداء، الباقون في الآخرةِ. والشُّحُّ في الآخرة: منعُ النَّفعِ، وأمَّا في الدُّنيا فهو منعُ الواجب، وفي الحديثِ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ:" بَرِئَ مِنَ الشُّحِّ مَنْ أدَّى زَكَاةَ مَالِهِ، وَأقْرَى الضَّيْفَ، وَأعْطََى فِي النَّائِبَةِ "وقال سعيدُ بن جبير: (شُحُّ النَّفْسِ هُوَ أخْذُ الْحَرَامِ وَمَنْعُ الزَّكَاةِ). وَجَاءَ رَجُلٌ إلَى عَبْدِاللهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَقالَ: لَقَدْ خِفْتُ أنْ لاَ تُصِيبَنِي هَذِهِ الآيَةُ ﴿ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ ﴾ وَاللهِ مَا أقْدِرُ أُعْطِي شَيْئاً أُطِيقُ مَنْعَهُ، فَقَالَ عَبْدُاللهِ: (إنَّمَا ذلِكَ الْبُخْلُ وَبئْسَ الشَّيْءُ الْبُخْلُ، وَلَكِنَّ الشُّحَّ أنْ تَأْخُذ مَالَ أخِيكَ بغَيْرِ حَقِّهِ). وعن أبي هريرةَ قال: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:" لاَ يَجْتَمِعُ الشُّحُّ وَالإِيْمَانُ فِي قَلْب رَجُلٍ مُسْلِمٍ، وَلاَ يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِي سَبيلِ اللهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ فِي جَوْفِ مُسْلِمٍ قَطُّ ". واختلفَ العلماءُ في الشُّحِّ والبُخلِ، فقال بعضُهم: هما واحدٌ، وهو منعُ الفَضْلِ. وقال بعضُهم: بينهما فَرْقٌ، والبخلُ أنْ يبخلَ الرجلُ بما في يدهِ، والشحُّ أن يبخلَ بما في أيدِي الناسِ. وعن جابرِ بن عبدِالله قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:" اتَّقُوا الشُّحَّ، فإنَّ الشُّحَّ أهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ أنْ سَفَكُوا الدِّمَاءَ وَاسْتَحَلُّوا مَحَارمَهُمْ ". وعن أبي الْهَيَّاجِ الأسديِّ قال: " كُنْتُ أطُوفُ بالْبَيْتِ، فَرَأيْتُ رَجُلاً يَقُولُ: اللَّهُمَّ قِنِي شُحَّ نَفْسِي، لاَ يَزِيدُ عَلَى ذلِكَ، فَقُلْتُ لَهُ فِي ذلِكَ، فَقَالَ: إذا وُقِيتُ شُحَّ نَفْسِي لَمْ أسْرِقْ وَلَمْ أزْنِ، وَإذا الرَّجُلُ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ). ويُحكى أنَّ كسرَى قال لأصحابهِ ذاتَ يومٍ: أيُّ شيءٍ أضرُّ بابنِ آدمَ؟ قالوا: الْفَقْرُ، فقال كسرى: والشُّحُّ أضرُّ من الفقرِ؛ لأن الفقيرَ إذا وجدَ شَبعَ، وإن الشحيحَ لا يشبعُ أبداً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلإِيمَانِ ﴾؛ يعني التَّابعين وهمُ الذين جاءُوا بعدَ المهاجرِين والأنصار إلى يومِ القيامة، قال ابنُ عمر: (هَؤُلاَءِ هُمُ التَّابعِينَ بالإحْسَانِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ). قال ابنُ أبي ليلى: (النَّاسُ عَلَى ثَلاَثَةِ منَازلَ: الْفُقَرَاءُ، وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإيْمَانَ، وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ، فَاجْهَدْ أنْ لاَ تَكُونَ خَارجاً مِنْ هَذِهِ الْمَنَازلِ). ثم ذكرَ اللهُ تعالى أنَّ هؤلاء التابعين يدعُون لأنفُسِهم وللسَّلَفِ الذين سبَقُوهم، فقالَ تعالى ﴿ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾؛ أي لا تجعَلْ في قُلوبنا غِشّاً وحسَداً وبُغْضاً وحِقْداً للمؤمنين، فكلُّ مَن لم يترحَّمْ على جميعِ الصَّحابة وكان في قلبهِ غِلٍّ لَهم على أحدٍ منهم كان خَارجاً من أقسامِ المؤمنين؛ لأنَّ اللهَ رتَّبَ المؤمنين على ثلاثِ مراتب: المهاجرين، والأنصار، والتابعين إلى يومِ القيامة.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ نَافَقُواْ ﴾؛ يعني عبدَالله بنَ أُبَيٍّ وأصحابَهُ، ومعنى ﴿ نَافَقُواْ ﴾ أي أظهَرُوا خلافَ ما أضمَرُوا.
﴿ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ ﴾؛ وهم بنُو قريظةَ وبنو النضِير، سَمَّاهم إخوَانَهم لأنَّهم كفارٌ مثلَهم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ ﴾؛ أي لئن أخرِجتُم من دياركم؛ أي لغربة ﴿ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ ﴾؛ أي لا نُسَاكِنُ مُحَمَّداً.
﴿ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً ﴾؛ ولا نطيعهُ على قتالِكم.
﴿ وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ ﴾؛ فإنْ قاتَلَكم مُحَمَّدٌ وأصحابهُ، لنُعاونَنَّكم عليه حتى تكون أيدِينا يَداً واحدةً في المقاتَلة حتى نغلِبَهم، وعَدُوهُمْ أنَّهم ينصرونَهم، فكذبَهم اللهُ في ذلك بقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ في مُقاتَلتِهم، وقد بانَ كذِبهُم في ما نزلَ ببني النَّضيرِ من الجلاءِ وفيما أصابَ بني قريظةَ من القتلِ. ثم ذكرَ اللهُ أنَّهم يُخلِفُونَهم ما وَعَدُوهم من الخروجِ والنصرِ، فقال تعالى: ﴿ لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ ﴾؛ فكان الأمرُ على ما ذكرَ اللهُ تعالى؛ لأنَّهم أُخرِجُوا من ديارهم فلم يخرُجْ معهم المنافقون، وقُوتِلُوا فلم يَنصُرونهم أظهرَ اللهُ كَذِبَهم وأبانَ صِدْقَ ما قَالَ اللهُ تَعَالَى. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ ٱلأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ ﴾؛ معناهُ: ولئن قُدِّرَ وجودُ نصرِهم؛ لأن ما نفاهُ الله لا يجوزُ وجودهُ، قال الزجَّاجِيُّ: (مَعْنَاهُ: لَوْ قَصَدُوا نَصْرَ الْيَهُودِ لَوَلَّوا الأَدْبَارَ مَهْزُومِينَ). ﴿ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ ﴾ يَعْنِي بَنِي النَّضير لا يُصِيرون مَنصُورين إذا انْهزَمَ ناصِرُوهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِّنَ ٱللَّهِ ﴾؛ معناهُ: لأَنتم يا معشرَ المسلمين أهْيَبُ في قُلوب المنافقين واليهودِ من عذاب الله، وخَوفُهم منكم أشدُّ من خوفِهم اللهَ لعِلمِهم بكم وصفاتِكم، وجَهلِهم باللهِ وعظَمَتهِ.
﴿ ذَلِكَ ﴾؛ الخوفُ الذي بهم منكم دونَ اللهِ.
﴿ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ ﴾؛ لاَ يعرِفُون اللهَ تعالى، ولو عَرفوهُ لعَلِمُوا أنَّ عقوبةَ اللهِ أعظمُ مما عساهُ يقع بهم من فعلِ المؤمنين. وفي هذه الآيةِ بيانُ أنَّهُ لا ينبغِي لأحدٍ أنْ يكون خَوفهُ من الناسِ أزيَدُ من خوفهِ من اللهِ تعالى، وإنَّ من زادَ خوفهُ من أحدٍ من الناسِ على خوفهِ من اللهِ فليس بفَقِيهٍ، إنما الفقيهُ من يخشَى اللهَ كما في آيةٍ أخرى﴿ إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاءُ ﴾[فاطر: ٢٨]، والفقهُ: الْعِلْمُ بمفهومِ الكلامِ في إدراكِ ظَاهرهِ بمضمونهِ، والناسُ يتفَاضَلون في الإدراكِ لاختلافِهم في جَوْدَةِ القريحةِ وسُرعَةِ الفطنةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُرٍ ﴾ ومعناهُ: لا يُقاتِلُونَكم بنو قُريظةَ إلاَّ في حُصُونٍ موَثَّقةٍ أو من خَلفِ جِدَارٍ، لِمَا قذفَ اللهُ في قلوبهم الرُّعبَ، ولا يُقاتلونَكم مبارزةً. قرأ ابنُ عبَّاس ومجاهدُ وابن كثير وأبو عمرٍو (أوْ مِنْ وَرَاءِ جِدَارٍ) بالألفِ على الواحد. ويَروي بعضُ أهلِ مَّكة (جَدْرٍ) بفتحِ الجيم وجزمِ الدال وهي لغةٌ في الجدار، وقرأ يحيى بن وثَّاب (جُدْرٍ) بضم الجيم وجزمِ الدال، وقرأ الباقون بضَمِّهما. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ﴾؛ يعني بُغْضُهم وعداوةُ بعضِهم لبعضٍ شديدٌ، وبينهم مخالفةٌ وعداوة عظيمةٌ.
﴿ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً ﴾؛ أي تحسَبُهم متَّفقين على أمرٍ واحد بنِيَّات مجتمعةٍ إذا قاتَلُوا المؤمنين.
﴿ وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ﴾؛ أي متفرِّقةٌ لا يتعاوَنون لمعاداةِ بعضهم بعضاً، وإنْ أظهَرُوا الموافقةَ، والمعنى: أنَّهم مختَلِفُون لا تستوِي قلوبُهم ولا نيَّاتُهم لأنَّ اللهَ خذلَهم.
﴿ ذَلِكَ ﴾؛ الاختلافُ.
﴿ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ ﴾؛ ما فيه الحظُّ لهم ولا يعقِلُون الرُّشدَ من الغيِّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ كَمَثَلِ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ ﴾؛ معناهُ: مَثَلُ هؤلاءِ اليهود كمَثلِ الذين مِن قَبلِهم وهم كفارُ مكَّة، يعني: مثَلُهم في ما ينْزِلُ من العقوبةِ كمَثَلِ مُشرِكي مكَّة، وقوله تعالى: ﴿ قَرِيباً ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ ﴾ يعني القتلَ والأسرَ ببدرٍ، وكان ذلك قبلَ غزوةِ بني النَّضير بستَّة أشهُرٍ.
﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾؛ في الآخرةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ كَمَثَلِ ٱلشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ ٱكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّنكَ ﴾؛ أي مثَلُ الكافرِين في غُرورهم لبني النضير وخِلاَّنِهم، كمثَلِ الشَّيطانِ في غُرورهِ لابنِ آدمَ إذ دعاهُ إلى الكُفرِ بما زَيَّنَهُ له من المعاصِي، فلمَّا كَفَرَ الآدميُّ تَبَرَّأ الشيطانُ منه ومن دينهِ في الآخرة. ويقال: إنَّ المرادَ بهذه الآيةِ إنسانٌ بعَينهِ يقالُ له بَرصِيصَا، عَبَدَ اللهَ تعالى في صَومعَةٍ له سَبعين سنةً، وكان من بنِي إسرائيلَ، فعالَجهُ إبليس فلم يقدِرْ عليه، فجمعَ ذاتَ يومٍ مَرَدَةَ الشياطين وقال لَهم: ألاَ أحدٌ منكم يكفِيني أمرَ برصيصا؟ فقال له الأبيضُ: أنا أكفِيكَهُ، وكان من شدَّة تَمرُّد هذا الأبيضِ أنه اعترضَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ليُوَسوِسَ إليه، فدفعَهُ جبريلُ دفعةً هيِّنة فوقعَ في أقصى أرضِ الهند. فقالَ الأبيضَ لإبليسَ: أنا أُزَيِّنُ له، فتزيَّنَ بزينةِ الرُّهبان ومضَى حتى أتَى صومعةَ برصيصا، فأقبلَ على العبادةِ في أصلِ الصَّومعة فانفتلَ برصيصا فاذا هو يراهُ قائم يصلِّي في هيئةِ حسَنةٍ من هيئة الرُّهبان، فأقبلَ إليه وقالَ: يا هذا ما حاجَتُكَ؟ فقال: أحبُّ أن أكون معكَ فأتعلَّمَ منكَ وأقتبسَ عِلمَكَ، فتدعُو لي وأدعُو لكَ، فقال برصيصا: إنِّي لفِي شُغلٍ عنكَ، فإن كُنتَ مُؤمِناً فسيجعلُ الله لكَ نَصيباً مما أدعوهُ للمؤمنين والمؤمناتِ. ثم أقبلَ على صلاتهِ وتركَ الأبيضَ، وقامَ الأبيضُ يصَلِّي فلم يلتَفِتْ برصيصا إلاَّ بعد أربعين يَوماً، فلمَّا التفتَ بعد الأربعين رآهُ قائماً يصلِّي، فلما رأى برصيصا شدَّةَ اجتهادهِ وكثرةَ ابتهالهِ وتضرُّعه أقبلَ إليهِ، وقالَ: اطلُبْ حاجتَكَ، قال: حاجَتي أن تأذنَ لي فارتفعَ إليك فأكونَ في صَومَعَتِكَ، فأَذِنَ له فارتفعَ اليهِ. فأقامَ في صَومعتهِ حَوْلاً كاملاً يتعبَّدُ، لا يفطرُ إلاّ في كلِّ أربعينَ يَوماً يوماً، ولا ينفتِلُ إلاّ في كلِّ أربعين يوماً يَوماً، فلما رأهُ بَرصِيصا ورأى شدَّةَ اجتهادهِ أعجبَهُ شأنهُ، وتقاصَرت عندهُ عبادةُ نفسهِ. فلمَّا حالَ الحولُ قال الأبيضُ لبَرصِيصَا: إنِّي منطلقٌ إلى صاحبٍ لِي غيرك أشدُّ اجتهاداً منكَ، وإنه قد كان بلَغَني عنكَ من العبادةِ والاجتهاد غيرَ الذي أرَى منكَ، فدخلَ على برصِيصا من كلامهِ ذلك أمرٌ عظيم وكَرِهَ مفارقتَهُ لِمَا رأى من شدَّة اجتهادهِ في العبادةِ. فلمَّا ودَّعَهُ قالَ له الأبيضُ: إنَّ عندي دَعَواتٍ أُعلِّمُكَها تدعو بها، فهي خيرٌ لكَ مما أنتَ فيه، يَشفَى بها السقيمُ، ويُعافَى بها الْمُبتَلى والمجنون، فقال بَرصِيصا: إنِّي أكرهُ هذه المْنزِلَةَ، وإنَّ لي في نفسي شُغلاً، وإنِّي أخافُ إنْ عَلِمَ الناسُ بذلك شغَلونِي عن العبادةِ. فلَم يزَلْ به الأبيضُ حتى علَّمَهُ. وانطلقَ الأبيضُ حتى أتَى إبليسَ وقالَ له: قد واللهِ أهلكتُ الرجلَ. ثم انطلقَ الأبيضُ إلى رجلٍ فخنقَهُ، ثم جاءَ إلى أهلهِ في صُورَةِ طبيبٍ فقالَ لَهم: إنَّ بصاحبكم جُنوناً، فقالُوا له: عَالِجْهُ لنا وَدَاوهِ، فقالَ: إنِّي لا أقوَى على جِنِّيَّتِهِ! ولكن أرشِدُكم إلى مَن يدعُو له فيُعافَى، قالوا: دُلَّنَا. قال: انطلِقُوا إلى بَرصِيصا، فإن عندَهُ الاسمُ الأعظم الذي إذا دعَا اللهَ به أجابَ، فمَضَوا بصاحبهم إليه، فدعَا له بتلك الكلماتِ التي علَّمَهُ إياها، الأبيض فذهبَ عنه الشيطانُ. ثم انطلقَ الأبيضُ إلى صبيَّة من بناتِ الملوك ولها ثلاثةُ إخوةٍ، وكان لهم عمٌّ هو ملكُ بني إسرائيلَ، فخنَقَها ثم جاءَ إليهم في صُورَةِ طبيبٍ، فعالَجها ودَاوَاها، فلم يذهَبْ عنها، فقالَ لَهم: إنَّ الذي عَرَضَ لها ماردٌ لا يُطَاقُ، ولكنِّي أرشِدُكم إلى رجُلٍ يدعُو لها بدَعَواتٍ فتُعافَى، قالوا: مَن هو؟ قالَ: بَرصِيصا. قالوا: وكيفَ يُجِيبُنا ذلك إلى هذا الأمرِ؟ وكيف يَقبَلُها منَّا؟ قال: ابْنُوا لَها صومعةً إلى جنب صَومَعتهِ وتكون لَزِيقاً بصومعتهِ، وقولوا لَهُ: هذه أمانَةٌ عندَكَ فاحتسِبْ فيها. قالَ: فانطلَقُوا بها إليه فلم يقبَلْها، فبَنَوا لها صومعةً كما ذكرَ لهم الأبيضُ وترَكُوها فيها، وقالوا لبَرصِيصا: هذه أُختنا وقد عرضَ لها عدوٌّ من أعداءِ الله، فهي أمانةٌ عندَكَ فاحتسِبْ فيها، ثم انصرَفُوا. فلما انفتَلَ برصيصا عن صلاتهِ عَايَنها فرأى جَمالاً رَائِقاً وحُسْناً فائقاً فسَقَطَ في يديهِ، ودخلَ عليه أمرٌ عظيم، فجاءَها الأبيضُ فخنَقها، فلما رأى بَرصِيصا ذلك انفتلَ من صلاتهِ ودعا بتلكَ الدَّعوات، فذهبَ عنها الشَّيطانُ، ثم جاءَ الأبيضُ إلى برصيصا، قال: وأينَ تَجِدُ مثلَ هذه؟ واقِعْها وأنتَ تتوبُ بعدَ ذلك ولم يزَلْ به حتى واقَعَها، فأَقَامت معَهُ وهو يُواقِعُها حتى حَملَت وظهرَ حَملُها. فقالَ له الأبيضُ: وَيْحَكَ! إنَّكَ قد افتُضِحتَ، فهل لكَ أنْ تَقتُلَها وتتوبَ؟ فإنْ سأَلُوكَ عنها فقل: جاءَ شَيطانُها فذهبَ بها ولم أُطِقْ، ففعلَ ذلك فقتَلَها ثم ذهبَ بها الى ناحيةٍ من الجبلِ ودفَنَها، فجاءَ الشيطانُ لَيلاً وهو يدفِنُها فجذبَ طرفَ إزارها حتى صارَ خارجاً من التُّراب، ثم رجعَ بَرصِيصا إلى صومعتهِ وأقبلَ على صلاتهِ. فجاءَ إخوَتُها يتعَاهَدُونَهُ وكانوا في سائرِ الأيَّام يأْتُون بَرصِيصا ويتعَاهَدُون أُختَهم ويُوصُوه بها، فأَتَوهُ في هذه المرَّة كعادتِهم فلم يجدُوها، فقالو: أين ذهَبَتْ أُختنا؟ فقال بَرصِيصا: جاءَ شيطانُها فذهبَ بها ولم أُطِقْهُ، فصَدَّقوهُ، وانصرفوا عنه وهم مَكرُوبُونَ. فجاءَهم الأبيضُ في صورةِ إنسان وأخبرَهم بالخبرِ وقال لَهم: هي مدفونةٌ في موضعِ كذا، وأنَّ برصيصا قد فعلَ بها كذا وكذا ثم قتَلَها ودفَنَها، وإنَّ طرفَ إزارها خارجاً من التُّراب. فانطَلُقوا فوجَدُوها كما قالَ فجمَعُوا لبرصيصا علماؤُهم وعساكِرُهم وجاءُوا بالفُؤوسِ والمسَاحِي فهدَمُوا صومعتَهُ وأنزلوهُ وكتَّفوهُ، وانطلَقُوا به إلى الْمَلِكِ مَغْلُولاً، فسألَهُ عن ذلك فأقرَّ على نفسهِ فصلبَهُ الملكُ على خشبةٍ. فجاءَ إبليسُ إلى الأبيضِ فقالَ له: أيُّ شيءٍ صنعتَ في برصيصا، الآنَ يُقتَلُ ويكون قَتلهُ كفَّارةً لِمَا كان منهُ، وما يُغنِي عنكَ ما صنعتَ فيه؟! فقال الأبيضُ: أنا أكفيكَ فيه، فأتاهُ وهو مصلوبٌ، فقالَ له: يا برصيصا أتَعرِفُني؟ قالَ: لا، قال: أنا صاحبُكَ الذي علَّمتُكَ الدعوات، أما اتَّقيتَ اللهَ في أمانةٍ وُضِعَتْ عندكَ، خُنتَ أهلَها وأنتَ أعبَدُ بني إسرائيلَ، وما استَحيَيتَ من اللهِ، أما رَاقَبتَهُ في دِينك، فلم يَزَلْ يُعَيِّرهُ ويُوَبخهُ. ثم قالَ له: وما كفاكَ ما صنعتَ حتى أقرَرْتَ على نفسِكَ، فَضَحْتَ أشياخَكَ، فإن مِتَّ في هذه الحالةِ لم تُفلِحُ أبداً. قال فكيفَ أصنعُ؟ قال: تُطِيعُني في خَصلَةٍ حتى أُنجِّيكَ مما أنتَ فيه، وآخُذ بأعيُنِهم وأُخرِجك من مكانِكَ، قالَ: وما هيَ؟ قال: تسجدُ لي سجدةً واحدة، قال: كيفَ أسجدُ لكَ وأنا مصلوبٌ على هذه الحالةِ؟ قال: أكتَفِي منكَ بالإيماءِ، فأَوْمَأَ بالسُّجودِ فكفرَ بذلك، فقال: يا برصيصا هذا الذي أردتُ منكَ أنْ صارَتْ عاقبتُكَ إلَيَّ أنْ كَفرتَ برَبكَ، إنِّي بريءٌ منكَ.
﴿ إِنِّيۤ أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ ﴾؛ ثم ذهبَ عنه وتركَهُ فقُتِلَ. فضربَ اللهُ هذا مَثلاً لبني قريظةَ والنضير والمنافقين من أهلِ المدينة، وذلك أنَّ اللهَ تعالى أمرَ نَبيَّهُ صلى الله عليه وسلم أن يُجْلِي بني النضِير فدسَّ إليهم المنافقون أن لا يُجِيبُوا مُحَمَّداً إلى ما دعَاكُم ولا تَخرُجوا من دياركم، فإن قاتَلُوكم كنَّا معَكم، وإنْ أخرَجَكم خَرَجنا معكم، فأطَاعُوهم فدَرَبوا على حُصونِهم وتحصَّنوا في دورهم، فجاءَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فحارَبَهم فناصَبوهُ الحربَ يرجُونَ نُصرةَ المنافقين، فخذلُوهم وتبرَّؤُا منهم كما يترَّأ الشيطانُ من برصيصا وخذلَهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَآ أَنَّهُمَا فِي ٱلنَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾؛ معناهُ: فكان عاقبةُ الشَّيطانِ والذي كفَرَ أنَّهما في النار مُقِيمِين دائمين.
﴿ وَذَلِكَ جَزَآءُ ٱلظَّالِمِينَ ﴾؛ أي وذلكَ عاقبةُ الكافرِين، فَلْيَحْذر امرِؤٌ أن يقعَ في مثلِ ما وقعَ فيه هذا الكافرُ، وقال مقاتلُ: (مَعْنَى الآيَةِ: فَكَانَ عَاقِبَةُ الْمُنَافِقِينَ وَالْيَهُودِ أنْ صَارُواْ إلَى النَّار وَذلِكَ جَزَاؤُهُمْ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾؛ معناهُ: واتَّقُوا اللهَ بأداءِ فرائضهِ واجتناب مَعاصيه.
﴿ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ﴾؛ أي ليومِ القيامةِ عَملاً صَالِحاً يُنجِيها أم عَملاً سَيِّئاً يُوبقُها، قال الحسنُ: (مَا زَالَ اللهُ يُقَرِّبُ السَّاعَةَ حَتَّى جَعَلَهَا كَغَدٍ). ﴿ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ نَسُواْ ٱللَّهَ ﴾؛ أي ترَكُوا حقَّ اللهِ وأمرَهُ حتى صارَ كالْمَنْسِيِّ عندَهم.
﴿ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ﴾؛ أي فخذلَهم حتى لم يَعْمَلُوا للهِ طاعةً، ويُقدِّموا خيراً لأنفسهم، قال ابنُ عبَّاس: (يُرِيدُ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرَ) وباقِي الآيتَين.
﴿ أُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ * لاَ يَسْتَوِيۤ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ وَأَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ هُمُ ٱلْفَآئِزُونَ ﴾، ظاهرُ المعنى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَوْ أَنزَلْنَا هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ وَتِلْكَ ٱلأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾؛ معناهُ: لو جُعِلَ في الجبلِ تَمييزٌ وعقلٌ مِثلَكم، وعَلِمَ من القرآنِ كما تعلَمُون أنتم لرأيتَهُ يخشَعُ ويتصدَّعُ خَوفاً من عذاب الله، وكبرهُ وصلابتهُ فأنتم مع ضَعفِكم وصِغَرِكم أولَى بالخشُوعِ والعملِ على مقتضَى الدِّين في تمييزِ الحقِّ من الباطلِ. وَقِيْلَ: معناهُ: لو شَعَرَ الجبلُ مع صَلابتهِ وشدَّتهِ بالقرآنِ لخشَعَ تَعظيماً للقرآنِ ولصَدعَ من خشيةِ الله، فالإنسانُ أحقُّ بهذا منه، وهذا وصفٌ للكافرِ بالقسوَةِ حين لم يَلِنْ قلبهُ بمواعظِ القرآن الذي لو أُنزِلَ على جبلٍ لخشعَ.
قَوُْلُهُ تَعَالَى: ﴿ هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ هُوَ ٱلرَّحْمَـٰنُ ٱلرَّحِيمُ ﴾؛ قِيْلَ: إنَّ هذه الآياتِ مردودةٌ إلى أوَّلِ السُّورة، والمعنى: هو الذي أخرجَ الذين كفَرُوا وهو اللهُ الذي تَحِقُّ له العبادةُ، ولا يشركهُ في ذلك غيرهُ، وهو العالِمُ بكلِّ شيءٍ مما غابَ عن العبادِ ومما علموهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْمَلِكُ ٱلْقُدُّوسُ ٱلسَّلاَمُ ٱلْمُؤْمِنُ ٱلْمُهَيْمِنُ ٱلْعَزِيزُ ٱلْجَبَّارُ ٱلْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ ٱللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾؛ القُدُّوسُ: هو الظاهرُ عن كلِّ عيبٍ، المنَزَّهُ عن كلِّ ما لا يليقُ به. والسَّلاَمُ: هو الذي سَلِمَ من كلِّ نقصٍ وعيب، وَقِيْلَ: هو الذي سَلِمَ العبادُ من ظُلمهِ. والْمُؤْمِنُ: هو الذي أمِنَ أولياؤهُ عذابَهُ. والْمُهَيْمِنُ: هو الشهيدُ على عبادهِ بأعمالهم، ومنه قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ﴾[المائدة: ٤٨] أي شَاهِداً عليه، ويقالُ: هَيْمَنَ يُهَيْمِنُ فهو مُهَيْمِنٌ، إذا كان رَقِِيباً على الشيءِ. والْعَزِيزُ: الممتنعُ الذي لا يغلِبهُ شيءٌ ولا يُمنَعُ من مُرادهِ. والْجَبَّارُ: هو العظيمُ، وجَبَرُوتُ اللهِ عَظَمَتهُ، ويجوزُ أن يكون فَعَّالاً من جَبَرَ إذا أغنَى الفقيرَ وأصلحَ الكسيرَ. ويجوزُ أن يكون من جَبَرَهُ على كذا اذا أكرهَهُ على ما أرادَ. قال السديُّ ومقاتل: (هُوَ الَّذِي يَقْهَرُ النَّاسَ وَيُجْبرُهُمْ عَلَى مَا يَشَاءُ). والْمُتَكَبرُ: هو المستحقُّ لصفاتِ التعظيمِ وهو من الكِبْرِيَاءِ، وإنما تُذمُّ صفةُ المتكبر في الناسِ لأنه يُنْزِلْ نفسَهُ منْزِلَةً لا يستحقُّها. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ هُوَ ٱللَّهُ ٱلْخَالِقُ ٱلْبَارِىءُ ٱلْمُصَوِّرُ ﴾؛ الْخَالِقُ: هو الْمُنْشِئُ للأعيانِ. والبَارئُ: الْمُقَدِّرُ والْمُسَوِّي لها، والبَرِيَّةُ: الْخَلْقُ، وبَرَيْتُ القلمَ إذا سوَّيتهُ. والْمُصَوِّرُ: النَّاقِشُ كيف يشاءُ، يعني الْمُمَثِّلُ للمخلوقاتِ بالعلاماتِ المميَّزة والهيئاتِ المتفرِّقة.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَهُ ٱلأَسْمَآءُ ٱلْحُسْنَىٰ يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ ﴾، والأسماءُ الْحُسنَى هي الصفاتُ العُلَى. وعن أنسٍ رضي الله عنه قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:" مَنْ قَرَأ سُورَةَ الْحَشْرِ، غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذنْبهِ وَمَا تَأَخَّرَ ". وقال صلى الله عليه وسلم:" وَمَنْ قَرَأ حِينَ يُصْبحُ الثَّلاَثَ آيَاتٍ مِنْ آخِرِ الْحَشْرِ وَكَّلَ اللهُ بهِ سَبْعُونَ ألْفَ مَلَكٍ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ حَتَّى يُمْسِي، فَإنْ مَاتَ مِنْ ذلِكَ الْيَوْمِ مَاتَ شَهِيداً، وَمَنْ قَرَأهَا حِينَ يُمْسِي كَانَ بتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ ". وعن أبي هُريرة رضي الله عنه قال:" سَأَلْتُ حَبيبي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ اسْمِ اللهِ الأَعْظَمِ، فَقَالَ: " عَلَيْكَ بآخِرِ سُورَةِ الْحَشْرِ، فَأَكْثِرْ قِرَاءَتَهَا " فَأَعَدْتُ عَلَيْهِ فَأَعَادَ عَلَيَّ، فَأَعَدْتُ عَلَيْهِ، فَأَعَادَ عَلَيَّ ".
Icon