تفسير سورة هود

معاني القرآن للفراء
تفسير سورة سورة هود من كتاب معاني القرآن للفراء المعروف بـمعاني القرآن للفراء .
لمؤلفه الفراء . المتوفي سنة 207 هـ

[الجزء الثاني]

بسم الله الرحمن الرحيم

ومن سورة هود
قوله: الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ [١].
رَفَعْتَ الكتاب بالهجاء الَّذِي قبله، كأنَّك قلت: حروف الهجاء هذا القرآن. وإن شئت أضمرت لَهُ ما يرفعه كأنّك قلت: الر هذا الكتاب.
وقوله (ثُمَّ فُصِّلَتْ) بالحلال والحرام. والأمرُ والنهي. لذلك جاء قوله (أَلَّا تَعْبُدُوا) [٢]
ثم قال (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) [٣].
أي فُصِّلت آياته ألَّا تعبدوا وأن استغفروا. فأن فِي موضع نصب بإلقائك الخافض «١».
وقوله: أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ [٥].
نزلت فِي بعض مَن كَانَ يَلْقَى النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِما يُحبُّ، وينطوي لَهُ على العداوة والبغض. فذلك الثَّنْيُ هُوَ الإخفاء. وقال الله تبارك وتعالى أَلا حِينَ يستغشون ثيابهم يعلم الله ما يُخفونَ من عداوة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ) «٢» حَدَّثَنَا الْفَرَّاءُ قَالَ: وَحَدَّثَنِي الثِّقَةُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ «٣» عَنْ رَجُلٍ أَظُنُّهُ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ (تَثْنُونِي صُدُورُهُمْ) وهو فِي العربية بِمنزلة تَنثني كما قال عنترة:
(١) وهو الباء والأصل: بألا تعبدوا.. وأن استغفروا. وانظر الطبري.
(٢) سقط ما بين القوسين فى ا. ومحمد هو ابن الجهم راوى الكتاب.
(٣) هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي توفى سنة ١٤٩ هـ. وانظر غاية النهاية تحت رقم ١٩٥٩.
وقولَك للشيء الَّذِي لا تناله إذا ما هُوَ احلولى أَلا ليتَ ذاليا «١»
وهو من الفعل: افعوعلت.
وقوله: وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها [٦] فمستقرها: حَيْثُ تأوي ليلًا أو نَهارًا. ومستودَعها:
موضعها الَّذِي تَموتُ فِيهِ أو تُدْفَن.
وقوله: لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سَاحِرٌ مبين [٧].
(وسِحْرٌ مُبِينٌ). فمن قَالَ: (سَاحِرٌ «٢» مُبِينٌ) ذهبَ إلى النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قولهم. ومَن قال: (سِحْرٌ) ذهبَ إلى الكلام.
(حَدَّثَنَا «٣» مُحَمَّدٌ قَالَ) حَدَّثَنَا الْفَرَّاءُ قَالَ: وَحَدَّثَنِي أَبُو إِسْرَائِيلَ «٤» عَنِ الأَعْمَشُ عَنْ أَبِي رَزِينٍ «٥» عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَرَأَ فِي ثَلاثَةِ مَوَاضِعَ سَاحِر: فِي آخِرِ الْمَائِدَةِ «٦» وَفِي يُونُسَ «٧» وَفِي الصَّفِّ «٨».
قَالَ الْفَرَّاءُ: وَلَمْ يَذْكُرِ الَّذِي «٩» فِي هُودٍ. وَكَانَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ يَقْرَأُ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ وَيَجْعَلُ هَذَا رَابِعًا يَعْنِي فِي هُودٍ.
وقوله: إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا [١١] فِي موضع نصب بالاستثناء من قوله: (وَلَئِنْ «١٠» أَذَقْناهُ) يعنى
(١) قبله مطلع القصيدة. وهو:
ألا قاتل الله الطلول البواليا وقاتل ذكراك السنين الخواليا
وانظر مختار الشعر الجاهلى ٣٨٠.
(٢) الأولى: (ساحر) قراءة حمزة والكسائي وخلف والثانية: (سحر) قراءة الباقين.
(٣) سقط ما بين القوسين فى ا.
(٤) هو إسماعيل بن خليفة الكوفي مات سنة ١٦٩ هـ. وانظر الخلاصة. [.....]
(٥) هو لقيط بن صبرة. وهو من الصحابة كما فى الخلاصة.
(٦) فى الآية ١١٠.
(٧) ورد فى يونس فى الآيات ٢، ٧٦، ٧٩.
(٨) فى الآية ٦.
(٩). ٢: «التي»
(١٠) فى الآية ١٠
4
الْإِنْسَان ثُمَّ استثنى من الْإِنْسَان لأنه فِي معنى الناس، كما قَالَ تبارك وتعالى: (وَالْعَصْرِ «١» إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) فاستثنى كثيرًا من لفظِ واحدٍ لأنه تأويل جِمَاع.
وقوله- عَزَّ وَجَلَّ-: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ [١٢].
يقول: يضيق صدرك بِما نوحيه إليك فلا تُلقيه إليهم مخافة أن يقولوا: لولا أنزل عليك كنزٌ. فإن فِي قوله: (أَنْ يَقُولُوا) دليلٌ على ذَلِكَ. وهي بِمنزلة قوله: (يُبَيِّنُ «٢» اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) و (من) تحسن فيها ثُمَّ تُلْقَى، فتكون فِي موضع نصب كما قَالَ- عَزَّ وَجَلَّ: (يَجْعَلُونَ «٣» أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ) أَلا ترى أنَّ (مِنْ) تحسن فِي الْحَذَر، فإذا ألقيت انتصب بالفعل لا بإلقاء (من) كقول الشاعر «٤» :
وأغفرُ عوراء الكريم اصطناعَه وأُعْرض عَن ذات اللئيم تَكَرُّمَا
وقوله: قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ [١٣] ثم قال جلّ ذكره: (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) [١٤] ولم يقل: لك وقد قَالَ فِي أوَّلِ الكلام (قُلْ) ولم يقل: قولوا وهو بِمنزلة قوله: (عَلى «٥» خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ).
وقوله: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها [١٥] ثم قال: (نُوَفِّ) لأن المعنى فيها بعد كانَ. وَكَانَ «٦» قد يبطل فِي المعنى لأن القائل يقول: إن كنت تعطينى سألتك، فيكون كقولك: إن
(١) فى أول سورة العصر.
(٢) خاتمة سورة النساء.
(٣) الآية ١٩ سورة البقرة.
(٤) هو حاتم الطائي. وهو من قصيدة يتمدح فيها بمكارم الأخلاق. وقوله: «اصطناعه» فالرواية المشهورة:
«ادخاره» والعوراء الكلمة القبيحة. وانظر الخزانة فى الشاهد التاسع والسبعين بعد المائة.
(٥) الآية ٨٣ سورة يونس. وهو يريد بالتمثيل أنه إذا أسند إلى الرئيس فعل ذهب الوهم إلى من معه. وانظر ص ٤٧٦ ج ١ من هذا الكتاب.
(٦) فى ا: «كأن كان» يريد أن (كان) في الآية فى حكم المزيدة، فكأن فعل الشرط (يريد) فهو مضارع كالجواب فقد توافقا من هذه الجهة.
5
أعطيتني سألتك. وأكثر ما يأتي الجزاء على أن يتَّفق هُوَ وجوابه. فإن قلت: إن تفعل أفعل فهذا حسن. وإن قلت: إن فعلت أفعل كان مستجازا. والكلام إن فعلتَ فعلتُ. وقد قَالَ فِي إجازته زُهَير:
ومن هاب أسباب المنايا ينلْنَه ولو نالَ أسباب السَّماء بسُلَّم «١»
وقوله: (وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ) يقول: من أراد بعمله من أهل الْقِبلة ثواب الدُّنْيَا عُجِّلَ لَهُ ثوابُه ولم يُبخس أي لَمْ يُنْقَص فِي الدُّنْيَا.
وقوله: [أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ [١٧] (فالذي على «٢» البينة من ربه مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) يعني جبريل «٣» عَلَيْهِ السَّلَام يتلو القرآن، الْهَاء للقرآن.
وتَبيانُ ذَلِكَ: ويتلو القرآن شاهد من الله (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى) رفعتَ الكتاب بِمِن.
ولو «٤» نصبت على: ويتلو من قبله كتابَ موسى (إِماماً) منصوب على «٥» القطع من (كِتابُ مُوسى) فِي الوجهين. وقد قيل فى قوله: (وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) : يعني الإنجيل يتلو القرآن، وإن كَانَ قد أُنْزِلَ قبله. يذهب إلى أَنَّهُ يتلوه بالتصديق. ثُمَّ قَالَ: ومن قَبْلِ الإنجيل كتاب موسى.
ولم يأت لقوله: (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) جواب «٦» بيّن كقوله فى سورة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَفَمَنْ كانَ»
عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) وربما تركت العرب جواب
(١) هو من معلقته.
(٢) سقط ما بين القوسين فى ش، ج [.....]
(٣) فى ا: «جبرئيل» وهو لغة فيه.
(٤) جواب لو محذوف أي لجاز.
(٥) أي على الحال.
(٦) والجواب المحذوف أو الخبر: كمن كان يريد الدنيا كما فى البيضاوي.
(٧) الآية ١٤
6
الشيء المعروف معناهُ وإن تُرِكَ الجواب قَالَ الشَّاعِر «١» :
فأقسمُ لو شَيْء أتانا رَسولُه... سِوَاك ولكن لَمْ نجد لك مَدْفَعا
وقال الله- تبارك وتعالى وهو أصدق من قول الشاعر-: (وَلَوْ أَنَّ «٢» قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ) فلم يؤت «٣» لَهُ بِجوابٍ والله أعلم. وقد يفسره بعض النحويين يعني أن جوابه «٤» :(وَهُمْ يكفرون ولو أنّ قرآنا) والأوَّل أشبه بالصواب. ومثله: (وَلَوْ تَرى «٥» إِذِ الْمُجْرِمُونَ) (وَلَوْ يَرَى «٦» الَّذِينَ ظَلَمُوا) وقوله فِي الزمر: (أَمَّنْ «٧» هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ) ولم يؤت لَهُ بِجواب. وكفى «٨» قوله: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) من ذَلِكَ. فهذا مما تُركَ جوابه، وكفى منه ما بعده، كذلك قَالَ فِي هود: (مَثَلُ «٩» الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا) ولم يقل: هَلْ يستوون. وَذَلِكَ أن الأعمى والأصمَّ من صفة واحد والبصير والسميع من صفة واحدٍ كقول القائل: مررتُ بالعاقل واللبيب وهو يعني واحدًا. وقال الشاعر «١٠» :
وما أدْرِي إِذَا يمَّمْتُ وجهًا... أريدُ الخير أيُّهما يليني
أألخير الَّذِي أنا أبتغيه... أم الشر الذي لا يأتلينى
(١) أي امرؤ القيس. يريد: لو شىء أتانا رسوله سواك دفعناه بدليل قوله: ولكن لم نجد لك مدفعا. وفي الديوان ٢٤٢: «أجدك لو شىء... »
(٢) الآية ٣١ سورة الرعد.
(٣) أي أن الجواب محذوف. وهو (لكان هذا القرآن).
(٤) هذا على أن جواب الشرط قد يتقدم وهو مذهب كوفى. وعند غيرهم أنه دليل الجواب.
(٥) الآية ١٢ سورة السجدة. والجواب محذوف تقديره: لرأيت أمرا فظيعا.
(٦) الآية ٩٣ سورة الأنعام والجواب محذوف تقديره: لرأيت أمرا عظيما.
(٧) الآية ٩ سورة الزمر.
(٨) فالجواب تقديره: كالعاصى. والمراد نفى استوائهما كما نفى استواء الذين يعلمون والذين لا يعلمون.
(٩) فى الآية ٢٤ [.....]
(١٠) انظر ص ٢٣١ من الجزء الأول من هذا الكتاب.
7
قَالَ: أيُّهما وإنما ذكر الخير وحده لأن المعنى يُعرف: أن المبتغي للخير مُتّق للشر وكذلك قَوْل الله جل ذكره: (سَرابِيلَ «١» تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) [أي] وتقي البرد. وهو كذلك وإن لَمْ يُذكر.
وقوله: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) فيقال: مِن أصناف الكفار. ويُقال:
إن كلَّ كافر حِزْب.
وقوله: وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ [٢٠].
هم رءوس الْكَفَرة الَّذِينَ يُضلون. وقوله: (مَا كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ) على وجهين. فسَّره بعض المفسرين: يضاعف لَهُم العذاب بِما كانوا يستطيعون السمع «٢» ولا يفعلون. فالباء حينئذ كَانَ ينبغي لَهَا أن تدخل، لأنه قَالَ: (وَلَهُمْ «٣» عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) فِي غير موضع من التنزيل أدخلت فِيهِ الباء، وسقوطها جائز كقولك «٤» فِي الكلام: بأحسن ما كانوا يعملونَ وأحسنَ ما كانوا يعملون. وتقول فِي الكلام: لأجزيَّنك بِما عملت، وما عملت. ويُقال: مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كانوا يبصرون: أي أضلَّهُم الله عَن ذَلِكَ فِي اللوح المحفوظ.
وقوله: (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ) [٢٢] كلمة كانت فِي الأصل بِمنزلة لا بُدَّ أنَّك قائمٌ ولا محالة أنَّك ذاهب، فجرت على ذَلِكَ، وكثر استعمالهم إيَّاها، حَتَّى صَارت بِمنزلة حقًّا ألا ترى أن العرب تَقُولُ:
لا جَرَمَ لآتينك، لا جرمَ قد أحسنت. وكذلك فسّرها المفسرونَ بِمعنى الحقِّ. وأصلها من جرمت
(١) الآية ٨١ سورة النحل.
(٢) سقط في ا.
(٣) الآية ١٠ سورة البقرة.
(٤) الأولى: كقوله تعالى. فإن الاستعمالين واردان فى الكتاب العزيز فالأول فى الآية ٩٦ سورة النحل، والثاني فى الآية ٧ سورة العنكبوت.
8
أي كسبت الذنب وجَرَّمته. وليس قول من قَالَ إنّ جَرَمت كقولك: حَقُقت أو حُقِقت بشيء وإنَّما لبس على قائله قول الشاعر «١» :
ولقد طَعنْتُ أبا عُيَيْنة طَعْنَةً جرَمت فزارةُ بعدها أن تغضبا
فرفعوا (فزارة) قالوا: نجعل الفعل لفزارة كأنه بِمنزلة حُقَّ لَهَا أو حقَّ لَهَا أن تغضب وفزارة منصوبة فِي قول الفراء أي جَرَمَتهم الطعنةُ أن يغضبوا.
ولكثرتها فى الكلام حذفت منها الميم فبنو فزارة يقولون: لا جَرَ أنك قائم. وتوصل من أوَّلها بذا، أنشدني بعضُ بني كلاب:
إن كلابًا وَالِدِي لاذا جَرَمْ لأَهْدِرَنَّ اليوم هدرًا صادقا «٢»
هدر المعنَّى ذي الشقاشيق اللَّهُمَّ «٣» وموضع أن مرفوع كقوله:
أحقًّا عبادَ الله جرأة محلق علي وقد أعييت عاد وتبعا
وقوله: وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ [٢٣].
معناهُ: تَخْشَعوا لربِّهم وإلى ربِّهم. وربَّما جعلت العرب (إلى) فِي موضع اللام. وقد قَالَ الله عزّ
(١) هو أسماء بن الضريبة. وقيل: عطية بن عفيف. وقوله: «أن تغضبا» كذا فى الأصول. والرواية:
«يغضبوا» وقبله:
يا كرز إنك قد قبلت بفارس بطل إذا هاب الكمأة وجببوا
كان كرز قد طعن أبا عيينة حصن بن حذيفة الفزاري فى يوم الحاجر فقتل به فرثاه الشاعر. وقوله: «جببوا» أي فروا ونفروا من القتال. وانظر الخزانة ٤/ ٣١٠، واللسان فى المادة.
(٢) «هدرا صادقا» كذا فى الأصول، وهو لا يستقيم فى الرجز المعروف عن العرب. وقد كتبها بعض الفضلاء «هدرا فى النعم» ولم أقف على سنده. وهدر البعير ترديد صوته فى حنجرته.
(٣) المعنى: فحل الإبل الذي حبس أو رغب عن ضرابه. والشقاشيق جمع شقشقة وهى كالرئة تخرج من فم البعير إذا هاج واغتلم. وأصله الشقاشق فزاد الياء. واللهم: الذي يلتهم كل شىء: يفتخر أنه من كلاب، وأنه سيصول في أقرانه كما يصول الفحل الهائج
9
وجلّ: (بِأَنَّ «١» رَبَّكَ أَوْحى لَها) وقال: (الْحَمْدُ «٢» لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا) وقال: (يَهْدِيهِمْ «٣» إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً) وقال: (فَأَوْحى «٤» إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ) وقد يَجوز فِي العربية أن تَقُولَ: فلان يُخْبِت إلى الله تريد: يفعل ذَلِكَ بوجهه إلى الله لأن معنى الإخبات الخشوع، فيقول: يفعله بوجهه إلى الله ولله. وجاء فِي التفسير: وأَخْبتوا فَرَقا «٥» من الله فمن يشاكل معنى اللام ومعنى إلى إذا أردت بِهِ لمكان هذا ومن أجل هذا.
وقوله: (مَا نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا) [٢٧] رفعَتَ الأراذل بالاتِّباع «٦» وقد وقع الفعل فِي أول الكلام على اسمه. ولا تكادُ العرب تجعل المردود بإلا إلا على المبتدأ لا على راجع ذكره. وهو جائز. فمن البين الَّذِي لا نظر فِيهِ أن تَقُولُ: ما قام احد إلا زيد. وإن قلت: ما أحدٌ قام إلا زيد فرفعت زيدًا بِما عاد فِي فعل أحد فهو قليل وهو جائز. وإنَّما بَعُد على المبتدأ لأنه كناية، والكناية لا يُفرق فيها بين أحدٍ وبين عبد الله، فلمّا قبح أن تَقُولَ: ما قام هُوَ إلا زيد، وحسن: ما قام أحد إلا زيد تبيّن ذَلِكَ لأن أحدًا كأنه لَيْسَ فِي الكلام فحسُن الرد على الفعل. ولا يُقال للمعرفة أو الكناية أحد إذ شاكل «٧» المعرفة كأنه «٨» لَيْسَ فِي الكلام ألا ترى أنك تَقُولُ ما مررت بأحد إلا بزيد (فكأنك «٩» قلت: ما مررت إلا بزيد) لأن أحدًا لا يُتَصوّر فِي الوهم أَنَّهُ مَعْمود «١٠» لَهُ. وقبيح أن تَقُولَ: لَيْسَ أحد مررت بِهِ إلا بزيد لأن الْهَاء لها صورة كصورة
(١) الآية ٥ سورة الزلزلة
(٢) الآية ٤٣ سورة الأعراف
(٣) الآية ١٧٥ سورة النساء
(٤) الآية ١٣ سورة إبراهيم
(٥) أي خوفا
(٦) الظاهر أنه يريد أنه مرفوع فى المعنى بالاتباع في قوله: «اتبعك» يريد أنه فاعل الاتباع فى الحقيقة وإن كان الفعل واقعا على (الذين) اسم الموصول فهو اسمه. [.....]
(٧) أي الكناية
(٨) أي كأن أحدا.
(٩) سقط ما بين القوسين فى ش.
(١٠) في ا: «مصمود» والصمد والصمد: القصد
10
المعرفة، وأنت لا تَقُولُ: ما قمت إلا زيد فهذا وجه قبحه. كذلك قَالَ: (ما نَراكَ) ثُمَّ كأنه حذف (نراك) وقال: (ما اتّبعك إلا الذين هم أراذلنا) فان على هذا ما ورد عليك إن شاء الله:
(بادِيَ الرَّأْيِ) لا تَهمز (بادِيَ) لأن المعنى فيما يظهرُ لنا [و «١» ] يبدو. ولو قرأت «٢» (بادىء «٣» الرأي) فهمزت تريد أوّل الرأي لكان صوابًا. أنشدني بعضهم:
أضحى لخالي شبهي بادي بدي وصار للفحل لساني ويدي «٤»
فلم يهمز ومثله مما تقوله العرب فِي معنى ابدأ بِهذا أوّل، ثُمَّ يقولون. ابدأ بِهذا آثرًا ما وآثِر ذي أثيرِ (وأثير «٥» ذي أثير) وإثرَ ذى أثير، وابدأ بهذا أوَّل ذاتِ يدين وأدْنَى دَنِيّ. وأنشدونا:
فقالوا ما تريد فقلت ألهو إلى الإصباح آثِر ذى أثير «٦»
وقوله: بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ [٢٧] مثل قوله (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ «٧» إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) لأنَّهم كذبوا نوحًا وحده، وخرج على جهة الجمع، وقوله (فَإِلَّمْ «٨» يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) فلكم أريد بِهَا النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقوله: (فَاعْلَمُوا) ليست للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. إنَّما هي لكفّار مكة ألا ترى أنه قال (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).
وقوله: (وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ).
(١) زيادة من اللسان فى (بدأ) و (بدا).
(٢) قرأ بالهمز أبو عمرو.
(٣) كذا في ا. وفى ش، ج: «بادى بابتداء الرأى» وفيها تحريف.
(٤) فى ا: «شبه» فى مكان «شبهى» يريد أن ظاهره فى الشبه لخاله، فى الفعل باليد أو اللسان فهو ينزع إلى الفحل أي إلى أبيه، وفي اللسان (بدا) أنه تعدى شرخ الشباب وصارت أعماله أعمال الفحولة والكهول.
(٥) ما بين القوسين فى ب.
(٦) هذا البيت من قصيدة لعروة بن الورد. كان قد سبى امرأة من كنانة وعاشرها مدة طويلة حتى كان له منها ولد. ثم عرفها أهلها وافتدوها منه بمال وتحينوا سكره فى ذلك، فلما أيقن أنه سيفارقها طلب أن يلهو بها ليلته. وانظر الأغانى (الدار) ٣/ ٨٧.
(٧) أول سورة الطلاق.
(٨) الآية ١٤ سورة هود.
11
يعني الرسالة. وهي نعمة ورحمة. وقوله: (فَعُمِّيَتْ عليكم) قرأها يَحْيَى بن وثّاب والأعمش وَحَمْزَة «١». وهي فِي قراءة أُبَيّ (فعمَّاهَا عَلَيْكُمْ) وسمعت العرب تَقُولُ: قد عُمِّيَ عليَّ الْخَبَر وَعَمِيَ عليَّ بِمعنى واحد. وهذا مِمَّا حوّلت العرب الفعل إِلَيْهِ وليس لَهُ، وهو فِي الأصل لغيره ألا ترى أن الرجل الَّذِي يَعْمَى عَن الخبر أو يُعَمَّى عَنْهُ، ولكنّه فِي جوازه مثل قول العرب:
دخل الخاتم فِي يدي والخُفّ فِي رِجْلي، وأنت تعلم أن الرجل التي تُدخل فِي الخفّ والأصبع فِي الخاتِم. فاستخفّوا بذلك إذا «٢» كَانَ المعنى معروفًا لا يكُون لذا فِي حال، ولذا فِي حال إنَّما هُوَ لواحد. فاستجازوا ذَلِكَ لِهذا. وقرأه العامّة (فعميت) وقوله (أَنُلْزِمُكُمُوها) العرب تسكّن الميم التي من اللزوم فيقولون: أَنُلْزِمْكمُوهَا. وَذَلِكَ أن الحركات قد توالت فسَكنت الميم لحركتها وحركتين بعدها وأنَّها مرفوعة، فلو كانت منصوبة لَمْ يُسْتَثْقَلْ فتخفَّفَ. إنَّما يستثقلون كسرة بعدها ضمةٌ أو ضمةً بعدها كسرة أو كَسْرَتينِ متواليتين أو ضمَّتينِ متواليتين. فأمَّا الضمَّتان فقوله: (لَا يَحْزُنُهُمُ «٣» ) جزموا النون لأن قبلها ضمَّة فخففت كما قَالَ (رُسْل) «٤» فأمّا الكسرتان فمثل قوله الإبل إذا خُفّفت. وأمّا الضمة والكسرة فمثل قول الشاعر:
وناعٍ يُخَبِّرْنَا بِمُهْلَك سَيّدٍ تَقَطَّعَ «٥» من وجدٍ عَلَيْهِ الْأَنَامِلُ
وإن شئتَ تُقطَّع. وقوله فِي الكسرتين:
إذا اعوججن قلت صاحب قوّم «٦»
(١) وكذلك قرأها الكسائي وحفص عن عاصم.
(٢) ا: «إذ» [.....]
(٣) الآية ١٠٣ سورة الأنبياء.
(٤) ب: «وأما».
(٥) ضبط فى ا: «تقطع» بصيغة الماضي.
(٦) هذا رجز بعده:
بالدون أمثال السفين العوم
قال الأعلم: «والدو: الصحراء. وأراد بأمثال السفين رواحل محملة تقطع الصحراء قطع السفين البحر» وانظر سيبوية ٢/ ٢٩٧.
12
يريدُ صاحبي فإنّما يستثقل الضم والكسر لأن لمخرجيهما مؤونة على اللسان والشفتين تنطمّ «١» الرَّفعة بِهما فيثقل الضمَّة ويُمالُ أحد الشِّدْقين إلى الكسرة فترى ذَلِكَ ثقيلًا. والفتحة تَخرج من خَرْقِ الفم بلا كُلْفة.
وقوله: وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ [٣٠].
يقول: من يَمنعني من الله. وكذلك كل «٢» ما كَانَ فِي القرآن منه فالنصر على جهة المنع.
وقوله: فَعَلَيَّ إِجْرامِي [٣٥].
يقول: فَعَليّ إثمي. وجاء فِي التفسير فَعَلَيَّ آثامي، فلو قرئت: أجرامي على التفسير كَانَ صوابًا.
وأنشدني أَبُو الجراح:
لا تَجعلوني كذوي الأجرام الدَّهْمَسِيَّيْنِ ذوِي ضِرغام «٣»
فجمع الْجُرْم أجرامًا. ومثل ذلك (وَاللَّهُ «٤» يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ) و (أَسْرَارهم) وقد قُرئ بِهما «٥». ومنه (وَمِنَ «٦» اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ) و (أدبار السّجود) فمن قَالَ: (إِدْبَارَ) أراد المصدر. ومن قَالَ (أسرار) أراد جَمْع السِّر.
وقوله: (فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) [٣٦] يقول: (لا تستَكِنْ ولا تَحْزَن).
وقوله: (بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا) [٣٧] كقوله (ارْجِعُونِ «٧» ) يَخْرج على الجمع ومعناهُ واحد على ما فسَّرت لك من قوله (بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ) لنوح وحده، و (عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ).
(١) ش: «وضم».
(٢) سقط فى ا.
(٣) «الدهمسيين» نسبة إلى الدهمسة وهى السرار أي الذين يتسترون لخبثهم. وضرغام علم. يريد آل هذا الرجل.
(٤) الآية ٢٦ سورة محمد.
(٥) قرأ بكسر الهمزة حفص وحمزة والكسائي وخلف. وقرأ الباقون بفتحها.
(٦) الآية ٤٠ سورة ق. قرأ نافع وابن كثير وحمزة وأبو جعفر وخلف بكسر الهمزة، والباقون بفتحها.
(٧) الآية ٩٩ سورة المؤمنين.
وقوله: وَفارَ التَّنُّورُ [٤٠] هو تنّور الخابر: إذا فار الماء من أَحرّ مكان فِي دارك فهي آية العذاب فأسر بأهْلِكَ. وقوله (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) والذكر والأنثى من كل نوع زوجان. وقوله (وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) حَمَلَ معه امرأة لَهُ سِوَى التي هلكت، وثلاثةَ بَنينَ ونسوتهم، وثَمانين إنسانًا سوى ذَلِكَ. فذلك قوله (وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) و (الثمانون «١» ) هُوَ القليل.
وقوله: وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ [٤١] (إن شئت جعلت مجراها ومرساها) فِي موضع رَفع بالياء كما تَقُولُ: إجراؤهَا وإرسَاؤَهَا بسم الله وبأمر الله. وإن شئت جعلت (بِسْمِ اللَّهِ) ابتداء مكتفيًا بنفسه، كقول القائل عند الذبيحة أو عند ابتداء المأكل وشبهه: بسم الله ويكون (مجريها ومرسيها) فِي موضع نصب يريد بسم الله فِي مجراها وَفِي مرساها. وسمعت العرب تَقُولُ:
الحمد لله سِرَارَكَ «٢» وإهلالك «٣»، وسُمع منهم الحمدُ لله ما إهلالَك إلى سرارك يريدون ما بين إهلالك إلى سرارك.
والمجرى والمرسى ترفع ميميهما قرأ بذلك إِبْرَاهِيم النَّخْعِيّ والحسن وأهل المدينة. حَدَّثَنَا مُحَمَّد قَالَ:
حَدَّثَنَا الْفَرَّاءُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو معاوية «٤» عَن الأعمش عَن مسلم «٥» بن صبيح عَن مسروق أَنَّهُ قَرأها (مَجْراها) بفتح الميم و (مرسها) بضم الميم. قَالَ: وَحَدَّثَنَا الْفَرَّاءُ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ وَغَيْرُهُ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ رَجُلٍ قَدْ سَمَّاهُ عَنْ عَرْفَجَةَ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ الله بن مسعود قرأها (مجراها) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَرَفْعِ الْمِيمِ مِنْ مُرْسِيهَا.
وقرأ مجاهد (مُجْرِيها ومُرسِيها) يَجعله من صفات الله عَزَّ وَجَلَّ، فيكون فِي مَوْضع خفض فِي الإعراب لأنه معرفة. ويكون نَصْبًا لأن مثله قد يكون نكرة لحسن الألف واللام فيهما ألا ترى
(١) ب: «فالثمانون).
(٢) سرار القمر خفاؤه فى أواخر الشهر. وإهلاله حيث يظهر هلاله. يقال هذا عند رؤية الهلال.
(٣) سرار القمر خفاؤه فى أواخر الشهر. وإهلاله حيث يظهر هلاله. يقال هذا عند رؤية الهلال. [.....]
(٤) هو محمد بن خازم الضرير مات سنة ١٩٥ هـ كما فى الخلاصة.
(٥) هو أبو الضحى العطار الكوفي توفى فى خلافة عمر بن عبد العزيز كما فى الخلاصة.
أنك تَقُولُ فِي الكلام: بسم الله المجريها والمرساها. فإذا نزعت منه الألف واللام نصبته «١». ويدلك على نكرته قوله: (هذا «٢» عارِضٌ مُمْطِرُنا) وقوله: (فَلَمَّا رَأَوْهُ «٣» عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ) فَأضافوهُ إلى معرفة، وجعلوهُ نعتًا لنكرة. وقال الشاعر «٤» :
يا رُبَّ عابِطِنا لو كَانَ يأْمُلكم لا قى مباعدةً منكم وحرمانا
وقال الآخر:
وَيَا رب هاجي مِنْقَرٍ يبتغي بِهِ ليَكْرُم لَمّا أعوزته المكارِمُ
وسمع الْكِسَائي أعرابيًّا يقول بعد الفطر: رُبّ صائمه لن يصومه وقائمه لن يقومه.
وقوله: (سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ [٤٣] (قالَ) نوحٌ عَلَيْهِ السَّلَام (لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ) فَمَنْ فِي موضع نصب لأن المعصوم خِلاف للعاصم والمرحوم معصوم. فكأنه نصبه بِمنزلة قوله (مَا لَهُمْ بِهِ «٥» مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ) ومَن استجازَ رفع الاتباع أو الرفعَ فِي قوله:
وبلدٍ لَيْسَ بِهِ «٦» أنيسُ إلَّا الْيَعَافِيرُ وإلّا العيس
لم يجزله الرفع فِي (مَن) لأن الَّذِي قَالَ: (إِلَّا اليعافير) جعل أنيس الْبَرّ اليعافير والوحوش، وكذلك قوله (إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ) يقول: علمهم ظنّ وأنت لا يجوزُ لك فِي وجه أن تَقُولَ: المعصوم عَاصِم.
ولكن لو جعلت العاصم فِي تأويل معصوم كأنك قلت: لا معصوم اليوم من أمر الله لَجازَ رفع (مَن) ولا تنكرن أن يخرج المفعول على فاعل ألا ترى قوله (مِنْ «٧» ماءٍ دافِقٍ) فمعناه والله أعلم: مدفوق
(١) على أنه سال.
(٢) الآية ٢٤ سورة الأحقاف.
(٣) الآية ٢٤ سورة الأحقاف.
(٤) هو جرير من قصيدة يهجو فيها الأخطل
(٥) الآية ١٥٧ سورة النساء.
(٦) فى ا: «بلد ليس بها» وبلد محرف عن بلدة كما هى رواية سيبويه ١/ ٣٦٥. واليعافير أولاد الظباء واحدها يعفور. والعيس بقر الوحش لبياضها.
(٧) الآية ٦ سورة الطارق.
15
وقوله (فِي عِيشَةٍ «١» راضِيَةٍ) معناها مرضيَّة، وقال الشاعر «٢» :
دعِ المكارمَ لا ترحل لِبُغْيتها واقعد فإنّك أنت الطاعم الكاسي
معناهُ المكسوّ. تستدلّ على ذَلِكَ أنك تَقُولُ: رضيتُ هذه المعيشة ولا تقول: رَضِيَتْ ودُفِق الماء ولا تَقُولُ: دَفَق، وتقول كُسِيَ العريان ولا تَقُولُ: كسا. ويقرأ (إِلَّا مَنْ رُحِم) أيضًا «٣».
ولو قيلَ لا عَاصِم اليوم من أمر الله إِلَّا من رُحِمَ كأنَّك «٤» قلت: لا يعصم «٥» اللهُ اليوم إِلَّا من رُحِمَ ولم نسمع «٦» أحدًا قرأ بِهِ.
وقوله: (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ) [٤٤] وهو جبل بحضَنَين «٧» من أرض الموْصِل ياؤه مشدّدة وقد حدِّثتُ أن بعض «٨» القراء قرأ (عَلَى الْجُودِي) بإرسال الياء. فإن تكن صحيحة فهي مما كَثُر بِهِ الكلام عند أهله فخُفِّف، أو يكون قد سمي بفعل أنثى مثل حُطيِّ وأصِرّي وصَرِّي، ثُمَّ أُدخلت عَلَيْهِ الألف واللام. أنشدني بعضهم- وهو المفضّل-:
وكفرتَ قومًا هُمْ هَدَوْكَ لأقدِمي إذ كَانَ زَجْرَ أبيك سأسأ واربق «٩»
(١) الآية ٢١ سورة الحاقة.
(٢) هو الحطيئة. والبيت من قصيدة يهجو فيها الزبرقان بن بدر التميمي.
(٣) سقط فى ا.
(٤) كذا فى ا. وفى شىء: «فإنك». ويصح أن يكون جواب لو بإسقاط الفاء.
(٥) ب: «يعصم». [.....]
(٦) فى الكشاف أنه قرىء به. ولم يذكر القارئ.
(٧) كذا فى الأصول. ولم أقف عليه فى البلدان. وقد يكون: «بحصنين» تثنيه حصن لما يتحصن به. وفى القاموس أن حصنين بلد وقلعة بوادي لية ولية فى بلاد العرب وليس فى الموصل. ولم يعين البلد ولم يعرف أين هوه.
(٨) هو الأعمش برواية المطوعى كما فى الإتحاف.
(٩) «أقدمى» يقولها الفارس لفرسه يأمرها بالإقدام فى الحرب، وفى الحديث فى يوم بدر أنه سمع صوت يقول:
أقدم حيزوم وحيزوم فرس جبريل عليه السلام، وقد جعل هذا زجرا والمعروف فى زجر الفرس اجدم. وسأسأزجر الحمار. يقول كفرت قوما علموك الغزو ورشحوك للسيادة، وقد كنت قبل تركب الحمار وترعى الغنم. وقوله: اربق أي اربط الغنم فى حبل يجمعها.
16
وأنشدني بعض بني أسَد:
لَمَّا رأيت أنّها فِي حُطّي وفَتكت فِي كذبي ولَطِّي «١»
والعرب إذا جعلت مثل حُطّي وأشباهه اسمًا فأرادوا أن يغيِّروه عَن مذهب الفعل حوّلوا الياء ألفًا فقالوا:
حُطَّا، أصِرًّا، وصِرَّا. وكذلك ما كَانَ من أسماء العجم آخره ياء مثل ماهي وشاهي وشُنِّي حوَّلوه إلى ألف فقالوا: ماها وشاها وشنَّا. وأنشدنا «٢» بعضهم:
أتانَا حِمَاسٌ بابن ماها يسوقه لِتُبغِيه خيرًا وَلَيْسَ بفاعلِ
(وَحالَ «٣» بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ) أي حالَ بين ابن نوح وبين الجبل الماء.
وقوله: (يا أَرْضُ «٤» ابْلَعِي) يُقالُ بَلِعَتْ وبَلَعَتْ.
وقوله: يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ [٤٦] الَّذِي وعدتك أن أنجيهم ثُمَّ قَالَ عَزَّ وجلّ:
(إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) (وَعَامَّةُ الْقُرَّاءِ «٥» عَلَيْهِ) حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا الْفَرَّاءُ قَالَ: وَحَدَّثَنِي حِبَّانُ «٦» عَنِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِذَلِكَ يَقُولُ: سُؤَالُكَ إِيَّايَ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ. وَعَامَّةُ الْقُرَّاءِ عَلَيْهِ. (حَدَّثَنَا «٧» الْفَرَّاءُ) قَالَ: وَحَدَّثَنِي «٨» أَبُو اسحق الشَّيْبَانِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو رَوْقٍ «٩» عَنْ مُحَمَّدِ «١٠»
(١) تقدم هذا الرجز ببعض تغيير مع صلة له فى الجزء الأول ص ٣٦٩.
(٢) ا: «أنشد».
(٣) هذا فى الآية ٤٣.
(٤) فى الآية ٤٤.
(٥) سقط ما بين القوسين فى ا.
(٦) ش: «حسان».
(٧) سقط ما بين القوسين فى ش.
(٨) هو سليمان بن أبى سليمان فيروز مات سنة ١٣٨ كما فى الخلاصة.
(٩) هو عطية بن الحارث الهمداني الكوفي كما فى الخلاصة.
(١٠) كانت وفاته سنة ١٣١ هـ. [.....]
بْنِ حُجَادَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «١» يَقْرَأُ (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) (حَدَّثَنَا «٢» الْفَرَّاءُ) قَالَ وَحَدَّثَنِي «٣» ابْنُ أَبِي يَحْيَى عَنْ رَجُلٍ قَدْ سَمَّاهُ قَالَ، لَا أَرَاهُ إِلَّا ثَابِتًا الْبُنَانِيَّ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: كَيْفَ أَقْرَؤُهَا؟ قَالَ (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) وقوله: (فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) ويُقرأ: تسأَلَنيِّ بإثبات الْيَاء وتشديد النون ويَجوز أن تقرأ (فَلا تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ) بنصب النون، ولا توقعها إلا على (ما) وليس فيها ياء فِي الكتاب والقراء قد اختلفوا فيما يكون فِي آخره الياء وتُحذف فِي الكتاب: فبعضهم يُثبتها، وبعضهم يلقيها من ذلك (أَكْرَمَنِ) «٤» و (أَهانَنِ) «٥» (فَمَا آتَانِ «٦» اللهُ) وهو كثيرٌ فِي القرآن.
وقوله: (بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ) [٤٨] يعني ذُرِّية من معه من أهل السعادة. ثم قال: (وَأُمَمٌ) من أهل الشقاء (سَنُمَتِّعُهُمْ) ولو كانت (وَأُمَمًا سَنُمَتِّعهُمْ) نصبًا لجازَ توقع عليهم «٧» (سَنُمَتِّعُهُمْ) كما قَالَ (فَرِيقاً «٨» هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ).
وقوله: (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ [٤٩] ) يصلح مكانها (ذَلِكَ) مثل قوله (ذلِكَ «٩» مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ) والعرب تفعل «١٠» هذا فِي مصادر الفعل إذا لَمْ يذكر مثل قولك: قد قَدِمَ فلان، فيقول الآخر: قد فرحت بِهَا وبه. فمَن أنّث ذهب بها إلى القدْمة، ومن ذكر ذهب إلى القدوم.
وهو مثل قوله (ثُمَّ تابُوا «١١» مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا).
(١) وهى قراءة الكسائي
(٢) ش: «حدثنى به»
(٣) ش: «حدثنى به»
(٤) الآية ١٥ سورة الفجر
(٥) الآية ١٦ سورة الفجر
(٦) الآية ٣٦ سورة النمل
(٧) ش: «أن توقع»
(٨) الآية ٣٠ سورة الأعراف
(٩) الآية ١٠٠ سورة هود
(١٠) ش: «مثل هذا»
(١١) الآية ١٥٣ سورة الأعراف
وقوله: (مَا كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ) يقول: لَمْ يكن عِلْمُ نوح والأمَمِ بعده من علمك ولا علم قَومك (مِنْ قَبْلِ هذا) يعني القرآن.
وقوله: يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً [٥٢] يقول: يجعلها تَدِرُّ عليكم عند الحاجة إلى المطر، لا أن تَدِرّ ليلًا ونَهارًا. وقوله (وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ) ذكروا أَنَّهُ كَانَ انقطعَ عنهم الولد ثلاث سنين. وقال (قُوَّةً) لأن الولد والمال قوة.
وقوله: إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ [٥٤] كذَّبوه ثُمَّ جعلوه مختلِطًا «١» وَادَّعَوْا أنَّ آلهتهم هى التي خبلته لعيبه آلهتهم. فهنالك قَالَ: إني أُشهدُ الله وأُشهدكم أني برىء منها.
وقوله: وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً [٥٧] رُفِع: لأنه جاء بعد الفاء. ولو جُزِمَ كَانَ كما قَالَ (مَنْ «٢» يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ) كَانَ «٣» صوابًا. وَفِي قراءة عبد الله (وَلَا تَنْقُصُوهُ) جزمًا.
ومعنى لا تضرّوهُ يقول: هلاككم إذا أهلككم لا ينقصه شيئا.
و (عاد) مُجْرًى «٤» فِي كل القرآن لَمْ يُختلف فِيهِ. وقد يُتْرك إجراؤه، يُجعل اسمًا للأُمَّة التي هُوَ منها، كما قَالَ الشاعر:
أحقًّا عبادَ الله جرأة محلق علي وقد أعييت عاد وتبّعا
وسمع الكسائىّ بعض العرب يقول: إن عادَ وَتَبَّعَ أمَّتان.
وقوله: وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً [٦٤].
نصبت صالحًا وهودًا وما كَانَ على هذا اللفظ بإضمار (أرسلنا).
(١) يقال: اختلط: ؟؟؟ عقله.
(٢) الآية ١٨٦ سورة الأعراف. والجزم قراءة حمزة والكسائي وخلف كما فى الاتحاف.
(٣) هذه الجملة بدل من قوله: «كان كما قال..» [.....]
(٤) أي مصروف
وقد اختلف القراء فى (ثمود) فمنهم من أجراهُ فِي كلّ حال. ومنهم من لَمْ يُجرِهِ فِي حال.
حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا الْفَرَّاءُ قَالَ: حَدَّثَنِي قيس عَن أبى إسحق عَن عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد النخمىّ عَن أبيه أَنَّهُ كَانَ لا يُجري (ثَمود) فِي شيء من القرآن (فقرأ «١» بذلك حَمْزَةُ) ومنهم من أجرى (ثمود) فِي النصب لأنّها مكتوبة بالألف فِي كل القرآن إلا فِي موضع واحد (وَآتَيْنا «٢» ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً) فأخذ بذلك الْكِسَائي فأجراها فِي النصب ولم يُجرها فِي الخفض ولا فِي الرفع إِلَّا فى حرف واحد: قوله (أَلا إِنَّ «٣» ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ) فسألوهُ «٤» عَن ذَلِكَ فقال:
قرئت فِي الخفض «٥» من الْمُجْرَى وقبيح أن يَجتمعَ الحرف مرتين فِي موضعين ثُمَّ يَختلف، فأجريته لقربه منه.
وقوله: كَفَرُوا رَبَّهُمْ [٦٨] جاء فِي التفسير: كفروا نعمة ربهم. والعربُ تَقُولُ: كفرتك.
وكفرت بك، وشكرتك وشكرتُ بك وشكرت لك. وقال الْكِسَائي: سمعتُ العرب تَقُولُ:
شكرتُ بالله كقولِهم: كفرت بالله.
وقوله: فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ [٦٣] يقول: فما تزيدونني غير تَخسير لكم وتضليل لكم، أي كُلّما اعتذرتُم بشيء هُوَ يزيدكم تَخسيرًا. وليس غير تخسير لي أنا. وهو كقولك للرجل ما تزيدني إلَّا غضبًا أي غضبا عليك.
وقوله: سَلاماً قالَ سَلامٌ [٦٩] قرأها «٦» يحيى ابن وَثَّاب وإبراهيم النخعي. وذُكِرَ عَن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قرأ بِهَا. وهو فِي المعنى سلام كما قالوا حِلّ وَحَلَالٌ، وحرم وحرام لأن
(١) سقط ما بين القوسين فى ا
(٢) الآية ٥٩ سورة الإسراء
(٣) الآية ٦٨ سورة هود
(٤) ا: «فسألته»
(٥) كذا فى الأصول. والأولى: «النصب»
(٦) وهى قراءة حمزة والكسائي
20
التفسير جاء: سَلَّمُوا عَلَيْهِ فردّ عليهم. فترى أن معنى سِلْم وسلام واحد والله أعلم. وأنشدني بعض العرب:
مررنا فقلنا إيه سِلْم فسلَّمت كما اكتلَّ بالبرق الغمامُ اللوائحُ «١»
فهذا دليلٌ على أنَّهم سَلَّموا فردَّت عليهم. وقرأهُ العامّة (قالوا سلاما قال سلام) نصبَ الأول ورفع الثاني. ولو كانا جَميعًا رفعًا ونصبًا كَانَ صوابًا. فمن رَفعَ أضمرَ (عليكم) وإن لَمْ يظهرها كما قَالَ الشاعر:
فقلنا السَّلام فاتقت من أميرها فما كَانَ إلا وَمْؤها بالحواجب «٢»
والعربُ تَقُولُ: التقينا فقلنا: سَلامٌ سلام. وحُجَّة أخرى فِي رفعه الآخر «٣» أن القوم سَلَّمُوا، فقال حين أنكرهم: هُوَ سلام إن شاء الله فمن أنتم لإنكاره إيَّاهم. وهو وجه حسن. ويُقال فِي هذا المعنى: نحن سِلْم لأن التسليم لا يكون من قومٍ عَدُوّ. وقوله: (فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) أن فِي موضع نصب توقع «٤» (لَبِثَ) عليها، كأنك قلت: فما أبطأ عَن مجيئه بعجل: فلمَّا ألقيت الصفة وقع الفعلُ عليها. وقد تكون رفعًا تجعل لبث فعلًا لأن كأنك قلت فما أبطأ مجيئُه «٥» بعجلٍ حنيذ: والحنيذ: ما حَفَرت لَهُ فِي الأرض ثُمَّ غممته. وهو من فعل أهل البادية معروف. وهو محنوذ فى الأصل «٦» فقيل: حنيذ، كما قيل: طَبيخ للمطبوخ، وقتيل للمقتول.
وقوله: فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ [٧٠] أي إلى الطعام. وذلك أنها كانت
(١) إيه: طلب للحديث. واكتل الغمام: تبسم وهو تكشفه بضوء البرق
(٢) أميرها: الذي له عليها الولاية والأمر يريد زوجها، ومؤها: إشارتها
(٣) ش: «الأخرى» أي الكلمة الأخيرة
(٤) ا: «بوقوع»
(٥) فى الأصول: «عن مجيئه» وهو سهو من الناسخ
(٦) ش: «الأرض»
21
سُنَّة فِي زمانِهم إذا ورد عليهم القوم فأُتُوا بالطعام فلم يَمسّوه ظنّوا أنَّهم عَدُوٌّ أو لصوص. فهناك أوجس فِي نفسه خِيفةً فرأَوا ذَلِكَ فِي وجهه، فقالوا: لا تَخَفْ، فضحكت عند ذَلِكَ امرأته وكانت قائمة وهو قاعد (وكذلك هي فِي قراءة عبد الله: وامرأته قائمة وهو قاعد) مثبتة «١» فضحكت فبشرت بعد الضحك. وإنَّما ضحكت سرورًا بالأمن «٢» فأتبعوها البشرى بإسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب.
وقد يقول بعض المفسرين: هذا مقدّم ومؤخّر. والمعنى فِيهِ: فبشَّرناها بإسحاق فضحكت بعد البشارة وهو مِمّا قد يَحتمله الكلام والله أعلم بصوابه. وأما قوله (فَضَحِكَتْ) : حاضت فلم نسمعهُ من ثقة وقوله (يَعْقُوب) يرفع وينصب وَكَانَ حَمْزَةُ ينوي بِهِ «٣» الخفض يريد: ومن وراء إسحاق بيعقوب.
ولا يَجوز الخفض إلا بإظهار الباء. وَيَعْقُوب هاهنا ولد الولد والنصب فِي يَعْقُوب بِمنزلة قول الشَّاعِر «٤»
جئني بِمثل بني بَدْرٍ لقومهم أَوْ مثلَ أُسرة منظور بن سَيَّار
أو عامِرَ بن طُفَيْل فِي مُركَّبِه أو حارثًا يوم نادى القومُ يا حارِ
وأنشدني بعضُ بني باهلة:
لو جيت بالْخُبْزِ لَهُ مُيَسِّرًا والبيضَ مطبوخًا معًا والسُّكَّرا «٥»
لم يرضه ذلك حتى يسكرا
(١) سقط ما بين القوسين فى ش [.....]
(٢) كذا فى ش. وفى الطبري: «بالأمن منهم لما قالوا لابراهيم: لا تخف «وفى ا: «بالأمر»
(٣) ا: «بها» أي بالكلمة
(٤) هو جرير والبيتان من قصيدة فى ديوانه يهجو فيها الأخطل وبين البيت الأول والثاني بيت فى الديوان ٢٤٢ وهو:
أو مثل آل زهير والقنا قيض والخيل فى رهج منها وإعصار
وقد ورد البيت الأول فى الكتاب لسيبوية ١/ ٤٨
(٥) فى الأصول: «بالخير» فى مكان «بالخبز» والظاهر ما أثبت
22
فنصب على قولك: وجِئتَ بالسكَّر، فلمّا لَمْ يُظهر الفعل مع الواو نصب كما تأمر الرجل بالمرور على أخيه فتقول: أخاكَ أخاكَ تريد: امرر به.
وقوله: هؤُلاءِ بَناتِي [٧٨] قَالَ بعضهم: بَنات نفسه. ويُقال: بنات قومه. وَذَلِكَ جائزٌ فِي العربية لأن الله عَزَّ وَجَلَّ قَالَ (النَّبِيُّ «١» أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) وهو فِي بعض القراءة (وهو أب لَهُم) فهذا من ذلك.
وقوله: يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً [٧٢] وَفِي قراءة عبد الله (شَيْخٌ) فذكروا أنّها كانت بنت ثَمان وتسعين سنة، وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَام أكبر منها بسنة. ويُقال فِي قوله (رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ) البركات: السعادة.
وقوله: فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ [٧٤] ولم يقل: جادلنا. ومثله فِي الكلام لا يأتي إلا بفعل ماض كقولك. فلمّا أتاني أتيته. وقد يَجوز فلمّا أتاني أثبُ عَلَيْهِ كأنه قَالَ: أقبلت أَثِب عَلَيْهِ. وجداله إيَّاهم أَنَّهُ حين ذهبَ عَنْهُ الخوف قَالَ: ما خَطْبُكم أيُّها المرسلون، فلمّا أخبروهُ أنَّهم يريدونَ قوم لوط قَالَ: أتُهلكونَ قومًا فيهم لوط قالوا: نحن أعلم بمن فيها.
وقوله أَوَّاهٌ [٧٥] دعَّاء ويقال: هُوَ الَّذِي يتأوَّهُ من الذنوب. فإذا كانت مِنْ يتأوَّه «٢» من الذنوب فهي من أوِّهْ لَهُ وهي لغة فِي بني عَامِر أنشدني أَبُو الجراح:
فأوِّهْ من الذكرى إذا ما ذكرتها ومن بُعد أرض بيننا وسماء
(١) الآية ٦ سورة الأحزاب
(٢) أي من هذا الفعل وفى ا: «ممن»
أَوِّهْ على فَعِّلْ يقول فِي يَفْعَلُ «١» : يتأوَّه. ويَجوز فِي الكلام لِمَنْ قَالَ: أَوَّهْ مقصورًا «٢» أن يقول فِي يتفعّل يتأَوَّى ولا يقولها بالهاء.
وقوله: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ [٨٠] يقول: إلى عشيرة.
وقوله: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ [٨١] قراءتنا من أسريتُ بنصب الألف وهمزِهَا. وقراءة أهل «٣» المدينة (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ) من سَريت. وقوله: (بِقِطْعٍ) يقول: بظلمة من آخر الليل. وقوله: (إِلَّا امْرَأَتَكَ) منصوبة بالاستثناء: فأسْر بأهلك إلا امرأتَك. وقد كَانَ الْحَسَن يَرْفعها «٤» يعطفها على (أَحَدٌ) «٥» أي لا يلتفت منكم أحد إلّا امرأتك وليسَ فِي قراءة عبد الله (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ) وقوله:
(إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ).
لَمَّا أَتَوْا لُوطًا أخبروهُ أن قومهم «٦» هالكونَ من غَدٍ فِي الصبح، فقال لَهُم لوط: الآن الآن.
فقالت الملائكة: أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ.
وقوله: مِنْ سِجِّيلٍ [٨٢] يقال: من طين قد طُبخ حَتَّى صار بمنزلة الأرحاء (مَنْضُودٍ) يَقول:
يتلو بعضهُ بعضًا عليهم. فذلك نَضْدُه.
وقوله: مُسَوَّمَةً [٨٣] زَعموا أنَّها كانت مخطَّطة بِحمرة وسواد فِي بياض، فذلك تسويمها أي
(١) يريد المضارع. والأولى: «يتفعل» كالذى بعده
(٢) ش: «مهموزا» ويريد بالقصر سكون الهاء وحبسها عن الحركة والهاء فى هذه الصيغة للسكت فلذلك جاء المضارع: يتأوى، بخلاف الصيغة الأولى
(٣) سقط ما بين القوسين فى ا
(٤) كذا فى الأصول. والأولى: «قومه»
(٥) هى قراءة نافع وابن كثير وأبى جعفر
(٦) هى أيضا قراءة «ابن كثير وأبى عمرو»
علامتها «١». ثم قال (مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) يقول: من ظالِمي أمَّتك يا مُحَمَّد. ويُقال «٢» : ما هى من الظالمين يعنى قوم لوط الّذى لم يكن تخطئهم.
وقوله: إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ [٨٤] يقول: كثيرةً أموالُكم فلا تنقصوا المكيالَ وأموالكم كثيرة يُقال رخيصةً أسعارُكم (ويُقال «٣» ) : مدَّهِنين «٤» حَسنةً سحنتكم.
وقوله: بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ [٨٦].
يقول: ما أبقى لكم من الحلال خيرٌ لكم، ويقال بقيّة الله خير لكم أي مراقبة الله خير لكم.
وقوله: أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ويقرأ (أَصَلاتُكَ «٥» تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ [٨٧] معناهُ: أَوْ تأمرك أن نترك أن تفعل (فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا) فأن مردودة «٦» على (نترك).
وفيها وجه آخر تجعل الأمر كالنهي كأنه قَالَ: أصلواتك تأمرك بذا وتنهانا عَن ذا. وهي حينئذ مردودة عَلى (أن) الأولى لا إضمارَ فِيهِ كأنّك قلت: تنهانا أن نفعل فِي أموالنا ما نشاء كما تَقُولُ:
أضْرِبُكَ أن تسيئ كأنه قَالَ: أنْهَاكَ بالضربِّ عَن الإساءة. وتقرأ (أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنَا مَا تَشَاء) و (نشاء) «٧» جميعا.
(١) ب: «علاماتها»
(٢) ا: «بل» [.....]
(٣) سقط ما بين القوسين في ا
(٤) هذا الضبط من ا. والادهان استعمال الدهن أو التطلى به، وكان المعنى من الأول فان الدهن علامة الخصب، مقتضى الذي فى القاموس ضبطه: «مدهنين» بفتح الدال وتشديد الدال المفتوحة اسم مفعول من دهنه، وهم الذين تظهر عليهم آثار النعيم
(٥) هى قراءة حفص وحمزة والكسائي وخلف كما فى الإتحاف
(٦) يريد أنها متعلقة بنترك لا بتأمر
(٧) فى الكشاف أنها قراءة ابن أبى عبلة
وقوله: (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) استهزاء منهم بِهِ.
وقوله: لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي [٨٩].
يقول: لا تحملنكم عداوتي أن يُصيبكم. وقد يكون: لا يكسبنكم. وقوله: (وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) يقول: إنَّما هلكوا بالأمس قريبًا. ويُقال: إن دارهم منكم قريبة وقريب.
وقوله: أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا [٩٢] : رميتم بأمر الله وراء ظهوركم كما تَقُولُ: تعظّمون أمر رهطي وتتركونَ أن تعظّموا الله وتخافوه.
وقوله: مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ [٩٣] (مَن) فِي موضع رفع إذا جعلتها استفهامًا. ترفعها بعائد ذكرها. وكذلك قوله (وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ) وإِنَّما أدخلت العرب (هُوَ) فِي قوله (وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ) لأنَّهم لا يقولونَ: مَنْ قَائِمٌ وَلَا مَن قاعد، إنَّما كلامهم: من يقوم ومن قامَ أو من القائِم، فلمَّا لَمْ يقولوهُ لِمعرفة أو لِفعل أو يفعل أدخلوا هُوَ مع قائِم ليكونا جَميعًا فِي مقام فَعَل ويفعل لأنَّهما يقومان مقام اثنين. وقد يَجوز فِي الشعر وأشباهه من قائِم قَالَ الشاعر»
مَنْ شَارب مُرْبِح بالكَأس نَادَمني لا بالحَصُورِ وَلا فيها بسوَّار
وربما تهيَّبت العرب أن يستقبلوا مَنْ بنكرة فيخفضونها فيقولون: مِنْ رجلٍ يتصدَّق فيخفضونه على تأويل: هَل مِن رجلٍ يتصدق. وقد أنشدونا هذا البيت خَفْضًا ورفعًا:
مِنْ رسول إلى الثريّا ثأنى ضقت ذرعا بهجرها والكتاب «٢»
(١) هو الأخطل. والحصور: البخيل الممسك. والسوار: الذي تسور الخمرة فى رأسه سريعا فهو يعربد ويثب على من يشاربه. ويروى: «وشارب». ويروى: «بسآر» والسآر: الذي يسئر فى الشراب أي يبقى منه
(٢) من أبيات لعمر بن أبى ربيعة وانظر الديوان ٤٣٠
وإن جعلتهما مَنْ ومِن «١» فِي موضع (الَّذِي) نصبت كقوله (يعلم «٢» المفسد من المصلح) وكقوله (وَلَمَّا يَعْلَمِ «٣» اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ).
وقوله: مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ [١٠٠] فالحصيدُ كالزرع المحصُود. ويُقال: حَصَدهم بالسِّيف كما يُحصد الزرع.
وقوله: يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ [١٠٥] كتب بغير الياء وهو فِي موضع رفع، فإن أثبتَّ فِيهِ الياء إذا وصلت القراءة كَانَ صَوَابًا. وإن حذفتها فِي القطع والوصل كان صوابا. قد قرأ بذلك «٤» القرّاء فمر حَذفها. إذا وصل قَالَ: الياء ساكنة، وكلّ ياء أو واو تسكنَان وما قبل الواو مضموم وما قبل الياء مكسور فإن العرب تحذفهما وتَجتزئ بالضمة من الواو، وبالكسرة من الياء وأنشدَ فِي بعضُهم:
كفاكَ كفٌّ ما تُليق دِرْهمًا جُودًا وأخرى تُعطِ بالسيفِ الدَّمَا «٥»
ومَن وصل باليَاء وسكتَ بِحذفها قَالَ: هِيَ إذا وَصلتُ فِي موضع رفع فأثبتها وهي إذا سَكتُّ عليها تسكن فحذفتها. كما قيل: لَمْ يَرْم ولم يَقض. ومثله قوله: (مَا كُنَّا «٦» نَبْغِ) كُتبت بحذف الياء فالوجه فيها أن تثبت الياء إذا وصَلت وتحذفها إذا وقفت. والوجه الآخر أن تَحذفها فِي القطع والوصل، قرأ بذلك حمزة. وهو جائز.
(١) هما بدلان من الضمير فى (جعلتهما) يريد: (مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ). وهذا مقابل قوله فيما سبق: «فى موضع إذا جعلتها استفهاما»
(٢) الآية ٢٢٠ سورة البقرة
(٣) الآية ١٤٢ سورة آل عمران
(٤) قرأ بإثبات الياء وصلا نافع وأبو عمرو والكسائي وأبو جعفر. وأثبتها فى الوصل والوقف ابن كثير ويعقوب وقرأ الباقون بحذف الياء. وصلا ووقفا
(٥) يقال. ألاقه: حبسه. يصفه بالجود والغلظة على عدوه.
(٦) الآية ٦٤ سورة الكهف. وقد أثبت الياء فيها وصلا نافع وأبو عمرو والكسائي وأبو جعفر. وأثبتها فى الوصل والوقف ابن كثير ويعقوب. وحذفها وصلا ووقفا الباقون
وقوله: لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ [١٠٦] فالزفير أوَّلُ نَهِيقِ الحمار وشبهه، والشهيق من آخره.
وقوله: خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ [١٠٧]، [١٠٨].
يقول القائل: ما هَذَا الاستثناء وقد وعد الله أَهْلَ النار الخلود وأهلَ الجنَّة الخلود؟ ففي «١» ذَلِكَ معنيان أحدهما أن تَجْعَله استثناء يَستثنيه وَلَا يفعله كقولك: والله لأضربنّكَ إِلَّا أن أرى غير ذَلِكَ، وعزيمتك على ضربه، فكذلك قال (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) ولا يشاؤه والله أعلم، والقول الآخر أن العرب إذا استثنت شيئًا كبيرًا «٢» مع مثله أو مع ما هُوَ أكبرُ منه كَانَ مَعْنى إلَّا ومعنى الواو سواء، فمن ذَلِكَ قوله (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) سِوَى ما يشاء من زيادة الخلود فيجعل (إِلَّا) مكان (سِوَى) فيصلح. وكأنّه قَالَ: خالدينَ فيها مقدارَ ما كانت السموات وَكَانَت الأرض سوى ما زادهم من الخلود «٣» [و] الأبد. ومثله فِي الكلام أن تَقُولُ: لي عَلَيْكَ ألف إلا الألفين اللذين من قِبَل فلان أفلا ترى أَنَّهُ فِي المعنى: لي عَلَيْكَ سوى الألفين. وهذا أحَبّ الوجهين إليَّ، لأن الله عَزَّ وَجَلَّ لا خُلْف لوعده، فقد وصل الاستثناء بقوله (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) فاستدل على أن الاستثناء لهم بالخلود غير منقطع عنهم.
وقوله: وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ [١١١] قرأت القراء بتشديد (لَمَّا) وتَخفيفها وتشديد «٤» إن وتَخفيفها) فمن قَالَ (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا) جعل (ما) اسمًا للناس كما قَالَ (فَانْكِحُوا «٥» مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) ثُمَّ جعَلَ اللام التي فيها جَوَابًا لإنّ، وجعل اللام الّتى فى (لَيُوَفِّيَنَّهُمْ) لاما دخلت على نيَّة يمين فيها: فيما بين ما وصلتها كما تَقُولُ هذا مَن ليذهبنَّ، وعندى ما لغيره خير منه.
(١) شروع فى الجواب عن السؤال [.....]
(٢) سقط فى ا
(٣) زيادة من تفسير الطبري فى روايته لعبارة الفراء
(٤) سقط ما بين القوسين فى ا
(٥) الآية ٣ سورة النساء
28
ومثله (وَإِنَّ «١» مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ) وأمّا مَن شدّد (لَمّا) فإنه- والله أعلم- أراد: لِمن مَا لَيُوَفِّينَّهم، فلمّا اجتمعت ثلاث «٢» ميمَات حذف واحدة فبقيت اثنتان فأدغمت فِي صاحبتها كما قال الشاعر:
وإنى لممّا أُصدر الأمرَ وَجْهَهُ إذا هُوَ أعيا بالسبيل مصادرُه «٣»
ثُمَّ يُخفّف «٤» كما قرأ بعض القراء (والبغي «٥» يعظكم) بِحذف الياء (عند «٦» الياء) أنشدني الْكِسَائي:
وَأَشمتَّ الغداة بنا فأضحوا لَدَيَّ تَبَاشَرُونَ بِما لِقينَا
معناه (لديّ «٧» ) يتباشرونَ فحذف لاجتماع الياءات ومثله:
كأنّ من آخرها القادم مخرم نجد قارع المخارم «٨»
أراد: إلى القادم فحذف اللام عند اللام. وأمَّا مَن جعل (لَمَّا) بِمنزلة إلَّا فإنه وجه لا نعرفه وقد قالت العرب: بالله لمّا قمت عنا، وإلّا فمت عنا، فأمّا فى الاستثناء فلم يقولوه فِي شعر ولا غيره ألا ترى أن ذَلِكَ لو جاز لسمعت فِي الكلام: ذهب الناسَ لَمّا زيدا.
وأمّا الَّذِينَ خَفَّفوا (إن) فإنهم نصبوا كلا بِ (ليوفّينّهم)، وقالوا: كأنّا قلنا: وإن ليوفّينّهم
(١) الآية ٧٢ سورة النساء
(٢) وذلك أن نون (من) تقلب ميما
(٣) «بالسبيل» كذا فى الأصول. وفى الطبري: «بالنهيل» ويبدو أنه الصواب. وعليه ففى العبارة قلب أي أعيا النبيل الحاذق بمصادره.
(٤) أي فى البيت فيروى: «وإنى لما» كما هو فى الطبري.
(٥) الآية ٩٠ سورة النحل
(٦) سقط ما بين القوسين فى ا
(٧) سقط ما بين القوسين فى ا
(٨) ورد فى اللسان فى (قدم). وقادم الرحل: الخشبة التي فى مقدم كور البعير بمنزلة قربوس السرج ومخرم الأكمة والجبل منقطعه، وهى أفواه الفجاج. والفارع العالي.
29
كُلَّا. وهو وجه لا أشتهيه. لأن اللام إِنَّما «١» يقع الفعل الَّذِي بعدها عَلَى شيء قبله فلو رفعت كلّ لصلح ذَلِكَ كما يصلح أن تقول: إن زيد لقائِم ولا يصلح أن تَقُولُ: إن زيدًا لأضربُ لأن تأويلها كقولك: ما زيدًا إلا أضرب فهذا خطأ فِي إلَّا وَفِي اللام.
وقرأ الزهرىّ (وإنّ كلّا لمّا ليوفّينّهم) ينونها فجعل اللم «٢» شديدًا كما قَالَ (وَتَأْكُلُونَ «٣» التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا) فيكون فِي الكلام بِمنزلة قَوْلك: وإن كلا حقّا ليوفينهم، وإن كلا شديدًا ليوفينّهم. وإذا عجَّلت العرب باللام فِي غير موضعها أعادوها إِلَيْهِ كقولك: إنَّ زيدًا لإليكَ لمحسن، كَانَ موقع اللام فِي المحسن «٤»، فلمّا أدخلت فِي إليكَ أُعيدت فِي المحسن ومثله قول الشاعر:
ولو أنَّ قَوْمِي لَمْ يكونوا أَعِزَّة لَبَعْدُ لقد لاقيتَ لا بدّ مَصْرَعا «٥»
أدخلها فِي (بَعد) وليس بِموضعها ومثله قول أبي الجراح: إني لبحمد الله لصالِح.
وقوله: زُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ [١١٤] بضمّ اللام تَجعله واحدًا مثل الْحُلُم. والزُلَف جَمع زُلْفَة وزُلَف وهي قراءة العامَّة وهي ساعة من الليل ومعناهُ: طَرَفَيِ النَّهَارِ وصلاة الليل المفروضة: المغرب والعشاء وصلاة الفجر، وطرفي النهار: الظهر والعصر.
وقوله: فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ [١١٦] يقول لَمْ يكن منهم «٦» أحد كذلك إلا قليلًا أي هَؤُلَاءِ كانوا ينهونَ فنجوا. وهو استثناء على الانقطاع مِمّا قبله كما قَالَ عزّ وجل (إِلَّا «٧» قَوْمَ يُونُسَ) ولو كانَ رفعًا كَانَ صوابًا. وقوله: (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ)
(١) كذا فى الأصول. والمناسب: «لا» أو الأصل: «على شىء بعده» وقد يكون الأصل: «على شىء هو قبله» على كل شىء الفعل قبله. وراجع الطبري.
(٢) ا: «اللام» [.....]
(٣) الآية ١٩ سورة الفجر.
(٤) ا: «لمحسن»
(٥) فى الطبري: «مصرعى»
(٦) فى الأصول: «منكم» والمناسب ما أثبت
(٧) الآية ٩٨ سورة يونس.
Icon