ﰡ
١ - ﴿عَبَسَ﴾ الرسول الكريم محمد - ﷺ -؛ أي: قطب وكلح، وغير لون وجهه، وانقبض لأجل أن جاءه الأعمى ﴿وَتَوَلَّى﴾ أي: أعرض بوجهه عنه لأجل
٢ - ﴿أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (٢)﴾ ولم يلتفت إليه، والضمير لمحمد - ﷺ -، وهو علة التولي على رأي البصريين لقربه منه، ولـ ﴿عَبَسَ﴾ على رأي الكوفيين لسبقه، والمختار: مذهب البصريين؛ لعدم الإضمار في الثاني، وجاء في (١) هذه المواضع بضمائر الغائب إجلالًا له - ﷺ -، ولطفًا به لما في المشافهة بتاء الخطاب مما لا يخفى، وجاء بلفظ ﴿الْأَعْمَى﴾ إشعارًا بما يناسب من الرفق به، والإصغاء لما يقصده. اهـ "البحر". والأعمى من اتصف بالعمى، والعمى: افتقاد البصر، ويقال في افتقاد البصيرة أيضًا، ولام (٢) الأعمى للعهد، فيراد به: أعمى معروف، وهو ابن مكتوم المؤذِّن الثاني لرسول الله - ﷺ - في أذان الفجر، ولذلك قال - ﷺ -: "إن بلالًا يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم". وكان من المهاجرين الأولين، استخلفه النبي - ﷺ - على المدينة مرتين حين خرج غازيًا، وقيل: ثلاث مرات، مات بالمدينة، وقيل: شهيدًا بالقادسية في خلافة عمر، وهي قرية فوق الكوفة.
واختلفوا في اسم ابن أم مكتوم، فقيل: هو عبد الله بن شريح بن مالك بن ربيعة الفهري من بني عامر بن لؤي، وقيل: عمرو بن قيس بن زائدة بن الأصم من بني عامر بن هلال، وهو ابن خال خديجة رضي الله عنها، وأم مكتوم اسم أم أبيه كما في "الكشاف"، وقال السعدي: هو وهم، فقد نص ابن عبد البر وغيره أنها أمه، واسمها: عاتكة بنت عامر بن مخزوم.
وقد تقدم لك في أسباب النزول ما روي أن ابن أم مكتوم أتى رسول الله - ﷺ -، وذلك في مكة، وعنده صناديد قريش - كما مر بيان أسمائهم هناك - يدعوهم إلى الإسلام رجاء أن يسلم بإسلامهم غيرهم؛ لأن عادة الناس أنه إذا مال أكابرهم إلى أمر.. مال إليه غيرهم، كما قيل: الناس على دين ملوكهم، فقال له: يا رسول الله علمني مما علمك الله أنتفع به، وكرر ذلك، وهو لا يعلم تشاغله - ﷺ - بالقوم إذ
(٢) روح البيان.
فإن قيل (١): ابن أم مكتوم قد استحق التأديب والزجر؛ لأنه وإن كان لا يرى القوم، لكنه لشدة سمعه كان يسمع مخاطبة الرسول معهم، ويعرف بذلك شدة اهتمامه بشأنهم، فيكون إقدامه على قطع كلام رسول الله - ﷺ - إيذاءً له، وهو معصية، وأيضًا: الأهم مقدم على المهم؛ لأن إسلامهم سبب لإسلام جمع عظيم، فكان الاشتغال بهم، وتقدير الدلائل لهم أهم، فكيف عاتب الله تعالى رسوله على التولي عنه؟
أجيب: بأن ما فعله يوهم ظاهره تقديم الأغنياء على الفقراء، وقلة المبالاة بانكسار قلوب الفقراء، وليس ذكره بلفظ الأعمى مقتضيًا لتحقيره، بل لبيان عذره في الإقدام على قطع كلام رسول الله - ﷺ -، والدلالة على أنه أحق بالرأفة والرفق، كما مر. اهـ "زاده".
وكان رسول الله - ﷺ - يكرمه ويقول إذا رآه: "مرحبًا بمن عاتبني فيه ربي" أي: لامني مع بقاء المحبة، ويقول: "هل لك من حاجة"، ويقال: إن رسول الله - ﷺ - لم يغتم في عمره كغمه حين أنزلت عليه سورة عبس؛ لأن فيها عتبًا شديدًا على مثله؛ لأنه الحبيب الرشيد، ومع ذلك فلم يجعل ذلك بينه وبينه، فيكون أيسر للعتاب، بل كشف ذلك للمؤمنين، ونبه على فعله عباده المتقين.
ولذلك روي أن عمر بن خطاب - رضي الله عنه - بلغه أن بعض المنافقين يؤم قومه، فلا يقرأ فيهم إلا سورة عبس، فأرسل إليه فضرب عنقه، لما استدل بذلك على كفره، ووضع مرتبته عنده وعند قومه، قال ابن زيد: لو جاز له أن يكتم شيئًا
وقرأ الجمهور (١): ﴿عَبَسَ﴾ مخففًا، ﴿أَن﴾ بهمزة واحد. وقرأ زيد بن علي: ﴿عبس﴾ بتشديد الباء للمبالغة، وقرأ زيد بن علي والحسن وأبو عمران الجوني وعيسى: ﴿أآن﴾ بهمزة ومدة بعدها. وقرأ بعض القواء بهمزتين مخففتين، والهمزة في هاتين القراءتين للاستفهام الإنكاري، وفيهما يوقف على ﴿تَوَلَّى﴾. والمعنى: ألأن جاء الأعمى كان كذا وكذا.
واعلم (٢): أنه كان ما فعله - ﷺ - من باب ترك الأولين، فلا يعد ذنبًا لأن اجتهاده - ﷺ - في طلب الأولى، والتعرض لعنوان عماه، مع أن ذكر الإنسان بهذا الوصف يقتضي تحقير شأنه، وهو ينافي تعظيمه المفهوم من العتاب على العبوس في وجهه؛ إما لتمهيد عذره في الإقدام على قطع كلامه - ﷺ - للقوم، والإيذان باستحقاقه الرفق والرأفة لا الغلظة كما مر، وإما لزيادة الإنكار، فإن أصل الإنكار حصل من دلالة المقام كأنه تولى لكونه أعمى، وهو لا يليق بخلقه العظيم، كما أن الالتفات في قوله تعالى: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ﴾ لذلك، فإن المشافهة أدخل في تشديد العتاب، كمن يشكو إلى الناس جانيًا جنى عليه، ثم يقبل على الجاني إذا حمي في الشكاية مواجهًا له بالتوبيخ؛ أي: وأيُّ شيء يجعلك يا محمد داريًا وعالمًا بحاله، ويطلعك على باطن أمره، حتى تعرض عنه؛ أي: لا يدريك شيء، فتم الكلام عنده فيوقف عليه، وليس ما بعده مفعوله، بل هو ابتداء كلام. وقال السهيلي (٣) - رحمه الله تعالى -: انظر كيف نزلت الآية بلفظ الإخبار عن الغائب، فقال: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى (١)﴾، ولم يقل: عبست وتوليت، وهذا شبيه حال الغائب المعرض،
٣ - ثم أقبل عليه بمواجهة الخطاب، فقال: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ﴾ علمًا منه تعالى أنه لم يقصد بالإعراض منه إلا الرغبة في الخير، ودخول ذلك المشرك في الإسلام، وهو الوليد، أو أمية، وكان مثله يسلم بإسلامه بشر كثير، فكلم نبيه - ﷺ - حين ابتداء الكلام بما يشبه كلام المعرض عنه العاتب، ثم واجهه بالخطاب تأنيسًا له - ﷺ - بعد الإيحاش، فإنه قيل: إن ابن أم مكتوم كان قد أسلم، وتعلم ما كان يحتاج إليه
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
قيل: إن الأمر وإن كان كما ذكر، إلا أن ظاهر ما فعله الرسول - ﷺ - يوهم تقديم الأغنياء على الفقراء، وقلة المبالاة بانكسار قلوب الفقراء، وهو لا يليق بمنصب النبوة؛ لأنه ترك الأفضل، كما أشير إليه سابقًا، فلذا عاتبه الله تعالى. انتهى.
والحاصل: أن الله سبحانه وتعالى عاتب نبيه - ﷺ - بأن ضعف ذلك الأعمى وفقره لا ينبغي أن يكون باعثًا على كراهة كلامه، والإعراض عنه لأن ذلك يورث انكسار قلوب الفقراء، وهو مطالب بتأليف قلوبهم، كما قال: ﴿وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾، وقال: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (٢٨)﴾. ولأنه كان ذكي الفؤاد، إذا سمع الحكمة.. وسماها، فيتطهر بها من أوضار الآثام، وتصفو بها نفسه، أو يذكر بها ويتعظ، فتنفعه العظة في مستأنف أيامه. أما أولئك الأغنياء.. فأكثرهم جحدة أغبياء، فلا ينبغي التصدي لهم طمعًا في إقبالهم على الإسلام ليتبعهم غيرهم، وقوة الإنسان إنما هي في ذكاء لبه وحياة قلبه، وإذعانه للحق متى لاحت له أمارته، أما المال والنسب والحشم والأعوان.. فهي عوار تجيء وترتحل، وتقر حينًا، ثم تنتقل.
والخلاصة: أن الله سبحانه عاتب نبيه وأمره بأن يقبل على ذي العقل الذكي، ونهاه أن ينصرف عنه إلى ذي الجاه القوي، فإن الأول حي بطبعه، والثاني غائب بحسه. ﴿لَعَلَّهُ﴾؛ أي: لعل ذلك الأعمى ﴿لَعَلَّهُ﴾ بتشديدين، أصله: ﴿يَزَّكَّى﴾؛ أي: لعله يتطهر بما يسمعه منك، ويتلقاه عنك، ويقتبس منك من أوصار الآثام والأوزار
٤ - ﴿أَوْ يَذَّكَّر﴾ بتشديدين أيضًا، أصله: يتذكر، والتذكر: الاتعاظ؛ أي: أو يتعظ. ﴿فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى﴾؛ أي: فتنفعه ذكراك وموعِظتك إن لم يبلغ درجة التزكي التام، وفي "الكشاف": المعنى: إنك لا تدري ما هو مترقب منه من تزك أو تذكر، ولو دريت لما فرط ذلك منك. انتهى.
أشار بذلك إلى أن قوله: ﴿يَزَّكَّى﴾ من باب التخلية من الأثام، وقوله: ﴿أَوْ يَذَّكَّرُ﴾ من باب التحلية ببعض الطاعات، ولهذا دخلت كلمة الترديد، فقوله: ﴿أَوْ يَذَّكَّرُ﴾، عطف على ﴿يَزَّكَّى﴾ داخل معه في حكم الترجي، وقوله: ﴿فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى﴾ بالنصب على جواب لعل تشبيهًا له بليت، كقوله: ﴿فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى﴾، وفيه إشارة إلى أن من تصدى لتزكيتهم وتذكيرهم من المشركين، لا يرجى منهم التزكي ولا التذكر أصلًا، واشعار بأن اللائق بالعالم أن يقصد بتعليمه تزكية متعلمه، ولا ينظر إلى شبحه وصورته، كما ينظر العوام، وبالمتعلم أن يريد بتعلمه تزكية نفسه عن أرجاس الضلالة، وتطهير قلبه من أدناس الجهالة، لا أحكام الدنيا الدنية.
وقرأ الجمهور: ﴿أَوْ يَذَّكَّرُ﴾ بتشديد الذال والكاف، وأصله يتذكر - كما مر - فأدغم. وقرأ الأعرج وعاصم في رواية: ﴿أو يذكر﴾ بسكون الذال وضم الكاف.
وقرأ الجمهور ﴿فَتَنْفَعَهُ﴾ برفع العين، عطفًا على ﴿أو يذكرُ﴾. وقرأ عاصم في المشهور والأعرج وأبو حيوة وابن أبي عبلة والزغفراني بنصبهما.
٥ - ثم ذكر أن أمره
(٢) الشوكاني.
١ - ﴿أَمَّا﴾ للتفصيل ﴿مَنِ اسْتَغْنَى﴾ عن الإيمان، وعما عندك من العلوم والمعارف التي ينطوي عليها القرآن
٦ - ﴿فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦)﴾ بحذف إحدى التائين تخفيفًا، أي: فأنت له تتصدى وتتهيأ له وتتعرض بالإقبال عليه والاهتمام بإرشاده واستصلاحه دون الأعمى، وفيه مزيد تنفير له - ﷺ - عن مصاحبتهم، فإن الإقبال على المدبر ليس من شيم الكرام، والتصدي للشيء التعرض له والتقيد به، والاهتمام بشأنه، وضده الشاغل عنه. وفي "المفردات": التصدي: أن يقابل الشيء مقابلة الصدى؛ أي: الصوت الراجع من الجبال، وفي "كشف الأسرار": التصدي: التعرض للشيء على حرص كتعرض الصديان للماء؛ أي: العطشان، وعن بعضهم: أصل تصدى تصدد من الصدد، وهو ما استقبلك وجاء قبالتك، فأبدل أحد الأمثال حرف علة.
والمعنى: أي أما من استغنى بماله وقوته عن الإيمان، وعما عندك من المعارف التي يشتمل عليها الكتاب المنزل عليك، فأنت تقبل عليه حرصًا على إسلامه، ومزيد الرغبة في إيمانه
٧ - ﴿وَمَا عَلَيْكَ﴾؛ أي: وليس عليك بأس ووزر ووبال في ﴿أَلَّا يَزَّكَّى﴾؛ أي: في أن لا يتزكى ذلك المستغني عن الإسلام حتى تهتم بأمره، وتعرض عمن أسلم، إن عليك إلا البلاغ، وكيف تحرص على إسلام من ليس له قابلية، وقد خلق على حب الدنيا، والعمى عن الآخرة، وفيه استهانة لمن أعرض عنه، وتحقير لأمره، وحض على الإعراض عنه، وترك الاهتمام به.
﴿فَمَا﴾ نافية، وكلمة في المقدرة متعلقة باسم ﴿ما﴾، وهو محذوف، والجملة حال من ضمير ﴿تَصَدَّى﴾ مقررة لجهة الإنكار، ويجوز أن تكون ﴿مَا﴾ استفهامية؛ أي: أي شيء عليك في أن لا يسلم ولا يهتدي، فإنه ليس عليك إلا البلاع.
وقرأ الحسن وأبو رجاء وقتادة والأعرج وعيسى والأعمش وجمهور السبعة: ﴿تَصَدَّى﴾ بتخفيف الصاد، وأصله: تتصدى، فحذفت إحدى التاءين تخفيفًا، وقرأ
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
(٤) البحر المحيط.
وحاصل المعنى: أي ليان الذي استغنى عن الإيمان بالله، وعن طاعته وطاعة رسوله، واستغنى بماله وجاهه عن قبول الحق، وعن استماع النصيحة، وعن سماع القرآن، فأنت تتعرض له، وتشغل نفسك بوعظه والإقبال عليه، مع أنك رسول مبلغ، وما عليك إلا البلاغ، وقد أديت ما يجب عليك، فإن كان المغرور قد ظن في ماله غنى عن هداية الله تعالى، ورضي لنفسه أن يبقى في دنس الكفر، فما عليك عيب في بقائه كذلك، فما بالك يشتد عليك الحرص على إسلامه.
وقصارى ذلك: لا يبلغن بك الحرص على إسلامهم، والاشتغال بدعوتهم أن تعرض عن الذين سبقت لهم منا الحسنى.
٢ - ٨ ﴿وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ﴾ حال كونه ﴿يَسْعَى﴾ ويمشي بسرعة في أمر دينه؛ أي: حال كونه مسرعًا طالبًا لما عندك من أحكام الرشد، وخصال الخير،
٩ - ﴿وَهُوَ﴾؛ أي: والحال أنه ﴿يَخْشَى﴾ الله سبحانه وتعالى، أو يخشى الكفار وأذاهم بإتيانك، أو يخاف العثار والسقوط؛ لكونه أعمى، وقد جاء بلا قائد يقوده. قال سعدي (١) المفتي الظاهر أن النظم من الاحتباك، ذكر الغنى أولًا للدلالة على الفقر ثانيًا، وذكر المجيء والخشية ثانيًا للدلالة على ضدهما أولًا
١٠ - ﴿فَأَنْتَ﴾ يا محمد ﴿عَنْهُ﴾؛ أي: ذلك الجائي الخاشي ﴿تَلَهَّى﴾ بحذف إحدى التاءين تخفيفًا؛ أي: تتهلى (٢) وتتشاغل من لهي عن الشيء - بكسر الهاء بوزن رضي - يلهى لهيًا: أعرض عنه، لا من لهوت بالشيء بالفتح ألهو لهوًا إذا لعبت به؛ لأن الفعل مسند إلى ضمير النبي - ﷺ -، ولا يليق بشانه الرفيع أن ينسب إليه التفعل من اللهو بخلاف الاشتغال عن الشيء لمصلحة، وفي بعض التفاسير: ولو أخذ من اللهو، وجعل التشاغل بأهل التغافل من جنس اللهو واللعب؛ لكونه عبثًا لا يترتب عليه نفع لم يخل عن وجه. انتهى.
(٢) روح البيان.
روي: أنه - ﷺ - ما عبس بعد ذلك في وجه فقير قط، ولا تصدى لغني، وكان الفقراء في مجلسه - ﷺ - أمراء، يعني: كان يحترمهم كل الاحترام، وفيه تأديب للصغير بالكبير، فحملة العلم والشرع والحكام مخاطبون في تقريب الضعيف من أهل الخير، وتقديمه على الشريف العاري عن الخير بمثل ما خوطب به النبي - ﷺ - في هذه السورة، وقرأ الجمهور: ﴿تَلَهَّى﴾ والبزي عن ابن كثير: ﴿عنه تلهى﴾ بإدغام تاء المضارعة في تاء تفعل، وأبو جعفر بضمها مبنيًا للمفعول؛ أي: يشغلك دعاء الكافر للإسلام، وطلحة بتاءين، وعنه: بتاء واحدة وسكون اللام. اهـ من "البحر".
وخلاصة المعنى: أي وأما من جاءك مسرعًا في طلب الهداية، والقرب من ربه، وهو يخشاه، ويحذر الوقوع في الغواية، فأنت تتهلى عنه، وتتغافل عن إجابته إلى مطلبه.
١١ - وقوله: ﴿كَلَّا﴾ ردع (١) له - ﷺ - عما عوتب عليه؛ أي: لا تفعل بعد هذا الواقع منك مثله من الإعراض عن الفقير، والتصدي للغني، والتشاغل به مع كونه ليس ممن يتزكى عن إرشاد من جاءك من أهل التزكي والقبول للموعظة، وهذا الواقع من النبي - ﷺ - هو من باب ترك الأولى والأفضل، فأرشده الله سبحانه إلى ما هو الأولى به.
والمعنى: أي ليس الأمر كما تعمل أيها الرسول بأن تعبس في وجه من جاءك يسعى وهو يخشى، وتقبل على من استغنى، بل الهداية المودعة في الكتب الإلهية، وأجلها القرآن تذكير ووعظ وتنبيه لمن غافل عن آيات ربه.
١٢ - وقد وصف سبحانه تلك التذكرة بأوصاف تدل على مالها من عظيم الشأن، فقال:
١ - ﴿فَمَنْ شَاءَ﴾؛ أي؛ فمن رغب فيها ﴿ذَكَرَهُ﴾؛ أي: القرآن؛ أي: حفظه، ولم ينسه، وعمل بموجبه؛ أي: فمن رغب فيها اتعظ بها وحفظها وعمل بموجبها، ومن رغب عنها كما فعله من استغنى فلا حاجة إلى الاهتمام بأمره، قيل (١): الضميران في ﴿إِنَّهَا﴾، وفي ﴿ذَكَرَهُ﴾ للقران، وتأنيث الأول لتأنيث خبره، وقيل: الأول للسورة أو للآيات السابقة، والثاني: للتذكرة؛ لأنها في معنى الذكر، وقيل: إن معنى: ﴿فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (١٢)﴾ فمن شاء الله ألهمه وفهمه القرآن حتى يذكره ويتعظ به، والأول أولى.
وحاصل المعنى: أي إن التذكرة بينة ظاهرة، فلو أن إنسانًا أراد أن يتدبرها ويتفهم معناها، ويتعظ بها، ويعمل بموجبها لقدر على ذلك واستطاعه، ولا يمنعه عن الاهتداء بها إلا عدم المشيئة عنادًا واستكبارًا،
١٣ - ثم أخبر سبحانه عن عظم هذه التذكرة وجلالتها، فقال:
٢ - ﴿فِي صُحُفٍ﴾: إنها تذكرة كائنة في صحف جمع صحيفة، وكل مكتوب عند العرب صحيفة، فالجار (٢) والمجرور متعلق بمحذوف، وهو صفة لـ ﴿تَذْكِرَةٌ﴾، وما
(٢) روح البيان.
١٤ - ومعنى: ﴿مَرْفُوعَةٍ﴾ رفيعة القدر والذكر عند الله تعالى، فإنها في المشهور موضوعة في السماء الدنيا في مكان يقال له: بيت العزة، وقيل: مرفوعة في السماء السابعة. قال الواحدي (١): قال المفسرون ﴿مُكَرَّمَةٍ﴾ يعني: اللوح المحفوظ ﴿مَرْفُوعَةٍ﴾ يعني: في السماء السابعة. وقال ابن جرير: مرفوعة القدر والذكر، وقيل: مرفوعة عن الشبهة والتناقض ﴿مُطَهَّرَةٍ﴾؛ أي: منزهة عن مساس أيدي الشياطين، لا يمسها إلا المطهرون، وفيه: أن الصحف بأيدي الملائكة في السماء الدنيا، والشياطين لا يصلون إلى السماء، فلا يظهر مدح الصحف بتطهرها عن مسهم. وقال الحسن: مطهرة من كل دنس ونقص. وقال السدي: مصانة من الكفار لا ينالونها.
١٥ - والظاهر (٢): أن الجار والمجرور في قوله: ﴿بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥)﴾ صفة لـ ﴿صُحُفٍ﴾؛ أي: في صحف كائنة بأيدي سفرة، أو مكتوبة بأيدي كتبة من الملائكة ينتسخونها من اللوح المحفوظ، ومن هذا (٣) وقف بعضهم على ﴿مُطَهَّرَةٍ﴾ وقفًا لازمًا هربًا من توهم تعلق الباء به، وقيل: الباء متعلقة بـ ﴿مُطَهَّرَةٍ﴾. قال القفال في توجيهه: لما لم يمسها إلا الملائكة المطهرون.. أضيف التطهير إليها لطهارة من يمسها، وقال القرطبي: إن المراد بقوله: ﴿لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (٧٩)﴾: هؤلاء السفرة الكرام البررة، و ﴿السفرة﴾: جمع سافر، ككتبة وكاتب، من السفر، وهو الكتب؛ إذ في الكتابة معنى السفر؛ أي: الكشف والتوضيح، والكاتب سافر؛ لأنه يبين الشيء ويوضحه، وسمي السفر بفتحتين سفرًا؛ لأنه يسفر ويكشف عن أخلاق المرء، قالوا: وهذه اللفظة مختصة بالملائكة، لا تكاد تطلق على غيرهم، وإن جاز الإطلاق بحسب اللغة.
وقال الفراء: السفرة هنا: الملائكة الذين يسفرون بالوحي بين الله تعالى
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
١٦ - ﴿كِرَامِ﴾ عند الله تعالى بالقرب والشرف، فهو من الكرامة جمع كريم، أو متعطفين على المؤمنين يستغفرون لهم، فهو من الكرم ضد اللؤم. وقال ابن عطاء رحمه الله: يريد أنهم يتكرمون أن يكونوا مع ابن آدم إذا خلا مع زوجته للجماع، وعند قضاء الحاجة، يشير إلى أنهم هم الملائكة الموصوفون بقوله: ﴿كِرَامًا كَاتِبِينَ (١١)﴾، وفيه تأمل. ﴿بَرَرَةٍ﴾؛ أي: أتقياء مطيعين لربهم، صادقين في إيمانهم، من بر في يمينه جمع بار، مثل: فجرة وفاجر، وكفرة وكافر.
١٧ - وقوله: ﴿قُتِلَ الْإِنْسَانُ﴾ دعاء (١) عليه بأشنع الدعوات، فإن القتل غاية شدائد الدنيا وأفظعها، ومن فسر القتل باللعن.. أراد به الإهلاك الروحاني، فإنه أشد العقوبات؛ أي: لعن الإنسان الكافر، وفي "عين المعاني": عذب، والمراد به: عتبة بن أبي لهب، وقيل: المراد بالإنسان من تقدم ذكره في قوله: أما من استغنى، وقيل: المراد به: الجنس، وهذا هو الأولى، فيدخل تحته كل كافر شديد الكفر، ويدخل تحته من كان سببًا لنزول الآية دخولًا أوليًا ﴿مَا أَكْفَرَهُ﴾؛ أي: ما أشد كفره بالله مع كثرة إحسانه إليه، وهذا تعجب من إفراطه في الكفران؛ أي: على صورته، فإن حقيقة التعجب إنما تتصور من الجاهل بسبب ما خفي عليه من سبب الشيء، والذي أحاط علمه بجميع المعلومات لا يتصور منه ذلك، فهو في الحقيقة تعجب من الله وبيان لاستحقاقه للدعاء عليه؛ أي: اعجبوا من كفره بالله ونعمه مع معرفته بكثرة إحسانه إليه، وادعوا عليه بالقتل واللعن ونحو ذلك لاستحقاقه لذلك، قال بعضهم: لعن الله الكافر، وعظم كفره؛ حيث لم يعرف صانعه، ولم يعرف نفسه التي لو عرفها.. عرف صانعها.
وقال ابن الشيخ: هذا الدعاء وارد على أسلوب كلام العرب، فهو ليس من قبيل دعاء من يعجز عن انتقام من يسؤوه، وكذا هذا التعجب ليس على حقيقته؛ لأنه تعالى منزه عن العجز والجهل، بل المقصود بإيراد ما هو في صورة الدعاء: الدلالة على سخطه العظيم، والتنبيه على أنه استحق أهوال العقوبات وأشنعها، وبإيراد صيغة التعجب الذم البليغ له من حيث ارتكابه أقبح القبائح، ولا شك أن السخط يجوز من الله، وكذا الذم.
١٨ - ثم ذكر سبحانه ما كان ينبغي لهذا الكافر أن ينظر فيه حتى ينزجر عن كفره، ويكف عن طغيانه، فقال: ﴿مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨)﴾؛ أي: من أيِّ شىء خلق الله هذا الكافر، والاستفهام للتقرير،
١٩ - ثم فسر ذلك فقال: ﴿مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ﴾: أي: من نطفة قذرة أنشأه وأوجده، فمن كان أصله مثل هذا الشيء الحقير.. كيف يليق به التكبر والتجبر والكفران بحق المنعم الذي كسا ذلك الحقير بمثل هذه الصورة البهية وهذا تحقير له. قال الحسن: كيف يتكبر من خرج من مخرج البول مرتين. وعن بعضهم: كيف تكبر الإنسان وأوله نطفة مذرة، وآخره جيفة قذرة، وهو فيما بين الوقتين حمال عذرة.
ومعنى: ﴿فَقَدَّرَهُ﴾؛ أي: فسواه وهيأه لما يصلح له ويليق به من الأعضاء والأشكال، فخلق له اليدين والرجلين (٢) والعينين، وسائر الآلات والحواس؛ أي: أحدثه بمقدر معلوم من الأعضاء والأشكال والكمية والكيفية، فجعله مستعدًا لأن ينتهي فيه إلى القدر اللائق بمصلحته، فلا يلزم عطف الشيء على نفسه، وذلك أن خلق الشيء أيضًا تقديره وإحداثه بمقدار معلوم من الكمية والكيفية. وقيل: أطوارًا من حال إلى حال، نطفةً ثم علقة إلى أن تم خلقه، فالتقدير المفرع على الخلق مأخوذ من القدر بمعنى الطور؛ أي: أوجده على التقدير الأول، ثم جعله ذا طور من علقة مضغة إلى آخر أطواره ذكرًا أو أنثى، شقيًا أو سعيدًا. قال بعضهم: وعلى الوجهين، فالفاء للتفصيل فإن التقدير يتضمنه على المعنيين.
٢٠ - وقوله: ﴿ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠)﴾ منصوب (٣) على الاشتغال بفعل محذوف يفسره المذكور تقديره: ثم يسر السبيل يسره؛ أي: سهل مخرجه من البطن بأن فتح فم الرحم، وكان غير مفتوح قبل الولادة، وألهمه أن ينتكس بأن ينقلب ويصير رجله من فوق، ورأسه من تحت، ولولا ذلك لا يمكنها أن تلد، أو يسر له سبيل الخير والشر في الدين، ومكنه من السلوك فيهما، كما قال: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (١٠)﴾، وذلك بالإقدار والتعريف له بما هو نافع وضار، وبالعقل وبعثة الأنبياء، وإنزال الكتب، ونحو ذلك. وتعريف السبيل باللام دون الإضافة بأن يقال: سبيله للإشعار بعمومه؛
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
٢١ - ﴿ثُمَّ أَمَاتَهُ﴾؛ أي: قبض روحه عند تمام أجله المقدر المسمى ﴿فَأَقْبَرَهُ﴾؛ أي: جعله في قبر يوارى فيه تكرمة له، ولم يدعه مطروحًا على وجه الأرض جزرًا؛ أي: قطعًا للسباع والطير كسائر الحيوان. قال في "كشف الأسرار": لم يجعله مما يطرح للسباع، أو يلقى للنواويس، والقبر مما يكرم به المسلمون. انتهى. يقال: قبر الميت إذا دفنه بيده، والقابر: هو الدافن، ومنه قول الأعشى:
لَوْ أَسْنَدَتْ مَيْتًا إِلَى صَدْرِهَا | عَاشَ وَلَمْ يُنْقَل إِلَى قَابِرِ |
وعد الإماتة من النعم بالنسبة إلى المؤمن (١)، فإن بالموت يتخلص من سجن الدنيا، وأيضًا إن شأن الموت أن يكون تحفة ووصلة إلى الحياة الأبدية، والنعيم المقيم، وإنما كان مفتاح كل بلاء ومحنة في حق الكافر من سوء اعتقاده وسيئات أعماله.
وفي بعض التفاسير: ذكر الإماتة؛ إما لأنها مقدمة الإقبار، وإما للتخويف والتذكير بأن الحياة الدنيوية فانية اخرها الموت. وعن الشافعي رحمه الله تعالى:
فَلَا تَمْشِيَنْ فِيْ مَنْكِبِ الَأرْضِ فَاخِرًا | فَعَمَّا قَلِيْلٍ يَحْتَوِيْكَ تُرَابُهَا |
(٢) روح البيان.
وفيه: إن الموت أيضًا له سن معلوم، وأجل محدود، فكيف يتعين في نفسه، ويجزم بوقوعه في سن كذا؛ بحيث لا يكون موكولًا إلى مجرد مشيئته تعالى، ولعل تقييد الإنشار بالمشيئة لا ينافي تقييد الموت بها أيضًا؛ إذ لا يجري عليه تعالى زمان، وإنه من مقدمات القيامة، ولذا قال - ﷺ -: "من مات فقد قامت قيامته"، أي: لاتصال زمان الموت بزمان القيامة، فهو قيامة صغرى مجهولة؛ كالقيامة الكبرى.
وقرأ الجمهور (١): ﴿أَنْشَرَهُ﴾ بالألف، وروى أبو حيوة عن نافع وشعيب بن أبي حمزة ﴿نشره﴾ بغير ألف، وهما لغتان فصيحتان.
والمعنى (٢): أي ثم قبض روحه، ولم يتركه مطروحًا على الأرض جزرًا للسباع، بل تفضل عليه في غريزة نوعه أن يوارى ميته تكرمةً له، ثم إذا شاء بعثه بعد موته للحساب والجزاء في الوقت الذي قدره في علمه. وفي قوله: ﴿إِذَا شَاءَ﴾ إشعارٌ (٣) بأن وقت الساعة لا يعلمه إلا هو، فهو الذي استأثر بعلمه، وهوالقادر على تقديمه وتأخيره، وهو القاهر فوق عباده، وذو السلطان عليهم في إحيائهم وإماتتهم، وبعثهم وحشرهم، وحسابهم على ما قدموا من عمل خيرًا كان أو شرًا،
٢٣ - ثم أكد كفرانه بالنعم، فقال: ﴿كَلَّا﴾ ردع وزجر للإنسان الكافر عما هو عليه؛ أي: ليس الأمر كما يقول الكافر المستغني فلينزجر وليرتدع عما هو عليه من الكفران والعصيان لربه. والوقف على ﴿كَلَّا﴾ حيئنذ. وفي "الخازن": ﴿كَلَّا﴾: ردع وزجر للإنسان عما هو عليه من التكبر والتجبر والترفع والإصرار على إنكار التوحيد، وانكار البعث والحساب. اهـ.
وقوله: ﴿لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ﴾ بيان (٤) لسبب الردع والزجر، كما في "أبي السعود"؛ أي: لم يفعل الإنسان المذكور من أول مدة تكليفه إلى حين إقباره ما أمره الله به مما فرضه الله عليه من الإيمان والطاعة، ولم يؤد ولم يعرف ولم يعمل به،
(٢) المراغي.
(٣) المراغي.
(٤) الفتوحات.
وقال الحسن: حقًا لم يفعل ما أمره به، فـ ﴿كَلَّا﴾: بمعنى: حقًا. قال ابن الأنباري: فالوقف على ﴿كَلَّا﴾ حينئذٍ قبيح، فيكون ﴿كَلَّا﴾ تابعًا لما بعده، فالوقف على ﴿مَا أَمَرَهُ﴾ حينئذٍ. وقال بعض أهل التفاسير: ﴿ما﴾ في قوله: ﴿لَمَّا﴾ صلة دخلت للتأكيد، كقوله: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ﴾، فـ ﴿لَمَّا﴾ بمعنى: لم، وليس فيه معنى التوقع. و ﴿مَا﴾ في ﴿مَا أَمَرَهُ﴾، موصولة، وعائدها يجوز أن يكون محذوفًا، والتقدير: ما أمره به، فحذف الجار أولًا، فبقي ما أمره هو، ثم حذف الهاء العائد ثانيًا، ويجوز أن يكون باقيًا على أن المحذوف من الهاءين هو العائد إلى الإنسان، والباقي هو العائد إلى الموصول، فاعرف وقس عليه أمثاله.
وحاصل معنى الآية: ﴿كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (٢٣)﴾؛ أي (٢): حقًا أن حال الإنسان لتدعو إلى العجب، فإنه بعد أن رأى في نفسه مما عددناه من عظيم الآيات، وشاهد من جلائل الاثار ما يحرك الأنظار، ويسير بها إلى صواب الآراء، وصحيح الأفكار لم يقض ما أمره به ربه من التأمل في دلائل قدرته، والتدبر في معالم هذا الكون المنبئة بوحدانية خالقه، الناطقة بأن لها موجدًا يستحق أن يقصده وحده دون سواه، ويتوجه إليه بالعبادة والامتثال إلى ما يأمره به.
والخلاصة (٣): أن الإنسان قد بلغ في جحده آيات خالقه مبلغًا لا ينتهي منه العجب؛ إذ قد رأى في نفسه، وفي السموات والأرض، وسائر ما يحيط به من العوالم الآيات الناطقة بوحدانية الخالق الدالة على عظيم قدرته، ثم لا يزال مستمرًا في نكران نعمته عليه، فهذا ذكر لا يتذكر، وإذا أرشد إلى الهدى لم يسلك سبيله
(٢) المراغي.
(٣) المراغي.
٢٤ - ثم شرع سبحانه في تعداد نعمه على عباده ليشكروها، وينزجروا عن كفرانها بعد ذكر النعم المتعلِّقة بحدوثه، فقال: ﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (٢٤)﴾؛ أي: فلينظر كيف خلق الله طعامه الذي جعله سببًا لحياته، وكيف هيأ له أسباب المعاش يستعد بها للسعادة الآخروية. قال مجاهد: معناه: فلينظر الإنسان إلى طعامه؛ أي: إلى مدخله ومخرجه، والأول أولى. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: فلينظر الإنسان إلى طعامه؛ ليعلم خسة قدره وفناء عمره. وفي الحديث: "إن مطعم ابن آدم جعله الله مثلًا للدنيا، وإن قَزَحه ومَلَحه، فانظر إلى ماذا يصير". يقال: قزح القدر: جعل التابل فيها، وهو كصاحب وهاجر، إبراز الطعام، وملحها: جعل الملح فيها.
والمعنى: أي فليتدبر الإنسان شأن نفسه، وليفكر في أمر طعامه وتدبيره وتهيئته حتى يكون غذاءً صالحًا تقوم به بنيته، ويجد في تناوله لذة تدفعه إليه ليحفظ بذلك قوته مدى الحياة التي قدرت له،
٢٥ - وقد فصل ذلك بقوله: ﴿أَنَّا صَبَبْنَا﴾ وأنزلناه ﴿الْمَاءَ﴾؛ أي: الغيث: وهو المطر المحتاج إليه من السحاب ﴿صَبًّا﴾ عجبًا وإنزالًا وافيًا، بعد أن بقي حينًا في جو السماء مع ثقله.
وقرأ الجمهور (١): ﴿إنا﴾ بكسر الهمزة على الاستئناف في ذكر تعداد أسباب الوصول إلى الطعام. وقرأ الكوفيون والأعرج وابن وثاب والأعمش ورويس عن يعقوب ﴿أَنَّا﴾ بفتحها على أنه بدل من طعامه بدل الاشتمال؛ لكون نزول المطر سببًا لحصول الطعام، فهو كالمشتمل عليه، فالثاني مشتمل على الأوّل؛ إذ لا يلزم فيه أن يكون المبدل منه مشتملًا على البدل، فحينئذٍ العائد محذوف، والتقدير: أنا صببنا له الماء.
والمعنى عليه: فلينظر الإنسان إلى أنا صببنا الماء صبًا.
وقرأ الحسن بن علي رضي الله عنهما (٢): ﴿أنى﴾ بالفتح، والإمالة على معنى: فلينظر الإنسان كيف صببنا الماء.
٢٦ - ﴿ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ﴾ بالنبات الخارج منها بسبب نزول المطر ﴿شَقًّا﴾ بديعًا لائقًا
(٢) البحر المحيط.
٢٧ - وذكر ثمانية أنواع من النبات، فقال: ﴿فَأَنْبَتْنَا فِيهَا﴾؛ أي: في الأرض المشقوقة بالنبات، والفاء للتعقيب.
١ - ﴿حَبًّا﴾: فإن انشقاق الأرض بالنبات لا يزال يتزايد ويتسع إلى أن يتكامل النمو وينعقد الحب، والحب: كل ما حصد من نحو الحنطة والشعير وغيرهما، وهو جنس الحبة؛ كالتمر والتمرة، فيشمل القليل والكثير، قدمه على ما بعده؛ لأنه الأصل في الغذاء.
٢٨ - وقوله:
٢ - ﴿وَعِنَبًا﴾ معطوف على ﴿حَبًّا﴾؛ أي: وأنبتنا فيها عنبًا، قيل: وليس من لوازم العطف أن يقيد المعطوف بجميع ما قيد به المعطوف عليه، فلا ضير في خلو إنبات العنب عن شق الأرض، وكذا في أمثاله كذا قال في "الإرشاد"؛ ولعل شق الأرض فيه باعتبار أصله أول خروجه منها، فعان المراد هنا: شجرة العنب، وإنما ذكره والزيتون باسم الثمرة؛ لشهرتهما بها، ووقوع كل منهما بعدما يؤكل نفسه. فاعرف.
وأفرد العنب بالذكر من بين الثمار؛ لأنه فاكهة من وجه يتلذذ به، وطعام يتغذى به، وهو من أصلح الأغذية.
٣ - ﴿وَقَضْبًا﴾ أي: وَقَتًّا رطبًا، والقضب: هو القتَّ الرطب الذي يقضب؛ أي: يقطع مرة بعد أخرى تعلف به الدواب، ويقال له: الفصفصة، سميت بمصدر قضبه؛ أي: قطعه، مبالغة كأنها لتكرر قطعها وتكثره إذا تقضب مرة بعد أخرى في السنة نفس القطع.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: إنه الرطب التي تقضب من النخل، ورجحه
٤ - ٢٩ ﴿وَزَيْتُونًا﴾: وهو ما يعصر منه الزيت، والمراد: شجرته، وتعمر ثلاثة آلاف سنة، خصه بالذكر لكثرة فوائده خصوصًا لأهالي بلاد العرب، فإنهم ينتفعون به أكلًا وادهانًا، واستضاءة وتطهرًا، فإنه يجعل في الصابون، وكان - ﷺ - يتطيب به في بعض الأوقات.
٥ - ﴿وَنَخْلًا﴾: هو شجر التمر جمع نخلة، والرطب والتمر من أنفع الغذاء، وفي العجوة منه خاصية دفع السم والسحر، كما في الحديث، وشجرته قيل: من فضلة طينة آدم عليه السلام، كما سبق مفصلًا.
٦ - ٣٠ ﴿وَحَدَائِقَ﴾ جمع حديقة، وهي البستان من النخل والشجر، أو الروضة ذات الأشجار، أو كل ما أحاط به البناء، أو القطعة من النخل كما في "القاموس"، وهي هنا: من قبيل التعميم بعد التخصيص، وقوله: ﴿غُلْبًا﴾ صفة لـ ﴿حَدَائِقَ﴾؛ أي: عظام الأشجار غلاظها. وقال مجاهد ومقاتل: الغلب الملتف بعضها إلى بعض، وهو جمع أغلب كحمر جمع أحمر أو حمراء، مستعار من وصف الرقاب، يقال رجل أغلب، وأسد أغلب؛ أي: غليظ العنق.
والمعنى (١): أي وبساتين ذات أشجار ضخمة مثمرة ذات حوائط تحيط بها، وعظم الحدائق؛ إما بالتفاف أشجارها وكثرتها، وإما بعظم كل شجرة وغلظها وكبرها، وفي ذكرها بهذا الوصف إيماء إلى أن النعمة في الأشجار بجملتها،
٧ - ٣١ ﴿وَفَاكِهَةً﴾ كثيرة غير ما ذكر، يتمتع بلذتها الإنسان خاصة، كالتين والتفاح والخوخ والبرتقال والمشمس والموز وغيرها، فهو معطوف على ﴿عِنَبًا﴾ عطف عام على خاص، ويصح عطفه على ﴿حَدَائِقَ﴾ كما هو المتبادر، فيكون عطف خاص على عام كما لا يخفى.
قال أبو حنيفة (١): إن نحو العنب والرطب؛ لكونه مما يؤكل غذاء يحقق القصور في معنى التفكه به؛ أي: التنعم به بعد الطعام وقبله، فلا يتناوله اسم الفاكهة على الإطلاق حتى لو حلف لا يأكل فاكهة لا يحنث بأكله؛ لكونه غذاء من وجه، وإن كان فاكهة من وجه آخر، وعطف الفاكهة عليه لا ينافي كونه فاكهة من وجه؛ لأن المراد بالفاكهة المعطوفة ما هو فاكهة من كل وجه، ولا يخفى أن الفاكهة من كل وجه مغايرة لما هو فاكهة من وجه دون وجه، فيصح عطفها عليه، أو عطقه عليها كما في مواضع من القرآن.
٨ - ﴿وَأَبًّا﴾؛ أي: مرعى للحيوان خاصة، فالفاكهة ما يأكله الإنسان من ثمار الأشجار، كالعنب والتين مثلًا، والأبُّ: كل ما أنبت الأرض، مما لا يأكله الناس، ولا يزرعون من الكلأ وسائر أنواع المرعى، من أبَّه إذا أمَّه؛ أي: قصده؛ لأنه يؤم ويقصد جزه للدواب، كما سيأتي، وقيل الأبُّ: الفاكهة اليابسة تؤبُّ للشتاء؛ أي: تعد وتهيأ، وهو الملائم لما قبله، وفي الحديث: "خلقتم من سبع، ورزقتم من سبع، فاسجدوا لله على سبع" أراد بقوله: خلقتم من سبع؛ أي: من نطفة، ثم من علقة... إلخ، وهي التارات السبع، وبقوله: زرقتم من سبع، قوله: ﴿حَبًّا﴾ و ﴿عنبًا﴾ إلى ﴿أبًا﴾، ولعل الحدائق خارجة عن الحساب؛ لأنها منابت تلك المزروعات، وبقوله: فاسجدوا لله على سبع: الأعضاء السبعة الوجه، واليدان، والركبتان، والرجلان.
٣٣ - وقوله: ﴿فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (٣٣)﴾ شروع (١) في بيان أحوال معادهم، إثر بيان مبدأ خلقهم ومعاشهم، والفاء للدلالة على ترتب ما بعدها على ما قبلها من فناء النعم عن قريب، كما يشعر لفظ المتاع بسرعة زوالها، وقرب اضمحلالها، و ﴿الصَّاخَّةُ﴾: هي القيامة، والداهية العظيمة التي يصح لها الخلائق؛ أي: يصيخون لها، من صخ لحديثه: إذا أصاخ واستمع، وصفت به النفخة الثانية؛ لأن الناس يصخون لها في قبورهم، فأسند الاستماع إلى المسموع مجازًا، وقيل: هي الصيحة التي تصم الآذان لشدة وقعها، وقيل: هي مأخوذة من صخه بالحجر؛ أي: صكه، فتكون الصاخة حقيقة في النفخة، وجواب إذا محذوف يدل عليه قوله: لكل امرىء منهم إلخ، تقديره: فإذا جاءت الصاخة - أي: القيامة - اشتغل كل امرىء بنفسه، والظرف في قوله: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦)﴾؛ إما بدل من ﴿إِذَا جَاءَتِ﴾، أو منصوب بمقدر؛ أي: أعني، ويكون تفسيرًا لـ ﴿الصَّاخَّةُ﴾، أو بدلًا منها مبني على الفتح؛ أي: أعني بالصاخة: يوم يعوض الإنسان عن هؤلاء المذكورين، ولا يصاحبهم ولا يسأل عن حالهم، كما في الدنيا؛ لاشتغاله بحال نفسه، ولعلمه أنهم لا يغنون عنه شيئًا، وخص (٢) هؤلاء بالذكر لأنهم أخص القرابة وأولاهم بالحنو والرأفة، فالفرار منهم لا يكون إلا لهول عظيم وخطب فظيع.
وتأخير الأحب للمبالغة (٣)؛ لأن الأبوين أقرب من الأخ، وتعلق القلب بالصاحبة والأولاد أشد من تعلقه بالأبوين، وهذه الآية تشمل النساء كما تشمل الرجال، ولكنها خرجت مخرج كلام العرب؛ حيث تدرج النساء في الرجال في الكلام كثيرًا.
قال عبد الله بن طاهر الأبهري - رحمه الله تعالى -: يفر منهم إذا ظهر له عجزهم وقلة حيلتهم إلى من يملك كشف تلك الكروب والهموم عنه، ولو ظهر له
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
والمعنى (١): ﴿فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (٣٣)﴾؛ أي: فإذا جاء يوم القيامة حين يحدث ذلك الصوت الهائل الذي يصخ الأسماع ويصكها بشدته، فما أعظم أسف الكافر، وما أشد ندمهم،
٣٤ - ثم فصل بعض أهوال ذلك اليوم، فقال: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْء﴾ إلخ؛ أي: أعني بذلك اليوم: يوم يشغل كل امرىءٍ ما يصيبه من الأهوال، فيفر ممن يتوهم أنه يتعلق به، ويطلب معونته على ما هو فيه، فيتوارى من أخيه،
٣٥ - بل من أمه وأبيه،
٣٦ - بل من زوجه التي هي ألصق الناس به، وقد كان في الدنيا يبذل النفس والنفيس في الدفاع عنها، بل من بنيه وهم فلذات كبده، وقد كان في الحياة الأولى يفديهم بماله وروحه، وهم ريحانة الدنيا ونور الحياة أمام عينه.
٣٧ - ﴿لِكُلِّ امْرِئٍ﴾؛ أي: لكل إنسان ﴿مِنْهُمْ﴾؛ أي: من هؤلاء الأقرباء وغيرهم ﴿يَوْمَئِذٍ﴾؛ أي: يوم إذ تكون هذه الداهية الصاخة ﴿شَأْنٌ﴾، أي: شغل ﴿يُغْنِيهِ﴾؛ أي: يكفيه في الاهتمام به، أو عمل يصرفه عن الاهتمام بقرابته ويشغله، كما قاله ابن قتيبة، ومنه قولهم: أغنِ عنِّي وجهك. أي: اصرفه، والشأن (٢): لا يقال إلا فيما يعظم من الأحوال والأمور؛ أي: لكل واحد من المذكورين شغل شاغل وخطب هائل، يكفيه في الاهتمام به، قال ابن الشيخ: إن الهم الذي حصل له قد ملأ صدره، فلم يبق فيه متسع، فصار بذلك شبيهًا بالغني في أنه ملك شيئًا كثيرًا.
وقيل: إنما يفر منهم حذرًا من مطالبتهم إياه بما بينهم، وقيل: يفر عنهم لئلا يروا ما هو فيه من الشدة، وقيل: لعلمه أنهم لا ينفعونه ولا يغنون عنه شيئًا، كما قال تعالى: ﴿يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا﴾، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان سبب الفرار.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿يُغْنِيهِ﴾ بضم الياء وبالغين المعجمة؛ أي: يغنيه عن النظر في شأن الآخر من الإغناء، وقرأ الزهري وابن محيصن وابن أبي عبلة وحميد وابن السميفع: ﴿يعنيه﴾ بفتح الياء وبالعين المهملة؛ أي: يهمه من عناه الأمر: إذا أهمه.
٣٨ - وبعد أن ذكر الأهوال التي تعرض للإنسان في ذلك اليوم، وأنها لا تسعف
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
٣٩ - ﴿ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩)﴾ بما تشاهده من النعيم المقيم، والبهجة الدائمة، وفي بعض (١) التفاسير ﴿ضَاحِكَةٌ﴾؛ أي: مسرورة فرحة لما علموا من الفوز والسعادة، أو لفراغهم من الحساب بالوجه اليسير ﴿مُسْتَبْشِرَةٌ﴾؛ أي: ذات بشارة بالخير، فكأنه بيان لقوله: ﴿ضَاحِكَةٌ﴾ انتهى. وهما خبران آخران لـ ﴿وُجُوهٌ﴾، وفي "عين المعاني": ضاحكة من مسرة العين، مستبشرة من مسرة القلب، يقول الفقير: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨)﴾ لابيضاضها في الدنيا بالتزكية والتصفية، وزوال كدوراتها ﴿ضَاحِكَةٌ﴾؛ لأنها بكت في الله أيام دنياها حتى صارت عمياء عن رؤية ما سوى الله تعالى مطلقًا، كما وقع لشعيب ويعقوب عليهما السلام. ﴿مُسْتَبْشِرَةٌ﴾ لأمنها بدل خوفها في الدنيا، ولذا قال تعالى: ﴿لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ﴾ بأن تقول لهم الملائكة: لا تخافوا وأبشروا بالجنة والرؤية. والضحك: هو انبساط الوجه وتكشر الأسنان من سرور النفس، ولظهور الأسنان عنده.. سميت مقدمة الأسنان ضواحك، ويستعمل في السرور المجرد كما في الآية.
والمعنى (٢): أي وجوه يومئذٍ متهللة ضاحكة فرحة بما تجد من برد اليقين بأنها
(٢) المراغي.
٤٠ - وأشار إلى الآخرين بقوله: ﴿وَوُجُوهٌ﴾ أخر، وهو مبتدأ، أول. ﴿يَوْمَئِذٍ﴾؛ أي: يوم إذ يفر المرء عن أقربائه، وهو متعلق بـ ﴿تَرْهَقُهَا﴾ ﴿عَلَيْهَا﴾: خبر مقدم ﴿غَبَرَةٌ﴾؛ أي: غبار وكدورة لما تراه مما أعده الله لها من العذاب الأليم، وهو مبتدأ مؤخر، والجملة خبر ﴿وُجُوهٌ﴾.
٤١ - ﴿تَرْهَقُهَا﴾؛ أي: يغشاها ويعلوا ﴿قَتَرَةٌ﴾؛ أي: سواد وظلمة كالدخان، ولا ترى أوحش من اجتماع الغبرة والسواد في الوجه، كما إذا اغبر وجه الزنجي، قال سهل رحمه الله تعالى: غلب عليها إعراض الله عنها ومقته إياها، فهي تزداد في كل وقت ظلمة وقترة، والجملة الفعلية خبر ثانٍ ﴿وُجُوهٌ﴾.
٤٢ - ﴿أُولَئِكَ﴾ الموصوفون بسواد الوجه ومخبوته ﴿هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ﴾؛ أي: الجامعون بين الكفر والفجور، فلذا جمع الله سبحانه إلى سواد وجوههم الغبرة، وفي الحديث: "إن البهائم إذا صارت ترابًا يوم القيامة حول ذلك التراب في وجوه الكفار"، وفي "عين المعاني": أولئك هم الكفرة في حقوق الله، الفجرة في حقوق العباد. انتهى.
وقرأ الجمهور (١): ﴿قَتَرَةٌ﴾ بفتح التاء، وابن أبي عبلة بإسكانها، وفيه إشارة إلى أن الفجور الغير المقارن بالكفر ليس في درجة المقارن في المذمومية، والسببية للحقارة والمهانة والخذلان، إذ أصل الفجور: الكذب والميل عن الحق، ويستعمل فيه الذنب الكبير، وكثيرًا ما يقع ذلك من المؤمن العاصي، لكن ينبغي أن يخاف منه ويحذر عنه؛ لأن كبائر الذنب تجر إلى الكفر، كما أن صغائره تجر إلى الكبائر.
والمعنى (٢): أي ووجوه أخرى يعلوها غبار الذل، وسواد الغم والحزن، وهي وجوه الكفار الذين لم يؤمنوا بالله، وبما جاء به أنبياؤه، وخرجوا عن حدود شرائعه، واجترحوا السيئات، واقترفوا المعاصي.
وقصارى ما سلف: أن الناس إذ ذاك فريقان:
١ - فريق كان في دنياه يطلب الحق، وينظر في الحجة، ويعمل ما استقام عليه الدليل، لا يثنيه عن الأخذ به قلة الآخذين، ولا قوة المعاندين، وهؤلاء سيطمئنون
(٢) المراغي.
٢ - فريق احتقر عقله، وأهمل النظر في نعم الله عليه، وارتضى الجهل، وانصرف عن الاستدلال إلى اقتفاء آثار الاباء والأجداد، وظل يخب ويضع في أهوائه الباطلة، وعقائده الزائفة، وهؤلاء سيجدون كل شيء على ما كانوا يعرفون، فتظهر عليهم آثار الكآبة والخيبة والفشل، وتعلو وجوههم الغبرة، وترهقها القترة؛ لأنهم كانوا في حياتهم الدنيا كفرة فجرة.
اللهم احشرنا يوم القيامة ووجوهنا مسفرة ضاحكة مستبشرة، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الإعراب
﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (٢) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (٤)﴾.
﴿عَبَسَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير مستتر يعود على محمد، والجملة مستأنفة استئنافًا نحويًا، وأتى هنا وفي الموضعين بعده بصيغة الغيبة إجلالًا له - ﷺ -، ولطفًا به لما في المشافهة بتاء الخطاب من الغلظة والشدة، ﴿وَتَوَلَّى﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير مستتر يعود على محمد، معطوف على ﴿عَبَسَ﴾. ﴿أَن﴾: حرف نصب ومصدر ﴿جَاءَهُ﴾: فعل ماض في محل النصب بـ ﴿أَن﴾ المصدرية، و ﴿الهاء﴾ مفعول به مقدم ﴿الْأَعْمَى﴾: فاعل مؤخر، والجملة الفعلية مع ﴿أَن﴾ المصدرية في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض؛ أي: عبس لمجيء الأعمى إياه، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿عَبَسَ﴾؛ لأن المجيء ليس من أفعال القلوب، فاختل شرط من شروط المفعول لأجله ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾ عاطفة ﴿مَا﴾: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ، ﴿يُدْرِيكَ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على ﴿مَا﴾، ومفعول أول لأدرى والجملة الفعلية في محل الرفع خبر لـ ﴿مَا﴾ الاستفهامية، والجملة الاسمية معطوفة على جملة ﴿عَبَسَ﴾. ﴿لَعَلَّهُ﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿يَزَّكَّى﴾ خبره، وجملة الترجي في محل النصب مفعول ثانٍ لـ ﴿يُدْرِيكَ﴾، وقيل: المفعول الثاني لأدرى محذوف تقديره: وما يدريك أمره ومغبة حاله، وجملة ﴿لَعَلَّهُ يَزَّكَّى﴾: مستأنفة ﴿أَوْ﴾: حرف
﴿أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (٧) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (٨) وَهُوَ يَخْشَى (٩) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠)﴾.
﴿أَمَّا﴾: حرف شرط وتفصيل ﴿مَنِ﴾: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ، وجملة ﴿اسْتَغْنَى﴾ صلة ﴿مَنِ﴾ الموصولة، ﴿فَأَنْتَ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿أَمَّا﴾، واقعة في غير موضعها للثقل؛ لأن موضعها موضع ﴿أَمَّا﴾. ﴿أَنتَ﴾: ضمير رفع منفصل في محل الرفع مبتدأ ثانٍ ﴿لَهُ﴾: متعلق بـ ﴿تَصَدَّى﴾، قدم عليه لرعاية الفاصلة، وجملة ﴿تَصَدَّى﴾ في محل الرفع خبر ﴿أنت﴾، والجملة الاسمية خبر ﴿مَنِ﴾ الموصولة، وجملة ﴿مَنِ﴾ الموصولة من المبتدأ والخبر جواب ﴿أَمَّا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿أَمَّا﴾ مستأنفة ﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾: حالية ﴿مَا﴾: نافية، ﴿عَلَيْكَ﴾: خبر مقدم ﴿أَن﴾: حرف نصب ومصدر ﴿لَا﴾: نافية ﴿يَزَّكَّى﴾: فعل مضارع منصوب بـ ﴿أن﴾ المصدرية، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنِ﴾ الموصولة، والجملة الفعلية مع ﴿أن﴾ المصدرية في تأويل مصدر مرفوع على كونه مبتدأ مؤخرًا؛ أي: وما عليك عدم التزكية؛ أي: ليس عليك بأس في عدم تزكيته بالإسلام، والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل، ﴿تصدى﴾. واختار أبو حيان أن تكون ﴿مَا﴾ استفهامية للإنكار، فتكون مبتدأ، و ﴿عَلَيْكَ﴾: خبرها، و ﴿أَلَّا يَزَّكَّى﴾ منصوب بنزع الخافض، والجار والمجرور متعلق بما تعلق به ﴿عَلَيْكَ﴾؛ أعني: الاستقرار، والجملة حينئذٍ جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. ﴿وَأَمَّا﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة ﴿أَمَّا﴾: حرف شرط وتفصيل ﴿مَن﴾: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ، وجملة ﴿جَاءَكَ﴾ صلة ﴿مَن﴾ الموصولة ﴿يَسْعَى﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر، والجملة حال من فاعل ﴿جَاءَكَ﴾، ﴿وَهُوَ﴾: ﴿الواو﴾: حالية: ﴿هُوَ﴾ مبتدأ، وجملة ﴿يَخْشَى﴾: خبره، والجملة الاسمية
﴿كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (١٦) قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (١٧) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (٢١) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (٢٢) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (٢٣)﴾.
﴿كَلَّا﴾: حرف ردع وزجر لكل إنسان عن ارتكاب مثل المعاتب عليه ﴿إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ﴾: ناصب واسمه وخبره، والجملة مستأنفة ﴿فَمَنْ﴾: ﴿الفاء﴾: اعتراضية ﴿من﴾: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر فعل الشرط، أو جوابه، أو هما ﴿شَاءَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعل مستتر في محل الجزم بـ ﴿من﴾ الشرطية على كونها فعل شرط لها، ﴿ذَكَرَهُ﴾: فعل ماضٍ، وفاعل مستتر، ومفعول به في محل الجزم بـ ﴿من﴾ الشرطية على كونه جواب الشرط، وجملة ﴿من﴾ الشرطية معترضة لا محل لها من الإعراب؛ لاعتراضها بين المبتدأ والخبر ﴿فِي صُحُفٍ﴾: خبر ثانٍ لـ ﴿إِنَّهَا﴾؛ أي: إنها كائنة في صحف، وقوله: ﴿مُكَرَّمَةٍ﴾: صفة أولى لـ ﴿صُحُفٍ﴾ ﴿مَرْفُوعَةٍ﴾ صفة ثانية لها، ﴿مُطَهَّرَةٍ﴾: صفة ثالثة لها. ﴿بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥)﴾: جار ومجرور ومضاف إليه صفة رابعة لها أيضًا، أو خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هي كائنة بأيدي سفرة، ﴿كِرَامٍ﴾: صفة أولى لـ ﴿سَفَرَةٍ﴾. ﴿بَرَرَةٍ﴾: صفة ثانية لها ﴿قُتِلَ الْإِنْسَانُ﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة دعائية لا محل لها من الاعراب ﴿مَا﴾: تعجبية في محل الرفع مبتدأ ﴿أَكْفَرَهُ﴾: فعل ماضٍ ومفعول به، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبًا لجريانه مجرى المثل يعود على ﴿مَا﴾ التعجبية، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر عن ﴿مَا﴾ التعجبية، والجملة الاسمية جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب؛ لدلالتها على إنشاء التعجب نظير قولهم: قاتله الله ما أخبثه، وأخزاه الله ما أظلمه. والمعنى: اعجبوا من كفر الإنسان بجميع ما ذكرنا بعد هذا، وقيل:
﴿فَلْيَنْظُرِ﴾: ﴿الفاء﴾: استئنافية، و ﴿اللام﴾: لام أمر وجزم ﴿ينظر﴾: فعل مضارع مجزوم بلام الأمر ﴿الْإِنْسَانُ﴾: فاعل ﴿إِلَى طَعَامِهِ﴾: متعلق بـ ﴿ينظر﴾، والجملة مستأنفة مسوقة لتعداد النعم المترادفة على الإنسان ﴿أَنَّا﴾: - بفتح الهمزة - ناصب واسمه ﴿صَبَبْنَا الْمَاءَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به ﴿صَبًّا﴾: مفعول مطلق، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿أن﴾، وجملة ﴿أن﴾ في تأويل مصدر مجرور على أنه بدل اشتمال من ﴿طَعَامِهِ﴾، والتقدير: فلينظر الإنسان إلى طعامه.. إلى صببنا الماء صبًا، وقرىء بكسرها على الاستئناف المبين لكيفية إحداث الطعام ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وتراخ ﴿شَقَقْنَا الْأَرْضَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به ﴿شَقًّا﴾: مفعول مطلق، والجملة معطوفة على جملة ﴿صَبَبْنَا﴾، ﴿فَأَنْبَتْنَا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة ﴿أنبتنا﴾: فعل وفاعل، معطوف على ﴿شَقَقْنَا﴾. ﴿فِيهَا﴾ متعلق بـ ﴿أنبينا﴾: ﴿حَبًّا﴾: مفعول به. وقوله: ﴿وَعِنَبًا وَقَضْبًا (٢٨) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (٢٩) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (٣٠)﴾ معطوفات على ﴿حَبًّا﴾. ﴿غُلْبًا﴾: صفة ﴿حَدَائِقَ﴾. ﴿وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (٣١)﴾ معطوفان أيضًا على ﴿حَبًّا﴾. ﴿مَتَاعًا﴾: مصدر مؤكد لـ ﴿أنبتنا﴾؛ لأن إنباته الأشياء إمتاع لجميع الحيوانات الحية، أو مفعول لأجله معلل لفعل محذوف تقديره: فعلنا ذلك تمتيعًا لكم ولأنعامكم ﴿لَكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿مَتَاعًا﴾، ﴿وَلِأَنْعَامِكُمْ﴾: معطوف على ﴿لَكُمْ﴾.
﴿فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (٣٣) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٣٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (٤١) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (٤٢)﴾.
﴿فَإِذَا﴾ ﴿الفاء﴾: استئنافية ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان مضمن معنى الشرط متعلق بالجواب المحذوف المفهوم من قوله: ﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ﴾ تقديره: فإذا جاءت الصاخة.. اشتغل كل إنسان بنفسه، وجملة ﴿إذا﴾ مستأنفة مسوقة لبيان أحوالهم يوم المعاد، ويصح أن تكون الفاء فصيحة تقديره: إذا عرفت أحوالهم في الدنيا، وأردت بيان أحوالهم في المعاد.. فأقول لك: إذا جاءت الصاخة.. اشتغل
التصريف ومفردات اللغة
﴿عَبَسَ﴾؛ أي: قطب وجهه وغير لونه من ضيق الصدر ﴿وَتَوَلَّى﴾؛ أي: أعرض والتفت عن جهة إلى جهة أخرى، وأصله: تولي، أعل بقلب الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. ﴿أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (٢)﴾ وهو من اتصف بالعمى، والعمى: افتقاد البصر، ولام الأعمى للعهد الحضوري، وأصله: الأعمي، قلبت ياؤه ألفًا لتحركها بعد فتح.
﴿وَمَا يُدْرِيكَ﴾؛ أي: أي شيء يعرفك حال هذا الأعمى ﴿يَزَّكَّى﴾ أصله يتزكى، أبدلت تاء التفعل زايًا، وأدغمت في الزاي فاء الكلمة، ثم قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ومعنى: ﴿لَعَلَّهُ يَزَّكَّى﴾؛ أي: يتطهر بما يلقن من الشرائع. ﴿أَوْ يَذَّكَّر﴾؛ أي: يتعظ من التذكر، وهو الاتعاظ أصله: يتذكر. ﴿أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (٥)﴾ بماله وقوته
﴿فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦)﴾ أصله: تتصدى بتاءين حذفت إحدى التاءين للتخفيف، وقلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، والتصدي للشيء: التعرض والتقيد به، والاهتمام بشأنه، وضده التشاغل عنه، وفي "المفردات": التصدي أن يقابل الشيء مقابلة الصدى؛ أي: الصوت الراجع من الجبال المسموع في الأماكن الخالية والأجرام الصلبة، وقيل: من الصدى، وهو العطش، والمعنى هنا: على التعرض كما في "السمين". وقال بعضهم: أصله: تصدد من الصدد، وهو ما استقبلك وصار قبالتك، فأبدل أحد الأمثال حرف علة نحو: تقضى البازي.
﴿أَلَّا يَزَّكَّى﴾ أصله: يتزكى بوزن يتفعل، أبدلت تاء التفعل زايًا، وأدغمت في الزاي كما مر آنفًا، والمعنى: ليس عليك بأس في عدم تزكيته بالإِسلام على أن ﴿مَا﴾ نافية، وفي "البحر": وأي شيء عليك في كونه لا يفلح ولا يتطهر من دنس الكفر على أن ﴿مَا﴾ للاستفهام الإنكاري.
﴿مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى﴾؛ أي: يسرع ويمشي في طلب الخير والمعالي، أصله: يسعي بوزن يفعل، قلبت ياؤه ألفًا لتحركها بعد فتح ﴿وَهُوَ يَخْشَى (٩)﴾ أصله: يخشي؛ لأنه من باب رضي يرضى، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح ﴿فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠)﴾؛ أي: تتشاغل عنه بدعاء صناديد قريش إلى الإِسلام؛ لأنه من لهي بكذا يلهى - كرضي يرضى - إذا تشاغل به، وليس هو من اللهو في شيء، ولم يجعل من اللهو؛ لأنه مسند إلى النبي - ﷺ -، ولا يليق بمنصبه الكريم أن ينسب إليه الفعل من اللهو، بخلاف الاشتغال فإنه يجوز أن يصدر منه في بعض الأحيان، ولا ينبغي أن يعتقد غير هذا. اهـ "سمين"، وأصله: تتلهى، حذفت منه إحدى التاءين تخفيفًا، وقلبت ياؤه ألفًا لتحركها وفتح ما قبلها.
والحاصل: أنه من لهي عن الشيء بكسر الهاء يلهى بفتحها لهيًا إذا أعرض عنه، لا من لهوت بالشيء - بالفتح - ألهو لهوًا. إذا لعبت به، وفي "القاموس": لها لهوًا: لعب، كالتهى وألهاه ذلك، ولهي به - كرضي - أحبه، وعنه: سلا وغفل وترك ذكره، ولها - كدعا - لهيًا ولهيانًا. انتهى.
﴿بَرَرَةٍ﴾: جمع بار، مثل كافر وكفرة، وساحر وسحرة، وفاجر وفجرة، يقال: هو بر وبار إذا كان أهلًا للصدق، ومنه بر فلان في يمينه؛ أي: صدق، وفلان يبر خالقه؛ أي: يطيعه، ومعنى ﴿بَرَرَةٍ﴾: مطيعين الله.
﴿ثُمَّ أَمَاتَهُ﴾ أصله: أموته بوزن أفعل، نقلت حركة الواو إلى الميم فسكنت، لكنها قلبت ألفا لتحركها في الأصل، وفتح ما قبلها في الحال. ﴿فَأَقْبَرَهُ﴾، ولم يقل: فقبره؛ لأن القابر هو الدافن بيده، والمقبر: هو الله تعالى، يقال: قبر الميت: إذا دفنه بيده، وأقبره: إذا أمر غيره أن يجعله في قبره.
﴿وَحَدَائِقَ غُلْبًا (٣٠)﴾ جمع: حديقة، والهمزة فيه مبدلة من ياء فعيلة في المفرد، لوقوعها حرف مد ثالثًا زائدًا في اسم مؤنث. ﴿غُلْبًا﴾ جمع أغلب، كحمر في أحمر وحمراء، يقال: حديقة غلباء؛ أي: غليظة الشجر، ملتفة الحدائق، فالحدائق ذات أشجار غلاظ، فهو مجاز مرسل، كالمرسن بمعنى: الغليظ مطلقًا، وفيه تجوز في الإسناد أيضًا؛ لأن الحدائق نفسها ليست غليظة، بل الغليط أشجارها.
﴿وَأَبًّا﴾ في "المصباح": الأبُّ: المرعى الذي لم يزرعه الناس، مما تأكله الدواب والأنعام، ويبدو أنَّه: مأخوذ من أبه إذا قصده؛ لأنه يؤم وينتجع له، أو من أبَّ لكذا: إذا تهيأ له؛ لأنه متهيء للرعي.
﴿فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (٣٣)﴾ اسم فاعل مؤنث، أصله: الصاخخة بخاءين، أدغمت الأولى في الثانية.
﴿مُسْفِرَةٌ﴾ اسم فاعل من أسفر الصبح إذا أضاء، فهو من لوازم الأفعال، قال في "المفردات": الإسفار يختص باللون، ومعنى ﴿مُسْفِرَةٌ﴾: مشرق لونها. ﴿ضَاحِكَةٌ﴾: اسم فاعل من الضحك، والضحك: انبساط الوجه وتكثر الأسنان من سرور النفس، كما مر.
﴿مُسْتَبْشِرَةٌ﴾ قال الراغب: واستبشر؛ أي: وجد ما يبشره من الفرح، وبشرته:
﴿هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ﴾ جمع كافر وفاجر: وهو الكاذب والمفتري على الله تعالى، فجمع الله تعالى إلى سواد وجوههم الغبرة، كما جمعوا الفجور إلى الكفر. اهـ. "خطيب".
وفي "القرطبي": الفاجر: الكاذب المفتري على الله تعالى، وقيل: الفاسق. اهـ. وفي "المختار": وفجر: فسق، وفجر: كذب، وبابهما دخل، وأصله: الميل، والفاجر: المائل. اهـ.
البلاغة
وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: المجيء بضمائر الغيبة في قوله: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (٢)﴾ حيث لم يقل: عبست وتوليت أن جاءك الأعمى إجلالًا له - ﷺ -، ولطفًا به؛ لما في المشافهة بتاء الخطاب من الغلظة والشدة.
ومنها: الالتفات من الغيبة إلى الخطاب زيادةً في العتاب؛ حيث قال أولًا: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى (١)﴾ ثم قال: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣)﴾ فالتفت تنبيهًا للرسول - ﷺ - إلى العناية بشأن الأعمى.
ومنها: تقديم التزكية في قوله: ﴿لَعَلَّهُ يَزَّكَّى﴾ على التذكر في قوله: ﴿أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (٤)﴾ تقديمًا للتخلية على التحلية؛ لأن الأول من باب التخلية من الآثام، والثاني من باب التحلية بالطاعات.
ومنها: الاحتباك في قوله: ﴿أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦)﴾ و ﴿وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (٨) وَهُوَ يَخْشَى (٩) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠)﴾ فإنه ذكر الغنى أولًا للدلالة على الفقر ثانيًا، وذكر المجيء والخشية ثانيًا؛ للدلالة على ضدهما أولًا.
ومنها: الطباق بين ﴿تَصَدَّى﴾ وبين ﴿تَلَهَّى﴾؛ لأن المراد بهما تتعرض له وتشغل عنه.
ومنها: تقديم الجار والمجرور على متعلقه في قوله: ﴿فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦)﴾، وقوله: ﴿فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠)﴾ رعاية للفاصلة.
ومنها: تقديم ضميره - ﷺ -، وهو: ﴿أَنْتَ﴾ على الفعلين في الموضعين تنبيهًا على أن مناط الإنكار خصوصيته - ﷺ -؛ أي: مثلك خصوصًا لا ينبغي له أن يتصدى للمستغني، ويتلهى عن الفقير الطالب للخير، كما في "روح البيان".
ومنها: الكناية الرائقة في قوله: ﴿ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠)﴾ كنى بالسبيل عن خروجه من فرج أمه.
ومنها: تعريف ﴿السَّبِيلَ﴾ باللام دون الإضافة بأن يقول: ثم سبيله يسر بإضافته إلى ضمير الإنسان؛ للإشعار بالعموم؛ أي: بعمومه سبيل الخير أو الشر، كقوله: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (١٠)﴾.
ومنها: الإجمال في قوله: ﴿مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨)﴾ ثم التفصيل بقوله: ﴿مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩)﴾ إلخ؛ لأن ذكر الشيء مجملًا، ثم ذكره مفصلًا، أوقع في النفس وأرسخ فيها.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (٢٥)﴾ وقوله: ﴿ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (٢٦)﴾.
ومنها: الإسناد المجازي في قوله: ﴿ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (٢٦)﴾، ففيه إسناد مجازي، فقد أسند تعالى الشق إلى نفسه من باب إسناد الفعل إلى السبب، وقيل: الإسناد حقيقي، وإن القول بمجازيته هو من أقوال المعتزلة، ولكن البيضاوي نفسه يتبع الزمخشري في مجازية الإسناد، فيقول: أسند تعالى الشق إلى نفسه إسناد الفعل
ومنها: التعميم بعد التخصيص في قوله: ﴿وَحَدَائِقَ غُلْبًا (٣٠)﴾؛ لأنه عام لجميع ما قبله.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿غُلْبًا﴾؛ لأن الغلب صفة للأشجار لا للحدائق، فأطلق ما للحال على المحل، علاقته المحلية.
ومنها: الالتفات من الغيبة في قوله: ﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ﴾ إلى الخطاب في قوله: ﴿مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (٣٢)﴾.
ومنها: تأخير الأحب للمبالغة في قوله: ﴿وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦)﴾؛ لأن الأبوين أقرب من الأخ، وتعلق القلب بالصحابة والأولاد أشد من تعلقه بالأبوين.
ومنها: المقابلة اللطيفة بين السعداء والأشقياء في قوله: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨)﴾ إلخ قابلها بقوله: ﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (٤٠)...﴾ إلخ.
فائدة: اقتبس بعض الأدباء من قوله تعالى: ﴿قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (١٧)﴾ هذين البيتين:
يَتَمَنَّى الْمَرْءُ فِىْ الْصَّيْفِ الشِّتَاءْ | فَإِذَا جَاءَ الشَّتَاءُ أَنْكَرَهْ |
فَهْوَ لَا يَرضَى بِحَالٍ وَاحِدٍ | قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكّفَرَهْ |
* * *
اشتملت هذه السورة على المقاصد التالية:
١ - عتاب الرسول - ﷺ - ما حدث منه مع ابن أم مكتوم الأعمى.
٢ - أن القرآن ذكرى أو موعظة لمن عقل وتدبر.
٣ - إقامة الأدلة على وحدانية الله تعالى بخلق الإنسان، والنظر في طعامه وشرابه.
٤ - أهوال يوم القيامة.
٥ - الناس في هذا اليوم فريقان: سعداء وأشقياء، وذكر حال كل منهما حينئذٍ (١).
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
سورة التكوير مكية بلا خلاف، نزلت بعد سورة المسد، وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة إذا الشمس كورت بمكة، وأخرج ابن مردويه عن عائشة وابن الزبير مثله.
وآياتها: تسع وعشرون آية. وكلماتها: مئة وأربع كلمات. وحروفها: خمس مئة وثلاثة وثلاثون حرفًا.
ومناسبتها لما قبلها: أن كلتيهما تشرح أحوال يوم القيامة وأهوالها، وهذه السورة محكم كلها، ليس فيها ناسخ ولا منسوخ.
فضلها: ومما ورد في فضلها: ما أخرجه الإمام أحمد، والترمذي وحسنه، والحاكم وصححه، وابن المنذر، والطبراني، وابن مردويه عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - ﷺ -: "من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين.. فليقرأ: ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١)﴾ و ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (١)﴾ و ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (١)﴾ "، وهي اشتملت على بيان حقيقتين: حقيقة القيامة وما يصاحبها من انقلاب الكون، وحقيقة الوحي، وما يتعلق بها من صفة الملك الذي تحمله، وصفة النبي الذي يتلقاه، ثم شأن القوم المخاطبين بهذا الوحي معه، ومع خالقهم الذي فطرهم وأنزل الوحي إليهم.
والله أعلم
* * *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (٢) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (٤) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (٥) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (٦) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (٧) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (٩) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (١٠) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (١١) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (١٢) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (١٣) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (١٤) فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (١٦) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (١٧) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (١٨) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (٢١) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (٢٢) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (٢٣) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (٢٤) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (٢٥) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (٢٦) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (٢٧) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (٢٩)﴾.المناسبة
لما ختم الله سبحانه وتعالى سورة عبس بذكر يوم القيامة وأهوالها.. افتتح هذه السورة أيضًا بذكر علاماتها وأحوالها وأهوالها، وذكر ما يكون فيه من حوادث عظام، ليفخم شأنه، وبين أنه حين تقع هذه الحوادث تعلم كل نفس ما قدمت من عمل خير أو شر، ووجدت ذلك أمامها ماثلًا، ورأت ما أعدّ لها من جزاء، وتمنت إن كانت من أهل الخير أن لو كانت زادت منه، وإن كانت من أهل الشر أن لو لم تكن فعلته، واستبان لها أن الوعد الذي جاء على ألسنة الرسل كان وعيدًا صادقًا، لا تهويل فيه ولا تضليل.
قوله تعالى: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (١٦)...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر من أحوال يوم القيامة وأهوالها ما ذكر، وبيَّن أن الناس حينئذٍ يقفون على حقائق أعمالهم في النشأة الأولى، ويستبين لهم ما هو مقبول منها، وما هو مردود عليهم.. أردف ذلك ببيان أنَّ ما يحدثهم به الرسول - ﷺ -، هو القرآن الذي أنزل عليه، وهو آيات بينات من الهدى، وأن ما رميتموه من المعايب كقولكم: إنه ساحر، أو مجنون، أو كذاب، أو شاعر ما هو