مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ
هَذَا مُتَّصِل بِقَوْلِهِ تَعَالَى :" وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَان بَعْد تَوْكِيدهَا " [ النَّحْل : ٩١ ] فَكَانَ مُبَالَغَة فِي الْوَصْف بِالْكَذِبِ ; لِأَنَّ مَعْنَاهُ لَا تَرْتَدُّوا عَنْ بَيْعَة الرَّسُول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أَيْ مَنْ كَفَرَ مِنْ بَعْد إِيمَانه وَارْتَدَّ فَعَلَيْهِ غَضَب اللَّه.
قَالَ الْكَلْبِيّ : نَزَلَتْ فِي عَبْد اللَّه بْن أَبِي سَرْح وَمِقْيَس بْن صُبَابَة وَعَبْد اللَّه بْن خَطَل، وَقَيْس بْن الْوَلِيد بْن الْمُغِيرَة، كَفَرُوا بَعْد إِيمَانهمْ.
وَقَالَ الزَّجَّاج :" مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ مِنْ بَعْد إِيمَانه " بَدَل مِمَّنْ يَفْتَرِي الْكَذِب ; أَيْ إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِب مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ مِنْ بَعْد إِيمَانه ; لِأَنَّهُ رَأَى الْكَلَام إِلَى آخِر الِاسْتِثْنَاء غَيْر تَامّ فَعَلَّقَهُ بِمَا قَبْله.
وَقَالَ الْأَخْفَش :" مَنْ " اِبْتِدَاء وَخَبَره مَحْذُوف، اُكْتُفِيَ مِنْهُ بِخَبَرِ " مَنْ " الثَّانِيَة ; كَقَوْلِك : مَنْ يَأْتِنَا مَنْ يُحْسِن نُكْرِمهُ.
إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ
فِيهَا مَسَائِل :
[ الْأُولَى ] هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ فِي عَمَّار بْن يَاسِر، فِي قَوْل أَهْل التَّفْسِير ; لِأَنَّهُ قَارَبَ بَعْض مَا نَدَبُوهُ إِلَيْهِ.
قَالَ اِبْن عَبَّاس : أَخَذَهُ الْمُشْرِكُونَ وَأَخَذُوا أَبَاهُ وَأُمّه سُمَيَّة وَصُهَيْبًا وَبِلَالًا وَخَبَّابًا وَسَالِمًا فَعَذَّبُوهُمْ، وَرُبِطَتْ سُمَيَّة بَيْن بَعِيرَيْنِ وَوُجِئَ قُبُلهَا بِحَرْبَةٍ، وَقِيلَ لَهَا إِنَّك أَسْلَمْت مِنْ أَجْل الرِّجَال ; فَقُتِلَتْ وَقُتِلَ زَوْجهَا يَاسِر، وَهُمَا أَوَّل قَتِيلَيْنِ فِي الْإِسْلَام.
وَأَمَّا عَمَّار فَأَعْطَاهُمْ مَا أَرَادُوا بِلِسَانِهِ مُكْرَهًا، فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( كَيْفَ تَجِد قَلْبك ) ؟ قَالَ : مُطْمَئِنّ بِالْإِيمَانِ.
فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( فَإِنْ عَادُوا فَعُدْ ).
وَرَوَى مَنْصُور بْن الْمُعْتَمِر عَنْ مُجَاهِد قَالَ : أَوَّل شَهِيدَة فِي الْإِسْلَام أُمّ عَمَّار، قَتَلَهَا أَبُو جَهْل، وَأَوَّل شَهِيد مِنْ الرِّجَال مِهْجَع مَوْلَى عُمَر.
وَرَوَى مَنْصُور أَيْضًا عَنْ مُجَاهِد قَالَ : أَوَّل مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَام سَبْعَة : رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْر، وَبِلَال، وَخَبَّاب، وَصُهَيْب، وَعَمَّار، وَسُمَيَّة أُمّ عَمَّار.
فَأَمَّا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنَعَهُ أَبُو طَالِب، وَأَمَّا أَبُو بَكْر فَمَنَعَهُ قَوْمه، وَأَخَذُوا الْآخَرِينَ فَأَلْبَسُوهُمْ أَدْرُع الْحَدِيد، ثُمَّ صَهَرُوهُمْ فِي الشَّمْس حَتَّى بَلَغَ مِنْهُمْ الْجَهْد كُلّ مَبْلَغ مِنْ حَرّ الْحَدِيد وَالشَّمْس، فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْعَشِيّ أَتَاهُمْ أَبُو جَهْل وَمَعَهُ حَرْبَة، فَجَعَلَ يَسُبّهُمْ وَيُوَبِّخهُمْ، وَأَتَى سُمَيَّة فَجَعَلَ يَسُبّهَا وَيَرْفُث، ثُمَّ طَعَنَ فَرْجهَا حَتَّى خَرَجَتْ الْحَرْبَة مِنْ فَمهَا فَقَتَلَهَا ; رَضِيَ اللَّه عَنْهَا.
قَالَ : وَقَالَ الْآخَرُونَ مَا سُئِلُوا إِلَّا بِلَالًا فَإِنَّهُ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسه فِي اللَّه، فَجَعَلُوا يُعَذِّبُونَهُ وَيَقُولُونَ لَهُ : اِرْجِعْ عَنْ دِينك، وَهُوَ يَقُول أَحَد أَحَد ; حَتَّى مَلُّوهُ، ثُمَّ كَتَّفُوهُ وَجَعَلُوا فِي عُنُقه حَبْلًا مِنْ لِيف، وَدَفَعُوهُ إِلَى صِبْيَانهمْ يَلْعَبُونَ بِهِ بَيْن أَخْشَبَيْ مَكَّة حَتَّى مَلُّوهُ وَتَرَكُوهُ، قَالَ فَقَالَ عَمَّار : كُلّنَا تَكَلَّمَ بِاَلَّذِي قَالُوا - لَوْلَا أَنَّ اللَّه تَدَارَكَنَا - غَيْر بِلَال فَإِنَّهُ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسه فِي اللَّه، فَهَانَ عَلَى قَوْمه حَتَّى مَلُّوهُ وَتَرَكُوهُ.
وَالصَّحِيح أَنَّ أَبَا بَكْر اِشْتَرَى بِلَالًا فَأَعْتَقَهُ.
وَرَوَى اِبْن أَبِي نَجِيح عَنْ مُجَاهِد أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْل مَكَّة آمَنُوا، فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ بَعْض أَصْحَاب مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ : أَنْ هَاجِرُوا إِلَيْنَا، فَإِنَّا لَا نَرَاكُمْ مِنَّا حَتَّى تُهَاجِرُوا إِلَيْنَا، فَخَرَجُوا يُرِيدُونَ الْمَدِينَة حَتَّى أَدْرَكَتْهُمْ قُرَيْش بِالطَّرِيقِ، فَفَتَنُوهُمْ فَكَفَرُوا مُكْرَهِينَ، فَفِيهِمْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة.
ذَكَرَ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مُجَاهِد إِسْمَاعِيل بْن إِسْحَاق.
وَرَوَى التِّرْمِذِيّ عَنْ عَائِشَة قَالَتْ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( مَا خُيِّرَ عَمَّار بَيْن أَمْرَيْنِ إِلَّا اِخْتَارَ أَرْشَدَهُمَا ) هَذَا حَدِيث حَسَن غَرِيب.
وَرُوِيَ عَنْ أَنَس بْن مَالِك قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( إِنَّ الْجَنَّة تَشْتَاق إِلَى ثَلَاثَة عَلِيّ وَعَمَّار وَسَلْمَان بْن رَبِيعَة ).
قَالَ التِّرْمِذِيّ : هَذَا حَدِيث غَرِيب لَا نَعْرِفهُ إِلَّا مِنْ حَدِيث الْحَسَن بْن صَالِح.
[ الثَّانِيَة ] لَمَّا سَمَحَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بِالْكُفْرِ بِهِ وَهُوَ أَصْل الشَّرِيعَة عِنْد الْإِكْرَاه وَلَمْ يُؤَاخِذ بِهِ، حَمَلَ الْعُلَمَاء عَلَيْهِ فُرُوع الشَّرِيعَة كُلّهَا، فَإِذَا وَقَعَ الْإِكْرَاه عَلَيْهَا لَمْ يُؤَاخَذ بِهِ وَلَمْ يَتَرَتَّب عَلَيْهِ حُكْم ; وَبِهِ جَاءَ الْأَثَر الْمَشْهُور عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأ وَالنِّسْيَان وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ ) الْحَدِيث.
وَالْخَبَر وَإِنْ لَمْ يَصِحّ سَنَده فَإِنَّ مَعْنَاهُ صَحِيح بِاتِّفَاقٍ مِنْ الْعُلَمَاء ; قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْر بْن الْعَرَبِيّ.
وَذَكَرَ أَبُو مُحَمَّد عَبْد الْحَقّ أَنَّ إِسْنَاده صَحِيح قَالَ : وَقَدْ ذَكَرَهُ أَبُو بَكْر الْأَصِيلِيّ فِي الْفَوَائِد وَابْن الْمُنْذِر فِي كِتَاب الْإِقْنَاع.
[ الثَّالِثَة ] أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْم عَلَى أَنَّ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْر حَتَّى خَشِيَ عَلَى نَفْسه الْقَتْل، أَنَّهُ لَا إِثْم عَلَيْهِ إِنْ كَفَرَ وَقَلْبه مُطْمَئِنّ بِالْإِيمَانِ، وَلَا تَبِين مِنْهُ زَوْجَته وَلَا يُحْكَم عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْكُفْر ; هَذَا قَوْل مَالِك وَالْكُوفِيِّينَ وَالشَّافِعِيّ ; غَيْر مُحَمَّد بْن الْحَسَن فَإِنَّهُ قَالَ : إِذَا أَظْهَرَ الشِّرْك كَانَ مُرْتَدًّا فِي الظَّاهِر، وَفِيمَا بَيْنه وَبَيْن اللَّه تَعَالَى عَلَى الْإِسْلَام، وَتَبِين مِنْهُ اِمْرَأَته وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ إِنْ مَاتَ، وَلَا يَرِث أَبَاهُ إِنْ مَاتَ مُسْلِمًا.
وَهَذَا قَوْل يَرُدّهُ الْكِتَاب وَالسُّنَّة، قَالَ اللَّه تَعَالَى :" إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ " الْآيَة.
وَقَالَ :" إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاة " [ آل عِمْرَان : ٢٨ ] وَقَالَ :" إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَة ظَالِمِي أَنْفُسهمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْض " [ النِّسَاء : ٩٧ ] الْآيَة.
وَقَالَ :" إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَال وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَان " [ النِّسَاء : ٩٨ ] الْآيَة.
فَعَذَرَ اللَّه الْمُسْتَضْعَفِينَ الَّذِينَ يَمْتَنِعُونَ مِنْ تَرْك مَا أَمَرَ اللَّه بِهِ، وَالْمُكْرَه لَا يَكُون إِلَّا مُسْتَضْعَفًا غَيْر مُمْتَنِع مِنْ فِعْل مَا أُمِرَ بِهِ ; قَالَهُ الْبُخَارِيّ.
[ الرَّابِعَة ] ذَهَبَتْ طَائِفَة مِنْ الْعُلَمَاء إِلَى أَنَّ الرُّخْصَة إِنَّمَا جَاءَتْ فِي الْقَوْل، وَأَمَّا فِي الْفِعْل فَلَا رُخْصَة فِيهِ، مِثْل أَنْ يُكْرَهُوا عَلَى السُّجُود لِغَيْرِ اللَّه أَوْ الصَّلَاة لِغَيْرِ الْقِبْلَة، أَوْ قَتْل مُسْلِم أَوْ ضَرْبه أَوْ أَكْل مَاله، أَوْ الزِّنَا وَشُرْب الْخَمْر وَأَكْل الرِّبَا ; يُرْوَى هَذَا عَنْ الْحَسَن الْبَصْرِيّ، رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.
وَهُوَ قَوْل الْأَوْزَاعِيّ وَسَحْنُون مِنْ عُلَمَائِنَا.
وَقَالَ مُحَمَّد بْن الْحَسَن : إِذَا قِيلَ لِلْأَسِيرِ : اُسْجُدْ لِهَذَا الصَّنَم وَإِلَّا قَتَلْتُك.
فَقَالَ : إِنْ كَانَ الصَّنَم مُقَابِل الْقِبْلَة فَلْيَسْجُدْ وَيَكُون نِيَّته لِلَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ الْقِبْلَة فَلَا يَسْجُد وَإِنْ قَتَلُوهُ.
وَالصَّحِيح أَنَّهُ يَسْجُد وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ الْقِبْلَة، وَمَا أَحْرَاهُ بِالسُّجُودِ حِينَئِذٍ ; فَفِي الصَّحِيح عَنْ اِبْن عُمَر قَالَ : كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَهُوَ مُقْبِل مِنْ مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة عَلَى رَاحِلَته حَيْثُ كَانَ وَجْهه، قَالَ : وَفِيهِ نَزَلَتْ " فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْه اللَّه " [ الْبَقَرَة : ١١٥ ] فِي رِوَايَة : وَيُوتِر عَلَيْهَا، غَيْر أَنَّهُ لَا يُصَلِّي عَلَيْهَا الْمَكْتُوبَة.
فَإِذَا كَانَ هَذَا مُبَاحًا فِي السَّفَر فِي حَالَة الْأَمْن لِتَعَبِ النُّزُول عَنْ الدَّابَّة لِلتَّنَفُّلِ فَكَيْفَ بِهَذَا.
وَاحْتَجَّ مَنْ قَصَرَ الرُّخْصَة عَلَى الْقَوْل بِقَوْلِ اِبْن مَسْعُود : مَا مِنْ كَلَام يَدْرَأ عَنِّي سَوْطَيْنِ مِنْ ذِي سُلْطَان إِلَّا كُنْت مُتَكَلِّمًا بِهِ.
فَقَصَرَ الرُّخْصَة عَلَى الْقَوْل وَلَمْ يَذْكُر الْفِعْل، وَهَذَا لَا حُجَّة فِيهِ ; لِأَنَّهُ يَحْتَمِل أَنْ يَجْعَل لِلْكَلَامِ مِثَالًا وَهُوَ يُرِيد أَنَّ الْفِعْل فِي حُكْمه.
وَقَالَتْ طَائِفَة : الْإِكْرَاه فِي الْفِعْل وَالْقَوْل سَوَاء إِذَا أَسَرَّ الْإِيمَان.
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب وَمَكْحُول، وَهُوَ قَوْل مَالِك وَطَائِفَة مِنْ أَهْل الْعِرَاق.
رَوَى اِبْن الْقَاسِم عَنْ مَالِك أَنَّ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى شُرْب الْخَمْر وَتَرْك الصَّلَاة أَوْ الْإِفْطَار فِي رَمَضَان، أَنَّ الْإِثْم عَنْهُ مَرْفُوع.
[ الْخَامِسَة ] أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى قَتْل غَيْره أَنَّهُ لَا يَجُوز لَهُ الْإِقْدَام عَلَى قَتْله وَلَا اِنْتَهَاك حُرْمَته بِجَلْدٍ أَوْ غَيْره، وَيَصْبِر عَلَى الْبَلَاء الَّذِي نَزَلَ بِهِ، وَلَا يَحِلّ لَهُ أَنْ يَفْدِي نَفْسه بِغَيْرِهِ، وَيَسْأَل اللَّه الْعَافِيَة فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة.
[ السَّادِسَة ] وَاخْتُلِفَ فِي الزِّنَا، فَقَالَ مُطَرِّف وَأَصْبَغ وَابْن عَبْد الْحَكَم وَابْن الْمَاجِشُون : لَا يَفْعَل أَحَد ذَلِكَ، وَإِنْ قُتِلَ لَمْ يَفْعَلهُ، فَإِنْ فَعَلَهُ فَهُوَ آثِم وَيَلْزَمهُ الْحَدّ ; وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْر وَالْحَسَن.
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : الصَّحِيح أَنَّهُ يَجُوز الْإِقْدَام عَلَى الزِّنَا وَلَا حَدّ عَلَيْهِ، خِلَافًا لِمَنْ أَلْزَمَهُ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ رَأَى أَنَّهَا شَهْوَة خُلُقِيَّة لَا يُتَصَوَّر الْإِكْرَاه عَلَيْهَا، وَغَفَلَ عَنْ السَّبَب فِي بَاعِث الشَّهْوَة وَهُوَ الْإِلْجَاء إِلَى ذَلِكَ، وَهُوَ الَّذِي أَسْقَطَ حُكْمه، وَإِنَّمَا يَجِب الْحَدّ عَلَى شَهْوَة بَعَثَ عَلَيْهَا سَبَب اِخْتِيَارِيّ، فَقَاسَ الشَّيْء عَلَى ضِدّه، فَلَمْ يَحِلّ بِصَوَابٍ مِنْ عِنْده.
وَقَالَ اِبْن خُوَيْز مِنْدَاد فِي أَحْكَامه : اِخْتَلَفَ أَصْحَابنَا مَتَى أُكْرِهَ الرَّجُل عَلَى الزِّنَا ; فَقَالَ بَعْضهمْ : عَلَيْهِ الْحَدّ ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَفْعَل ذَلِكَ بِاخْتِيَارِهِ.
وَقَالَ بَعْضهمْ : لَا حَدّ عَلَيْهِ.
قَالَ اِبْن خُوَيْز مِنْدَاد : وَهُوَ الصَّحِيح.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : إِنْ أَكْرَهَهُ غَيْر السُّلْطَان حُدَّ، وَإِنْ أَكْرَهَهُ السُّلْطَان فَالْقِيَاس أَنْ يُحَدّ، وَلَكِنْ أَسْتَحْسِن أَلَّا يُحَدّ.
وَخَالَفَهُ صَاحِبَاهُ فَقَالَا : لَا حَدّ عَلَيْهِ فِي الْوَجْهَيْنِ، وَلَمْ يُرَاعُوا الِانْتِشَار، وَقَالُوا : مَتَى عَلِمَ أَنَّهُ يَتَخَلَّص مِنْ الْقَتْل بِفِعْلِ الزِّنَا جَازَ أَنْ يَنْتَشِر.
قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : لَا حَدّ عَلَيْهِ، وَلَا فَرْق بَيْن السُّلْطَان فِي ذَلِكَ وَغَيْر السُّلْطَان.
[ السَّابِعَة ] اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي طَلَاق الْمُكْرَه وَعَتَاقه ; فَقَالَ الشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه : لَا يَلْزَمهُ شَيْء.
وَذَكَرَ اِبْن وَهْب عَنْ عُمَر وَعَلِيّ وَابْن عَبَّاس أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرَوْنَ طَلَاقه شَيْئًا.
وَذَكَرَهُ اِبْن الْمُنْذِر عَنْ اِبْن الزُّبَيْر وَابْن عُمَر وَابْن عَبَّاس وَعَطَاء وَطَاوُس وَالْحَسَن وَشُرَيْح وَالْقَاسِم وَسَالِم وَمَالِك وَالْأَوْزَاعِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَبِي ثَوْر.
وَأَجَازَتْ طَائِفَة طَلَاقه ; رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الشَّعْبِيّ وَالنَّخَعِيّ وَأَبِي قِلَابَة وَالزَّهْرِيّ وَقَتَادَة، وَهُوَ قَوْل الْكُوفِيِّينَ.
قَالَ أَبُو حَنِيفَة : طَلَاق الْمُكْرَه يَلْزَم ; لِأَنَّهُ لَمْ يَعْدَم فِيهِ أَكْثَر مِنْ الرِّضَا، وَلَيْسَ وُجُوده بِشَرْطٍ فِي الطَّلَاق كَالْهَازِلِ.
وَهَذَا قِيَاس بَاطِل ; فَإِنَّ الْهَازِل قَاصِد إِلَى إِيقَاع الطَّلَاق رَاضٍ بِهِ، وَالْمُكْرَه غَيْر رَاضٍ وَلَا نِيَّة لَهُ فِي الطَّلَاق، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام :( إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ ).
وَفِي الْبُخَارِيّ : وَقَالَ اِبْن عَبَّاس فِيمَنْ يُكْرِههُ اللُّصُوص فَيُطَلِّق : لَيْسَ بِشَيْءٍ ; وَبِهِ قَالَ اِبْن عُمَر وَابْن الزُّبَيْر وَالشَّعْبِيّ وَالْحَسَن.
وَقَالَ الشَّعْبِيّ : إِنْ أَكْرَهَهُ اللُّصُوص فَلَيْسَ بِطَلَاقٍ، وَإِنْ أَكْرَهَهُ السُّلْطَان فَهُوَ طَلَاق.
وَفَسَّرَهُ اِبْن عُيَيْنَة فَقَالَ : إِنَّ اللِّصّ يُقْدِم عَلَى قَتْله وَالسُّلْطَان لَا يَقْتُلهُ.
[ الثَّامِنَة ] وَأَمَّا بَيْع الْمُكْرَه وَالْمَضْغُوط فَلَهُ حَالَتَانِ.
الْأُولَى : أَنْ يَبِيع مَاله فِي حَقّ وَجَبَ عَلَيْهِ ; فَذَلِكَ مَاضٍ سَائِغ لَا رُجُوع فِيهِ عِنْد الْفُقَهَاء ; لِأَنَّهُ يَلْزَمهُ أَدَاء الْحَقّ إِلَى رَبّه مِنْ غَيْر الْمَبِيع، فَلَمَّا لَمْ يَفْعَل ذَلِكَ كَانَ بَيْعه اِخْتِيَارًا مِنْهُ فَلَزِمَهُ.
وَأَمَّا بَيْع الْمُكْرَه ظُلْمًا أَوْ قَهْرًا فَذَلِكَ بَيْع لَا يَجُوز عَلَيْهِ.
وَهُوَ أَوْلَى بِمَتَاعِهِ يَأْخُذهُ بِلَا ثَمَن، وَيَتْبَع الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ ذَلِكَ الظَّالِم ; فَإِنْ فَاتَ الْمَتَاع رَجَعَ بِثَمَنِهِ أَوْ بِقِيمَتِهِ بِالْأَكْثَرِ مِنْ ذَلِكَ عَلَى الظَّالِم إِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي غَيْر عَالِم بِظُلْمِهِ.
قَالَ مُطَرِّف : وَمَنْ كَانَ مِنْ الْمُشْتَرِينَ يَعْلَم حَال الْمُكْرَه فَإِنَّهُ ضَامِن لِمَا اِبْتَاعَ مِنْ رَقِيقه وَعُرُوضه كَالْغَاصِبِ، وَكُلَّمَا أَحْدَثَ الْمُبْتَاع فِي ذَلِكَ مِنْ عِتْق أَوْ تَدْبِير أَوْ تَحْبِيس فَلَا يَلْزَم الْمُكْرَه، وَلَهُ أَخْذ مَتَاعه.
قَالَ سَحْنُون : أَجْمَعَ أَصْحَابنَا وَأَهْل الْعِرَاق عَلَى أَنَّ بَيْع الْمُكْرَه عَلَى الظُّلْم وَالْجَوْر لَا يَجُوز.
وَقَالَ الْأَبْهَرِيّ : إِنَّهُ إِجْمَاع.
[ التَّاسِعَة ] وَأَمَّا نِكَاح الْمُكْرَه ; فَقَالَ سَحْنُون : أَجْمَعَ أَصْحَابنَا عَلَى إِبْطَال نِكَاح الْمُكْرَه وَالْمُكْرَهَة، وَقَالُوا : لَا يَجُوز الْمُقَام عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَنْعَقِد.
قَالَ مُحَمَّد بْن سَحْنُون : وَأَجَازَ أَهْل الْعِرَاق نِكَاح الْمُكْرَه، وَقَالُوا : لَوْ أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يَنْكِح اِمْرَأَة بِعَشَرَةِ آلَاف دِرْهَم، وَصَدَاق مِثْلهَا أَلْف دِرْهَم، أَنَّ النِّكَاح جَائِز وَتَلْزَمهُ الْأَلْف وَيَبْطُل الْفَضْل.
قَالَ مُحَمَّد : فَكَمَا أَبْطَلُوا الزَّائِد عَلَى الْأَلْف فَكَذَلِكَ يَلْزَمهُمْ إِبْطَال النِّكَاح بِالْإِكْرَاهِ.
وَقَوْلهمْ خِلَاف السُّنَّة الثَّابِتَة فِي حَدِيث خَنْسَاء بِنْت خِذَام الْأَنْصَارِيَّة، وَلِأَمْرِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالِاسْتِئْمَارِ فِي أَبْضَاعهنَّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ، فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِمْ.
[ الْعَاشِرَة ] فَإِنْ وَطِئَهَا الْمُكْرَه عَلَى النِّكَاح غَيْر مُكْرَه عَلَى الْوَطْء وَالرِّضَا بِالنِّكَاحِ لَزِمَهُ النِّكَاح عِنْدنَا عَلَى الْمُسَمَّى مِنْ الصَّدَاق وَدُرِئَ عَنْهُ الْحَدّ.
وَإِنْ قَالَ : وَطِئْتهَا عَلَى غَيْر رِضًا مِنِّي بِالنِّكَاحِ فَعَلَيْهِ الْحَدّ وَالصَّدَاق الْمُسَمَّى ; لِأَنَّهُ مُدَّعٍ لِإِبْطَالِ الصَّدَاق الْمُسَمَّى، وَتُحَدّ الْمَرْأَة إِنْ أَقْدَمَتْ وَهِيَ عَالِمَة أَنَّهُ مُكْرَه عَلَى النِّكَاح.
وَأَمَّا الْمُكْرَهَة عَلَى النِّكَاح وَعَلَى الْوَطْء فَلَا حَدّ عَلَيْهَا وَلَهَا الصَّدَاق، وَيُحَدّ الْوَاطِئ ; فَاعْلَمْهُ.
قَالَهُ سَحْنُون.
[ الْحَادِيَة عَشْرَة ] إِذَا اُسْتُكْرِهَتْ الْمَرْأَة عَلَى الزِّنَا فَلَا حَدّ عَلَيْهَا ; لِقَوْلِهِ " إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ " وَقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام :( إِنَّ اللَّه تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأ وَالنِّسْيَان وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ ).
وَلِقَوْلِ اللَّه تَعَالَى :" فَإِنَّ اللَّه مِنْ بَعْد إِكْرَاههنَّ غَفُور رَحِيم " [ النُّور : ٣٣ ] يُرِيد الْفَتَيَات.
وَبِهَذَا الْمَعْنَى حَكَمَ عُمَر فِي الْوَلِيدَة الَّتِي اِسْتَكْرَهَهَا الْعَبْد فَلَمْ يَحُدّهَا.
وَالْعُلَمَاء مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا حَدّ عَلَى اِمْرَأَة مُسْتَكْرَهَة.
وَقَالَ مَالِك : إِذَا وُجِدَتْ الْمَرْأَة حَامِلًا وَلَيْسَ لَهَا زَوْج فَقَالَتْ اُسْتُكْرِهْت فَلَا يُقْبَل ذَلِكَ مِنْهَا وَعَلَيْهَا الْحَدّ، إِلَّا أَنْ تَكُون لَهَا بَيِّنَة أَوْ جَاءَتْ تَدْمِي عَلَى أَنَّهَا أُوتِيَتْ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ عُمَر بْن الْخَطَّاب أَنَّهُ قَالَ : الرَّجْم فِي كِتَاب اللَّه حَقّ عَلَى مَنْ زَنَى مِنْ الرِّجَال وَالنِّسَاء إِذَا أُحْصِنَّ إِذَا قَامَتْ الْبَيِّنَة، أَوْ كَانَ الْحَبَل أَوْ الِاعْتِرَاف.
قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَبِالْقَوْلِ الْأَوَّل أَقُول.
[ الثَّانِيَة عَشْرَة ] وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوب الصَّدَاق لِلْمُسْتَكْرَهَةِ ; فَقَالَ عَطَاء وَالزُّهْرِيّ : لَهَا صَدَاق مِثْلهَا ; وَهُوَ قَوْل مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَبِي ثَوْر.
وَقَالَ الثَّوْرِيّ : إِذَا أُقِيمَ الْحَدّ عَلَى الَّذِي زَنَى بِهَا بَطَلَ الصَّدَاق.
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الشَّعْبِيّ، وَبِهِ قَالَ أَصْحَاب مَالِك وَأَصْحَاب الرَّأْي.
قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : الْقَوْل الْأَوَّل صَحِيح.
[ الثَّالِثَة عَشْرَة ] إِذَا أُكْرِهَ الْإِنْسَان عَلَى إِسْلَام أَهْله لِمَا لَمْ يَحِلّ أَسْلَمَهَا، وَلَمْ يَقْتُل نَفْسه دُونهَا وَلَا اِحْتَمَلَ أَذِيَّة فِي تَخْلِيصهَا.
وَالْأَصْل فِي ذَلِكَ مَا خَرَّجَهُ الْبُخَارِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( هَاجَرَ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام بِسَارَة وَدَخَلَ بِهَا قَرْيَة فِيهَا مَلِك مِنْ الْمُلُوك أَوْ جَبَّار مِنْ الْجَبَابِرَة فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَنْ أَرْسِلْ بِهَا إِلَيَّ فَأَرْسَلَ بِهَا فَقَامَ إِلَيْهَا فَقَامَتْ تَتَوَضَّأ وَتُصَلِّي فَقَالَتْ اللَّهُمَّ إِنْ كُنْت آمَنْت بِك وَبِرَسُولِك فَلَا تُسَلِّط عَلَيَّ هَذَا الْكَافِر فَغُطَّ حَتَّى رَكَضَ بِرِجْلِهِ ).
وَدَلَّ هَذَا الْحَدِيث أَيْضًا عَلَى أَنَّ سَارَة لَمَّا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا مَلَامَة، فَكَذَلِكَ لَا يَكُون عَلَى الْمُسْتَكْرَهَة مَلَامَة، وَلَا حَدّ فِيمَا هُوَ أَكْبَر مِنْ الْخَلْوَة.
وَاَللَّه أَعْلَم.
[ الرَّابِعَة عَشْرَة ] وَأَمَّا يَمِين الْمُكْرَه فَغَيْر لَازِمَة.
عِنْد مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَبِي ثَوْر وَأَكْثَر الْعُلَمَاء.
قَالَ اِبْن الْمَاجِشُون : وَسَوَاء حَلَفَ فِيمَا هُوَ طَاعَة لِلَّهِ أَوْ فِيمَا هُوَ مَعْصِيَة إِذْ أُكْرِهَ عَلَى الْيَمِين ; وَقَالَهُ أَصْبَغ.
وَقَالَ مُطَرِّف : إِنْ أُكْرِهَ عَلَى الْيَمِين فِيمَا هُوَ لِلَّهِ مَعْصِيَة أَوْ لَيْسَ فِي فِعْله طَاعَة وَلَا مَعْصِيَة فَالْيَمِين فِيهِ سَاقِطَة، وَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى الْيَمِين فِيمَا هُوَ طَاعَة مِثْل أَنْ يَأْخُذ الْوَالِي رَجُلًا فَاسِقًا فَيُكْرِههُ أَنْ يَحْلِف بِالطَّلَاقِ لَا يَشْرَب خَمْرًا، أَوْ لَا يَفْسُق وَلَا يَغُشّ فِي عَمَله، أَوْ الْوَلَد يُحَلِّف وَلَده تَأْدِيبًا لَهُ فَإِنَّ الْيَمِين تَلْزَم ; وَإِنْ كَانَ الْمُكْرَه قَدْ أَخْطَأَ فِيمَا يُكَلَّف مِنْ ذَلِكَ.
وَقَالَ بِهِ اِبْن حَبِيب.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَمَنْ اِتَّبَعَهُ مِنْ الْكُوفِيِّينَ : إِنَّهُ إِنْ حَلَفَ أَلَّا يَفْعَل فَفَعَلَ حَنِثَ، قَالُوا : لِأَنَّ الْمُكْرَه لَهُ أَنْ يُوَرِّي فِي يَمِينه كُلّهَا، فَلَمَّا لَمْ يُوَرِّ وَلَا ذَهَبَتْ نِيَّته إِلَى خِلَاف مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ فَقَدْ قَصَدَ إِلَى الْيَمِين.
اِحْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِأَنْ قَالُوا : إِذَا أُكْرِهَ عَلَيْهَا فَنِيَّته مُخَالِفَة لِقَوْلِهِ ; لِأَنَّهُ كَارِه لِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ.
[ الْخَامِسَة عَشْرَة ] قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَمِنْ غَرِيب الْأَمْر أَنَّ عُلَمَاءَنَا اِخْتَلَفُوا فِي الْإِكْرَاه عَلَى الْحِنْث هَلْ يَقَع بِهِ أَمْ لَا ; وَهَذِهِ مَسْأَلَة عِرَاقِيَّة سَرَتْ لَنَا مِنْهُمْ، لَا كَانَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَة وَلَا كَانُوا ! وَأَيّ فَرْق يَا مَعْشَر أَصْحَابنَا بَيْن الْإِكْرَاه عَلَى الْيَمِين فِي أَنَّهَا لَا تَلْزَم وَبَيْن الْحِنْث فِي أَنَّهُ لَا يَقَع ! فَاتَّقُوا اللَّه وَرَاجِعُوا بَصَائِركُمْ، وَلَا تَغْتَرُّوا بِهَذِهِ الرِّوَايَة فَإِنَّهَا وَصْمَة فِي الدِّرَايَة.
[ السَّادِسَة عَشْرَة ] إِذَا أُكْرِهَ الرَّجُل عَلَى أَنْ يَحْلِف وَإِلَّا أُخِذَ لَهُ مَال كَأَصْحَابِ الْمَكْس وَظَلَمَة السُّعَاة وَأَهْل الِاعْتِدَاء ; فَقَالَ مَالِك : لَا تَقِيَّة لَهُ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَدْرَأ الْمَرْء بِيَمِينِهِ عَنْ بَدَنه لَا مَاله.
وَقَالَ اِبْن الْمَاجِشُون : لَا يَحْنَث وَإِنْ دَرَأَ عَنْ مَاله وَلَمْ يَخَفْ عَلَى بَدَنه.
وَقَالَ اِبْن الْقَاسِم بِقَوْلِ مُطَرِّف، وَرَوَاهُ عَنْ مَالِك، وَقَالَهُ اِبْن عَبْد الْحَكَم وَأَصْبَغ.
قُلْت : قَوْل اِبْن الْمَاجِشُون صَحِيح ; لِأَنَّ الْمُدَافَعَة عَنْ الْمَال كَالْمُدَافَعَةِ عَنْ النَّفْس ; وَهُوَ قَوْل الْحَسَن وَقَتَادَة وَسَيَأْتِي.
وَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالكُمْ وَأَعْرَاضكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَام ) وَقَالَ :( كُلّ الْمُسْلِم عَلَى الْمُسْلِم حَرَام دَمه وَمَاله وَعِرْضه ).
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَة قَالَ : جَاءَ رَجُل إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه، أَرَأَيْت إِنْ جَاءَ رَجُلًا يُرِيد أَخْذ مَالِي ؟ قَالَ :( فَلَا تُعْطِهِ مَالَك ).
قَالَ : أَرَأَيْت إِنْ قَاتَلَنِي ؟ قَالَ :( قَاتِلْهُ ) قَالَ : أَرَأَيْت إِنْ قَتَلَنِي ؟ قَالَ :( فَأَنْتَ شَهِيد ) قَالَ : أَرَأَيْت إِنْ قَتَلْته ؟ قَالَ :( هُوَ فِي النَّار ) خَرَّجَهُ مُسْلِم.
وَقَدْ مَضَى الْكَلَام فِيهِ.
وَقَالَ مُطَرِّف وَابْن الْمَاجِشُون : وَإِنْ بَدَرَ الْحَالِف بِيَمِينِهِ لِلْوَالِي الظَّالِم قَبْل أَنْ يَسْأَلهَا لِيَذُبّ بِهَا عَمَّا خَافَ عَلَيْهِ مِنْ مَاله وَبَدَنه فَحَلَفَ لَهُ فَإِنَّهَا تَلْزَمهُ.
وَقَالَهُ اِبْن عَبْد الْحَكَم وَأَصْبَغ.
وَقَالَ أَيْضًا اِبْن الْمَاجِشُون فِيمَنْ أَخَذَهُ ظَالِم فَحَلَفَ لَهُ بِالطَّلَاقِ أَلْبَتَّةَ مِنْ غَيْر أَنْ يُحَلِّفهُ وَتَرَكَهُ وَهُوَ كَاذِب، وَإِنَّمَا حَلَفَ خَوْفًا مِنْ ضَرْبه وَقَتْله وَأَخْذ مَاله : فَإِنْ كَانَ إِنَّمَا تَبَرَّعَ بِالْيَمِينِ غَلَبَة خَوْف وَرَجَاء النَّجَاة مِنْ ظُلْمه فَقَدْ دَخَلَ فِي الْإِكْرَاه وَلَا شَيْء عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَحْلِف عَلَى رَجَاء النَّجَاة فَهُوَ حَانِث.
[ السَّابِعَة عَشْرَة ] قَالَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ الْعُلَمَاء : إِذَا تَلَفَّظَ الْمُكْرَه بِالْكُفْرِ فَلَا يَجُوز لَهُ أَنْ يُجْرِيه عَلَى لِسَانه إِلَّا مَجْرَى الْمَعَارِيض ; فَإِنَّ فِي الْمَعَارِيض لَمَنْدُوحَةً عَنْ الْكَذِب.
وَمَتَى لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَانَ كَافِرًا ; لِأَنَّ الْمَعَارِيض لَا سُلْطَان لِلْإِكْرَاهِ عَلَيْهَا.
مِثَاله - أَنْ يُقَال لَهُ : اُكْفُرْ بِاَللَّهِ فَيَقُول بِاللَّاهِي ; فَيَزِيد الْيَاء.
وَكَذَلِكَ إِذَا قِيلَ لَهُ : اكْفُرْ بِالنَّبِيِّ فَيَقُول هُوَ كَافِر بِالنَّبِيِّ، مُشَدِّدًا وَهُوَ الْمَكَان الْمُرْتَفِع مِنْ الْأَرْض.
وَيُطْلَق عَلَى مَا يُعْمَل مِنْ الْخُوص شَبَه الْمَائِدَة فَيَقْصِد أَحَدهمَا بِقَلْبِهِ وَيَبْرَأ مِنْ الْكُفْر وَيَبْرَأ مِنْ إِثْمه.
فَإِنْ قِيلَ لَهُ : اكْفُرْ بِالنَّبِيءِ ( مَهْمُوزًا ) فَيَقُول هُوَ كَافِر بِالنَّبِيءِ يُرِيد بِالْمُخْبِرِ، أَيّ مُخْبِر كَانَ كَطُلَيْحَة وَمُسَيْلِمَة الْكَذَّاب.
أَوْ يُرِيد بِهِ النَّبِيء الَّذِي قَالَ فِيهِ الشَّاعِر :
فَأَصْبَحَ رَتْمًا دُقَاق الْحَصَى مَكَان النَّبِيء مِنْ الْكَاثِب
[ الثَّامِنَة عَشْرَة ] أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْر فَاخْتَارَ الْقَتْل أَنَّهُ أَعْظَم أَجْرًا عِنْد اللَّه مِمَّنْ اِخْتَارَ الرُّخْصَة.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ أُكْرِهَ عَلَى غَيْر الْقَتْل مِنْ فِعْل مَا لَا يَحِلّ لَهُ ; فَقَالَ أَصْحَاب مَالِك : الْأَخْذ بِالشِّدَّةِ فِي ذَلِكَ وَاخْتِيَار الْقَتْل وَالضَّرْب أَفْضَل عِنْد اللَّه مِنْ الْأَخْذ بِالرُّخْصَةِ، ذَكَرَهُ اِبْن حَبِيب وَسَحْنُون.
وَذَكَرَ اِبْن سَحْنُون عَنْ أَهْل الْعِرَاق أَنَّهُ إِذَا تَهَدَّدَ بِقَتْلٍ أَوْ قَطْع أَوْ ضَرْب يَخَاف مِنْهُ التَّلَف فَلَهُ أَنْ يَفْعَل مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ مِنْ شُرْب خَمْر أَوْ أَكْل خِنْزِير ; فَإِنْ لَمْ يَفْعَل حَتَّى قُتِلَ خِفْنَا أَنْ يَكُون آثِمًا لِأَنَّهُ كَالْمُضْطَرِّ.
وَرَوَى خَبَّاب بْن الْأَرَتّ قَالَ : شَكَوْنَا إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّد بُرْدَة لَهُ فِي ظِلّ الْكَعْبَة فَقُلْت : أَلَا تَسْتَنْصِر لَنَا أَلَا تَدْعُو لَنَا ؟ فَقَالَ :( قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلكُمْ يُؤْخَذ الرَّجُل فَيُحْفَر لَهُ فِي الْأَرْض فَيُجْعَل فِيهَا فَيُجَاء بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَع عَلَى رَأْسه فَيُجْعَل نِصْفَيْنِ وَيُمَشَّط بِأَمْشَاطِ الْحَدِيد مَا دُون لَحْمه وَعَظْمه فَمَا يَصُدّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينه وَاَللَّه لَيَتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْر حَتَّى يَسِير الرَّاكِب مِنْ صَنْعَاء إِلَى حَضْرَمَوْت لَا يَخَاف إِلَّا اللَّه وَالذِّئْب عَلَى غَنَمه وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ ).
فَوَصْفه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا عَنْ الْأُمَم السَّالِفَة عَلَى جِهَة الْمَدْح لَهُمْ وَالصَّبْر عَلَى الْمَكْرُوه فِي ذَات اللَّه، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَكْفُرُوا فِي الظَّاهِر وَتَبَطَّنُوا الْإِيمَان لِيَدْفَعُوا الْعَذَاب عَنْ أَنْفُسهمْ.
وَهَذِهِ حُجَّة مَنْ آثَرَ الضَّرْب وَالْقَتْل وَالْهَوَان عَلَى الرُّخْصَة وَالْمُقَام بِدَارِ الْجِنَان.
وَسَيَأْتِي لِهَذَا مَزِيد بَيَان فِي سُورَة [ الْأُخْدُود ] [ الْبُرُوج ] إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
وَذَكَرَ أَبُو بَكْر مُحَمَّد بْن مُحَمَّد بْن الْفَرَج الْبَغْدَادِيّ قَالَ : حَدَّثَنَا شُرَيْح بْن يُونُس عَنْ إِسْمَاعِيل بْن إِبْرَاهِيم عَنْ يُونُس بْن عُبَيْد عَنْ الْحَسَن أَنَّ عُيُونًا لِمُسَيْلِمَة أَخَذُوا رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَهَبُوا بِهِمَا إِلَى مُسَيْلِمَة، فَقَالَ لِأَحَدِهِمَا : أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّه ؟ قَالَ نَعَمْ.
قَالَ.
: أَتَشْهَد أَنِّي رَسُول اللَّه ؟ قَالَ نَعَمْ.
فَخَلَّى عَنْهُ.
وَقَالَ لِلْآخَرِ : أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّه ؟ قَالَ نَعَمْ.
قَالَ : وَتَشْهَد أَنِّي رَسُول اللَّه ؟ قَالَ : أَنَا أَصَمّ لَا أَسْمَع ; فَقَدَّمَهُ وَضَرَبَ عُنُقه.
فَجَاءَ هَذَا إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : هَلَكْت، قَالَ :( وَمَا أَهْلَكَك ) ؟ فَذَكَرَ الْحَدِيث، قَالَ : أَمَّا صَاحِبك فَأَخَذَ بِالثِّقَةِ وَأَمَّا أَنْتَ فَأَخَذْت بِالرُّخْصَةِ عَلَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ السَّاعَة ) قَالَ : أَشْهَد أَنَّك رَسُول اللَّه.
قَالَ ( أَنْتَ عَلَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ ).
الرُّخْصَة فِيمَنْ حَلَّفَهُ سُلْطَان ظَالِم عَلَى نَفْسه أَوْ عَلَى أَنْ يَدُلّهُ عَلَى رَجُل أَوْ مَال رَجُل ; فَقَالَ الْحَسَن : إِذَا خَافَ عَلَيْهِ وَعَلَى مَاله فَلْيَحْلِفْ وَلَا يُكَفِّر يَمِينه ; وَهُوَ قَوْل قَتَادَة إِذَا حَلَفَ عَلَى نَفْسه أَوْ مَال نَفْسه.
وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا لِلْعُلَمَاءِ فِي هَذَا.
وَذَكَرَ مُوسَى بْن مُعَاوِيَة أَنَّ أَبَا سَعِيد بْن أَشْرَس صَاحِب مَالِك اِسْتَحْلَفَهُ السُّلْطَان بِتُونُس عَلَى رَجُل أَرَادَ السُّلْطَان قَتْله أَنَّهُ مَا آوَاهُ، وَلَا يَعْلَم لَهُ مَوْضِعًا ; قَالَ : فَحَلَفَ لَهُ اِبْن أَشْرَس ; وَابْن أَشْرَس يَوْمئِذٍ قَدْ عَلِمَ مَوْضِعه وَآوَاهُ، فَحَلَّفَهُ بِالطَّلَاقِ ثَلَاثًا، فَحَلَفَ لَهُ اِبْن أَشْرَس، ثُمَّ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : اِعْتَزِلِي فَاعْتَزَلَتْهُ ; ثُمَّ رَكِبَ اِبْن أَشْرَس حَتَّى قَدِمَ عَلَى الْبُهْلُول بْن رَاشِد الْقَيْرَوَان، فَأَخْبَرَهُ بِالْخَبَرِ ; فَقَالَ لَهُ الْبُهْلُول : قَالَ مَالِك إِنَّك حَانِث.
فَقَالَ اِبْن أَشْرَس : وَأَنَا سَمِعْت مَالِكًا يَقُول ذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَرَدْت الرُّخْصَة أَوْ كَلَام هَذَا مَعْنَاهُ ; فَقَالَ لَهُ الْبُهْلُول بْن رَاشِد : قَالَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ إِنَّهُ لَا حِنْث عَلَيْك.
قَالَ : فَرَجَعَ اِبْن أَشْرَس إِلَى زَوْجَته وَأَخَذَ بِقَوْلِ الْحَسَن.
وَذَكَرَ عَبْد الْمَلِك بْن حَبِيب قَالَ : حَدَّثَنِي مَعْبَد عَنْ الْمُسَيِّب بْن شَرِيك عَنْ أَبِي شَيْبَة قَالَ : سَأَلْت أَنَس بْن مَالِك عَنْ الرَّجُل يُؤْخَذ بِالرَّجُلِ، هَلْ تَرَى أَنْ يَحْلِف لِيَقِيَهُ بِيَمِينِهِ ؟ فَقَالَ نَعَمْ ; وَلَأَنْ أَحْلِف سَبْعِينَ يَمِينًا وَأَحْنَث أَحَبّ إِلَيَّ أَنْ أَدُلّ عَلَى مُسْلِم.
وَقَالَ إِدْرِيس بْن يَحْيَى كَانَ الْوَلِيد بْن عَبْد الْمَلِك يَأْمُر جَوَاسِيس يَتَجَسَّسُونَ الْخَلْق يَأْتُونَهُ بِالْأَخْبَارِ، قَالَ : فَجَلَسَ رَجُل مِنْهُمْ فِي حَلْقَة رَجَاء بْن حَيْوَة فَسَمِعَ بَعْضهمْ يَقَع فِي الْوَلِيد، فَرَفَعَ ذَلِكَ إِلَيْهِ فَقَالَ : يَا رَجَاء ! أُذْكَر بِالسُّوءِ فِي مَجْلِسك وَلَمْ تُغَيِّر ! فَقَالَ : مَا كَانَ ذَلِكَ يَا أَمِير الْمُؤْمِنِينَ ; فَقَالَ لَهُ الْوَلِيد : قُلْ آللَّه الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ، قَالَ : آللَّه الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ، فَأَمَرَ الْوَلِيد بِالْجَاسُوسِ فَضَرَبَهُ سَبْعِينَ سَوْطًا، فَكَانَ يَلْقَى رَجَاء فَيَقُول : يَا رَجَاء، بِك يُسْتَقَى الْمَطَر، وَسَبْعُونَ سَوْطًا فِي ظَهْرِي ! فَيَقُول رَجَاء : سَبْعُونَ سَوْطًا فِي ظَهْرك خَيْر لَك مِنْ أَنْ يُقْتَل رَجُل مُسْلِم.
[ التَّاسِعَة عَشْرَة ] وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي حَدّ الْإِكْرَاه ; فَرُوِيَ عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَيْسَ الرَّجُل آمَن عَلَى نَفْسه إِذَا أَخَفْته أَوْ أَوْثَقْته أَوْ ضَرَبْته.
وَقَالَ اِبْن مَسْعُود : مَا كَلَام يَدْرَأ عَنِّي سَوْطَيْنِ إِلَّا كُنْت مُتَكَلِّمًا بِهِ.
وَقَالَ الْحَسَن : التَّقِيَّة جَائِزَة لِلْمُؤْمِنِ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، إِلَّا أَنَّ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَيْسَ يَجْعَل فِي الْقَتْل تَقِيَّة.
وَقَالَ النَّخَعِيّ : الْقَيْد إِكْرَاه، وَالسَّجْن إِكْرَاه.
وَهَذَا قَوْل مَالِك، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ : وَالْوَعِيد الْمُخَوِّف إِكْرَاه وَإِنْ لَمْ يَقَع إِذَا تَحَقَّقَ ظُلْم ذَلِكَ الْمُعْتَدِي وَإِنْفَاذه لِمَا يَتَوَعَّد بِهِ، وَلَيْسَ عِنْد مَالِك وَأَصْحَابه فِي الضَّرْب وَالسَّجْن تَوْقِيت، إِنَّمَا هُوَ مَا كَانَ يُؤْلِم مِنْ الضَّرْب، وَمَا كَانَ مِنْ سِجْن يَدْخُل مِنْهُ الضِّيق عَلَى الْمُكْرَه.
وَإِكْرَاه السُّلْطَان وَغَيْره عِنْد مَالِك إِكْرَاه.
وَتَنَاقَضَ الْكُوفِيُّونَ فَلَمْ يَجْعَلُوا السَّجْن وَالْقَيْد إِكْرَاهًا مَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْإِكْرَاه يَكُون مِنْ غَيْر تَلَف نَفْس.
وَذَهَبَ مَالِك إِلَى أَنَّ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى يَمِين بِوَعِيدٍ أَوْ سَجْن أَوْ ضَرْب أَنَّهُ يَحْلِف، وَلَا حِنْث عَلَيْهِ ; وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَأَبِي ثَوْر وَأَكْثَر الْعُلَمَاء.
[ الْمُوَفِّيَة عِشْرِينَ ] وَمِنْ هَذَا الْبَاب مَا ثَبَتَ إِنَّ مِنْ الْمَعَارِيض لَمَنْدُوحَةً عَنْ الْكَذِب.
وَرَوَى الْأَعْمَش عَنْ إِبْرَاهِيم النَّخَعِيّ أَنَّهُ قَالَ : لَا بَأْس إِذَا بَلَغَ الرَّجُل عَنْك شَيْء أَنْ تَقُول : وَاَللَّه، إِنَّ اللَّه يَعْلَم مَا قُلْت فِيك مِنْ ذَلِكَ مِنْ شَيْء.
قَالَ عَبْد الْمَلِك بْن حَبِيب : مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّه يَعْلَم أَنَّ الَّذِي قُلْت، وَهُوَ فِي ظَاهِره اِنْتِفَاء مِنْ الْقَوْل، وَلَا حِنْث عَلَى مَنْ قَالَ ذَلِكَ فِي يَمِينه وَلَا كَذِب عَلَيْهِ فِي كَلَامه.
وَقَالَ النَّخَعِيّ : كَانَ لَهُمْ كَلَام مِنْ أَلْغَاز الْأَيْمَان يَدْرَءُونَ بِهِ عَنْ أَنْفُسهمْ، لَا يَرَوْنَ ذَلِكَ مِنْ الْكَذِب وَلَا يَخْشَوْنَ فِيهِ الْحِنْث.
قَالَ عَبْد الْمَلِك : وَكَانُوا يُسَمُّونَ ذَلِكَ الْمَعَارِيض مِنْ الْكَلَام، إِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي غَيْر مَكْر وَلَا خَدِيعَة فِي حَقّ.
وَقَالَ الْأَعْمَش : كَانَ إِبْرَاهِيم النَّخَعِيّ إِذَا أَتَاهُ أَحَد يَكْرَه الْخُرُوج إِلَيْهِ جَلَسَ فِي مَسْجِد بَيْته وَقَالَ لِجَارِيَتِهِ : قُولِي لَهُ هُوَ وَاَللَّه فِي الْمَسْجِد.
وَرَوَى مُغِيرَة عَنْ إِبْرَاهِيم أَنَّهُ كَانَ يُجِيز لِلرَّجُلِ مِنْ الْبَعْث إِذَا عُرِضُوا عَلَى أَمِيرهمْ أَنْ يَقُول : وَاَللَّه مَا أَهْتَدِي إِلَّا مَا سَدَّدَ لِي غَيْرِي، وَلَا أَرْكَب إِلَّا مَا حَمَلَنِي غَيْرِي ; وَنَحْو هَذَا مِنْ الْكَلَام.
قَالَ عَبْد الْمَلِك : يَعْنِي بِقَوْلِهِ ( غَيْرِي ) اللَّه تَعَالَى، هُوَ مُسَدِّده وَهُوَ يَحْمِلهُ ; فَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَ عَلَى الرَّجُل فِي هَذَا حِنْثًا فِي يَمِينه، وَلَا كَذِبًا فِي كَلَامه، وَكَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يُقَال هَذَا فِي خَدِيعَة وَظُلْم وَجُحْدَان حَقّ فَمَنْ اِجْتَرَأَ وَفَعَلَ أَثِمَ فِي خَدِيعَته وَلَمْ تَجِب عَلَيْهِ كَفَّارَة فِي يَمِينه.
وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا
أَيْ وَسِعَهُ لِقَبُولِ الْكُفْر، وَلَا يَقْدِر أَحَد عَلَى ذَلِكَ إِلَّا اللَّه ; فَهُوَ يَرُدّ عَلَى الْقَدَرِيَّة.
و ( صَدْرًا ) نُصِبَ عَلَى الْمَفْعُول.
فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
وَهُوَ عَذَاب جَهَنَّم.
إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ
" إِنَّمَا " كَلِمَة مَوْضُوعَة لِلْحَصْرِ، تَتَضَمَّن النَّفْي وَالْإِثْبَات ; فَتُثْبِت مَا تَنَاوَلَهُ الْخِطَاب وَتَنْفِي مَا عَدَاهُ، وَقَدْ حَصَرَتْ هَا هُنَا التَّحْرِيم، لَا سِيَّمَا وَقَدْ جَاءَتْ عَقِيب التَّحْلِيل فِي قَوْله تَعَالَى :" يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَات مَا رَزَقْنَاكُمْ " فَأَفَادَتْ الْإِبَاحَة عَلَى الْإِطْلَاق، ثُمَّ عَقَّبَهَا بِذِكْرِ الْمُحَرَّم بِكَلِمَةِ " إِنَّمَا " الْحَاصِرَة، فَاقْتَضَى ذَلِكَ الْإِيعَاب لِلْقِسْمَيْنِ ; فَلَا مُحَرَّم يَخْرُج عَنْ هَذِهِ الْآيَة، وَهِيَ مَدَنِيَّة، وَأَكَّدَهَا بِالْآيَةِ الْأُخْرَى الَّتِي رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ بِعَرَفَة :" قُلْ لَا أَجِد فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِم يَطْعَمهُ " [ الْأَنْعَام : ١٤٥ ] إِلَى آخِرهَا ; فَاسْتَوْفَى الْبَيَان أَوَّلًا وَآخِرًا ; قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ.
وَسَيَأْتِي الْكَلَام فِي تِلْكَ فِي " الْأَنْعَام " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
الْمَيْتَةَ
نُصِبَ ب " حَرَّمَ "، و " مَا " كَافَّة.
وَيَجُوز أَنْ تَجْعَلهَا بِمَعْنَى الَّذِي، مُنْفَصِلَة فِي الْخَطّ، وَتُرْفَع " الْمَيْتَة وَالدَّم وَلَحْم الْخِنْزِير " عَلَى خَبَر " إِنَّ " وَهِيَ قِرَاءَة اِبْن أَبِي عَبْلَة.
وَفِي " حَرَّمَ " ضَمِير يَعُود عَلَى الَّذِي ; وَنَظِيره قَوْله تَعَالَى :" إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْد سَاحِر " [ طَه : ٦٩ ].
وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَر " حُرِّمَ " بِضَمِّ الْحَاء وَكَسْر الرَّاء وَرَفْع الْأَسْمَاء بَعْدهَا، إِمَّا عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِله، وَإِمَّا عَلَى خَبَر إِنَّ.
وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَر بْن الْقَعْقَاع أَيْضًا " الْمَيِّتَة " بِالتَّشْدِيدِ.
الطَّبَرِيّ : وَقَالَ جَمَاعَة مِنْ اللُّغَوِيِّينَ : التَّشْدِيد وَالتَّخْفِيف فِي مَيْت وَمَيِّت لُغَتَانِ.
وَقَالَ أَبُو حَاتِم وَغَيْره : مَا قَدْ مَاتَ فَيُقَالَانِ فِيهِ، وَمَا لَمْ يَمُتْ بَعْد فَلَا يُقَال فِيهِ " مَيْت " بِالتَّخْفِيفِ ; دَلِيله قَوْله تَعَالَى :" إِنَّك مَيِّت وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ " [ الزُّمَر : ٣٠ ].
وَقَالَ الشَّاعِر : لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَرَاحَ بِمَيْتٍ إِنَّمَا الْمَيْت مَيِّت الْأَحْيَاء
وَلَمْ يَقْرَأ أَحَد بِتَخْفِيفِ مَا لَمْ يَمُتْ ; إِلَّا مَا رَوَى الْبَزِّيّ عَنْ اِبْن كَثِير " وَمَا هُوَ بِمَيْتٍ " وَالْمَشْهُور عَنْهُ التَّثْقِيل ; وَأَمَّا قَوْل الشَّاعِر :
إِذَا مَا مَاتَ مَيْت مِنْ تَمِيم فَسَرَّك أَنْ يَعِيش فَجِئْ بِزَادِ
فَلَا أَبْلَغ فِي الْهِجَاء مِنْ أَنَّهُ أَرَادَ الْمَيِّت حَقِيقَة ; وَقَدْ ذَهَبَ بَعْض النَّاس إِلَى أَنَّهُ أَرَادَ مَنْ شَارَفَ الْمَوْت ; وَالْأَوَّل أَشْهَر.
الْمَيْتَة : مَا فَارَقَتْهُ الرُّوح مِنْ غَيْر ذَكَاة مِمَّا يُذْبَح ; وَمَا لَيْسَ بِمَأْكُولٍ فَذَكَاته كَمَوْتِهِ ; كَالسِّبَاعِ وَغَيْرهَا، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه هُنَا وَفِي " الْأَنْعَام " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
هَذِهِ الْآيَة عَامَّة دَخَلَهَا التَّخْصِيص بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام :( أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ الْحُوت وَالْجَرَاد وَدَمَانِ الْكَبِد وَالطِّحَال ).
أَخْرَجَهُ الدَّار قُطْنِيّ، وَكَذَلِكَ حَدِيث جَابِر فِي الْعَنْبَر يُخَصِّص عُمُوم الْقُرْآن بِصِحَّةِ سَنَده.
خَرَّجَهُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم مَعَ قَوْله تَعَالَى :" أُحِلَّ لَكُمْ صَيْد الْبَحْر " [ الْمَائِدَة : ٩٦ ]، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه هُنَاكَ، إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
وَأَكْثَر أَهْل الْعِلْم عَلَى جَوَاز أَكْل جَمِيع دَوَابّ الْبَحْر حَيّهَا وَمَيِّتهَا ; وَهُوَ مَذْهَب مَالِك.
وَتَوَقَّفَ أَنْ يُجِيب فِي خِنْزِير الْمَاء وَقَالَ : أَنْتُمْ تَقُولُونَ خِنْزِيرًا قَالَ اِبْن الْقَاسِم : وَأَنَا أَتَّقِيه وَلَا أَرَاهُ حَرَامًا.
وَقَدْ اِخْتَلَفَ النَّاس فِي تَخْصِيص كِتَاب اللَّه تَعَالَى بِالسُّنَّةِ، وَمَعَ اِخْتِلَافهمْ فِي ذَلِكَ اِتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوز تَخْصِيصه بِحَدِيثٍ ضَعِيف ; قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَقَدْ يُسْتَدَلّ عَلَى تَخْصِيص هَذِهِ الْآيَة أَيْضًا بِمَا فِي صَحِيح مُسْلِم مِنْ حَدِيث عَبْد اللَّه بْن أَبِي أَوْفَى قَالَ : غَزَوْنَا مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْع غَزَوَات كُنَّا نَأْكُل الْجَرَاد مَعَهُ.
وَظَاهِره أَكْله كَيْفَ مَا مَاتَ بِعِلَاجٍ أَوْ حَتْف أَنْفه ; وَبِهَذَا قَالَ اِبْن نَافِع وَابْن عَبْد الْحَكَم وَأَكْثَر الْعُلَمَاء، وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَأَبِي حَنِيفَة وَغَيْرهمَا.
وَمَنَعَ مَالِك وَجُمْهُور أَصْحَابه مِنْ أَكْله إِنْ مَاتَ حَتْف أَنْفه ; لِأَنَّهُ مِنْ صَيْد الْبَرّ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُحْرِم يُجْزِئهُ إِذَا قَتَلَهُ ; فَأَشْبَهَ الْغَزَال.
وَقَالَ أَشْهَب : إِنْ مَاتَ مِنْ قَطْع رِجْل أَوْ جَنَاح لَمْ يُؤْكَل ; لِأَنَّهَا حَالَة قَدْ يَعِيش بِهَا وَيَنْسِل.
وَسَيَأْتِي لِحُكْمِ الْجَرَاد مَزِيد بَيَان فِي " الْأَعْرَاف " عِنْد ذِكْره، إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء هَلْ يَجُوز أَنْ يُنْتَفَع بِالْمَيْتَةِ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ النَّجَاسَات، وَاخْتُلِفَ عَنْ مَالِك فِي ذَلِكَ أَيْضًا ; فَقَالَ مَرَّة : يَجُوز الِانْتِفَاع بِهَا ; لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَى شَاة مَيْمُونَة فَقَالَ :( هَلَّا أَخَذْتُمْ إِهَابهَا ) الْحَدِيث.
وَقَالَ مَرَّة : جُمْلَتهَا مُحَرَّم، فَلَا يَجُوز الِانْتِفَاع بِشَيْءٍ مِنْهَا، وَلَا بِشَيْءٍ مِنْ النَّجَاسَات عَلَى وَجْه مِنْ وُجُوه الِانْتِفَاع ; حَتَّى لَا يَجُوز أَنْ يُسْقَى الزَّرْع وَلَا الْحَيَوَان الْمَاء النَّجِس، وَلَا تُعْلَف الْبَهَائِم النَّجَاسَات، وَلَا تُطْعَم الْمَيْتَة الْكِلَاب وَالسِّبَاع، وَإِنْ أَكَلَتْهَا لَمْ تُمْنَع.
وَوَجْه هَذَا الْقَوْل ظَاهِر قَوْله تَعَالَى :" حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَة وَالدَّم " [ الْمَائِدَة : ٣ ] وَلَمْ يَخُصّ وَجْهًا مِنْ وَجْه، وَلَا يَجُوز أَنْ يُقَال : هَذَا الْخِطَاب مُجْمَل ; لِأَنَّ الْمُجْمَل مَا لَا يُفْهَم الْمُرَاد مِنْ ظَاهِره، وَقَدْ فَهِمَتْ الْعَرَب الْمُرَاد مِنْ قَوْله تَعَالَى :" حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَة "، وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( لَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَة بِشَيْءٍ ).
وَفِي حَدِيث عَبْد اللَّه بْن عُكَيْم ( لَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَة بِإِهَابٍ وَلَا عَصَب ).
وَهَذَا آخِر مَا وَرَدَ بِهِ كِتَابه قَبْل مَوْته بِشَهْرٍ ; وَسَيَأْتِي بَيَان هَذِهِ الْأَخْبَار وَالْكَلَام عَلَيْهَا فِي " النَّحْل " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
فَأَمَّا النَّاقَة إِذَا نُحِرَتْ، أَوْ الْبَقَرَة أَوْ الشَّاة إِذَا ذُبِحَتْ، وَكَانَ فِي بَطْنهَا جَنِين مَيِّت فَجَائِز أَكْله مِنْ غَيْر تَذْكِيَة لَهُ فِي نَفْسه، إِلَّا أَنْ يَخْرُج حَيًّا فَيُذَكَّى، وَيَكُون لَهُ حُكْم نَفْسه، وَذَلِكَ أَنَّ الْجَنِين إِذَا خَرَجَ مِنْهَا بَعْد الذَّبْح مَيِّتًا جَرَى مَجْرَى الْعُضْو مِنْ أَعْضَائِهَا.
وَمِمَّا يُبَيِّن ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ بَاعَ الشَّاة وَاسْتَثْنَى مَا فِي بَطْنهَا لَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ اسْتَثْنَى عُضْوًا مِنْهَا، وَكَانَ مَا فِي بَطْنهَا تَابِعًا لَهَا كَسَائِرِ أَعْضَائِهَا.
وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْتَقَهَا مِنْ غَيْر أَنْ يُوقِع عَلَى مَا فِي بَطْنهَا عِتْقًا مُبْتَدَأ ; وَلَوْ كَانَ مُنْفَصِلًا عَنْهَا لَمْ يَتْبَعهَا فِي بَيْع وَلَا عِتْق.
وَقَدْ رَوَى جَابِر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ الْبَقَرَة وَالشَّاة تُذْبَح، وَالنَّاقَة تُنْحَر فَيَكُون فِي بَطْنهَا جَنِين مَيِّت ; فَقَالَ :( إِنْ شِئْتُمْ فَكُلُوهُ لِأَنَّ ذَكَاته ذَكَاة أُمّه ).
خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُد بِمَعْنَاهُ مِنْ حَدِيث أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ وَهُوَ نَصّ لَا يُحْتَمَل.
وَسَيَأْتِي لِهَذَا مَزِيد بَيَان فِي سُورَة " الْمَائِدَة " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَة عَنْ مَالِك فِي جِلْد الْمَيْتَة هَلْ يَطْهُر بِالدِّبَاغِ أَوْ لَا ; فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَطْهُر، وَهُوَ ظَاهِر مَذْهَبه.
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يَطْهُر ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام ( أَيّمَا إِهَاب دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ ).
وَوَجْه قَوْله : لَا يَطْهُر ; بِأَنَّهُ جُزْء مِنْ الْمَيْتَة لَوْ أُخِذَ مِنْهَا فِي حَال الْحَيَاة كَانَ نَجِسًا، فَوَجَبَ أَلَّا يُطَهِّرهُ الدِّبَاغ قِيَاسًا عَلَى اللَّحْم.
وَتُحْمَل الْأَخْبَار بِالطَّهَارَةِ عَلَى أَنَّ الدِّبَاغ يُزِيل الْأَوْسَاخ عَنْ الْجِلْد حَتَّى يُنْتَفَع بِهِ فِي الْأَشْيَاء الْيَابِسَة وَفِي الْجُلُوس عَلَيْهِ، وَيَجُوز أَيْضًا أَنْ يُنْتَفَع بِهِ فِي الْمَاء بِأَنْ يُجْعَل سِقَاء ; لِأَنَّ الْمَاء عَلَى أَصْل الطَّهَارَة مَا لَمْ يَتَغَيَّر لَهُ وَصْف عَلَى مَا يَأْتِي مِنْ حُكْمه فِي سُورَة " الْفُرْقَان ".
وَالطَّهَارَة فِي اللُّغَة مُتَوَجِّهَة نَحْو إِزَالَة الْأَوْسَاخ كَمَا تَتَوَجَّه إِلَى الطَّهَارَة الشَّرْعِيَّة، وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَم.
وَأَمَّا شَعْر الْمَيْتَة وَصُوفهَا فَطَاهِر ; لِمَا رُوِيَ عَنْ أُمّ سَلَمَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :( لَا بَأْس بِمَسْكِ الْمَيْتَة إِذَا دُبِغَ وَصُوفهَا وَشَعْرهَا إِذَا غُسِلَ ).
وَلِأَنَّهُ كَانَ طَاهِرًا لَوْ أُخِذَ مِنْهَا فِي حَال الْحَيَاة فَوَجَبَ أَنْ يَكُون كَذَلِكَ بَعْد الْمَوْت، إِلَّا أَنَّ اللَّحْم لَمَّا كَانَ نَجِسًا فِي حَال الْحَيَاة كَانَ كَذَلِكَ بَعْد الْمَوْت ; فَيَجِب أَنْ يَكُون الصُّوف خِلَافه فِي حَال الْمَوْت كَمَا كَانَ خِلَافه فِي حَال الْحَيَاة اِسْتِدْلَالًا بِالْعَكْسِ.
وَلَا يَلْزَم عَلَى هَذَا اللَّبَن وَالْبَيْضَة مِنْ الدَّجَاجَة الْمَيِّتَة ; لِأَنَّ اللَّبَن عِنْدنَا طَاهِر بَعْد الْمَوْت، وَكَذَلِكَ الْبَيْضَة، وَلَكِنَّهُمَا حَصَلَا فِي وِعَاء نَجَس فَتَنَجَّسَا بِمُجَاوَرَةِ الْوِعَاء لَا أَنَّهُمَا نُجِّسَا بِالْمَوْتِ.
وَأَمَّا مَا وَقَعَتْ فِيهِ الْفَأْرَة فَلَهُ حَالَتَانِ : حَالَة تَكُون إِنْ أُخْرِجَتْ الْفَأْرَة حَيَّة فَهُوَ طَاهِر.
وَإِنْ مَاتَتْ فِيهِ فَلَهُ حَالَتَانِ : حَالَة يَكُون مَائِعًا فَإِنَّهُ يُنَجَّس جَمِيعه.
وَحَالَة يَكُون جَامِدًا فَإِنَّهُ يُنَجَّس مَا جَاوَرَهَا، فَتُطْرَح وَمَا حَوْلهَا، وَيُنْتَفَع بِمَا بَقِيَ وَهُوَ عَلَى طَهَارَته ; لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ الْفَأْرَة تَقَع فِي السَّمْن فَتَمُوت ; فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام :( إِنْ كَانَ جَامِدًا فَاطْرَحُوهَا وَمَا حَوْلهَا وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَأَرِيقُوهُ ).
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِيهِ إِذَا غُسِلَ ; فَقِيلَ : لَا يَطْهُر بِالْغَسْلِ ; لِأَنَّهُ مَائِع نَجَس فَأَشْبَهَ الدَّم وَالْخَمْر وَالْبَوْل وَسَائِر النَّجَاسَات.
وَقَالَ اِبْن الْقَاسِم : يَطْهُر بِالْغَسْلِ ; لِأَنَّهُ جِسْم تَنَجَّسَ بِمُجَاوَرَةِ النَّجَاسَة فَأَشْبَهَ الثَّوْب ; وَلَا يَلْزَم عَلَى هَذَا الدَّم ; لِأَنَّهُ نَجَس بِعَيْنِهِ، وَلَا الْخَمْر وَالْبَوْل لِأَنَّ الْغَسْل يَسْتَهْلِكهُمَا وَلَا يَتَأَتَّى فِيهِ.
فَإِذَا حَكَمْنَا بِطَهَارَتِهِ بِالْغَسْلِ رَجَعَ إِلَى حَالَته الْأُولَى فِي الطَّهَارَة وَسَائِر وُجُوه الِانْتِفَاع ; لَكِنْ لَا يَبِيعهُ حَتَّى يُبَيِّن ; لِأَنَّ ذَلِكَ عَيْب عِنْد النَّاس تَأْبَاهُ نُفُوسهمْ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَقِد تَحْرِيمه وَنَجَاسَته ; فَلَا يَجُوز بَيْعه حَتَّى يُبَيِّن الْعَيْب كَسَائِرِ الْأَشْيَاء الْمَعِيبَة.
وَأَمَّا قَبْل الْغَسْل فَلَا يَجُوز بَيْعه بِحَالٍ ; لِأَنَّ النَّجَاسَات عِنْده لَا يَجُوز بَيْعهَا، وَلِأَنَّهُ مَائِع نَجَس فَأَشْبَهَ الْخَمْر، وَلِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ ثَمَن الْخَمْر فَقَالَ :( لَعَنَ اللَّه الْيَهُود حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُوم فَجَمَلُوهَا فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانهَا وَأَنَّ اللَّه إِذَا حَرَّمَ شَيْئًا حَرَّمَ ثَمَنه ) وَهَذَا الْمَائِع مُحَرَّم لِنَجَاسَتِهِ فَوَجَبَ أَنْ يُحَرَّم ثَمَنه بِحُكْمِ الظَّاهِر.
وَاخْتُلِفَ إِذَا وَقَعَ فِي الْقِدْر حَيَوَان، طَائِر أَوْ غَيْره فَمَاتَ فَرَوَى اِبْن وَهْب عَنْ مَالِك أَنَّهُ قَالَ : لَا يُؤْكَل مَا فِي الْقِدْر، وَقَدْ تَنَجَّسَ بِمُخَالَطَةِ الْمَيْتَة إِيَّاهُ.
وَرَوَى اِبْن الْقَاسِم عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : يُغْسَل اللَّحْم وَيُرَاق الْمَرَق.
وَقَدْ سُئِلَ اِبْن عَبَّاس عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَة فَقَالَ : يُغْسَل اللَّحْم وَيُؤْكَل.
وَلَا مُخَالِف لَهُ فِي الْمَرَق مِنْ أَصْحَابه ; ذَكَرَهُ اِبْن خُوَيْز مِنْدَاد.
فَأَمَّا أَنْفِحَة الْمَيْتَة وَلَبَن الْمَيْتَة فَقَالَ الشَّافِعِيّ : ذَلِكَ نَجَس لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى " حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَة " [ الْمَائِدَة : ٣ ].
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة بِطَهَارَتِهِمَا ; وَلَمْ يُجْعَل لِمَوْضِعِ الْخِلْقَة أَثَرًا فِي تَنَجُّس مَا جَاوَرَهُ مِمَّا حَدَثَ فِيهِ خِلْقَة، قَالَ : وَلِذَلِكَ يُؤْكَل اللَّحْم بِمَا فِيهِ مِنْ الْعُرُوق، مَعَ الْقَطْع بِمُجَاوَرَةِ الدَّم لِدَوَاخِلِهَا مِنْ غَيْر تَطْهِير وَلَا غَسْل إِجْمَاعًا.
وَقَالَ مَالِك نَحْو قَوْل أَبِي حَنِيفَة إِنَّ ذَلِكَ لَا يُنَجَّس بِالْمَوْتِ، وَلَكِنْ يُنَجَّس بِمُجَاوَرَةِ الْوِعَاء النَّجَس وَهُوَ مِمَّا لَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْغَسْل.
وَكَذَلِكَ الدَّجَاجَة تَخْرُج مِنْهَا الْبَيْضَة بَعْد مَوْتهَا ; لِأَنَّ الْبَيْضَة لَيِّنَة فِي حُكْم الْمَائِع قَبْل خُرُوجهَا، وَإِنَّمَا تَجْمُد وَتَصْلُب بِالْهَوَاءِ.
قَالَ اِبْن خُوَيْز مِنْدَاد فَإِنْ قِيلَ : فَقَوْلكُمْ يُؤَدِّي إِلَى خِلَاف الْإِجْمَاع ; وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ بَعْده كَانُوا يَأْكُلُونَ الْجُبْن وَكَانَ مَجْلُوبًا إِلَيْهِمْ مِنْ أَرْض الْعَجَم، وَمَعْلُوم أَنَّ ذَبَائِح الْعَجَم وَهُمْ مَجُوس مَيْتَة، وَلَمْ يَعْتَدُّوا بِأَنْ يَكُون مُجَمَّدًا بِأَنْفِحَة مَيْتَة أَوْ ذُكِّيَ.
قِيلَ لَهُ : قَدْر مَا يَقَع مِنْ الْأَنْفِحَة فِي اللَّبَن الْمُجَبَّن يَسِير ; وَالْيَسِير مِنْ النَّجَاسَة مَعْفُوّ عَنْهُ إِذَا خَالَطَ الْكَثِير مِنْ الْمَائِع.
هَذَا جَوَاب عَلَى إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ.
وَعَلَى الرِّوَايَة الْأُخْرَى إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي أَوَّل الْإِسْلَام، وَلَا يُمْكِن أَحَد أَنْ يَنْقُل أَنَّ الصَّحَابَة أَكَلَتْ الْجُبْن الْمَحْمُول مِنْ أَرْض الْعَجَم، بَلْ الْجُبْن لَيْسَ مِنْ طَعَام الْعَرَب ; فَلَمَّا اِنْتَشَرَ الْمُسْلِمُونَ فِي أَرْض الْعَجَم بِالْفُتُوحِ صَارَتْ الذَّبَائِح لَهُمْ ; فَمِنْ أَيْنَ لَنَا أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَة أَكَلَتْ جُبْنًا فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُون مَحْمُولًا مِنْ أَرْض الْعَجَم وَمَعْمُولًا مِنْ أَنْفِحَة ذَبَائِحهمْ.
وَقَالَ أَبُو عُمَر : وَلَا بَأْس بِأَكْلِ طَعَام عَبَدَة الْأَوْثَان وَالْمَجُوس وَسَائِر مَنْ لَا كِتَاب لَهُ مِنْ الْكُفَّار مَا لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَبَائِحهمْ وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى ذَكَاة إِلَّا الْجُبْن لِمَا فِيهِ مِنْ أَنْفِحَة الْمَيْتَة.
وَفِي سُنَن اِبْن مَاجَهْ " الْجُبْن وَالسَّمْن " حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل بْن مُوسَى السُّدِّيّ حَدَّثَنَا سَيْف بْن هَارُون عَنْ سُلَيْمَان التَّيْمِيّ عَنْ أَبِي عُثْمَان النَّهْدِيّ عَنْ سَلْمَان الْفَارِسِيّ قَالَ : سُئِلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ السَّمْن وَالْجُبْن وَالْفِرَاءِ.
فَقَالَ :( الْحَلَال مَا أَحَلَّ اللَّه فِي كِتَابه وَالْحَرَام مَا حَرَّمَ اللَّه فِي كِتَابه وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ ).
وَالدَّمَ
اِتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الدَّم حَرَام نَجَس لَا يُؤْكَل وَلَا يُنْتَفَع بِهِ.
قَالَ اِبْن خُوَيْز مِنْدَاد : وَأَمَّا الدَّم فَمُحَرَّم مَا لَمْ تَعُمّ بِهِ الْبَلْوَى، وَمَعْفُوّ عَمَّا تَعُمّ بِهِ الْبَلْوَى.
وَاَلَّذِي تَعُمّ بِهِ الْبَلْوَى هُوَ الدَّم فِي اللَّحْم وَعُرُوقه، وَيَسِيره فِي الْبَدَن وَالثَّوْب يُصَلَّى فِيهِ.
وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ :" حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَة وَالدَّم " [ الْمَائِدَة : ٣ ]، وَقَالَ فِي مَوْضِع آخَر " قُلْ لَا أَجِد فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِم يَطْعَمهُ إِلَّا أَنْ يَكُون مَيْتَة أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا " [ الْأَنْعَام : ١٤٥ ].
فَحَرَّمَ الْمَسْفُوح مِنْ الدَّم.
وَقَدْ رَوَتْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ :( كُنَّا نَطْبُخ الْبُرْمَة عَلَى عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْلُوهَا الصُّفْرَة مِنْ الدَّم فَنَأْكُل وَلَا نُنْكِرهُ ) لِأَنَّ التَّحَفُّظ مِنْ هَذَا إِصْر وَفِيهِ مَشَقَّة، وَالْإِصْر وَالْمَشَقَّة فِي الدِّين مَوْضُوع.
وَهَذَا أَصْل فِي الشَّرْع، أَنَّ كُلَّمَا حَرَجَتْ الْأُمَّة فِي أَدَاء الْعِبَادَة فِيهِ وَثَقُلَ عَلَيْهَا سَقَطَتْ الْعِبَادَة عَنْهَا فِيهِ ; أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُضْطَرّ يَأْكُل الْمَيْتَة، وَأَنَّ الْمَرِيض يُفْطِر وَيَتَيَمَّم فِي نَحْو ذَلِكَ.
قُلْت : ذَكَرَ اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى الدَّم هَا هُنَا مُطْلَقًا، وَقَيَّدَهُ فِي الْأَنْعَام بِقَوْلِهِ " مَسْفُوحًا " [ الْأَنْعَام : ١٤٥ ] وَحَمَلَ الْعُلَمَاء هَا هُنَا الْمُطْلَق عَلَى الْمُقَيَّد إِجْمَاعًا.
فَالدَّم هُنَا يُرَاد بِهِ الْمَسْفُوح ; لِأَنَّ مَا خَالَطَ اللَّحْم فَغَيْر مُحَرَّم بِإِجْمَاعٍ، وَكَذَلِكَ الْكَبِد وَالطِّحَال مُجْمَع عَلَيْهِ.
وَفِي دَم الْحُوت الْمُزَايِل لَهُ اِخْتِلَاف ; وَرُوِيَ عَنْ الْقَابِسِيّ أَنَّهُ طَاهِر، وَيَلْزَم عَلَى طَهَارَته أَنَّهُ غَيْر مُحَرَّم.
وَهُوَ اِخْتِيَار اِبْن الْعَرَبِيّ، قَالَ : لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ دَم السَّمَك نَجَسًا لَشُرِعَتْ ذَكَاته.
قُلْت : وَهُوَ مَذْهَب أَبِي حَنِيفَة فِي دَم الْحُوت ; سَمِعْت بَعْض الْحَنَفِيَّة يَقُول : الدَّلِيل عَلَى أَنَّهُ طَاهِر أَنَّهُ إِذَا يَبِسَ ابْيَضَّ بِخِلَافِ سَائِر الدِّمَاء فَإِنَّهُ يَسْوَدّ.
وَهَذِهِ النُّكْتَة لَهُمْ فِي الِاحْتِجَاج عَلَى الشَّافِعِيَّة.
وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ
خَصَّ اللَّه تَعَالَى ذِكْر اللَّحْم مِنْ الْخِنْزِير لِيَدُلّ عَلَى تَحْرِيم عَيْنه ذُكِّيَ أَوْ لَمْ يُذَكَّ، وَلِيَعُمّ الشَّحْم وَمَا هُنَالِكَ مِنْ الْغَضَارِيف وَغَيْرهَا.
السَّادِسَة عَشْرَة : أَجْمَعَتْ الْأُمَّة عَلَى تَحْرِيم شَحْم الْخِنْزِير.
وَقَدْ اسْتَدَلَّ مَالِك وَأَصْحَابه عَلَى أَنَّ مَنْ حَلَفَ أَلَّا يَأْكُل شَحْمًا فَأَكَلَ لَحْمًا لَمْ يَحْنَث بِأَكْلِ اللَّحْم.
فَإِنْ حَلَفَ أَلَّا يَأْكُل لَحْمًا فَأَكَلَ شَحْمًا حَنِثَ لِأَنَّ اللَّحْم مَعَ الشَّحْم يَقَع عَلَيْهِ اِسْم اللَّحْم ; فَقَدْ دَخَلَ الشَّحْم فِي اِسْم اللَّحْم وَلَا يَدْخُل اللَّحْم فِي اِسْم الشَّحْم.
وَقَدْ حَرَّمَ اللَّه تَعَالَى لَحْم الْخِنْزِير فَنَابَ ذِكْر لَحْمه عَنْ شَحْمه ; لِأَنَّهُ دَخَلَ تَحْت اِسْم اللَّحْم.
وَحَرَّمَ اللَّه تَعَالَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيل الشُّحُوم بِقَوْلِهِ :" حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومهمَا " [ الْأَنْعَام : ١٤٦ ] فَلَمْ يَقَع بِهَذَا عَلَيْهِمْ تَحْرِيم اللَّحْم وَلَمْ يَدْخُل فِي اِسْم الشَّحْم ; فَلِهَذَا فَرَّقَ مَالِك بَيْن الْحَالِف فِي الشَّحْم وَالْحَالِف فِي اللَّحْم ; إِلَّا أَنْ يَكُون لِلْحَالِفِ نِيَّة فِي اللَّحْم دُون الشَّحْم فَلَا يَحْنَث وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَم.
وَلَا يَحْنَث فِي قَوْل الشَّافِعِيّ وَأَبِي ثَوْر وَأَصْحَاب الرَّأْي إِذَا حَلَفَ أَلَّا يَأْكُل لَحْمًا فَأَكَلَ شَحْمًا.
وَقَالَ أَحْمَد : إِذَا حَلَفَ أَلَّا يَأْكُل لَحْمًا فَأَكَلَ الشَّحْم لَا بَأْس بِهِ إِلَّا أَنْ يَكُون أَرَادَ اِجْتِنَاب الدَّسَم.
لَا خِلَاف أَنَّ جُمْلَة الْخِنْزِير مُحَرَّمَة إِلَّا الشَّعْر فَإِنَّهُ يَجُوز الْخِرَازَة بِهِ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْخِرَازَة بِشَعْرِ الْخِنْزِير ; فَقَالَ :( لَا بَأْس بِذَلِكَ ) ذَكَرَهُ اِبْن خُوَيْز مِنْدَاد، قَالَ : وَلِأَنَّ الْخِرَازَة عَلَى عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ، وَبَعْده مَوْجُودَة ظَاهِرَة، لَا نَعْلَم أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْكَرَهَا وَلَا أَحَد مِنْ الْأَئِمَّة بَعْده.
وَمَا أَجَازَهُ الرَّسُول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ كَابْتِدَاءِ الشَّرْع مِنْهُ.
لَا خِلَاف فِي تَحْرِيم خِنْزِير الْبَرّ كَمَا ذَكَرْنَا ; وَفِي خِنْزِير الْمَاء خِلَاف.
وَأَبَى مَالِك أَنْ يُجِيب فِيهِ بِشَيْءٍ، وَقَالَ : أَنْتُمْ تَقُولُونَ خِنْزِيرًا.
ذَهَبَ أَكْثَر اللُّغَوِيِّينَ إِلَى أَنَّ لَفْظَة الْخِنْزِير رُبَاعِيَّة.
وَحَكَى اِبْن سِيدَهْ عَنْ بَعْضهمْ أَنَّهُ مُشْتَقّ مِنْ خَزَر الْعَيْن ; لِأَنَّهُ كَذَلِكَ يَنْظُر، وَاللَّفْظَة عَلَى هَذَا ثُلَاثِيَّة.
وَفِي الصِّحَاح : وَتَخَازَرَ الرَّجُل إِذَا ضَيَّقَ جَفْنه لِيُحَدِّد النَّظَر.
وَالْخَزَر : ضِيق الْعَيْن وَصِغَرهَا.
رَجُل أَخْزَر بَيِّن الْخَزَر.
وَيُقَال : هُوَ أَنْ يَكُون الْإِنْسَان كَأَنَّهُ يَنْظُر بِمُؤَخَّرِهَا.
وَجَمْع الْخِنْزِير خَنَازِير.
وَالْخَنَازِير أَيْضًا عِلَّة مَعْرُوفَة، وَهِيَ قُرُوح صَلْبَة تَحْدُث فِي الرَّقَبَة.
وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ
أَيْ ذُكِرَ عَلَيْهِ غَيْر اِسْم اللَّه تَعَالَى، وَهِيَ ذَبِيحَة الْمَجُوسِيّ وَالْوَثَنِيّ وَالْمُعَطِّل.
فَالْوَثَنِيّ يَذْبَح لِلْوَثَنِ، وَالْمَجُوسِيّ لِلنَّارِ، وَالْمُعَطِّل لَا يَعْتَقِد شَيْئًا فَيَذْبَح لِنَفْسِهِ.
وَلَا خِلَاف بَيْن الْعُلَمَاء أَنَّ مَا ذَبَحَهُ الْمَجُوسِيّ لِنَارِهِ وَالْوَثَنِيّ لِوَثَنِهِ لَا يُؤْكَل، وَلَا تُؤْكَل ذَبِيحَتهمَا عِنْد مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَغَيْرهمَا وَإِنْ لَمْ يَذْبَحَا لِنَارِهِ وَوَثَنه ; وَأَجَازَهُمَا اِبْن الْمُسَيِّب وَأَبُو ثَوْر إِذَا ذَبَحَ لِمُسْلِمٍ بِأَمْرِهِ.
وَسَيَأْتِي لِهَذَا مَزِيد بَيَان إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى فِي سُورَة " الْمَائِدَة ".
وَالْإِهْلَال : رَفْع الصَّوْت ; يُقَال : أَهَلَّ بِكَذَا ; أَيْ رَفَعَ صَوْته.
قَالَ اِبْن أَحْمَر يَصِف فَلَاة : يُهِلّ بِالْفَرْقَدِ رُكْبَانهَا كَمَا يُهِلّ الرَّاكِب الْمُعْتَمِر
وَقَالَ النَّابِغَة : أَوْ دُرَّة صَدَفِيَّة غَوَّاصهَا بَهِج مَتَى يَرَهَا يُهِلّ وَيَسْجُد
وَمِنْهُ إِهْلَال الصَّبِيّ وَاسْتِهْلَاله، وَهُوَ صِيَاحه عِنْد وِلَادَته.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره : الْمُرَاد مَا ذُبِحَ لِلْأَنْصَابِ وَالْأَوْثَان، لَا مَا ذُكِرَ عَلَيْهِ اِسْم الْمَسِيح ; عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي سُورَة " الْمَائِدَة " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
وَجَرَتْ عَادَة الْعَرَب بِالصِّيَاحِ بِاسْمِ الْمَقْصُود بِالذَّبِيحَةِ، وَغَلَبَ ذَلِكَ فِي اِسْتِعْمَالهمْ حَتَّى عَبَّرَ بِهِ عَنْ النِّيَّة الَّتِي هِيَ عِلَّة التَّحْرِيم، أَلَا تَرَى أَنَّ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ رَاعَى النِّيَّة فِي الْإِبِل الَّتِي نَحَرَهَا غَالِب أَبُو الْفَرَزْدَق فَقَالَ : إِنَّهَا مِمَّا أُهِلّ لِغَيْرِ اللَّه بِهِ ; فَتَرَكَهَا النَّاس.
قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَرَأَيْت فِي أَخْبَار الْحَسَن بْن أَبِي الْحَسَن أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ اِمْرَأَة مُتْرَفَة صَنَعَتْ لِلُعَبِهَا عُرْسًا فَنَحَرَتْ جَزُورًا ; فَقَالَ الْحَسَن : لَا يَحِلّ أَكْلهَا فَإِنَّهَا إِنَّمَا نَحَرَتْ لِصَنَمٍ.
قُلْت : وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى مَا رُوِّينَاهُ عَنْ يَحْيَى بْن يَحْيَى التَّمِيمِيّ شَيْخ مُسْلِم قَالَ : أَخْبَرَنَا جَرِير عَنْ قَابُوس قَالَ : أَرْسَلَ أَبِي اِمْرَأَة إِلَى عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا وَأَمَرَهَا أَنْ تَقْرَأ عَلَيْهَا السَّلَام مِنْهُ، وَتَسْأَلهَا أَيَّة صَلَاة كَانَتْ أَعْجَب إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدُوم عَلَيْهَا.
قَالَتْ :( كَانَ يُصَلِّي قَبْل الظُّهْر أَرْبَع رَكَعَات يُطِيل فِيهِنَّ الْقِيَام وَيُحْسِن الرُّكُوع وَالسُّجُود، فَأَمَّا مَا لَمْ يَدَع قَطُّ، صَحِيحًا وَلَا مَرِيضًا وَلَا شَاهِدًا، رَكْعَتَيْنِ قَبْل صَلَاة الْغَدَاة.
قَالَتْ اِمْرَأَة عِنْد ذَلِكَ مِنْ النَّاس : يَا أُمّ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ لَنَا أَظْآرًا مِنْ الْعَجَم لَا يَزَال يَكُون لَهُمْ عِيد فَيُهْدُونَ لَنَا مِنْهُ، أَفَنَأْكُل مِنْهُ شَيْئًا ؟ قَالَتْ : أَمَّا مَا ذُبِحَ لِذَلِكَ الْيَوْم فَلَا تَأْكُلُوا وَلَكِنْ كُلُوا مِنْ أَشْجَارهمْ ).
فَمَنِ اضْطُرَّ
قُرِئَ بِضَمِّ النُّون لِلْإِتْبَاعِ وَبِالْكَسْرِ وَهُوَ الْأَصْل لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَفِيهِ إِضْمَار ; أَيْ فَمَنْ اُضْطُرَّ إِلَى شَيْء مِنْ هَذِهِ الْمُحَرَّمَات أَيْ أُحْوِجَ إِلَيْهَا ; فَهُوَ اُفْتُعِلَ مِنْ الضَّرُورَة.
وَقَرَأَ اِبْن مُحَيْصِن " فَمَنْ اطُّرَّ " بِإِدْغَامِ الضَّاد فِي الطَّاء.
وَأَبُو السَّمَّال " فَمَنْ اضْطِر " بِكَسْرِ الطَّاء.
وَأَصْله اضْطَرَرَ فَلَمَّا أُدْغِمَتْ نُقِلَتْ حَرَكَة الرَّاء إِلَى الطَّاء.
الِاضْطِرَار لَا يَخْلُو أَنْ يَكُون بِإِكْرَاهٍ مِنْ ظَالِم أَوْ بِجُوعٍ فِي مَخْمَصَة.
وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور مِنْ الْفُقَهَاء وَالْعُلَمَاء فِي مَعْنَى الْآيَة هُوَ مَنْ صَيَّرَهُ الْعَدَم وَالْغَرَث وَهُوَ الْجُوع إِلَى ذَلِكَ ; وَهُوَ الصَّحِيح.
وَقِيلَ : مَعْنَاهُ أُكْرِهَ وَغُلِبَ عَلَى أَكْل هَذِهِ الْمُحَرَّمَات.
قَالَ مُجَاهِد : يَعْنِي أُكْرِهَ عَلَيْهِ كَالرَّجُلِ يَأْخُذهُ الْعَدُوّ فَيُكْرِهُونَهُ عَلَى أَكْل لَحْم الْخِنْزِير وَغَيْره مِنْ مَعْصِيَة اللَّه تَعَالَى ; إِلَّا أَنَّ الْإِكْرَاه يُبِيح ذَلِكَ إِلَى آخِر الْإِكْرَاه.
وَأَمَّا الْمَخْمَصَة فَلَا يَخْلُو أَنْ تَكُون دَائِمَة أَوْ لَا ; فَإِنْ كَانَتْ دَائِمَة فَلَا خِلَاف فِي جَوَاز الشِّبَع مِنْ الْمَيْتَة ; إِلَّا أَنَّهُ لَا يَحِلّ لَهُ أَكْلهَا وَهُوَ يَجِد مَال مُسْلِم لَا يَخَاف فِيهِ قَطْعًا ; كَالتَّمْرِ الْمُعَلَّق وَحَرِيسَة الْجَبَل، وَنَحْو ذَلِكَ مِمَّا لَا قَطْع فِيهِ وَلَا أَذًى.
وَهَذَا مِمَّا لَا اِخْتِلَاف فِيهِ ; لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَر إِذْ رَأَيْنَا إِبِلًا مَصْرُورَة بِعِضَاهِ الشَّجَر فَثُبْنَا إِلَيْهِمَا فَنَادَانَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَجَعْنَا إِلَيْهِ فَقَالَ :( إِنَّ هَذِهِ الْإِبِل لِأَهْلِ بَيْت مِنْ الْمُسْلِمِينَ هُوَ قُوتهمْ وَيُمْنهمْ بَعْد اللَّه أَيَسُرُّكُمْ لَوْ رَجَعْتُمْ إِلَى مَزَاوِدكُمْ فَوَجَدْتُمْ مَا فِيهَا قَدْ ذُهِبَ بِهِ أَتَرَوْنَ ذَلِكَ عَدْلًا ) قَالُوا لَا ; فَقَالَ :( إِنَّ هَذِهِ كَذَلِكَ ).
قُلْنَا : أَفَرَأَيْت إِنْ اِحْتَجْنَا إِلَى الطَّعَام وَالشَّرَاب ؟ فَقَالَ :( كُلْ وَلَا تَحْمِل وَاشْرَبْ وَلَا تَحْمِل ).
خَرَّجَهُ اِبْن مَاجَهْ رَحِمَهُ اللَّه ; وَقَالَ : هَذَا الْأَصْل عِنْدِي.
وَذَكَرَهُ اِبْن الْمُنْذِر قَالَ : قُلْنَا يَا رَسُول اللَّه، مَا يَحِلّ لِأَحَدِنَا مِنْ مَال أَخِيهِ إِذَا اُضْطُرَّ إِلَيْهِ ؟ قَالَ :( يَأْكُل وَلَا يَحْمِل وَيَشْرَب وَلَا يَحْمِل ).
قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَكُلّ مُخْتَلَف فِيهِ بَعْد ذَلِكَ فَمَرْدُود إِلَى تَحْرِيم اللَّه الْأَمْوَال.
قَالَ أَبُو عُمَر : وَجُمْلَة الْقَوْل فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمُسْلِم إِذَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ رَدّ رَمَق مُهْجَة الْمُسْلِم، وَتَوَجَّهَ الْفَرْض فِي ذَلِكَ بِأَلَّا يَكُون هُنَاكَ غَيْره قُضِيَ عَلَيْهِ بِتَرْمِيقِ تِلْكَ الْمُهْجَة الْآدَمِيَّة.
وَكَانَ لِلْمَمْنُوعِ مِنْهُ مَا لَهُ مِنْ ذَلِكَ مُحَارَبَة مَنْ مَنَعَهُ وَمُقَاتَلَته، وَإِنْ أَتَى ذَلِكَ عَلَى نَفْسه ; وَذَلِكَ عِنْد أَهْل الْعِلْم إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ إِلَّا وَاحِد لَا غَيْر ; فَحِينَئِذٍ يَتَعَيَّن عَلَيْهِ الْفَرْض.
فَإِنْ كَانُوا كَثِيرًا أَوْ جَمَاعَة وَعَدَدًا كَانَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَرْضًا عَلَى الْكِفَايَة.
وَالْمَاء فِي ذَلِكَ وَغَيْره مِمَّا يَرُدّ نَفْس الْمُسْلِم وَيُمْسِكهَا سَوَاء.
إِلَّا أَنَّهُمْ اِخْتَلَفُوا فِي وُجُوب قِيمَة ذَلِكَ الشَّيْء عَلَى الَّذِي رُدَّتْ بِهِ مُهْجَته وَرَمَقَ بِهِ نَفْسه ; فَأَوْجَبَهَا مُوجِبُونَ، وَأَبَاهَا آخَرُونَ ; وَفِي مَذْهَبنَا الْقَوْلَانِ جَمِيعًا.
وَلَا خِلَاف بَيْن أَهْل الْعِلْم مُتَأَخَّرِيهِمْ وَمُتَقَدِّمِيهِمْ فِي وُجُوب رَدّ مُهْجَة الْمُسْلِم عِنْد خَوْف الذَّهَاب وَالتَّلَف بِالشَّيْءِ الْيَسِير الَّذِي لَا مَضَرَّة فِيهِ عَلَى صَاحِبه وَفِيهِ الْبُلْغَة.
خَرَّجَ اِبْن مَاجَهْ أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْر بْن أَبِي شَيْبَة أَنْبَأَنَا شَبَابَة ( ح ) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن بَشَّار وَمُحَمَّد بْن الْوَلِيد قَالَا حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن جَعْفَر حَدَّثَنَا شُعْبَة عَنْ أَبِي بِشْر جَعْفَر بْن إِيَاس قَالَ : سَمِعْت عَبَّاد بْن شُرَحْبِيل - رَجُلًا مِنْ بَنِي غُبَر - قَالَ : أَصَابَنَا عَام مَخْمَصَة فَأَتَيْت الْمَدِينَة فَأَتَيْت حَائِطًا مِنْ حِيطَانهَا فَأَخَذْت سُنْبُلًا فَفَرَكْته وَأَكَلْته وَجَعَلْته فِي كِسَائِي ; فَجَاءَ صَاحِب الْحَائِط فَضَرَبَنِي وَأَخَذَ ثَوْبِي ; فَأَتَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْته ; فَقَالَ لِلرَّجُلِ :( مَا أَطْعَمْته إِذْ كَانَ جَائِعًا أَوْ سَاغِبًا وَلَا عَلَّمْته إِذْ كَانَ جَاهِلًا ) فَأَمَرَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَدَّ إِلَيْهِ ثَوْبه، وَأَمَرَ لَهُ بِوَسْقٍ مِنْ طَعَام أَوْ نِصْف وَسْق.
قُلْت : هَذَا حَدِيث صَحِيح اِتَّفَقَ عَلَى رِجَاله الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم ; إِلَّا اِبْن أَبِي شَيْبَة فَإِنَّهُ لِمُسْلِمٍ وَحْده.
وَعَبَّاد بْن شُرَحْبِيل الْغُبَرِيّ الْيَشْكُرِيّ لَمْ يُخَرِّج لَهُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم شَيْئًا، وَلَيْسَ لَهُ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْر هَذِهِ الْقِصَّة فَمَا ذَكَرَ أَبُو عُمَر رَحِمَهُ اللَّه، وَهُوَ يَنْفِي الْقَطْع وَالْأَدَب فِي الْمَخْمَصَة.
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ الْحَسَن عَنْ سَمُرَة أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( إِذَا أَتَى أَحَدكُمْ عَلَى مَاشِيَة فَإِنْ كَانَ فِيهَا صَاحِبهَا فَلْيَسْتَأْذِنْهُ فَإِنْ أَذِنَ لَهُ فَلْيَحْتَلِبْ وَلْيَشْرَبْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا فَلْيُصَوِّتْ ثَلَاثًا فَإِنْ أَجَابَ فَلْيَسْتَأْذِنْهُ فَإِنْ أَذِنَ لَهُ وَإِلَّا فَلْيَحْتَلِبْ وَلْيَشْرَبْ وَلَا يَحْمِلْ ).
وَذَكَرَ التِّرْمِذِيّ عَنْ يَحْيَى بْن سُلَيْم عَنْ عُبَيْد اللَّه عَنْ نَافِع عَنْ اِبْن عُمَر عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( مَنْ دَخَلَ حَائِطًا فَلْيَأْكُلْ وَلَا يَتَّخِذْ خُبْنَة ).
قَالَ : هَذَا حَدِيث غَرِيب لَا نَعْرِفهُ إِلَّا مِنْ حَدِيث يَحْيَى بْن سُلَيْم.
وَذَكَرَ مِنْ حَدِيث عَمْرو بْن شُعَيْب عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ الثَّمَر الْمُعَلَّق ; فَقَالَ :( مَنْ أَصَابَ مِنْهُ مِنْ ذِي حَاجَة غَيْر مُتَّخِذ خُبْنَة فَلَا شَيْء عَلَيْهِ ).
قَالَ فِيهِ : حَدِيث حَسَن.
وَفِي حَدِيث عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ :( إِذَا مَرَّ أَحَدكُمْ بِحَائِطٍ فَلْيَأْكُلْ وَلَا يَتَّخِذْ ثِبَانًا ).
قَالَ أَبُو عُبَيْد قَالَ أَبُو عُمَر : وَهُوَ الْوِعَاء الَّذِي يُحْمَل فِيهِ الشَّيْء ; فَإِنْ حَمَلْته بَيْن يَدَيْك فَهُوَ ثِبَان ; يُقَال : قَدْ تَثَبَّنْت ثِبَانًا ; فَإِنْ حَمَلْته عَلَى ظَهْرك فَهُوَ الْحَال ; يُقَال مِنْهُ : قَدْ تَحَوَّلْت كِسَائِي إِذَا جَعَلْت فِيهِ شَيْئًا ثُمَّ حَمَلْته عَلَى ظَهْرك.
فَإِنْ جَعَلْته فِي حِضْنك فَهُوَ خُبْنَة ; وَمِنْهُ حَدِيث عَمْرو بْن شُعَيْب الْمَرْفُوع ( وَلَا يَتَّخِذ خُبْنَة ).
يُقَال مِنْهُ : خَبَنْت أَخْبِن خَبْنًا.
قَالَ أَبُو عُبَيْد : وَإِنَّمَا يُوَجَّه هَذَا الْحَدِيث أَنَّهُ رَخَّصَ فِيهِ لِلْجَائِعِ الْمُضْطَرّ الَّذِي لَا شَيْء مَعَهُ يَشْتَرِي بِهِ أَلَّا يَحْمِل إِلَّا مَا كَانَ فِي بَطْنه قَدْر قُوته.
قُلْت : لِأَنَّ الْأَصْل الْمُتَّفَق عَلَيْهِ تَحْرِيم مَال الْغَيْر إِلَّا بِطِيبِ نَفْس مِنْهُ ; فَإِنْ كَانَتْ هُنَاكَ عَادَة بِعَمَلِ ذَلِكَ كَمَا كَانَ فِي أَوَّل الْإِسْلَام، أَوْ كَمَا هُوَ الْآن فِي بَعْض الْبُلْدَان، فَذَلِكَ جَائِز.
وَيُحْمَل ذَلِكَ عَلَى أَوْقَات الْمَجَاعَة وَالضَّرُورَة، كَمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّه أَعْلَم.
وَإِنْ كَانَ الثَّانِي وَهُوَ النَّادِر فِي وَقْت مِنْ الْأَوْقَات ; فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِيهَا عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدهمَا : أَنَّهُ يَأْكُل حَتَّى يَشْبَع وَيَتَضَلَّع، وَيَتَزَوَّد إِذَا خَشِيَ الضَّرُورَة فِيمَا بَيْن يَدَيْهِ مِنْ مَفَازَة وَقَفْر، وَإِذَا وَجَدَ عَنْهَا غِنًى طَرَحَهَا.
قَالَ مَعْنَاهُ مَالِك فِي مُوَطَّئِهِ ; وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيّ وَكَثِير مِنْ الْعُلَمَاء.
وَالْحُجَّة فِي ذَلِكَ أَنَّ الضَّرُورَة تَرْفَع التَّحْرِيم فَيَعُود مُبَاحًا.
وَمِقْدَار الضِّرْوَة إِنَّمَا هُوَ فِي حَالَة عَدَم الْقُوت إِلَى حَالَة وُجُوده.
وَحَدِيث الْعَنْبَر نَصّ فِي ذَلِكَ ; فَإِنَّ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَجَعُوا مِنْ سَفَرهمْ وَقَدْ ذَهَبَ عَنْهُمْ الزَّاد، اِنْطَلَقُوا إِلَى سَاحِل الْبَحْر فَرُفِعَ لَهُمْ عَلَى سَاحِله كَهَيْئَةِ الْكَثِيب الضَّخْم ; فَلَمَّا أَتَوْهُ إِذَا هِيَ دَابَّة تُدْعَى الْعَنْبَر ; فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة أَمِيرهمْ : مَيْتَة.
ثُمَّ قَالَ : لَا، بَلْ نَحْنُ رُسُل رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي سَبِيل اللَّه، وَقَدْ اُضْطُرِرْتُمْ فَكُلُوا.
قَالَ : فَأَقَمْنَا عَلَيْهَا شَهْرًا وَنَحْنُ ثَلَاثمِائَةٍ حَتَّى سَمِنَّا، الْحَدِيث.
فَأَكَلُوا وَشَبِعُوا - رِضْوَان اللَّه عَلَيْهِمْ - مِمَّا اِعْتَقَدُوا أَنَّهُ مَيْتَة وَتَزَوَّدُوا مِنْهَا إِلَى الْمَدِينَة، وَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُمْ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ حَلَال وَقَالَ :( هَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمه شَيْء فَتُطْعِمُونَا ) فَأَرْسَلُوا إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ فَأَكَلَهُ.
وَقَالَتْ طَائِفَة.
يَأْكُل بِقَدْرِ سَدّ الرَّمَق.
وَبِهِ قَالَ اِبْن الْمَاجِشُون وَابْن حَبِيب وَفَرَّقَ أَصْحَاب الشَّافِعِيّ بَيْن حَالَة الْمُقِيم وَالْمُسَافِر فَقَالُوا : الْمُقِيم يَأْكُل بِقَدْرِ مَا يَسُدّ رَمَقَهُ، وَالْمُسَافِر يَتَضَلَّع وَيَتَزَوَّد : فَإِذَا وَجَدَ غِنًى عَنْهَا طَرَحَهَا، وَإِنْ وَجَدَ مُضْطَرًّا أَعْطَاهُ إِيَّاهَا وَلَا يَأْخُذ مِنْهُ عِوَضًا ; فَإِنَّ الْمَيْتَة لَا يَجُوز بَيْعهَا.
فَإِنْ اُضْطُرَّ إِلَى خَمْر فَإِنْ كَانَ بِإِكْرَاهٍ شَرِبَ بِلَا خِلَاف، وَإِنْ كَانَ بِجُوعٍ أَوْ عَطَش فَلَا يَشْرَب ; وَبِهِ قَالَ مَالِك فِي الْعُتْبِيَّة قَالَ : وَلَا يَزِيدهُ الْخَمْر إِلَّا عَطَشًا.
وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ ; فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى حَرَّمَ الْخَمْر تَحْرِيمًا مُطْلَقًا، وَحَرَّمَ الْمَيْتَة بِشَرْطِ عَدَم الضَّرُورَة.
وَقَالَ الْأَبْهَرِيّ : إِنْ رَدَّتْ الْخَمْر عَنْهُ جُوعًا أَوْ عَطَشًا شَرِبَهَا ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ فِي الْخِنْزِير " فَإِنَّهُ رِجْس " ثُمَّ أَبَاحَهُ لِلضَّرُورَةِ.
وَقَالَ تَعَالَى فِي الْخَمْر إِنَّهَا " رِجْس " فَتَدْخُل فِي إِبَاحَة الْخِنْزِير لِلضَّرُورَةِ بِالْمَعْنَى الْجَلِيّ الَّذِي هُوَ أَقْوَى مِنْ الْقِيَاس، وَلَا بُدّ أَنْ تَرْوِي وَلَوْ سَاعَة، وَتَرُدّ الْجُوع وَلَوْ مُدَّة.
رَوَى أَصْبَغ عَنْ اِبْن الْقَاسِم أَنَّهُ قَالَ : يَشْرَب الْمُضْطَرّ الدَّم وَلَا يَشْرَب الْخَمْر، وَيَأْكُل الْمَيْتَة وَلَا يَقْرَب ضَوَالّ الْإِبِل - وَقَالَ اِبْن وَهْب - وَيَشْرَب الْبَوْل وَلَا يَشْرَب الْخَمْر ; لِأَنَّ الْخَمْر يَلْزَم فِيهَا الْحَدّ فَهِيَ أَغْلَظ.
نَصَّ عَلَيْهِ أَصْحَاب الشَّافِعِيّ.
فَإِنْ غَصَّ بِلُقْمَةٍ فَهَلْ يُسِيغهَا بِخَمْرٍ أَوْ لَا ; فَقِيلَ : لَا ; مَخَافَة أَنْ يَدَّعِي ذَلِكَ.
وَأَجَازَ ذَلِكَ اِبْن حَبِيب ; لِأَنَّهَا حَالَة ضَرُورَة.
اِبْن الْعَرَبِيّ :" أَمَّا الْغَاصّ بِلُقْمَةٍ فَإِنَّهُ يَجُوز لَهُ فِيمَا بَيْنه وَبَيْن اللَّه تَعَالَى، وَأَمَّا فِيمَا بَيْننَا فَإِنْ شَاهَدْنَاهُ فَلَا تَخْفَى عَلَيْنَا بِقَرَائِن الْحَال صُورَة الْغُصَّة مِنْ غَيْرهَا ; فَيُصَدَّق إِذَا ظَهَرَ ذَلِكَ ; وَإِنْ لَمْ يَظْهَر حَدَدْنَاهُ ظَاهِرًا وَسَلِمَ مِنْ الْعُقُوبَة عِنْد اللَّه تَعَالَى بَاطِنًا.
ثُمَّ إِذَا وَجَدَ الْمُضْطَرّ مَيْتَة وَخِنْزِيرًا وَلَحْم اِبْن آدَم أَكَلَ الْمَيْتَة ; لِأَنَّهَا حَلَال فِي حَال.
وَالْخِنْزِير وَابْن آدَم لَا يَحِلّ بِحَالٍ.
وَالتَّحْرِيم الْمُخَفَّف أَوْلَى أَنْ يُقْتَحَم مِنْ التَّحْرِيم الْمُثَقَّل ; كَمَا لَوْ أُكْرِهَ أَنْ يَطَأ أُخْته أَوْ أَجْنَبِيَّة، وَطِئَ الْأَجْنَبِيَّة لِأَنَّهَا تَحِلّ لَهُ بِحَالٍ.
وَهَذَا هُوَ الضَّابِط لِهَذِهِ الْأَحْكَام.
وَلَا يَأْكُل اِبْن آدَم وَلَوْ مَاتَ ; قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا، وَبِهِ قَالَ أَحْمَد وَدَاوُد.
اِحْتَجَّ أَحْمَد بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام :( كَسْر عَظْم الْمَيِّت كَكَسْرِهِ حَيًّا ).
وَقَالَ الشَّافِعِيّ : يَأْكُل لَحْم اِبْن آدَم.
وَلَا يَجُوز لَهُ أَنْ يَقْتُل ذِمِّيًّا لِأَنَّهُ مُحْتَرَم الدَّم، وَلَا مُسْلِمًا وَلَا أَسِيرًا لِأَنَّهُ مَال الْغَيْر.
فَإِنْ كَانَ حَرْبِيًّا أَوْ زَانِيًا مُحْصَنًا جَازَ قَتْله وَالْأَكْل مِنْهُ.
وَشَنَّعَ دَاوُد عَلَى الْمُزَنِيّ بِأَنْ قَالَ : قَدْ أَبَحْت أَكْل لُحُوم الْأَنْبِيَاء فَغَلَبَ عَلَيْهِ اِبْن شُرَيْح بِأَنْ قَالَ : فَأَنْتَ قَدْ تَعَرَّضْت لِقَتْلِ الْأَنْبِيَاء إِذْ مَنَعْتهمْ مِنْ أَكْل الْكَافِر.
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : الصَّحِيح عِنْدِي أَلَّا يَأْكُل الْآدَمِيّ إِلَّا إِذَا تَحَقَّقَ أَنَّ ذَلِكَ يُنْجِيه وَيُحْيِيه ; وَاَللَّه أَعْلَم.
سُئِلَ مَالِك عَنْ الْمُضْطَرّ إِلَى أَكْل الْمَيْتَة وَهُوَ يَجِد مَال الْغَيْر تَمْرًا أَوْ زَرْعًا أَوْ غَنَمًا ; فَقَالَ : إِنْ أَمِنَ الضَّرَر عَلَى بَدَنه بِحَيْثُ لَا يُعَدّ سَارِقًا وَيُصَدَّق فِي قَوْل، أَكَلَ مِنْ أَيّ ذَلِكَ وَجَدَ مَا يَرُدّ جُوعه وَلَا يَحْمِل مِنْهُ شَيْئًا، وَذَلِكَ أَحَبّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَأْكُل الْمَيْتَة ; وَإِنْ هُوَ خَشِيَ أَلَّا يُصَدِّقُوهُ وَأَنْ يَعُدُّوهُ سَارِقًا فَإِنَّ أَكْل الْمَيْتَة أَجْوَز عِنْدِي، وَلَهُ فِي أَكْل الْمَيْتَة عَلَى هَذِهِ الْمَنْزِلَة سَعَة.
رَوَى أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْن إِسْمَاعِيل قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّاد عَنْ سِمَاك بْن حَرْب عَنْ جَابِر بْن سَمُرَة أَنَّ رَجُلًا نَزَلَ الْحَرَّة وَمَعَهُ أَهْله وَوَلَده، فَقَالَ رَجُل : إِنَّ نَاقَة لِي ضَلَّتْ فَإِنْ وَجَدْتهَا فَأَمْسِكْهَا ; فَوَجَدَهَا فَلَمْ يَجِد صَاحِبهَا فَمَرِضَتْ، فَقَالَتْ اِمْرَأَته : انْحَرْهَا، فَأَبَى فَنَفَقَتْ.
فَقَالَتْ : اِسْلُخْهَا حَتَّى نُقَدِّد لَحْمهَا وَشَحْمهَا وَنَأْكُلهُ ; فَقَالَ : حَتَّى أَسْأَل رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَاهُ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ :( هَلْ عِنْدك غِنًى يُغْنِيك ) قَالَ لَا، قَالَ :( فَكُلُوهَا ) قَالَ : فَجَاءَ صَاحِبهَا فَأَخْبَرَهُ الْخَبَر ; فَقَالَ : هَلَّا كُنْت نَحَرْتهَا فَقَالَ : اِسْتَحْيَيْت مِنْك.
قَالَ اِبْن خُوَيْز مِنْدَاد : فِي هَذَا الْحَدِيث دَلِيلَانِ : أَحَدهمَا : أَنَّ الْمُضْطَرّ يَأْكُل مِنْ الْمَيْتَة وَإِنْ لَمْ يَخَفْ التَّلَف ; لِأَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ الْغِنَى وَلَمْ يَسْأَلهُ عَنْ خَوْفه عَلَى نَفْسه.
وَالثَّانِي : يَأْكُل وَيَشْبَع وَيَدَّخِر وَيَتَزَوَّد ; لِأَنَّهُ أَبَاحَهُ الِادِّخَار وَلَمْ يَشْتَرِط عَلَيْهِ أَلَّا يَشْبَع.
قَالَ أَبُو دَاوُد : وَحَدَّثَنَا هَارُون بْن عَبْد اللَّه قَالَ حَدَّثَنَا الْفَضْل بْن دُكَيْن قَالَ أَنْبَأَنَا عُقْبَة بْن وَهْب بْن عُقْبَة الْعَامِرِيّ قَالَ : سَمِعْت أَبِي يُحَدِّث عَنْ الْفُجَيْع الْعَامِرِيّ أَنَّهُ أَتَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : مَا يَحِلّ لَنَا الْمَيْتَة ؟ قَالَ :( مَا طَعَامكُمْ ) قُلْنَا : نَغْتَبِق وَنَصْطَبِح.
قَالَ أَبُو نُعَيْم : فَسَّرَهُ لِي عُقْبَة : قَدَح غُدْوَة وَقَدَح عَشِيَّة قَالَ :( ذَاكَ وَأَبِي الْجُوع ).
قَالَ : فَأَحَلَّ لَهُمْ الْمَيْتَة عَلَى هَذِهِ الْحَال.
قَالَ أَبُو دَاوُد : الْغَبُوق مِنْ آخِر النَّهَار وَالصَّبُوح مِنْ أَوَّل النَّهَار.
وَقَالَ الْخَطَّابِيّ : الْغَبُوق الْعَشَاء، وَالصَّبُوح الْغَدَاء، وَالْقَدَح مِنْ اللَّبَن بِالْغَدَاةِ، وَالْقَدَح بِالْعَشِيِّ يُمْسِك الرَّمَق وَيُقِيم النَّفْس، وَإِنْ كَانَ لَا يُغَذِّي الْبَدَن وَلَا يَشْبَع الشِّبَع التَّامّ ; وَقَدْ أَبَاحَ لَهُمْ مَعَ ذَلِكَ تَنَاوُل الْمَيْتَة ; فَكَانَ دَلَالَته أَنَّ تَنَاوُل الْمَيْتَة مُبَاح إِلَى أَنْ تَأْخُذ النَّفْس حَاجَتهَا مِنْ الْقُوت.
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ مَالِك وَهُوَ أَحَد قَوْلَيْ الشَّافِعِيّ.
قَالَ اِبْن خُوَيْز مِنْدَاد : إِذَا جَازَ أَنْ يَصْطَبِحُوا وَيَغْتَبِقُوا جَازَ أَنْ يَشْبَعُوا وَيَتَزَوَّدُوا.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَالشَّافِعِيّ فِي الْقَوْل الْآخَر : لَا يَجُوز لَهُ أَنْ يَتَنَاوَل مِنْ الْمَيْتَة إِلَّا قَدْر مَا يُمْسِك رَمَقَهُ ; وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمُزَنِيّ.
قَالُوا : لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي الِابْتِدَاء بِهَذِهِ الْحَال لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَأْكُل مِنْهَا شَيْئًا ; فَكَذَلِكَ إِذَا بَلَغَهَا بَعْد تَنَاوُلهَا.
وَرُوِيَ نَحْوه عَنْ الْحَسَن.
وَقَالَ قَتَادَة : لَا يَتَضَلَّع مِنْهَا بِشَيْءٍ.
وَقَالَ مُقَاتِل بْن حَيَّان : لَا يَزْدَاد عَلَى ثَلَاث لُقَم.
وَالصَّحِيح خِلَاف هَذَا ; كَمَا تَقَدَّمَ.
وَأَمَّا التَّدَاوِي بِهَا فَلَا يَخْلُو أَنْ يَحْتَاج إِلَى اِسْتِعْمَالهَا قَائِمَة الْعَيْن أَوْ مُحَرَّقَة ; فَإِنْ تَغَيَّرَتْ بِالْإِحْرَاقِ فَقَالَ اِبْن حَبِيب : يَجُوز التَّدَاوِي بِهَا وَالصَّلَاة.
وَخَفَّفَهُ اِبْن الْمَاجِشُون بِنَاء عَلَى أَنَّ الْحَرْق تَطْهِير لِتَغَيُّرِ الصِّفَات.
وَفِي الْعُتْبِيَّة مِنْ رِوَايَة مَالِك فِي الْمَرْتَك يُصْنَع مِنْ عِظَام الْمَيْتَة إِذَا وَضَعَهُ فِي جُرْحه لَا يُصَلِّي بِهِ حَتَّى يَغْسِلهُ.
وَإِنْ كَانَتْ الْمَيْتَة قَائِمَة بِعَيْنِهَا فَقَدْ قَالَ سَحْنُون : لَا يُتَدَاوَى بِهَا بِحَالٍ وَلَا بِالْخِنْزِيرِ ; لِأَنَّ مِنْهَا عِوَضًا حَلَالًا بِخِلَافِ الْمَجَاعَة.
وَلَوْ وَجَدَ مِنْهَا عِوَض فِي الْمَجَاعَة لَمْ تُؤْكَل.
وَكَذَلِكَ الْخَمْر لَا يُتَدَاوَى بِهَا، قَالَهُ مَالِك، وَهُوَ ظَاهِر مَذْهَب الشَّافِعِيّ، وَهُوَ اِخْتِيَار اِبْن أَبِي هُرَيْرَة مِنْ أَصْحَابه.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : يَجُوز شُرْبهَا لِلتَّدَاوِي دُون الْعَطَش ; وَهُوَ اِخْتِيَار الْقَاضِي الطَّبَرِيّ مِنْ أَصْحَاب الشَّافِعِيّ، وَهُوَ قَوْل الثَّوْرِيّ.
وَقَالَ بَعْض الْبَغْدَادِيِّينَ مِنْ الشَّافِعِيَّة : يَجُوز شُرْبهَا لِلْعَطَشِ دُون التَّدَاوِي ; لِأَنَّ ضَرَر الْعَطَش عَاجِل بِخِلَافِ التَّدَاوِي.
وَقِيلَ : يَجُوز شُرْبهَا لِلْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا.
وَمَنَعَ بَعْض أَصْحَاب الشَّافِعِيّ التَّدَاوِي بِكُلِّ مُحَرَّم إِلَّا بِأَبْوَالِ الْإِبِل خَاصَّة ; لِحَدِيثِ الْعُرَنِييِّنَ.
وَمَنَعَ بَعْضهمْ التَّدَاوِي بِكُلِّ مُحَرَّم ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام :( إِنَّ اللَّه لَمْ يَجْعَل شِفَاء أُمَّتِي فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ )، وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام لِطَارِقِ بْن سُوَيْد وَقَدْ سَأَلَهُ عَنْ الْخَمْر فَنَهَاهُ أَوْ كَرِهَ أَنْ يَصْنَعهَا فَقَالَ ; إِنَّمَا أَصْنَعهَا لِلدَّوَاءِ ; فَقَالَ :( إِنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ وَلَكِنَّهُ دَاء ).
رَوَاهُ مُسْلِم فِي الصَّحِيح.
وَهَذَا يَحْتَمِل أَنْ يُقَيَّد بِحَالَةِ الِاضْطِرَار ; فَإِنَّهُ يَجُوز التَّدَاوِي بِالسُّمِّ وَلَا يَجُوز شُرْبه، وَاَللَّه أَعْلَم.
غَيْرَ بَاغٍ
" غَيْر " نُصِبَ عَلَى الْحَال، وَقِيلَ : عَلَى الِاسْتِثْنَاء.
وَإِذَا رَأَيْت " غَيْر " يَصْلُح فِي مَوْضِعه " فِي " فَهِيَ حَال، وَإِذَا صَلَحَ مَوْضِعهَا " إِلَّا " فَهِيَ اِسْتِثْنَاء، فَقِسْ عَلَيْهِ.
و " بَاغٍ " أَصْله بَاغِي، ثَقُلَتْ الضَّمَّة عَلَى الْيَاء فَسُكِّنَتْ وَالتَّنْوِين سَاكِن، فَحُذِفَتْ الْيَاء وَالْكَسْرَة تَدُلّ عَلَيْهَا.
وَالْمَعْنَى فِيمَا قَالَ قَتَادَة وَالْحَسَن وَالرَّبِيع وَابْن زَيْد وَعِكْرِمَة " غَيْر بَاغٍ " فِي أَكْله فَوْق حَاجَته، " وَلَا عَادٍ " بِأَنْ يَجِد عَنْ هَذِهِ الْمُحَرَّمَات مَنْدُوحَة وَيَأْكُلهَا.
وَقَالَ السُّدِّيّ :" غَيْر بَاغٍ " فِي أَكْلهَا شَهْوَة وَتَلَذُّذًا، " وَلَا عَادٍ " بِاسْتِيفَاءِ الْأَكْل إِلَى حَدّ الشِّبَع.
وَقَالَ مُجَاهِد وَابْن جُبَيْر وَغَيْرهمَا : الْمَعْنَى " غَيْر بَاغٍ " عَلَى الْمُسْلِمِينَ " وَلَا عَادٍ " عَلَيْهِمْ ; فَيَدْخُل فِي الْبَاغِي وَالْعَادِي قُطَّاع الطَّرِيق وَالْخَارِج عَلَى السُّلْطَان وَالْمُسَافِر فِي قَطْع الرَّحِم وَالْغَارَة عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَمَا شَاكَلَهُ.
وَهَذَا صَحِيح ; فَإِنَّ أَصْل الْبَغْي فِي اللُّغَة قَصْد الْفَسَاد ; يُقَال : بَغَتْ الْمَرْأَة تَبْغِي بِغَاء إِذَا فَجَرَتْ ; قَالَ اللَّه تَعَالَى :" وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتكُمْ عَلَى الْبِغَاء " [ النُّور : ٣٣ ].
وَرُبَّمَا اُسْتُعْمِلَ الْبَغْي فِي طَلَب غَيْر الْفَسَاد.
وَالْعَرَب تَقُول : خَرَجَ الرَّجُل فِي بِغَاء إِبِل لَهُ، أَيْ فِي طَلَبهَا، وَمِنْهُ قَوْل الشَّاعِر :
لَا يَمْنَعك مِنْ بُغَا ءِ الْخَيْر تَعْقَاد التَّمَائِم إِنَّ الْأَشَائِم كَالْأَيَا مِن وَالْأَيَامِن كَالْأَشَائِمِ
وَلَا عَادٍ
أَصْل " عَادٍ " عَائِد ; فَهُوَ مِنْ الْمَقْلُوب، كَشَاكِي السِّلَاح وَهَار وَلَاث.
وَالْأَصْل شَائِك وَهَائِر وَلَائِث ; مِنْ لُثْت الْعِمَامَة.
فَأَبَاحَ اللَّه فِي حَالَة الِاضْطِرَار أَكْل جَمِيع الْمُحَرَّمَات لِعَجْزِهِ عَنْ جَمِيع الْمُبَاحَات كَمَا بَيَّنَّا ; فَصَارَ عَدَم الْمُبَاح شَرْطًا فِي اِسْتِبَاحَة الْمُحَرَّم.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء إِذَا اِقْتَرَنَ بِضَرُورَتِهِ مَعْصِيَة، بِقَطْعِ طَرِيق وَإِخَافَة سَبِيل ; فَحَظَرَهَا عَلَيْهِ مَالِك وَالشَّافِعِيّ فِي أَحَد قَوْلَيْهِ لِأَجْلِ مَعْصِيَته ; لِأَنَّ اللَّه سُبْحَانه أَبَاحَ ذَلِكَ عَوْنًا، وَالْعَاصِي لَا يَحِلّ أَنْ يُعَان ; فَإِنْ أَرَادَ الْأَكْل فَلْيَتُبْ وَلْيَأْكُلْ.
وَأَبَاحَهَا لَهُ أَبُو حَنِيفَة وَالشَّافِعِيّ فِي الْقَوْل الْآخَر لَهُ، وَسَوَّيَا فِي اِسْتِبَاحَته بَيْن طَاعَته وَمَعْصِيَته.
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَعَجَبًا مِمَّنْ يُبِيح لَهُ ذَلِكَ مَعَ التَّمَادِي عَلَى الْمَعْصِيَة، وَمَا أَظُنّ أَحَدًا يَقُولهُ، فَإِنْ قَالَ فَهُوَ مُخْطِئ قَطْعًا.
قُلْت : الصَّحِيح خِلَاف هَذَا ; فَإِنَّ إِتْلَاف الْمَرْء نَفْسه فِي سَفَر الْمَعْصِيَة أَشَدّ مَعْصِيَة مِمَّا هُوَ فِيهِ، قَالَ اللَّه تَعَالَى :" وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسكُمْ " [ النِّسَاء : ٢٩ ] وَهَذَا عَامّ، وَلَعَلَّهُ يَتُوب فِي ثَانِي حَال فَتَمْحُو التَّوْبَة عَنْهُ مَا كَانَ، وَقَدْ قَالَ مَسْرُوق : مَنْ اضْطُرَّ إِلَى أَكْل الْمَيْتَة وَالدَّم وَلَحْم الْخِنْزِير فَلَمْ يَأْكُل حَتَّى مَاتَ دَخَلَ النَّار، إِلَّا أَنْ يَعْفُو اللَّه عَنْهُ.
قَالَ أَبُو الْحَسَن الطَّبَرِيّ الْمَعْرُوف بِإِلْكِيَا : وَلَيْسَ أَكْل الْمَيْتَة عِنْد الضَّرُورَة رُخْصَة بَلْ هُوَ عَزِيمَة وَاجِبَة، وَلَوْ اِمْتَنَعَ مِنْ أَكْل الْمَيْتَة كَانَ عَاصِيًا، وَلَيْسَ تَنَاوُل الْمَيْتَة مِنْ رُخَص السَّفَر أَوْ مُتَعَلِّقًا بِالسَّفَرِ بَلْ هُوَ مِنْ نَتَائِج الضَّرُورَة سَفَرًا كَانَ أَوْ حَضَرًا، وَهُوَ كَالْإِفْطَارِ لِلْعَاصِي الْمُقِيم إِذَا كَانَ مَرِيضًا، وَكَالتَّيَمُّمِ لِلْعَاصِي الْمُسَافِر عِنْد عَدَم الْمَاء.
قَالَ : وَهُوَ الصَّحِيح عِنْدنَا.
قُلْت : وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَات عَنْ مَالِك فِي ذَلِكَ ; فَالْمَشْهُور مِنْ مَذْهَبه فِيمَا ذَكَرَهُ الْبَاجِيّ فِي الْمُنْتَقَى : أَنَّهُ يَجُوز لَهُ الْأَكْل فِي سَفَر الْمَعْصِيَة وَلَا يَجُوز لَهُ الْقَصْر وَالْفِطْر.
وَقَالَ اِبْن خُوَيْز مِنْدَاد : فَأَمَّا الْأَكْل عِنْد الِاضْطِرَار فَالطَّائِع وَالْعَاصِي فِيهِ سَوَاء ; لِأَنَّ الْمَيْتَة يَجُوز تَنَاوُلهَا فِي السَّفَر وَالْحَضَر، وَلَيْسَ بِخُرُوجِ الْخَارِج إِلَى الْمَعَاصِي يُسْقِط عَنْهُ حُكْم الْمُقِيم بَلْ أَسْوَأ حَالَة مِنْ أَنْ يَكُون مُقِيمًا ; وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْفِطْر وَالْقَصْر ; لِأَنَّهُمَا رُخْصَتَانِ مُتَعَلِّقَتَانِ بِالسَّفَرِ.
فَمَتَى كَانَ السَّفَر سَفَر مَعْصِيَة لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقْصَر فِيهِ ; لِأَنَّ هَذِهِ الرُّخْصَة تَخْتَصّ بِالسَّفَرِ، وَلِذَلِكَ قُلْنَا : إِنَّهُ يَتَيَمَّم إِذَا عَدِمَ الْمَاء فِي سَفَر الْمَعْصِيَة ; لِأَنَّ التَّيَمُّم فِي الْحَضَر وَالسَّفَر سَوَاء.
وَكَيْفَ يَجُوز مَنْعه مِنْ أَكْل الْمَيْتَة وَالتَّيَمُّم لِأَجْلِ مَعْصِيَة اِرْتَكَبَهَا، وَفِي تَرْكه الْأَكْل تَلَف نَفْسه، وَتِلْكَ أَكْبَر الْمَعَاصِي، وَفِي تَرْكه التَّيَمُّم إِضَاعَة لِلصَّلَاةِ.
أَيَجُوزُ أَنْ يُقَال لَهُ : اِرْتَكَبْت مَعْصِيَة فَارْتَكِبْ أُخْرَى أَيَجُوزُ أَنْ يُقَال لِشَارِبِ الْخَمْر : اِزْنِ، وَلِلزَّانِي : اُكْفُرْ أَوْ يُقَال لَهُمَا : ضَيِّعَا الصَّلَاة ؟ ذَكَرَ هَذَا كُلّه فِي أَحْكَام الْقُرْآن لَهُ، وَلَمْ يَذْكُر خِلَافًا عَنْ مَالِك وَلَا عَنْ أَحَد مِنْ أَصْحَابه.
وَقَالَ الْبَاجِيّ :" وَرَوَى زِيَاد بْن عَبْد الرَّحْمَن الْأَنْدَلُسِيّ أَنَّ الْعَاصِي بِسَفَرِهِ يَقْصُر الصَّلَاة، وَيُفْطِر فِي رَمَضَان.
فَسَوَّى بَيْن ذَلِكَ كُلّه، وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَة.
وَلَا خِلَاف أَنَّهُ لَا يَجُوز لَهُ قَتْل نَفْسه بِالْإِمْسَاكِ عَنْ الْأَكْل، وَأَنَّهُ مَأْمُور بِالْأَكْلِ عَلَى وَجْه الْوُجُوب ; وَمَنْ كَانَ فِي سَفَر مَعْصِيَة لَا تَسْقُط عَنْهُ الْفُرُوض وَالْوَاجِبَات مِنْ الصِّيَام وَالصَّلَاة، بَلْ يَلْزَمهُ الْإِتْيَان بِهَا ; فَكَذَلِكَ مَا ذَكَرْنَاهُ.
وَجْه الْقَوْل الْأَوَّل أَنَّ هَذِهِ الْمَعَانِي إِنَّمَا أُبِيحَتْ فِي الْأَسْفَار لِحَاجَةِ النَّاس إِلَيْهَا ; فَلَا يُبَاح لَهُ أَنْ يَسْتَعِين بِهَا عَلَى الْمَعَاصِي وَلَهُ سَبِيل إِلَى أَلَّا يَقْتُل نَفْسه.
قَالَ اِبْن حَبِيب : وَذَلِكَ بِأَنْ يَتُوب ثُمَّ يَتَنَاوَل لَحْم الْمَيْتَة بَعْد تَوْبَته.
وَتَعَلَّقَ اِبْن حَبِيب فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :" فَمَنْ اُضْطُرَّ غَيْر بَاغٍ وَلَا عَادٍ " فَاشْتَرَطَ فِي إِبَاحَة الْمَيْتَة لِلضَّرُورَةِ أَلَّا يَكُون بَاغِيًا.
وَالْمُسَافِر عَلَى وَجْه الْحِرَابَة أَوْ الْقَطْع، أَوْ فِي قَطْع رَحِم أَوْ طَالِب إِثْم - بَاغٍ وَمُعْتَدٍ ; فَلَمْ تُوجَد فِيهِ شُرُوط الْإِبَاحَة، وَاَللَّه أَعْلَم.
قُلْت : هَذَا اِسْتِدْلَال بِمَفْهُومِ الْخِطَاب، وَهُوَ مُخْتَلَف فِيهِ بَيْن الْأُصُولِيِّينَ، وَمَنْظُوم الْآيَة أَنَّ الْمُضْطَرّ غَيْر بَاغٍ وَلَا عَادٍ وَلَا إِثْم عَلَيْهِ، وَغَيْره مَسْكُوت عَنْهُ، وَالْأَصْل عُمُوم الْخِطَاب ; فَمَنْ اِدَّعَى زَوَاله لِأَمْرٍ مَا فَعَلَيْهِ الدَّلِيل.
فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
أَيْ يَغْفِر الْمَعَاصِي ; فَأَوْلَى أَلَّا يُؤَاخِذ بِمَا رَخَّصَ فِيهِ، وَمِنْ رَحْمَته أَنَّهُ رَخَّصَ.
وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ
" لِمَا تَصِف " مَا هُنَا مَصْدَرِيَّة، أَيْ لِوَصْفٍ.
وَقِيلَ : اللَّام لَام سَبَب وَأَجْل، أَيْ لَا تَقُول لِأَجْلِ وَصْفكُمْ " الْكَذِب " بِنَزْعِ الْخَافِض، ، أَيْ لِمَا تَصِف أَلْسِنَتكُمْ مِنْ الْكَذِب.
وَقُرِئَ " الْكُذُب " بِضَمِّ الْكَاف وَالذَّال وَالْبَاء، نَعْتًا لِلْأَلْسِنَةِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ وَقَرَأَ الْحَسَن هُنَا خَاصَّة " الْكَذِب " بِفَتْحِ الْكَاف وَخَفْض الذَّال وَالْبَاء، نَعْتًا " لِمَا " ; التَّقْدِير : وَلَا تَقُولُوا لِوَصْفِ أَلْسِنَتكُمْ الْكَذِب.
وَقِيلَ عَلَى الْبَدَل مِنْ مَا ; أَيْ وَلَا تَقُولُوا لِلْكَذِبِ الَّذِي تَصِفهُ أَلْسِنَتكُمْ هَذَا حَلَال وَهَذَا حَرَام لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّه الْكَذِب.
الْآيَة خِطَاب لِلْكُفَّارِ الَّذِينَ حَرَّمُوا الْبَحَائِر وَالسَّوَائِب وَأَحَلُّوا مَا فِي بُطُون الْأَنْعَام وَإِنْ كَانَ مَيْتَة.
هَذَا حَلَالٌ
إِشَارَة إِلَى مَيْتَة بُطُون الْأَنْعَام، وَكُلّ مَا أَحَلُّوهُ.
وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ
إِشَارَة إِلَى الْبَحَائِر وَالسَّوَائِب وَكُلّ مَا حَرَّمُوهُ.
أَسْنَدَ الدَّارِمِيّ أَبُو مُحَمَّد فِي مُسْنَده أَخْبَرَنَا هَارُون عَنْ حَفْص عَنْ الْأَعْمَش قَالَ : مَا سَمِعْت إِبْرَاهِيم قَطُّ يَقُول حَلَال وَلَا حَرَام، وَلَكِنْ كَانَ يَقُول : كَانُوا يَكْرَهُونَ وَكَانُوا يَسْتَحِبُّونَ.
وَقَالَ اِبْن وَهْب قَالَ مَالِك : لَمْ يَكُنْ مِنْ فُتْيَا النَّاس أَنْ يَقُولُوا هَذَا حَلَال وَهَذَا حَرَام، وَلَكِنْ يَقُولُوا إِيَّاكُمْ كَذَا وَكَذَا، وَلَمْ أَكُنْ لِأَصْنَع هَذَا.
وَمَعْنَى هَذَا : أَنَّ التَّحْلِيل وَالتَّحْرِيم إِنَّمَا هُوَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُول أَوْ يُصَرِّح بِهَذَا فِي عَيْن مِنْ الْأَعْيَان، إِلَّا أَنْ يَكُون الْبَارِئ تَعَالَى يُخْبِر بِذَلِكَ عَنْهُ.
وَمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ الِاجْتِهَاد فِي أَنَّهُ حَرَام يَقُول : إِنِّي أَكْرَه كَذَا.
وَكَذَلِكَ كَانَ مَالِك يَفْعَل اِقْتِدَاء بِمَنْ تَقَدَّمَ مِنْ أَهْل الْفَتْوَى.
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ فِيمَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَام إِنَّهَا حَرَام وَيَكُون ثَلَاثًا.
فَالْجَوَاب أَنَّ مَالِكًا لَمَّا سَمِعَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب يَقُول إِنَّهَا حَرَام اِقْتَدَى بِهِ.
وَقَدْ يَقْوَى الدَّلِيل عَلَى التَّحْرِيم عِنْد الْمُجْتَهِد فَلَا بَأْس عِنْد ذَلِكَ أَنْ يَقُول ذَلِكَ، كَمَا يَقُول إِنَّ الرِّبَا حَرَام فِي غَيْر الْأَعْيَان السِّتَّة، وَكَثِيرًا مَا يُطْلِق مَالِك رَحِمَهُ اللَّه ; فَذَلِكَ حَرَام لَا يَصْلُح فِي الْأَمْوَال الرِّبَوِيَّة وَفِيمَا خَالَفَ الْمَصَالِح وَخَرَجَ عَنْ طَرِيق الْمَقَاصِد لِقُوَّةِ الْأَدِلَّة فِي ذَلِكَ.
مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
أَيْ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ نَعِيم الدُّنْيَا يَزُول عَنْ قَرِيب.
وَقَالَ الزَّجَّاج : أَيْ مَتَاعهمْ مَتَاع قَلِيل.
وَقِيلَ : لَهُمْ مَتَاع قَلِيل ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَاب أَلِيم.
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ
بَيَّنَ أَنَّ الْأَنْعَام وَالْحَرْث حَلَال لِهَذِهِ الْأُمَّة، فَأَمَّا الْيَهُود فَحُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ مِنْهَا أَشْيَاء.
مِنْ قَبْلُ
أَيْ فِي سُورَة الْأَنْعَام.
وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
أَيْ بِتَحْرِيمِ مَا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ، وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسهمْ فَحَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ تِلْكَ الْأَشْيَاء عُقُوبَة لَهُمْ.
كَمَا تَقَدَّمَ فِي النِّسَاء
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ
أَيْ الشِّرْك ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس.
وَالسُّوء فِي هَذِهِ الْآيَة يَعُمّ الْكُفْر وَالْمَعَاصِي ; فَكُلّ مَنْ عَصَى رَبّه فَهُوَ جَاهِل حَتَّى يَنْزِع عَنْ مَعْصِيَته.
ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ
وَاتَّفَقَتْ الْأُمَّة عَلَى أَنَّ التَّوْبَة فَرْض عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى :" وَتُوبُوا إِلَى اللَّه جَمِيعًا أَيّهَا الْمُؤْمِنُونَ ".
[ النُّور : ٣١ ].
وَتَصِحّ مِنْ ذَنْب مَعَ الْإِقَامَة عَلَى غَيْره مِنْ غَيْر نَوْعه خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلهمْ : لَا يَكُون تَائِبًا مَنْ أَقَامَ عَلَى ذَنْب.
وَلَا فَرْق بَيْن مَعْصِيَة وَمَعْصِيَة - هَذَا مَذْهَب أَهْل السُّنَّة.
وَإِذَا تَابَ الْعَبْد فَاَللَّه سُبْحَانه بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ قَبِلَهَا، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَقْبَلهَا.
وَلَيْسَ قَبُول التَّوْبَة وَاجِبًا عَلَى اللَّه مِنْ طَرِيق الْعَقْل كَمَا قَالَ الْمُخَالِف ; لِأَنَّ مِنْ شَرْط الْوَاجِب أَنْ يَكُون أَعْلَى رُتْبَة مِنْ الْمُوجِب عَلَيْهِ، وَالْحَقّ سُبْحَانه خَالِق الْخَلْق وَمَالِكهمْ، وَالْمُكَلِّف لَهُمْ ; فَلَا يَصِحّ أَنْ يُوصَف بِوُجُوبِ شَيْء عَلَيْهِ، تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ، غَيْر أَنَّهُ قَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانه وَهُوَ الصَّادِق فِي وَعْده بِأَنَّهُ يَقْبَل التَّوْبَة عَنْ الْعَاصِينَ مِنْ عِبَاده بِقَوْلِهِ تَعَالَى :" وَهُوَ الَّذِي يَقْبَل التَّوْبَة عَنْ عِبَاده وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَات " [ الشُّورَى : ٢٥ ].
وَقَوْله :" أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّه هُوَ يَقْبَل التَّوْبَة عَنْ عِبَاده " [ التَّوْبَة : ١٠٤ ].
وَقَوْله :" وَإِنِّي لَغَفَّار لِمَنْ تَابَ " [ طَه : ٨٢ ] فَإِخْبَاره سُبْحَانه وَتَعَالَى عَنْ أَشْيَاء أَوْجَبَهَا عَلَى نَفْسه يَقْتَضِي وُجُوب تِلْكَ الْأَشْيَاء.
وَالْعَقِيدَة أَنَّهُ لَا يَجِب عَلَيْهِ شَيْء عَقْلًا ; فَأَمَّا السَّمْع فَظَاهِره قَبُول تَوْبَة التَّائِب قَالَ أَبُو الْمَعَالِي وَغَيْره : وَهَذِهِ الظَّوَاهِر إِنَّمَا تُعْطِي غَلَبَة ظَنّ، لَا قَطْعًا عَلَى اللَّه تَعَالَى بِقَبُولِ التَّوْبَة.
قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَقَدْ خُولِفَ أَبُو الْمَعَالِي وَغَيْره فِي هَذَا الْمَعْنَى.
فَإِذَا فَرَضْنَا رَجُلًا قَدْ تَابَ تَوْبَة نَصُوحًا تَامَّة الشُّرُوط فَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي : يَغْلِب عَلَى الظَّنّ قَبُول تَوْبَته.
وَقَالَ غَيْره : يُقْطَع عَلَى اللَّه تَعَالَى بِقَبُولِ تَوْبَته كَمَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسه جَلَّ وَعَزَّ.
وَأَنَّهُ يَقْبَل التَّوْبَة إِذَا كَانَتْ بِشُرُوطِهَا الْمُصَحِّحَة لَهَا ; وَهِيَ أَرْبَعَة : النَّدَم بِالْقَلْبِ.
وَتَرْك الْمَعْصِيَة فِي الْحَال.
وَالْعَزْم عَلَى أَلَّا يَعُود إِلَى مِثْلهَا.
وَأَنْ يَكُون ذَلِكَ حَيَاء مِنْ اللَّه تَعَالَى لَا مِنْ غَيْره.
فَإِذَا اِخْتَلَّ شَرْط مِنْ هَذِهِ الشُّرُوط لَمْ تَصِحّ التَّوْبَة.
وَقَدْ قِيلَ مِنْ شُرُوطهَا : الِاعْتِرَاف بِالذَّنْبِ وَكَثْرَة الِاسْتِغْفَار.
وَلَا خِلَاف فِيمَا أَعْلَمَهُ أَنَّ التَّوْبَة لَا تُسْقِط حَدًّا.
وَلِهَذَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا إِنَّ السَّارِق وَالسَّارِقَة وَالْقَاذِف مَتَى تَابُوا وَقَامَتْ الشَّهَادَة عَلَيْهِمْ أُقِيمَتْ عَلَيْهِمْ الْحُدُود.
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
دَعَا عَلَيْهِ السَّلَام مُشْرِكِي الْعَرَب إِلَى مِلَّة إِبْرَاهِيم ; إِذْ كَانَ أَبَاهُمْ وَبَانِي الْبَيْت الَّذِي بِهِ عِزّهمْ ; وَالْأُمَّة : الرَّجُل الْجَامِع لِلْخَيْرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَحَامِله.
وَقَالَ اِبْن وَهْب وَابْن الْقَاسِم عَنْ مَالِك قَالَ : بَلَغَنِي أَنَّ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود قَالَ : يَرْحَم اللَّه مُعَاذًا ! كَانَ أُمَّة قَانِتًا.
فَقِيلَ لَهُ : يَا أَبَا عَبْد الرَّحْمَن، إِنَّمَا ذَكَرَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بِهَذَا إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام.
فَقَالَ اِبْن مَسْعُود : إِنَّ الْأُمَّة الَّذِي يُعَلِّم النَّاس الْخَيْر، وَإِنَّ الْقَانِت هُوَ الْمُطِيع.
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقُنُوت فِي الْبَقَرَة و " حَنِيفًا " فِي الْأَنْعَام
شَاكِرًا
أَيْ كَانَ شَاكِرًا.
لِأَنْعُمِهِ
الْأَنْعُم جَمْع نِعْمَة.
وَقَدْ تَقَدَّمَ
اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ
أَيْ اِخْتَارَهُ.
وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً
قِيلَ : الْوَلَد الطَّيِّب.
وَقِيلَ الثَّنَاء الْحَسَن.
وَقِيلَ : النُّبُوَّة.
وَقِيلَ : الصَّلَاة مَقْرُونَة بِالصَّلَاةِ عَلَى مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّلَام فِي التَّشَهُّد.
وَقِيلَ : إِنَّهُ لَيْسَ أَهْل دِين إِلَّا وَهُمْ يَتَوَلَّوْنَهُ.
وَقِيلَ : بَقَاء ضِيَافَته وَزِيَارَة قَبْره.
وَكُلّ ذَلِكَ أَعْطَاهُ اللَّه وَزَادَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ
" مِنْ " بِمَعْنَى مَعَ، أَيْ مَعَ الصَّالِحِينَ ; لِأَنَّهُ كَانَ فِي الدُّنْيَا أَيْضًا مَعَ الصَّالِحِينَ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا فِي الْبَقَرَة
ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
قَالَ اِبْن عُمَر : أَمَرَ بِاتِّبَاعِهِ فِي مَنَاسِك الْحَجّ كَمَا عَلَّمَ إِبْرَاهِيمَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِمَا السَّلَام.
وَقَالَ الطَّبَرِيّ : أَمَرَ بِاتِّبَاعِهِ فِي التَّبَرُّؤ مِنْ الْأَوْثَان وَالتَّزَيُّن بِالْإِسْلَامِ.
وَقِيلَ : أَمَرَ بِاتِّبَاعِهِ فِي جَمِيع مِلَّته إِلَّا مَا أَمَرَ بِتَرْكِهِ ; قَالَهُ بَعْض أَصْحَاب الشَّافِعِيّ عَلَى مَا حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيّ.
وَالصَّحِيح الِاتِّبَاع فِي عَقَائِد الشَّرْع دُون الْفُرُوع ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى :" لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَة وَمِنْهَاجًا " [ الْمَائِدَة : ٤٨ ].
مَسْأَلَة : فِي هَذِهِ الْآيَة دَلِيل عَلَى جَوَاز اِتِّبَاع الْأَفْضَل لِلْمَفْضُولِ - لِمَا تَقَدَّمَ فِي الْأُصُول - وَالْعَمَل بِهِ، وَلَا دَرْك عَلَى الْفَاضِل فِي ذَلِكَ ; لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَل الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِمْ السَّلَام، وَقَدْ أُمِرَ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ فَقَالَ :" فَبِهُدَاهُمْ اِقْتَدِهِ " [ الْأَنْعَام : ٩٠ ].
وَقَالَ هُنَا :" ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْك أَنْ اِتَّبِعْ مِلَّة إِبْرَاهِيم ".
إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ
أَيْ لَمْ يَكُنْ فِي شَرْع إِبْرَاهِيم وَلَا فِي دِينه، بَلْ كَانَ سَمْحًا لَا تَغْلِيظ فِيهِ، وَكَانَ السَّبْت تَغْلِيظًا عَلَى الْيَهُود فِي رَفْض الْأَعْمَال وَتَرْك التَّبَسُّط فِي الْمَعَاش بِسَبَبِ اِخْتِلَافهمْ فِيهِ، ثُمَّ جَاءَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام بِيَوْمِ الْجُمْعَة فَقَالَ : تَفَرَّغُوا لِلْعِبَادَةِ فِي كُلّ سَبْعَة أَيَّام يَوْمًا وَاحِدًا.
فَقَالُوا : لَا نُرِيد أَنْ يَكُون عِيدهمْ بَعْد عِيدنَا، فَاخْتَارُوا الْأَحَد.
وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي كَيْفِيَّة مَا وَقَعَ لَهُمْ مِنْ الِاخْتِلَاف ; فَقَالَتْ طَائِفَة : إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام أَمَرَهُمْ بِيَوْمِ الْجُمْعَة وَعَيَّنَهُ لَهُمْ، وَأَخْبَرَهُمْ بِفَضِيلَتِهِ عَلَى غَيْره، فَنَاظَرُوهُ أَنَّ السَّبْت أَفْضَل ; فَقَالَ اللَّه لَهُ :( دَعْهُمْ وَمَا اِخْتَارُوا لِأَنْفُسِهِمْ ).
وَقِيلَ : إِنَّ اللَّه تَعَالَى لَمْ يُعَيِّنهُ لَهُمْ، وَإِنَّمَا أَمَرَهُمْ بِتَعْظِيمِ يَوْم فِي الْجُمْعَة فَاخْتَلَفَ اِجْتِهَادهمْ فِي تَعْيِينه، فَعَيَّنَتْ الْيَهُود السَّبْت ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى فَرَغَ فِيهِ مِنْ الْخَلْق.
وَعَيَّنَتْ النَّصَارَى يَوْم الْأَحَد ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى بَدَأَ فِيهِ بِالْخَلْقِ.
فَأَلْزَمَ كُلّ مِنْهُمْ مَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ اِجْتِهَاده.
وَعَيَّنَ اللَّه لِهَذِهِ الْأُمَّة يَوْم الْجُمْعَة مِنْ غَيْر أَنْ يَكِلهُمْ إِلَى اِجْتِهَادهمْ فَضْلًا مِنْهُ وَنِعْمَة، فَكَانَتْ خَيْر الْأُمَم أُمَّة.
رَوَى الصَّحِيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( نَحْنُ الْآخِرُونَ الْأَوَّلُونَ يَوْم الْقِيَامَة وَنَحْنُ أَوَّل مَنْ يَدْخُل الْجَنَّة بَيْد أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَاب مِنْ قَبْلنَا وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدهمْ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ فَهَدَانَا اللَّه لِمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ الْحَقّ فَهَذَا يَوْمهمْ الَّذِي اِخْتَلَفُوا فِيهِ فَهَدَانَا اللَّه لَهُ - قَالَ يَوْم الْجُمْعَة - فَالْيَوْم لَنَا وَغَدًا لِلْيَهُودِ وَبَعْد غَد لِلنَّصَارَى ) فَقَوْله :( فَهَذَا يَوْمهمْ الَّذِي اِخْتَلَفُوا فِيهِ ) يُقَوِّي قَوْل مَنْ قَالَ : إِنَّهُ لَمْ يُعَيِّن لَهُمْ ; فَإِنَّهُ لَوْ عَيَّنَ لَهُمْ وَعَانَدُوا لَمَا قِيلَ ( اِخْتَلَفُوا ).
وَإِنَّمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَال فَخَالَفُوا فِيهِ وَعَانَدُوا.
وَمِمَّا يُقَوِّيه أَيْضًا قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام :( أَضَلَّ اللَّه عَنْ الْجُمْعَة مَنْ كَانَ قَبْلنَا ).
وَهَذَا نَصّ فِي الْمَعْنَى.
وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْض طُرُقه ( فَهَذَا يَوْمهمْ الَّذِي فَرَضَ اللَّه عَلَيْهِمْ اِخْتَلَفُوا فِيهِ ).
وَهُوَ حُجَّة لِلْقَوْلِ الْأَوَّل.
وَقَدْ رُوِيَ :( إِنَّ اللَّه كَتَبَ الْجُمْعَة عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلنَا فَاخْتَلَفُوا فِيهِ وَهَدَانَا اللَّه لَهُ فَالنَّاس لَنَا فِيهِ تَبَع ).
" عَلَى الَّذِينَ اِخْتَلَفُوا فِيهِ " يُرِيد فِي يَوْم الْجُمْعَة كَمَا بَيَّنَّاهُ ; اِخْتَلَفُوا عَلَى نَبِيّهمْ مُوسَى وَعِيسَى.
وَوَجْه الِاتِّصَال بِمَا قَبْله أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِاتِّبَاعِ الْحَقّ، وَحَذَّرَ اللَّه الْأُمَّة مِنْ الِاخْتِلَاف عَلَيْهِ فَيُشَدِّد عَلَيْهِمْ كَمَا شَدَّدَ عَلَى الْيَهُود.
ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ
هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ بِمَكَّة فِي وَقْت الْأَمْر بِمُهَادَنَةِ قُرَيْش، وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْعُو إِلَى دِين اللَّه وَشَرْعه بِتَلَطُّفٍ وَلِين دُون مُخَاشَنَة وَتَعْنِيف، وَهَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُوعَظ الْمُسْلِمُونَ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ٠ فَهِيَ مُحْكَمَة فِي جِهَة الْعُصَاة مِنْ الْمُوَحِّدِينَ، وَمَنْسُوخَة بِالْقِتَالِ فِي حَقّ الْكَافِرِينَ.
وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ مَنْ أَمْكَنَتْ مَعَهُ هَذِهِ الْأَحْوَال مِنْ الْكُفَّار وَرُجِيَ إِيمَانه بِهَا دُون قِتَال فَهِيَ فِيهِ مُحْكَمَة.
وَاَللَّه أَعْلَم.
وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ
فِيهَا مَسَائِل :
[ الْأُولَى ] أَطْبَقَ جُمْهُور أَهْل التَّفْسِير أَنَّ هَذِهِ الْآيَة مَدَنِيَّة، نَزَلَتْ فِي شَأْن التَّمْثِيل بِحَمْزَة فِي يَوْم أُحُد، وَوَقَعَ ذَلِكَ فِي صَحِيح الْبُخَارِيّ وَفِي كِتَاب السِّيَر.
وَذَهَبَ النَّحَّاس إِلَى أَنَّهَا مَكِّيَّة، وَالْمَعْنَى مُتَّصِل بِمَا قَبْلهَا مِنْ الْمَكِّيّ اِتِّصَالًا حَسَنًا ; لِأَنَّهَا تَتَدَرَّج الرُّتَب مِنْ الَّذِي يُدْعَى وَيُوعَظ، إِلَى الَّذِي يُجَادِل، إِلَى الَّذِي يُجَازَى عَلَى فِعْله.
وَلَكِنْ مَا رَوَى الْجُمْهُور أَثْبَت.
رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : لَمَّا اِنْصَرَفَ الْمُشْرِكُونَ عَنْ قَتْلَى أُحُد اِنْصَرَفَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَأَى مَنْظَرًا سَاءَهُ رَأَى حَمْزَة قَدْ شُقَّ بَطْنه، وَاصْطُلِمَ أَنْفه، وَجُدِعَتْ أُذُنَاهُ، فَقَالَ :( لَوْلَا أَنْ يَحْزَن النِّسَاء أَوْ تَكُون سُنَّة بَعْدِي لَتَرَكْته حَتَّى يَبْعَثهُ اللَّه مِنْ بُطُون السِّبَاع وَالطَّيْر لَأُمَثِّلَنَّ مَكَانه بِسَبْعِينَ رَجُلًا ) ثُمَّ دَعَا بِبُرْدَةٍ وَغَطَّى بِهَا وَجْهه، فَخَرَجَتْ رِجْلَاهُ فَغَطَّى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجْهه وَجَعَلَ عَلَى رِجْلَيْهِ مِنْ الْإِذْخِر، ثُمَّ قَدَّمَهُ فَكَبَّرَ عَلَيْهِ عَشْرًا، ثُمَّ جَعَلَ يُجَاء بِالرَّجُلِ فَيُوضَع وَحَمْزَة مَكَانه، حَتَّى صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعِينَ صَلَاة، وَكَانَ الْقَتْلَى سَبْعِينَ، فَلَمَّا دُفِنُوا وَفَرَغَ مِنْهُمْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة :" اُدْعُ إِلَى سَبِيل رَبّك بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَة الْحَسَنَة - إِلَى قَوْله - وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرك إِلَّا بِاَللَّهِ " فَصَبَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُمَثِّل بِأَحَدٍ.
خَرَّجَهُ إِسْمَاعِيل بْن إِسْحَاق مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة، وَحَدِيث اِبْن عَبَّاس أَكْمَل.
وَحَكَى الطَّبَرِيّ عَنْ فِرْقَة أَنَّهَا قَالَتْ : إِنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة فِيمَنْ أُصِيبَ بِظِلَامَةِ أَلَّا يَنَال مِنْ ظَالِمه إِذَا تَمَكَّنَ إِلَّا مِثْل ظِلَامَته لَا يَتَعَدَّاهُ إِلَى غَيْره.
وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيّ عَنْ اِبْن سِيرِينَ وَمُجَاهِد.
[ الثَّانِيَة ] وَاخْتَلَفَ أَهْل الْعِلْم فِيمَنْ ظَلَمَهُ رَجُل فِي أَخْذ مَال ثُمَّ اِئْتَمَنَ الظَّالِم الْمَظْلُوم عَلَى مَال، هَلْ يَجُوز لَهُ خِيَانَته فِي الْقَدْر الَّذِي ظَلَمَهُ ; فَقَالَتْ فِرْقَة : لَهُ ذَلِكَ ; مِنْهُمْ اِبْن سِيرِينَ وَإِبْرَاهِيم النَّخَعِيّ وَسُفْيَان وَمُجَاهِد ; وَاحْتَجَّتْ بِهَذِهِ الْآيَة وَعُمُوم لَفْظهَا.
وَقَالَ مَالِك وَفِرْقَة مَعَهُ : لَا يَجُوز لَهُ ذَلِكَ ; وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( أَدِّ الْأَمَانَة إِلَى مَنْ اِئْتَمَنَك وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَك ).
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا فِي " الْبَقَرَة " مُسْتَوْفًى وَوَقَعَ فِي مُسْنَد اِبْن إِسْحَاق أَنَّ هَذَا الْحَدِيث إِنَّمَا وَرَدَ فِي رَجُل زَنَى بِامْرَأَةِ آخَر، ثُمَّ تَمَكَّنَ الْآخَر مِنْ زَوْجَة الثَّانِي بِأَنْ تَرَكَهَا عِنْده وَسَافَرَ ; فَاسْتَشَارَ ذَلِكَ الرَّجُل رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَمْر فَقَالَ لَهُ :( أَدِّ الْأَمَانَة إِلَى مَنْ اِئْتَمَنَك وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَك ).
وَعَلَى هَذَا يَتَقَوَّى قَوْل مَالِك فِي أَمْر الْمَال ; لِأَنَّ الْخِيَانَة لَاحِقَة فِي ذَلِكَ، وَهِيَ رَذِيلَة لَا اِنْفِكَاك عَنْهَا، فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَجَنَّبهَا لِنَفْسِهِ ; فَإِنْ تَمَكَّنَ مِنْ الِانْتِصَاف مِنْ مَال لَمْ يَأْتَمِنهُ عَلَيْهِ فَيُشْبِه أَنَّ ذَلِكَ جَائِز وَكَأَنَّ اللَّه حَكَمَ لَهُ ; كَمَا لَوْ تَمَكَّنَ الْأَخْذ بِالْحُكْمِ مِنْ الْحَاكِم.
وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ هَذِهِ الْآيَة مَنْسُوخَة، نَسَخَتْهَا " وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرك إِلَّا بِاَللَّهِ ".
[ الثَّالِثَة ] فِي هَذِهِ الْآيَة دَلِيل عَلَى جَوَاز التَّمَاثُل فِي الْقِصَاص ; فَمَنْ قَتَلَ بِحَدِيدَةٍ قُتِلَ بِهَا.
وَمَنْ قَتَلَ بِحَجَرٍ قُتِلَ بِهِ، وَلَا يَتَعَدَّى قَدْر الْوَاجِب، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي " الْبَقَرَة " مُسْتَوْفًى وَالْحَمْد لِلَّهِ
[ الرَّابِعَة ] سَمَّى اللَّه تَعَالَى الْإِذَايَات فِي هَذِهِ الْآيَة عُقُوبَة، وَالْعُقُوبَة حَقِيقَة إِنَّمَا هِيَ الثَّانِيَة، وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِيَسْتَوِيَ اللَّفْظَانِ وَتَتَنَاسَب دِبَاجَة الْقَوْل، وَهَذَا بِعَكْسِ قَوْله :" وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّه " [ آل عِمْرَان : ٥٤ ] وَقَوْله :" اللَّه يَسْتَهْزِئ بِهِمْ " [ الْبَقَرَة : ١٥ ] فَإِنَّ الثَّانِي هُنَا هُوَ الْمَجَاز وَالْأَوَّل هُوَ الْحَقِيقَة ; قَالَهُ اِبْن عَطِيَّة.
وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ
قَالَ اِبْن زَيْد : هِيَ مَنْسُوخَة بِالْقِتَالِ.
وَجُمْهُور النَّاس عَلَى أَنَّهَا مُحْكَمَة.
أَيْ اِصْبِرْ بِالْعَفْوِ عَنْ الْمُعَاقَبَة بِمِثْلِ مَا عَاقَبُوا فِي الْمُثْلَة.
وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ
أَيْ عَلَى قَتْلَى أُحُد فَإِنَّهُمْ صَارُوا إِلَى رَحْمَة اللَّه.
وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ
ضَيْق جَمْع ضِيقَة ; قَالَ الشَّاعِر :
كَشَفَ الضَّيْقَة عَنَّا وَفَسَح
وَقِرَاءَة الْجُمْهُور بِفَتْحِ الضَّاد.
وَقَرَأَ اِبْن كَثِير بِكَسْرِ الضَّاد، وَرُوِيَتْ عَنْ نَافِع، وَهُوَ غَلَط مِمَّنْ رَوَاهُ.
قَالَ بَعْض اللُّغَوِيِّينَ : الْكَسْر وَالْفَتْح فِي الضَّاد لُغَتَانِ فِي الْمَصْدَر.
قَالَ الْأَخْفَش : الضِّيق وَالضَّيْق مَصْدَر ضَاقَ يَضِيق.
وَالْمَعْنَى : لَا يَضِيق صَدْرك مِنْ كُفْرهمْ.
و قَالَ الْفَرَّاء : الضَّيْق مَا ضَاقَ عَنْهُ صَدْرك، وَالضِّيق مَا يَكُون فِي الَّذِي يَتَّسِع وَيَضِيق ; مِثْل الدَّار وَالثَّوَاب.
وَقَالَ اِبْن السِّكِّيت : هُمَا سَوَاء ; يُقَال : فِي صَدْره ضَيْق وَضِيق.
الْقُتَبِيّ : ضَيْق مُخَفَّف ضيّق ; أَيْ لَا تَكُنْ فِي أَمْر ضَيِّق فَخُفِّفَ ; مِثْل هَيِّن وَهَيْن.
وَقَالَ اِبْن عَرَفَة : يُقَال ضَاقَ الرَّجُل إِذَا بَخِلَ، وَأَضَاقَ إِذَا اِفْتَقَرَ.
إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ
أَيْ اِتَّقَوْا الْفَوَاحِش وَالْكَبَائِر بِالنَّصْرِ وَالْمَعُونَة وَالْفَضْل وَالْبِرّ وَالتَّأْيِيد.
وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الْإِحْسَان.
وَقِيلَ لِهَرِمِ بْن حِبَّان عِنْد مَوْته : أَوْصِنَا ; فَقَالَ : أُوصِيكُمْ بِآيَاتِ اللَّه وَآخِر سُورَة [ النَّحْل ] " اُدْعُ إِلَى سَبِيل رَبّك " إِلَى آخِرهَا.
تَمَّتْ سُورَة النَّحْل وَالْحَمْد لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ.
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net
-
© 2024