اللغَة:
﴿عَمَدٍ﴾ العَمَد: الدعائم وهو اسم جمع وقيل: جمع عمود
﴿صِنْوَانٌ﴾ جمع صِنْو وهو الغصنُ الخارج عن أصل الشجرة وأصله المِثْلُ ومنه قيل للعمّ صِنْوٌ لمماثلته للأب، فإذا كان للشجرة
67
عدة فروع فهي صنوان
﴿الأغلال﴾ جمع غل وهو طوقٌ تُشدّ به اليد إلى العُنُق
﴿المثلات﴾ جمعَ مَثُلَة وهي العقوبة وسميت بذلك لما بين العقاب والمُعَاقب من المماثلة
﴿تَغِيضُ﴾ غاض الماءُ نقص أو غار
﴿وَسَارِبٌ﴾ الساربُ: الذاهب في سَرْبه أي طريقه بوضَح لنهار لا يستخفي عن الأنظار
﴿مُعَقِّبَاتٌ﴾ ملائكة يعقب بعضهم بعضاً أي يأتي بعضهم عقب بعض
﴿شَدِيدُ المحال﴾ القوة والإِهلاك والنّقمة.
التفسِير:
﴿المر﴾ إشارة إلى إعجاز القرآن وقال ابن عباس معناه: أنا الله أعلم وأرى
﴿تِلْكَ آيَاتُ الكتاب﴾ أي هذه آيات القرآن المعجز، الذي فاق كل كتاب
﴿والذي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الحق﴾ أي والذي أوحي إليك يا محمد في هذا القرآن هو الحق الذي لا يلتبس بالباطل، ولا يحتمل الشك والتردّد
﴿ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ أي ومع وضوحه وجلائه كذّب به أكثر الناس
﴿الله الذي رَفَعَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا﴾ أي خلقها مرتفعة البناء، قائمة بقدرته لا تستند على شيء حال كونكم تشاهدونها وتنظرونها بغير دعائم، وذلك دليل وجود الخلق المبدع الحكيم
﴿ثُمَّ استوى عَلَى العرش﴾ أي علا فوق العرش علواً يليق بجلاله من غير تجسيم ولا تكييفٍ ولا تعطيل
﴿وَسَخَّرَ الشمس والقمر كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ أي ذلَّل الشمس والقمر لمصالح العباد، كلٌّ يسير بقدرته تعالى إلى زمنٍ معيَّن هو زمن فناء الدنيا
﴿يُدَبِّرُ الأمر﴾ أي يصرِّف بحكمته وقدرته أمور الخلق وشئون الملكوت من إيجاد وإعدام، وإحياء وإماتة وغير ذلك
﴿يُفَصِّلُ الآيات﴾ أي يبيّنها ويوضّحها
﴿لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ﴾ أي لتصدقوا بلقاء الله، وتوقنوا بالمعاد إليه، لأن من قدر على ذسلك كلّه فهو قادرٌ على إحياء الإِنسان بعد موته
﴿وَهُوَ الذي مَدَّ الأرض﴾ أي هو تعالى بقدرته بسط الأرض وجعلها ممدودة فسيحة، وهذا لا ينافي كرويتها فإن ذلك مقطوعٌ به، والغرضُ أنه تعالى جعلها واسعة فسيحة ممتدة الآفاق ليستقر عليها الإِنسان والحيوان، ولو كانت كلها جبالاً وودياناً لما أمكن العيش عليها قال في التسهيل: ولا يتنافى لفظُ البسط والمدِّ مع التكوير، لأن كل قطعةٍ من الأرض ممدودةٌ على حِدتَها، وإنما التكوير لجملة الأرض
﴿وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ﴾ أي وخلق في الأرض جبالاً ثوابتَ رواسخ لئلا بأهلها كقوله
﴿أَن تَمِيدَ بِكُمْ﴾ [النحل: ١٥]
﴿وَأَنْهَاراً﴾ أي وجعل فيها الأنهار الجاريات {
68
وَمِن كُلِّ الثمرات جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثنين} أي جعل فيها من جميع أنواع الثمرات زوجين اثنين ذكراً وأنثى ليتمَّ بينهما أسباب الإِخصاب والتكاثر طبق سنته الحكيمة وقال أبو السعود: أي جعل من كل نوع من أنواع الثمرات الموجودة في الدنيا ضربين وصنفين، إمّا في اللون كالأبيض والأسود، أو في الطعم كالحلو والحامض، أو في القَدْر كالصغير والكبير، أو في الكيفيّة كالحارّ والبارد وما أشبه ذلك
﴿يُغْشِي اليل النهار﴾ أي يُلبسه إياه فيصير الجو مُظْلماً بعد ما كان مضيئاً
﴿إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ أي إنَّ في عجائب صنع الله لدلالات وعلامات باهرة على قدرته ووحدانيته لمن تأمل وتفكَّر، وخُصَّ
«المتفكرون» بالذكر لأنَّ ما احتوتْ عليه هذه الآيات من الصنيع العجيب لا يُدرك إلا بالتفكر
﴿وَفِي الأرض قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ﴾ أي في الأرض بقاعٌ مختلفةٌ متلاصقات قريبٌ بعضها من بعض قال ابن عباس: أرضٌ طيبة، وأرضٌ سَبْخة تُنْبتُ هذه، وهذه إلى جنبها لا تُنْبت
﴿وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ﴾ أي بساتين كثيرة من أشجار العنب
﴿وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ﴾ أي وفي هذه القطع المتجاورة أنواع الزروع والحبوب والنخيل والرطب، منها ما يَنْبُت منه من أصل واحدٍ شجرتان فأكثر، ومنها ما ينبت منه شجرة واحدة
﴿يسقى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِي الأكل﴾ أي الكل يسقى بماء واحدٍ، والتربة واحدة، ولكنَّ الثمار مختلفات الطعوم قال الطبري: الأرض الواحدة يكون فيها الخوخ، والكمثرى، والعنب الأبيضُ والاسود، بعضُها حلوٌ، وبعضُها حامض، وبعضها أفضل من بعض مع اجتماع جميعها على شربٍ واحد
﴿إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ أي علامات باهرة ظاهرة لمن عقل وتدبَّر، وفي ذلك ردٌّ على القائلين بالطبيعة
﴿وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ أي إن تعجب يا محمد من شيء فليس ما هو أعجب من قول الكفار أئذا متنا وأصبحنا رفاتاً هل سنبعث من جديد؟ فإن إنكارهم للبعث حقيقٌ أن يُتعجب منه، فإن الذي قدر على إنشاء ما ذكرنا من السماوات والأرض، والأشجار والثمار، والبحار والأنهار قادرٌ على إعادتهم بعد موتهم
﴿أولئك الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ﴾ أي هؤلاء الذين أنكروا البعث هم الجاحدون لقدرة الله
﴿وَأُوْلَئِكَ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ﴾ أي يُغلُّون بالسلاسل في أعنقاهم يوم القيامة
﴿وأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدونَ﴾ أي وهم في جهنم مخلدون فيها أبداً لا يموتون فيها ولا يُخْرجون
﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة قَبْلَ الحسنة﴾ أي يستعجلك المشركون يا محمد بالبلاء والعقوبة قبل الرخاء والعافية، استعجلوا ما هُدّدوا به من عذاب الدنيا استهزاءً
﴿وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ المثلات﴾ أي موقد مضت عقوباتُ أمثالهم من المكذبين، فما لهم لا يعتبرون ولا يتَّعظون؟
﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ﴾ أي وإن ربك لذو صفحٍ عظيم للناس، لا يعجّل لهم العقوبة وإن كانوا ظالمين بل يمهلهم بتأخيرها
﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب﴾ أي شديد العقاب لمن أصرَّ على المعاصي ولم يتب
69
ومن ذنوبه.
قرن تعالى بين سعة حلمه وشدة عقابه ليبقى العبد بين الرغبة والرهبة، والرجاء والخوف
﴿وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لولا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ﴾ أي ويقول المشركون من كفار قريش هلاّ أُنزل على محمد معجزة تدل على صدقه مثل معجزات موسى وعيسى!! قال في البحر: لم يعتدّوا بالآيات الخارقة المنزلة كانشقاق القمر، وانقياد الشجر، ونبع الماء من بين الأصابع وأمثال هذه المعجزات فاقترحوا عناداً آيات أخرى
﴿إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ جواب لما اقترحوا أي لستَ أنت يا محمد إلا محذّر ومبصِّر، شأنك شأن كل رسول قبلك، فلكل قوم نبيٌّ يدعوهم إلى الله وأما الآيات الخارقة فأمرها إلى مدبّر الكون والعباد
﴿الله يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى﴾ أي الله وحده الذي يعلم ما تحمله كل أنثى في بطنها هل هو ذكرٌ أم أنثى؟ تامٌ أم ناقص؟ حسنٌ أم قبيح
﴿وَمَا تَغِيضُ الأرحام﴾ أي وما تنقصه الأرحامُ بإلقاء الجنين قبل تمامه
﴿وَمَا تَزْدَادُ﴾ أي وما تزداد على الأشهر التسعة قال ابن عباس: ما تغيضُ بالوضع لأقلَّ من تسعة أشهر، وما تزداد بالوضع لأكثر من تسعة أشهر، وعنه المراد بالغيض: السقطُ الناقصُ، وبالازدياد: الولدُ التام
﴿وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ﴾ أي كلُّ شيء من الأشياء عند الله تعالى بقدر محدد لا يتجاوزه حسب المصلحة والمنفعة
﴿عَالِمُ الغيب والشهادة﴾ أي ما غاب عن الحسّ وما كان مشاهَداً منظوراً، فعلمهُ تعالى شاملٌ للخفيِّ والمرْئيِّ لا يخفى عليه شيء
﴿الكبير المتعال﴾ أي العظيم الشأن الذي كل شيء دونه المستعلي على كل شيء بقدرته المنزَّه عن المشابهة والمماثلة
﴿سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ القول وَمَنْ جَهَرَ بِهِ﴾ أي يستوي في علمه تعالى ما أضمرتْهُ القلوبُ وما نطقتْ به الألسنة
﴿وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ باليل وَسَارِبٌ بالنهار﴾ أي ويستوي عنده كذلك من هو مستترٌ بأعماله في ظلمات الليل وهو في غاية الاختفاء، ومن هو ذاهبٌ في طريقه بوَضَح النهار مستعلنٌ لا يستخفي فيما يعمل وهو في غاية الظهور
﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ﴾ أي لهذا الإِنسان ملائكة موكَلةٌ به تتعقب في حفظه يأتي بعضُهم بعَقِب بعض كالحَرَس في الدوائر الحكومية
﴿مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ﴾ أي من أمام الإِنسان ومن ورائه
﴿يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله﴾ أي يحفظونه من الأخطار والمضارّ بأمره تعالى قال مجاهد: ما من عبدٍ إلا وملكٌ موكلٌ به يحفظه في نومه ويقظته من الجنّ والإِنس والهوام
﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ أي لا يزيل نعمته عن قومٍ ولا يسلبهم إيّاها إلا إذا بدّلوا أحوالهم الجميلة بأحوال قبيحة، وهذه من سنن الله الاجتماعية أنه تعالى لا يبدل ما بقومٍ من عافيةٍ ونعمة، وأمنٍ وعزة إلا إذا كفروا تلك النعم وارتكبوا المعاصي وفي الأثر
«أوحى الله إلى نبيّ من أنبياء بني إسرائيل أن قلْ لقومك: إنه ليس من أهل قرية، ولا أهل بيت يكونون على طاعة الله فيتحولون منها إلى معصية الله إلا حوّل الله عنهم ما يحبون إلى ما يكرهون» ﴿وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سواءا﴾ أي وإذا أراد تعالى هلاك قومٍ أو عذابهم
﴿فَلاَ مَرَدَّ لَهُ﴾ أي لا يقدر على ردّ ذلك أحد
﴿وَمَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ﴾ أي ليس لهم من دون الله وليٌّ يدفع عنهم العذاب والبلاء
﴿هُوَ الذي يُرِيكُمُ البرق﴾ هذا بيانٌ لآثار قدرته تعالى المنبثّة في الكون أي يريكم أيها الناس البرق الخاطف من خلال
70
السحاب
﴿خَوْفاً وَطَمَعاً﴾ قال ابن عباس: خوفاً من الصواعق وطعماً في الغيث، فإن البرق غالباً ما يعقبه صواعق مدمّرة، وقد يكون وراءه المطر المدرار الذي به حياة البلاد والعباد
﴿وَيُنْشِىءُ السحاب الثقال﴾ أي وبقدرته كذلك يخلق السحب الكثيفة المحمَّلة بالماء الكثير
﴿وَيُسَبِّحُ الرعد بِحَمْدِهِ والملائكة مِنْ خِيفَتِهِ﴾ أي يسبّح الرعد له تسبيحاً مقترناً بحمده والثناء عليه، وتسبّح له الملائكة خوفاً من عذابه، وتسبيحُ الرعد حقيقةٌ دلَّ عليها القرآن فنؤمن بها وإن لم نفهم تلك الأصوات فهو تعالى لا يخبر إلا بما هو حقٌّ كما قال
﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾ [الإسراء: ٤٤]
﴿وَيُرْسِلُ الصواعق فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ﴾ أي يرسل الصواعق المدمّرة نقمة يهلك بها من شاء
﴿وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي الله﴾ أي وكفار مكة يجادلون في وجود الله ووحدانيته وفي قدرته على البعث
﴿وَهُوَ شَدِيدُ المحال﴾ أي وهو تعالى شديد القوة والبطش والنكال، القادر على الانتقام ممن عصاه
﴿لَهُ دَعْوَةُ الحق﴾ أي لله تعالى تتجه الدعوةُ الحق فهو الحقيق بأن يُعبد وحده بالدعاء والالتجاء
﴿والذين يَدْعُونَ مِن دُونِهِ﴾ أي والآلهة الذين يدعوهم الكفار من دون الله
﴿لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ﴾ أي لا يستجيبون لهم دعاءً، ولا يسمعون لهم نداءً
﴿إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى المآء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ﴾ أي إلا كمن يبسط كفيه للماء من بعيد يدعوه ويناديه ليصل الماء إلى فمه، والماءُ جمادٌ لا يُحسُّ ولا يسمع قال أبو السعود: شبّه حال المشركين في عدم حصولهم عند دعاء آلهتهم على شيء أصلاً بحال عطشان هائم لا يدري ما يفعل، قد بسط كفيه من بعيد إلى الماء يبغي وصوله إلى فمه وليس الماء ببالغ فمه أبداً لكونه جماداً لا يشعر بعطشه
﴿وَمَا دُعَآءُ الكافرين إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ﴾ أي ما دعاؤهم والتجاؤهم لآلتهم إلا في ضياع وخسار لأنه لا يُجدي ولا يفيد
﴿وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات والأرض﴾ أي ولله وحده يخضع وينقاد أهل السماوات وأهل الأرض
﴿طَوْعاً وَكَرْهاً﴾ أي طائعين وكارهين قال الحسن: المؤمن يسجد طوعاً، والكافر يسجد كرْهاً أي في حالة الفزع والاضطرار
﴿وَظِلالُهُم بالغدو والآصال﴾ أي وتسجد ظلالُهم أيضاً لله في أول النار وأواخره، والغرضُ الإِخبار عن عظمة الله تعالى وسلطانه الذي قهر كلَّ شيء، ودان له كل شيء، بأنه ينقاد لجلاله جميع الكائنات حتى ظلال الآدمييّن، والكل في نهاية الخضوع والاستسلام لأمره تعالى
﴿قُلْ مَن رَّبُّ السماوات والأرض﴾ أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين مَنْ خالق السماوات والأرض ومدبّر أمرهما؟ والسؤال للتهكم والسخرية بما عبدوا من دون الله
﴿قُلِ الله﴾ أي قل لهم تقريعاً وتبكيتاً: اللهُ خالقُهما
﴿قُلْ أفاتخذتم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ لاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً﴾ أي قل لهم - إلزاماً لإِقامة الحجة عليهم - أجعلتم لله شركاء وعبدتموهم من دونه وهم لا يقدرون على نفع أنفسهم، ولا على دفع الضُرّ عنها، فكيف يستطيعونه لغيرهم؟
﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعمى والبصير أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظلمات والنور﴾ هذا تمثيلٌ لضلالهم في عبادة غير الله، والمراد بالأعمى الكافر وبالبصير المؤمن، وبالظلمات الضلالُ وبالنور الهدى أي كما لا يستوي الأعمى والبصير، وكما لا تستوي الظلمات والنور، كذلك لا يستوي المؤمن الذي يبصر
71
ضياء الحق، والمشرك الذي عمي عن رؤية ذلك الضياء، فالفارق بين الحق والباطل واضحٌ وضوح الفارق بين الأعمى والبصير، والفارق بين الإيمان والضلال ظاهر ظهور الفارق بين النور والظلام
﴿أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الخلق عَلَيْهِمْ﴾ هذا من تمام الاحتجاج عليهم والتهكم بهم أي أم اتخذ هؤلاء المشركون آلهةً خلقوا مخلوقاتٍ كالتي خلقها الله فالتبس الأمر عليهم فلا يدرون خلق الله مِن خلق آلهتهم؟ وهو تهكم لاذع فإنهم يرون كل شيء من خلق الله، ويرون هذه الآلهة المزعومة لم تخلق شيئاً ثم بعد هذا كلّه يعبدونها من دون الله، وذلك أسخف وأحط ما تصل إليه عقول المشركين، ولما أقام الحجة عليهم جاء بهذا البيان الواضح
﴿قُلِ الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الواحد القهار﴾ أي الله الخالق لجميع الأشياء لا خالق غيره، وهو المنفرد بالألوهية والربوبية، الغالب لكل شيء، وجميعُ الأشياء تحت قدرته وقهره.
البَلاغَة: في الآيات الكريمة من وجوه الفصاحة والبيان والبديع ما يلي:
١ - الإِشارة بالبعيد عن القريب في
﴿تِلْكَ آيَاتُ الكتاب﴾ تنزيلاً لها منزلة البعيد للدلالة على علو شأنها ورفعة منزلتها و (أل) في الكتاب للتفخيم أي الكتاب العجيب الكامل في إعجازه وبيانه.
٢ - الاستعارة التبعية في
﴿يُغْشِي اليل النهار﴾ شبّه إزالة نور النهار بواسطة ظلمة الليل بالغطاء الكثيف واستعار لفظ
﴿يُغْشِي﴾ المشير إلى تغطية الأشياء الظاهرة بالأغطية الحسية للأمور المعنوية.
٣ - الطباق في
﴿تَغِيضُ.... تَزْدَادُ﴾ وفي
﴿الغيب والشهادة﴾ وفي
﴿أَسَرَّ.... جَهَرَ﴾ وفي
﴿مُسْتَخْفٍ.... وَسَارِبٌ﴾ لأن السارب الظاهر وفي
﴿خَوْفاً وَطَمَعاً﴾ وفي
﴿طَوْعاً وَكَرْهاً﴾ وكلها من المحسنات البديعية اللفظية.
٤ - الإِيجاز بالحذف في
﴿قُلِ الله﴾ أي اللهُ خالقُ السماوات والأرض.
٥ - التشبيه التمثيلي في
﴿كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ﴾ شبَّه عدم استجابة الأصنام للداعين لها بعدم استجابة الماء لباسط كفيه إليه من بُعْد فوجه الشبه منتزع من متعدد.
٦ - الاستعارة في
﴿هَلْ يَسْتَوِي الأعمى والبصير أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظلمات والنور﴾ استعار لفظ الظلمات والنور للفكر والإِيمان وكذلك لفظ الأعمى للمشرك الجاهل والبصير للمؤمن العاقل.
تنبيه: سميت الملائكة معقبات لأنهم يتعاقبون على أعمال العباد بالليل والنهار كما في البخاري
«يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار فيجتمعون في صلاة الفجر والعصر... » الحديث.
فَائِدَة: روي عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه
«أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان إذا سمع صوت الرعد يقول:» سبحان من يسبّح الرعد بحمده والملائكة من خيفته وهو على كل شيء قدير «وكان أبو هريرة يقول من قالها فأصابته صاعقةٌ فعليَّ ديته.
72
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى في الآيات السابقة أنَّ في الأرض دعوتين: دعوة الحق، ودعوة الباطل، وذكر أن دعوة الله هي دعوة الحق، ودعوة ما يعبدون من دونه هي دعوة الباطل... ذكر تعالى هنا مثلين ضربهما للحق وأهله، والباطلِ وحزبه، ليتضح الفرق بين الهدى والضلال، والرشد والغيّ، ثم أعقبه بذكر مآل المؤمنين في دار النعيم، والكافرين في دار الجحيم.
73
اللغَة:
﴿زَبَداً﴾ الزبد: الغثاء الذي يحمله السيل
﴿رَّابِياً﴾ عالياً منتفخاً
﴿جُفَآءً﴾ مضمحلاً متلاشياً لا منفعة فيه ولا بقاء له يقال: جفا الماء بالزبد إذا قذفه ورمى به
﴿المهاد﴾ الفِراش وأصله المكان الممهَّد الموطأ للنوم والراحة
﴿وَيَدْرَءُونَ﴾ يدفعون والدرءُ: الدفع
﴿عقبى﴾ العاقبة ويسمى الجزاء على الفعل عقبى لأنه يكون عقب الفعل
﴿عَدْنٍ﴾ استقرار وثبات وخلود يقال: عَدَن بالمكان إذا أقام به
﴿يَبْسُطُ﴾ يوسّع
﴿يَقَدِرُ﴾ يضيّق
﴿مَتَاعٌ﴾ كل شيء يتمتع به إلى أجل ثم ينتهي ويفنى
﴿طوبى﴾ فرحٌ وقرة عين قال الزمخشري: مصدر من طاب كبشرى وزلفى ومعناه أصبتَ خيراً وطيباً
﴿يَيْأَسِ﴾ اليأسُ: القنوط من الشيء
﴿أَمْلَيْتُ﴾ أمهلتُ يقال: أملى الله له إذا أمهله وطوَّل له المدة
﴿وَاقٍ﴾ اسم فاعل من وقى إذا دفع الأذى والضر عنه.
سَبَبُ النزول: قال ابن عباس: نزلت في كفار قريش حين قال لهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: اسجدوا للرحمن قالوا: وما الرحمن؟ أنسجد لما تأمرنا؟ فأنزل الله
﴿وَهُمْ يَكْفُرُونَ بالرحمن قُلْ هُوَ رَبِّي لا إله إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ﴾.
التفسِير:
﴿أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً﴾ أي أنزل تعالى من السماء مطراً
﴿فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا﴾ أي فجرت مياه الأودية بمقدار سعتها كل بحَسَبه، فالكبير بمقدار كبره، والصغير بمقدار صغره
﴿فاحتمل السيل زَبَداً رَّابِياً﴾ أي حمل السيل الذي حدث من الأمطار زبداً عالياً فوقه وهو ما يحمله السيل من غثاء، ورغوة تظهر على وجه الماء قال الطبري: هذا مثلٌ ضربه الله للحق والباطل، والإيمان والكفر، فمثل الحق في ثباته، والباطل في اضمحلاله، مثلُ الماء الذي أنزله الله من السماء إلى الأرض، فاحتمل السيل زبداً عالياً، فالحق هو الماء الباقي الذي يمكث في الأرض، والزبد الذي لا يُنتفع به هو الباطل، وهذا أحد مثلي الحق والباطل، والمثل الآخر قوله تعالى
﴿وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار ابتغآء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ﴾ أي ومن الذي يوقد عليه الناس من المعادن كالذهب والفضة والنحاس، مما يُسبك في النار طلب الزينةِ أو الأشياء التي يُنتفع بها كالأواني زبدٌ مثل زبد السيل، لا يُنْتفع به كما لا يُنْتفع بَزَبد السيل
﴿كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل﴾ أي كذلك يضرب الله المَثَل للحق والمَثَل للباطل، فمثلُ الحق في ثباته واستقراره كمثل الماء الصافي الذي يستقر في الأرض فينتفع منه الناس، ومثل الباطل في زواله واضمحلاله كمثل الزبد والغثاء الذي يقذف به الماء يتلاشى ويضمحل
﴿فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً﴾ أي فأما الزبد الذي لا خير فيه مما يطفو على وجه الماء والمعادن فإنه يرمي به السيل ويقذفه ويتفرق ويتمزّق ويذهب في جانبَي الوادي
﴿وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض﴾ أي وأمّا ما ينتفع الناس به الماء الصافي، والمعدن الخالص فيبقى ويثبت في الأرض
﴿كذلك يَضْرِبُ الله الأمثال﴾ أي مِثْلَ المَثَلين السابقين يبيّن الله الأمثال
74
للحق والباطل، والهدى والضلال ليعتبر الناس ويتعظوا
﴿لِلَّذِينَ استجابوا لِرَبِّهِمُ الحسنى﴾ أي للمؤمنين الذين استجابوا لله بالإيمان والطاعة المثوبةُ الحسنى وهي الجنة دار النعيم
﴿والذين لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ﴾ أي لم يجيبوا ربهم إلى الإيمان به وهم الكافرون
﴿لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً﴾ أي لو كان لهم جميع ما في الدنيا من الأموال
﴿وَمِثْلَهُ مَعَهُ﴾ أي ومثلَ جميع ما في الدنيا
﴿لاَفْتَدَوْاْ بِهِ﴾ أي لبذلوا كل ذلك فداءً لأنفسهم ليتخلصوا من عذاب الله
﴿أولئك لَهُمْ سواء الحساب﴾ أي لهم الحساب السيء قال الحسن: يُحاسبون بذنوبهم كلها لا يُغفر لهم منها شيء
﴿وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ﴾ أي المكان الذي يأوون إليه يوم القيامة نار جهنم
﴿وَبِئْسَ المهاد﴾ أي بئس هذا المستقر والفِراش الممهد لهم في النار
﴿أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الحق كَمَنْ هُوَ أعمى﴾ الهمزة للاستفهام الإنكاري أي هل يستوي من آمن وصدَّق بما نزل عليك يا محمد ومن بقي يتخبط في ظلمات الجهل والضلال لا لُبَّ له كالأعمى؟ والمراد به عمى البصيرة قال ابن عباس نزلت في حمزة وأبي جهل
﴿إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الألباب﴾ أي إنما يتعظ بآيات الله ويعتبر بها ذوو العقول السليمة، ثم عَّدد تعالى صفاتهم فقال
﴿الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله﴾ أي يتمون عهد الله الذي وصاهم به وهي أوامره ونواهيه التي كلَّف بها عباده
﴿وَلاَ يَنقُضُونَ الميثاق﴾ أي لا يخالفون ما وثقوه على أنفسهم من العهود المؤكدة بينهم وبين الله، وبين العباد
﴿والذين يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ﴾ أي يصلون الأرحام التي أمر الله بصلتها
﴿وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ﴾ أي يهابون ربهم إجلالاً وتعظيماً
﴿وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ﴾ أي يخافون الحساب السيء المؤدي لدخول النار، فهم لرهبتهم جادّون في طاعة الله، محافظون على حدوده
﴿وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابتغاء وَجْهِ رَبِّهِمْ﴾ أي صبروا على المكاره طلباً لمرضاة الله
﴿وَأَقَامُواْ الصلاة﴾ أي أدُّوا الصلاة المفروضة بحدودها في أوقاتها
﴿وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً﴾ أي أنفقوا بعض أموالهم التي أوجبها الله عليهم في الخفاء والعلانية
﴿وَيَدْرَءُونَ بالحسنة السيئة﴾ أي يدفعون الجهلَ بالحلم والأذى بالصبر وقال ابن عباس: يدفعون بالعمل الصالح السيء من الأعمال بمعنى يفعلون الحسنات ليدرءوا بها السيئات وفي الحديث
«وأتبع السيئةَ الحسنة تمحها» ﴿أولئك لَهُمْ عقبى الدار﴾ أي العاقبة المحمودة في الدار الآخرة وهي الجنة وقد جاء تفسيرها في قوله
﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ﴾ أي جنات إقامة خالدة يدخلها أولئك الأبرار ومن كان صالحاً من آبائهم ونسائهم وأولادهم، ليأنسوا بلقائهم ويتمَّ بهم سرورهم، وإن لم يكونوا يستحقون
75
هذه المنازل العالية بأعمالهم، فترفع منازل هؤلاء إكراماً لأولئك وذلك فضل الله، ثم إنَّ لهم إكراماً آخر بيّنه بقوله
﴿وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ﴾ أي والملائكةُ تدخل عليهم للتهنئة من كل باب من أبواب الجنة يقولون لهم
﴿سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ﴾ أي سلمتم من الآفات والمحن بصبركم في الدنيا، ولئن تعبتم فيما مضى فلقد استرحتم الساعة، وهذه بشارة لهم بدوام السلامة
﴿فَنِعْمَ عقبى الدار﴾ أي نعمت هذه العاقبة الحميدة عاقبتكم وهي الجنة بدل النار، ولما ذكر تعالى أوصاف المؤمنين التسع أعقبه بذكر أوصاف الكافرين الذميمة فقال
﴿والذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾ أي ينقضون عهودهم بعدما وثقوا على أنفسهم لله أن يعملوا بما عهد إليهم من طاعته والإيمان به
﴿وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ﴾ أي يقطعون الرحم التي أمر الله بوصلها
﴿وَيُفْسِدُونَ فِي الأرض﴾ ﴿أولئك لَهُمُ اللعنة﴾ أي أولئك الموصوفون بما ذُكر من القبائح لهم البعد من رحمته، والطردُ من جنته
﴿وَلَهُمْ سواء الدار﴾ أي لهم ما يسوءهم في الدار الآخرة وهو عذاب جهنم على عكس المتقين
﴿الله يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ﴾ أي يوسّع على من يشاء من عباده ويضيّق على من يشاء حسب الحكمة والمصلحة
﴿وَفَرِحُواْ بالحياة الدنيا﴾ أي وفرح هؤلاء المشركون بنعيم الدنيا فرح أشَر وبطر، وهو إخبار في ضمنه ذم وتسفيه لمن فرح بالدنيا ولذلك حقّرها بقوله
﴿وَمَا الحياة الدنيا فِي الآخرة إِلاَّ مَتَاعٌ﴾ أي قليل وشيء حقير بالنظر إلى الآخرة
﴿وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ﴾ أي ويقول كفار مكة هلاّ أُنزل على محمد معجزة من ربه مثل معجزة موسى في فلق البحر، ومعجزة عيسى في إحياء الموتى ونحو ذلك
﴿قُلْ إِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَآءُ ويهدي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ﴾ أي قل لهم يا محمد الأمر بيد الله وليس إليَّ، يُضلُّ من يشاء إضلاله فلا تغني عنه الآياتُ والنُذُّر شيئاً، ويرشد إلى دينه من أراد هدايته لأنه رجع إلى ربه بالتوبة والإِنابة قال في التسهيل: خرج بالكلام مخرج التعجب حين طلبوا آية والمعنى قد جاءكم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالقرآن وآياتٍ كثيرة فعميتُم عنها، وطلبتم غيرها، وتماديتم على الكفر فإنه تعالى يضل من يشاء مع ظهور الآيات، ويهدي من يشاء دون ذلك
﴿الذين آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله﴾ هذا بدلٌ والمعنى يهدي أهل الإِنابة وهم الذين آمنوا وتسكن وتستأنس قلوبهم بذكر الله وتوحيده، وجيء بصيغة المضارع لإِفادة دوام الاطمئنان واستمراره
﴿أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب﴾ أي ألا فانتبهوا أيها القوم فإن بذكر الله تستأنس وتسكن قلوب المؤمنين، فلا يشعرون بقلق واضطراب من سوء العقاب، على عكس الذين أذا ذكر الله اشمأزتْ قلوبُهم
﴿الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات طوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ﴾ أي أما المؤمنون أهل الأعمال الصالحة فقرة عينٍ لهم ونعم ما يلقون من الهناءة والسعادة في المرجع والمنقلب قال ابن عباس:
﴿طوبى لَهُمْ﴾ فرحٌ وقرة عين
﴿كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ في أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَآ أُمَمٌ﴾ أي كما أرسلنا الأنبياء من قبلك كذلك أرسلناك يا محمد في أمة قد مضت قبلها أمم كثيرة، فهي آخر الأمم وأنتَ خاتم الأنبياء
﴿لِّتَتْلُوَاْ عَلَيْهِمُ الذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ﴾ أي لتبلّغهم هذا الوحي العظيم والذكر الحكيم
﴿وَهُمْ يَكْفُرُونَ بالرحمن﴾ أي والحال أنهم يكفرون بالرحمن الذي وسعت رحمته كل شيء {قُلْ هُوَ رَبِّي لا
76
إله إِلاَّ هُوَ} أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين إن الرحمن الذي كفرتم به وأنكرتم معرفته هو ربي الذي آمنتُ به لا معبود لي سواه
﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ﴾ أي عليه وحده اعتمدت، وإليه توبتي ومرجعي فيثيبني على مجاهدتكم، والغرضُ تسلية النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مما يلقاه من كفار قريش من الجحود والعناد فقد كذَّب قبلهم الأمم
﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الجبال﴾ أي لو كان كتابٌ من الكتب المنزّلة سُيرت بتلاوته الجبال وزعزعت عن أماكنها
﴿أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرض﴾ أي شُققت به الأرض حتى تتصدَّع وتصير قطعاً
﴿أَوْ كُلِّمَ بِهِ الموتى﴾ أي خوطبت به الموتى حتى أجابت وتكلمت بعد أن أحياها الله بتلاوته عليها، وجواب
﴿لَوْ﴾ محذوف تقديره: لكان هذا القرآن، لكونه غايةً في الهداية والتذكير، ونهايةً في الإِنذار والتخويف وقال الزجاج: تقديره
«لما آمنوا» لغلوهم في المكابرة والعناد، وتماديهم في الضلال والفساد
﴿بَل للَّهِ الأمر جَمِيعاً﴾ بلْ للإضراب والمعنى: لو أن قرآناً فُعل به ما ذُكر لكان ذلك هذا القرآن، ولكنَّ الله لم يجبهم إلى ما اقترحوا من الآيات، لأنه هو المالك لجميع الأمور والفاعل لما يشاء منها من غير أن يكون لأحدٍ عليه تحكّمٌ أو اقتراح
﴿أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذين آمنوا أَن لَّوْ يَشَآءُ الله لَهَدَى الناس جَمِيعاً﴾ أي أفلم يقنط وييأس المؤمنون من إيمان الكفار، ويعلموا أنه تعالى لو شاء هدايتهم لهداهم لأن الأمر له، ولكنْ قضت الحكمة أن يكون بناء التكليف على الاختيار
﴿وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ﴾ أي ولا يزال كفار مكة يصيبهم بسوء أعمالهم وكفرهم داهيةٌ تقرع أسماعهم وتقلق بالهم من صنوف البلايا والمصائب
﴿أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ﴾ أي أو تحلُّ القارعة والداهية قريباً من ديارهم فيفزعون منها ويتطاير إليهم شررها
﴿حتى يَأْتِيَ وَعْدُ الله﴾ بإظهار الإِسلام وانتصارك عليهم بفتح مكة
﴿إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد﴾ أي لا يخلف وعده لرسله وأوليائه بنصرهم على أعدائه
﴿وَلَقَدِ استهزئ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ﴾ تسلية وتأنيس للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أي كما استهزأ بك المشركون فقد استهزأ المجرمون برسلهم وأنبيائهم
﴿فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ﴾ أي أمهلتهم وتركتهم في أمنٍ وَدَعة ثم أخذتهم بالعذاب
﴿فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ﴾ أي فكيف كان عقابي لهم على الكفر والتكذيب؟
﴿أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ على كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾ أي أفمن هو رقيب حفيظ على عمل كل إنسان لا يخفى عليه شيء من أعمال العباد وهو الله تعالى، والخبر محذوف تقديره: كمن ليس بهذه الصفة من الأصنام التي لا تسمع ولا تنفع ولا تملك من الأمر شيئاً قال الفراء: وتُرك جوابُه لأن المعنى معلومٌ وقد بيّنه بعد هذا بقوله
﴿وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ﴾ كأنه قيل: هل الله كشركائهم؟ وقال الزمخشري: هذا احتجاجٌ عليهم في إشراكهم بالله يعني أفالله الذي هو قائم رقيب على كل نفس صالحة أو طالحة بما كسبت من خير أو شر وقد أعدَّ لكلٍ جزاءه كمن ليس كذلك
﴿وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ قُلْ سَمُّوهُمْ﴾ أي وجعل المشركون آلهة عبدوها
77
معه من أصنام وأنداد في منتهى العجز والحقارة والجهالة، قل لهم يا محمد: سمّوهم لنا وصفوهم لننظر هل لهم ما يستحقون به العبادة والشركة مع الله؟
﴿أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الأرض﴾ أي أم تخبرون الله بشركاء لا يعلمهم سبحانه وهو استفهام للتوبيخ
﴿أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ القول﴾ أي أم تسمونهم شركاء بظنٍ باطلٍ فاسد لا حقيقة له، لفرط الجهل وسخافة العقل
﴿بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ﴾ أي زيَّن لهم الشيطان ذلك الكفر والضلال
﴿وَصُدُّواْ عَنِ السبيل﴾ أي مُنعوا عن طريق الهدى
﴿وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ أي ومن يضلله الله فما له أحدٌ يهديه
﴿لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الحياة الدنيا﴾ أي لهؤلاء الكفرة عذاب عاجل في هذه الحياة الدنيا بالقتل والأسر وسائر المحن
﴿وَلَعَذَابُ الآخرة أَشَقُّ﴾ أي ولعذابهم في الآخرة أثقل وأشد إيلاماً من عذاب الدنيا
﴿وَمَا لَهُم مِّنَ الله مِن وَاقٍ﴾ أي وليس لهم من يحميهم من عذاب الله أو يدفع عنهم سخطه وانتقامه.
البَلاَغَة: ١ -
﴿أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ..﴾ الآية شبّه تعالى الحق والباطل بتشبيه رائع يسمى
«التشبيه التمثيلي» لأن وجه الشبه فيه منتزعٌ من متعدد، فمثَّل الحق بالماء الصافي الذي يستقر في الأرض، والجوهر الصافي من المعادن الذي به ينتفع العباد، ومثَّل الباطل بالزبد والرغوة التي تظهر على وجه الماء، والخبث من الجوهر الذي لا يلبث أن يتلاشى ويضمحل، والصورة التي توحي بها الآية
«صورة الحق والباطل» وهما في صراع كالزبد الذي تتقاذفه الأمواج
﴿فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض﴾ وهو تمثيل في منتهى الروعة والجمال.
٢ - ﴿فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا﴾ مجاز عقلي من إسناد الشيء لمكانه والأصل فسالت مياه الأودية.
٣ - ﴿كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل﴾ فيه إيجاز بالحذف أي أمثال الحق وأمثال الباطل.
٤ - ﴿لِلَّذِينَ استجابوا | والذين لَمْ يَسْتَجِيبُواْ﴾ بينهما طباق السلب. |
٥ - ﴿كَمَنْ هُوَ أعمى﴾ شبّه الجهل والكفر بالعمى على سبيل الاستعارة التبعية لأن المراد بالأعمى الجاهل الكافر.
٦ - ﴿سِرّاً وَعَلاَنِيَةً﴾ بينهما طباق وكذلك بين
﴿الحسنة السيئة﴾ و
﴿يَبْسُطُ وَيَقَدِرُ﴾ و
﴿يُضِلُّ ويهدي﴾ للتضاد بين اللفظين.
٧ - ﴿إِلاَّ مَتَاعٌ﴾ أي إلا مثل المتاع الذي يستمتع به الإنسان في الحاجات الموقتة ففيه تشبيه بليغ لحذف الأداة ووجه الشبه.
فَائِدَة: بيَّن تعالى في قوله
﴿وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ﴾ أن النسب لا ينفع إذا لم يحصل معه العمل الصالح، وفيه قطع للأطماع الفارغة لمن يتمسك بمجرد حبل الأنساب.
تنبيه: قال الإمام الطيبي في قوله تعالى
﴿أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ على كُلِّ نَفْسٍ﴾ في هذه الآية احتجاج بليغ مبنيٌّ على فنون من علم البيان أولها: التوبيخ لهم على قياسهم الفاسد في عبادة غير الله ثانيها: وضع الظاهر موضع الضمير
﴿كَسَبَتْ وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ﴾ تنبيهاً على ضلالهم في جعل شركاء لمن هو فردٌ واحد لا يشاركه أحد في اسمه ثالثها: إنكار لوجود الشركاء على وجه برهاني
﴿قُلْ سَمُّوهُمْ﴾ رابعها: نفي الشيء بنفي لازمه
﴿أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ﴾ خامسها: الاحتجاج عليهم بطريق التدرج لبعثهم على التفكر
﴿أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ القول﴾ أي أتقولون بأفواهكم من غير روية ولا تفكير ببطلان ما
78
تقولون؟ فكان هذا الاحتجاج منادياً على نفسه بالإعجاز وأه ليس من كلام البشر.
79
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى ما أعدَّ للكفار في الآخرة ذكر ما أعد للمؤمنين في جنات النعيم، ثم توعد المشركين بالعذاب الأليم، وختم السورة الكريمة ببيان صدق رسالته عليه السلام بشهادة الله تعالى وشهادة المؤمنين من أهل الكتاب.
اللغَة:
﴿الأحزاب﴾ الطوائف المتفرقة من أحزاب اليهود والنصارى سموا بذلك لأنهم جماعات متفرقة لا تجمعهم عقيدة واحدة
﴿مَآبِ﴾ أي مآبي بمعنى مرجعي
﴿يَمْحُواْ﴾ المحو: إزالة الأثر من كتابة أو غيرها وعكسه الإِثبات
﴿أُمُّ الكتاب﴾ أصل كل الكتب والمراد منه علم الله أو اللوح المحفوظ
﴿البلاغ﴾ اسم بمعنى التبليغ
﴿مَكَرَ﴾ المكرُ: تدبير أمرٍ في خفاء، وقد يكون في الخير وقد يكون في الشر.
سَبَبُ النّزول: قال الكلبي: عيَّرت اليهود رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقالت: ما نرى لهذا الرجل مهمة إلا النساء والنكاح ولو كان نبياً كما زعم لشغله أمر النبوة عن النساء، فأنزل الله تعالى
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً﴾.
التفسير:
﴿مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ أي صفة الجنة العجيبة الشأن التي وعد الله بها عباده المتقين أنها تجري من تحت قصورها وغرفها الأنهار
﴿أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا﴾ أي ثمرها دائم لا ينقطع، وظلُّها دائم لا تنسخه الشمس
﴿تِلْكَ عقبى الذين اتقوا﴾ أي تلك الجنة عاقبة المتقين ومآلهم
﴿وَّعُقْبَى الكافرين النار﴾ أي وأما عاقبة الكفار الفجار فهي النار {والذين
79
آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ} أي والذين أنزلنا إليهم التوراة والإِنجيل - ممن آمن بك واتبعك يا محمد - كعبد الله بن سلام والنجاشي وأصحابه يفرحون بهذا القرآن لما في كتبهم من الشواهد على صدقه والبشارة به
﴿وَمِنَ الأحزاب مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ﴾ أي ومن أهل الملل المتحزبين عليك وهم أهل أديان شتى من ينكر بعض القرآن مكابرة مع يقينهم بصدقه لأنه موافق لما معهم
﴿قُلْ إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله ولا أُشْرِكَ بِهِ﴾ أي قل يا محمد إنما أُمرتُ بعبادة الله وحده لا أشركُ معه غيره
﴿إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ﴾ أي إلى عبادته أدعو الناس وإليه مرجعي ومصيري
﴿وكذلك أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً﴾ أي ومثل إنزال الكتب السابقة أنزلنا هذا القرآن بلغة العرب لتحكم به بين الناس
﴿وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم بَعْدَ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم﴾ أي ولئن اتبعتَ المشركين فيما يدعونك إليه من الأهواء والآراء بعدما آتاك الله من الحجج والبراهين
﴿مَا لَكَ مِنَ الله مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ﴾ أي ليس لك ناصرٌ ينصرك أو يقيك من عذاب الله، والمقصود تحذير الأمة من اتباع أهواء الناس لأن المعصوم إذا خوطب بمثل ذلك كان الغرض تحذير الناس قال القرطبي: الخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمراد الأمة
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ﴾ أي أرسلنا قبلك الرسل الكرام
﴿وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً﴾ أي وجعلنا لهم النساء والبنين، وهو ردٌّ على من عاب على الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كثرة النساء وقالوا: لو كان مرسلاً حقاً لكان مشتغلاً بالزهد وترك الدنيا والنساء، فردَّ الله مقالتهم وبيَّن أن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليس ببدعٍ في ذلك، بل هو كمن تقدم من الرسل
﴿وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله﴾ أي لم يكن لرسولٍ أن يأتي قومه بمُعجزة إلا إذا أذن الله له فيها، وهذا ردٌّ على الذين اقترحوا الآيات
﴿لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ﴾ أي لكل مدةٍ مضروبة كتابٌ كتبه الله في اللوح المحفوظ، وكلُّ شيء عنده بمقدار قال الطبري: لكل أمر قضاه الله كتابٌ قد كتبه فهو عنده
﴿يَمْحُواْ الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ﴾ أي ينسخ الله ما يشاء نسخه من الشرائع والأحكام وصحف الملائكة الكرام، ويثبتُ ما يشاء منها دون تغيير قال ابن عباس: يبدّل الله ما يشاء فينسخه إلا الموتَ والحياة والشقاء والسعادة فإنه قد فرغ منها وقيل: إن المحو والإِثبات عامٌ في جميع الأشياء لما روي أن عمر بن الخطاب كان يطوف بالبيت ويبكي ويقول: اللهمَّ إن كنتَ كتبت عليَّ شقوةً أو ذنباً فامحه، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أمُّ الكتاب، واجعله سعادةً ومغفرة، وقد رجحه أبو السعود وهو قول ابن مسعود أيضاً
﴿وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب﴾ أي أصل كل كتاب وهو اللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه مقاديرَ الأشياء ِ كلَّها
﴿وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذي نَعِدُهُمْ﴾ أي وإن أريناك يا محمد بعض الذي وعدناهم من العذاب
﴿أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ﴾ أي نقبضك قبل أن نقر عينك بعذاب هؤلاء المشركين
﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ وَعَلَيْنَا الحساب﴾ أي ليس عليك إلا تبليغ الرسالة وعلينا حسابهم وجزاؤهم
﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا﴾ أي أولمْ ير هؤلاء المشركون أنّا نمكّن للمؤمنين من ديارهم ونفتح للرسول الأرض بعد الأرض حتى تنقص دار الكفر وتزيد دار الإِسلام؟ وذلك من
80
أقوى الأدلة على أن الله منجزٌ وعده لرسوله عليه السلام
﴿والله يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ﴾ أي ليس يتعقب حكمه أحد بنقصٍ ولا تغيير
﴿وَهُوَ سَرِيعُ الحساب﴾ أي سريع الانتقام ممن عصاه
﴿وَقَدْ مَكَرَ الذين مِن قَبْلِهِمْ﴾ أي مكر الكفار الذين خَلَوْا بأنبيائهم كما مكر كفار قريش بك
﴿فَلِلَّهِ المكر جَمِيعاً﴾ أي له تعالى أسباب المكر جميعاً لا يضر مكرهم إلا بإرادته، فهو يوصل إليهم العذاب من حيث لا يعلمون
﴿يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ﴾ أي من خير وشر فيجازي عليه
﴿وَسَيَعْلَمُ الكفار لِمَنْ عُقْبَى الدار﴾ أي لمن تكون العاقبة الحسنة في الآخرة
﴿وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً﴾ أي يقول كفار مكة لستَ يا محمد مرسلاً من عند الله
﴿قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾ أي حسبي شهادة الله بصدقي بما أيدني من المعجزات
﴿وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب﴾ أي وشهادة المؤمنين من علماء أهل الكتاب.
البَلاَغَة: في الآيات الكريمة من وجوه البيان والبديع ما يلي:
١ - التشبيه في قوله
﴿كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ﴾ [الرعد: ٣٠] وفي
﴿وكذلك أَنزَلْنَاهُ﴾ ويسمى مرسلاً مجملاً.
٢ - الإِيجاز بالحذف في
﴿أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا﴾ أي وظلها دائم حذف منه الخبر بدليل السابق.
٣ - المقابلة في
﴿تِلْكَ عقبى الذين اتقوا وَّعُقْبَى الكافرين النار﴾ وهو من المحسنات البديعية.
٤ - جناس الاشتقاق في
﴿أَرْسَلْنَا رُسُلاً﴾.
٥ - الطباق في
﴿يَمْحُواْ.... وَيُثْبِتُ﴾.
٦ - القصر في
﴿إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله﴾ وفي
﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ﴾ وكلاهما قصرٌ إضافي من باب قصر الموصوف على الصفة أي ليس لك من الصفات إلا صفة التبليغ.
٧ - التهييج والإِلهاب
﴿وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم﴾.
٨ - المجاز المرسل في
﴿نَأْتِي الأرض﴾ أي يأتيها أمرنا وعذابنا.
لطيفَة: فسَّر بعضهم قوله تعالى
﴿نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا﴾ أن نقصانها بموت علمائها وفقهائها وأهل الخير والصلاح، وهذا مرويٌ عن مجاهد وابن عباس في رواية عنه وأنشد بعضهم:
الأرضُ تحيا إذا ما عاشَ عالمِها... متى يمُتْ عالمٌ منها يمتْ طَرَفُ
كالأرض تحيا إذا ما الغيثُ حلَّ بها... وإن أبى عادَ في أكنافها التَّلَفُ
81