تفسير سورة هود

التفسير الشامل
تفسير سورة سورة هود من كتاب التفسير الشامل .
لمؤلفه أمير عبد العزيز . المتوفي سنة 2005 هـ
بيان إجمالي للسورة
هذه السورة مكية. وهي حافلة بأخبار الأولين من الرسل الذين بعثهم الله إلى أممهم فما آمن منهم إلا قليل. وأبي أكثرهم إلا الضلال والعصيان والتكذيب. فأذوا رسالات الله ؛ فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر. لقد أخذهم بشديد الوبال، والعقاب الوجيع البئيس، ما بين طوفان جارف غامر اصطلم المشركين جميعا فامحت أعيانهم البتة. أو ريح صرصر عاتية تدمر كل شيء، أو صيحة قارعة رعيبة تتقطع منها القلوب، وتتبد منها الأجساد تبديدا، إلى غير ذلك من ضروب العقاب الذي أنزله بساحة العصاة والمجرمين الذين شاقوا الله ورسوله وحالوا بين منهج الله والناس.
إن هذه الأخبار في ذاتها مخوفة مؤثرة وغاية التأثير، فلا يمر بها القارئ أو السامع المتدبر حتى تفجأه أحداثها ووقائعها وما آلت إليه من وخيم العواقب، فيكف إذا كانت هاتيك الأخبار التي والوقائع قد تحدث بها القرآن بسوره العظيمة وآياته المؤثرة العجاب، وعباراته التي تتزاحم فيها المعاني تزاحما ؟ ! وكذلك كلماته ذات الإيقاع المفزع، والنعم الباهر الخلاب ؟ ! فلا جرم أن تكون هذه السورة في مبلغ تأثيرها وعجيب إيقاعها وزاخر معانيها المختلفة وشدة روعتها المفزعة التي تأخذ القلوب – باللغة الشأن، مهيبة القدر والجلال.
تلك هي سورة هود التي وقعت في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم كل موقع حتى شاب منها شعره. وفي هذا أخرج الترمذي بإسناده عن ان عباس قال : قال أبو بكر : يا رسول الله قد شبت. قال :( شيبتني هود، والواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذ الشمس كورت ) وفي رواية :( هود وأخواتها ).
روي الطبري عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( شيبتني هود وأخواتها : الواقعة، والحاقة، وإذا الشمس كورت ).

بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ الر كتاب أحكم آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ١ ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير ٢ وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير ٣ إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير ﴾.
﴿ الر ﴾، مبتدأ. خبره ﴿ كتاب ﴾ وقوله :﴿ أحكم آياته ﴾ صفة للكتاب١ والمعنى : أنها نظمت مظما رصيفا٢ ليس فيه نقص ولا ضعف ولا خلل. وقال ابن عباس : أي لم ينسخها كتاب بخلاف التوراة الإنجيل. وعلى هذا الوجه لا يكون كل كتاب محكما ؛ لأنه قد حصل فيه آيات منسوخة، لكنه لما كان الغالب محكما غير منسوخ صح إطلاق هذا الوصف ( الإحكام ) عليه ؛ لأن الحكم الثابت فيما هو غالب يجري مجرى الثابت في الكل.
قوله :﴿ ثم فصلت من لدن حكيم خبير ﴾ ﴿ فصلت ﴾ بمعنى فسرت ؛ أي بين حلالها وحرامها، وأمرها ونهيها، ووعدها ووعيدها، وثوابها وعقابها. وذلك كله ﴿ من لدن حكيم خبير ﴾ حكيم في تدبيره وتقديره وأقواله وأفعاله، خبير بعواقب الأمور وبما ينفع الناس أو يضرهم.
١ تفسير الرازي جـ ١٧ ص ١٨٤..
٢ الرصيف: الثابت المحكم الرصين. انظر المصباح المنير جـ ١ ص ٢٤٥ ومختار الصحاح ص ٢٤٥..
﴿ ألا تعبدوا إلا الله ﴾ أي جاء هذا القرآن محكما مفضلا بأن تعبدوا إلا الله وحده لا شريك له وتخلعوا كل ما عداه من آلهة وأنداد ﴿ إنني لكم منه نذير وبشير ﴾ إنني مكلف من ربي بأن أنذركم وأحذركم شديد عقابه على الجحود والعصيان، وبأن أبشر المؤمنين الطائعين منكم بالجنة والرضوان وجزيل الثواب.
قوله :﴿ وأن استغفروا ربكم ﴾ معطوف على ﴿ ألا تعبدوا ﴾ أي اطلبوا المغفرة مما سبق من الشرك والذنوب، واخلعوا حب الأصنام من قلوبكم، وأقلعوا عن فعل المعاصي والسيئات ﴿ ثم توبوا إليه ﴾ أي ارجعوا له بالطاعة والعبادة وعمل الصالحات.
قوله :﴿ يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ﴾ أي إذا فعلتم ما ذكر من استغفار وتوبة أمتعكم الله بسعة الرزق وراغد العيش وطيب الزينة والمعاش إلى وقت مقدر لكم في هذه الدنيا وهو حلول الموت.
﴿ يمتعكم ﴾، مجزوم ؛ لأنه جواب الأمر ﴿ وأن استغفروا ﴾ وجواب الأمر وجب أن يكون مجزوما ؛ لأنه جواب لشرط مقدر١.
قوله :﴿ ويؤت كل ذي فضل فضله ﴾ الفضل معناه : الإحسان ابتداء بلا علة، وما بقي من الشيء٢ والمعنى : أن الله يجزي كل من عمل خيرا جزاءه في الآخرة. وقيل : في الدنيا والآخرة جميعا.
قوله :﴿ وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير ﴾ ﴿ تولوا ﴾، أصله تولوا، فحذفت إحدى التاءين ؛ لأنه اجتمع حرفان متحركان من جنس وحد فاستثقلوا اجتماعهما فحذفوا إحداهما تخفيفا٣ ؛ أي إن أعرضوا عن دين الله وأبوا إلا الضلال والباطل وعبادة الأوثان فقل لهم : إني ﴿ أخاف عليكم عذاب يوم كبير ﴾ كبير بالأهوال والشدائد، كبير بفظاعة الوي وعظائم الأمور ؛ ذلكم يوم مخوف مذهل لا ينفع فيه المال ولا البنون ولا الشفاعة ولا الفداء. يوم يغيب فيه عن المشركين كل الشركاء والأنداد والخلان.
١ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٧..
٢ المعجم الوسيط جـ ٢ ص ٦٩٣..
٣ تفسير الطبري جـ ١١ ص ١٢٤ والكشاف جـ ٢ ص ٢٥٨ وفتح القدير جـ ٢ ص ٤٨١..
قوله :﴿ إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير ﴾ إن مصيركم إلى الله ؛ إذ تموتمون ثم تبعثون من قبروكم، ثم تحشرون لتناقشوا الحساب. وليس شيء من ذلك بعزيز على الله ؛ فهو سبحانه قادر على إحيائكم بعد الموت لعاقبكم في أخراكم١.
١ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٨..
قوله تعالى :﴿ ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسيرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور ﴾.
نزلت في الأخنس بن شريق، وكان رجلا حلو الكلام، حلو المنظر يقلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يحب ويطوي بقلبه ما يكره. وقيل : كان يجالس النبي صلى الله عليه وسلم يظهر له أمرا يسره ويضمر في قلبه خلاف ما يظهر. فأنزل الله :﴿ ألا إنهم يثنون صدورهم ﴾ أي يكمنون ما في صدورهم من العداوة لمحمد صلى الله عليه وسلم١.
وقيل : نزلت في بعض المنافقين، كان إذا مر بالنبي صلى الله عليه وسلم ثنى صدره وظهره وطأطأ رأسه وغطى وجهه، لكيلا يراه النبي صلى الله عليه وسلم فيدعوه إلى الإيمان.
وقيل : قال منافقون : إذا غلقنا أبوابنا، واستغشينا ثيابنا، وثنينا صدورنا على عداوة محمد فمن يعلم بنا ؟ فنزلت الآية٢.
قوله :﴿ ألا إنهم يثنون صدورهم ليسخفوا منه ﴾ ثنى صدره عن الشيء إذا ازور٣ عنه وانحرف، ويثنون صدورهم ؛ أي يزورون عن الحق وينحرفون عنه. وذلك كناية عن الإعراض عن دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم ﴿ ليسخفوا منه ﴾ أي ليتواروا عن الله أو عن رسوله.
وقيل :﴿ يثنون صدورهم ﴾ يعني يطوونها على عداوة المسلمين. قال ابن عباس : يخفون ما في صدورهم من الشحناء والعداوة ويظهرون خلافه.
قوله :﴿ ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون ﴾ ألا حين يغطون رؤوسهم بثيابهم في ظلمة الليل وهم في أجواف بيوتهم لا جرم انه يعلم في تلك الساعة ما يسونه في قلوبهم وما يعلنونه بأفواههم. يستوي ذلك كله عند الله ﴿ إنه عليم بذات الصور ﴾ وذلك تسفيه للمنافقين الضالين الماكرين الذين يطنون أنهم مستخفون عن الله بما يستسرونه في قلوبهم من الحقد والكيد والكراهية للإسلام ورسوله ؛ فالله علم بأسرارهم وما تخفيه قلوبهم، وهو سبحانه مطلع على أعمالهم وخباياهم ر يخفى عليه من ذلك شيء٤.
١ أسباب النزول للنيسابوري ص ١٧٩..
٢ تفسير القرطبي جـ ٩ ص ٥..
٣ ازور عن الشيء لزوروا؛ أي عدل عنه وانحرف. انظر مختار الصحاح ص ٢٧٨..
٤ تفسير البيضاوي ص ٢٩١ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ١٨٠ وفتح القدير جـ ٢ ص ٤٨١ وتفسير القرطبي جـ ٩ ص ٥ وتفسير الطبري جـ ١١ ص ١٢٥..
قوله تعالى :﴿ وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين ﴾ ما نافية. ﴿ من ﴾ حرف جز زائد، والدابة، من دب يدب ؛ أي مشى يمشي ؛ فهو داب وهي دابة. والدابة كل ماش على الأرض، وقد غلب على ما يركب من الحيوان سواء في ذلك المذكر والمؤنث، والجمع دواب١.
والمعنى : ما من دابة تمشي على الأرض إلا ويأتيها رزقها من الله ؛ فهو سبحانه متكفل بما به عيشها من قوت وغذاء وشراب. وهو سبحانه خالق الأحياء لا جرم أنه متفضل بما فيه قوام حياتها حتى تموت. سواء في ذلك الطير السابح في الجو الفضاء، أو البهائم الراتعة على متن الأرض، أو الحيتان الضاربة في أغوار البحر، أو الإنسان البصر، ذو العقل والإرادة والتفكير، كل أولئك رزقهم على الله.
قوله :﴿ ويعلم مستقرها ومستودعها ﴾ ﴿ مستقرها ﴾، مكانها الذي تأوي إليه وتستقر فيه، ﴿ ومستودعها ﴾، المكان الذي تموت فيه. وقيل : المستودع حيث كان مودعا قبل الاستقرار من صلب أو رحم أو بيضة.
قوله :﴿ كل في كتاب مبين ﴾ كل واحد من الدواب ورزقه وموضع استقراره أو موته، علم ذلك جميعا مكتوب في اللوح المحفوظ.
١ المعجم الوسيط جـ ١ ص ٢٦٨ ومختار الصحاح ص ١٩٧..
قوله تعالى :﴿ وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين ٧ ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ﴾.
خلق الله السموات والأرض في ستة أيام ﴿ وكان عرشه على الماء ﴾ أي فوقه، وذلك يدل على أن العرش والماء كانا مخلوقين قبل خلق السموات والأرض. وما ينبغي أن نمضي في الحديث عن هذه المسألة أكثر من ذلك، فإن الوقوف على حقيقة هذه الأحداث الكونية المذهلة وكيفية خلق السموات والأرض في ستة أيام وتصوره عرش الله فوق الماء، إنما يعلمه الله حق العلم. وما ينبغي للإنسان ذي الإدراك المحدود إلا أن يقف عند ظاهر النص الحكيم مصدقا مستيقنا، ممسكا عن البحث في الكيفية أو الخوض فيما لا طاقة له به.
قوله :﴿ ليبلوكم أيكم أحسن عملا ﴾ ﴿ ليبلوكم ﴾ من البلاء والابتلاء ؛ أي الاختبار. والمعنى : أن الله خلق ذلك كله ليختبركم بالاستدلال على كمال قدرته، وأنه هو صانع المقتدر الحكيم، أو ليختبركم أيكم أعمل بطاعة الله وأبعد عن محارمه.
قوله :﴿ ولئن قلت إنكم مبعوثين من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين ﴾ لئن بينت لهؤلاء المشركين الضالين أنهم مبعوثين من قبورهم يوم القيامة، وأنهم موقوفون على ربهم ليلاقوا الحساب والجزاء ؛ فلسوف يكذبونك ويجحدون ما جئتهم به من خبر البعث ويقولون منكرين مستكبرين :﴿ إن هذا إلا سحر مبين ﴾ ﴿ إن ﴾، نافيه بمعنى ما، والإشارة إلى القرآن الكريم ؛ فهو الحاكم بحصول البعث، فطعنوا فيه بكونه سحرا ليدحضوا القول بالبعث.
وقيل : المراد بالإشارة الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ فقد تقولوا عليه بأنه ساحر وليس الساحر إلا كاذبا ؛ فهم بذلك يقصدون تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم.
قوله : ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة لقولن ما يحسبه } اللام في ﴿ لئن ﴾ للقسم. وجوابه ﴿ ليقولن ما يحسبه ﴾ والأمة تعني الحين أو الأجل المعلوم، أو المدة من الزمن. والمعنى : لئن أمسكنا العذاب عن هؤلاء المشركين فلم نعجله لهم، وأنسأنا لهم في آجالهم إلى الحين معلوم ؛ فلسوف يقول هؤلاء المشركون :﴿ ما يحسبه ﴾ يقولون ذلك على سبيل الاستهزاء والاستعجال، وتكذيبا للمتوعد.
﴿ ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم ﴾ أي يوم يأتيهم العذاب من الله، فليس من أحد يدفعه عنهم أو يصرفه ﴿ وحاق لهم ما كانوا به يستهزئون ﴾ أي نزل بهم العذاب الذي كانوا يسخرون منه١.
١ تفسير النسفي جـ ٢ ص ١٨٠، ١٨١ وتفسير الرازي جـ ١٧ ص ١٩٦ والكشاف جـ ٢ ص ٢٥٩..
قوله تعالى :﴿ ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناه منه إنه ليئوس كفور ٩ ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عنى إنه لفرح فخور ١٠ إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة واجر كبير ﴾ اللام في ﴿ ولئن ﴾ موطئة لقسم مقدر، وليست جوابا للقسم. وإنما جوابه قوله :﴿ إنه ليئوس كفور ﴾ وأغنى جواب القسم عن جواب الشرط١. والمعنى : لئن مننا على الإنسان برحمتنا فبسطنا عليه من رخاء العيش وسعة الرزق ثم سلبنا ذلك كله منه بما اجتاحه من المصائب ﴿ إنه ليئوس كفور ﴾ ينقلب يائسا قنوطا شديد الكفران، يجحد نعمة ربه فلا يشكرها. وذلك هو ديدن المشركين والمنافقين والخائرين من ضعفه المسلمين الذين يعبدون الله على حرف فإن أصابتهم نعمة طاروا بها فرحا، وإن أصابهم بلاء استيأسوا من رحمة الله وجحدوا –مبادرين- نعمته وفضله، ونسوا ما من الله به عليهم قبل ذلك من الخير.
١ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٨..
قوله :﴿ ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولون ذهب السيئات عني ﴾ لئن من الله على الإنسان بالنعمة من بسطه العيش والرزق بعد ما أصابه العسر والشدة وضيق العيش، فلسوف يقول –مباهيا مسرورا- ذهب عني الضيق والعسر، وزالت عني الشدائد والمكاره ﴿ إنه لفرح فخور ﴾ فرح وفخور، كلاهما مبالغة في الفرح والفخر، وذلك هو ديدن المشركين والمنافقين والخائرين من ضعقة المسلمين، إذا أصابهم الرخاء بعد الشدة، أو الغنى بعد الفقر، أو العسر بعد اليسر ؛ فإنهم إذ ذالك يغمرهم السرور البالغ، وتستحوذ عليهم البهجة العاصفة، فيهتفون هتاف المفاخر الجذلان بشدة فرحهم وسرورهم.
لكن المسلمين الصادقين المخبتين أجدر أن يكونوا في كل أحوالهم وسلوكهم من أهل الجد والوقار والرزانة ؛ فلا تستخفهم بهجة الفرح المغالي، ولا تستحوذ عليهم زهرة الدنيا بمتاعها الداثر وزينتها الفانية.
ولذلك قال سبحانه :﴿ إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير ﴾ استثنى الله الإنسان الذي وصفه بهاتين الصفتين وهما الصبر وعمل الصالحات. فالمؤمنين الصابرون العاملون الصالحات لا جرم أنهم جادون وقورون في كل الأحوال، سواء في اليسر أو العسر، في المنشط أو المكره. وهم إن غشيتهم شدة أو بأساء صبروا واحتلموا ولم يعطفهم ذلك عن طاعة الله والاعتصام بحبله المتين. وإن أصابهم الرخاء والنعمة شكروا الله على ما من به عليهم، غير ذاهلين ولا مفرطين، وأولئك يغفر الله لهم ذنوبهم فيمحوها بفضله ورحمته، ولهم منه جزيل الجر والمثوبة١.
١ تفسير الطبري جـ ١٢ ص ٦ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ١٨١..
قوله تعالى :﴿ فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل ١٢ أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ١٣ فإلم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون ﴾ روي عن ابن عباس أن رؤساء مكة المشركين قالوا : يا محمد اجعل لنا جبال مكة ذهبا إن كنت رسولا. وقال آخرون : ائتنا بالملائكة يشهدون بنبوتك، قال لهم : لا أقدر على ذلك فنزلت الآية١، وفيها يثبت الله رسوله بالقول الثابت ويسري٢ عنه ما يناله من الأسف والهم، مما يراه من إعراض المشركين وتكذيبهم وهو قوله سبحانه :﴿ فلعلك تارك بعض ما يوحى غليك ﴾ أي لعلك يا محمد لعظيم ما تجده من تكذيب المشركين وفرط كراهتهم وجحدوهم وتنعتهم تارك بعض ما انزله الله عليك من الآيات مما أمرك الله بتلاوته عليهم وتبليغهم إياه مما فيه تسفيه لآلهتهم ودعوتهم للإيمان بالله وحده، وخلع ما يعبدونه من دونه من أوثان وأنداد. وقيل : إن هذا خارج مخرج الاستفهام ؛ أي هل أنت تارك ما فيه سب آلهتهم كما طلبوا منك ؟.
وقيل : إن ذلك في معنى النفي والاستبعاد ؛ أي ليس ذلك كائنا منك بل إنك تبلغهم كل ما أنزل إليك من ربك سواء شاء المشركون أم أبوا، رضوا أم سخطوا. وذلك أن المشركين سألوه أن يأتيهم بكتاب ليس فيه سب آلهتهم فيتبعوه، فهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يدع سب آلهتهم فنزلت الآية.
قوله :﴿ وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك ﴾ ﴿ وضائق ﴾ معطوف على ﴿ تارك ﴾ و ﴿ صدرك ﴾ فاعل لاسم الفاعل ﴿ وضائق ﴾ ولم يقل ضيق صدرك ؛ لأن ( ضيق ) صفة مشبهة فيها معنى اللزوم.
والمعنى : لعلك ضائق صدرك بما أوحاه الله إليك من الكتاب فلا تبلغه إياهم ﴿ أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز ﴾ أي لئلا يقولوا هلا أنزل عليه كنز. والكنز هو المال المدفون٣ ﴿ أو جاء معه ملك ﴾ مصدق له فيما جاء به.
قوله :﴿ إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل ﴾ أي بلغهم ما أوحي إليك ؛ فما عليك إلا أن تنذرهم فتخوفهم عقاب الله وتحذرهم من بطشه الشديد، وليس أن تأتيهم بما يسألونه من مقترحات ﴿ والله على كل شيء وكيل ﴾ الله بيده تدبير كل شيء وهو حفيظ لما يقولونه ويفعلونه.
١ تفسير الرازي جـ ١٧ ص ٢٠٠..
٢ يسري: سرا الشيء عنه روا وسرواة: نزعه وألقاه. سرا عنه ثوبه ودرعه. وسرا اللم عن فؤاده؛ أي كشفه. سري الشيء عنه؛ إذا أذهبه، وسري عن فلان؛ إذا زال ما به من هم، وانسرى الهم عنه: انكشف. انظر المعجم الوسيط جـ ١ ص ٤٢٨..
٣ القاموس المحيط جـ ٢ ص ١٩٦ والمعجم الوسيط جـ ٢ ص ٨٠٠..
قوله :﴿ أم يقولون افتراه ﴾ ﴿ أم ﴾ منقطعة بمعنى بل والهمزة. والمعنى : أيقولون افتراه ؟ أي اختلقه وتقوله، والاستفهام للتوبيخ والتقريع. قوله :﴿ قل فاتوا بعشر سور مثله مفتريات ﴾ يعني إن كان ما أنبأكم به من هذا القرآن مختلفا ؛ فإني أتحداكم أن تأتوا بعشر سور مختلفات –في زعمكم- من مثل هذا القرآن. وهذه مرحلة ثانية من مراحل التحدي للعرب ؛ فقد تحداهم الله أول مرة أن يأتوا بمثل القرآن إن استطاعوا. وهم أعجز أن يأتوا ببضع آيات من مثله. والآن يأمر الله نبيه أن يتحداهم بالإتيان بعشر سور من مثل سوره. وهم في كل مرة لا يخفون عجزهم المطبق عن معارضة هذا الكتاب الحكيم، مع أنهم الفصحاء والبلغاء، وفيهم جهابذة البيان وأقطاب اللسن، وهم أقدر الناس على إدراك فنون اللغة، ما بيت منثور ومسجوع وشعر أو خطابه تتدفق ألفاظها من أفواه النابغين المصاقع ؛ لكنهم مع عراقتهم وبراعتهم في ذلك كله قد انتكسوا مخذولين دون أن يقتدروا على مضاهاة القرآن الكريم في روعة نظمه وأسلوبه، وجمال رصفه ومبناه، وكمال مضمونه وما حواه من عظيم المعاني والعلوم. كل ذلك لا جرم يزجي بقاطع الدلالة على أن هذا الكتاب معجز، وأنه من كلام الله.
قوله :﴿ وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ﴾ أي ادعوا من استطعتم أن تدعوهم من العوان والأنداد سواء كانوا من البشر أو ممن تعبدون من الأوثان لافتراء ذلك واختلافه ﴿ إن كنتم صادقين ﴾ أن هذا القرآن مفترى، أو أنه قد اختلقه محمد بزعمكم.
قوله :﴿ فإلم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله ﴾ فإن لم يستجب لكم أعوانكم من الأنداد والشركاء الذين تعبدونهم، للإتيان بعشر سور مثل هذا القرآن مختلفات ولم تطيقوا أنتم وإياهم الإتيان بذلك ؛ فاعلموا واستيقنوا أن هذا القرآن أنزله الله، وأنه معجز، وأن محمدا لم يختلقه ولا يقدر على اختلاقه.
واعلموا أيضا أن منزل هذا القرآن المعجز لهو الله وليس من إله غيره ؛ فهو وحده الإله المعبود، فاعبدوه وأطيعوه، واخلعوا الأنداد والشركاء المصطنعين ؛ لتتوجهوا بقلوبكم ونواصيكم إلى الله وحده دون احد سواه ﴿ فهل أنتم مسلمون ﴾ الاستفهام للأمر. وفيه استثارة لأذهان المشركين ومشاعرهم كيما يستجيبوا للحق.
والمعنى :{ هل أنتم مذعنون لله بالإيمان والطاعة وإخلاص العبادة بعد الذين تبين لكم من بالغ الحجة وقاطع البرهان ؟ ! ١
١ الكشاف جـ ٢ ص ٢٦٢ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ١٨٢ وتفسير الطبري جـ ١٢ ص ٨..
قوله تعالى :﴿ من كان يريد الحياة الدنيا وزنتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون ١٥ أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون ﴾ ﴿ من كان ﴾، جملة شرط في محل جزم وجوابه ﴿ نوف إليهم ﴾ واختلف المفسرون في تأويل هذه الآية.
فقد قيل : نزلت في الكافرين ؛ فهم لا ينوون بأعمالهم إلا الدنيا وزينتها، وقيل : نزلت في المنافقين وأهل الرياء، وقيل غير ذلك. والصواب أن هذه الآية عامة في كل ما يبتغي بعمله غير الله، سواء كان كافرا أو منافقا أو مرائيا ؛ فأيما امرئ قصد بعمله غير الله فلا يجزي مقابله الثواب في الآخرة. وإنما يجزي في الدنيا حظه من زينة الحياة وطيب العيش فيها وحسن الصحة وجزيل الثناء من الناس، لكنه في الآخرة محروم خاسر، وذلك كالشرك الذي يصل الأرحام ويعطي السائلين ويرحم المضطرين والمكروبين ويغيث الملهوفين والمحتاجين وغير ذلك من صالح الأعمال، فإن الله يعجل له ثواب عمله في الدنيا ؛ إذ يوسع عليه في الرزق، ويقر عينه بما أعطاه، ويدفع عنه من المكاره ما يعدل ما بذله من خير ومعروف، وهو في الآخرة ما له من نصيب. وكذلك المنافقون والمراؤون الذين لا يبتغون بأعمالهم إلا الدنيا وزينتها وزخرفها وحسن الثناء فيها والإطراء ؛ فإنهم يعطون من زينة الدنيا ما يتمتعون به وينعمون. ﴿ وهم فيها لا يبخسون ﴾ أي لا ينقصون من نعيمها ومتاعها شيئا.
قوله :﴿ أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار ﴾ هؤلاء الذين تبين ذكرهم يوفون أجور أعمالهم في الدنيا وليس لهم في الآخرة إلا النار يصلونها.
قوله :﴿ وحبط ما صنعوا فيها ﴾ حبط حبطا وحبوطا ؛ أي بطل، حبطت الداية حبطا، بالتحريك : انتفخ بطنها من كثرة الأكل، أو من أكل ما لا يوافقها. والحباط : وجع البطن من الانتفاخ لكثرة الأكل أو الأكل مالا يوافق١. والمعنى : أن ما كان يعمله هؤلاء المشركون والمنافقون والمراؤون من صنعي في الدنيا ليس لهم فيه ثواب ؛ ولكنه ذاهب هدرا بغير قيمة أو حساب ؛ لأنهم ما كانوا يريدون به الآخرة، إنما أرادوا به الدنيا وزينتها وزخرفها.
قوله :﴿ وباطل ما كانوا يعملون ﴾ باطل، مرفوع ؛ لأنه مبتدأ. و ﴿ ما كانوا يعلمون ﴾، خبر٢ ؛ أي ما كان يعمله هؤلاء غير معتمد به ولا معتبر ؛ بل هو باطل ؛ لأنهم كانوا يعلمون بغير الله ؛ فأبطل الله وأعمالهم٣.
١ المعجم الوسيط جـ ١ ص ١٥٢ ومختار الصحاح ص ١٢٠..
٢ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٩..
٣ تفسير الطبري جـ ١٢ ص ١٠وفتح القدير جـ ٢ ص ٤٨٨..
قوله تعالى :﴿ أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة أولئك يؤمنون به ومن كفر به من الأحزاب فالنار موعده فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ﴾ الهمزة للاستفهام الأنكاري. وقوله :﴿ أفمن كان على بينة ﴾ مبتدأن والخبر محذوف. والمراد بالبينة البراهان، وتقديره الخبر : كمن كان يريد الحياة الدنيا وزينتها ؟ والمعنى : أفمن كان على برهان، من الله يدل على الحق والصواب كمن كان يريد الحياة الدنيا ؟ وهذا الحكم عام فيشمل كل مؤمن مخلص. وقيل : المراد به الرسول صلى الله عليه وسلم، والمراد بالبرهان دليل الفطرة والعقل.
قوله :﴿ ويتلوه شاهد منه ﴾ يراد بالشاهد القرآن. والضمير في ﴿ منه ﴾ إلى الله ؛ أي ويتبع ذلك البرهان شاهد من الله وهو القرآن ؛ فإنه في بلاغته وروعة نظمه وعظيم معانيه يشهد للرسول صلى الله عليه وسلم بالنبوة والصدق فيما جاء به. ومن قبل القرآن كتاب موسى عليه السلام يتبع القرآن في تصديق الرسول الكريم والشهادة له بأنه جاء بالحق.
قوله :﴿ إماما ورحمة ﴾ منصوبان على الحال. والإمام الذي يؤتم به في الدين ويقتدى. والرحمة ما حواه هذا الكتاب ( التوراة ) من نعمه الهداية وصدق العقيدة والتشريع. و ﴿ كتاب موسى ﴾ مرفوع ؛ لأنه معطوف على قوله :﴿ شاهد ﴾ ١.
قوله :﴿ أولئك يؤمنون به ﴾ الإشارة إلى الذين وصفهم الله بأنهم على بينة من ربهم في صحة هذا الدين ؛ فإنهم يؤمنون بالقرآن.
قوله ﴿ ومن كفر به من الأحزاب فالنار موعده ﴾ أي من يكفر بهذا القرآن فيجحد نزوله من عند الله، من الأحزاب وهم المتحازبون على الكفر وتكذيب الإسلام من أهل الملل والأديان المختلفة ؛ فإنهم لا جرم صائرون إلى النار بسبب كفرهم وتكذيبهم. وفي صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار ).
قوله :﴿ فلا تك في مرية منه ﴾ أي لا تك في شك من هذا القرآن. وقيل : لا تك في شك من أن موعده المكذبين بالقرآن النار ﴿ إنه الحق من ربك ﴾ أي أن القرآن أو الموعد بمصير المكذبين إلى النار هو الحق من الله فلا مدخل للشك في ذلك البتة ﴿ ولاكن أكثر الناس لا يؤمنون ﴾ أكثر الناس في مختلف القرون والأمم غافلون مفرطون، سادرون في الضلالة لا يتبعون في حياتهم وعامة سلوكهم غير الهوى ؛ فهم أكثرهم بذلك غير مؤمنين٢.
١ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ١٠..
٢ تفسير البيضاوي ص ٢٩٢ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ١٨٣ وفتح القدير جـ ٢ ص ٤٨٨ وتفسير الرازي جـ ١٧ ص ٢١٠ والكشاف جـ ٢ ص ٢٦٢..
قوله تعالى :﴿ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين ١٨ الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هو الكافرون ١٩ أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض وما كان لهم من دون الله من أولياء يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون ٢٠ أولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون ٢١ لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون ﴾.
الاستفهام للإنكاري المفيد للنفي ؛ أي ليس من أحد أشد ظلما لنفسه من الذي يفتري على الله الكذب، بزعمه أن لله شريطا، أو زعم أن الأصنام شفعاء له عند الله، أو قال : الملائكة بنات الله، أو كذب كلام الله وهو القرآن فأضافه إلى نفسه.
قوله :﴿ أولئك يعرضون على ربهم ﴾ أي تعرض أعمالهم على ربهم فيسألهم عنها ﴿ ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ﴾ الأشهاد يراد بهم الملائكة. وقيل : الأنبياء المرسلون. وقيل : الملائكة والمرسلون والعلماء. وقيل : جميع الخلائق أشهاد على الظالمين المفترين يوم القيامة ؛ فهم يشهدون على افترائهم على بهم في الدنيا ويقولون :﴿ هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ﴾ أي كذبوا عليه بما نسبوه إليه افتراء عليه.
وهذا مشهد من أشد المشاهد التي يمر بها المجرمون الظالمون هولا وفظاعة يوم القيامة، يوم تتفاقم فيه الأهوال والبلايا والفضائح ؛ ليجد الظالمون الخاسرون أنفسهم في غاية الإياس وكمال الإحساس بالخزي على مرأى ومسمع من الخلائق كافة. فيا لها من ساععة قارعة رهيبة، ويا له من مشهد رعيب مزلزل !
وفي هذا الصدد روي الإمام أحمد عن صفوان بن محرز قال : كنت آخذا بيد ابن عمر ؛ إذ عرض عليه رجل قال : كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى يوم القيامة ؟ قال : سمعته يقول :( إن الله عز وجل يدني المؤمن فيضع عليه كنفه١ ويستره من الناس، ويقرره بذنوبه ويقول له : أتعرف ذنب كذا ؟ أتعرف ذنب كذا ؟ أتعرف ذنب كذا ؟ حتى إذ قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك. قال : فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وإني أغفرها لك اليوم. ثم يعطي كتاب حسناته. وأما الكفار والمنافقون فيقول :﴿ ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين ﴾.
١ الكنف: جانب الشيء، والظل. والجمع كناف. كنف الطائر: جناحه. وكنف الله: رحمته وستره وحفظه. انظر المعجم الوسيط جـ ٢ ص ٨٠١ والمصباح المنير جـ ٢ ص ٢٠٤..
قوله :﴿ الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هو الكافرون ﴾ هذا وصف لهؤلاء الظالمين الذين كذبوا على ربهم ؛ فهم ﴿ يصدون عن سبيل الله ﴾ وسبيل الله هو دنيه المستقيم ؛ أي يمنعون الناس أن يؤمنوا بالله إيمانا صحيحا ؛ إذ يصدوهم بمختلف الأسباب مما يفتنهم عن عقيدة التوحيد الخالص لله، وعن الأخذ بمنهج الله للعباد وهو الإسلام ﴿ ويبغونها عوجا ﴾ والضمير عائد إلى سبيل الله وهو الإسلام ؛ فالكافرون والظالمون الذين يكرهون الإسلام ويحادون الله ورسوله ﴿ ويبغونها عوجا ﴾ أي يلتمسون أن تكون هذه السبيل زيغا وميلا عن الحق. يردون أن يكون دين الإسلام موافقا لأهوائهم في الضلالة والباطل فلا يكونون مسلمين حقا بل يريدونهم أشباه مسلمين لكي يستضعفوهم ويستذلوهم ويستحوذوا عليهم. وذلك هو ديدن الكافرين والظالمين من أعداء الإسلام في كل زمان ومكان. إنهم يحرصون على حمل المسلمين على التحلل من عري الإسلام ومبادئه الوافية الراسخة المتكاملة ثم يأخذون بهذا الدين وقد أسقطت منه مبادئ أساسية شتى كالجهاد والحدود ونظام المواريث والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومجانبة المحظورات والرذائل الخلقية والاجتماعية، إلى غير ذلك من قضايا الحلال والحرام، فلا يبقى بعد ذلك من الإسلام إلا بقية من أشتات الديانة الممزقة الباهتة، أو أشتات الأحكام في العبادات والأحوال الشخصية. وهي هذه لا تنجو من كيد التلاعب والانتقاص والتطور المزعوم وهم في ذلك كله يتذرعون بذرائع سقيمة كاذبة مثل الحرية الشخصية ونحوها. وهذا هو أسلوب الماكرين والخبيثين من شياطين البشر الذين يريدون أن ينسفوا الإسلام نسفا ليصير بعد ذلك إلى دين مضطرب ضعيف مسلوب لا روح فيه ولا قوة. وليصير المسلمون جموعا من المستضعفين، وقد خسروا أعظم مقوماتهم النفسية والفكرية والشخصية والحضارية : مقوماتهم المتماسكة المتكاملة الرصينة التي جاء بها الإسلام ليصنع بها الأمة الواحدة العظيمة المهيبة.
قوله :﴿ وهم بالآخرة هم كافرون ﴾ الواو، واو الحال. هم الثانية لتأكيد كفرهم بالآخرة. أي أنهم يصدون عن دين الله ويلتمسون أن يكون هذا الدين زائغا معوجا ويبغون للمسلمين الارتداد، والحال أنهم يجحدون البعث ويكفرون به.
قوله :﴿ أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض ﴾ أي هؤلاء المجرمين الذين يبتغون سبيل الله عوجا ويبتغون للمسلمين أن يفارقوا دينهم فيسدروا في الضلال والكفر، ليسوا بفائتين من عذاب الله، ولا يعجزون الله هربا إذا أردا أن ينتقم منهم أو يعذبهم تعذيبا.
قوله :﴿ وما كان لهم من دون الله من أولياء ﴾ أي ليس لهم من دون الله أنصار ينصرونهم فيدفعون عنهم بأس الله وانتقامه منهم وعقابه النازل بهم، وإذا وقع بهم عذاب الله لا مناص لهم حينئذ ولا مفر، فما تغنيهم خلة الأخلاء ولا تغنيهم شفاعة الشافعين.
قوله :﴿ يضاعف لهم العذاب ﴾ فهم بإضلالهم الناس عن دينهم وبسبب جحودهم وتكذيبهم بالبعث فإن جزاءهم مضاعف ؛ أي يزاد في عذابهم ليكون عذاب الاثنين للواحد منهم، أو أن عذابهم يضاعف على قدر كفرهم ومعاصيهم ويضاعف من التضعيف، وهو أن يزاد على أصل الشيء فيجعل مثلين أو أكثر. كذلك الإضعاف والمضاعفة. ويقال : ضعف الشيء تضعيفا. وضعف الشيء إذا مثله، وضعفاه أي مثلاه، وأضعفاه أمثاله١.
قوله :﴿ ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون ﴾ هذا وصف لهؤلاء المشركين الجاحدين، بأنهم لا يستطيعون أن يسمعوا الحق سماع متعظ معتبر، ولا يبصرونه إبصار متدبر مدكر ؛ لأنهم كانوا بكفرهم الذي تلبسوا به وبعصيانهم وصدهم عن سبيل الله.
١ مختار الصحاح ص ٣٨١..
قوله :﴿ أولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون ﴾ هؤلاء هم الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم وتكذيبهم فأفضوا بأنفسهم إلى الخسران حيث العذاب في النار الموقدة الحامية، وقد ذهب عنهم شركاؤهم من الأنداد المفتراة ؛ إذ تخلوا عنهم ولم يغنوا عنهم شيئا.
قوله :﴿ لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون ﴾ ﴿ لا جرم ﴾، هذه كلمة كانت في الأصل بمنزلة لا بد، ولا محالة، فجرت على ذلك وكثرت حتى تحولت إلى معنى القسم وصارت بمنزلة : حقا. فلذلك يجاب عنها اللام كما يجاب بها عن القسم. فهم يقولون : لا جرم لآتينك١ ومعنى الآية : أن هؤلاء الجاحدين الضالين، حقا إنهم خسروا أنفسهم في الآخر ؛ بل إنهم أخسر الناس جميعا يومئذ ؛ لأنهم استبدلوا الدركات بالدرجات ؛ واشتروا العذاب بالجنة والمغفرة والرضوان، وباعوا أنفسهم للطاغوت ؛ فباءوا بغضب الله ومقته وعذابه٢.
١ القاموس المحيط جـ ٤ ص ٩٠ ومختار الصحاح ص ١٠٠..
٢ تفسير الطبري جـ ١٢ ص ١٥ وتفسير البيضاوي ٢٩٣ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ١٨٤ وتفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٤٤١..
قوله تعالى :﴿ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ٢٣ *مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا أفلا تذكرون ﴾ ﴿ إن الذين آمنوا ﴾ : من الإيمان وهو التصديق... فالمعنى : أن الذين صدقوا الله ورسوله وعملوا في دنياهم بطاعة الله ﴿ وأخبتوا إلى ربهم ﴾ ﴿ أخبتوا ﴾، من الإخبات وهو الخشوع والإنابة، أخبت لله تعالى إخباتا ؛ أي خضع وخشع قلبه١ ﴿ أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ﴾ هؤلاء المصدقون المطيعون لله، الذين أنابوا لله خاشعين سينالون الجنة ويبقون فيها ماكثين لا يحولون عنها ولا هم مخرجون منها.
١ المصباح المنير جـ ١ ص ١٧٤ ومختار الصحاح ١٦٧..
قوله :﴿ مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع ﴾ ثمة فريقان وهما : فريق الشقاء، وفريق السعادة، ففريق الشقاء مثله كالأعمى الذي لا يبصر النور، والأصم الذي لا يسمع الموعظة وحسن الكلام. وأما فريق السعادة فمثله كالبصير الذي يرى الحق والهداية النور، والسميع الذي يسمع النصح والإرشاد والصواب. فالكافر ضال سادر في الكفر والباطل، كأنهما هو أعمى لا يرى حقا ولا صوابا، وكأنما هو أصم فلا يسمع من معاني الخير والهداية شيئا. أما المؤمن : فإنه بصير يرى الهداية والنور، وهو كذلك سميع، يسمع كلام الله فيخشع قلبه ويخبت إلى الله خاضعا منيبا.
قوله :﴿ هل يستويان مثلا أفلا تذكرون ﴾ أي هل يستوي الفريقان ﴿ مثلا ﴾ منصوب على التمييز ومثلا يعني تشبيها أو صفة أو حالا ﴿ أفلا تذكرون ﴾ الاستفهام لإنكار عدم التذكر. يعني : أفلا تتفكرون وتعبرون بضرب هذه الأمثال والتأمل فيها لتستيقنوا مبلغ الاختلاف بين الفريقين المتباينين فتتعظوا وتزدجروا ؟ ! ١
١ فتح القدير جـ ٢ ص ٤٩١ وتفسير البيضاوي ص ٢٩٤ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ١٨٤..
قوله تعالى :﴿ ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين ٢٥ أن لا تبعدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم ٢٦ فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نرك إلا بشرا مثلنا وما نرك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين ﴾ ذلك إخبار من الله يقص فيه عن نبأ نوح عليه السلام وقومه ؛ إذ أرسله الله أول نبي للمشركين من أهل الأرض ؛ فقد كان الذين من قلبه على فطرة الإيمان والتوحيد إلى أن داخلهم الشرك فأرسل الله إليهم نوحا متلبسا بقوله لهم :﴿ إني لكم نذير مبين ﴾ أي ظاهر النذارة لكم ؛ إذ أنذركم بأس الله على كفركم وتكذيبكم.
ونذير ومنذر والجمع نذر، بضمتين. أنذرته كذا إنذارا ؛ أي أبلغته. وأكثر ما يستعمل في التخويف. كقوله سبحانه :﴿ وأنذرهم يوم الأزفة ﴾ أي خوفهم عذابه١.
١ المصباح المنير جـ ٢ ص ٢٦٧..
قوله :﴿ أن لا تبعدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم ﴾ جملة :﴿ أن لا تبعدوا إلا الله ﴾ بدل من قوله :﴿ إني لكم نذير مبين ﴾ أي أرسلناه بأن لا تعبدوا إلا الله. يعني : اتركوا الأصنام فلا تعبدوها وأطيعوا الله وحده دون أحد غيره. وقيل :﴿ أن ﴾ مفسرة متعلقة ب ﴿ أرسلنا ﴾ أو ب ﴿ نذير ﴾.
قوله :﴿ إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم ﴾ جملة تعليلة. والمعنى : نهيتكم عن عبادة غير الله ؛ لأني أخاف عليكم. واليوم الأليم هو يوم القيامة.
قوله :﴿ فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نرك إلا بشرا مثلنا ﴾ الملأ الذين كفروا من قومه، هم الكبراء والأشراف من قوم نوح الذين جحدوا نبوته وصدوا الناس عن الإيمان بدينه، فقد قالوا :﴿ وما نراك إلا بشرا مثلنا ﴾ أي لست إلا آدميا تشبه في خلقك وصورتك ؛ فقد كانوا ينكرون أن رسول الله للناس رسولا من البشر، بل ظنوا أن الله لا يرسل إلا ملكا من الملائكة.
قوله :﴿ وما نرك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي ﴾ أي ما نراك اتبعك إلا الذين هم أخساؤنا وسلفتنا من الناس الفقراء والمغلوبين، ليس الكبراء والأشراف والأغنياء. ﴿ بادي الرأي ﴾ ﴿ بادي ﴾، تقرا بالهمز وغير الهمز. فبادئ بالهمز اسم فاعل من بدأ يبدأ ؛ أي أول الرأي.
وبادي بغير همز، اسم فاعل من بدا يبدوا إذا ظهر ؛ أي ظاهر الرأي. وبادي منصوب على الظرف، وأصله : وقت حدوث ظاهر رأيهم، أو أول رأيهم١.
والمعنى المقصود من قولهم لنوح عليه السلام : أن اتباعهم لك أمر قد عن لهم من غير رواية ولا تثبيت ولا نظر. ولو أنهم تفكروا ما اتبعوك. ذلك هو قول الجاحدين العتاة من الظالمين والمجرمين ؛ أولئك الذين مردوا على العناد والمكابرة والعصيان ؛ فلا تصيخ قلوبهم للحق الواضح المستبين، ولا تستجيب أذهانهم للحجة الجلية المكشوفة التي جاء بها النبيون والمرسلون ؛ لقد جاءوا بالحجة الساطعة سطوع الشمس في وضح النهار المتجلي، ومع ذلك فلا يستجيب الجاحدون الأشقياء، ويأبون إلا العتو والاستنكاف والإدبار في خسة ولؤم، أولئك هم الشاردون شرود الشياطين، إذا ما ذكر الله.
أما المؤمنون المبرأون من معايب النفس المريضة، الأسوياء في فطرهم وطبائعهم ؛ فإنهم ما لبثوا أن يبادروا بالإيمان والاستجابة والطاعة في غير ما التواء ولا إبطاء ولا تحمل. أولئك هم الأسوياء الكرام من البشر الذين سمت نفوسهم وطبائعهم فوق الأمراض والعقد والشذود فأوجفوا٢ بأنفسهم سراعا لا ستلهام المعاني الخيرة العظيمة التي حملها غليهم النبيون والمرسلون.
قوله :﴿ وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين ﴾ يخاطب المشركون الظالمون نبيهم نوحا والذين آمنوا معه ليقولون لهم في استكبار فاجر : ليس لكم علينا من فضل أو شرف تتميزون به علينا ؛ بل إنكم كاذبون فيما جئتمونا به. وهذا تكذيب منهم ظاهر لنبوة نوح وما جاءهم به من دين وتوحيد٣.
١ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ١١..
٢ أوجفوا: أسرعوا، أوجف السائر: أسرع في سيره. انظر المعجم الوسيط جـ ٢ ص ١٠١٤..
٣ فتح القدير جـ ٢ ص ٤٩٣ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ١٨٤ وتفسير البيضاوي ص ٢٩٤..
قوله تعالى :﴿ قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ٢٨ ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون ٢٩ ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتم أفلا تذكرون ٣٠ ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن الظالمين ﴾.
ذلك إخبار عن قيل نوح لقومه لما كذبوه وردوا عليه دعوته لهم ؛ فقد خاطبهم في لين ورفق وتودد بقوله :﴿ يا قوم ﴾ وفي هذا التعبير من رقة الخطاب المحبب إلى القلوب ما لا يخفى. ثم قال لهم : أرأيتم إن كنت على علم ويقين من الله مما جئتكم به وأنه الحق والصواب ﴿ وآتاني رحمة من عنده ﴾ أي أعطاني ربي منه رحمة كريمة عظيمة وهي النبوة والرسالة والحكمة فصدقتها كامل التصديق، وأيقنت أنها الحق، والتزمت موجبها طاعة وإخباتا لله ﴿ فعملت عليكم ﴾ بضم العين وتشديد الميم المكسورة ؛ أي فعماها الله عليكم ﴿ أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ﴾ الاستفهام للإنكار. نلزم، يتعدى على مفعولين، المفعول الأول : الكاف والميم. والمفعول الثاني : الهاء والألف. ﴿ وأنتم لها كارهون ﴾ جملة اسمية في موضع نصب على الحال١، والهاء ترجع إلى الرحمة ؛ وهي العلم أو الرسالة أو التوحيد ؛ أي : أنضطركم أن تقبلوا هذه الرحمة وأنتم تكرهونها ؟ فغنه لا يصح قبولكم لها مع كراهتكم إياها.
١ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ١٢..
قوله :﴿ ويا قوم لا أسألكم عليه مالا ﴾ أي لا أطلب منكم أجرا من المال في مقالب تبليغكم رسالة الله والإيمان به توحيده. فما من شيء يدعوكم للتثاقل ؛ فإن ثوابي في تبليغ ما أمرت بتبليغه لهو على ربي ؛ فهو يجزيني الأجر عليه، فلست بذلك محلا لظنكم واتهامكم. وهو قوله سبحانه :﴿ إن أجري إلا على الله ﴾ أي ما ثواب نصحي لكم وتبليغي ما أدعوكم إليه إلا على الله ؛ فغنه المجازي والمثيب.
قوله :﴿ وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم ﴾ ذكر أن المشركين سألوا نوحا أن يطرد المؤمنين فيستبعدهم من مجلسه ؛ لأنهم أراذل ؛ أي عالة ضعفاء. فكانوا يستكبرون أن يخاطبوهم أو يجلسوا معهم، لكن نوحا عليه السلام قد رد مطلبهم الجهول بقوله لهم : لا أقصي ولا أستبعد المؤمنين الذين أقروا بوحدانية الله وخلعوا الأوثان وتبرأوا من أوضار الشرك والمعصية ﴿ غنهم ملقوا ربهم ﴾ هؤلاء المؤمنون الذين تسألونني طردهم لكونهم أرذال في نظركم، سيلاقون الله يوم القيامة ؛ فهو يتولى سؤالهم عما عملوه في الدنيا فيجازيهم بإيمانهم وطاعتهم، ولا وزن يومئذ للشرف أو الحسب الذي تعتبرونه كل الاعتبار.
لقد قال نوح على وجه التكريم لهؤلاء المؤمنين. وقيل : قال ذلك خشية أن يشكوه إلى الله يوم القيامة إذا طردهم فيجازيه على طردهم.
قوله :﴿ ولكني أراكم قوما تجهلون ﴾ لا تعلمون الحق. ومن الحق أن لا أطرد الذين تعدونهم أرزال وهم في ميزان الله وأبرار كرام، فأنتم بذلك مجانبون للحق، مناهضون للصواب، وتجهلون ما ينبغي أن يكون وأن يعلم.
قوله :﴿ ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتم أفلا تذكرون ﴾ هذا التعبير ﴿ ويا قوم ﴾ يتندى على السامعين بالرفق واللين، فيتودد به نبي الله نوح إلى قومه لرقق قلوبهم فتنجح للإخبات والتصديق ؛ إذ يقول لهم في استثارة وود ﴿ من ينصرني من الله إن طردتم ﴾ من يمنعني من عذاب الله وانتقامه إن طردت هؤلاء المؤمنين الطائعين الخاشعين لله بسبب ضعفهم وفقرهم ؟ ! ﴿ أفلا تذكرون ﴾ أفلا تتعظون وتتفكرون فيما تقولون وتقترحون لتعلموا أنكم خاطئون فتنتهوا ؟ !
قوله :﴿ ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ﴾ لا أزعم بكم أني أملك خزائن رزق الله فأدعي فضلا عليكم في السعة والمال حتى تجحدوا فضلي بقولكم :﴿ وما نرى لكم علينا من فضل ﴾ ولا أزعم أين عالم بما خفي أو استسر من الغيب لتغتروا بي ؛ فذلك لا يعلمه أحد سوى الله، ولا أزعم أيضا أنني ملك من الملائكة فتقولوا :﴿ ما أنت إلا بشر مثلنا ﴾ فغني لست إلا من جنس البشر أوحى إلي ربي وكلفني بوجيبة التبليغ للناس.
قوله :﴿ ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا ﴾ لا احكم على من استرذلتم من المؤمنين بان الله لن يؤتيهم خيرا في الدنيا والآخرة ؛ لأنهم في نظركم الضال وتقديركم الظالم، أراذل أو أضعاف وعالة ؛ فذلكم حكمكم المتعجرف الجهول، الحكم الذي بني على الظلم والباطل والذي يقيس الأمور بمقياس الجور والهوى.
قوله :﴿ الله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن الظالمين ﴾ لا أحكم على ما في قلوب هؤلاء الذين تسترذلونهم. الله عليم بما في قلوبهم من صدق الاعتقاد. فما أعول إلا على ظاهرهم من حسن الطاعة وتمام الإقرار، ولئن قلت شيئا غير ذلك مما تسألونني أن أفعله في حقهم كطردهم وإبعادهم من مجلسي ﴿ إذا لمن الظالمين ﴾ ١.
١ تفسير القرطبي جـ ٩ ص ٢٦ والكشاف جـ ٢ ص ٢٦٧ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ١٨٦..
قوله تعالى :﴿ قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدلنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين ٣٢ قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين ٣٣ ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون ﴾.
﴿ جادلتنا ﴾ من الجدل بالفتح ومعناه : شدة الخصومة١. قال له قومه الضالون المعاندون : لقد حاججتنا يا نوح وأكثرت حجاجنا، وخاصمتنا وأكثرت خصامنا، ونحن لسنا بمؤمنين لك ولا متبعين ما جئتنا به ﴿ فأتنا بما تعدنا ﴾ من النقمة والعذاب ﴿ إن كنت من الصادقين ﴾ أي إن كنت تصدق فيما تعدنا به من عذاب ربك.
١ مختار الصحاح ص ٩٦..
قوله :﴿ قال إنما يأتيكم به الله إن شاء ﴾ ليس بمستطاعي أن أعذبكم ؛ فليس ذلك إلي ولا هو من شأني، ولكن الله هو الذي يأتيكم بالعذاب ؛ فهو إن أردا أن يهلكهم فلا راد لقضائه أو أمره ﴿ وما أنتم بمعجزين ﴾ لستم بفائتين ولا هاربين من عذاب الله ولا من سلطان.
قوله ﴿ ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم ﴾ النصح، معناه الإخلاص والصدق، والنصيحة : كل قول فيه الدعاء إلى الصلاح والنهي عن الفساد، نصحه، أرشده إلى ما فيه صلاحه١. والمعنى : إنني إن أردت أن أبين لكم الحق والصواب وأدعوكم إلى ما فيه نجاتكم وفلاحكم ؛ فلا ينفعكم ما أبذله لكم من ترشيد إلى الحق والهداية ونهي عن الباطل والضلالة ﴿ إن كان الله يريد أن يغويكم ﴾ ﴿ يغويكم ﴾ : من الإغواء وهو الإضلال، أغواه : أضله وأغراه، غوى غيا وغواية ؛ أي أمعن في الضلال. وغاو ؛ أي ضال٢. قال الزمخشري في تأويل قوله :﴿ إن كان الله يريد أن يغويكم ﴾ : إذا عرف الله من الكافر الإصرار فخلاه وشأنه ولم يلجئه ؛ سمي ذلك إغواء وإضلالا، كما أنه إذا عرف منه أنه يتوب ويرعوي فلطف به ؛ سمي إرشادا وهداية.
وفي قوله :﴿ أن يغويكم ﴾ قال الزمخشري : معناه أنكم إذا كنتم من التصميم على الكفر بالمنزلة التيس لا تنفعكم نصائح الله وموعظة وسائر ألطافه ؛ كيف ينفعكم نصحي ؟ وفي هذا القول من تكلف المعتزلة في تأويل مثل هذه الآية ما لا يخفى. والصواب في هذا الصدد أن نقول : إن الله هو الهادي وهو المضل. ويقوي هذا التأويل بعد ذلك :﴿ هو ربكم وإليه ترجعون ﴾ فالله مالك كل شيء، ومالك الناس جميعا ؛ فإليه الهداية، والناس صائرون أخيرا إليه٣.
١ المصباح المنير جـ ٢ ص ٢٧٦ والمعجم الوسيط جـ ٢ ص ٩٢٥..
٢ مختار الصحاح ص ٤٨٥ والمعجم الوسيط جـ ٢ ص ٦٦٧..
٣ الكشاف جـ ٢ ص ٢٦٧ وفتح القدير جـ ٢ ص ٤٥٩ وتفسير القرطبي جـ ٩ ص ٢٨..
قوله تعالى :﴿ أم يقولن افتراه قل إن افتريته فعلى إجرامي وأنا برئ مما تجرمون ﴾ ﴿ أم ﴾، بمعنى بل والهمزة و ﴿ افتراه ﴾ من الافتراء وهو الاختلاق١ و ﴿ إجرامي ﴾، من الإجرام وهي الجناية، أجرم : ارتكب جرما ؛ وجرم جرما أي ذنب، واجترم الذنب : أي كسبه أو ارتكبه.
واختلف المفسرون في المراد بهذه الآية، فقد قيل : إنها حكاية عن تكذيب المشركين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ إذ قالوا إن هذا القرآن قد افتراه محمد ! فأنكر الله مقالتهم بقوله :﴿ أم يقولن افتراه ﴾.
وقيل : الآية تحكي خبر المحاججة بين نوح وقومه ؛ إذ قالوا، إن ما جاءهم به نوح مفترى. قال ابن عباس في ذلك : هو من محاورة نوح لقومه وهذا أظهر القولين ؛ لأنه ليس قبل ذلك ولا بعده إلا ذكر نوح وقومه، فالخطاب منهم ولهم. ثم أمر الله نوحا أن يرد مقالتهم ﴿ قل إن افتريته فعلي إجرامي وأنا برئ مما تجرمون ﴾ أي قل لهم : إن كان ما أقوله لكم اختلافا مني وتخريصا ؛ فعلي إثمي فيما أفتريه على ربي، ولا تؤاخذون أنتم بذنبي ولا إثمي، ولست أنا مؤاخذا بذنبكم ؛ بل أنا برئ مما تذنبون وتأثمون٢.
١ مختار الصحاح ص ٥٠٢ والمعجم الوسيط جـ ١ ص١١٨..
٢ تفسير القرطبي جـ ٩ ص ٢٩ وفتح القدير جـ ٢ ص ٤٩٧..
قوله تعالى :﴿ وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون ٣٦ واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون ٣٧ ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون ٣٨ فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم ﴾ ﴿ نوح ﴾، اسم منصوف ؛ لأنه خفيف، وإن كان فيه العجمية والتعريف، وقيل : منصرف لأنه عربي من ناح ينوح. و ﴿ من ﴾ : في موضع رفع ؛ لأنه فاعل يؤمن١ بعد أن استيأس نوح من قومه لفرط ما وجده من شدة كيدهم وعتوهم وتماديهم في الجحود والباطل خلال قرون طوال، وأيقن أن هؤلاء قوم بور فلا خير فيهم البتة، دعا عليهم بالهلاك والتدمير حتى لا يبقى منهم ساكن ولا ديار، فحق القول عليهم من الله بالانتقام والاستئصال، وأوحي الله إلى نبيه نوح أنه لن يؤمن من وقومه أحد غير الذين آمنوا وصدقوا ﴿ فلا تبتئس بما كانوا يفعلون ﴾ ﴿ تبتئس ﴾، أي تحزن، والمبتئس : الكاره الحزين، والبأساء بمعنى الشدة٢ أي لا تحزن يا نوح ولا تشتك مما فعله قومك من تكذيبك وشدة إيذائهم لك ؛ فقد حان وقت فنائهم والانتقام منهم أشد انتقام.
١ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ١٢..
٢ مختار الصحاح ص ٣٩..
قوله :﴿ واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ﴾ أوحي الله إلى نوح أن يصنع الفلك وهي السفينة ﴿ بأعيننا ﴾ أي بحفظنا وكلاءتنا وبمرأى منا ﴿ ووحينا ﴾ أي نلهمك كيف تصنع السفينة. قال ابن عباس ( رضي الله عنهما ) ك لم يعلم كيف صنعة الفلك، فأوحي الله إليه أن يصنعها مثل جؤجؤ الطير.
وبذلك قد بصر الله نوحا بكيفية صنع السفينة لتطفوا على وجه الماء وهي تسير بعون الله ورعايته فينجو من على ظهرها من المؤمنين وغيرهم من بقية الأجناس.
قوله :﴿ ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون ﴾ أي لا تطلب العفو مني عن هؤلاء الظالمين المكذبين ؛ أو لا تطلب إمهالهم ؛ فقد حق عليهم القول من الله بإغراقهم.
قوله :﴿ ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه ﴾ أي طفق نوح يصنع السفينة كما أمره الله وعرفه بكيفية صنعها، وكان كلما مر عليه جماعة من قومه المجرمين الجاحدين وهو يصنع السفينة استهزءوا به ومن عمله في صنع السفينة التي لم يشاهدوا قبلها سفينة أخرى، فعجبوا ساخرين مما سمعوه عن هذا المصنوع الذي سوف يطفوا على سطح الماء. فكانوا بذلك يتضاحكون ويستسخرون لما رأوه ويقولون لنوح : أتحولت نجارا بعد أن كنت نبيا ؟ وكان نوح يرد عليهم وهو ثابت العزم، مطمئن القلب، واثق من أمر ربه ومن نصره الذي يصير إليه المؤمنون المخلصون الصابرون ﴿ إن تخسروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون ﴾ أي إن تهزءوا بنا من أجل بناء السفينة، فلسوف نهزأ بكم مستقبلا وأنتم يأتي عليكم الطوفان والغرق.
قوله :﴿ فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يجزيه ويحل عليه عذاب مقيم ﴾ ذلك تهديد لهؤلاء المشركين الخاسرين، ووعيد لهم بأنهم سوف يعلمون الذي يأتيه العذاب الأليم في الدنيا وهو الطوفان. ويجوز أن تكون ﴿ من ﴾ استفهامية ؛ أي سوف تعلمون من هو الذي يأتيه العذاب الأليم في الدنيا وهو الغرق، وينزل به عذاب ﴿ مقيم ﴾ أي مستديم ولا ينقطع. وذلك عذاب النار يوم القيامة١.
١ تفسير الطبري جـ ١٢ ص ٢١ وفتح القدير جـ ٢ ص ٤٩٧ وتفسير النسفي جـ ٢ص ١٨٧..
قوله تعالى :﴿ حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل ﴾ ﴿ حتى ﴾، للغاية التي يبدأ بعدها الكلام. يعني : فكان يصنع الفلك إلى أن جاء الوعد بالتغريق١ ؛ أي حتى إذا جاء وعد الله بالعذاب ﴿ وفار التنور ﴾ وقد اختلفوا في تأويل التنور على عدة أقوال منها : أنه وجه الأرض والعرب تسمي وجه الأرض تنورا. وهو قول علي كرم الله وجهه٢.
ومنها : أنه أعالي الأرض والمواضع المرتفعة منها.
ومنها : أنه تنور الخبز ؛ فقد صارت الأرض عيونا تتدفق منها المياه حتى صارت التنانير التي هي مكان النار تفور ماء. وذلك لفظاعة الطوفان الدافق الجارف الذي أتى على الحياة والأحياء جميعا فلم يستبق غير الذين على ظهر السفينة ؛ لقد أتى الماء على كل شيء وأغرق كل مكان حتى التنانير التي تتأرجج فيها النار وتضطرم فارت ماء.
قوله :﴿ قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك ﴾ ﴿ اثنين ﴾ في محل نصب مفعول للفعل ﴿ احمل ﴾، و ﴿ أهلك ﴾ معطوف عليه٣.
والزوج كل واحد معه أخر من جنسه ؛ فالسماء زوج، والأرض زوج، والشتاء زوج، والصيف زوج، والنهار زوج، والليل زوج، ونقول للمرأة هي زوج، وهو زوجها. لقوله تعالى :﴿ وخلق منها زوجها ﴾ يعني المرأة. وقوله :﴿ وانه خلق الزوجين الذكر والأنثى ﴾ فثبت بذلك أن الواحد قد يقال له : زوج. ويقال للاثنين أيضا : هما زوجان وهما زوج. وقد يكون معنى الزوجين الضربين أو الصنفين. وكل ضرب يسمى زوجا.
والمراد هنا : أن يحمل معه في السفينة ﴿ من كل زوجين ﴾ ذكرا وأنثى. قال الرازي في ذلك : الزوجان عبارة عن كل شيئين يكون أحدهما ذكرا والآخر أنثى. والتقدير : كل شيئين هما كذلك فاحمل منهما في السفينة اثنين. واحد ذكر والآخر أنثى. وذلك لكي يبقى أصل الأنواع بعد الطوفان.
قوله :﴿ وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن ﴾ ﴿ وأهلك ﴾، معطوف على ﴿ اثنين ﴾. و ﴿ من سبق ﴾، في موضع نصب مستثنى من ﴿ وأهلك ﴾ ٤ أي واحمل في السفينة أهلك ﴿ إلا من سبق عليه القول ﴾ يعني إلا من سبق فيه علم الله أنه يختار الكفر بإرادة الله وتقديره فيكون من الهالكين.
قوله :﴿ ومن آمن ﴾ معطوف على ﴿ أهلك ﴾. أي واحمل في السفينة من آمن من قومك.
قوله :﴿ وما آمن معه إلا قليل ﴾ وقد اختلفوا في عدتهم فقيل : كانوا سبعة، وقيل : كانوا عشرة، وقيل : كانوا اثنين وسبعين. وقيل : كانوا ثمانين إنسانا، منهم ثلاثة من بنيه وهم سام، وحام، ويافث، وزوجاتهم. وقيل غير ذلك٥.
١ تفسير الرازي جـ ١٧ ص ٢٣٣ الكشاف جـ ٢ ص ٢٦٩..
٢ مختار الصحاح ص ٧٩..
٣ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ١٣..
٤ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ١٣..
٥ تفسير القرطبي جـ ٩ ص ٣٣- ٣٥ وتفسير الرازي جـ ١٧ ص ٢٣٣- ٢٣٦ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ١٨٨ وفتح القدير جـ ٢ ص ٤٩٧..
قوله تعالى :﴿ وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم ٤١ وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن من الكافرين ٤٢ قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين ﴾.
﴿ مجراها ﴾، في موضع رفع مبتدأ، وخبره :﴿ بسم الله ﴾. والتقدير ك باسم الله إجراؤها وإرساؤها. وقيل غير ذلك١.
وهذا إخبار من الله عن نبيه نوح عليه السلام ؛ إذ قال للذين آمنوا معه، يأمرهم بالركوب في السفينة ﴿ اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها ﴾، ﴿ مجراها ﴾ أي جريها على سطح الماء، و ﴿ مرساها ﴾ بمعنى رسوها. رست رسوا ومرسى. ورسا الشيء : ثبت. والرواسي من الجبال : الثوابت الرواسخ، واحدثها راسية٢. والمراد بمرساها : أنها بلغت منتهى سيرها وهو رسوها.
قوله :﴿ إن ربي لغفور رحيم ﴾ الله غفار للذنوب، يتجاوز عن خطايا المسيئين والعاصين، وهو أيضا رحيم بعباده المؤمنين الطائعين. ومن رحمته أن نجى هؤلاء الذين في السفينة ؛ فهم ما بين مؤمن مقر لله بالوحدانية، أو بهيمة عجماء لا ذنب لها وما عليها من حساب، ويريد الله ألا ينقطع أصلها من الدنيا.
١ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ١٣..
٢ مختار الصحاح ص ٢٤٣..
قوله :﴿ وهي تجري بهم في موج كالجبال ﴾ الموج : ما علا من سطح الماء وتتابع، وجمعه أمواج، وواحد الموج : الموجة١، وقد شبه الموج بالجبال لعظمتها وتراكمها وارتفاعها عن سطح الماء ؛ فقد ركب نوح والذين معه السفينة مسمين باسم الله وهي تجري بهم فوق المياه المائجة الزاجرة التي تضطرب فيها الأمواج وتنداح٢. فقد مضوا متمثلين أمر الله ومستسلمين لجلاله وهم تحف بهم من الله الكلاءة والرعاية والرحمة، حتى تحقق في العالمين ما كتبه الله للخليقة في الأزل من المقادير.
قوله :﴿ ونادى نوح ابنه وكان في معزل ﴾ كان ابن نوح كافرا، وبذلك سوف يصير إلى الغرق مع الهالكين، فحملت نوحا شفقة الأبوة على مناداته ليركب في السفينة فينجو بنفسه من الغرق ﴿ وكان في معزل ﴾ أي في منحى. انعزل عن الناس إذا تنحى عنهم جانبا. وفلان بمعزل عن الحق، أي مجانب٣ له أي كان عند نداء أبيه قد عزل نفسه عن وقومه فتنحى عنهم جانبا فناداه أبوه ﴿ يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين ﴾ دعا نوح ابنه –وقيل اسمه كنعان- أن يؤمن برسالة التوحيد مع المؤمنين في السفينة فينجو بنفسه من الغرق المنتظر الذي سيأتي على الكافرين جميعا. لكن ابنه كان ظالما لنفسه فأبي إلا الهلاك والخسران
١ المعجم الوسيط جـ ٢ ص ٨٩١..
٢ تنداح: تتعاظم. انظر لسان العرب جـ ٢ ص ٤٣٦..
٣ المصباح المنير جـ ٢ ص ٥٧..
﴿ قال سآوي على جبل يعصمني من الماء ﴾ سألجأ إلى جبل يمنعني من الماء فلا أغرق، ظنا منه أن الطوفان لا يبلغ رؤوس الجبال، فإذا تعلق جبل نجا، وهو في ذلك واهم جهول، فما علم أن الطوفان غامر وهادر وسيأتي على الخليقة جميعا.
وذلكم هو تقدير الله الذي يجازي المجرمين والجاحدين والمتكبرين سوء التنكيل في هذه الدنيا قبل يوم الحساب ﴿ قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم ﴾ لا مانع اليوم من الطوفان الذي سلطه الله على الظالمين. أما من وحمه الله ؛ فإنه يمنعه من هذا العقاب المغرق.
قوله :﴿ وحال بينهما الموج فكان من المغرقين ﴾ حال الموج الجارف المنداح بين نوح عليه السلام وابنه الظالم لنفسه ؛ فهلك مع الهالكين بالتغريق١.
١ فتح القدير جـ ٢ ص ٥٠٠ والكشاف جـ ٢ ص ٢٧ والنسفي جـ ٢ ص ١٨٨..
قوله تعالى :﴿ وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين ﴾.
هذه الآية تكشف عن عظيم قدرة الله في هذا الوجود الهائل الكبير، بأجرامه الزاخرة العظام وأجوازه النائية الممتدة وما فيه من خلائق كاثرة لا يحصي أنواعها وأجناسها وأفرادها غير الله جلت قدرته يسخر كل ما في الكون من أجرام لفعل ما يشاء أو يقضي، فلا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، ولا يسأل عما يفعل. وليس أدل على ذلك من ابتداء هذه الآية بالفعل الماضي للمجهول ﴿ وقيل ﴾ فذلكم أمر إلهي قاطع ما له من تعقيب ولا دافع.
ويضاف إلى ذلك هذه الكلمات المعدودة المصطفاة التي حوتها هذه الآية على هذا النحو من متانة الرصف، وجزالة الكلمات، وروعة التناسق والإحكام، وحلاوة الإيقاع المؤثر، فضلا عما تحمله هذه الكلمات القليلة من كبريات المعاني الكونية الجسام، كل ذلك في آية وجيزة سريعة يضمها سطر أو يزيد قليلا. إن هذا لعجاب ما له في النظم من نظير ؛ فهو من نظم العالم الديان الخبير.
قوله :﴿ يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي ﴾ ﴿ ابلعي ﴾ : اشربي من الابتلاع وهو الشرب أو الازدراد. و ﴿ أقلعي ﴾ أي أمسكي ؛ فقد أمر الله الأرض بالابتلاع والسماء بالإقلاع، فالأرض مأمورة بنشف الماء ؛ أي شربه. والسماء كذلك مأمورة بالإمساك عن إدراك الماء. وقد تحقق ذلك بأمر الله دون إبطاء. فنشفت١ الأرض ما عليها من الماء، وكفت السماء عن الانهمار ﴿ وغيض الماء ﴾ أي نقض وما بقي منه شيء ﴿ وقضي الأمر ﴾ أي أنجز وتحقق وعد الله لنوح بإهلاك قومه الظالمين، وبنجاته هو والذين معه من المؤمنين ﴿ واستوت على الجودي ﴾ أي استقرت السفينة على ظهر الجودي، وهو جبل بناحية الموصل.
قوله :﴿ وقيل بعدا للقوم الظالمين ﴾ أ هلاكا وسحقا لهم على ظلمهم وطغيانهم وإجرامهم٢.
هكذا يقضي الله قضاءه في الكون والكائنات ؛ فهو القادر القاهر ذو الملكوت، يجازي المجرمين المتجبرين الذين يحادون الله ورسله ويسعون في الأرض خرابا وفسادا كقوم نوح، أولئك الظالمون العتاة الذين أسرفوا في الإجرام والطغيان، والذين آذوا نبيهم نوحا، وهذا النبي العظيم الصابر الذي لقي من عنت قومه وكيدهم وظلمهم وإيذائهم ما يعلو ففوق طاقات البشر، لكن نوحا عليه السلام قد اصطبر عليهم بالغ الصبر، واحتمل من ألوان البلاء والطغيان والتكذيب والتنكيل، ما استحقوا به من الله أن يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، فاستأصلهم استئصالا فلم تبق منهم بقية.
١ نشفت الأرض الماء: شربته. انظر المعجم الوسيط جـ ٢ ص ٩٢٣..
٢ الكشاف جـ ٢ ص ٢٧١ وفتح القدير جـ ٢ ص ٥٠٠ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ١٨٩، ١٩٠..
قوله تعالى :﴿ ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين ٤٥ قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين ٤٦ قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين ﴾ بعد أن أتى الطوفان على القوم الظالمين دعا نوح ربه متضرعا إليه ﴿ رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق ﴾ أي ابني من أهلي الذين وعدتني بإنجائهم من الغرق ووعدك الصدق الذي لا يخلف فيكف غرق ﴿ وأنت أحكم الحاكمين ﴾ أي أعلم العالمين وأعدل العادلين. وقد سأل نوح ذلك مستندا إلى قول الله :﴿ وأهلك ﴾
فأجابه الله ﴿ يا نوح إنه ليس من أهلك ﴾ أي ليس من اهلك الذين وعدتهم بالنجاة، وإنما وعد الله أن ينجي المؤمنين من أهله وليس الكافرين كابنه وزوجته. وهذا ما يدل عليه قوله :﴿ وأهلك إلا من سبق عليه القول ﴾ فكان ابن نوح ممن سبق عليه القول بالهلاك لكفره. وهو قول أكثر المفسرين ؛ إذ قالوا : المعنى : انه ليس من أهل دينك. وهذا يدل على أن حكم الاتفاق في دين الله الحق أقوى من حكم النسب.
قوله :﴿ إنه عمل غير صالح ﴾ ﴿ عمل ﴾، بالرفع والتنوين. وفي معناه وجهان :
أولهما : أن الضمير في قوله :﴿ إنه ﴾ عائد إلى سؤال نوح تنجية ابنه المخالف لدينه الموالي أهل الشرك، فهذا السؤال غير صالح ؛ لأن طلب النجاة للكافر يعد أن سبق الحكم بعدم تنجية واحد من الظالمين الكافرين سؤال باطل.
ثانيهما : أن الضمير عائد إلى لابن ؛ فيكون المعنى أن ابنه ذو عمل باطل، فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه ؛ وقيل غير ذلك.
قوله :﴿ فلا تسألن ما ليس لك به علم ﴾ ﴿ فلا تسألن ﴾، الأصل تسألني وحذفت الياء للتخفيف واجترأ بالكسرة عنها١ ؛ أي لا تسألن عما أخفيت علمه عنك من أسباب أفعالي مما لا تعلمه أنت. أو لا تسألن عما لا تعلم أنه صواب أو غير صواب ﴿ إني أعظك أن تكون من الجاهلين ﴾ أي أنهاك عن مثل هذا السؤال ؛ لئلا تكون من الجاهلين. قال ابن العربي في هذا الصدد : وهذه زيادة من الله وموعظة يرفع بها نوحا عن مقام الجاهلين، ويعليه بها إلى مقام العلماء العارفين.
١ البيان لابن الأنباري جـ ٢ص ١٦..
قوله :﴿ قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم ﴾ أحس نوح بزلته من مسألته التي سألها ربه في ابنه، فأناب إلى ربه وقال : إني أستجير بك وألجأ إليك من أن أتكلف من السؤال ما ليس لي به علم مما استأثرت أنت بعلمه فأخفيت علمه عن العباد. فاغفر لي يا رب زلتي التي زللت، وإن لم تغفرها لي وتشملني برحمتك لأكونن من الذين خسروا أنفسهم فهلكوا١.
١ تفسير الطبري جـ ١٢ ص ٣٣ وتفسير الرازي جـ ١٨ ص ٣، ٤ والبيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ١٦ وتفسير القرطبي جـ ٩ ص ٤٨..
وقوله تعالى :﴿ قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب اليم ﴾ قال الله عز وعلا لنبيه نوح عليه السلام : أن اهبط من السفينة إلى الأرض بعد أن ابتلعت الأرض الماء وحفت ﴿ بسلام منا ﴾ أي يأمن وسلامة من الغرق. أو اهبط بتحية منا ﴿ وبركات عليك وعلى أمم ممن معك ﴾ والبركات تعني الخيرات النامية وهي في حق نوح كثرة ذريته، فقد دخل في هذا كل مؤمن من ذرية نوح إلى يوم القيامة ﴿ وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم ﴾ ﴿ أمم ﴾ خبر مبتدأ محذوف. والتقدير. ومنهم أمم. وقيل : وتكون أمم. والمراد بذلك من صار كافرا من ذرية نوح إلى يوم القيامة.
وذلك إخبار من الله عما هو فاعل بأهل الشقاء من ذرية نوح ؛ وذلك أن قرونا وأجيالا من ذريته سيمتعهم الله في الدنيا بما يتمتعون به من عيش عاجل حتى إذا قضوا، أذاقهم الله العذاب الأليم في الآخرة بما قدموه في حياتهم الدنيا من الخطايا والمعاصي.
قوله تعالى :﴿ تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين ﴾ ﴿ تلك ﴾ في موضع رفع مبتدأ. وخبره :﴿ من أنباء الغيب ﴾. و ﴿ نوحيها ﴾ : خبر بعد خبر. ويجوز أن يكون في موضع نصب على الحال١.
يبين الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن ما أخبره به عن قصة نوح وقومه الظالمين الجاحدين وما حاق بهم من عذاب الطوفان المغرق، كل ذلك من أخبار الغيب التي لم يشهدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كان ليعلمها هو ولا غيره من الناس لولا أن الله أوحي له بخبرها فعلمها.
وذلك من جملة الأدلة البلجة على صدق رسالته صلى الله عليه وسلم ؛ فهو العربي الأمي الذي ما عرف القراءة ولا الكتابة، وما تلقى العلم عن أحد، ولا درس التاريخ ولا غيره من العلوم. بل كان أميا ينتمي إلى أمة أمية غير قارئة ولا كاتبة. فمن أين له أن يقف على مثل هذه الأنباء القديمة لولا الوحي الذي يأتيه من السماء فيوقفه على أنباء الأولين ؟
قوله :﴿ فاصبر إن العاقبة للمتقين ﴾ أي اصبر على أمر الله بتبليغ رسالته للناس، واحتمل ما يصيبك من ظلم قومك وإيذائهم كما صبر نوح من قبلك ؛ إذ مكث فيهم صابرا محتملا ألف سنة إلا خمسين عاما وهم يذيقونه ألوان العذاب والتنكيل فما استيأس ولا تردد. ﴿ إن العاقبة للمتقين ﴾ لسوف تكون العاقبة الخيرة المحمودة بالظفر والغلبة وحسن الثناء للذين يتقون ربهم في هذه الدنيا، ثم يصيرون إلى الفوز بالنعيم والنجاة من العذاب الأليم في الآخرة٢.
١ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ١٧..
٢ تفسير الطبري جـ ١٢ ص ٣٥ وتفسير القرطبي جـ ٩ ص ٤٩ وفتح القدير جـ ٢ ص ٥٠٣..
قوله تعالى :﴿ وإلى عاد أخدهم هود قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون ٥٠ يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون ٥١ ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزيدكم قوة إلى وقوتكم ولا تتولوا مجرمين ﴾ ﴿ أخدهم ﴾، منصوب بفعل مقدر، وتقديره : وأرسلنا إلى عاد أخاهم هودا١ ؛ أي أرسلنا إلى عاد أخاهم هودا، فهو أخوهم ؛ لأنه منهم، وقد كانوا عبدة أوثان فقال لهم :﴿ قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ﴾ أي اعبدوا الله وحده لا شريك له وأفردوه بالإلهية دون أحد سواه ودون هذه الآلهة المفتراة المختلفة من الأوثان التي تعبدونها. وهو قوله :﴿ إن أنتم إلا مفترون ﴾ يعني ما أنتم إلا أهل فرية تختلفون الباطل وتصطنعون الكذب والأنداد الموهومة من دون الله.
١ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ١٧..
قوله :﴿ يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني ﴾ قال هود : لا أسألكم على ما أدعوكم غليه من إفراد الله بالإلهية وإخلاص العبادة له وحده، والتبرؤ كليا من رجس الأوثان –لا أسألكم على ذلك كله جزاء أو ثوابا، وإنما جزائي في ذلك على الله الذي خلقني ؛ فهو يجزيني من فضله الخير والمثوبة. ﴿ أفلا تعقلون ﴾ أفلا تستعملون عقولكم لتقفوا على الحقيقة والصواب، وتعلموا المحق من المبطل، وتوقنوا أن ما تعبدونه من أوثان ليس إلا الرجس والباطل والاختلاق.
قوله :﴿ يا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ﴾ ذلك إنباء من الله عن قيل هود لقومه عاد وقد كانوا يقيمون بين الشام واليمن وكانوا أهل عمارة وبساتين وزروع، قال لهم نبيهم هود :﴿ استغفروا ربكم ﴾ آمنوا به دون غيره من المخاليق المفتراة، واخلعوا الأوثان من قلوبكم وأحلامكم، وتبرؤوا منها كامل التبرؤ ﴿ ثم توبوا إليه ﴾ أي توبوا إلى الله من ذنوبكم ومعاصيكم وشرككم ﴿ يرسل السماء عليكم مدرارا ﴾ ﴿ مدرارا ﴾، منصوب على الحال من السماء١، والمدرار، كثير الدار أو الدرور، وهو الصب أو السيلان. وعين مدرارة ؛ أي كثيرة الدمع. والمراد بالمدرار هنا : كثير السح٢ ؛ أي يرسل عليكم المطر دالحا غزيرا، يتبع بعضه بعضا ؛ فيعم فيكم الخير والنماء والخصب ﴿ ويزيدكم قوة إلى وقوتكم ﴾ أي يزيدكم شدة مضافة إلى شدتكم. أو يزيدكم الله عزا إلى عزكم، أو قوة في المال والنسل.
قوله :﴿ ولا تتولوا مجرمين ﴾ أي لا تولوا مدبرين عما أدعوكم غليه من توحيد الله والتطهير كاملا من رجس الوثنية والأصنام.
وقوله :﴿ مجرمين ﴾ من الإجرام، وهو اكتساب الآثام والذنوب، ومنه الجريمة وهي الجناية وجمعها جرائم٣ ؛ أي لا تعرضوا عن دعوة الله مصرين على إجرامكم وذنوبكم٤.
١ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ١٨..
٢ المعجم الوسيط جـ ١ ص ٢٧٩ ومختار الصحاح ص ٢٠٢..
٣ المعجم الوسيط جـ ١ ص ١١٨ والمصباح المنير جـ ١ ص ١٠٦..
٤ تفسير النسفي جـ ٢ ص ١٩٣ وفتح القدير جـ ٢ ص ٥٠٥ وتفسير الطبري جـ ١٢ ص ٣٥، ٣٦..
قوله تعالى :﴿ قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين ٥٣ إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني برئ مما تشركون ٥٤ من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون ٥٥ إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو أخذ بناصيتها أن ربي على صراط مستقيم ﴾.
قال قوم هود لنبيهم هود : ما أتيتنا ببرهان واضح ولا حجة ظاهرة على صدق ما تقول، وهذا هو ديدن الظالمين المتجبرين الذين أسرفوا في اللجاجة والباطل وفرط العناد من غير أن يسعفهم في ذلك منطق ولا برهان إلا المكابرة والجحود وهوان الأحلام والسفه. ويكشف عن ذلك أيضا قولهم :﴿ وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك ﴾ يعني لسنا تاركي آلهتنا من أجل قولك الذي جئتنا به ﴿ وما نحن لك بمؤمنين ﴾ أي وما نحن بمصدقين ما تدعيه من نبوة ورسالة من الله.
قوله :﴿ إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء ﴾ ﴿ إن ﴾، حرف نفي بمعنى ما ؛ أي ما نقول إلا أن بعض آلهتنا من الأصنام قد أصابك ﴿ بسوء ﴾ بجنون أو خبل ؛ لأنك تسبها وتعيبها وتسفه عقولنا لعبادتها، ومن اجل ذلك أصابك ما أصابك في عقلك من المس.
هكذا يفتري الجاحدون والجاهلون والسفهاء الذين لا يعبأون إذا ما غلوا في الكذب والمكابرة ومقالة السوء ؛ فها هم فوق حماقتهم وسفههم في عبادة أحجار صم يفترون مثل هذا الضرب من هوان التفكير المخبول١ ليقولوا ما قالوه لنبيهم هود عليه السلام.
قوله :﴿ قال إني أشهد الله واشهدوا أني برئ مما تشركون ﴾ هذا جواب هود لقومه وهو أنني أشهد الله على نفسي وأشهدكم أنتم على براءتي من شرككم ومما تعبدون من دون الله من أوثان ﴿ فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون ﴾ أي فامكروا بي أنتم وأصنامكم جميعا واعلموا ما شئتم لضري وإيذائي ولا تؤخروا ذلك، فانظروا بعد ذلك هل تنالون مني انتم وأصنامكم سوءا ؟ !
ومثل هذه المقالة من هود لقومه العتاة المستكبرين يكشف عن مبلغ الثقة الكبرى بنصر الله وتأييده وتوفيقه، وأن الله جل وعلا مع المتقين المخلصين الصابرين في كل الأحوال، وعلى الخصوص في أحوال الخوف والتنكيل واشتداد البأس وتمالئ الكافرين على المؤمنين المستضعفين.
١ المخبول: المجنون. من الخبل، بالفتح. وهو فساد العقل. أو الجنون. انظر القاموس المحيط ج ٤ ص ٣٧٦..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٥٤:قوله :﴿ إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء ﴾ ﴿ إن ﴾، حرف نفي بمعنى ما ؛ أي ما نقول إلا أن بعض آلهتنا من الأصنام قد أصابك ﴿ بسوء ﴾ بجنون أو خبل ؛ لأنك تسبها وتعيبها وتسفه عقولنا لعبادتها، ومن اجل ذلك أصابك ما أصابك في عقلك من المس.
هكذا يفتري الجاحدون والجاهلون والسفهاء الذين لا يعبأون إذا ما غلوا في الكذب والمكابرة ومقالة السوء ؛ فها هم فوق حماقتهم وسفههم في عبادة أحجار صم يفترون مثل هذا الضرب من هوان التفكير المخبول١ ليقولوا ما قالوه لنبيهم هود عليه السلام.
قوله :﴿ قال إني أشهد الله واشهدوا أني برئ مما تشركون ﴾ هذا جواب هود لقومه وهو أنني أشهد الله على نفسي وأشهدكم أنتم على براءتي من شرككم ومما تعبدون من دون الله من أوثان ﴿ فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون ﴾ أي فامكروا بي أنتم وأصنامكم جميعا واعلموا ما شئتم لضري وإيذائي ولا تؤخروا ذلك، فانظروا بعد ذلك هل تنالون مني انتم وأصنامكم سوءا ؟ !
ومثل هذه المقالة من هود لقومه العتاة المستكبرين يكشف عن مبلغ الثقة الكبرى بنصر الله وتأييده وتوفيقه، وأن الله جل وعلا مع المتقين المخلصين الصابرين في كل الأحوال، وعلى الخصوص في أحوال الخوف والتنكيل واشتداد البأس وتمالئ الكافرين على المؤمنين المستضعفين.
١ المخبول: المجنون. من الخبل، بالفتح. وهو فساد العقل. أو الجنون. انظر القاموس المحيط ج ٤ ص ٣٧٦..

قوله :﴿ إني توكلت على الله ربي وربكم ﴾ ﴿ توكلت ﴾، من التوكل وهو إظهار العجز والاعتماد على غيرك، والاسم : التكلان، اتكل على الله توكيل عليه ؛ أي استسلم إليه١ ؛ أي فوضت أمري إلى الله، واستسلمت لجلاله فهو مالكي ومالككم وهو يكلأني من شركم وإيذائكم. ويدرأ عني مكركم وسوءكم.
قوله ﴿ ما من دابة إلا هو أخذ بناصيتها ﴾ الناصية، مقدم الرأس، أو شعر مقدم الرأس إذا طال، وجمعه : النواصي، والناصيات.
ويقال : أذل فلان ناصية فلان : أهانه وحط من قدره، وفلان ناصية قومه : شريفهم. قال الرازي في هذا الصدد. اعلم أن العرب إذا وصفوا إنسانا بالذلة والخضوع، قالوا : ما ناصية فلان غلا بيد فلان ؛ أي أنه مطيع له ؛ لأن كل من أخذت بناصيته فقد قهرته. وكانوا إذا أسروا الأسير فأردوا إطلاقه والمن عليه جزوا ناصيته ليكون ذلك علامة لقهره. فخوطبوا في القرآن بما يعرفون. فقوله :﴿ وما من دابة إلا هو أخذ بناصيتها ﴾ أي ما من حيوان إلا وهو تحت قهره وقدرته ومنقاد لقضائه وقدره٢.
قوله :﴿ أن ربي على صراط مستقيم ﴾ صراط الله، طرقه ومنهجه، الذي يدعو الناس لاتباعه دون مجانية أو تفريط ؛ فهو المنهج الحق الذي يقضي بين العباد بالعدل والاستقامة٣.
١ مختار الصحاح ص ٧٣٤ والمعجم الوسيط جـ ٢ ص ١٠٥٤..
٢ مختار الصحاح ص ٦٦٤ والمعجم الوسيط جـ ٢ ص ٩٢٧ وتفسير الرازي جـ ١٨ ص ١٤..
٣ تفسير الرازي جـ ١٨ ص ١٤ وتفسير القرطبي جـ ٩ ص ٥١- ٥٣..
قوله تعالى :﴿ فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ويستخلف ربي قوما غيركم ولا تضرونه شيئا إن ربي على كل شيء حفيظ ٥٧ ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ ﴾ ذلك إخبار من الله عن قيل هود لقومه إن أعرضوا عن دينه ودعوته ﴿ فإن تولوا ﴾ فغن أدبروا معرضين عما تدعوهم إليه من توحيد الله وترك عبادة الأوثان فقل لهم : لقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم من دعوة لتوحيد الله وإفراده وحده بالألوهية والاستبراء من الشركاء والأنداد المفتراة ﴿ ويستخلف ربي قوما غيركم ولا يضرونه شيئا ﴾ أي يذهب لكم ربي ويأتي بآخرين خير منكم، يؤمنون به ويخلصون له العبادة ولا يقدرون على أن تضروه شيئا إذا قضى أن يهلككم ﴿ إن ربي على كل شيء حفيظ ﴾ الله رقيب على كل شيء ومهيمن عليه ؛ فهو يحفظني من أذاكم وسوئكم، ولا يعبأ بكم إن أراد أن يهلككم.
قوله :﴿ ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ﴾ أمر الله، يعني عذابه فغنه لما حان وقت الهلاك لقوم عاد نجى الله نبيه هودا عليه السلام والذين معه من المؤمنين برحمته ؛ أي بفضل منه ونعمة، فما ينجوا العبد ويفوز بفضل الله ونعمته وتوفيق وذلك كله رحمة من الله يمن بها على عباده الصالحين. وفي صحيح مسلم والبخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :( لن ينجي أحدا منكم عمله ) قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال :( ولا أنا إلا يتغمدني الله برحمة منه ).
قوله :﴿ ونجيناهم من عذاب غليظ ﴾ أي نجاهم الله من عذاب يوم القيامة.
قوله تعالى :﴿ وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد ٥٩ وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ألا إن عادا كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود ﴾ الإشارة ﴿ تلك ﴾ في موضع رفع مبتدأ. ﴿ عاد ﴾، خبره. والمعنى : أن هؤلاء قوم عاد الذين نزل بهم الانتقام من الله قد كذبوا بآيات الله وهي حججه ودلائله ومعجزاته ﴿ وعصوا رسله ﴾ كذبوا رسولهم هودا. ومن كذب واحدا من رسل الله فقد كذب بجميع الرسل.
قوله :﴿ واتبعوا أمر كل جبار عنيد ﴾ الجبار : المرتفع المتمرد المستكبر. والعنيد، أو العاند والمعاند، معناه المنازع المعارض الذي يأبى الحق ولا يذعن له. والمعنى : أن قوم هود قد ضلوا واتبعوا رؤساءهم من المستكبرين والطغاة والمعاندين الذين لا يذعنون للحق ولا يميلون إلا للضلال والباطل.
قوله :﴿ وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ﴾ أي ألحقوا لعنة في دنياهم، وذلك بإبعادهم من الخير والرحمة. ويوم القيامة أتبعوا مثل ذلك أيضا.
وبذلك قد لزمتهم اللعنة في الدارين.
قوله :﴿ ألا إن عادا كفروا ربهم ﴾ أي جحدوا نعمة ربهم. ونعمته عليهم عظيمة وكبرى وهي دعوة الحق والهدى ؛ ففيها صلاحهم ونجاتهم من كل البلايا في الدنيا والآخرة. وقد كرر ذلك على سبيل التوكيد والتهويل لأمرهم بقوله :﴿ ألا بعدا لعاد قوم هود ﴾ والعبد معناه هنا الهلاك. وذلك دعاء عليهم بالهلاك والثبور والبعد عن رحمة الله.
وفي هذا العبير القرآني المميز ما يغني عن كل شرح أو بيان يتفنن به البشر ؛ فأيما كلام أو بيان أو إسهاب في القول عن خسران عاد وهلاكهم لا يزجي من روعة الأسلوب وفظاعة التهويل المذهل، وكمال المعنى المقصود، ومعشار ما يزجي به قوله سبحانه :﴿ ألا بعدا لعاد قوم هود ﴾ ١.
١ تفسير الرازي جـ ١٨ ص ١٧ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ١٩٤..
قوله تعالى :﴿ وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب ﴾ أي أرسلنا إلى قوم ثمود أخاهم صالحا. وهو أخوهم في النسب، فدعاهم في تودد ورفق بقوله ﴿ يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ﴾ أي اعبدوا الله وحده دون غيره من الشركاء والأنداد ؛ فغنه الإله الخالق الحق، وليس لكم من إله خالق ورازق ومدبر سواه ﴿ هو أنشأكم من الأرض ﴾ وذلك بخلق آدم أبي البشر من التراب ﴿ واستعمركم فيها ﴾ أي جعلكم عمارها١، أو أعاشكم فيها، أو أمركم بعمارة الأرض ليكون فيها مستقركم وسكنكم ؛ ففيها تبنون وتزرعون وتعيشون آمنين مستقرين مدة أعماركم المحدودة وأنتم تقضون فترة الابتلاء في هذه الدنيا حتى تحين آجالهم بالإفضاء إلى أخراكم حيث الحساب والجزاء.
قوله ﴿ فاستغفروه ثم توبوا إليه ﴾ اطلبوا منه المغفرة من إشراككم ومعاصيكم ثم ارجعوا إليه بحسن العبادة وتمام الطاعة ﴿ إن ربي قريب مجيب ﴾ الله قريب من عباده المؤمنين المخبتين المخلصين، مجيب لهم إذا دعوه ضارعين منيبين٢.
١ مختار الصحاح ص ٤٥٤..
٢ مختار الصحاح ص ٢٦٥ والمصباح المنير جـ ١ ص ٢٦٥ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ١٩٥ وتفسير الرازي جـ ١٨ ص ١٩..
قوله تعالى :﴿ قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب ٦٢ قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته فما تزيدونني غير تخسير ﴾ قالت ثمود الطاغية لنبيهم الكريم صالح عليه السلام : كنا نرجو أن تكون فينا سيدا قبل أن تقلو لنا هذا القول ؛ إذ تأمرنا أن نعبد إلها واحدا ونذر ما كان يعبد آباؤنا من قبل ﴿ أتنهانا أن نعبد آباؤنا ﴾ الاستفهام للإنكاري ؛ فهم يستنكرون أن ينهاهم نبيهم صالح عن عبادة أوثان صماء لا تشر ولا تنفع، وقد كان آباؤهم يعبدونها من قبل، فهم على آثار آبائهم الضالين مهتدون. وهم بذلك سادرون في ضلالهم لا يثنيهم عن ذلك حق ولا منطق ولا حجة.
قوله :﴿ وإننا لفي شك مما تدعوانا إليه مريب ﴾ متشككون فيما جاءهم به صالح من دعوة لتوحيد الله وإفراده بالإلهة والإقرار له وحده بالعبودية دون أحد غيره ﴿ مريب ﴾ من الريبة، وهي التهمة والشك، ومنه : أربته فأنا أربيه إرابة ؛ إذ فعلت به فعلا يوجب له الريبة.
فالمريب : الموجب للشك والتهمة، أو الموقع في الريبة وهي قلق النفس وعدم الطمأنينة١.
١ مختار الصحاح ص ٢٦٥ والمصباح المنير جـ ١ ص ٢٦٥ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ١٩٥ وتفسير الرازي جـ ١٨ ص ١٩..
قوله :﴿ قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته ﴾ يبين الله لنا قول نبيه صالح لقومه الظالمين : أرأيتم إن كنت على برهان وبيان من الله وأنا موقن بصدقه وحقيته، وكذلك أعطتني ربي رحمة منه وهي النبوة الكريمة الميمونة من جليل الحكمة وخالص التوحيد، فمن ذا الذي يمنعني من عقابه الأليم أن أنا عصيت ربي واستنكفت عن طاعته وتبليغ رسالته ﴿ فما تزيدونني غير تخسير ﴾ أي ما تزودنني بأتباعكم في باطلكم غير الخسران والتضليل فأكون من الهالكين. وقيل : ما تزدادون أنتم إلا خسارا١.
١ تفسير الرازي جـ ١٨ ص ٢٠ وتفسير القرطبي جـ ٩ ص ٥٩..
قوله تعالى :﴿ ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب٦٤ فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب ٦٥ فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ إن ربك هو القوي العزيز ٦٦ وأخذ الذين ظلموا الصحية فأصبحوا في ديارهم جاثمين ٦٧ كأن لم يغنوا فيها ألا أن ثمودا كفروا ربهم ألا بعدا لثمود ﴾ يخبر الله من قيل صالح لقومه المشركين من ثمود –وقد سألوه أن يأتيهم بآية تشهد له بصدق ما جاءهم به- ﴿ هذه ناقة الله لكم آية ﴾ أي حجة وبرهان على صدق رسالتي إليكم وحقيقة ما ادعوكم إليه.. ﴿ آية ﴾، منصوب على الحال. أي هذه ناقة الله لكم آية بينة ظاهرة. وقيل : منصوب على التمييز١.
قوله :﴿ فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء ﴾ أي اتركوها تأكل في أرض الله فليس عليكم رزقها أو مؤونتها ﴿ ولا تمسوها بسوء ﴾ أي عقر أو نحر. والعقر، معناه : الجرح. عقر البعير بالسيف عقرا ؛ أي ضرب قوائمه به. ولا يطلق العقر في غير القوائم٢.
قوله :﴿ فيأخذكم عذاب قريب ﴾ حذرهم نبيهم صالح عليه السلام عاقبة عقر الناقة أو مسها بالسوء ؛ فإنهم إن فعلوا ذلك سيصيرون إلى عذاب عاجل قريب من عقرها، لا يتراخى عن مسها منهم إلا ثلاثة أيام.
١ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ١٩..
٢ المصباح المنير جـ ٢ ص ٧١..
قوله :﴿ فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ﴾ كذبت ثمود صالحا وجحدوا دعوته جحودا شديدا، ثم غالوا في العتو والاستكبار بعقرهم ناقة الله التي جعلها لهم آية وبرهانا، إذا اعتدوا عليها بالقتل أو النحر ؛ فاستحقوا بذلك من الله الجزاء المهين في الدنيا فقال :﴿ تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ﴾ أي استمتعوا بحياتكم الدنيا مدة أيام ثلاثة، ثم أخذتهم الصحية في يومهم الرابع فهلكوا ليصيروا بعد هذا الأدنى إلى العذاب البئيس الأشد في الآخرة ﴿ ذلك وعد غير مكذوب ﴾ أي غير مكذبو فيه. أو غير كذب١.
١ المعجم الوسيط جـ ١ ص ١٠٧..
قوله :﴿ فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ ﴾ لما جاء ثمود عذاب الله نجى نبيه صالحا ومن معه من المؤمنين. لقد نجاهم الله جميعا بنعمة منه وفضل. وكذلك نجاهم مما أصاب الظالمين المعتدين من هوان وخزي في ذلك اليوم العصيب.
قوله ﴿ إن ربك هو القوي العزيز ﴾ الله القوي القادر على تنجية المؤمنين من عباده الذين بغي عليهم الظالمون الجاحدون. وهو كذلك الغالب القاهر فوق العباد، القادر على الانتقام من الظالمين المجرمين أعداء الحق والدين.
قوله :﴿ وأخذ الذين ظلموا الصحية ﴾ هؤلاء الآثمون العصاة الذين جحدوا رسولهم صالحا صم عقروا ناقة الله أخذتهم الصيحة عقابا لهم. وهي صيحة جبريل المفزعة ؛ إذ صاح فيهم صيحة هائلة مرعبة أطارت قلوبهم فهلكوا جميعا. وقيل : المراد بالصيحة الصاعقة ﴿ فأصبحوا في ديارهم جاثمين ﴾ أي ميتين. نقول : جثم الحيوان والإنسان جثوما ؛ أي لزم مكانه فلم يبرح ؛ أو لصق بالأرض فهو جاثم، والمقصود : أنهم صيح بهم صيحة رعيبة أهلكتهم
﴿ كأن لم يغنوا فيها ﴾ أي كأنهم لم يقيموا فيها. غني بالمكان : أقام به. وغني أيضا، عاش١. والمعنى : أنهم أتت عليهم الصيحة الهائلة فسقطوا جميعا موتى فكأنهم لم يكونوا من قبل.
قوله :﴿ ألا أن ثمودا كفروا ربهم ﴾ اختلف القراء في صرف ثمود وعدم صرفه. فمن صرفه جعله اسم الحي. ومن لم يصرفه جعله اسم القبيلة معروفة فلم ينصرف للتعريف والتأنيث٢ وذلك تعليل لما حل بقوم ثمود من الانتقام الشديد ؛ إذ أخذتهم الصيحة المهلكة. وذلك بكفرهم وفرط عتوهم وجحودهم ﴿ ألا بعدا لثمود ﴾ وهذا دعاء عليهم بالهلاك والإبعاد من الرحمة ؛ أي : ألا بعدا الله ثمود لنزول العذاب بهم٣.
١ مختار الصحاح ص ٤٨٣..
٢ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٢٠..
٣ تفسير الطبري جـ ١٢ ص ٤٢ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ١٩٦ وتفسير القرطبي جـ ٩ ص ٦٠..
قوله تعالى :﴿ ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ ٦٩ فلما رءا أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخلق إنا أرسلنا إلى قوم لوط ٧٠ وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ٧١ قالت يا ويلتي ألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب ٧٢ قالوا أتعجبين من أمر الله رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد ﴾.
هذا إخبار من الله عن قصة نبيه لوط عليه السلام وهو ابن عم خليل الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام. وقد كانت قرى لوط بنواحي الشام، وكان إبراهيم يقيم بفلسطين. فما أمر الله ملائكته أن ينزلوا بإهلاك قوم لوط والتدمير عليهم من أجل فاحشتهم الشنيعة، ومروا ولهم في طريقهم إلى مدائن لوط، بإبراهيم ونزلوا عنده وقد ظنهم أضيافا وهو دأبه إكرام الضيف، فأحسن استقبالهم وإكرامهم. وقد قيل : كانوا تسعة. وقيل : كانوا اثني عشر ملكا على صورة الغلمان الحسان الوجوه ؛ إذ كانوا أولي وضاءة وصحابة. وذلك تأويل قوله :﴿ ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى ﴾ وقد اختلف العلماء في المراد بالبشرى على وجهين. الأول : أن المراد ما بشره الله بعد ذلك بقوله : فبشرناه بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب }.
الثاني : أن المراد منه تبشير إبراهيم عليه السلام بسلامة لوط وبإهلاك قومه.
قوله :﴿ قالوا سلاما قال سلام ﴾ نصب سلاما الأول لوجهين :
أولهما : كونه منصوبا بقالوا. كما يقال : قلت خيرا. قلت شعرا.
ثانيهما : كونه منصوبا على المصدر.
ورفع ﴿ سلام ﴾ الثاني ؛ لأنه خبر لمبتدأ محذوف، وتقديره : أمرنا سلام، أو هو سلام. وقيل : مرفوع ؛ لأنه مبتدأ محذوف الخبر، وتقديره : وعليكم سلام١.
والمقصود : أن الملائكة حيوا نبي الله إبراهيم بالسلام ؛ أي : سلمنا عليك سلاما. أو سلمت فحياهم إبراهيم بمثلها وهو قول : عليكم السلام. والسلام يأتي على عدة معان. منها أنه اسم من أسماء الله تعالى. وهو التحية عند المسلمين. ويأتي بمعنى الأمان. والصلح والبراءة من العيوب٢.
قوله :﴿ فما لبث أن جاء بعجل حنيذ ﴾ أي فما لبث حتى جاء بعجل حنيذ. أو فما لبث في المجيء به بل عجل فيه. والحنيذ، هو المشوي النضيج. حنيذ الشاة أي شواها وجعل فوقها حجارة محماة لتنضجها فهي حنيذ. وهو من فعل أهل البادية. والمقصود : أن إبراهيم قد خف سريعا فأتاهم بالضيافة وهو عجل من صغار البقر، محنوذ ؛ أي مشوي على الرضف وهي الحجارة المحماة٣.
١ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٢٠، ٢١..
٢ المعجم الوسيط جـ ١ ص ٤٤٦..
٣ مختار الصحاح ص ١٥٩ وتفسير الرازي جـ ١٨ ص ٢٥..
قوله :﴿ فلما رءا أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة ﴾ لم تتقدم الملائكة نحو الطعام بل قبضوا أيداهم ولم يأكلوا، فنكرهم إبراهيم، أي أنركهم، أو استنكر إحجامهم عن الطعام ﴿ وأوجس منهم خفية ﴾ أوجس، من الوجس والإيجاس والتوجس، ومعناه الإدراك أو الإضمار١ ؛ أي أضمر إبراهيم في نفسه الخوف والفزع منهم ؛ فقد كانوا إذا رأوا الضيف لا يأكل ظنوا به شرا، فقالت الملائكة :﴿ لا تخلق إنا أرسلنا إلى قوم لوط ﴾ لما ادع إبراهيم أمر ضيفانه وأوجس في نفسه منهم خفية، قالوا له : لا تفزع ولا توجل وكن آمنا، فإنا ملائكة الله أرسلنا إلى قوم لوط لإهلاكهم.
١ مختار الصحاح ص ٧١٠..
قوله :﴿ وامرأته قائمة فضحكت ﴾ قيل : اسم امرأته سارة وهي بنت عمه كانت ﴿ قائمة ﴾ تخدم الرسل وإبراهيم. أو كانت رواء الستر تسمع تحاورهم ﴿ فضحكت ﴾ سرورا بهلاك قوم لوط الذين كانوا يعملوا الخبائث، أو أنها ضحكت سرورا بزوال الخوف. وقيل : ضحكت ضحك التعجب. ثم جوزيت بالبشارة بالولد بعد الإياس وهو قوله :﴿ فبشرناها بإسحاق ﴾ أي بشرناها بولد ؛ لأنها لم يكن لها ولد وكان لإبراهيم ولد وهو إسماعيل.
﴿ ومن وراء إسحاق يعقوب ﴾ يقرأ يعقوب بضم الباء وفتحها. أما الضم : فهو لكون يعقوب مرفوعا ؛ لأنه مبتدأ، والجار والمجرور قبله خبره. أما الفتح : فلكونه في موضع نصب، بتقدير فعل دل عليه قوله :﴿ فبشرناه ﴾، وتقديره : بشرناها بإسحق ووهبنا له يعقوب من رواء إسحق. أو أن يكون معطوفا على موضع قوله : بإسحق، وموضعه النصب. كقولهم : مررت بزيد وعمرا١.
والمعنى : بشرناها بإسحق ووهبنا لها من بعد إسحق يعقوب. وبذلك بشرت سارة بولد يكون نبيا ويلد نبيا. فكانت هذه بشارة لها بأن ترى ولد ولدها، ومن هذه الآية استدل العلماءعلى أن الذبيح إنما هو إسماعيل، وأنه يمتنع أن يكون هو إسحق ؛ لأن البشارة وقعت به، وأنه سيولد له يعقوب ؛ فكيف يؤمر إبراهيم بذبحه وهو طفل صغير ولم يولد له بعد يعقوب الموعود بوجوده، ووعد الله حق ليس فيه خلف، فلا يمكن والحالة هذه أن يؤمر إبراهيم بذبح إسحق ؟ فتعين أن يكون الذبيح هو إسماعيل.
١ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٢١، ٢٢..
قوله :﴿ قالت يا ويلتي ألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا ﴾ الأصل يا ويلتي. وأبدلت الألف من ياء الإضافة لكونها أخف من الياء والكسرة، وهي بذلك لا تبتغي الدعاء على نفسها بالويل، ولكن هذه الكلمة تخف على أفواه النساء إذا عرض لهن ما يثير فيهن العجب ؛ فقد عجبت سارة من ولادتها في هذه السن الكبيرة ومن كون زوجها شيخا كبيرا وذلك خارج عن العادة والمألوف فكان مستغربا مستنكرا.
وهذا تأويل قوله :﴿ أألذ وأنا عجوز ﴾ استفهام في معنى التعجب. والعجوز، هي المرأة الكبيرة أو المسنة. والجمع عجائز١.
قوله :﴿ هذا بعلي شيخا ﴾ البعل، الزوج، وجمعه : البعولة. ويقال للمرأة أيضا : بعل وبعلة، كزوج وزوجة٢، وأما الشيخ، فهو فرق الكهل. وجمعه شيوخ وشيخان. والشيخوخة مصدر : شاخ يشيخ، وامرأة شيخة. والمشيخة اسم جمع للشيخ، وجمعها : مشايخ٣. وشيخا، منصوب على الحال، لما في قوله :﴿ هذا ﴾ من معنى الإشارة أو التنبيه ؛ فكأن المعنى : أشير إليه شيخا، أو أنبه عليه شيخا٤ والمعنى : أنى يكون لي ولد وأنا كبيرة مسنة، وهذا زوجي ﴿ شيخا ﴾ قيل : كانت سنة فوق المائة عام. ومألوف في هذه السن الكبيرة ترك غشيان النساء.
١ مختار الصحاح ص ٤١٤ والمصباح المنير جـ ٢ ص ٤٢ والمعجم الوسيط جـ ٢ ص ٥٨٥..
٢ مختار الصحاح ص ٥٨..
٣ المصباح المنير جـ ١ ص ٣٥٣..
٤ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٢٢..
قوله :﴿ قالوا أتعجبين من أمر الله ﴾ أنكرت الملائكة عليها أن تعجب من أمر الله ؛ إذ قضى أن يهبها الولد وهي كبيرة طاعنة. فلا مدعاة للتعجب والاستغراب ما دام ذلك كائنا بقدرة الله ومشيئته وهي من جهتها كانت ناشئة في بيت النبوة حيث الآيات والخوارق ومهبط المعجزات، فليست كغيرها من النساء، فما ينبغي لها أن تعجب أو تذهل مما نقتله إليها الملائكة من بشارة معتبرة من خوارق العادات حقا.
قوله :﴿ رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت ﴾ ﴿ أهل ﴾، منصوب على المدح أو الاختصاص. وهذا خبر من الله، ومفاده حصول الرحمة والبركة لأهل البيت، وهو بيت إبراهيم. والرحمة تشمل كل أوجه السعادة والنعمة والخير والنجاة. والبركات، مفردها البركة، وهي النماء والزيادة١ ومن جملة هذه البركات : أن يكون النبيون والمرسلون في ولد إبراهيم وسارة ؛ فقد خص الله بيت إبراهيم بجزيل العطاء والنعم من خيرات ومعجزات وكرامات ونبوة ﴿ إنه حميد مجيد ﴾ إن الله محمود في جميع أفعاله وفيما تفضل به عليكم من النعم والبركات. وهو كذلك ممجد في ذاته وصفاته٢.
١ مختار الصحاح ص ٤٩..
٢ تفسير القرطبي جـ ٩ ص ٦٢- ٧١ وتفسير الرازي جـ ١٨ ص ٢٤ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ١٩٦، ١٩٧ وتفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٤٥١ والبيضاوي ص ٣٠١..
قوله تعالى :﴿ فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط ٧٤ إن إبراهيم لحليم أواه منيب ٧٥ يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه جاء أمر ربك وإنهم آتاهم عذاب غير مردود ﴾ لما، ظرف زمان، وهو يقتضي الجواب، وجوابه محذوف، وتقديره : أقبل يجادلنا و ﴿ يجادلنا ﴾ جملة فعلية في موضع نصب على الحال من مضير إبراهيم١.
﴿ الروع ﴾ : الفزع ؛ راعه فارتاع ؛ أي أفزعه ففزع. وروعه ترويعا. وقولهم : لا ترع ؛ أي لا تخف٢.
والمعنى : أن إبراهيم عليه السلام لما اطمأن قلبه من الخوف الذي أصابه وامتلأ سرورا بسبب البشرى بإهلاك قوم لوط، أو بالولد، طفق بعد ذلك يجادل الملائكة وهم رسل الله. ومجادلته إياهم أنهم قالوا :﴿ إنا مهلكوا أهل هذه القرية ﴾ فقال لهم : أتهلكون قرية فيها ثلاثمائة مؤمن ؟ قالوا : لا. قال : أفتهلكون قرية فيها مائتا مؤمن ؟ قالوا : لا. قال : أفتهلكون قرية فيها أربعون مؤمنا ؟ قالوا : لا. قال : ثلاثون ؟ قالوا :. ؛ حتى بلغ خمسة، قالوا : لا. قال : أرأيتكم إن كان فيها رجل واحد مسلم أتهلكونها ؟ قالوا : لا ؛ فقال إبراهيم عليه السلام عند ذلك ﴿ إن فيها لوطا قولوا نحن أعلم بمن فيها لننجيه وأهله إلا امرأته ﴾ فسكت عنهم واطمأنت نفسه.
١ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٢٣، ٢٤..
٢ مختار لابن الأنباري ص ٢٦٤ والمصباح المنير جـ ١ ص ٢٦٤..
قوله :﴿ إن إبراهيم لحليم أواه منيب ﴾ الحليم، عظيم الصفح والستر، من الحلم بكسر الحاء، وهو الأناة والصفح وضبط النفس١. والأواه : القانت، كثير التأوه من خوف الله. والمنيب : الرجاع إلى الله. ومثل هذه الصفات يكشف عن صفات إبراهيم في رقة قلبه وعظيم رأفته ورحمته.
١ المعجم الوسيط جـ ١ ص ١٩٥ ومختار الصحاح ص ١٥٢..
قوله :﴿ يا إبراهيم أعرض عن هذا ﴾ يخبر الله عن قيل الملائكة لإبراهيم حين جادلهم في قوم لوط فقالوا له : دع عنك الجدال في أمر هؤلاء المؤتفكين الفاسقين ؛ فقد جاءهم حكم الله بالعذاب ومضى فيهم قضاؤه بالإهلاك والتدمير. وهو قوله :﴿ إنه قد جاء أمر ربك ﴾ أي عذابه. وقوله :﴿ وإنهم آتاهم عذاب غير مردود ﴾ ﴿ عذاب ﴾، فاعل لاسم الفاعل الذي هو ﴿ آتاهم ﴾ ١ إن هؤلاء المؤتفكين الفاسقين القذرين نازل من الله عذاب أليم ومذل ﴿ غير مردود ﴾ غير مصروف عنهم ولا مدفوع٢.
١ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٢٤..
٢ تفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٤٥٢ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ١٩٨..
قوله تعالى :﴿ ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا و قال هذا يوم عصيب ٧٧ وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد ٧٨ قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد ﴾ بعد أن خرجت الملائكة من عند إبراهيم انطلقوا صوب لوط عليه السلام ؛ إذ وردوا عليه في أجمل وجه وأحسن صورة. وذلك ابتلاء من الله لقوم لوط، ولله في ابتلائهم بجمال هؤلاء الشبان الحكمة البالغة والحجة القاطعة. فما أن علم لوط بقدومهم حتى شيء بهم ؛ أي ساءه مجيئهم ﴿ وضاق بهم ذرعا ﴾ ﴿ ذرعا ﴾، منصوب على التمييز، أي كره مجيئهم أو ضاق صدره بجيأتهم. وذلك لما من جمال وجوههم وحسن صورتهم وهو يعلم ما عليه قومه من الفسق والجنوح للرجس والقذر. ﴿ وقال هذا يوم عصيب ﴾ أي شديد البلاء. وذلك أن لوطا يعلم أنه سيدافع عن هؤلاء الشبان لكن ذلك يشق عليه.
قوله :﴿ وجاءه قومه يهرعون إليه ﴾ ﴿ يهرعون إليه ﴾، في موضع نصب على الحال و ﴿ يهرعون ﴾ أي يسرعون، من الإهراع وهو الإسراع. والمراد : أن هؤلاء المقبوحين المناكيد من قوم لوط جاءوا يستحثون إلى لوط كأنهم يحث بعضهم بعضا١، وكان سبب إسراعهم ما روي أن امرأة لوط الكافرة، لما رأت الأضياف وجمالهم وهيئتهم خرجت حتى أتت مجالس قومها فقالت لهم : إن لوطا قد أضاف الليلة فتنة ما رؤي مثلهم جمالا ؛ فحينئذ جاءوا يهرعون إليه. ويذكر أن الرسل لما وصلوا إلى بلد لوط وجدوا لوطا في حرث له. وقيل : وجدوا ابنته تسقي ماء من نهر سدوم، فسألوها الدلالة على من يضيفهم، ورأت هيئتهم فخافت عليهم من قوم لوط. وقالت لهم : مكانكم ! وذهبت إلى أبيها فأخبرته فخرج إليهم، فقالوا : نريد أن تضيفنا الليلة. فقال لهم : أو ما سمعتم بعمل هؤلاء القوم ؟ فقالوا : وما عملهم ؟ فقال : أشهد بالله غنهم لشر قوم في الأرض٢.
قوله :﴿ ومن قبل كانوا يعلمون السيئات ﴾ يعني قبل أن يأتوا مسرعين إلى لوط كانوا يفعلون فاحشة اللواط. أو أنهم من قبل مجيئهم إليه كان دأبهم اللواط حتى مرنوا على هذه الفاحشة فلم يستقبحوها. من أجل ذلك جاءوا إليه يهرعون مجاهرين وقحين لا يصدهم عن هذه الرذيلة النكراء مروءة ولا حياء.
قوله :﴿ قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم ﴾ ﴿ هؤلاء ﴾، في موضع رفع مبتدأ. و ﴿ بناتي ﴾، عطف بيان. ﴿ هن ﴾، ضمير فصل. و ﴿ أطهر ﴾، مرفوع ؛ لأنه خبر للمبتدأ٣ والمقصود بقوله :﴿ أطهر لكم ﴾ أنهن أحل. وهو يعني بذلك نساء أمته، أو جملة النساء ؛ فكل نبي أب لأمته ؛ فهو بذلك قد دعاهم إلى النكاح وليس السفاح ؛ أي أن النكاح أطهر لكم مما تبتغونه من الفاحشة المرذولة بإتيانكم الرجال في أدبارهم. وقيل : أراد لوط في هذا اليوم العصيب أن يفدي أضيافه ببناته فيزوجهم إياهن وكان تزويج المسلمات من الكفار في ذلك الوقت جائزا كما حصل في ابتداء أمة محمد صلى الله عليه وسلم ؛ فقد زوج الرسول صلى الله عليه وسلم ابنته من عتبة بن أبي لهب، وأبي العاص بن الربيع وهما كافران. وكان ذلك قبل الوحي. وقيل : كان للقوم الذين جاءوا سيدان مطاعان فأراد لوط أن يزوجهما ابنته طمعا في انصرافهم ودفع أذاهم عن الضيفان.
قوله :﴿ فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي ﴾ أي خافوا الله واحذروا عقابه مما تبتغون من مرذول الفاحشة، ولا تهينوني وتفضحوني من الخزي في ضيفي. والضيف : واحد وجمع. وقد يجمع على الأضياف والضيوف والضيفان. والمرأة ضيف، وضيفه٤.
قوله :﴿ أليس منكم رجل رشيد ﴾ ﴿ رشيد ﴾ بمعنى مرشد. والمعنى : اليس فيكم رجل مرشد يقول الحق وينهي عن الفساد، ويرد هؤلاء المتوقحين الأوباش فيدفعهم عن أضيافي ؟ !
١ مختار الصحاح ص ٦٩٤..
٢ تفسير القرطبي جـ ٩ ص ٧٥..
٣ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٢٤، ٢٥..
٤ مختار الصحاح ص ٣٨٦ والبيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٢٥..
قوله :﴿ قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق ﴾ أي ليس لنا حاجة ولا شهوة في بناتك ؛ فنحن بغيتنا إتيان الذكور وليس الإناث ﴿ وإنك لتعلم ما نريد ﴾ أنت عليم بمرادنا ومبتغانا وهو إتيان الذكور. فما نريده هو ما تنهانا عنه١.
١ تفسير الرازي جـ ١٨ ص ٣٥ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ١٩٨، ١٩٩ وتفسير القرطبي جـ ٩ ص ٧٥- ٧٨..
قوله تعالى :﴿ قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد ٨٠ قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب ﴾ لما عجز لوط عن رفع هؤلاء الأشرار والأوباش واستيأس من ردهم دون ضيفه، وهم قد أبوا إلا المضي إلى داخل بيته طالبين الفاحشة، قال لهم على سبيل الحسرة والتفجع :﴿ لو أن لي بكم قوة ﴾ ﴿ لو ﴾، حرف امتناع لامتناع ؛ أي يمتنع له الشيء لامتناع غيره، وجوابه محذوف وتقديره : لدفعتكم١ والمعنى : أو أن لي ما أتقوى به عليكم من أعوان وأنصار أو غير ذلك من موجبات القوة ﴿ أو آوي إلى ركن شديد ﴾ الركن الشديد، هو الموضع الحصين المنيع، كعشيرة ذات قوة ومنعة أتقوى بها وأستند إليها ؛ لأتمكن من صدكم والحيلولة بينكم وبين ما جئتم تريدونه من فحش وقذر.
١ البيان الابن الأنباري جـ ٢ ص ٢٥..
قوله :﴿ قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا ﴾ ويروى في هذا الصدد أن لوطا عليه السلام لما غلبه قومه وهموا بكسر الباب وهو يمسكه، قالت له الرسل : تنح عن الباب فتنحى وانفتح الباب، فضربهم جبريل بجناحه فطمس أعينهم وعموا وانصرفوا على أعقابهم يقولون : النجاء النجاء، وهو تأويل قوله تعالى :﴿ ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم ﴾ وقال ابن عباس وأهل التفسير : أغلق لوط بابه والملائكة معه في الدار وهو يناظر قومه ويناشدهم من وراء الباب وهم يعالجون تسرو الجدار. فلما رأت الملائكة ما لقي من الجهد والكرب والنصب بسببهم، قالوا : يا لوط إن ركنك لشديد، وإنهم آتيهم عذاب غير مردود، وإنا رسل ربك فافتح الباب ودعنا وإياهم ؛ ففتح الباب فضربهم جبريل بجناحه على ما ذكر آنفا١.
والمراد : أن الملائكة لما رأت تفجع لوط وما أصابه من الحزن والاضطراب والحرج بعد أن ضعف عن مدافعة قومه المستقذرين، عرفوه بأنفسهم ليطمئن ويسكن ﴿ يا لوط غنا رسل ربك لن يصلوا إليك ﴾ لن يصلوا إليك أو إلى ضيفك بسوء أو مكروه، فهون عليك ولا تبتئس.
قوله :﴿ فأسر بأهلك بقطع من الليل ﴾ ﴿ فأسر ﴾، بالهمزة الموصولة والمقطوعة من سرى يسري ومسرى. وأسرى : أي سار ليلا، والسرى معناه السير في الليل٢.
وقوله :﴿ بقطع من اليل ﴾ أي طائفة منه. وهو قول ابن عباس. وقيل : ببقية من الليل. وقيل : بعد جنح من الليل. وقيل : بعد هدء من الليل. وقيل : بعد هزيع من الليل، وهو الطائفة منه. وقيل : النصف. وقيل : ساعة٣. فقد أمر الله نبيه لوطا أن يخرج هو وأهله من بين اظهر هؤلاء الفاسدين بجزء من الليل على أن لا يلتفت واحد منهم إلى الوراء ﴿ ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك ﴾ والالتفات، معناه نظر الإنسان إلى ما رواءه ؛ فقد قيل : كانت للمؤمنين في البلدة أموال وكان لهم فيها أصدقاء. من أجل ذلك أمرتهم الملائكة بالخروج تاركين وراءهم أشياءهم غير ملتفتين إليها البتة قطعا لتوجههم وهواهم عن كل شيء عدا توجههم إلى الله بارئ الأشياء جميعا. واستثنى من الملتفتين امرأة لوط ؛ فقد كانت عجوز سوء ؛ إذ أخبرت قومها عن ضيف لوط فكانت من الخائنين.
وقوله :﴿ امرأتك ﴾ منصوب على الاستثناء من قوله :﴿ فأسر بأهلك... إلا امرأتك ﴾ ٤.
قوله :﴿ إنه مصيبها ما أصابهم ﴾ أي مصيبها من العذاب ما يصيب الظالمين المسرفين٥.
قوله :﴿ إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب ﴾ كتب الله على هؤلاء المجرمين الفساق أن ينزل بهم العذاب الأليم صبحا ؛ إذ يكونون في هذا الوقت مجتمعين راقدين هاجعين العذاب المباغت زيادة في الترويع والترعيب. والهمزة هنا في ﴿ أليس ﴾ للاستفهام التقريري، فالصبح قريب طلوعه غاية القرب. وليس ادل على قربه البالغ من هذه الكلمات الربانية المؤثرة المصورة في هذه الصيغة من الاستفهام التقريري الذي يوحي بحقيقة القرب لجيئه الصبح فيحين وقت العذاب الفظيع لهؤلاء الغوغاء من أسافل الناس وسقاطهم.
١ تفسير القرطبي جـ ٩ ص ٧٨..
٢ تفسير الرازي جـ ١٨ ص ٣٧ ومختار الصحاح ص ٢٩٧..
٣ المصباح المنير جـ ٢ ص ٣١١..
٤ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٢٦..
٥ تفسير الرازي جـ ١٨ ص ٣٥ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ١٩٩ وتفسير القرطبي جـ ٩ ص ٨٠..
قوله تعالى :﴿ فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود ٨٢ مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد ﴾.
جاء أمر الله، وهو عذابه، ليأتي على قوم لوط فيستأصلهم استئصالا، وليدمر عليهم تدميرا، فيذر قراهم وبيوتهم خاوية، ويجهلها أثرا بعد عين، وكان ذلك عند طلوع الشمس ؛ إذ صبحهم العذاب بكرة بعد أن استفاقوا من هجعة الكرى ليكون ذلك أبلغ في التنكيل والبطش بهؤلاء الأشقياء الشذاذ. وقيل كان قوم يقيمون في أربع قرى، وكان أكبرها سدوم وفي كل قرية مائة ألف من الناس. وقيل غير ذلك. وقد قال الله في تدميرهم :﴿ جعلنا عاليها سافلها ﴾ يعني جعل الله عالي قراهم سافلها ؛ إذ قبلهم قلبا.
قوله :﴿ وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود ﴾ أي طين في حجارة. وقيل : طين تشوي كما يشوي الآجر. وقيل : هي حجارة من طين صلب.
والمنضود الذي يتبع بعضه بعضا في نزوله على الظالمين. وقيل : ينضد بعضها فوق بعض. نضد متاعه : وضع بعضه على بعض. منضود بمعنى مصفوف. وهذه المعاني جميعها متقاربة.
قوله :﴿ مسومة عند ربك ﴾ أي معلمة، من السيما وهي العلامة. وقد ذكر أن جبريل عليه السلام لما أصبح نشر جناحه فانتسف بها أرضيهم بما فيها من قصورها ودوابها وحجارتها وشجرها وجميع ما فيها، فضما في جناحه فحواها وطواها في جناحه، ثم صعد بها إلى السماء الدنيا حتى سمع سكان السماء أصوات الناس والكلاب. وكانوا أربعة آلاف ألف. ثم قلبها فأرسلها إلى الأرض منكوسة، ودمدم بعضها على بعض فجعل عاليها سافلها، ثم أتبعها حجارة من سجيل١.
قوله :﴿ وما هي من الظالمين ببعيد ﴾ يعني ما الحجارة والتدمير من الظالمين في هذه الأمة ببعيد. وذلك ترهيب للذين يقارفون هذه الفاحشة الكريهة. فما تنزلق نفوس الشذاذ من الفساق إلى هذا المستنقع من الرجس حتى يوشك أن يحيق بهم ما حاق بقوم لوط. وقيل : الضمير ﴿ هي ﴾ للقرى التي أتى عليها التدمير والقلب وهي المؤتفكات أو قرى قوم لوط. فلم تكن هذه القرى ببعيد من كفار مكة ؛ إذ كانت في الشام وكان كفار مكة يمرون بها في أسفارهم.
وقد ذكر خبراء الآثار أن قرى وآثارا لسكان وأناسي غائرة في عمق البحر الميت، وهي بحيرة لوط، تسمية باسم القوم الذين انكفأت بهم الأرض، فصار عاليهم سافلهم. وذلك ما تشهد به دراسة الآثار في بحيرة لوط عن هذه المسألة.
حد اللواط
يثبت حد اللواط بما ثبت به حد الزنا. وذلك بالإقرار أو البينة ؛ وهي أن يشهد أربعة من العدول على حصول تمام الزنا.
على أن عقوبة اللواط موضع خلاف بين الفقهاء ؛ فقد ذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنه ليس من حد في اللواط بل فيه التعزير على كل من الفاعل والمفعول به. واستدل على ذلك بالمعقول والنظر، وهو أن اللواط ليس زنا لاختلاف الصحابة في عقوبته ؛ فقد روي عن أبي بكر الصديق أن عقوبته الإحراق بالنار. وهو قول علي. وقيل : عقوبته التنكيس من مكان مرتفع وإلحاقه بالحجارة زيادة في التنكيل. وقيل غير ذلك في عقوبته.
وقال أيضا إن اللواط ليس في معنى الزنا ؛ لأنه ليس سببا لإضاعة الولد واشتباه النساب كالحال في الزنا. ومن جهة أخرى فإن حصول اللواط نادر ؛ لأن النفوس تنفر منه وتشمئز. لكنه مع ذلك يجب فيه التعزير٢.
وذهب جمهور الشافعية والمالكية والحنبلية وصاحبا أبي حنيفة إلى وجوب الحد في اللواط إن تحقق فيه شرط من عقل وبلوغ. فإن كان أحدهما صغيرا أو مجنونا وجب الحد على العاقل أو البالغ منهما. وفي ذلك أخرج البيهقي بإسناده عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إذا أتى الرجل الرجل، فهما زانيان، وإذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان، ) وهذا يدل على أن اللواط ضرب من الزنا فيجب فيه من الحد ما يجب على الزنا. وهذا الصحيح الذي ينبغي اعتباره والأخذ به. وما ينبغي أن يعارض هذا باحتجاج أبي حنيفة المبني على النظر.
أما ماهية حد اللواط وكيفيته فثمة قولان في ذلك :
القول الأول : وهو أن حد اللواط كحد الزنا في المرأة من غير فرق ؛ فيجب فيه الجلد على البكر، والرجم على المحصن، وهو قول الشافعية في المعتمد من مذهبهم، وكذلك الحنبلية في إحدى الروايتين عنهم. وقال بذلك صاحبا أبي حنيفة. واستدلوا على ذلك بالخبر :( إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان }.
القول الثاني : وهو وجوب قتل الفاعل والمفعول به سواء كانا بكرين أو ثيبين وهو قول المالكية والشافعية في قولهم الثاني. وهي الرواية الثانية للحنبلية وذلك لخبر :( من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به ) أخرج أبو داود عن ابن عباس. وكذلك ما أخرجه البيهقي بإسناده عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( من وقع على الرجل فاقتلوه ) وسئل ابن عباس : ما حد اللواطي ؟ قال :( ينظر أعلى البناء في القرية فيرمى به منكسا ثم يتبع الحجارة ).
وروي عن سعيد بن المسيب أنه قال :( السنة أن يرجم اللواطي أحصن أو لم يحصن ).
أما لو كان الملتبسان غير مكلفين، كأن يكونا صغيرين ؛ فإنه لا حد عليهما، ولكنهما يؤدبان بمختلف وجوه التأديب ممل يكون لهما زاجرا ورادعا. ولو كان أحد مكلفا دون الأخر، فإن كان المكلف هو الفاعل فقد وجب حده رجما أما لو كان المفعول به مكلفا دون الفاعل فلا رجم عليه ( المفعول به ) بل يؤدب الصغير غير المكلف ويعزز الكبير البالغ٣.
١ تفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٤٥٥..
٢ الهداية للمرغيناني جـ ٢ ص ١٠٢ والأشباه والنظائر لابن نجيم ص ١٨٩، ٣٣٤..
٣ أسهل المدارك جـ ٣ ص ١٦٥ والكافي جـ ٣ ص ١٩٨ والمهذب جـ ٢ ص ٢٦٩ والمدونة للإمام مالك جـ ٤ ص ٣٨٥ والأنوار للأردبيلي ومعه حاشية وحاشية الحاج إبراهيم جـ ٢ ص ٤٩٦..
قوله تعالى :﴿ وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إلاه غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط ﴾.
مدين هم قوم شعيب، وسموا بذلك ؛ لأنهم بنو مدين بن إبراهيم. وقيل : إن هذا اسم مدينتهم فنسبوا إليها. وهم قبيلة من العرب كانوا يسكنون بين الحاجز والشام قريبا من معان. وهي بلاد تعرف بهم يقال لها : مدين.
فقد أرسل الله إليهم نبيه شعيبا عليه السلام، وكان من أشرفهم نسبا، فقال لهم :﴿ يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إلاه غيره ﴾ أي أقروا الله وحده بالعبودية دون غيره من الأنداد، وأفردوه وحده بالإلهية دون غيره من الشركاء، وأذعنوا له بالطاعة والانقياد.
قوله :﴿ ولا تنقصوا المكيال والميزان ﴾ ﴿ المكيال ﴾، ما يكال به، وجمعه : مكاييل١. و ﴿ الميزان ﴾ : الآلة التي توزن بها الأشياء٢ ؛ أي تنقصوا الناس حقوقهم في مكيالكم وميزانكم ؛ فقد كان أهل مدين فرق إشراكهم وكفرهم وعبادتهم للأوثان، أهل بخس وتطفيف في المكيال والميزان. فكانوا إذا باعوا أعطوا دون ما يستحقه المشتري. وإذا اشتروا قبضوا أكثر من حقهم، فهم في الحالين مستزيدون أكثر مما يستحقون. وذلكم ظلم وخيانة وغش. فنهاهم الله عن هذا الخلق الذميم الذي يجر لهم السحت ثم يجرجر في بطونهم النار يوم القيامة. قوله :﴿ إني أراكم بخير ﴾ يعني أراكم تنعمون في البحبوحة والسعة وكثرة النعم فلا حاجة لكم إلى البخس في الكيال والميزان.
قوله :﴿ وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط ﴾ أي مهلك. وهو من قوله تعالى :﴿ وأحيط بثمره ﴾ أي أهلك، وأصله من إحاطة العدو. والمراد : أن شعيبا خشي على قومه من عذاب الاستئصال في الدنيا، أو العذاب البئيس في الآخرة٣.
١ المعجم الوسيط جـ ٢ ص ٨٠٨..
٢ المعجم الوسيط جـ ٢ ص ١٠٣٠..
٣ تفسير الرازي جـ ١٨ ص ٤١ والكشاف جـ ٢ ص ٢٨٥ وتفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٤٥٥ والنسفي جـ ٢ ص ٢٠٠..
قوله تعالى :﴿ ويا قوم أوفوا المكيال والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين ٨٥ بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ ﴾ أمر شعيب قومه بإيفاء الناس حقوقهم مما يكال أو يوزن بعد أن حذرهم البخس والتطفيف في الكيل أو الوزن، وذلكم هو القسط، أي العدل. ثم نهاهم كذلك عن بخس الناس أشياءهم سواء في ذلك مما يكال أو يوزن أو غير ذلك من مختلف الحقوق. والبخس معناه النقص.
قوله :﴿ ولا تعثوا في الأرض مفسدين ﴾ ﴿ تعثوا ﴾، أي تفسدوا. عثا عثوا وعثيا : أفسد أشد الإفساد. وعثي عثوا وعثيا وعثيانا : أفسد كذلك١ ؛ فقد نهاهم شعيب عن الإفساد في الأرض، وهو يدل على أن التطفيف أو البخس في المكيال والميزان خيانة وإفساد شديد في الأرض.
١ المعجم الوسيط جـ ٢ ص ٥٨٤. والمصباح المنير جـ ٢ ص ٤١..
قوله :﴿ بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين ﴾ ما بقي لكم من الحلال بعد إيفاء الناس حقوقهم وبعد الاستبراء من المال الحرام خير لنفسكم، مما تكسبونه من فضل التطفيف والبخس، فلا جرم أن يكون الحلال خيرا ؛ فهو أنفع وأدوم وأعظم بركة. وذلك ﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾ إن كنتم على الإيمان بالله والتصديق باليوم الآخر حيث العذاب والخزي والمطففين والخائنين الذين يأكلون أموال الناس بالباطل.
قوله :﴿ وما أنا عليكم بحفيظ ﴾ أي لست أنا رقيبا عليكم فأرى كيلكم ووزنكم، وإنما الله هو الرقيب عليكم. وقيل : لا أقدر أن أحفظكم من زوال النعمة عنكم بسبب معاصيكم، فاحفظوا نعم الله عليكم بخشيته ومجانبة عصيانه بالبخس والتطفيف١.
١ تفسير النسفي جـ ٢ ص ٢٠٠، ٢٠١ وتفسير القرطبي جـ ٢ ص ٨٦ وتفسير الرازي جـ ١٨ ص ٤٣..
قوله تعالى :﴿ قالوا يا شعيب أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آبائنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد ﴾ كان شعيب كثير الصلوات سواء منها الفريضة أو النافلة، وكان قومه يعيرونه بكثرة صلاته ويقولون له : ماذا تستفيد بهذه الصلاة، فكان يجيبهم : إن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر وعن قبائح الأعمال والإفساد في الأرض، فقالوا له في اجتراء عنيد، وجحود متوقح : أصلواتك تأمرنا بترك ما كان آباؤنا يعبدونه من الأوثان ﴿ أو أن نفعل في أموالنا ما نشاؤا ﴾ من بخس في الكيل والوزن، وقد تعودنا على ذلك وهو مما نفعله بالتراضي ﴿ إنك لأنت الحليم الرشيد ﴾ قالوا ذلك، على سبيل التهكم والاستهزاء. وذلك هو ديدن المجرمين اللئام الذين يحادون الله ورسوله ويؤذون النبيين والمرسلين بالخسيس من الكلام اللاذع المقبوح سخرية واستخفافا لهم. قبح الله المجرمين الجاحدين الطغاة وخزاهم شر خزي في الدنيا والآخرة١.
١ تفسير النسفي جـ ٢ ص ٢٠١ وتفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٤٥٦..
قوله تعالى :﴿ قال يا قوم أرأيتم عن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما أريد أن أخلفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استعطت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب ﴾ يخبر الله عن قول نبيه شعيب لقومه : أرأيتم إن كنت على برهان من الله فيما أدعوكم إليه من توحيد الله والتبرؤ من التلبس برجس الأوثان، وفيما أنهاكم عنه من الإفساد في الأرض بالبخس والتطفيف، وقد رزقني ربي المال الطيب الحلال، أو رزقني النبوة والرسالة. وجواب ﴿ أرأيتم ﴾ محذوف. وتقديره : أفلا أمركم بترك الأوثان والكف عن المعاصي والفساد في الأرض، فإن الأنبياء لم يبعثوا إلا لمثل هذه الوجائب.
قوله :﴿ وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه ﴾ أي لا أنهاكم عن شيء وآتيه أو أرتكبه ؛ فاني لا أفعل إلا ما آمركم به. ولا أنتهي إلا عما أنهاكم عنه.
قوله :﴿ إن أريد إلا الإصلاح ما استعطت ﴾ ﴿ إن ﴾، نافية بمعنى ما ؛ أي ما أريد إلا أن أصلحكم بما أعظكم به وأنصحكم، فتكونوا من الصالحين في دنياكم وأخراكم بعبادة الله وطاعته. وما، مصدرية واقعة موقع الظرف ؛ أي ما أريد إلا الإصلاح ما دمت أستطيعه ولا آلو.
قوله :﴿ وما توفيقي إلا بالله ﴾ التوفيق، معناه السداد والرشاد، أي ما كوني موفقا إلى الحق والسداد والرشاد فيما أفعله وأنتهي عنه إلا بتقدير الله وتأييده ﴿ عليه توكلت وإليه أنيب ﴾ لقد اعتمدت على الله وفوضت أمري إليه. وإليه وحده أبوء وأتضرع وأشكو مما ينزل بي من النوازل والنوائب. أو أرجع إلى الله في الآخرة١.
١ تفسير الرازي جـ ١٨ ص ٤٧ وتفسير البيضاوي ص ٣٠٤ وتفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٤٥٦ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ٢٠١..
قوله تعالى :﴿ ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد ٨٩ واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه أن ربي رحيم ودود ﴾.
﴿ لا يجرمنكم ﴾، أي لا يكسبنكم، أو لا يحملنكم. ومنه، جرم بمعنى كسب وكذا اجترم١. وذلك إخبار من الله عن قيل شعيب لقومه وهو يحاورهم ناصحا واعظا ومحذرا، فيقول : لا يحملنكم ﴿ شقاقي ﴾ أي خلافكم لي وعاداتكم إياي على ترك الإيمان بالله وطاعته فيصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح من الطوفان والتغريق. أو قوم هود أو قوم هود من التدمير بالريح، أو ما أصاب قوم صالح من الرجفة المزلزلة ﴿ وما قوم لوط منكم ببعيد ﴾ فهم أقرب الهالكين منكم في الزمان وفي المكان. فمنازلهم قريبة منكم ؛ إذ تمرون عليها في أسفاركم، فاتعظوا واعتبروا واحذروا أن يحل بكم ما حل بهؤلاء، فإن عذاب الله محيط بالطغاة والمستكبرين المجرمين. وإنه إذا جاء لا يرد بأسه عن القوم الهالكين الخاسرين.
١ المعجم الوسيط جـ ١ ص ١١٨ ومختار الصحاح ص ١٠٠..
﴿ واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه ﴾ أي اطلبوا من الله أن يغفر لكم ما سلف من شرككم وذنوبكم وما أنتم عليه الآن مقيمون من الجحود والعصيان وبخس الناس حقوقهم. ثم ارجعوا على رحاب الله بالطاعة والإنابة والامتثال لأمره وشرعه ﴿ أن ربي رحيم ودود ﴾ ﴿ رحيم ﴾ بمن تاب غليه وأناب وهو كذلك ﴿ ودود ﴾ ذو مودة لعباده المؤمنين المخبتين المخلصين١.
١ تفسير الطبري جـ ١٢ ص ٦٣ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ٢٠٢..
قوله تعالى :﴿ قالوا يا شعيب ما نفقه كثير مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز ٩١ قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا إن ربي بما تعلمون محيط ﴾ قال قوم شعيب لنبيهم شعيب لما نصحهم ووعظهم : لا نفهم حقيقة كثير مما تقوله لنا وتخبرنا به. وقيل : قالوا ذلك على سبيل الإعراض والمعاندة، واحتقار لكلامه عليه السلام.
قوله :﴿ وإنا لنراك فينا ضعيفا ﴾ ﴿ ضعيفا ﴾، منصوب على الحال من الكاف ؛ لأنه من رؤية العين. ولو كان من رؤية القلب لكان مفعولا ثانيا١. استضعف المشركون شعيبا ؛ وسبب ضعفه كونه ضريرا لا يبصر. أو كان ضعيف البصر.
قوله :﴿ ولولا رهطك لرجمناك ﴾ الرهط : ما دون العشرة من الرجال لا يكون فيهم امراة. ورهط الرجال : قومه وقبيلته. وليس للرهط واحد من لفظه والجمع أرهط أرهاط وأراهط٢.
والمعنى : أنه لولا عشيرتك لقتلناك بالرجم ؛ فقد كانت عشيرته من أهل ملتهم، من اجل ذلك لم يرجموه.
قوله :﴿ وما أنت علينا بعزيز ﴾ أي لست أنت علينا ممتنعا ولا ممن يعظم علينا إذلاله أو يصعب علينا هوانه، وغنما يعز علينا رهطك ؛ فهم من أهل ديننا.
١ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٢٧..
٢ مختار الصحاح ص ٢٥٩..
قوله :﴿ قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله ﴾ قال لهم شعيب : أعشيرتي وأهلي وأعظم في قلوبكم، وأجل في نفوسكم من الله وهو مالكي ومالككم، أو تتركونني من أجل أهلي وعشيرتي ولا تتركونني تعظيما لجلال الله ﴿ واتخذتموه وراءكم ظهريا ﴾ الظهري : المنسوب إلى الظهر ؛ أي ونبذتم دينه خلفكم فلا تطيعونه ولا تعظمونه ولا تؤمنون به وحده ؛ بل تجحدونه وتبعدون معه آلهة أخرى.
قوله :﴿ إن ربي بما تعلمون محيط ﴾ الله محيط علمه بعلمكم فلا يخفي منه على الله شيء، وهو مجازيكم عن كل أعمالكم ما ظهر منها وما بطن١.
١ تفسير النسفي جـ ٢ ص ٢٠٢ وتفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٤٥٨..
قوله تعالى :﴿ ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب ٩٣ ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين ٩٤ كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود ﴾.
يئس شعيب من هداية قومه لفرط جحدوهم وعتوهم، وشدة إعراضهم عن دين الله وجموحهم للشرك والعصيان بعد كل الذي بذله فيهم من الموعظة والنصح والتحذير ولم يأت في ذلك جهدا. بعد ذلك كله أزفت ساعة الجزاء الأليم في الدنيا، فقال لهم عليه السلام مهددا متوعدا :﴿ اعملوا على مكانتكم إني عامل ﴾ اعملوا على طريقتكم وبكل ما في وسعكم وطاقتكم من العصيان وفعل المنكر، فإني عامل على طريقتي مما هداني إليه ربي وبكل ما أعطاني إياه من الاقتدار والتمكن.
قوله :﴿ سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب ﴾ ﴿ ومن يأتيه ﴾، ﴿ من ﴾ اسم موصول بمعنى الذي في محل نصب للفعل تعلمون. وقيل :﴿ من ﴾ اسم استفهام في محل رفع مبتدأ. وخبره ﴿ ويأتيه عذاب ﴾ ١ وذلك تهديد ووعيد ؛ أي سوف تعلمون أينا آتيه من الله عذاب يفضحه ويذله وأينا هو الكاذب ؛ أي ستعلمون من منا الشقي المفضوح بالعذاب، ومن منا الكذاب في قيله وطريقته ﴿ وارتقبوا إني معكم رقيب ﴾ أي انتظروا عاقبة ما أحذركم منه وإني معكم منتظر.
١ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٢٧..
قوله :﴿ ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا ﴾ لما حان الجل وهو قضاء الله في قوم شعيب بالعذاب والإفناء دمر الله عليهم بالصيحة فأخذتهم أخذا شديدا ؛ ونجي الله رسوله شعيبا ومن معه من المؤمنين بفضله ورحمته ولطفه ؛ فإنه جل وعلا ينجي المؤمنين المخلصين الصابرين ﴿ وأخذت الذين ظلموا الصيحة ﴾ وهي صيحة جبريل ؛ إذ صاح فيهم فهلكوا ﴿ فأصبحوا في ديارهم جاثمين ﴾ أي هامدين ليس فيهم حراك. والجاثم، الملازم مكانه فلا يريم.
قوله :﴿ كأن لم يغنوا فيها ﴾ أي كأن لم يكونوا أحياء في ديارهم ولم يعيشوا ؛ فقد أتت عليهم الصيحة فأزهقتهم إزهاقا وبددتهم شر تبديد فصاروا أثرا بعد عين. وذلك شان الظالمين من الأمم الضالة الجاحدة الذين يخالفون منهج الله ويحاربون الله ورسوله، ويؤذون المؤمنون الصادقين من عباد الله. لا جرم أن الله آتاهم بالعذاب في هذه الدنيا قبل عذاب الاخرة.
قوله :﴿ ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود ﴾ ﴿ ألا ﴾، للتنبيه. والبعد، هنا بمعنى الهلاك أو اللعن والإبعاد من الخير والرحمة ؛ أي هلك قوم مدين كما هلكت ثمود، أو ألا أبعد الله مدين من رحمته كما بعدت ثمود بما حل بهم من النقمة والعذاب١.
١ تفسير النسفي جـ ٢ ص ٢٠٣ وتفسير الرازي جـ ١٨ ص ٥٢ والكشاف جـ ٢ ص ٢٩١..
قوله تعالى :﴿ ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين ٩٦ إلى فرعون وملائه فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد ٩٧ يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود ٩٨ وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود ﴾.
أرسل الله نبيه وكليمه موسى عليه السلام بآياته وهي التوراة، وقيل : المعجزات الظاهرة ﴿ وسلطان مبين ﴾ أي دليل ظاهرة وحجة قاطعة وهي العصا التي صيرها الله حية هائلة تسعى ثم تلقف كل ما كان يفتريه السحرة من أشياء. أرسل الله نبيه موسى بذلك للطاغية المتجبر فرعون وملئه، وهم الزمرة الفاسدة من المنافقين والأشرار، الذين جحدوا رسالة ربهم وآذوا نبي الله موسى واتبعوا ﴿ أمر فرعون ﴾ أي أمره لهم بالكفر والتكذيب بنبوة موسى ومعجزاته. وقيل : المراد من أمره : طريقه وشانه ﴿ وما أمر فرعون برشيد ﴾ ﴿ برشيد ﴾، أي بذي رشد. والرشد معناه السداد والاستقامة ؛ أي ليس أمره سديدا ولا مستقيما ولا هو بمرشد إلى هداية أو خير.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٩٦:قوله تعالى :﴿ ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين ٩٦ إلى فرعون وملائه فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد ٩٧ يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود ٩٨ وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود ﴾.
أرسل الله نبيه وكليمه موسى عليه السلام بآياته وهي التوراة، وقيل : المعجزات الظاهرة ﴿ وسلطان مبين ﴾ أي دليل ظاهرة وحجة قاطعة وهي العصا التي صيرها الله حية هائلة تسعى ثم تلقف كل ما كان يفتريه السحرة من أشياء. أرسل الله نبيه موسى بذلك للطاغية المتجبر فرعون وملئه، وهم الزمرة الفاسدة من المنافقين والأشرار، الذين جحدوا رسالة ربهم وآذوا نبي الله موسى واتبعوا ﴿ أمر فرعون ﴾ أي أمره لهم بالكفر والتكذيب بنبوة موسى ومعجزاته. وقيل : المراد من أمره : طريقه وشانه ﴿ وما أمر فرعون برشيد ﴾ ﴿ برشيد ﴾، أي بذي رشد. والرشد معناه السداد والاستقامة ؛ أي ليس أمره سديدا ولا مستقيما ولا هو بمرشد إلى هداية أو خير.

قوله :﴿ يقدم قومه يوم القيامة ﴾ أي يتقدمون على النار ؛ فهو كبيرهم وحاكمهم في الدنيا ؛ إذ كان يسوسهم بالظلم والعجرفة والاغترار. وكان يتعبد الناس تعبيدا ليكونوا له عبيدا، فاستخفهم لذلك أشد استخفاف. فأطاعوه صاغرين خزايا. من أجل ذلك كان جزاؤه يوم القيامة فظيعا أليما ؛ إذ يقودهم إلى النار فيهوي بهم فيها.
قوله ﴿ وبئس الورد المورود ﴾ أي بئس المدخل المدخول. وقيل : المورود معناه الماء الذي يورد عليه ؛ فقد شبه الله تعالى فرعون بالذي يتقدم الواردة إلى الماء وشبه أتباعه بالواردة. فبئس هذا الورد الذي يردونه وهي النار.
قوله :﴿ وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة ﴾ أتبعهم الله في هذه الدنيا لعنة وهي إبعادهم من الخير والرحمة ؛ فهم مدحورون معبدون من رحمة الله ؛ إذ تلعنهم البرية طيلة الدهر. وكذلك يلعنون يوم القيامة ﴿ بئس الرفد المرفود ﴾ ﴿ الرفد ﴾ معناه العطاء. ورفده أعطاه أو أعانه. والإرفاد : الإعطاء والإعانة١ ؛ أي بئس العطاء المعطي، أو بئس العون المعان. والمراد من ذلك : أن الله لعنهم في الدنيا ولنعهم كذلك في الآخرة ؛ فهم قد زيدوا لعنة يوم القيامة فوق لعنتهم في الدنيا٢.
١ مختار الصحاح ص ٢٥٠..
٢ تفسير الطبري جـ ١٢ ص ٦٦ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ٢٠٤ وتفسير الرزاز جـ ١٨ ص ٥٥..
قوله تعالى :﴿ ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد ١٠٠ وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب ﴾ ﴿ ذلك ﴾، في محل رفع مبتدأ. وخيره ﴿ من أنباء القرى ﴾ أي ما تقدم ذكره من أخبار النبيين المرسلين وأممهم، ومهلك الكافرين الخاسرين منهم، وتنجية الله لعباده المؤمنين ﴿ نقصه عليك ﴾ فنخبرك به ﴿ منها قائم وحصيد ﴾ من هذه القرى بنيانه عامر قائم، ومنها بنيانه دارس قد تعفى أثره. وقيل : القائم ما كان خاويا على عروشه. والحصيد المستأصل الذي ليس له أثر البتة.
قوله :﴿ وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم ﴾ الظلم معناه وضع الشيء في غير موضعه. ويقال : من أشبه أباه فما ظلم. وفي المثل : من استرعى الذئب فقد ظلم١. والمعنى : أن الله لم يعاقب هؤلاء الجاحدين من أهل القرى الذين قص علينا من أنبائهم بغير حق يكون عقابهم قد وضع في غير موضعه الصحيح. بل كان ذلك جزاء لهم على ظلمهم أنفسهم ؛ غذ جحدوا واستكبروا وأسرفوا في فعل المعاصي والمنكرات.
قوله :﴿ فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك ﴾ أي ما دفعت عنهم آلهتهم المزعومة التي كانوا يعبدونها من دون الله ويتخذونها لأنفسهم أربابا –ما دفعت عنهم شيئا من عذاب الله لما حل بهم. قوله :﴿ وما زادوهم غير تتبيب ﴾ التتيب، معناه التخسير، من التباب وهو الخسران والهلاك. تبت يده تتب، خسرت، كناية عن الهلاك. وتبا له ؛ أي هلاكا. أو ألزمه الله هلاكا وخسرانا٢. والمعنى : لم تزدهم آلهتهم المفتراة التي عبدوها. وأربابهم المصطنعة التي دانوا لها بالخضوع والعبادة، إلا الخسران والهلاك.
١ مختار الصحاح ص ٤٠٥..
٢ مختار الصحاح ص ٧٤ والمصباح المنير جـ ١ ص ٧٩..
قوله تعالى :﴿ وكذالك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد ﴾ الكاف في محل رفع على أنه مبتدأ ؛ أي مثل ذلك. وخبره ﴿ أخذ ربك ﴾ وقرئ :( أخذ ربك )، بالفعل. وعلى هذا يكون محل الكاف النصب على المصدر ؛ أي : وكما أخذ الله أهل القرى الظالمة بالعذاب والتدمير بالإبادة من أجل تكذيبهم وجحودهم ؛ فإنه يأخذ جميع الظالمين المتربصين الذين يحادون الله ورسوله والداعين إليه بحق ﴿ إن أخذه أليم شديد ﴾ عقاب الله فظيع موجع لا لين فيه ولا رحمة غلا التنكيل والهوان والاستئصال. وذلك تحذير قائم لكل الذين يكيدون للإسلام والمسلمين، ويمكرون بدين الله ليصدوه وليحولوا دون بلوغه الأذهان والقلوب، وليمنعوا من شيوعه في الآفاق. لا جرم أن الله محيط بهؤلاء الأشرار المعتدين، وهو لهم بالمرصاد. وقد جاء في الصحيحين عن أبي موسى ( رضي الله عنه ) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( عن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يقتله ) ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم :﴿ وكذالك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة ﴾ ١.
١ تفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٤٥٩ وتفسير البيضاوي ص ٣٠٥ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ٢٠٤..
قوله تعالى :﴿ إن في ذالك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذالك يوم مشهود ١٠٣ وما نؤخره إلا لأجل معدود ١٠٤ يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد ﴾ أي فيما قص الله من قصص الهالكين السابقين، لعبرة وعظة لمن خشي الله وخاف عذابه يوم القيامة فيكون له ذلك زاجرا عن فعل المعاصي ﴿ ذالك يوم مجموع له الناس ﴾ الإشارة إلى يوم الآخرة. وفي هذا اليوم الحافل العصيب يجمع الله فيه الناس كافة فلم يغادر منهم أحدا ﴿ وذالك يوم مشهود ﴾ تشهده الخلائق كافة فلا يتخلف منهم احد. وإذ ذاك يشتد الكرب والهوان وتتزلزل القلوب والأبدان لهول الموقف وفظاعة المشهد الرعيب، ثم ينتقم الله من الظالمين الذين عصوا أمر ربهم وكذبوا دينه ورسله وسعوا في الأرض فسادا.
قوله :﴿ وما نؤخره إلا لجل معدود ﴾ أي ما نؤخر عنكم يوم القيامة أن يجيئكم إلا لأنه لا يأتي إلا لأجله، فلا يتقدم مجيئه قبل ذلك الأجل ولا يتأخر. أو لا يجيئكم إلا لانتهاء مدة معدودة ضربناها لبقاء هذه الدنيا، فإن انتهت فقد جاءكم يوم القيامة.
قوله :﴿ يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه ﴾ ﴿ يأت ﴾، فيه ضمير يعود على قوله ﴿ وذلك يوم مشهود ﴾ و ﴿ لا تلكم ﴾، فيه وجهان. أحدهما : أنه صفة ليوم، والتقدير : يوم يأتي لا تلكم نفس فيه. وثانيهما : أن يكون حالا من الضمير في ﴿ يأت ﴾ أي يوم يأتي اليوم المشهود غير متكلم فيه نفس١. وتكلم، أصلها تتكلم، حذفت إحدى التاءين للتخفيف. والمعنى : أن هؤلاء الأشقياء الموقوفين على ربهم داخرين أذلة لا ينسبون حينئذ بكلمة إلا بإذن الله.
قوله :﴿ فمنهم شقي وسعيد ﴾ أي شقي من الناس من شقي بالعذاب، وسعيد منهم من سعد بالنجاة. والشقي الذي كتبت له الشقاوة، والسعيد الذي كتبت له السعادة. قال الحافظ أبو يعلي في مسنده عن عمر قال : لما نزلت ﴿ فمنهم شقي وسعيد ﴾ سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله : علام نعمل ؟ على شيء قد فرغ منه أم على شيء لم يفرغ منه ؟ فقال :( على شيء قد فرغ منه يا عمر وجرت به الأقلام ؛ ولكن كل ميسر لما خلق له ) ٢.
١ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٢٨..
٢ تفسير الطبري جـ ١٢ ص ٦٩ وتفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٤٥٩..
قوله تعالى :﴿ فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق ١٠٦ خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد ﴾ أولئك هم الذين سبقت لهم الشقاوة والخسران، فتعسا مما آلوا غليه من عذاب الحريق. وذلك في نار لهم فيها حينئذ زفير وشهيق. وقيل : الزفير هو أول الصوت الحمار، والشهيق أخره ؛ لأن الزفير إدخال النفس، والشهيق إخراجه١. وقيل : الزفير من شدة الأنين، والشهيق من الأنين المرتفع جدا. والمقصود : هو تبيان حال الكافرين الخاسرين وهم في النار. فلا جرم أن حالهم غاية ما تتصوره العقول من فظاعة الكرب والهوان، واشتداد الضيق والإيلام.
١ مختار الصحاح ص ٢٧٢..
قوله :﴿ خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك ﴾ ﴿ خالدين ﴾، منصوب على حال. وذلك إخبار من الله عن حال الأشقياء الخاسرين أنهم خالدون في النار خلود السموات والأرض. والمراد بذلك السموات الآخرة وأرضها ؛ فهي باقية بقاء لا يعرف الزوال أو الفناء. ومما يدل على أن للآخرة سماوات وأرضا غير ما في الدنيا قوله سبحانه ﴿ يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات ﴾ وقيل : إنما المراد بذلك التأييد وعدم الانقطاع ؛ فقد أجرى ذلك على عادة العرب في الإخبار عن دوام الشيء وتأييده ؛ فإن العرب إذا أرادت أن تصف الشيء بالدوام أبدا قالت : هذا دائم دوام السموات والأرض، بمعنى أنه دائم أبدا ﴿ إلا ما شاء ربك ﴾ الاستثناء للعصاة من المؤمنين، إذ يخرجهم الله من النار بعد مدة. وقيل : المعنى : وما شاء ربك من الزيادة في الخلود على مدة دوام السموات والأرض في الدنيا. وقيل غير ذلك.
قوله :﴿ إن ربك فعال لما يريد ﴾ يخاطب الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم مبينا له أنه سبحانه لا يمنعه شيء من فعل ما يريد أن يفعله بالعصاة والمخالفين عن أمره فينتقم منهم ويعذبهم تعذيبا١.
١ تفسير الطبري جـ ١٢ ص ٧١ وفتح القدير جـ ٢ ص ٥٢٤ وتفسير القرطبي ٩ ص ٩٩ والنسفي جـ ٢ ص ٢٠٥..
قوله تعالى :﴿ وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ ﴾ ﴿ سعدوا ﴾ أي أرزقوا السعادة. فالذين رزقهم الله السعادة والفلاح جزاؤهم الجنة ماكثين فيها لا يخرجون ﴿ ما دامت السموات والأرض ﴾ ﴿ ما ﴾ ظرفية زمانية مصدرية في محل نصب. والتقدير : مدة داوم السموات والأرض١. والمراد بذلك سماوات الآخرة وأرضها وذلك مما لا يفنى ولا يزول. أو أن مثل هذه الصيغة يراد منها البقاء والديمومة جريا على كلام العرب. وهو ما بيناه آنفا ﴿ إلا ما شاء الله ﴾ ﴿ ما ﴾ في محل نصب لأنه استثناء منقطع٢ ؛ أي إلا ما شاء ربك من الزيادة على مدة دوام السموات والأرض وذلكم الخلود أبدا. وقيل غير ذلك.
قوله :﴿ عطاء غير مجذوذ ﴾ ﴿ عطاء ﴾، منصوب على المصدر ؛ أي أعطوا عطاء. والمجذوذ معناه المقطوع ؛ أي أعطاهم الله عطاء دائما غير مقطوع.
١ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٢٨..
٢ نفس المصدر السابق..
قوله تعالى :﴿ فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص ١٠٩ ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب ١١٠ وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم إنه بما تعلمون خبير ﴾ لاتك، حذفت النون لكثرة الاستعمال ؛ أي لا تكن في شك من بطلان وضلال ما يعبد هؤلاء المشركين ؛ إنهم لا يعبدون إلا الأباطيل، وهي الأوثان البلهاء الصم، جريا وراء آبائهم المشركين عبدة الحجارة والطين واقتفاء آثارهم في العبادة الفاسدة ﴿ وإنا لموفوهم نصيبهم ﴾ ذلك تأكيد من الله أنه موفيهم حظهم من العذاب كما وفي آباءهم أنصباءهم من العذاب ﴿ غير منقوص ﴾ ﴿ غير ﴾ منصوب على الحال، أي يوفيهم الله حظهم كاملا من العذاب.
قوله :﴿ ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ﴾ يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم مسريا عنه كيلا يبتئس أو يحزن : لقد آتينا من قبلك موسى التوراة فاختلف فيها قومه ؛ إذ كذب به بعضهم وصدقها آخرون، كالذي فعله قومك بالقرآن ؛ فهم ما بين مصدق مطيع، ومكذب جاحد. فلك أسوة إذن بمن سبقك من النبيين، فلا يغيظنك تكذيب المشركين، ولا تك في ضيق من جحدوهم ومما يمكرون.
قوله :﴿ ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم ﴾ المراد بالكلمة : أن الله قضى أن يؤخرهم إلى يوم القيامة فلا يعالجهم بالعذاب في هذه الدنيا ؛ فغنه لولا ذلك لقضي بين المكذبين منهم بالعذاب أو الاستئصال، وبين المصدقين بالإنجاء وخير الجزاء ﴿ وإنهم لفي شك منه مريب ﴾ أي أن هؤلاء المشركين لفي شك من حقيقة الكتاب أنه منزل عليهم من عند الله ﴿ مريب ﴾ أي موقعهم في الريبة وهي قلق النفس.
قوله :﴿ وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم ﴾ قرئت إن بالتشديد وهو الأصل، مع تخفيف ﴿ لما ﴾ فتكون ما زائدة جيء بها للفصل بين اللام التي في خبر إن، ولا القسم في ليوفينهم. وقرئت ﴿ لما ﴾ مشددة مع تشديد إن. ووجه ذلك : أن يكون لما مصدر لم يلم بالتشديد. كقوله :﴿ أكلا لما ﴾.
وقيل : إن الأصل فيها ( لمن لم ) ثم أدغم النون في الميم فاجتمع بذلك ثلاث ميمات فحذفت الميم المكسورة. والتقدير : وإن كلا لمن خلق ليوفيهم. وقيل غير ذلك١.
والمعنى : أن كل هؤلاء الذين قصصنا عليك أخبارهم لمن ليوفينهم ربك بالصالح من أعمالهم ؛ بالجزيل من الثواب، وبالطالح منها ؛ بشديد العقاب ؛ أي إن الله سيجمع الأولين والآخرين من الأمم فيجزيهم بأعمالهم سواء منها الصالحة فيثيبهم عليها الثواب الكريم، أو الطالحة فيجازيهم عليها بعقابه الأليم ﴿ إنه بما تعلمون خبير ﴾ الله خبير بما يفعله هؤلاء المشركون، وهو سبحانه مطلع على أعمال المشركين الخاسرين سواء منها الخافي والمعلن ؛ فهو محيط بذلك كله لا يغب عن عمله منه شيء٢.
١ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٢٩..
٢ تفسير القرطبي جـ ٩ ص ١٠٤- ١٠٦ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ٢٠٦..
قوله تعالى :﴿ فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعلمون بصير ١١٢ ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون ﴾ استقم، من الاستقامة وهي الاعتدال١ ؛ فالله يأمر نبيه صلى الله عليه وسل أن يسلك السبيل المعتدل المستقيم ؛ وذلك بفعل ما تعبده بفعله وترك ما نهاه عن فعله. ولأمته فيه أسوة حسنة ؛ إذ يقتدون به في سائر أفعاله وأقواله. وهو قوله :﴿ ومن تاب معك ﴾ ﴿ من ﴾ في محل رفع معطوف على الضمير في ﴿ فاستقم ﴾ وقيل : في محل نصب ؛ لأنه مفعول معه٢. والمعنى : فاستقم أنت ومن تاب معك ؛ أي ممن خلع الكفر والأنداد فرجع إلى ربه مسلما قانتا، استقم أنت وهم على منهج الله وطريقه الثابت القويم.
قوله :﴿ ولا تطغوا ﴾ من الطغيان، وهو مجاوزة الحد ؛ فهو مخالفة أوامر الله وعصيانه وذلكم الطغيان ﴿ إنه بما تعلمون بصير ﴾ الله يعلم ما يقوم به العباد وما يفعلونه، فما يغيب عن عمله من أفعالهم وأقوالهم وخفاياهم شيء ؛ بل إن عمله محيط بكل شيء.
١ مختار الصحاح ص ٢٥٥..
٢ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٣١..
قوله :﴿ ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ﴾ تركنوا، من الركون وهو الميل والسكون١، والمراد به هنا : الاعتماد والاستناد إلى الشيء عن رضى. أما الذين ظلموا فهم المشركون والظالمون وأئمة الضلال والفسق والعصيان. أولئك جميعا قد نهى الله عباده المؤمنين عن طاعتهم أو الاستناد غليهم أو الاعتماد عليهم أو الميل إلى جانيهم. ونهى أيضا عن مداهنتهم أو مصانعتهم والرضا بكفرهم وضلالهم وظلمهم. فالمعنى : لا تميلوا إلى الكافرين والعصاة، ولا توادوهم أو تجنحوا إليهم في مذلة وهوان خور.
قوله :﴿ فتمسكم النار ﴾ أي تخرقكم النار بسبب الركون إلى الظالمين ؛ فإن الميل إلى الطغاة والمستبدين والمشركين، والسكون إليهم بما يتمضن التأييد لهم والرضا بأفعالهم وسلوكهم، ليس إلا ضربا من التملق الخسيس، والخلق المهين المبتذل الذي يكشف عن حقيقة فريق من الناس قد ركبت طبائعهم ظواهر النفاق والخور حتى خسروا أنفسهم فكانوا في الأذلين. أولئك هم المنافقون الخائرون الذين باءوا بالخسران والبوار وسوء المصير.
أما إن كان الميل للظالمين أو مداهنتهم على سبيل التقية، وخوفا منهم، أو لدفع ضرر عام من المسلمين، أو جلب مصلحة كبيرة لهم ؛ فليس الميل للظالمين حينئذ واقعا في النهي –شريطة ألا يقترن الركون إلى هؤلاء الظالمين بالمحبة ورضى القلب ؛ أي أن مخالطتهم والدخول عليهم لتحقيق مصلحة للمسلمين ؛ أو دفع مفسدة عنهم مع كراهية ما هم عليه من الفساد والظلم وعدم جنوح النفس غليهم ومجبتها لهم وعدم طاعتهم في معصية الله، فذلك لا يتناوله النهي. والأصل في ذلك أن الأعمال إنما تكون بالنيات، والله وحده عليهم بالنوايا والخفايا. والله سبحانه وتعالى أعلم.
قوله :﴿ وما لكم من دون الله من أولياء ﴾ الجملة في محل نصب على الحال. والمعنى : أنكم تبوءون بالتحريق والعذاب، ولا تجدون إذ ذاك من أعوانكم وخلانكم من ينتقدكن أو يدفع عنكم ما حاق بكم من الويل والعذاب ﴿ ثم لا تنصرون ﴾ أي ليس لكم من نصير ولا شفيع ولا معين، فلا الله بكاف عنكم العذاب حينئذ، ولا الخلائق كلها قادرة على أن تزحزح عنكم النار٢.
١ مختار الصحاح ٢٥٥..
٢ فتح القدير جـ ٢ ص ٥٣٠، ٥٣١ وتفسير القرطبي جـ ٩ ص ١٠٧، ١٠٨..
قوله تعالى : وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذالك ذكرى للذاكرين } المراد بالصلاة هنا المفروضة ؛ والتذكير بالصلاة في كثير من آيات الكتاب الحكيم لأهميتها البالغة ولكونها الركن الثاني من أركان هذا الدين العظيم. والمراد بطرفي النهار، هما الصبح أولا، ثم بعده الظهر والعصر وهما الطرف الثاني. وقيل : الصبح والمغرب. وقيل غير ذلك، لكن المقصود في الراجح الصلاة في وقت النهار بطرفيه وهما أوله وآخره ﴿ وزلفا من اليل ﴾ الزلف، والزلفات، جمع زلفة ؛ وهي الطائفة من أول الليل١. فالمراد بالزلف من الليل : صلاة العتمة وهي المغرب والعشاء.
قوله :﴿ إن الحسنات يذهبن السيئات ﴾ المراد بالحسنات هنا الصلوات الخمس. وهو قول أكثر المفسرين وأهل العلم. وقيل : الطاعات ؛ فإن ذلك يذهب الآثام والذنوب ما اجتنبت الكبائر. وفي الصحيح عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :( أرأيتم لو أن بباب أحدكم نهرا غمرا يغتسل فيه كل يوم خمس مرات هل يبقي من درنه شيئا ؟ ) قالوا : لا يا رسول الله. قال :( كذلك الصلوات الخمس يمحو الله بهن الذنوب والخطايا ). وقال مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول :( الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان ؛ مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر ).
وأخرجه البخاري عن ابن مسعود أن رجلا أصاب من امرأة قبلة النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأنزل الله ﴿ وأقم الصلاة طرفي الليل وزلفا من اليل إن الحسنات يذهبن السيئات ﴾ فقال الرجل : يا رسول الله : ألي بهذا ؟ قال :( لجميع أمتي كلهم ).
وروي مسلم وأحمد والترمذي والنسائي عن ابن مسعود قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني وجدت امرأة في بستان ففعلت بها كل شيء غير أني لم أجامعها، قبلتها ولزمتها، ولم أفعل غير ذلك فافعل بي ما شئت. فلم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فذهب الرجل، فقال عمر : لقد ستر الله عليه لو ستر على نفسه. فأتبعه رسول الله بصره ثم قال :( ردوه علي ) فرده عليه، فقرأ عليه :﴿ وأقم الصلاة طرفي الليل وزلفا من اليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذالك ذكرى للذاكرين ﴾.
وروي الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزقاكم، وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من أحب، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه، والذي نفسي بيده لا يسلم عبد حتى سلم قلبه ولسانه، ولا يؤمن حتى يؤمن جاره بواثق ) ٢ قلنا : وما بوائقه يا نبي الله ؟ قال :( غشه وظلمه، ولا يكسب عبد مالا حراما فينفق منه، فيبارك له فيه ولا يتصدق فيقبل منه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده على النار، إن الله لا محو السيء ولكن يمحو السيء بالحسن ؛ إن الخبيث لا يمحو الخبيث ).
وروي الإمام أحمد أيضا عن معاذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له :( يا معاذ، أتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن ).
وقال الإمام أحمد كذلك عن أبي ذر قال : قلت : يا رسول الله أوصني. قال :( إذا عملت سيئة فأتبعها بحسنة تمحوها ) قلت : يا رسول الله، أمن الحسنات لا إله إلا الله ؟ قال :( هي أفضل الحسنات ).
قوله :﴿ ذالك ذكرى للذاكرين ﴾ الإشارة عائدة على القرآن ؛ فهو كلام الله الحكيم. وهو عظة وتذكير للتائبين المتعظين.
١ مختار الصحاح ص ٢٧٣..
٢ البوائق: الغوائل والشر. ومفردها بائقة وهي الداهية. انظر مختار الصحاح ص ٦٩..
قوله تعالى :﴿ واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ﴾ يدعو الله نبيهم صلى الله عليه وسلم والذين معه من المؤمنين أن يصبروا على ما يلقونه من أذى المشركين وما يصيبهم في دعوتهم من المكاره والشرور فضلا عن اصطبارهم على طاعة الله وفعل الخيرات ﴿ فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ﴾ لا تضييع لما يستحقه العاملون المخلصون من حسن الثواب والجزاء. والله جل جلاله لا يضيع أجر من أحسن عملا١.
١ تفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٤٦٢- ٤٦٤ وتفسير البيضاوي ص ٣٠٨ وتفسير الطبري جـ ١٢ ص ٨٢.
.

قوله تعالى :﴿ فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين ١١٦ وما كان ربك ليهلك القرى ظلم وأهلها مصلحون ﴾.
لولا، أداة تحضيض بمعنى هلا. و ﴿ القرون ﴾ بمعنى الأجيال والأمم. والبقية، يراد بها الفضل والعقل والخير. قال الزمخشري في الكشاف : سمي الفضل والجودة بقية ؛ لأن الرجل يستبقي مما يخرجه أجوده وأفضله فصار مثلا في الجودة والفضل ويقال : فلان من بقية القوم : أي من خيارهم١.
والمعنى : هلا كان من الأمم التي سبقتكم ذوو بقية من الفهم والصلاح والعقل فيتعظوا ويتدبروا آيات الله ودلائله ويعلموا الحق من الباطل والإيمان من الجحود لكي ينبهوا أهل الضلال والمعاصي فيكفوا عن غيهم وظلمهم وفسادهم في الأرض ﴿ إلا قليلا ممن أنجينا منهم ﴾ ﴿ إلا ﴾، استثناء منقطع. ﴿ قليلا ﴾ منصوب على الاستثناء المنقطع مما قبله ؛ أي إلا قليلا منهم، والمراد بالقليل : هم الذين صدقوا رسلهم واتبعوهم ؛ فقد كان هؤلاء على قتلهم ينهون عن الكفر والفساد فنجاهم الله مما حقا بالكافرين الذين ضلوا عن سبيل الله ضلالا بعيدا فكذبوا ملة التوحيد وجحدوا رسالات الله وآذوا أنبياءهم أشد إيذاء وهؤلاء هم الأكثرون الذين عصوا وأبوا إلا الكفر والعصيان فضلوا سادرين في شهواتهم وملذاتهم. وهو قوله :﴿ واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين ﴾ أي ابتع المشركون العصاة ما أنعموا فيه من الشهوات والملذات واهتموا بتحصيل الدنيا وما فيها من أموال ومتاع وبهجة ولم يعبأوا بما وراء ذلك ﴿ وكانوا محرمين ﴾ معطوف على ﴿ أترفوا ﴾. والمعنى : أن هؤلاء أهل آثام وإجرام لاتباعهم الشهوات وانشغالهم في الحطام والخيرات وإعراضهم عن آيات الله.
١ الكشاف جـ ٢ ص ٢٩٧..
قوله :﴿ وما كان ربك ليهلك القرى ظلم وأهلها مصلحون ﴾ المراد من الظلم هنا، الشرك ؛ أي أن الله لا يهلك الناس بسبب شركهم إذا كانوا فيما بينهم مصلحين غير مفسدين ولا متظالمين، بل يتعاطون الحق فيما بينهم، بل يتعاطون الحق فيما بينهم، ويعامل بعضهم بعضا على الصلاح والخير والسداد وإن كانوا مشركين. قال الرازي في هذا المعنى : غنه تعالى لا يهلك أهل القرى بمجرد كونهم مشركين إذا كانوا مصلحين في المعاملات فيما بينهم. والحاصل أن عذاب الاستئصال لا ينزل لأجل كون القوم معتقدين للشرك والكفر ؛ بل إنما ينزل ذلك العذاب إذا أساءوا في المعاملات وسعوا في الإيذاء والظلم. ولهذا قال الفقهاء : إن حقوق الله تعالى مبناها على المسامحة والمساهلة، وحقوق العباد مبناها على الضيق والشح١.
وقيل : المعنى أن الله لا يهلك القرى ظلما منه وأهلها مصلحون غير مسيئين، بل يهلكهم لطغيانهم وإسرافهم في تكذيب المرسلين وفعلهم السيئات والمعاصي٢.
١ الرازي جـ ١٨ ص ٧٨..
٢ تفسير الطبري جـ ١٢ ص ٨٤..
قوله تعالى :﴿ ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين ١١٨ إلا من رحم ربك ولذالك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ﴾ لو شاء الله لجعل الناس كلهم على ملة واحدة أو دين واحد وهو دين التوحيد ؛ أي الإسلام. وقيل : جعلهم أهل دين واحد سواء كان ذالك الضلال أو الهدى، الكفران أو الإيمان.
قوله :﴿ ولا يزالون مختلفين ﴾ أي متفرقين على أديان شتى وملل كثيرة ومختلفة ؛ فهم ما بين يهود ونصارى ومجوس ودهريين وبوذيين ووثنيين وملحدين وغيرهم من مختلف الملل والنحل الضالة السادرة في الغي.
قوله :﴿ إلا من رحم ربك ﴾ وهم أصحاب الحنيفية القائمة على التوحيد الخالص لله المجانبين لكل ألوان الوثنية والشرك. أولئك قد رحمهم الله بالإيمان والهدى ؛ فهو غير مختلفين ولا مقترفين أديانا شتى ؛ بل هم على دين حقيقي واحد بني على عقيدة الإيمان بالله الواحد الكبير القهار، وما دون ذلك من ملل ومذاهب فليس إلا الشرك والضلال.
قوله :﴿ ولذالك خلقهم ﴾ الإشارة للاختلاف ؛ أي خلقهم الله ليصيروا إلى ما سيصيرون إليه من اختلاف في الملة أو اتفاق. وقيل : خلقهم لرحمة.
قوله :﴿ وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ﴾ تمام كلمة الله يعني ثباتها واستقرارها فلا تقبل التغيير والتبديل. وذلك إخبار من الله أنه قد سبق في علمه الأزلي وحكمته النافذة أن من عباده من يستحق الجنة فهو ميسر لها، ومنهم من يستحق النار فهو مسير لها كذلك. فكلتا الجنة والنار ممتلئة بالثقلين من الجن والأنس، ولله في ذلك الحجة البالغة والحكمة النافذة العليا.
قوله تعالى :﴿ وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين ﴾ كلا، مفعول للفعل ﴿ نقص ﴾ و ﴿ أنباء الرسل ﴾، أي سيرتهم وأخبارهم واصطبارهم على أذى أقوامهم. والمعنى : أن كل ما نقصه عليك من أخبار الرسل السابقين مع أممهم الذين شاقوهم شر مشاقة ووقفوا في طريق دعوتهم إلى الله، وأذاقوهم ألوان الأذى والعذاب ﴿ ما نثبت به فؤادك ﴾ أي هذا القصص من الله عن أخبار المرسلين المتقدمين هو تثبين لقلبك وتقوية لك على التحمل والتمكن من تبليغ رسالة الله، فلا تبتئس أو تجزع من تكذيب المشركين وإيذائهم لك.
قوله :﴿ وجاءك في هذه الحق وموعظة ﴾ ﴿ هذه ﴾، يعني السورة. وهو قول كثير من المفسرين وأهل العلم. وقد خص السورة لما فيها من أخبار المرسلين وما لاقوه من أذى المشركين الخاسرين فما آمن لهم إلا القليل. لكن أكثر من في الأرض لجوا في طغيانهم وأبوا إلا العتو والجحود والاستكبار فنجى الله الفئة القليلة المؤمنة، واهلك الكثرة الكاثرة من الناس وهم الضالون الظالمون، إذ أخذهم أخا عزيز مقتدر. فلا جرم أن تجيء هذه السورة حافلة بأخبار الحق والموعظة والذكرى التي يزدجر منها أولو الألباب والنهي، أو يعتبرون مما حاق بالسالفين الأولين من سوء المصير.
قوله تعالى :﴿ وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون ١٢١ وانتظروا إنا منتظرون ﴾ أي قل لهؤلاء المكذبين الجاحدين اعملوا ما أنتم عاملون على طريقكم وجهتكم التي أنتم عليها، وإنا ماضون على منهجنا وطريقتنا التي بينها الله لنا
﴿ وانتظروا إنا منتظرون ﴾ أي انتظروا ما سوف يحيق بكم من سوء الدوائر والبلايا كما حاق بالمجرمين الذين سبقوكم في الكفر والعصيان. ونحن معكم منتظرون فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار ومن هو في خسران وبوار. وذلك تهديد ظاهر ووعيد مخوف.
قوله تعالى :﴿ ولله غيب السموات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعلمون ﴾.
ذلك حسن الختام لهذه السورة العظيمة. وذلك هو شأن القرآن في روعة الختام لكل سورة من سوره. فما تتتابع الآيات في السورة الواحدة تتابعا لينا ومثيرا ومرغوبا حتى يفضي إلى الختام في يسر وسلاسة وجمال، وفي غاية من الترابط المحكم الوثيق الذي يقرع الذهن لكمال فحواه ومعناه، ويثير الوجدان لحلاوة رصفه ومبناه. وهذه ظاهرة من ظواهر الإعجاز في هذا الكتاب الحكيم. وذلكم هو جمال التعبير وروعة التعقيب المؤثر المنسجم في الآيات الخواتيم لكل السور. ويشهد لذلك ما نجده في هذه الآية المباركة التي تضم جملة حقائق مختلفة كبريات تفيض منها النداوة والطلاوة وبالغ التأثير، وما يقوي على اختلاف مثل ذلك بشر. تلكم أربعة معان عظيمات منسجمة تتلاحم فيما بينهما خير تلاحم. وذك في بضع عبارات مترابطة ومتسقة في آية الختام.
وأول هذه الحقائق ﴿ ولله غيب السموات والأرض ﴾ الله وحده عليم بالمغيبات من الأشياء والحقائق في هذا الكون المعمور ؛ فما من شيء ولا نبأ ولا خبر ولا مستور ولا منظور، صغيرا أم كبيرا إلا يعلمه الله.
والحقيقية الثانية :﴿ وإليه يرجع الأمر كله ﴾ إلى الله المعاد والمصير، فإليه مرجع كل المحدثات والكائنات من ملائكة وإنس وجن، مؤمنين وكافرين، فكل شيء صائر إليه يوم القيامة حيث الحشر والتلاقي والحساب.
والحقيقة الثالثة :﴿ فاعبده وتوكل عليه ﴾ يأمر الله نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه أن يعبدوه وحده لا شريك له فيمتثلوا لأحكامه ويطيعوه فيما أمر، وأن يعتمدوا عليه ويركنوا إليه جنابة تمام الركون ؛ فإنه خير نصير ومعوان للطائعين المتوكلين عليه المستندين على جلاله.
والحقيقة الرابعة ﴿ وما ربك بغافل عما تعلمون ﴾ ذلك تهديد من الله للمشركين الضالين الذين خسروا أنفسهم في الدنيا والآخرة ؛ فالله ليس بساه عن أفعال المشركين المنكرة من جحودهم للنبوة وتكذيب لرسالات الله وصد عن سبيله وإيذاء للمسلمين وافتعال الأسباب التي تفتنهم عن دينهم، ليس الله غافلا عن هؤلاء الخاسرين الظالمين ولكن الله لهم بالمرصاد. وهو معذبهم بما يشاء من العذاب في هذه الدنيا، ويوم القيامة يصيرون إلى جهنم وبئس المصير.
Icon