تفسير سورة الكهف

التفسير الوسيط لطنطاوي
تفسير سورة سورة الكهف من كتاب التفسير الوسيط المعروف بـالتفسير الوسيط لطنطاوي .
لمؤلفه محمد سيد طنطاوي . المتوفي سنة 1431 هـ
تفسير سورة الكهف

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.
وبعد : فقد كان من فضل الله –عز وجل- على، أن أعارتني جامعة الأزهر إلى قسم الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
وقد امتدت هذه الإعارة لمدة أربع سنوات، من سنة ١٤٠٠ إلى ١٤٠٤ ه ١٩٨٠ – ١٩٨٤م.
وقد وفقني الله –تعالى- خلال هذه المدة، أن أكتب –وأنا في الجوار الطيب- تفسيراً محرراً ونافعاً –إن شاء الله- لسور : يونس، وهود، ويوسف، والرعد، وإبراهيم، والحجر، والنحل، والإسراء.
وهأنذا –وأنا في الأشهر الأخيرة من الإعارة- انتهي من كتابة تفسير سورة الكهف.
أسأل الله –تعالى- أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه، ونافعا لعباده، وأن يعينني على خدمة كتابه الكريم، وعلى السير في تفسيره حتى النهاية، وأن يزيل من طريقي كل عقبة تمنعني من ذلك.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
المدينة المنورة – مساء الخميس ١٨ من رجب سنة ١٤٠٤ه.
١٩ من أبريل سنة ١٩٨٤م.
د/ محمد سيد طنطاوي.
تمهيد
١- سورة الكهف هي السورة الثامنة عشرة في ترتيب سور المصحف، فقد سبقتها في الترتيب سور : الفاتحة، والبقرة، وآل عمران.. إلخ.
أما ترتيبها في النزول، فهي السورة الثامنة والستون، فقد ذكر قبلها صاحب الإتقان سبعا وستين سورة، كما ذكر أن نزولها كان بعد سورة الغاشية( ١ ).
ومما ذكره صاحب الإتقان يترجح لدينا، أن سورة الكهف من أواخر السور المكية التي نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة، إذ من المعروف عند العلماء أن السور المكية زهاء اثنتين وثمانين سورة.
قال الآلوسي : سورة الكهف، ويقال لها سورة أصحاب الكهف.. وهي مكية كلها في الشهور، واختاره الداني.. وعدها بعضهم من السور التي نزلت جملة واحدة.
وقيل : مكية إلا قوله –تعالى- [ واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي.. ] الآية.
وقيل هي مكية إلا أولها إلى قوله –تعالى- [ جرزا ] وقيل : مكية إلا قوله –تعالى- [ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا.. ] إلى آخر السورة.
وهي مائة وإحدى عشرة آية عند البصريين، ومائة وعشر آيات عند الكوفيين... ( ٢ ).
والذين تطمئن إليه النفس أن سورة الكهف كلها مكية، وقد ذكر ذلك دون أن يستثنى منها شيئا الإمام ابن كثير، والزمخشري، وأبو حيان، وغيرهم، وفضلا عن ذلك فالذين قالوا بأن فيها آيات مدنية، لم يأتوا بما يدل على صحة قولهم، كما سيتبين لنا عند تفسير الآيات التي قيل بأنها مدنية.
٢- وقد صدر الإمام ابن كثير تفسيره لهذه السورة، بذكر الأحاديث التي وردت في فضلها فقال ما ملخصه : ذكر ما ورد في فضلها، والعشر الآيات من أولها وآخرها، وأنها عصمة من الدجال.
قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد، أخبرنا همام بن يحيى، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان بن أبي طلحة، عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف، عُصِم من الدجال ".
وفي رواية عن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم : " من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف عصم من فتنة الدجال ".
وأخرج الحاكم عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة، أضاء له من النور ما بينه وبين الجمعتين " ( ٣ ).
٣- عرض إجمالي لسورة الكهف :
( أ‌ ) عندما نقرأ سورة الكهف، نراها في مطلعها تفتتح بالثناء على الله –تعالى- وبالتنويه بشأن النبي صلى الله عليه وسلم وبالقرآن الذي نزل عليه ثم تنذر الذين نسبوا إلى الله –عز وجل- مالا يليق به، وتصمهم بأقبح ألوان الكذب، ثم تنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن التأسف عليهم، بسبب إصرارهم على كفرهم.
قال –تعالى- :[ الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. قيما لينذر بأسا شديداً من لدنه، ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً حسنا. ماكثين فيه أبدا. وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا. مالهم به من علم ولا لآبائهم، كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا ].
( ب‌ ) ثم ساقت السورة بعد ذلك فيما يقرب من عشرين آية قصة أصحاب الكهف، فحكت أقوالهم عندما التجأوا إلى الكهف، وعندما استقروا فيه واتخذوه مأوى لهم، كما حكت جانبا من رعاية الله، تعالى، لهم، ورحمته بهم.. ثم صورت أحوالهم وهم رقود، وذكرت تساؤلهم فيما بينهم بعد أن بعثهم الله –تعالى- من رقادهم الطويل، وإرسالهم أحدهم إلى المدينة لإحضار بعض الأطعمة، وإطلاع الناس عليهم. وتنازعهم في أمرهم، ونهى الله –تعالى- عن الجدال في شأنهم، كما ذكرت المدة التي لبثوها في كهفهم.
قال –تعالى- [ ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا، قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السموات والأرض. أبصر به وأسمع ما لهم من دونه من ولي، ولا يشرك في حكمه أحداً ].
( ج ) ثم أمرت السورة الكريمة النبي صلى الله عليه وسلم برعاية الفقراء من أصحابه. ومدحتهم بأنهم يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه.. كما أمرته بأن يجهر بكلمة الحق، فمن شاء بعد ذلك فليؤمن ومن شاء فليكفر، فإن الله –تعالى- قد أعد لكل فريق ما يستحقه من ثواب أو عقاب.
قال –تعالى- [ وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر، إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها، ون يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا. إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا ].
( د ) ثم ضربت السورة الكريمة مثلا للشاكرين والجاحدين، وصورت بأسلوب بليغ مؤثر تلك المحاورة الرائعة التي دارت بين صاحب الجنتين الغني المغرور، وبين صديقه الفقير المؤمن الشكور، وختمت هذه المحاورة ببيان العاقبة السيئة لهذا الجاهل الجاحد.
استمع إلى القرآن وهو يبين ذلك بأسلوبه فيقول :[ وأحبط بثمره، فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها، ويقول : يا ليتني لم أشرك بربي أحدا، ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا ].
( ه ) ثم أتبعت السورة هذا المثل للرجلين، بمثال آخر لزوال الحياة الدنيا وزينتها، وببيان أحوال الناس يوم القيامة، وأحوال المجرمين عندما يرون صحائف أعمالهم وقد خلت من كل خير.
قال –تعالى- :[ واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء، فاختلط به نبات الأرض، فأصبح هشيما تذروه الرياح، وكان الله على كل شيء مقتدرا، المال والبنون زينة الحياة الدنيا، والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا. ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا ].
( و ) وبعد أن ذكرت السورة الكريمة طرفا من قصة آدم وإبليس، وبينت أن هذا القرآن قد صرف الله فيه للناس من كل مثل، وحددت وظيفة المرسلين عليهم الصلاة والسلام.
بعد كل ذلك ساقت في أكثر من عشرين آية قصة موسى مع الخضر –عليهما السلام- وحكت ما دار بينهما من محاورات. انتهت بأن قال الخضر لموسى :[ وما فعلته عن أمري، ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا ].
( ز ) ثم جاءت بعد قصة موسى والخضر –عليهما السلام- قصة ذي القرنين في ست عشرة آية، بين الله، تعالى، فيها جانبا من النعم التي أنعم بها على ذي القرنين، ومن الأعمال العظيمة التي مكنه –سبحانه- من القيام بها.
قال –تعالى- [ حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا. قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا. قال ما مكني في ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما ].
( ح ) ثم ختمت السورة الكريمة ببيان ما أعده –سبحانه- للكافرين من سوء العذاب وما أعده للمؤمنين من جزيل الثواب، وببيان مظاهر قدرته، -عز وجل- التي توجب على كل عاقل أن يخلص له العبادة والطاعة.
قال –تعالى- :[ قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا. الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا. ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا. إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا. خالدين فيها لا يبغون عنها حولا. قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي، ولو جئنا بمثله مددا. قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد. فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ].
٤- وبعد : فهذا عرض إجمالي لأهم الموضوعات التي اشتملت عليها سورة الكهف، ومن هذا العرض نرى :
( أ‌ ) أن القصص قد اشتمل على جانب كبير من آياتها، ففي أوائلها نرى قصة أصحاب الكهف، وبعدها قصة الرجلين اللذين جعل الله لأحدهما جنتين من أعناب. ثم بعد ذلك جاء طرف من قصة آدم وإبليس، ثم جاءت قصة موسى والخضر –عليهما السلام- ثم ختمت بقصة ذي القرنين.
وقد وردت هذه القصص في أكثر من سبعين آية، من سورة الكهف المشتملة على عشر آيات بعد المائة.
وقد وردت هذه القصص في أكثر من سبعين آية، من سورة الكهف المشتملة على عشر آيات بعد المائة.
( ب‌ ) اهتمت السورة الكريمة بإقامة الأدلة على وحدانية الله –تعالى- وعلى صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عنه، وعلى إثبات أن هذا القرآن من عنده –تعالى-.
نرى ذلك في أمثال قوله –تعالى- [ الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ].
وقوله –تعالى- :[ قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد ].
وفي غير ذلك من الآيات التي حكت لنا تلك القصص المتعددة.
( ج ) برز في السورة عنصر الموازنة والمقارنة بين حسن عاقبة الأخيار وسوء عاقبة الأشرار، ترى ذلك في قصة أصحاب الكهف، وفي قصة الرجلين وفي قصة ذي القرنين.
وفي الآيات التي ذكرت الكافرين وسوء مصيرهم، ثم أعقبت ذلك بذكر المؤمنين وحسن مصيرهم كما برز فيها عنصر التسلية للرسول صلى الله عليه وسلم والتهوين من شأن أعدائه [ فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ].
كما برز فيها التصوير المؤثر لأهوال يوم القيامة كما في قوله –تعالى- :[ ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا. وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة ].
والخلاصة : أن سورة الكهف قد –ساقت- بأسلوبها البليغ الذي يغلب عليه طابع القصة – ألوانا من التوجيهات السامية، التي من شأنها أنها تهدي إلى العقيدة الصحيحة، وإلى السلوك القويم. وإلى الخلق الكريم، وإلى التفكير السليم الذي يهدي إلى الرشد، وإلى كل ما يوصل إلى السعادة في الدنيا والآخرة.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
١ - الإتقان في علوم القرآن جـ ١ ص ٢٧ السيوطي..
٢ - تفسير الآلوسي جـ ١٥ ص ١٩٩..
٣ - راجع تفسير ابن كثير جـ ٥ ص ١٣٠ طبعة دار الشعب..

التفسير قال- تعالى-:
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ١ الى ٨]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (٢) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (٣) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (٤)
ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (٥) فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (٦) إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (٧) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (٨)
سورة الكهف هي إحدى السور الخمس، التي افتتحت بتقرير الحقيقة الأولى في كل دين، وهي أن المستحق للحمد المطلق، والثناء التام، هو الله رب العالمين.
والسور الأربع الأخرى التي افتتحت بقوله- تعالى-: الْحَمْدُ لِلَّهِ هي: الفاتحة، والأنعام، وسبأ، وفاطر.
وقد بينا عند تفسيرنا لسورة الأنعام، أن هذه السور وإن كانت قد اشتركت في هذا
464
الافتتاح، إلا أن لكل سورة طريقتها في بيان الأسباب التي من شأنها أن تقنع الناس، بأن المستحق للحمد المطلق هو الله- تعالى- وحده «١».
وإنما كان الحمد مقصورا في الحقيقة على الله- تعالى-، لأن كل ما يستحق أن يقابل بالثناء فهو صادر عنه، ومرجعه إليه إذ هو الخالق لكل شيء، وما يقدم إلى بعض الناس من حمد جزاء إحسانهم، فهو في الحقيقة حمد لله، لأنه- سبحانه- هو الذي وفقهم لذلك، وأعانهم عليه.
وقد بين بعض المفسرين الحكمة في افتتاح بعض السور بلفظ الحمد دون المدح أو الشكر فقال ما ملخصه: «أعلم أن المدح أعم من الحمد، وأن الحمد أعم من الشكر، أما بيان أن المدح أعم من الحمد، فلأن المدح يحصل للعاقل ولغير العاقل، فقد يمدح الرجل لعقله، ويمدح اللؤلؤ لحسن شكله.
وأما الحمد فإنه لا يحصل إلا للفاعل المختار، على ما يصدر منه من الإنعام، فثبت أن المدح أعم من الحمد.
وأما بيان أن الحمد أعم من الشكر، فلأن الحمد عبارة عن تعظيم الفاعل لأجل ما صدر عنه من الإنعام، سواء أكان ذلك الإنعام واصلا إليك أم إلى غيرك، وأما الشكر فهو عبارة عن تعظيمه لأجل إنعام وصل إليك وحدك، فثبت أن الحمد أعم من الشكر.
وكان قوله الْحَمْدُ لِلَّهِ تصريحا بأن المؤثر في وجود العالم هو الفاعل المختار، الذي وصلت نعمه إلى جميع خلقه، لا إلى بعضهم.. ، «٢»
.
وقوله: الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً. قَيِّماً.. بيان للأسباب التي توجب على الناس أن يجعلوا حمدهم وعبادتهم لله- تعالى- وحده، إذ الوصف بالموصول، يشعر بعلية ما في حيز الصلة لما قبله.
والعوج- بكسر العين- أكثر ما يكون استعمالا في المعاني، تقول، هذا كلام لا عوج فيه، أى: لا ميل فيه.
أما العوج- بفتح العين- فأكثر ما يكون استعمالا في الأعيان تقول: هذا حائط فيه عوج.
وقوله: قَيِّماً أى: مستقيما معتدلا لا ميل فيه ولا زيغ وهما- أى: عوجا وقيما-
(١) راجع تفسيرنا لسورة الأنعام ص ٢٧.
(٢) راجع تفسير الفخر الرازي لأول سورة الأنعام ج ٤ ص ٣. طبعة المطبعة الشرقية سنة ١٣٣٤ هـ.
465
حالان من الكتاب ويصح أن يكون قوله قَيِّماً منصوبا بفعل محذوف أى: جعله قيما.
والمعنى: الحمد الكامل، والثناء الدائم، لله- تعالى- وحده، الذي أنزل على عبده محمد ﷺ القرآن الكريم، ولم يجعل فيه شيئا من العوج أو الاختلاف أو التناقض، لا في لفظه، ولا في معناه، وإنما جعله في أسمى درجات الاستقامة والإحكام.
وإنما أمر الله- تعالى- الناس بأن يحمدوه لإنزال الكتاب على عبده محمد ﷺ لأن في هذا الكتاب من الهدايات ما يخرجهم من الظلمات إلى النور، وما يسعدهم في دينهم ودنياهم وآخرتهم.
وفي التعبير عن الرسول ﷺ بالعبد، مضافا إلى ضميره- تعالى-، تعظيم وتشريف له ﷺ وإشعار بأنه مهما سمت منزلته، وعلت مكانته «فهو عبد الله- تعالى-، وأن الذين عبدوا أو أشركوا مع الله- تعالى- بعض مخلوقاته، قد ضلوا ضلالا بعيدا.
والتعبير عن القرآن الكريم بالكتاب، إشارة إلى كماله وشهرته، أى: أنزل- سبحانه- على عبده محمد ﷺ الكتاب الكامل في بابه، الغنى عن التعريف، الحقيق باختصاص هذا الاسم به، المعروف بهذا الاسم من بين سائر الكتب.
والمراد به إما جميع القرآن الكريم سواء منه ما نزل فعلا وما هو مترقب النزول، وإما ما نزل منه فقط حتى نزول هذه الآية فيكون من باب التعبير عن البعض بالكل تحقيقا للنزول للجميع.
وجاء لفظ «عوجا»
بصيغة التنكير، ليشمل النهى جميع أنواع الميل والعوج، إذ النكرة في سياق النفي تعم، أى: لم يجعل له- سبحانه- أى شيء من العوج. وقوله: قَيِّماً تأكيد في المعنى لقوله- سبحانه-: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً لأنه قد يكون الشيء مستقيما في الظاهر، إلا أنه لا يخلو عن اعوجاج في حقيقة الأمر، ولذا جمع- سبحانه- بين نفى العوج، وإثبات الاستقامة.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: ما فائدة الجمع بين نفى العوج وإثبات الاستقامة، وفي أحدهما غنى عن الآخر؟
قلت: فائدته التأكيد، فرب مستقيم مشهود له بالاستقامة، ولا يخلو من أدنى عوج عند السبر والتصفح، وقيل: قيما على سائر الكتب، مصدقا لها، شاهدا بصحتها، وقيل: قيما بمصالح العباد وما لا بد لهم منه من الشرائع «١».
(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٤٧٢.
466
وشبيه بهذه الآية في مدح القرآن الكريم قوله- تعالى-: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ «١».
وقوله- سبحانه-: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ.. «٢».
وقوله- عز وجل: وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ «٣».
وقوله- تعالى-: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً «٤».
ثم شرع- سبحانه- في بيان وظيفة القرآن الكريم، بعد أن وصفه بالاستقامة والإحكام، فقال: لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ....
والإنذار: الإعلام المقترن بتخويف وتهديد، فكل إنذار إعلام، ولبس كل إعلام إنذارا.
واللام في قوله لِيُنْذِرَ متعلقة بأنزل، والبأس: العذاب، وهو المفعول الثاني للفعل ينذر، ومفعوله الأول محذوف.
والمعنى: أنزل- سبحانه- على عبده الكتاب حالة كونه لم يجعل له عوجا بل جعله مستقيما، لينذر الذين كفروا عذابا شديدا، صادرا من عنده- تعالى-.
والتعبير بقوله مِنْ لَدُنْهُ يشعر بأنه عذاب ليس له دافع، لأنه من عند الله تعالى- القاهر فوق عباده.
أما وظيفة القرآن بالنسبة للمؤمنين، فقد بينها- سبحانه- بعد ذلك في قوله: وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ. أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً. ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً.
أى: أنزل الله هذا القرآن، ليخوف به الكافرين من عذابه، وليبشر به المؤمنين الذين يعملون الأعمال الصالحات، أن لهم من خالقهم- عز وجل- أجرا حسنا هو الجنة ونعيمها، ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً أى: مقيمين فيه إقامة باقية دائمة لا انتهاء لها، فالضمير في قوله فِيهِ يعود إلى الأجر الذي يراد به الجنة.
(١) سورة إبراهيم الآية ٢.
(٢) سورة الإسراء الآية ٩.
(٣) سورة الزمر الآية ٢٧، ٢٨. [.....]
(٤) سورة النساء الآية ٨٢.
467
قال- تعالى-: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا «١».
ثم خص- سبحانه- بالإنذار فرقة من الكافرين، نسبوا إلى الله- تعالى- ما هو منزه عنه، فقال: وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً. ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً.
فقوله- سبحانه- هنا: وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً.. معطوف على قوله قبل ذلك لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ من باب عطف الخاص على العام لأن الإنذار في الآية الأولى يشمل جميع الكافرين ومن بينهم الذين نسبوا إلى الله- تعالى- الولد.
والمراد بهم اليهود والنصارى، وبعض مشركي العرب، قال- تعالى- وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ «٢».
وقال- سبحانه-: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ «٣».
قال الآلوسي: وترك- سبحانه- إجراء الموصول على الموصوف هنا، حيث لم يقل وينذر الكافرين الذين قالوا.. كما قال في شأن المؤمنين: ويبشر المؤمنين الذين.. للإيذان بكفاية ما في حيز الصلة في الكفر على أقبح الوجوه. وإيثار صيغة الماضي في الصلة، للدلالة، على تحقيق صدور تلك الكلمة القبيحة عنهم فيما سبق «٤».
وقوله- تعالى-: ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ توبيخ لهم على تفوههم بكلام يدل على إيغالهم في الجهل والبهتان.
أى: ما نسبوه إلى الله- تعالى- من الولد، ليس لهم بهذه النسبة علم، وكذلك ليس لآبائهم بهذه النسبة علم، لأن ذلك مستحيل له- تعالى-، كما قال- عز وجل-:
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ، وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ، سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ. بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ، وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ، وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ «٥».
و «من» في قوله: ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ مزيدة لتأكيد النفي، والجملة مستأنفة،
(١) سورة مريم الآية ٩٧.
(٢) سورة التوبة الآية ٣٠.
(٣) سورة النحل الآية ٥٧.
(٤) تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ٢٠٣.
(٥) سورة الأنعام الآيتان ١٠٠، ١٠١.
468
و «لهم» خبر مقدم، و «من علم» مبتدأ مؤخر، وقوله وَلا لِآبائِهِمْ معطوف على الخبر.
أى: ما لهم بذلك شيء من العلم أصلا، وكذلك الحال بالنسبة لآبائهم، فالجملة الكريمة تنفى ما زعموه نفيا يشملهم ويشمل الذين سبقوهم وقالوا قولهم.
قال الكرخي: فإن قيل: اتخاذ الولد محال في نفسه، فكيف قال: ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ؟ فالجواب أن انتفاء العلم بالشيء قد يكون للجهل بالطريق الموصل إليه، وقد يكون لأنه في نفسه محال لا يمكن تعلق العلم به، ونظيره قوله- تعالى-: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ «١».
وقوله- تعالى-: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً ذم شديد لهم على ما نطقوا به من كلام يدل على فرط جهلهم، وعظم كذبهم.
وكبر: فعل ماض لإنشاء الذم، فهو من باب نعم وبئس، وفاعله ضمير محذوف، مفسّر بالنكرة بعده وهي قوله كَلِمَةً المنصوبة على أنها تمييز، والمخصوص بالذم محذوف.
والتقدير: كبرت هي كلمة خارجة من أفواههم تلك المقالة الشنعاء التي تفوهوا بها، وهي قولهم: اتخذ الله ولدا فإنهم ما يقولون إلا قولا كاذبا محالا على الله- تعالى- ومخالفا للواقع ومنافيا للحق والصواب.
وفي هذا التعبير ما فيه من استعظام قبح ما نطقوا به، حيث وصفه- سبحانه- بأنه مجرد كلام لاكته ألسنتهم، ولا دليل عليه سوى كذبهم وافترائهم.
قال صاحب الكشاف: قوله كَبُرَتْ كَلِمَةً قرئ، كبرت كلمة بالرفع على الفاعلية، وبالنصب على التمييز، والنصب أقوى وأبلغ، وفيه معنى التعجب كأنه قيل: ما أكبرها كلمة.
وقوله تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ صفة للكلمة تفيد استعظاما لاجترائهم على النطق به، وإخراجها من أفواههم، فإن كثيرا مما يوسوسه الشيطان في قلوب الناس ويحدثون أنفسهم به من المنكرات، لا يتمالكون أن يتفوهوا به، ويطلقوا به ألسنتهم، بل يكظمون عليه تشوّرا من إظهاره فكيف بهذا المنكر؟
فإن قلت: إلام يرجع الضمير في «كبرت» ؟ قلت: إلى قولهم اتخذ الله ولدا. وسميت
(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ٤.
469
كلمة كما يسمون القصيدة بها «١».
وشبيه بهذه الآية في استعظام ما نطقوا به من قبح قوله- تعالى-: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً، لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا، تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا. أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً. وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً «٢».
ثم ساق- سبحانه- ما يسلى الرسول ﷺ عما أصابه من حزن بسبب إعراض المشركين عن دعوة الحق، فقال- تعالى-: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً.
قال بعض العلماء ما ملخصه: اعلم- أولا- أن لفظة لعل تكون للترجى في المحبوب، وللإشفاق في المحذور. واستظهر أبو حيان أن لعل هنا للإشفاق عليه ﷺ أن يبخع نفسه لعدم إيمانهم.
وقال بعضهم إن لعل هنا للنهى. أى لا تبخع نفسك لعدم إيمانهم.. وهو الأظهر، لكثرة ورود النهى صريحا عن ذلك، قال- تعالى-: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ.. «٣».
وقوله باخِعٌ من البخع، وأصله أن تبلغ بالذبح البخاع- بكسر الباء- وهو عرق يجرى في الرقبة. وذلك أقصى حد الذبح. يقال: بخع فلان نفسه بخعا وبخوعا. أى: قتلها من شدة الغيظ والحزن، وقوله: عَلى آثارِهِمْ أى: على أثر توليهم وإعراضهم عنك، وقوله أَسَفاً أى: هما وغما مع المبالغة في ذلك، وهو مفعول لأجله.
والمعنى: لا تهلك نفسك- أيها الرسول الكريم- هما وغما، بسبب عدم إيمان هؤلاء المشركين. وبسبب إعراضهم عن دعوتك فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ، وإِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ.
قال الزمخشري: شبهه- سبحانه- وإياهم حين تولوا عنه ولم يؤمنوا به، وما داخله من الوجد والأسف على توليهم، برجل فارقته أحبته وأعزته فهو يتساقط حسرات على آثارهم ويبخع نفسه وجدا عليهم، وتلهفا على فراقهم «٤».
(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٤٧٢.
(٢) سورة مريم الآيات من ٨٨- ٩٢.
(٣) أضواء البيان ج ٤ ص ١٤ الشيخ محمد الأمين الشنقيطى.
(٤) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٤٧٣.
470
وقوله- تعالى-: إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً تعليل للنهى المقصود من الترجي في قوله: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ... وزيادة في تسليته ﷺ عما أصابه من غم وحزن بسبب إصرار الكافرين على كفرهم.
أى: إنا بمقتضى حكمتنا- أيها الرسول الكريم- قد جعلنا ما على الأرض من حيوان ونبات وأنهار وبنيان.. زينة لها ولأهلها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أى: لنختبرهم عن طريق ما جعلنا زينة للأرض ولأهلها: أيهم أتبع لأمرنا ونهينا، وأسرع في الاستحابة لطاعتنا، وأبعد عن الاغترار بشهواتها ومتعها. وإنا- أيضا- بمقتضى حكمتنا، لجاعلون ما عليهم من هذه الزينة في الوقت الذي نريده لنهاية هذه الدنيا، «صعيدا»، أى: ترابا «جرزا» أى: لا نبات فيه، يقال أرض جرز، أى: لا تنبت، أو كان بها نبات ثم زال.
ويقال: جرزت الأرض: إذا ذهب نباتها بسبب القحط، أو الجراد الذي أتى على نباتها قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ، فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ «١».
والمقصود من الآيتين: الزيادة في تثبيت قلب النبي- صلى الله عليه وسلم- وفي تسليته عما لحقه من حزن بسبب إصرار الكافرين على كفرهم.
فكأنه- سبحانه- يقول له: امض أيها الرسول الكريم في تبليغ ما أوحيناه إليك، ولا تبال بإصرار الكافرين على كفرهم، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات، فإن حكمتنا قد اقتضت أن نجعل ما على الأرض من كل ما يصلح أن يكون زينة لها ولهم موضع ابتلاء واختبار للناس، ليتميز المحسن من المسيء، كما اقتضت حكمتنا- أيضا أن نصير ما على هذه الأرض عند انقضاء عمر الدنيا ترابا قاحلا لا نبات فيه، ويعقب ذلك الجزاء على الأعمال، وسننتقم لك من أعدائك فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا. إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً.
وفي التعبير عما على الأرض بالزينة، إشارة إلى أن ما عليها مهما حسن شكله، وعظم ثمنه.. فهو إلى زوال، شأنه في ذلك شأن ما يتزين به الرجال والنساء من ملابس وغيرها، يتزينون بها لوقت ما ثم يتركونها وتتركهم.
وقوله لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا تعليل لما اقتضته حكمته من جعل ما على الأرض زينة لها.
(١) سورة السجدة. الآية ٢٧.
471
أى: فعلنا ذلك لنختبر الناس على ألسنة رسلنا، أيهم أحسن عملا، بحيث يكون عمله مطابقا لما جئت به- أيها الرسول الكريم-، وخالصا لوجهنا، ومبنيا على أساس الإيمان والعقيدة الصحيحة.
قال تعالى: بارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا.
وفي الحديث الشريف: «إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون، واتقوا الدنيا، واتقوا النساء، فإن أول فتنة بنى إسرائيل كانت في النساء».
وقوله- سبحانه-: وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً زيادة في التزهيد في زينتها، حيث إن مصيرها إلى الزوال، وحض على التزود من العمل الصالح الذي يؤدى بالإنسان إلى السعادة الباقية الدائمة.
وبذلك نرى الآيات الكريمة، قد قررت أن الثناء الكامل إنما هو لله- عز وجل-، وأن الكتاب الذي أنزله على عبده ونبيه ﷺ لا عوج فيه ولا ميل، وأن وظيفة هذا الكتاب إنذار الكافرين بالعقاب، وتبشير المؤمنين بالثواب، كما أن من وظيفته تثبيت قلبه ﷺ وتسليته عما أصابه من أعدائه، ببيان أن الله- تعالى- قد جعل هذه الدنيا بما فيها من زينة، دار اختبار وامتحان ليتبين المحسن من المسيء، وليجازى- سبحانه- الذين أساءوا بما عملوا، ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى.
ثم ساق- سبحانه- بعد ذلك قصة أصحاب الكهف، وبين أن قصتهم ليست عجيبة بالنسبة لقدرته- عز وجل- فقد أوجد- سبحانه- ما هو أعجب وأعظم من ذلك، فقال- تعالى-:
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٩ الى ١٢]
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (٩) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (١٠) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (١١) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (١٢)
472
قال الإمام الرازي: اعلم أن القوم تعجبوا من قصة أصحاب الكهف، وسألوا عنها الرسول ﷺ على سبيل الامتحان، فقال- تعالى-: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً؟ لا تحسبن ذلك فإن آياتنا كلها عجب فإن من كان قادرا على خلق السموات والأرض، وعلى تزيين الأرض بما عليها من نبات وحيوان ومعادن، ثم يجعلها بعد ذلك صعيدا جرزا خالية من الكل، كيف يستبعد من قدرته وحفظه ورحمته حفظ طائفة من الناس مدة ثلاثمائة سنة وأكثر في النوم..» «١».
وعلى ذلك يكون المقصود بهذه الآيات الكريمة، بيان أن قصة أصحاب الكهف ليست شيئا عجبا بالنسبة لقدرة الله- تعالى-.
وقد ذكر المفسرون في سبب نزول قصة أصحاب الكهف روايات ملخصها: أن قريشا بعثت النضر بن الحارث، وعقبة بن أبى معيط، إلى أحبار اليهود بالمدينة، فقالوا لهم: سلوهم عن محمد صلى الله عليه وسلم، وصفوا لهم صفته، وأخبروهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الأول. وعندهم من العلم ما ليس عندنا من علم الأنبياء.
فخرجا حتى قدما المدينة، فسألا أحبار اليهود عن رسول الله ﷺ ووصفوا لهم أمره ﷺ فقالوا لهما سلوه عن ثلاث نأمركم بهن. فإن أخبركم بهن، فهو نبي مرسل وإن لم يفعل فالرجل متقول.
سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ماذا كان من خبرهم. فإنهم قد كان لهم حديث عجيب.
وسلوه عن رجل طواف طاف المشارق والمغارب ماذا كان من خبره؟ وسلوه عن الروح، ما هو؟ فإن أخبركم بذلك فهو نبي فاتبعوه.
فأقبل النضر وعقبة حتى قدما على قريش. فقالا: يا معشر قريش، قد جئناكم بفصل
(١) تفسير الفخر الرازي ج ٢١ ص ٨٢.
473
ما بينكم وبين محمد، قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور.
ثم جاءوا إلى رسول الله ﷺ فقالوا يا محمد أخبرنا، ثم سألوه عما قالته لهم يهود.
فقال لهم رسول الله ﷺ سأجيبكم غدا بما سألتم عنه ولم يستثن-: أى. ولم يقل إن شاء الله- فانصرفوا عنه.
ومكث رسول الله ﷺ خمس عشرة ليلة. لا يحدث الله إليه في ذلك وحيا، ولا يأتيه جبريل- عليه السلام- حتى أرجف أهل مكة وقالوا: وعدنا محمد غدا، واليوم خمسة عشر قد أصبحنا فيها، لا يخبرنا بشيء عما سألناه عنه. وحتى أحزن رسول الله ﷺ مكث الوحى عنه، وشق عليه ما تكلم به أهل مكة، ثم جاءه جبريل من عند الله بسورة أصحاب أصحاب الكهف، فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية والرجل الطواف، وقول الله- تعالى- وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي، وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا «١».
والخطاب في قوله- تعالى- أَمْ حَسِبْتَ.. للرسول ﷺ ويدخل فيه غيره من المكلفين.
و «أم» في هذه الآية هي المنقطعة، وتفسر عند الجمهور بمعنى بل والهمزة، أى: بل أحسبت، وعند بعض العلماء تفسر بمعنى بل، فتكون للانتقال من كلام إلى آخر، أى: بل حسبت. ويرى بعضهم أنها هنا بمعنى الهمزة التي للاستفهام الإنكارى أى: أحسبت أن أصحاب الكهف والرقيم.
والكهف: هو النقب المتسع في الجبل، فإن لم يكن فيه سعة فهو غار، وجمعه كهوف.
والمراد به هنا: ذلك الكهف الذي اتخذه هؤلاء الفتية مستقرا لهم.
وأما الرقيم فقد ذكروا في المراد به أقوالا متعددة منها: أنه اسم كلبهم، ومنها أنه اسم الجبل أو الوادي الذي كان فيه الكهف، ومنها أنه اسم القرية التي خرج منها هؤلاء الفتية.
ولعل أقرب الأقوال إلى الصواب أن المراد به اللوح الذي كتبت فيه أسماؤهم وأنسابهم وقصتهم، فيكون الرقيم بمعنى المرقوم- فهو فعيل بمعنى مفعول- ومأخوذ من رقمت الكتاب إذا كتبته.
(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٥ ص ١٣٢. [.....]
474
ومنه قوله- تعالى- كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ. وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ. كِتابٌ مَرْقُومٌ «١». أى مكتوب.
قال بعض العلماء: والظاهر أن أصحاب الكهف والرقيم: طائفة واحدة أضيفت إلى شيئين: أحدهما: معطوف على الآخر، خلافا لمن قال أن أصحاب الكهف طائفة، وأصحاب الرقيم طائفة أخرى، وأن الله قص على نبيه في هذه السورة الكريمة قصة أصحاب الكهف، ولم يذكر له شيئا عن أصحاب الرقيم. وخلافا لمن زعم أن أصحاب الكهف هم الثلاثة الذين سقطت عليهم صخرة فسدّت عليهم باب الكهف فدعوا الله بصالح أعمالهم فانفرجت، وهم البار بوالديه، والعفيف، والمستأجر، وقصتهم مشهورة ثابتة في الصحيح، إلا أن تفسير الآية بأنهم هم المراد بعيد كما ترى» «٢».
والمعنى: أظننت- أيها الرسول الكريم- أن ما قصصناه عليك من شأن هؤلاء الفتية، كان من بين آياتنا الدالة على قدرتنا شيئا عجبا؟ لا، لا تظن ذلك فإن قدرتنا لا يعجزها شيء.
ثم حكى- سبحانه- ما قالوه عند ما حطوا رحالهم في الكهف فقال: إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا: رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً. وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً.
و «إذ» هنا ظرف منصوب بفعل تقديره: اذكر.
و «أوى» فعل ماض- من باب ضرب- تقول: أوى فلان إلى مسكنه يأوى، إذا نزله بنفسه. واستقر فيه.
و «الفتية» : جمع قلة لفتى. وهو وصف للإنسان عند ما يكون في مطلع شبابه.
وقوله: وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا: من التهيئة بمعنى: تيسير الأمر وتقريبه وتسهيله حتى لا يخالطه عسر أو مشقة.
والمراد بالأمر هنا: ما كانوا عليه من تركهم لأهليهم ومساكنهم، ومن مفارقتهم لما كان عليه أعداؤهم من عقائد فاسدة.
(١) سورة المطففين الآيات ١٨- ٢٠.
(٢) تفسير أضواء البيان ج ٤ ص ٢٠.
475
والرشد: الاهتداء إلى الطريق المستقيم مع البقاء عليه. وهو ضد الغي. يقال: رشد فلان يرشد رشدا ورشادا، إذا أصاب الحق.
أى: واذكر- أيها الرسول الكريم- للناس ليعتبروا، وقت أن خرج هؤلاء الفتية من مساكنهم، تاركين كل شيء خلفهم من أجل سلامة عقيدتهم فالتجأوا إلى الكهف، واتخذوه مأوى لهم، وتضرعوا إلى خالقهم قائلين: يا ربنا آتنا من لدنك رحمة، تهدى بها قلوبنا، وتصلح بها شأننا، وتردّيها الفتن عنا، كما نسألك يا ربنا أن تهيئ لنا من أمرنا الذي نحن عليه- وهو: فرارنا بديننا. وثباتنا على إيماننا- ما يزيدنا سدادا وتوفيقا لطاعتك.
وقال- سبحانه-: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ.. بالإظهار- مع أنه قد سبق الحديث عنهم بأنهم أصحاب الكهف لتحقيق ما كانوا عليه من فتوة، وللتنصيص على وصفهم الدال على قلتهم، وعلى أنهم شباب في مقتبل أعمارهم، ومع ذلك ضحوا بكل شيء في سبيل عقيدتهم.
والتعبير بالفعل أَوَى يشعر بأنهم بمجرد عثورهم على الكهف. ألقوا رحالهم فيه واستقروا به استقرار من عثر على ضالته، وآثروه على مساكنهم المريحة، لأنه واراهم عن أعين القوم الظالمين.
والتعبير بالفاء في قوله- سبحانه- فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً.. يدل على أنهم بمجرد استقرارهم في الكهف ابتهلوا إلى الله- تعالى- بهذا الدعاء الجامع لكل خير.
والتنوين في قوله: رَحْمَةً: للتهويل والتنويع. أى: آتنا يا ربنا من عندك وحدك لا من غيرك. رحمة عظيمة شاملة لجميع أحوالنا وشئوننا. فهي تشمل الأمان في المنزل، والسعة في الرزق والمغفرة للذنب.
قال القرطبي ما ملخصه: هذه الآية صريحة في الفرار بالدين وهجرة الأهل والأوطان..
خوف الفتنة، ورجاء السلامة بالدين والنجاة من فتنة الكافرين.. «١».
ثم بين- سبحانه- ما حدث لهؤلاء الفتية بعد أن لجئوا إلى الكهف، وبعد أن دعوا الله بهذا الدعاء الشامل لكل خير. فقال: فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً.
وأصل الضرب في كلام العرب يرجع إلى معنى التقاء ظاهر جسم، بظاهر جسم آخر بشدة.
(١) راجع تفسير القرطبي ج ١٠ ص ٣٦٠.
476
يقال: ضرب فلان بيده الأرض إذا ألصقها بها بشدة، وتفرعت عن هذا المعنى معان أخرى ترجع إلى شدة اللصوق.
والمراد بالضرب هنا النوم الطويل الذي غشاهم الله- تعالى- به فصاروا لا يحسون شيئا مما حولهم، ومفعول ضربنا محذوف.
والمعنى: بعد أن استقر هؤلاء الفتية في الكهف، وتضرعوا إلينا بهذا الدعاء العظيم، ضربنا على آذانهم وهم في الكهف حجابا ثقيلا مانعا من السماع، فصاروا لا يسمعون شيئا يوقظهم، واستمروا في نومهم العميق هذا سِنِينَ ذات عدد كثير، بينها- سبحانه- بعد ذلك في قوله: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً.
وخص- سبحانه- الآذان بالضرب، مع أن مشاعرهم كلها كانت محجوبة عن اليقظة، لأن الآذان هي الطريق الأول للتيقظ. ولأنه لا يثقل النوم إلا عند ما تتعطل وظيفة السمع.
وقد ورد أن النبي ﷺ عند ما علم أن رجلا لا يستيقظ مبكرا أن قال في شأنه:
«ذلك رجل قد بال الشيطان في أذنه» أى: فمنعها من التبكير واليقظة قبل طلوع الشمس.
والتعبير بالضرب- كما سبق أن أشرنا- للدلالة على قوة المباشرة، وشدة اللصوق واللزوم، ومنه قوله تعالى- وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ أى: التصقتا بهم التصاقا لا فكاك لهم منه، ولا مهرب لهم عنه.
ثم بين- سبحانه- ما حدث لهم بعد هذا النوم الطويل فقال: ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً.
وأصل البعث في اللغة: إثارة الشيء من محله وتحريكه بعد سكون. ومنه قولهم: بعث فلان الناقة- إذا أثارها من مبركها للسير، ويستعمل بمعنى الإيقاظ وهو المقصود هنا من قوله:
بَعَثْناهُمْ أى: أيقظناهم بعد رقادهم الطويل.
وقوله لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ بيان للحكمة التي من أجلها أيقظهم الله من نومهم.
وكثير من المفسرين على أن الحزبين أحدهما: أصحاب الكهف والثاني: أهل المدينة الذين أيقظ الله أهل الكهف من رقادهم في عهدهم، وكان عندهم معرفة بشأنهم.
وقيل: هما حزبان من أهل المدينة الذين بعث هؤلاء الفتية في زمانهم، إلا أن أهل هذه المدينة كان منهم حزب مؤمن وآخر كافر.
وقيل: هما حزبان من المؤمنين كانوا موجودين في زمن بعث هؤلاء الفتية، وهذان الحزبان اختلفوا فيما بينهم في المدة التي مكثها هؤلاء الفتية رقودا.
477
والذي تطمئن إليه النفس أن الحزبين كليهما من أصحاب الكهف، لأن الله- تعالى- قد قال بعد ذلك- وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ أى الفتية لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ، قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ، قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ...
قال الآلوسى: ثُمَّ بَعَثْناهُمْ أى: أيقظناهم وأثرناهم من نومهم لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أى: منهم، وهم القائلون لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ والقائلون رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ.
وقيل: أحد الحزبين الفتية الذين ظنوا قلة زمان لبثهم، والثاني أهل المدينة الذين بعث الفتية على عهدهم وكان عندهم تاريخ غيبتهم.. والظاهر الأول لأن اللام للعهد، ولا عهد لغير من سمعت «١».
والمراد بالعلم في قوله لِنَعْلَمَ.. إظهار المعلوم، أى ثم بعثناهم لنعلم ذلك علما يظهر الحقيقة التي لا حقيقة سواها للناس.
ويجوز أن يكون العلم هنا بمعنى التمييز، أى: ثم بعثناهم لنميز أى الحزبين أحصى لما لبثوا أبدا.
فهو من باب ذكر السبب وإرادة المسبب، إذ العلم سبب للتمييز.
ولفظ «أحصى» يرى صاحب الكشاف ومن تابعه أنه فعل ماض، ولفظ «أمدا» مفعوله، و «ما» في قوله لِما لَبِثُوا مصدرية، فيكون المعنى، ثم بعثناهم لنعلم أى الحزبين أضبط أمدا- أى مدة- للبثهم في الكهف.
قال صاحب الكشاف: و «أحصى» فعل ماض، أى: أيهم أضبط «أمدا» لأوقات لبثهم.
فإن قلت: فما تقول فيمن جعله من أفعل التفضيل؟ قلت: ليس بالوجه السديد، وذلك أن بناءه من غير الثلاثي المجرد ليس بقياس.. والقياس على الشاذ في غير القرآن ممتنع فكيف به.. «٢».
وبعضهم يرى أن لفظ «أحصى» صيغة تفضيل، وأن قوله «أمدا» منصوب على أنه تمييز وفي إظهار هذه الحقيقة للناس، وهي أن الله- تعالى- قد ضرب النوم على آذان هؤلاء الفتية
(١) تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ٢١٢.
(٢) راجع الكشاف ج ٢ ص ٤٧٤.
478
ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا، ثم بعثهم بعد ذلك دون أن يتغير حالهم، أقول: في إظهار هذه الحقيقة دليل واضح على قدرة الله- تعالى- وعلى وجوب إخلاص العبادة له، وعلى أن البعث بعد الموت حق لا ريب فيه.
وبذلك تكون هذه الآيات قد ساقت لنا قصة أصحاب الكهف على سبيل الإجمال والاختصار، ثم جاءت آيات بعد ذلك لتحكى لنا قصتهم على سبيل التفصيل والبسط، وهذه الآيات هي قوله- تعالى-.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ١٣ الى ١٦]
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (١٣) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (١٤) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (١٥) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (١٦)
أى: «نحن» وحدنا يا محمد، نقص عليك وعلى أمتك خبر هؤلاء الفتية قصصا لحمته وسداه الحق والصدق، لأنه قصص من ربك الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
وقوله: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً كلام مستأنف جواب عن سؤال تقديره ما قصتهم وما شأنهم بالتفصيل؟
أى: إنهم فتية أخلصوا العبادة لخالقهم، وأسلموا وجوههم لبارئهم، وآمنوا بربوبيته-
479
سبحانه- إيمانا عميقا ثابتا، فزادهم الله ببركة هذا الإخلاص والثبات على الحق، هداية على هدايتهم، وإيمانا على إيمانهم.
وقوله- سبحانه- نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إيماء إلى أن قصة هؤلاء الفتية كانت معروفة لبعض الناس، إلا أن معرفتهم بها كانت مشوبة بالخرافات والأباطيل.
قال ابن كثير: ما ملخصه: ذكر الله- تعالى- أنهم كانوا فتية- أى شبابا-، وهم أقبل للحق من الشيوخ، الذين عتوا في دين الباطل، ولهذا كان اكثر المستجيبين لله ولرسوله شبابا، وأما المشايخ من قريش، فعامتهم بقوا على دينهم، ولم يسلم منهم إلا القليل.
واستدل غير واحد من الأئمة كالبخارى وغيره بقوله وَزِدْناهُمْ هُدىً إلى أن الإيمان يزيد وينقص.. «١».
ثم حكى- سبحانه- جانبا من مظاهر هدايته لهم فقال: وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا.
وأصل الربط: الشد، يقال، ربطت الدابة، أى: شددتها برباط، والمراد به هنا:
ما غرسه الله في قلوبهم من قوة، وثبات على الحق، وصبر على فراق أهليهم، ومنه قولهم:
فلان رابط الجأش، إذا كان لا يفزع عند الشدائد والكروب.
والمراد بقيامهم: عقدهم العزم على مفارقة ما عليه قومهم من باطل، وتصميمهم على ذلك تصميما لا تزحزحه الخطوب مهما كانت جسيمة.
ويصح أن يكون المراد بقيامهم: وقوفهم في وجه ملكهم الجبار بثبات وقوة، دون أن يبالوا به عند ما أمرهم بعبادة ما يعبده قومهم، وإعلانهم دين التوحيد، ونبذهم لكل ما سواه من شرك وضلال.
قال القرطبي ما ملخصه: قوله- تعالى- إِذْ قامُوا يحتمل ثلاثة معان. أحدها: أن يكون هذا وصف مقامهم بين يدي الملك الكافر، وهو مقام يحتاج إلى الربط على القلب حيث خالفوا دينه، ورفضوا ما دعاهم إليه.
والمعنى الثاني فيما قيل: إنهم أولاد عظماء تلك المدينة فخرجوا واجتمعوا وراءها من غير ميعاد، وتعاهدوا على عبادة الله وحده.
(١) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ١٣٦.
480
والمعنى الثالث: أن يعبر بالقيام عن انبعاثهم بالعزم إلى الهروب إلى الله- تعالى- ومنابذة الناس، كما تقول: قام فلان إلى أمر كذا، إذا عزم عليه بغاية الجد «١».
وعلى أية حال فالجملة الكريمة تفيد أن هؤلاء الفتية كانت قلوبهم ثابتة راسخة، مطمئنة إلى الحق الذي اهتدت إليه، معتزة بالإيمان الذي أشربته، مستبشرة بالإخاء الذي جمع بينها على غير ميعاد، وصدق رسول الله ﷺ إذ يقول: «الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف».
ثم حكى- سبحانه- ما قالوه بعد أن استقر الإيمان في نفوسهم فقال: فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً...
أى: أعلنوا براءتهم من كل خضوع لغير الله- عز وجل- حين قاموا في وجه أعدائهم، وقالوا بكل شجاعة وجرأة: ربنا- سبحانه- هو رب السموات والأرض، وهو خالقهما وخالق كل شيء، ولن نعبد سواه أى معبود آخر.
ونفوا عبادتهم لغيره- سبحانه- بحرف- «لن» للإشعار بتصميمهم على ذلك في كل زمان وفي كل مكان، إذ النفي بلن أبلغ من النفي بغيرها.
قال الآلوسى: وقد يقال إنهم أشاروا بالجملة الأولى- وهي: ربنا رب السموات والأرض- إلى توحيد الربوبية، وأشاروا بالجملة الثانية- لن ندعو من دونه إلها- إلى توحيد الألوهية، وهما أمران متغايران، وعبدة الأوثان لا يقولون بهذا، ويقولون بالأول:
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ وحكى- سبحانه- عنهم أنهم يقولون: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى وصح أنهم كانوا يقولون: لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك «٢».
وقوله- سبحانه- لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً تأكيد لبراءتهم من كل عبادة لغير الله- تعالى-.
والشطط: مصدر معناه مجاوزة الحد في كل شيء، ومنه: أشط فلان في السّوم إذا جاوز الحد، وأشط في الحكم إذا جاوز حدود العدل: وهو صفة لموصوف محذوف، وفي الكلام قسم مقدر، واللام في «لقد» واقعة في جوابه، و «إذا» حرف جواب وجزاء فتدل على شرط مقدر.
(١) تفسير القرطبي ج ١٠ ص ٣٦٥.
(٢) تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ٢١٩.
481
أى: ربنا رب السموات والأرض، لن ندعو من دونه إلها. ولو فرض أننا دعونا وعبدنا من دونه إلها آخر، والله لنكونن في هذه الحالة قد قلنا إذا قولا شططا، أى: بعيدا بعدا واضحا عن دائرة الحق والصواب.
والآية الكريمة تدل على قوة إيمان هؤلاء الفتية، وعلى أن من كان كذلك ثبت الله- تعالى- قلبه، وقواه على تحمل الشدائد، كما تدل على أن من أشرك مع الله- تعالى- إلها آخر، يكون بسبب هذا الإشراك، قد جاء بأمر شطط بعيد كل البعد عن الحق والصواب وصدق الله إذ يقول: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ «١».
ثم حكى- سبحانه- عن هؤلاء الفتية أنهم لم يكتفوا بإعلان إيمانهم الصادق، بل أضافوا إلى ذلك استنكارهم لما عليه قومهم من شرك فقال: هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ...
و «هؤلاء» مبتدأ، و «قومنا» عطف بيان، وجملة «اتخذوا من دونه آلهة» هي الخبر.
و «لولا» للتحضيض، وهو الطلب بشدة والمقصود بالتحضيض هنا: الإنكار والتعجيز، إذ من المعلوم أن قومهم لن يستطيعوا أن يقيموا الدليل على صحة ما هم عليه من شرك.
والمراد بالسلطان البين: الحجة الواضحة.
أى: أن أولئك الفتية بعد أن اجتمعوا، وتعاهدوا على عبادة الله- تعالى- وحده، ونبذ الشرك والشركاء قالوا على سبيل الإنكار والاحتقار لما عليه قومهم: هؤلاء قومنا بلغ بهم السفه والجهل، أنهم اتخذوا مع الله- تعالى- أصناما يشركونها معه في العبادة، هلا أتى هؤلاء السفهاء بحجة ظاهرة تؤيد دعواهم بأن هذه الأصنام تصلح آلهة لا شك أنهم لن يستطيعوا ذلك.
قال صاحب الكشاف وقوله: لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ تبكيت لأن الإتيان بالسلطان على صحة عبادة الأوثان محال، وهو دليل على فساد التقليد، وأنه لا بد في الدين من حجة حتى يصح ويثبت «٢».
(١) سورة الحج الآية ٣١.
(٢) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٤٧٤.
482
وشبيه بهذه الآية في تعجيز المشركين وتجهيلهم قوله تعالى: قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا، إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ، وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ «١».
وقوله- سبحانه-: قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ، أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ، ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ «٢» :
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بما يدل على تكذيبهم لقومهم، ووصفهم إياهم بالظلم فقال: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً.
أى: لا أحد أشد ظلما من قوم افتروا على الله- تعالى- الكذب، حيث زعموا أن له شريكا في العبادة والطاعة، مع انه- جل وعلا- منزه عن الشريك والشركاء: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ.
ثم حكى- سبحانه- بعد ذلك ما تناجوا به فيما بينهم، بعد أن وضح موقفهم وضوحا صريحا حاسما، وبعد أن أعلنوا كلمة التوحيد بصدق وقوة.. فقال- تعالى-: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ، فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً.
و «إذ» يبدو أنها هنا للتعليل. والاعتزال: تجنب الشيء سواء أكان هذا التجنب بالبدن أم بالقلب. و «ما» في قوله وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ اسم موصول في محل نصب معطوف على الضمير في قوله اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وقوله: إِلَّا اللَّهَ استثناء متصل، بناء على أن القوم كانوا يعبدون الله- تعالى- ويشركون معه في العبادة الأصنام. و «من» قالوا إنها بمعنى البدلية.
وقوله: مِرفَقاً من الارتفاق: بمعنى الانتفاع، وقرأ نافع وابن عامر مرفقا- بفتح الميم وكسر الفاء.
والمعنى: أن هؤلاء الفتية بعد أن أعلنوا كلمة التوحيد، وعقدوا العزم على مفارقة قومهم المشركين تناجوا فيما بينهم وقالوا: ولأجل ما أنتم مقدمون عليه من اعتزالكم لقومكم الكفار، واعتزالكم الذي يعبدونه من دون الله لأجل ذلك فالجأوا إلى الكهف، واتخذوه
(١) سورة الأنعام الآية ١٤٨.
(٢) سورة الأحقاف الآية ٤.
483
مأوى ومستقرا لكم، ينشر لكم ربكم الكثير من الخير بفضله ورحمته، ويهيئ لكم بدلا من أمركم الصعب. أمرا آخر فيه اليسر والنفع.
وفي التعبير بقولهم- كما حكى القرآن عنهم.. يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ.. دلالة واضحة على صدق إيمانهم وحسن ظنهم الذي لا حدود له، بربهم- عز وجل- فهم عند ما فارقوا أهليهم وأموالهم وزينة الحياة، وقرروا اللجوء إلى الكهف الضيق الخشن المظلم.. لم ييأسوا من رحمة الله، بل أيقنوا أن الله- تعالى- سيرزقهم فيه الخير الوفير، وييسر لهم ما ينتفعون به، ببركة إخلاصهم وصدق إيمانهم.
وهكذا الإيمان الصادق، يجعل صاحبه يفضل المكان الخالي من زينة الحياة، من أجل سلامة عقيدته، على المكان المليء باللين والرخاء الذي يحس فيه بالخوف على عقيدته.
فالآية الكريمة تدل على أن اعتزال الكفر والكافرين من أجل حماية الدين، يؤدى إلى الظفر برحمة الله وفضله وعطائه العميم وصدق الله إذ يقول في شأن إبراهيم- عليه السلام- وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا. فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا. وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا «١».
ثم تنتقل السورة الكريمة إلى الحديث عن أحوال هؤلاء الفتية بعد أن استقروا في الكهف وبعد أن ألقى الله- تعالى- عليهم بالنوم الطويل فتقول:
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ١٧ الى ١٨]
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (١٧) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (١٨)
(١) سورة مريم الآيات ٤٨- ٥٠.
484
قال الآلوسى: قوله: وَتَرَى الشَّمْسَ.. بيان لحالهم بعد ما أووا إلى الكهف..
والخطاب لرسول الله ﷺ أو لكل أحد ممن يصلح، وهو للمبالغة في الظهور، وليس المراد الإخبار بوقوع الرؤية، بل المراد الإخبار بكون الكهف لو رأيته ترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين... » «١».
وقوله تَتَزاوَرُ من الزور بمعنى الميل. ومنه قولهم: زار فلان صديقه، أى: مال إليه.
ومنه شهادة الزور، لأنها ميل عن الحق إلى الباطل. ويقال: فلان أزور، إذا كان مائل الصدر، ويقال: تزاور فلان عن الشيء، إذا انحرف عنه.
وفي هذا اللفظ ثلاث قراءات سبعية. فقد قرأ ابن عامر «تزور» بزنة تحمر. وقرأ الكوفيون- عاصم وحمزة والكسائي- «تزاور» بفتح الزاى- وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «تزّاور» بتشديد الزاى-. وأصله تتزاور فحذفت إحدى التاءين تخفيفا.
ومعنى: «تقرضهم» تقطعهم وتتجاوزهم وتتركهم، من القرض بمعنى القطع والصرم، يقال: قرض المكان، أى: عدل عنه وتركه.
والمعنى: إنك- أيها المخاطب- لو رأيت أهل الكهف، لرأيتهم على هذه الصورة، وهي أن الشمس إذا طلعت من مشرقها، مالت عن كهفهم جهة اليمين، وإذا غربت، تراها عند غروبها، تميل عنهم كذلك، فهي في الحالتين لا تصل إليهم، حماية من الله- تعالى- لهم، حتى لا تؤذيهم بحرها، بأن تغير ألوانهم، وتبلى ثيابهم.
وقوله: وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ جملة حالية. أى: والحال أنهم في مكان متسع من الكهف وهو وسطه، والفجوة: هي المكان المتسع، مأخوذة من الفجا، وهو تباعد ما بين الفخذين، ومنه قولهم: رجل أفجى، وامرأة فجواء.
وللمفسرين في تأويل هذه الآية اتجاهان لخصهما الإمام الرازي فقال: للمفسرين هنا قولان: أولهما: أن باب ذلك الكهف كان مفتوحا إلى جانب الشمال، فإذا طلعت الشمس
(١) تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ٢٢١- بتصريف يسير. [.....]
485
كانت على يمين الكهف، وإذا غربت كانت على شماله، فضوء الشمس ما كان يصل إلى داخل الكهف، وكان الهواء الطيب والنسيم الموافق يصل.
والثاني: يرى أصحابه أنه ليس المراد ذلك، وإنما المراد أن الشمس إذا طلعت منع الله- تعالى- ضوءها من الوقوع عليهم، وكذا القول في حال غروبها، وكان ذلك فعلا خارقا للعادة، وكرامة عظيمة خص الله بها أصحاب الكهف..» «١».
ومن هذين الرأيين يتبين لنا أن أصحاب الرأى الأول، يرجعون عدم وصول حر الشمس إلى هؤلاء الفتية إلى أسباب طبيعية حماهم الله- تعالى- بها ومن بينها أن الكهف كان مفتوحا إلى جهة الشمال.
أما أصحاب الرأى الثاني فيردون عدم وصول أشعة الشمس إليهم إلى أسباب غير طبيعية، بمعنى أن الفتية كانوا في متسع من الكهف، أى: في مكان تصيبه الشمس، إلا أن الله- تعالى- بقدرته التي لا يعجزها شيء، منع ضوء الشمس وحرها من الوصول إليهم، خرقا للعادة على سبيل التكريم لهم.
ومع وجاهة الرأيين، إلا أن النفس أميل إلى الرأى الثاني، لأن قوله- تعالى- وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ يشير إلى أنهم مع اتساع المكان الذي ينامون فيه- وهو الفجوة- لا تصيبهم الشمس لا عند الطلوع ولا عند الغروب، وهذا أمر خارق للعادة، ويدل على عجيب حالهم، كما أن قوله- تعالى- بعد ذلك ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ يشعر بأن أمر هؤلاء الفتية فيه غرابة، وليس أمرا عاديا مألوفا.
قال الآلوسى: وأكثر المفسرين على أنهم لم تصبهم الشمس أصلا، وإن اختلفوا في منشأ ذلك واختار جمع منهم، أنه لمحض حجب الله- تعالى- الشمس على خلاف ما جرت به العادة، والإشارة تؤيد ذلك أتم تأييد، والاستبعاد مما لا يلتفت إليه، لا سيما فيما نحن فيه، فإن شأن أصحاب الكهف كله على خلاف العادة..» «٢».
وعلى هذا الرأى الثاني يكون اسم الإشارة في قوله: ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ إلى ما فعله الله- تعالى- معهم، من حجب ضوء الشمس عنهم مع أنهم في متسع من الكهف.
أى: ذلك الذي فعلناه معهم من آياتنا الدالة على قدرتنا الباهرة، وإرادتنا التي لا يعجزها شيء.
(١) تفسير الفخر الرازي ج ٢١ ص ٩٩.
(٢) تفسير الآلوسي ج ١٥ ص ٢٢٣.
486
وأما على الرأى الأول فيكون اسم الإشارة مرجعه إلى ما سبق من الحديث عنهم، كهدايتهم إلى التوحيد، وإخراجهم من بين عبدة الأوثان، ولجوئهم إلى الكهف، وجعل باب الكهف على تلك الكيفية، إلى غير ذلك مما ذكر- سبحانه- عنهم.
أى: ذلك الذي ذكرناه لك عنهم- أيها الرسول الكريم- هو من آيات الله الدالة على وحدانيته وقدرته.
ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً.
أى: من يهده الله إلى طريق الحق، ويوفقه إلى الصواب، فهو المهتد، أى فهو الفائز بالحظ الأوفر في الدارين، ومن يضلله الله- تعالى- عن الطريق المستقيم، فلن تجد له- يا محمد- نصيرا ينصره، ومرشدا يرشده إلى طريق الحق.
كما قال تعالى-: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي، وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ «١».
وكما قال- سبحانه-: وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ... «٢».
ثم صور- سبحانه- بعد ذلك مشهدا عجيبا من أحوال هؤلاء الفتية فقال: وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ...
والحسبان بمعنى الظن، والأيقاظ جمع يقظ وهو ضد النائم، والرقود: جمع راقد والمراد به هنا: النائم.
أى: وتظنهم- أيها المخاطب لو قدر لك أن تراهم- أيقاظا منتبهين، والحال أنهم رقود أى: نيام.
وقالوا: وسبب هذا الظن والحسبان، أن عيونهم كانت مفتوحة، وأنهم كانوا يتقلبون من جهة إلى جهة، كما قال- تعالى- بعد ذلك: وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ.
أى: ونحركهم وهم رقود إلى الجهة التي تلى أيمانهم، وإلى الجهة التي تلى شمائلهم، رعاية منا لأجسامهم حتى لا تأكل الأرض شيئا منها بسبب طول رقادهم عليها.
وعدد مرات هذا التقليب لا يعلمه إلا الله- تعالى- وما أورده المفسرون في ذلك لم يثبت
(١) سورة الأعراف الآية ١٧٨.
(٢) سورة الإسراء الآية ٩٧.
487
عن طريق النقل الصحيح، لذا ضربنا صفحا عنه.
ثم بين- سبحانه- حالة- كلبهم فقال: وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ.
والمراد بالوصيد- على الصحيح- فناء الكهف قريبا من الباب، أو هو الباب نفسه، ومنه قول الشاعر: بأرض فضاء لا يسد وصيدها. أى: لا يسد بابها.
أى: وكلبهم الذي كان معهم في رحلتهم ماد ذراعيه بباب الكهف حتى لكأنه يحرسهم ويمنع من الوصول إليهم.
وما ذكره بعض المفسرين هنا عن اسم الكلب وصفاته، لم نهتم بذكره لعدم فائدته.
ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله: لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً.
أى. لو عاينتهم وشاهدتهم- أيها المخاطب- لأعرضت بوجهك عنهم من هول ما رأيت. ولملئ قلبك خوفا ورعبا من منظرهم.
وقد أخذ العلماء من هذه الآية أحكاما منها: أن صحبة الأخيار لها من الفوائد ما لها.
قال ابن كثير- رحمه الله- ربض كلبهم على الباب كما جرت به عادة الكلاب وهذا من سجيته وطبيعته حيث يربض ببابهم كأنه يحرسهم، وكان جلوسه خارج الباب. لأن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب- كما ورد في الصحيح.. وشملت كلبهم بركتهم، فأصابه ما أصابهم من النوم على تلك الحال، وهذا فائدة صحبة الأخيار، فإنه صار لهذا الكلب ذكر وخبر وشأن «١».
وقال القرطبي- رحمه الله- ما ملخصه: قال ابن عطية: وحدثني أبى قال: سمعت أبا الفضل الجوهري في جامع مصر يقول على منبر وعظه سنة تسع وستين وأربعمائة: إن من أحب أهل الخير نال من بركتهم، كلب أحب أهل فضل وصحبهم فذكره الله في محكم تنزيله.
قلت- أى القرطبي-: إذا كان بعض الكلاب نال هذه الدرجة العليا بصحبة ومخالطة الصلحاء والأولياء حتى أخبر الله بذلك في كتابه، فما ظنك بالمؤمنين المخالطين المحبين للأولياء.
والصالحين!! بل في هذا تسلية وأنس للمؤمنين المقصرين عن درجات الكلمات: المحبين للنبي صلّى الله عليه وسلم وآله خير آل.
روى في الصحيح عن أنس قال: بينا أنا ورسول الله صلّى الله عليه وسلم خارجان من المسجد،
(١) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ١٤١.
488
فلقينا رجل عند سدة المسجد، فقال: يا رسول الله. متى الساعة؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما أعددت لها؟ قال: فكأن الرجل استكان، ثم قال: يا رسول الله، ما أعددت لها كثير صلاة ولا صيام ولا صدقة، ولكني أحببت الله ورسوله: قال صلّى الله عليه وسلم:
«فأنت مع من أحببت»
. وفي رواية قال أنس: فما فرحنا بعد الإسلام فرحا أشد من قول النبي صلّى الله عليه وسلم «فأنت مع من أحببت».
قال أنس. فأنا أحب الله ورسوله وأبا بكر وعمر، فأرجو أن أكون معهم، وإن لم أعمل بأعمالهم.
قلت: وهذا الذي تمسك به أنس يشمل من المسلمين كل ذي نفس، فلذلك تعلقت أطماعنا بذلك، وإن كنا مقصرين، ورجونا رحمة الرحمن، وإن كنا غير مستأهلين. «١».
ثم حكى- سبحانه- حال هؤلاء الفتية بعد أن أعاد إليهم الحياة، فذكر بعض أقوالهم فيما بينهم فقال- تعالى-:
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ١٩ الى ٢٠]
وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (١٩) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (٢٠)
وقوله- سبحانه-: وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم، بيان للعلة التي من أجلها بعث أصحاب الكهف من نومهم الطويل.
(١) تفسير القرطبي ج ١٠ ص ٣٧٢.
489
أى: وكما أنمناهم تلك المدة الطويلة، بعثناهم من نومهم بعدها، ليسأل بعضهم بعضا، وكأنهم قد أحسوا بأن نومهم قد طال.
والاقتصار على التساؤل الذي حصل الإيقاظ من أجله، لا ينفى أن يكون هناك أسباب أخرى غيره حصل من أجلها إيقاظهم، وإنما أفرده- سبحانه- بالذكر لاستتباعه لسائر الآثار الأخرى.
ثم حكى- سبحانه- بعض تساؤلهم فقال: قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ أى: كم مكثتم مستغرقين في النوم في هذا الكهف.
فأجابه بعضهم بقوله: لَبِثْنا يَوْماً لظنهم أن الشمس قد غربت، فلما رأوها لم تغرب بعد قالوا: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ أى: مكثنا نائمين بعض ساعات اليوم.
ويصح أن تكون أو للشك. أى قال بعضهم في الرد على سؤال السائل كم لبثتم، لبثنا في النوم يوما أو بعض يوم، لأننا لا ندري على الحقيقة كم مكثنا نائمين.
ثم حكى القرآن أن بعضهم رد علم مقدار مدة نومهم على جهة اليقين إلى الله- تعالى- فقال: قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ أى: ربكم وحده هو العليم بمقدار الزمن الذي قضيتموه نائمين في هذا الكهف.
قال الآلوسى: وهذا رد منهم على الأولين، على أحسن ما يكون من مراعاة حسن الأدب، وبه كما قيل يتحقق التحزب إلى الحزبين المعهودين فيما سبق في قوله- تعالى- لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ «١».
وقال بعضهم: وقد استدل ابن عباس على أن عدد الفتية سبعة بهذه الآية، لأنه قد قال في الآية: قال قائل منهم، وهذا واحد، وقالوا في جوابه: لبثنا يوما، أو بعض يوم وهو جمع وأقله ثلاثة، ثم قالوا: ربكم أعلم بما لبثتم، وهذا قول جمع آخرين فصاروا سبعة «٢».
ثم بين- سبحانه- ما قالوه بعد أن تركوا الحديث في مسألة الزمن الذي قضوه نائمين في الكهف فقال- تعالى-: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ، وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً.
أى: كفوا عن الحديث في مسألة المدة التي نمتموها، فعلمها عند الله، وابعثوا أحدكم
(١) تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ٢٢٩.
(٢) تفسير فتح البيان ج ٥ ص ٥٣٤.
490
«بورقكم». أى: بدراهمكم المضروبة من الفضة، إِلَى الْمَدِينَةِ التي يوجد بها الطعام الذي نحن في حاجة إليه، والتي هي أقرب مكان إلى الكهف.
قالوا: والمراد بها مدينتهم التي كانوا يسكنونها قبل أن يلجئوا إلى الكهف فرارا بدينهم.
فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً أى: ومتى وصل إلى المدينة، فليتفقد أسواقها، وليتخير أى أطعمتها أحل وأطهر وأجود وأكثر بركة.
فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ أى: فليأتكم بما يسد جوعكم من ذلك الأزكى طعاما، فيكون الضمير في «منه» للطعام الأزكى.
ويصح أن يكون للدراهم المضروبة المعبر عنها «بورقكم»، أى: فليأتكم بدلا منها بطعام تأكلونه، وليتلطف، أى: وليتكلف اللطف في الاستخفاء، والدقة في استعمال الحيل حال دخوله وخروجه من المدينة، حتى لا يعرفه أحد من أهلها.
وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً أى: ولا يفعلن فعلا يؤدى إلى معرفة أحد من أهل المدينة بنا.
وقوله: إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً تعليل للأمر والنهى السابقين.
أى: قولوا لمن تختارونه لشراء طعامكم من المدينة: عليه أن يتخير أزكى الطعام، وعليه كذلك أن لا يخبر أحدا بأمركم من أهل المدينة، لأنهم إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ أى: يطلعوا عليكم. أو يظفروا بكم.
وأصل معنى ظهر. أى: صار على ظهر الأرض. ولما كان ما عليها مشاهدا متمكنا منه، استعمل تارة في الاطلاع، وتارة في الظفر والغلبة، وعدى بعلى.
يَرْجُمُوكُمْ أى إن يعرفوا مكانكم، يرجموكم بالحجارة حتى تموتوا أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ الباطلة التي نجاكم الله- تعالى- منها.
وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً أى: وإن عدتم إليها بعد إذ نجاكم الله- تعالى- منها وعصمكم من اتباعها، فلن تفلحوا إذا أبدا، لا في الدنيا ولا في الآخرة.
وهكذا نجد هاتين الآيتين تصوران لنا بأسلوب مؤثر بليغ حال الفتية وهم يتناجون فيها بينهم، بعد أن استيقظوا من رقادهم الطويل.
491
ونراهم في تناجيهم- بعد أن تركوا الحديث عن المدة التي لبثوها في نومهم- نراهم حذرين خائفين، ولا يدرون أن الأعوام قد كرت. وأن عجلة الزمن قد دارت، وأن أجيالا قد تعاقبت، وأن مدينتهم التي يعرفونها قد تغيرت معالمها. وأن أعداءهم الكافرين قد زالت دولتهم.
ثم تمضى السورة الكريمة لتحدثنا عن مشهد آخر من أحوال هؤلاء الفتية. مشهد تتجلّى فيه قدرة الله- تعالى- على أبلغ وجه، كما تتجلى فيه حكمته ووحدانيته، استمع إلى القرآن الكريم وهو يحدثنا عن ذلك فيقول:
[سورة الكهف (١٨) : آية ٢١]
وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (٢١)
فقوله- سبحانه-: وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ، وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها بيان للحكمة التي من أجلها أطلع الله- تعالى- الناس على هؤلاء الفتية.
قال الآلوسى ما ملخصه: وأصل العثور السقوط للوجه، يقال: عثر عثورا وعثارا إذا سقط لوجهه، ومنه قولهم في المثل: الجواد لا يكاد يعثر. ثم تجوز به في الاطلاع على أمر من غير طلبه.
وقال بعضهم: لما كان كل عاثر ينظر إلى موضع عثرته، ورد العثور بمعنى الاطلاع والعرفان، فهو في ذلك مجاز مشهور بعلاقة السببية.
ومفعول «أعثرنا» محذوف لقصد العموم، أى: وكذلك أطلعنا الناس عليهم، «١».
والمعنى: وكما أنمناهم تلك المدة الطويلة، وبعثناهم هذا البعث الخاص، أطلعنا الناس
(١) تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ٢٣٢.
492
عليهم ليعلم هؤلاء الناس عن طريق المعاينة والمشاهدة، أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالبعث حَقٌّ وصدق وليعلموا كذلك أن الساعة، أى القيامة، آتية لا ريب فيها، ولا شك في حصولها، فإن من شاهد أهل الكهف، وعرف أحوالهم، أيقن بأن من كان قادرا على إنامتهم تلك المدة الطويلة ثم على بعثهم بعد ذلك. فهو قادر على إعادة الحياة إلى الموتى، وعلى بعث الناس يوم القيامة للحساب والجزاء.
وقد ذكروا في كيفية إطلاع الناس عليهم روايات ملخصها: أن زميلهم الذي أرسلوه بالدراهم إلى السوق ليشتري لهم طعاما عند ما وصل إلى سوق المدينة، عمد إلى رجل ممن يبيع الطعام، فدفع إليه ما معه من نقود لكي يأخذ في مقابلها طعاما، فلما رأى البائع النقود أنكرها- لأنها مصنوعة منذ زمن بعيد- وأخذ يطلع عليها بقية التجار، فقالوا له: أين وجدت هذه الدراهم؟ فقال لهم: بعت بها أمس شيئا من التمر، وأنا من أهل هذه المدينة، وقد خرجت أنا وزملائى إلى الكهف خوفا من إيذاء المشركين لنا، فأخذوه إلى ملكهم وقصوا عليه قصته. فسر الملك به، وذهب معه إلى الكهف ليرى بقية زملائه فلما رآهم سلم عليهم..
ثم أماتهم الله- تعالى-» «١».
ثم بين- سبحانه- ما كان من أمرهم بعد وفاتهم واختلاف الناس في شأنهم، فقال:
إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ، فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ.
والظرف «إذ» متعلق بمحذوف تقديره: اذكر، و «يتنازعون» من التنازع بمعنى التخاصم والاختلاف، والضمير في «أمرهم» يعود إلى الفتية.
والمعنى: لقد قصصنا عليك- أيها الرسول الكريم- قصة هؤلاء الفتية. وبينا لك أحوالهم عند رقادهم، وبعد بعثهم من نومهم، وبعد الإعثار عليهم، وكيف أن الذين عثروا عليهم صاروا يتنازعون في شأنهم. فمنهم من يقول إنهم وجدوا في زمن كذا، ومنهم من يقول إنهم مكثوا في كهفهم كذا سنة، ومنهم من يقول نبنى حولهم بنيانا صفته كذا.
ويجوز أن يكون الضمير في «أمرهم» يعود إلى الذين أطلعهم الله على الفتية، فيكون المعنى: اذكر وقت تنازع هؤلاء الذين عثروا على الفتية وتخاصمهم فيما بينهم، حيث إن بعضهم كان مؤمنا. وبعضهم كان كافرا، وبعضهم كان يؤمن يبعث الأرواح والأجساد، وبعضهم كان يؤمن ببعث الأجساد فقط.
(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٥ ص ١٤٢.
493
وقوله- تعالى-: فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً تفسير للمتنازع فيه، وبيان لما قاله بعض الذين اطلعوا على أمر الفتية.
أى اختلف الذين عثروا على الفتية فقال بعضهم: ابنوا على باب كهفهم بنيانا. حتى لا يصل الناس إليهم، وحتى نصونهم من الأذى.
وقوله- تعالى-: رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ يحتمل أنه حكاية لكلام طائفة من المتنازعين في شأن أصحاب الكهف، وقد قالوه ليقطعوا النزاع في شأنهم، وليفوضوا أمرهم إلى الله- تعالى-.
ويحتمل أن يكون من كلام الله- تعالى- ردا للخائضين في شأنهم.
أى: اتركوا أيها المتنازعون ما أنتم فيه من تنازع، فإنى أعلم منكم بحال أصحاب الكهف.
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله: قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً.
أى: أن الذين أعثرهم الله على أصحاب الكهف قال بعضهم: ابنوا على هؤلاء الفتية بنيانا يسترهم.. وقال الذين غلبوا على أمرهم، وهم أصحاب الكلمة النافذة، والرأى المطاع، لنتخذن على هؤلاء الفتية مسجدا، أى: معبدا تبركا بهم.
قال الآلوسى: واستدل بالآية على جواز البناء على قبور الصلحاء، واتخاذ مسجد عليها، وجواز الصلاة في ذلك وممن ذكر ذلك الشهاب الخفاجي في حواشيه على البيضاوي. وهو قول باطل عاطل، فاسد كاسد. فقد روى أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج».
وزاد مسلم: «ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد فإنى أنهاكم عن ذلك».
وروى الشيخان عن أبى هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد..» «١».
(١) راجع تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ٢٣٧.
494
ثم حكت السورة بعد ذلك ما أثير من جدل حول عدد أصحاب الكهف وأمرت النبي صلّى الله عليه وسلم أن يكل ذلك إلى الله- تعالى- وحده، فقال- سبحانه-:
[سورة الكهف (١٨) : آية ٢٢]
سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (٢٢)
أى: سيختلف- الناس في عدة أصحاب الكهف- أيها الرسول الكريم- فمن الناس من سيقول إن عدتهم ثلاثة رابعهم كليهم، ومنهم من يقول: إنهم خمسة سادسهم كلبهم.
فالضمير في قوله سَيَقُولُونَ وفي الفعلين بعده. يعود لأولئك الخائضين في قصة أصحاب الكهف وفي عددهم، على عهد النبي صلّى الله عليه وسلم.
قال الجمل: قيل إنما أتى بالسين في هذا لأن في الكلام طيا وإدماجا تقديره: فإذا أجبتهم عن سؤالهم عن قصة أهل الكهف، فسلهم عن عددهم فإنهم سيقولون ثلاثة.
ولم يأت بها في بقية الأفعال، لأنها معطوفة على ما فيه السين فأعطيت حكمه من الاستقبال «١».
وقال صاحب الكشاف، فإن قلت: لماذا جاء بسين الاستقبال في الأول دون الآخرين؟.
قلت: فيه وجهان: أن تدخل الآخرين في حكم السين، كما تقول: قد أكرم وأنعم.
تريد معنى التوقع في الفعلين جميعا، وأن تريد بيفعل معنى الاستقبال الذي هو صالح له «٢».
وقوله، ثلاثة. خبر لمبتدأ محذوف، أى: هم ثلاثة.
(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ١٦.
(٢) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٤٧٨.
495
وقوله- تعالى-: رَجْماً بِالْغَيْبِ رد على القائلين بأنهم ثلاثة رابعهم كلبهم، وعلى القائلين بأنهم خمسة سادسهم كلبهم.
وأصل الرجم: الرمي بالحجارة، والمراد به هنا: القول بالظن والحدس والتخمين بدون دليل أو برهان.
قال صاحب الكشاف قوله: رَجْماً بِالْغَيْبِ، أى: رميا بالخبر الخفى وإتيانا به.
كقوله وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ أى: يأتون به. أو وضع الرجم، موضع الظن فكأنه قيل ظنا بالغيب. لأنهم أكثروا أن يقولوا: رجم بالظن، مكان قولهم: ظن. حتى لم يبق عندهم فرق بين العبارتين. ألا ترى إلى قول زهير: وما هو عنها بالحديث المرجم.. أى:
المظنون» «١».
وقوله: رَجْماً منصوب بفعل مقدر. والباء في بِالْغَيْبِ للتعدية.
أى: يرمون رميا بالخبر الغائب عنهم، والذي لا اطلاع لهم على حقيقته، شأنهم في ذلك شأن من يرمى بالحجارة التي لا تصيب المرمى المقصود.
ثم حكى- سبحانه- القول الذي هو أقرب الأقوال إلى الصواب فقال: وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ.
أى: وبعض الناس- وهم المؤمنون- يقولون إن عدد أصحاب الكهف سبعة أفراد وثامنهم كلبهم.
قال ابن كثير: - يقول- تعالى- مخبرا عن اختلاف الناس في عدة أصحاب الكهف.
فحكى ثلاثة أقوال، فدل على أنه لا قائل برابع. ولما ضعف القولين الأولين بقوله: «رجما بالغيب».
أى: قول بلا علم، كمن يرمى إلى مكان لا يعرفه، فإنه لا يكاد يصيب. وإذا أصاب فبلا قصد، ثم حكى الثالث وسكت عليه أو قرره بقوله: وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ دل على صحته، وأنه هو الواقع في نفس الأمر» «٢».
وقال الآلوسى ما ملخصه: والجملة الواقعة بعد العدد في قوله- تعالى-: وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ في موضع الصفة له، والواو الداخلة على الجملة الواقعة صفة للنكرة.
(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٤٧٨. [.....]
(٢) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ١٤٣.
496
كما تدخل في الواقعة حالا عن المعرفة في قولك: جاءني رجل ومعه آخر، ومررت بزيد وفي يده سيف، ومنه قوله- تعالى-: وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ.
وفائدتها توكيد لصوق الصفة بالموصوف، والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت مستقر وهي التي أذنت هنا بأن قائلى ما ذكر، قالوه عن ثبات علم، وطمأنينة نفس، ولم يرجموا بالظن كما رجم غيرهم فهو الحق دون القولين الأولين... «١».
ثم أمر الله- تعالى- النبي صلّى الله عليه وسلم أن يخبر الخائضين في عدة أصحاب الكهف، بما يقطع التنازع الذي دار بينهم فقال: قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ.
أى: قل- أيها الرسول الكريم- لمن خاضوا في عدة أصحاب الكهف: ربي- عز وجل- أقوى علما منكم بعدتهم- أيها المتنازعون، فإنكم إن علمتم عنهم شيئا علما ظنيا.
فإن علم ربي بهم هو علم تفصيلي يقيني لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
ثم أثبت- سبحانه- علم عددهم لقليل من الناس فقال: ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ أى: ما يعلم عدة أصحاب الكهف إلا عدد قليل من الناس.
ولا تعارض بين هذه الجملة وبين سابقتها، لأن علم هذا العدد القليل من الناس بعدة أصحاب الكهف، هو علم إجمالى ظني.. أما علم الله- تعالى- فهو علم تفصيلي يقيني شامل لجميع الأزمنة.
فضلا عن أن علم هؤلاء القلة من الناس بعدة أصحاب الكهف، نابع من إعلام الله- تعالى- لهم عن طريق الوحى كالرسول صلّى الله عليه وسلم أو من يطلعه الرسول صلّى الله عليه وسلم على عدتهم.
قال ابن عباس- رضى الله عنهما-: أنا من أولئك القليل، كانوا سبعة، ثم ذكر أسماءهم.
ثم نهى الله- تعالى- رسوله صلّى الله عليه وسلم عن الجدال المتعمق في شأنهم، كما نهاه عن استفتاء أحد في أمرهم فقال- تعالى-: فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً. وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً.
والمراء: هو الجدال والمحاجة فيما فيه مرية، أى: تردد. مأخوذ من مريت الناقة إذا كررت مسح ضرعها للحلب.
(١) تفسير الآلوسي ج ١٥ ص ٢٤١.
497
والاستفتاء: طلب الفتيا من الغير. والفاء في قوله فَلا تُمارِ للتفريع.
أى: إذا كان الشأن كما أخبرناك عن حال أصحاب الكهف، فلا تجادل في أمرهم أحدا من الخائضين فيه إلا جدالا واضحا لا يتجاوز حدود ما قصصناه عليك- أيها الرسول الكريم- ولا تطلب الفتيا في شأنهم من أحد، لأن ما قصصناه عليك من خبرهم، يغنيك عن السؤال.
وعن طلب الإيضاح من أهل الكتاب أو من غيرهم.
ثم نهى الله- تعالى- نبيه ﷺ عن الإخبار عن فعل شيء في المستقبل إلا بعد تقديم مشيئة الله- عز وجل- فقال:
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٢٣ الى ٢٤]
وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (٢٤)
قال القرطبي: قال العلماء: عاتب الله- تعالى- نبيه ﷺ على قوله للكفار حين سألوه عن الروح والفتية وذي القرنين: غدا أخبركم بجواب أسئلتكم، ولم يستثن في ذلك.
فاحتبس الوحى عنه خمسة عشر يوما حتى شق ذلك عليه، وأرجف الكفار به، فنزلت عليه هذه السورة مفرّجة. وأمر في هذه الآية ألا يقول في أمر من الأمور إنى أفعل غدا كذا وكذا، إلا أن يعلق ذلك بمشيئة الله- عز وجل- حتى لا يكون محققا لحكم الخبر، فإنه إذا قال: لأفعلن ذلك ولم يفعل: كان كاذبا، وإذا قال، لأفعلن ذلك- إن شاء الله- خرج عن أن يكون محققا للمخبر عنه «١».
والمراد بالغد: ما يستقبل من الزمان، ويدخل فيه اليوم الذي يلي اليوم الذي أنت فيه دخولا أوليا. وعبر عما يستقبل من الزمان بالغد للتأكيد.
أى: ولا تقولن- أيها الرسول الكريم- لأجل شيء تعزم على فعله في المستقبل: إنى فاعل ذلك الشيء غدا، إلا وأنت مقرن قولك هذا بمشيئة الله- تعالى- وإذنه، بأن تقول:
(١) تفسير القرطبي ج ١٠ ص ٣٨٥.
498
سأفعل هذا الشيء غدا بإذن الله ومشيئته، فإن كل حركة من حركاتك- ومن حركات غيرك- مرهونة بمشيئة الله- تعالى- وإرادته، وما يتعلق بمستقبلك ومستقبل غيرك من شئون، هو في علم الله- تعالى- وحده.
وليس المقصود من الآية الكريمة نهى الإنسان عن التفكير في أمر مستقبله، وإنما المقصود نهيه عن الجزم بما سيقع في المستقبل، لأن ما سيقع علمه عند الله- تعالى- وحده.
والعاقل من الناس هو الذي يباشر الأسباب التي شرعها الله- تعالى- سواء أكانت هذه الأسباب تتعلق بالماضي أم بالحاضر أم بالمستقبل، ثم يقرن كل ذلك بمشيئة الله- تعالى- وإرادته. فلا يقول: سأفعل غدا كذا وكذا لأننى أعددت العدة لذلك، وإنما يقول: سأفعل غدا كذا وكذا إذا شاء الله- تعالى- ذلك وأراد، وأن يوقن بأن إرادة الله فوق إرادته، وتدبيره- سبحانه- فوق كل تدبير.
وكم من أمور أعد الإنسان لها أسبابها التي تؤدى إلى قضائها.. ثم جاءت إرادة الله- تعالى- فغيرت ما أعده ذلك الإنسان، لأنه لم يستشعر عند إعداده للأسباب أن. إرادة الله- تعالى- فوق إرادته، وأنه- سبحانه- القادر على خرق هذه الأسباب، وخرق ما تؤدى إليه، ولأنه لم يقل عند ما يريد فعله في المستقبل، إن شاء الله.
وقوله: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ تأكيد لما قبله أى: لا تقولن أفعل غدا إلا ملتبسا بقول: إن شاء الله، واذكر ربك- سبحانه- إذا نسيت تعليق القول بالمشيئة، أى: عند تذكرك بأنك لم تقرن قولك بمشيئة الله، فأت بها.
قال الآلوسى: قوله وَاذْكُرْ رَبَّكَ أى: مشيئة ربك، فالكلام على حذف مضاف، إذا نسيت، أى: إذا فرط منك نسيان ذلك ثم تذكرته. فهو أمر بالتدارك عند التذكر.. «١».
وقال بعض العلماء ما ملخصه: للمفسرين في تفسير قوله- تعالى-: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ قولان:
الأول- أن هذه الجملة مرتبطة ومتعلقة بما قبلها: والمعنى: إنك إن قلت سأفعل غدا كذا ونسيت أن تقول إن شاء الله، ثم تذكرت بعد ذلك فقل: إن شاء الله.
(١) تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ٢٤٩.
499
أى: اذكر ربك معلقا على مشيئته ما تقول إنك ستفعله غدا إذا تذكرت بعد النسيان.
وهذا القول هو الظاهر، لأنه يدل عليه ما قبله، وهو قوله- تعالى-: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وهو قول الجمهور.
الثاني: أن هذه الجملة لا تعلق لها بما قبلها، وأن المعنى: إذا وقع منك النسيان لشيء فاذكر ربك، لأن النسيان من الشيطان، كما قال- تعالى- عن فتى موسى: وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ.... «١».
وعلى هذا القول يكون المراد بالذكر: التسبيح والاستغفار، وعلى الأول المراد به أن تقول: إن شاء الله أو ما يشبه ذلك.
والمقصود من هذه الآية الكريمة بيان أن تعليق الأمور بمشيئة الله- تعالى- هو الذي يجب أن يفعل، لأنه- تعالى- لا يقع شيء إلا بمشيئته فإذا نسى المسلم ثم تذكر، فإنه يقول: إن شاء الله، ليخرج بذلك من عهدة عدم التعليق بالمشيئة، وبذلك يكون قد فوض أمره إلى الله- تعالى-.
وليس المقصود بها التحلل من يمين قد وقعت، لأن تداركها قد فات بالانفصال، ولأن الاستثناء المتأخر لا أثر له ولا تحل به اليمين.
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله: وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً أى: قدم- أيها الرسول الكريم- مشيئة ربك عند إرادة فعل شيء، وأت بها إذا نسيت ذلك عند التذكر، وقل عسى أن يوفقني ربي ويهديني ويدلني على شيء أقرب في الهداية والإرشاد من هذا الذي قصصته عليكم من أمر أصحاب الكهف.
قال صاحب الكشاف: وقوله: لِأَقْرَبَ مِنْ هذا.. اسم الإشارة يعود إلى نبأ أصحاب الكهف: ومعناه: لعل الله يؤتينى من البينات والحجج على أنى نبي صادق، ما هو أعظم في الدلالة وأقرب رشدا من نبأ أصحاب الكهف.
وقد فعل- سبحانه- ذلك، حيث آتاه من قصص الأنبياء، والإخبار بالغيوب، ما هو أعظم من ذلك وأدل، «٢».
(١) أضواء البيان ج ٤ ص ٧٧.
(٢) تفسير الكشف ج ٢ ص ٤٨٠.
500
ثم بين- سبحانه- على وجه اليقين، المدة التي قضاها أصحاب الكهف راقدين في كهفهم، فقال- تعالى-:
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٢٥ الى ٢٦]
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (٢٥) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (٢٦)
أى: أن أصحاب الكهف مكثوا في كهفهم راقدين ثلاثمائة سنين، وازدادوا فوق ذلك تسع سنين.
فالآية الكريمة إخبار منه- سبحانه- عن المدة التي لبثها هؤلاء الفتية مضروبا على آذانهم.
وقوله: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا تقرير وتأكيد لكون المدة التي لبثوها هي ما سبق بيانه في الآية السابقة.
فكأنه- سبحانه- يقول: هذا هو فصل الخطاب في المدة التي لبثوها راقدين في كهفهم، وقد أعلمك الله- تعالى- بذلك- أيها الرسول الكريم-، وما أعلمك به فهو الحق الصحيح الذي لا يحوم حوله شك، فلا تلتفت إلى غيره من أقوال الخائضين في أمر هؤلاء الفتية، فإن الله- تعالى- هو الأعلم بحقيقة ذلك.
ويرى بعضهم أن قوله- تعالى-: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ حكاية لكلام أهل الكتاب في المدة التي لبثها أهل الكهف نياما في كهفهم، وأن قوله قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا للرد عليهم.
وقد حكى الإمام ابن كثير القولين. ورجح الأول منهما فقال: هذا خبر من الله- تعالى- لرسوله ﷺ بمقدار ما لبث أصحاب الكهف في كهفهم، منذ أن أرقدهم الله إلى أن بعثهم
501
وأعثر عليهم أهل ذلك الزمان. كان مقداره ثلاثمائة سنين وتسع سنين بالهلالية وهي ثلاثمائة سنة بالشمسية، فإن تفاوت ما بين كل مائة سنة بالقمرية إلى الشمسية ثلاث سنين، فلهذا قال بعد الثلاثمائة وَازْدَادُوا تِسْعاً.
وقال قتادة في قوله: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ.. وهذا قول أهل الكتاب وقد رده الله- تعالى- بقوله: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا.
وفي هذا الذي قاله قتادة نظر، فإن الذي بأيدى أهل الكتاب أنهم لبثوا ثلاثمائة سنة من غير تسع ولو كان الله- تعالى- قد حكى قولهم لما قال: وَازْدَادُوا تِسْعاً، وظاهر الآية أنه خبر عن الله لا حكاية عنهم.. «١».
وقوله- تعالى-: لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ تأكيد لاختصاصه- عز وجل- بعلم المدة التي لبثوها، أى: له- سبحانه- وحده علم ما خفى وغاب من أحوال السموات والأرض، وأحوال أهلهما، كما قال- تعالى-: إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ.
وقوله- سبحانه-: أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ صيغتا تعجب: أى: ما أبصره وما أسمعه- تعالى- والمراد أنه- سبحانه- لا يغيب عن بصره وسمعه شيء.
وجاءت هذه الجملة الكريمة بصيغة التعجب للدلالة على أن أمره- تعالى- في الإدراك خارج عما عليه إدراك المبصرين والسامعين. إذ لا يحجبه شيء، ولا يتفاوت عنده لطيف وكثيف، وصغير وكبير، وجلى وخفى.
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله: ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً.
أى: ليس لأهل السموات ولا لأهل الأرض ولا لغيرهما غير الله- تعالى- نصير ينصرهم، أو ولى يلي أمرهم. ولا يشرك- سبحانه- في حكمه أو قضائه أحدا كائنا من كان من خلقه. كما قال- تعالى- أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ.
هذا، وقد ذكر المفسرون عند تفسيرهم لهذه الآيات مسائل منها.
(أ) مكان الكهف الذي لجأ إليه هؤلاء الفتية، والزمن الذي ظهروا فيه، أما مكان الكهف فللعلماء فيه أقوال: من أشهرها أنه كان بالقرب من مدينة تسمى «أفسوس» وهي
(١) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ١٤٦.
502
من مدن تركيا الآن، قالوا إنها تبعد عن مدينة «أزمير» بحوالى أربعين ميلا، وتعرف الآن باسم: «أيازبوك».
وقيل: إنه كان ببلدة تدعى «أبسس» - بفتح الهمزة وسكون الباء وضم السين- وهذه البلدة من ثغور «طرسوس» بين مدينة حلب بسوريا، وبلاد أرمينية وأنطاكية.
وقيل: إنه كان ببلدة تسمى «بتراء» بين خليج العقبة وفلسطين.. إلى غير ذلك من الأقوال الكثيرة، التي لا نرى داعيا لذكرها، لقلة فائدتها.
وأما الزمن الذي ظهروا فيه، فيرى كثير من المفسرين أنه كان في القرن الثالث الميلادى في عهد الإمبراطور الرومانى «دقيانوس» الذي كان يحمل الناس حملا على عبادة الأصنام، ويعذب من يخالف ذلك.
(ب) العبر والعظات والأحكام التي تؤخذ من هذه القصة- ومن أهمها:
١- إثبات صدق الرسول ﷺ فيما يبلغه عن ربه، حيث أخبر- عن طريق ما أوحاه الله إليه من قرآن- عن قصة هؤلاء الفتية، وبين وجه الحق في شأنهم ورد على ما خاضه الخائضون في أمرهم، وصدق الله إذ يقول: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ....
٢- الكشف عن جانب من بلاغة القرآن الكريم في قصصه، حيث ساق هذه القصة مجملة في الآيات الأربع الأولى منها، ثم ساقها مفصلة بعد ذلك تفصيلا حكيما. وفي ذلك ما فيه من تمكن أحداثها وهداياتها في القلوب.
والمرشد العاقل هو الذي ينتفع بهذا الأسلوب القرآنى في وعظه وإرشاده.
٣- بيان أن الإيمان متى استقر في القلوب، هان كل شيء في سبيله. فهؤلاء الفتية آثروا الفرار بدينهم، على البقاء في أوطانهم، لكي تسلم لهم عقيدتهم.. فهم كما قال- سبحانه- في شأنهم: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً.
٤- بيان أن على المؤمن أن يلجأ إلى الله بالدعاء- لا سيما عند الشدائد والكروب، وأنه متى اتقى الله- تعالى- وأطاعه، جعل له- سبحانه- من كل ضيق فرجا، ومن كل هم مخرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب، وصانه من السوء.
فهؤلاء الفتية عند ما لجئوا إلى الكهف، تضرعوا إلى الله بقولهم: رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً.
فأجاب الله دعاءهم، حيث ضرب على آذانهم في الكهف سنين عددا، وجعل الشمس
503
لا تصل إليهم مع أنهم في فجوة من الكهف، وصان أجسادهم من البلى والتعفن بأن قلبهم ذات اليمين وذات الشمال، وأنام كلبهم بعتبة باب الكهف حتى لكأنه حارس لهم: وألقى الهيبة عليهم بحيث لو رآهم الرائي لولى منهم فرارا. ولملئ قلبه رعبا من منظرهم.
وسخر أصحاب النفوذ والقوة للدفاع عنهم. وللتعبير عن تكريمهم لهم بقولهم: لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً.
٥- بيان أن التفكير السليم- المصحوب بالنية الطيبة والعزيمة الصادقة، يؤدى إلى الاهتداء إلى الحق، وأن القلوب النقية الطاهرة تتعاون على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان. وأن فضح الباطل والكشف عن زيفه.. دليل على سلامة اليقين.
فهؤلاء الفتية اجتمعوا على الحق، وربط الله على قلوبهم إذ قاموا للوقوف في وجه الباطل، وهداهم تفكيرهم السليم إلى أن المستحق للعبادة هو ربهم رب السموات والأرض، وأن من يعبد غيره يكون قد افترى على الله كذبا.
وأن اعتزال الكفر يوصل إلى نشر الرحمة، والظفر بالسداد والتوفيق. ولذا تواصوا فيما بينهم بقولهم: فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً.
٦- بيان أن مباشرة الأسباب المشروعة لا تنافى التوكل على الله.
فهؤلاء الفتية عند ما خرجوا من ديارهم، أخذوا معهم بعض النقود، وبعد بعثهم من رقادهم أرسلوا أحدهم إلى المدينة ليحضر لهم طعاما طاهرا حلالا، وأوصوه بالتلطف في أخذه وعطائه وبكتمان أمره وأمرهم حتى لا يعرف الأعداء مكانهم.
وهكذا العقلاء، لا يمنعهم توكلهم على الله- تعالى- من أخذ الحيطة والحذر في كل شئونهم التي تستدعى ذلك.
٧- إقامة أوضح الأدلة وأعظمها على أن البعث حق. فقد أطلع الله- تعالى- الناس على هؤلاء الفتية، ليوقنوا بأنه- سبحانه- قادر على إحياء الموتى.. لأن من يقدر على بعث الراقدين من رقادهم بعد مئات السنين، فهو قادر على إحياء الموتى يوم القيامة.
٨- بيان أن من الواجب على المؤمن إذا أراد فعل شيء أن يقرن ذلك بمشيئة الله- تعالى- لأنه- سبحانه- بيده الأمر كله، وصدق الله إذ يقول: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ.
هذه بعض العظات والأحكام التي ترشدنا إليها هذه القصة، وقد ذكرنا جانبا آخر منها
504
خلال تفسيرنا للآيات التي اشتملت عليها. ومن أراد المزيد فليرجع إلى ما كتبه المفسرون في ذلك «١».
ثم أمر الله- تعالى- نبيه ﷺ بمداومة التلاوة لما أوحاه إليه- سبحانه-، فإن فيه فصل الخطاب وبالحفاوة بالمؤمنين الصادقين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى، وبإعلان كلمة الحق فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر فقال- تعالى-:
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٢٧ الى ٣١]
وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٧) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (٢٨) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (٢٩) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (٣٠) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (٣١)
(١) راجع تفسير الفخر الرازي ج ٢١ ص ٨١، وتفسير القرطبي ج ١٠ ص ٣٥٦ وتفسير الآلوسى ج ١٥ ص ٢٠٩، وتفسير أضواء البيان ج ٤ ص ١٨.
505
قال الإمام الرازي ما ملخصه: قوله- تعالى-: وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ.. اعلم أن من هذه الآية إلى قصة موسى- عليه السلام- والخضر، كلام واحد في قصة واحدة وذلك أن أكابر كفار قريش احتجوا وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أردت أن نؤمن بك فاطرد هؤلاء الفقراء.. فنهاه الله عن طردهم لأنه مطلوب فاسد.. ثم إنه- سبحانه- أمره بالمواظبة على تلاوة كتابه، وأن لا يلتفت إلى اقتراح المقترحين، وتعنت المتعنتين «١».
قوله- سبحانه-: وَاتْلُ... فعل أمر من التلاوة بمعنى القراءة.
أى: وعليك أيها الرسول الكريم- أن تواظب وتداوم على قراءة ما أوحيناه إليك من هذا القرآن الكريم، وأن تتبع إرشاداته وتوجيهاته، فإن في ذلك ما يهديك إلى الطريق الحق، وما يغنيك عن السؤال والاستفتاء، قال- تعالى-: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ، وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً، يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ «٢».
وصيغة الأمر في قوله- سبحانه-: وَاتْلُ.. لإبقاء الفعل لا لإيجاده، كما في قوله- تعالى-: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ.
و «من» في قوله مِنْ كِتابِ رَبِّكَ بيانية.
وقوله: لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ أى: ليس في هذا الكون أحد في إمكانه أن يغير أو يبدل شيئا من الكلمات التي أوحاها الله- تعالى- إليك- أيها الرسول الكريم-، لأننا قد تكفلنا بحفظ هذا الكتاب الذي أوحيناه إليك.
قال- تعالى-: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ «٣».
(١) تفسير الفخر الرازي ج ٢١ ص ١١٤.
(٢) سورة فاطر الآية ٢٩.
(٣) سورة الأنعام الآية ١١٥.
506
وقال- سبحانه- إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ «١».
فالجملة الكريمة وهي قوله- سبحانه- لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ نفت قدرة أحد على تبديل كلمات الله، لأن أخبارها صدق، وأحكامها عدل، وإنما الذي يقدر على التغيير والتبديل هو الله- تعالى- وحده.
والضمير في «كلماته» يعود على الله- تعالى-، أو على الكتاب.
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله: وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً.
وأصل الملتحد: مكان الالتحاد وهو افتعال من اللحد بمعنى الميل. ومنه اللحد في القبر، لأنه ميل في الحفر. ومنه قوله- تعالى-: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا.. أى: يميلون في آياتنا.
فالمراد بالملتحد: المكان الذي يميل فيه إلى ملجأ للنجاة.
والمعنى: وداوم أيها الرسول الكريم على تلاوة ما أوحيناه إليك من كتابنا الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، واعلم أنك إن خالفت ذلك لن تجد غير الله- تعالى- ملجأ تلجأ إليه، أو مأوى تأوى إليه، لكي تنجو مما يريده بك.
فالجملة الكريمة تذييل قصد به التحذير الشديد- في شخص الرسول ﷺ لكل من يقصر في تلاوة كتاب الله، أو يحاول التبديل في ألفاظه ومعانيه.
ثم ساقت السورة الكريمة لونا من الأدب السامي، والتوجيه العالي، حيث بينت أن أولى الناس بالرعاية والمجالسة هم المؤمنون الصادقون، وأمرت النبي ﷺ بأن يصبر نفسه معهم، فقال- تعالى-: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ، وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا...
وقد ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآية روايات منها: أنها نزلت في أشراف قريش، حين طلبوا من النبي ﷺ أن يجلس معهم وحده، ولا يجالسهم مع ضعفاء أصحابه كبلال وعمار وابن مسعود. وليفرد أولئك بمجلس على حدة، فنهاه الله- تعالى- عن ذلك.. وأمره أن يصبر نفسه في الجلوس مع هؤلاء الفقراء فقال: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ. «٢».
(١) سورة الحجر الآية ٩.
(٢) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ١٤٨.
507
وصبر النفس معناه: حبسها وتثبيتها على الشيء، يقال: صبرت فلانا أصبره صبرا، أى: حبسته.
والغداة: أول النهار. والعشى. آخره.
والمعنى: عليك- أيها الرسول الكريم- أن تحبس نفسك وتعودها على مجالسة أصحابك الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ أى: يعبدونه ويتقربون إليه بشتى أنواع القربات، في الصباح والمساء، ويداومون على ذلك، دون أن يريدوا شيئا من وراء هذه العبادة، سوى رضا الله- تعالى- عنهم ورحمته بهم.
وفي تخصيص الغداة والعشى بالذكر: إشعار بفضل العبادة فيهما: لأنهما محل الغفلة والاشتغال بالأمور الدنيوية غالبا.
ويصح أن يكون ذكر هذين الوقتين المقصود به مداومة العبادة. وإلى هذا المعنى أشار الآلوسى بقوله: قوله: يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ أى: يعبدونه دائما. وشاع استعمال مثل هذه العبارة للدوام. وهي نظير قولهم: ضرب زيد الظهر والبطن. يريدون به ضرب جميع البدن. وأبقى غير واحد اللفظين على ظاهرهما أى: يعبدونه في طرفي النهار «١».
وقوله: يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مدح لهم بالإخلاص والبعد عن الرياء والمباهاة.. فهم لا يتقربون إلى الله- تعالى- بالطاعات من أجل دنيا يصيبونها. أو من أجل إرضاء الناس.
وإنما هم يبتغون بعبادتهم رضا الله- تعالى- وحده، لا شيئا آخر من حظوظ الدنيا.
وقوله- سبحانه- وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا.. نهى له صلى الله عليه وسلم- عن الغفلة عنهم، بعد أمره بحبس نفسه عليهم.
والفعل تَعْدُ بمعنى تصرف. يقال عداه عن الأمر عدوا إذا صرفه عنه وشغله.
أى: احبس نفسك مع هؤلاء المؤمنين الصادقين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه- سبحانه- ولا تصرف عيناك النظر عنهم، وتتجاوزهم إلى غيرهم من الأغنياء، طمعا في إسلامهم.
فالمراد بإرادة الحياة الدنيا الحرص على مجالسة أهل الغنى والجاه حبا في إيمانهم.
وجملة تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا في موضع الحال من الضمير المضاف إليه في قوله
(١) تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ٢٦٢. [.....]
508
عَيْناكَ، وإنما ساغ ذلك لأن المضاف هنا جزء من المضاف إليه.
وقوله- تعالى- وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً نهى آخر مؤكد لما قبله من حبس نفسه ﷺ على هؤلاء المؤمنين الفقراء، وعدم صرف نظره عنهم إلى غيرهم من المتغطرسين الأغنياء.
والفرط- بضم الفاء والراء-: مجاوزة الحد، ونبذ الحق والصواب، واتباع الباطل والضلال. أى: ولا تطع- أيها الرسول الكريم- في تنحية المؤمنين الفقراء عن مجلسك أقوال أولئك الغافلين عن طاعتنا وعبادتنا لاستحواذ الشيطان عليها، والذين اتبعوا أهواءهم فآثروا الغي على الرشد. والذين كان أمرهم. فرطا أى: مخالفا للحق، ومجاوزا للصواب، ومؤديا للضياع والخسران.
قال ابن جرير- بعد أن ذكر جملة من الأقوال في معنى قوله- تعالى-: فُرُطاً:
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال معناه: ضياعا وهلاكا. من قولهم: أفرط فلان في هذا الأمر إفراطا، إذا أسرف فيه. وتجاوز قدره. وكذلك قوله: وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً.
معناه: وكان أمر هذا الذي أغفلنا قلبه عن ذكرنا في الرياء والكبر واحتقار أهل الإيمان سرفا قد تجاوز حده، فضيع بذلك الحق وهلك» «١».
فالآية الكريمة تسوق للناس توجيها حكيما في بيان القيم الحقيقية للناس وهي أنها تتمثل في الإيمان والتقوى، لا في الغنى والجاه.
فالمؤمن الصادق في إيمانه، الكريم في أخلاقه.. هو الذي يحرص على مخالطة أهل الإيمان والتقوى. ولا يمنعه فقرهم من مجالستهم ومصاحبتهم ومؤانستهم والتواضع لهم، والتقدم إليهم بما يسرهم ويشرح صدورهم.
ولقد ربي النبي ﷺ أصحابه على هذا الخلق الكريم، روى الشيخان عن سهل بن سعد الساعدي قال: مر رجل على النبي ﷺ فقال لرجل عنده جالس: «ما رأيك في هذا؟ فقال: رجل من أشرف الناس، هذا والله حرىّ إن خطب أن يزوج، وإن شفع أن يشفع. فسكت رسول الله ﷺ ثم مرّ رجل آخر: فقال له صلى الله عليه وسلم: «ما رأيك في
(١) تفسير ابن جرير ج ١٥ ص ١٥٦.
509
هذا» ؟ فقال: يا رسول الله، هذا رجل من فقراء المسلمين هذا والله حرى إن خطب أن لا يزوج، وإن شفع ألا يشفع، وإن قال أن لا يسمع لقوله. فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا خير من ملء الأرض من مثل هذا» «١».
ثم أمر الله- تعالى- رسوله ﷺ أن يجهر بكلمة الحق في وجوه المستكبرين، فقال. وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ...
أى: وقل: أيها الرسول- لهؤلاء الذين أغفلنا قلوبهم عن ذكرنا، واتبعوا أهواءهم، وكان أمرهم فرطا، قل لهم: هذا الذي جئتكم به من قرآن هو الحق من ربكم وخالقكم..
فقوله: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ خبر لمبتدأ محذوف.
أو أن لفظ الْحَقُّ مبتدأ، والجار والمجرور خبره. أى: الحق الذي جئتكم به في هذا القرآن العظيم، كائن مبدؤه من ربكم، وليس من أحد سواه.
وليس المراد من قوله فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ التخيير بين الإيمان والكفر، بل المراد به التهديد والتخويف، بدليل قوله- تعالى- بعد ذلك إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً.. إلخ.
أى: قل لهم جئتكم من ربكم بالحق الذي يجب اتباعه، فمن شاء أن يؤمن به فليفعل فإن عاقبته الخير والثواب، ومن شاء أن يكفر به فليكفر فإن عاقبته الخسران والعقاب، كما بين- سبحانه- ذلك في قوله: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها.
والسرادق: كل ما أحاط بغيره، كالحائط أو السور الذي يحيط بالبناء، فيمنع من الوصول إلى ما بداخله.
أى: إنا هيأنا وأعددنا للكافرين بهذا الحق نارا مهولة عظيمة، أحاط بهم سياجها إحاطة تامة بحيث لا يستطيعون الخروج منه، وإنما هم محصورون بداخله. كما ينحصر الشيء بداخل ما يحدق به من كل جانب.
وقوله: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ، بِئْسَ الشَّرابُ، وَساءَتْ مُرْتَفَقاً بيان لما ينزل بهم من عذاب عند ما يطلبون الغوث مما هم فيه من كروب.
والمهل في اللغة: يطلق على ما أذيب من جواهر الأرض. كالحديد، والرصاص،
(١) رياض الصالحين للإمام النووي ص ١٣١ باب فضل ضعفة المسلمين.
510
والنحاس، ونحو ذلك كما يطلق- أيضا- على الماء الغليظ كدردي الزيت أى: ما تعكر منه. وقيل. هو نوع من القطران أو السم.
والمرتفق: المتكأ، من الارتفاق وهو الاتكاء على مرفق اليد.
أى: إن هؤلاء الكافرين، إن يطلبوا الغوث عما هم فيه من كرب وعطش، يغاثوا بماء كالمهل في شدة حرارته ونتنه وسواده، هذا الماء يَشْوِي الْوُجُوهَ أى: يحرقها.
بِئْسَ الشَّرابُ ذلك الماء الذي يغاثون به «وساءت» النار منزلا ينزلون به، ومتكأ يتكئون عليه.
فالآية الكريمة تصور ما ينزل بهؤلاء الظالمين من عذاب، تصويرا ترتجف من هوله الأبدان، ويدخل الرعب والفزع على النفوس.
قال بعضهم: فإن قيل، أى إغاثة لهم في ماء كالمهل مع أنه من أشد العذاب، وكيف قال- سبحانه-، يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ؟
فالجواب: إن هذا من أساليب اللغة العربية التي نزل بها القرآن ونظيره من كلام العرب قول عمرو بن معد يكرب.
وخيل قد دلفت لها بخيل تحية بينهم ضرب وجيع
أى: لا تحية لهم إلا الضرب الوجيع، وإذا كان هؤلاء الظالمون لا يغاثون إلا بماء كالمهل، علم من ذلك أنهم لا إغاثة لهم مطلقا» «١».
والمخصوص بالذم في قوله: بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً محذوف، بئس الشراب ذلك الماء الذي يغاثون به، وساءت النار مكانا للارتفاق والاتكاء.
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك حسن عاقبة المؤمنين فقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا.
ثم بين- سبحانه- ما أعده لهؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات من ألوان النعيم فقال:
أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ.
ولفظ «عدن» بمعنى إقامة لا رحيل بعدها ولا تحول. وأصله من عدن فلان بالمكان. إذ أقام به واستقر فيه.
(١) تفسير أضواء البيان ج ٤ ص ٩٦.
511
أى: أولئك الذين عمروا دنياهم بالإيمان والعمل الصالح لهم جنات يقيمون فيها إقامة دائمة، تجرى من تحت مساكنهم الأنهار.
يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ والأساور: جمع سوار. وهو نوع من الحلي يلبس بزند اليد.
أى: يلبسون في تلك الجنات أساور من ذهب على سبيل التزين والتكريم.
ولا مانع من أن يضاف إلى هذه الأساور الذهبية، أساور أخرى من فضة، وثالثة من لؤلؤ كما في قوله- تعالى-: وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ «١».
وقوله- سبحانه-: يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً.. «٢».
وفي الصحيحين عن أبى هريرة أن رسول ﷺ قال: «تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء».
وقوله وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ معطوف على ما قبله.
والسندس: ما رق من الحرير واحده سندسة.
والإستبرق: ما غلظ منه وثخن، واحده إستبرقة.
أى: يتزينون في الجنات بأساور من ذهب، ويلبسون فيها ثيابا خضرا من رقيق الحرير ومن غليظه.
ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله: مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً.
والأرائك: جمع أريكة. وهو كل ما يتكأ عليه من سرير أو فراش.
أى: متكئين في الجنات على الأرائك شأن المتنعمين المترفهين «نعم الثواب» ذلك الذي وعدهم الله- تعالى- به وهو الجنة «وحسنت» تلك الأرائك في الجنات «مرتفقا».
أى: متكأ ومقرا ومجلسا ومسكنا.
وبذلك نرى الآية الكريمة قد اشتملت على ألوان متعددة من التكريم والثواب لأولئك المؤمنين الذين عمروا دنياهم بالعمل الصالح.
(١) سورة الدهر الآية ٢١.
(٢) سورة الحج الآية ٢٣.
512
فقد بشرهم- سبحانه- بجنات عدن، ثم بشرهم ثانيا بأن الأنهار تجرى من تحتهم، ثم بشرهم ثالثا بأنهم يحلون فيها من أساور من ذهب، ثم بشرهم رابعا بأنهم يلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق، ثم بشرهم خامسا، بأنهم يتكئون في تلك الجنات على الأرائك.
وفي هذه البشارات ما فيها من الحض على المسارعة إلى العمل الصالح، الذي يرفع درجات المؤمن إلى أعلى عليين، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، نسأل الله- تعالى- أن يرزقنا هذا الفضل، فهو أكرم مسئول، وأعظم مأمول.
ثم ساقت السورة الكريمة مثلا للنفس الإنسانية المغرورة المتفاخرة بزينة الحياة الدنيا، الجاحدة لنعم الله... وللنفس الإنسانية المتواضعة، المعتزة بعقيدتها السليمة، الشاكرة لربها... لكي يكون في هذا المثل عبرة وعظة لمن كان له قلب، فقال- تعالى-:
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٣٢ الى ٣٦]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (٣٢) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (٣٣) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (٣٤) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (٣٥) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (٣٦)
والمثل في اللغة: الشبيه والنظير، وهو في عرف القرآن الكريم: الكلام البليغ المشتمل على تشبيه بديع.
وضرب المثل: إيراده، وعبر عن إيراده بالضرب، لشدة ما يحدث عنه من التأثير في نفس السامع.
513
أى: واضرب- أيها الرسول الكريم- مثلا للمؤمنين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه، وللكافرين الذين غرتهم الحياة الدنيا، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة.
قال الآلوسى: والمراد بالرجلين: إما رجلان مقدران على ما قيل، وضرب المثل لا يقتضى وجودهما. وإما رجلان موجودان وهو المعول عليه. فقيل هما رجلان من بنى إسرائيل أحدهما: كافر.. والآخر: مؤمن.
ثم قال: والمراد ضربهما مثلا للفريقين المؤمنين والكافرين، لا من حيث أحوالهما المستفادة مما ذكر آنفا، بل من أن للمؤمنين في الآخرة كذا، وللكافرين فيها كذا، من حيث عصيان الكفرة مع تقلبهم في نعم الله، وطاعة المؤمنين مع مكابدتهم مشاق الفقر» «١».
أى: واضرب لهم مثلا من حيثية العصيان مع النعمة، والطاعة مع الفقر، حال رجلين:
جَعَلْنا لِأَحَدِهِما وهو الكافر جَنَّتَيْنِ أى: بستانين، ولم يعين- سبحانه- مكانهما، لأنه لم يتعلق بهذا التعيين غرض.
ثم بين ما اشتملت عليه هاتان الجنتان من خيرات فقال: مِنْ أَعْنابٍ جمع عنب، والعنبة الحبة منه. والمراد: من كروم متنوعة.
وقوله: وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً بيان لما أضيف إلى الجنتين من مناظر تزيدهما بهجة وفائدة.
والحف بالشيء: الإحاطة به. يقال: فلان حفه القوم، أى: أحاطوا به، ومنه قوله- تعالى-: وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ....
أى: جعلنا لأحد الرجلين، وهو الكافر منهما جنتين من أعناب، وأحطناهما بنخل ليكون كالحماية النافعة لهما، وجعلنا في وسطهما زرعا وبذلك تكون الجنتان جامعتين للأقوات والفواكه، مشتملتين على ما من شأنه أن يشرح الصدر، ويفيد الناس.
ثم ذكر- سبحانه- ما يزيد من جودة الجنتين، ومن غزارة خيرهما فقال: كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً، وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً وكلتا: اسم مفرد اللفظ مثنى المعنى عند البصريين، وهو المذهب المشهور، ومثنى لفظا ومعنى عند غيرهم.
أى: أن كل واحدة من الجنتين آتَتْ أُكُلَها أى: أعطت ثمارهما التي يأكلها الناس
(١) تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ٢٧٣.
514
من العنب والتمر وغيرهما من صنوف الزرع وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً أى ولم تنقص من هذا المأكول شيئا في سائر السنين، بل كان أكل كل واحدة منهما وافيا كثيرا في كل سنة، على خلاف ما جرت به عادة البساتين، فإنها في الغالب تكثر ثمارها في أحد الأعوام وتقل في عام آخر.
وفي التعبير بكلمة تَظْلِمْ بمعنى تنقص وتمنع، مقابلة بديعة لحال صاحبهما الذي ظلم نفسه بجحوده لنعم الله- تعالى- واستكباره في الأرض.
وقوله وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً أى: وشققنا في وسطهما نهرا ليمدهما بما يحتاجان إليه من ماء بدون عناء وتعب.
فأنت ترى أن الله- تعالى- قد وصف هاتين الجنتين بما يدل على جمال منظرهما، وغزارة عطائهما، وكثرة خيراتهما، واشتمالهما على ما يزيدهما بهجة ومنفعة.
ثم بين- سبحانه- أن صاحب هاتين الجنتين كانت له أموال أخرى غيرهما فقال:
وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ.
قال الآلوسى ما ملخصه: وَكانَ لَهُ أى: للأحد المذكور وهو صاحب الجنتين «ثمر» أى أنواع أخرى من المال.. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي.. «ثمر» بضم الثاء والميم، وهو جمع ثمار- بكسر الثاء-.. أى: أموال كثيرة من الذهب والفضة والحيوان وغير ذلك، وبذلك فسره ابن عباس وقتادة وغيرهما..» «١».
وقوله- سبحانه-: فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَأَعَزُّ نَفَراً حكاية لما تفوه به هذا الكافر من ألفاظ تدل على غروره وبطره.
والمحاورة: المراجعة للكلام من جانبين أو أكثر. يقال: تحاور القوم، إذا تراجعوا الكلام فيما بينهم. ويقال: كلمته فما أحار إلى جوابا، أى: مارد جوابا.
والنفر: من ينفر- بضم الفاء- مع الرجل من قومه وعشيرته لقتال عدوه.
أى: فقال صاحب الجنتين لصاحبه المؤمن الشاكر: أنا أكثر منك مالا وأعز منك عشيرة وحشما وأعوانا.
وهذا شأن المطموسين المغرورين، تزيدهم شهوات الدنيا وزينتها.. بطرا وفسادا في الأرض.
(١) تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ٢٧٤.
515
وما أصدق قول قتادة- رضى الله عنه-: «تلك- والله- أمنية الفاجر: كثرة المال وعزة النفر»، ثم انتقل صاحب الجنتين من غروره هذا إلى غرور أشد. حكاه القرآن في قوله: وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ: ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً. وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً، وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً.
أى: أن هذا الكافر لم يكتف بتطاوله على صاحبه المؤمن، بل سار به نحو جنته حتى دخلها وهو ظالم لنفسه بسبب كفره وجحوده وغروره.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: فلم أفرد الجنة بعد التثنية؟ قلت: معناه ودخل ما هو جنته، ماله جنة غيرها: يعنى أنه لا نصيب له في الجنة التي وعدها الله للمؤمنين، فما ملكه في الدنيا هو جنته لا غير، ولم يقصد الجنتين ولا واحدة منهما.
وقوله وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ أى: وهو معجب بما أوتى مفتخر به، كافر لنعمة ربه، معرض بذلك نفسه لسخط الله، وهو أفحش الظلم.. «١».
وقوله: قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً أى: قال هذا الكافر لصاحبه: ما أظن أن هذه الجنة تفنى أو تهلك أبدا.
يقال: باد الشيء يبيد بيدا وبيودا: إذا هلك وفنى.
ثم ختم هذا الكافر محاورته لصاحبه بقوله: وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً أى: كائنة ومتحققة. فهو قد أنكر البعث وما يترتب عليه من حساب بعد إنكاره لفناء جنته، ثم أكد كلامه بجملة قسمية فقال: وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي أى: والله لئن رددت إلى ربي على سبيل الفرض والتقدير كما أخبرتنى يا صاحبي بأن هناك بعثا وحسابا لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها أى:
من هذه الجنة مُنْقَلَباً أى: مرجعا وعاقبة. اسم مكان من الانقلاب بمعنى الرجوع والانصراف عن الشيء إلى غيره.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً.
وقوله- سبحانه-: وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ.
والمتدبر لحال صاحب الجنتين يراه، - أولا- قد زعم أن مدار التفاضل هو الثروة والعشيرة، ويراه- ثانيا- قد بنى حياته على الغرور والبطر، واعتقاد الخلود لزينة الحياة
(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٤٨٤.
516
الدنيا، ويراه- ثالثا- قد أنكر البعث والحساب، والثواب والعقاب.
ويراه- رابعا- قد توهم أن غناه في الدنيا سيكون معه مثله في الآخرة:
قال صاحب الكشاف: وأخبر عن نفسه بالشك في بيدودة جنته، لطول أمله، واستيلاء الحرص عليه، وتمادى غفلته، واغتراره بالمهلة، واطراحه النظر في عواقب أمثاله، وترى أكثر الأغنياء من المسلمين، وإن لم يطلقوا بمثل هذا ألسنتهم، فإن ألسنة أحوالهم ناطقة به، منادية عليه.
وأقسم على أنه إن رد إلى ربه- على سبيل الفرض والتقدير- ليجدن في الآخرة خيرا من جنته في الدنيا، تطمعا وتمنيا على الله..» «١».
ثم حكى- سبحانه- بعد ذلك ما قاله الرجل المؤمن لصاحب الجنتين، الذي نطق بأفحش، وأفجر الفجور، فقال- تعالى-:
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٣٧ الى ٤١]
قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (٣٧) لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (٣٨) وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (٣٩) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (٤٠) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (٤١)
أى: قال الرجل الفقير المؤمن، في رده على صاحبه الجاحد المغرور، منكرا عليه كفره قال له على سبيل المحاورة والمجاوبة: يا هذا أَكَفَرْتَ بالله الذي «خلقك» بقدرته
(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٤٨٤.
517
«من تراب». أى: خلق أباك الأول من تراب، كما قال: سبحانه إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ، خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «١».
ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ أى: خلق أباك آدم من تراب، ثم أوجدك أنت من نطفة عن طريق التناسل والمباشرة بين الذكر والأنثى.
ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا أى: ثم صيرك إنسانا كاملا، ذا صورة جميلة، وهيئة حسنة. كما قال- سبحانه-: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ.
والاستفهام في قوله: أَكَفَرْتَ.. للإنكار والاستبعاد، لأن خلق الله- تعالى- له من تراب ثم نطفة، ثم تسويته إياه رجلا، يقتضى منه الإيمان بهذا الخالق العظيم، وإخلاص العبادة له، وشكره على نعمائه.
قالوا: ولا يستلزم قول صاحب الجنتين قبل ذلك: وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً. أنه كان مؤمنا، لأنه قال ذلك على سبيل الفرض والتقدير، لا على سبيل الاعتقاد واليقين، بدليل تردده في إمكان قيام الساعة، ولأن اعترافه بوجود الله- تعالى- لا يستلزم الإيمان الحق، فالكفار كانوا يعترفون بأن الله- تعالى- هو الخالق للسموات والأرض، ومع هذا يشركون معه في العبادة آلهة أخرى.
وجاء التعبير بحرف «ثم» في الآية، للاشارة إلى أطوار خلق الإنسان التي فصلها- سبحانه- في آيات أخرى، منها قوله- تعالى-: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً، فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً، فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً، فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً، ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ، فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ «٢».
ثم يعلن الرجل الصالح موقفه بشجاعة ووضوح، فيقول لصاحبه صاحب الجنتين:
لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي، وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً.
أى: إن كنت أنت يا هذا قد كفرت بالله الذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا، فإنى لست بكافر، ولكني أنا مؤمن، أعترف له بالعبادة والطاعة وأقول: هو الله-
(١) سورة آل عمران الآية ٥٨.
(٢) سورة المؤمنون الآيات من ١٣- ١٤.
518
تعالى- وحده ربي، ولا أشرك معه أحدا من خلقه لا في الربوبية، ولا في الألوهية، ولا في الذات ولا في الصفات.
وقوله- سبحانه- في هذه الآية لكِنَّا... أصله: «لكن أنا» أى: لكن أنا أقول هو الله ربي. فحذفت همزة «أنا» وأدغمت نون «لكن» في نون أنا بعد حذف الهمزة.
وجمهور القراء يقرءون في الوصل «لكن» بدون ألف بعد النون المشددة وقرأ أبو عامر في الوصل «لكنا» بالألف- أما في حالة الوقف فقد اتفق الجميع على إثبات الألف.
قال صاحب الكشاف: قوله: لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي أصله: لكن أنا فحذفت الهمزة، وألقيت حركتها على نون لكن، فتلاقت النونان فكان الإدغام، ونحوه قول القائل:
وترميننى بالطّرف أى أنت مذنب وتقليننى، لكنّ إياك لا أقلى
أى: لكن أنا لا أقليك.
و «هو» ضمير الشأن: أى: والشأن أن الله ربي: والجملة خبر أنا. والراجع منها إليه ياء الضمير.
فإن قلت: هو استدراك لأى شيء؟ قلت: لقوله «أكفرت..» قال لأخيه أنت كافر بالله، لكني مؤمن موحد، كما تقول: زيد غائب لكن عمرا حاضر» «١».
ثم أرشده إلى ما كان يجب عليه أن يقوله عند دخوله جنته فقال: وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ....
قال الإمام ابن كثير: هذا تحضيض وحث على ذلك. أى: هلا إذ أعجبتك جنتك حين دخلتها ونظرت إليها، حمدت الله على ما أنعم به عليك وأعطاك من المال والولد ما لم يعط غيرك وقلت ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، ولهذا قال بعض السلف: من أعجبه شيء من حاله أو ولده أو ماله، فليقل: ما شاء الله لا قوة إلا بالله.. وهذا مأخوذ من هذه الآية الكريمة. وقد روى فيه حديث مرفوع.. فعن أنس- رضى الله عنه- قال: قال رسول الله ﷺ ما أنعم الله على عبد نعمة من أهل أو مال أو ولد فيقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، فيرى فيه آفة دون الموت» «٢».
(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٤٨٥.
(٢) تفسير ابن كثير ج ١٥ ص ١٥٤.
519
وقال الآلوسى: وقوله: «ما شاء الله، أى: الأمر ما شاء الله، أو ما شاء الله- تعالى- كائن، على أن «ما» موصولة مرفوعة المحل. إما على أنها خبر مبتدأ محذوف. أو على أنها مبتدأ محذوف الخبر.. وأيما كان فالمراد تحضيضه على الاعتراف بأن جنته وما فيها بمشيئة الله- تعالى- إن شاء أبقاها وإن شاء أبادها «١».
وبعد أن حضه على الشكر لله- تعالى- رد على افتخاره وغروره بقوله- كما حكى القرآن عنه-: إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَوَلَداً. فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ.
أى: إن ترن- أيها المغرور- أنا أقل منك في المال والولد فإنى أرجو الله الذي لا يعجزه شيء، أن يرزقني ما هو خير من جنتك في الدنيا والآخرة.
وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ أى: عذابا من جهة السماء كالصواعق والسموم وغيرها مما يشاء الله- تعالى- إرساله عليها من المهلكات التي تذرها قاعا صفصفا.
قال صاحب الكشاف: والحسبان مصدر كالغفران والبطلان بمعنى الحساب. أى: ويرسل عليها مقدارا قدره الله وحسبه، وهو الحكم بتخريبها.
«فتصبح» بعد اخضرارها ونضارتها «صعيدا» أى: أرضا «زلقا» أى: جرداء ملساء لا نبات فيها، ولا يثبت عليها قدم.
والمراد أنها تصير عديمة النفع من كل شيء حتى من المشي عليها. يقال: مكان زلق، أى: دحض، وهو في الأصل مصدر زلقت رجله تزلق زلفا، ومعناه: الزلل في المشي لوحل ونحوه.
أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً أى: غائرا ذاهبا في الأرض. فالغور مصدر وصف به على سبيل المبالغة وهو بمعنى الفاعل. يقال: غار الماء يغور غورا: أى: سفل في الأرض وذهب فيها.
ومنه قوله- تعالى-: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً، فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ.
فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً أى: فلن تستطيع أن تحصل عليه أو تطلبه بأية حيلة من الحيل، لأنه لا يقدر على الإتيان بهذا الماء الغائر إلا الله- عز وجل-.
وإلى هنا نجد أن الرجل المؤمن قد رد على صاحبه الكافر، بما يذكره بمنشئه، وبما يوجهه إلى الأدب الذي يجب أن يتحلى به مع خالقه ورازقه، وبما يحذره من سوء عاقبة بطره.
(١) تفسير الآلوسى ج ٥ ص ٢٧٩. [.....]
520
وهكذا الإيمان الحق، يجعل المؤمن يعتز بعقيدته، ويتجه إلى الله وحده الذي تعنو له الجباه، ويرجو منه وحده ما هو خير من بساتين الدنيا وزينتها.
ثم يختتم- سبحانه- هذه القصة ببيان العاقبة السيئة التي حلت بذلك الرجل الجاحد المغرور صاحب الجنتين فيقول.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٤٢ الى ٤٤]
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (٤٢) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (٤٣) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (٤٤)
أى: وكانت نتيجة جحود صاحب الجنتين لنعم ربه، أن أهلكت أمواله وأبيدت كلها.
فصار يقلب كفيه ظهرا لبطن أسفا وندما، على ما أنفق في عمارتها وتزيينها من أموال كثيرة ضاعت هباء، ومن جهد كبير ذهب سدى.
وقوله- سبحانه-: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ معطوف على مقدر محذوف لدلالة السباق والسياق عليه.
وأصل الإحاطة مأخوذة من إحاطة العدو بعدوه من جميع جوانبه لإهلاكه واستئصاله.
والمعنى: فحدث ما توقعه الرجل الصالح من إرسال الحسبان على بستان صاحبه الجاحد المغرور «وأحيط بثمره» بأن هلكت أمواله وثماره كلها.
وجاء الفعل «أحيط» مبنيا للمجهول، للإشعار بأن فاعله متيقن وهو العذاب الذي أرسله الله- تعالى- أى: وأحاط العذاب بجنته.
وقوله: فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها تصوير بديع لما اعتراه من غم وهم وحسرة وندامة. وتقليب اليدين عبارة عن ضرب إحداهما على الأخرى، أو أن يبدي ظهرهما ثم بطنهما ويفعل ذلك مرارا، وأيّا ما كان ففعله هذا كناية عن الحسرة الشديدة، والندم العظيم.
521
«وهي» أى الجنة التي أنفق فيها ما أنفق خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها أى: ساقطة ومتهدمة على دعائمها وعلى سقوفها.
وأصل الخواء السقوط والتهدم. يقال: خوى البيت إذا سقط. كما يطلق على الخلاء من الشيء. يقال: خوى بطن فلان من الطعام أى: خلا منه، وخوت الدار إذا خلت من سكانها.
والعروش جمع عرش، وهو سقف البيت.
والمقصود أن الجنة بجميع ما اشتملت عليه، صارت حطاما وهشيما تذروه الرياح.
وجملة: «ويقول يا ليتني لم أشرك يربى أحدا» معطوفة على جملة «يقلب كفيه..».
أى: صار يقلب كفيه حسرة وندامة لهلاك جنته، ويقول زيادة في الحسرة والندامة:
يا ليتني اتبعت نصيحة صاحبي فلم أشرك مع ربي- سبحانه- أحدا في العبادة أو الطاعة.
وهكذا حال أكثر الناس، يذكرون الله- تعالى- عند الشدائد والمحن، وينسونه عند السراء والعافية.
والمتدبر لهذه الآية الكريمة يراها قد صورت فجيعة الرجل الجاحد في جنته تصويرا واقعيا بديعا.
فقد جرت عادة الإنسان أنه إذا نزل به ما يدهشه ويؤلمه. أن يعجز عن النطق في أول وهلة. فإذا ما أفاق من دهشته بدأ في النطق والكلام.
وهذا ما حدث من ذلك الرجل- كما صوره القرآن الكريم- فإنه عند ما رأى جنته وقد تحطمت أخذ يقلب كفيه حسرة وندامة دون أن ينطق، ثم بعد أن أفاق من صدمته جعل يقول:
يا ليتني لم أشرك بربي أحدا.
فيا له من تصوير بديع. يدل على أن هذا القرآن من عند الله- تعالى-.
ثم ختم- سبحانه- هذه القصة ببيان عظيم قدرته ونفاذ إرادته فقال.
وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً. هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ، هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً.
أى: ولم تكن لهذا الجاحد المغرور بعد أن خوت جنته على عروشها، عشيرة أو أعوان ينصرونه، أو يدفعون عنه ما حل به، وإنما القادر على ذلك هو الله- تعالى- وحده،
522
وما كان هذا الرجل الذي جحد نعم ربه منتصرا لأنه- سبحانه- قد حجب عنه كل وسيلة تؤدى إلى نصره وعونه، بسبب إيثاره الغي على الرشد، والكفر على الإيمان.
فالآية الكريمة تبين بجلاء ووضوح، عجز كل قوة عن نصرة ذلك الرجل المخذول سوى قوة الله- عز وجل-، وعجز ذلك الرجل في نفسه عن رد انتقام الله- تعالى- منه.
وقوله- سبحانه-: هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ.. تقرير وتأكيد للآية السابقة. ولفظ هنالك ظرف مكان.
وكلمة «الولاية» قرأها الجمهور بفتح الواو، بمعنى الموالاة والصلة والنصرة كما قرأ الجمهور كلمة «الحق» بالجر على أنها نعت للفظ الجلالة.
فيكون المعنى: في ذلك المقام وتلك الحال تكون الولاية- أى الموالاة والصلة- من كل الناس، لله- تعالى- وحده إذ الكافر عند ما يرى العذاب يعترف بوحدانية الله- تعالى- كما قال- سبحانه- فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ. فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا «١».
ويجوز أن يكون المعنى: في ذلك المقام وتلك الحال تكون الولاية أى الموالاة لله- تعالى- وحده، فيوالي المؤمنين برحمته ومغفرته وينصرهم على أعدائهم، كما قال- سبحانه- ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا، وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ «٢».
وقرأ حمزة والكسائي: الْوَلايَةُ بكسر الواو، بمعنى الملك والسلطان كما قرأ أبو عمرو والكسائي لفظ الْحَقِّ بالرفع على أنه نعت للولاية.
فيكون المعنى: في ذلك المقام تكون الولاية الحق، والسلطان الحق، لله رب العالمين، كما قال- سبحانه-: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ، وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً «٣».
قال بعض العلماء: وقوله «هنالك» يرى بعضهم أنه متعلق بما بعده، والوقف تام على قوله وَما كانَ مُنْتَصِراً.
ويرى آخرون أنه متعلق بما قبله.
فعلى القول الأول يكون الظرف «هنالك» عامله ما بعده أى: الولاية كائنة لله هنالك.
(١) سورة غافر الآيتان ٨٤، ٨٥.
(٢) سورة محمد الآية ١١.
(٣) سورة الفرقان الآية ٢٦.
523
وعلى القول الثاني فالعامل في الظرف اسم الفاعل الذي هو «منتصرا». أى: لم يكن انتصاره واقعا هنالك «١».
وقوله- سبحانه-: هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً أى: هو- عز وجل- خير إثابة وإعطاء لأوليائه، وخير عاقبة لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى.
وعاقبة الأمر: آخره وما يصير إليه منتهاه. و «ثوابا» و «عقبا» منصوبان على التمييز، بعد صيغة التفضيل «خير» التي حذفت منها الهمزة تخفيفا لكثرة الاستعمال كما قال ابن مالك- رحمه الله-:
وغالبا أغناهم خير وشر عن قولهم أخير منه وأشر
وبذلك نرى أن هذه القصة التي ضربها الله- تعالى- مثلا للأخيار والأشرار قد بينت لنا بأسلوب بليغ أخاذ، صور عاقبة الجاحدين المغرورين وحسن عاقبة الشاكرين المتواضعين، كما بينت لنا الآثار الطيبة التي تترتب على الإيمان والعمل الصالح، والآثار السيئة التي يفضى إليها الكفر وسوء العمل، كما بينت لنا أنّ المتفرد بالولاية والقدرة هو الله- عز وجل- فلا قوة إلا قوته، ولا نصر إلا نصره، ولا مستحق للعبادة أحد سواه، ولا ثواب أفضل من ثوابه ولا عاقبة لأوليائه خير من العاقبة التي يقدرها لهم، وصدق- سبحانه- حيث يقول:
هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ، هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً.
ثم تنتقل السورة الكريمة من ضرب المثل الجزئى الشخصي، إلى ضرب مثال آخر عام كلى، فبينت أن الحياة الدنيا في قصرها وذهاب زينتها.. كتلك الجنة التي أصبحت حطاما، بعد اخضرارها وكثرة ثمرها، كما بينت أن هناك زينة فانية، وأن هنالك أعمالا صالحة باقية قال- تعالى-:
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٤٥ الى ٤٦]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (٤٥) الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (٤٦)
(١) تفسير أضواء البيان ج ٥ ص ١٠٨.
524
قال الإمام الرازي: اعلم أن المقصود: اضرب لهم مثلا آخر يدل على حقارة الدنيا، وقلة بقائها. والكلام متصل بما تقدم من قصة المشركين المتكبرين على فقراء المؤمنين..» «١».
والمعنى. واذكر لهم- أيها الرسول الكريم- ما يشبه هذه الحياة الدنيا في حسنها ونضارتها، ثم في سرعة زوال هذا الحسن والنضارة، لكي لا يركنوا إليها، ولا يجعلوها أكبر همهم، ومنتهى آمالهم.
وقوله: كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ.. بيان للمثل الذي شبه الله- تعالى- به الحياة الدنيا أى: مثلها في ازدهارها ثم في زوال هذا الازدهار، كهيئة أو كصفة ماء أنزلناه بقدرتنا من السماء، في الوقت الذي نريد إنزاله فيه.
فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ والاختلاط والخلط: امتزاج شيئين فأكثر بعضهما ببعض.
أى: كماء أنزلناه من السماء، فاختلط وامتزج بهذا الماء نبات الأرض، فارتوى منه، وصار قويا بهيجا يعجب الناظرين إليه.
وفي التعبير بقوله: فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ دون قوله: فاختلط بنبات الأرض إشارة إلى كثرة الماء النازل من السماء، وإلى أنه السبب الأساسى في ظهور هذا النبات، وفي بلوغه قوته ونضارته.
وقوله: فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ بيان لما صار إليه هذا النبات من يبوسته وتفتته، بعد اخضراره وشدته وحسنه.
قال القرطبي ما ملخصه: «هشيما» أى متكسرا متفتتا، يعنى بانقطاع الماء عنه، فحذف ذلك إيجازا لدلالة الكلام عليه، والهشم، كسر الشيء اليابس. والهشيم من النبات: اليابس المتكسر.. ورجل هشيم: ضعيف البدن.
و «تذروه الرياح» أى تفرقه وتنسفه.. يقال: ذرت الريح الشيء تذروه ذروا، إذا طارت به وأذهبته» «٢».
(١) تفسير الفخر الرازي ج ٢١ ص ١٣٠.
(٢) تفسير القرطبي ج ١٠ ص ٤١٣.
525
أى: فأصبح النبات بعد اخضراره، يابسا متفتتا، تفرقه الرياح وتنسفه وتذهب به حيث شاءت وكيف شاءت.
فأنت ترى أن الآية الكريمة قد شبهت حال الدنيا في حسنها وجمال رونقها، ثم في سرعة زوالها وفنائها بعد ذلك، بحال النبات الذي نزل عليه الماء فاخضر واستوى على سوقه، ثم صار بعد ذلك يابسا متفتتا تذهب به الرياح حيث شاءت.
والتعبير بالفاء في قوله- سبحانه- فاختلط. فأصبح.. يزيد الأسلوب القرآنى جمالا وبلاغة، لأن فاء التعقيب هنا تدل على قصر المدة التي استمر فيها النبات نضرا جميلا، ثم صار هشيما تذروه الرياح.
وهكذا الحياة تبدو للمتشبثين بها، جميلة عزيزة، ولكنها سرعان ما تفارقهم ويفارقونها، حيث ينزل بهم الموت فيجعل آمالهم تحت التراب.
ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله، وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً أى: وكان الله- تعالى- وما زال- على كل شيء من الأشياء التي من جملتها الإنشاء والإفناء كامل القدرة، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
وقد ذكر- سبحانه- ما يشبه هذه الآية في سور كثيرة، ومن ذلك قوله- تعالى-:
إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ، حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ، وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها، أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ، كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ «١».
ثم بين- سبحانه- القيمة الحقيقة للمال وللبنين فقال: الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا.
والمال: اسم لكل ما يتموله الإنسان ويتملكه من النقود والعقار والحرث والأنعام.. إلخ والبنون: جمع ابن.
والزينة: مصدر. والمراد بها هنا، ما في الشيء من محاسن ترغب الإنسان في حبه.
أى: المال والبنون زينة يتزين بها الإنسان في هذه الحياة الدنيا، ويتباهى بها على غيره.
وإنما كانا كذلك، لأن في المال- كما يقول القرطبي- جمالا ونفعا، وفي البنين قوة ودفعا.
(١) سورة يونس الآية ٢٤.
526
قال الآلوسى: وتقديم المال على البنين- مع كونهم أعز منه عند أكثر الناس لعراقته فيما نيط به من الزينة والإمداد وغير ذلك.. ولأنه زينة بدونهم من غير عكس فإن من له بنون بغير مال فهو في أضيق حال..» «١».
وفي التعبير بقوله- سبحانه- زينة، بيان بديع. وتعبير دقيق لحقيقتهما، فهما زينة وليسا قيمة، فلا يصح أن توزن بهما أقدار الناس، وإنما توزن أقدار الناس بالإيمان والعمل الصالح، كما قال- تعالى- إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ.
ولذا جاء التعقيب منه- سبحانه- بقوله: وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا.
أى: المال والبنون زينة يتزين ويتفاخر بها كثير من الناس في هذه الحياة الدنيا، وإذا كان الأمر كذلك في عرف كثير منهم. فإن الأقوال الطيبة، والأعمال الحسنة، هي الباقيات الصالحات، التي تبقى ثمارها للإنسان، وتكون عند الله- تعالى- خَيْرٌ من الأموال والأولاد، ثوابا وجزاء وأجرا وَخَيْرٌ أَمَلًا حيث ينال بها صاحبها في الآخرة ما كان يؤمله ويرجوه في الدنيا من فوز بنعيم الجنة، أما المال والبنون فكثيرا ما يكونان فتنة.
وقد ساق الإمام ابن كثير جملة من الآثار في تعيين المراد بالباقيات الصالحات فقال: قال ابن عباس وسعيد بن جبير وغير واحد من السلف: والباقيات الصالحات: الصلوات الخمس.
وقال عطاء بن أبى رياح وسعيد بن جبير عن ابن عباس: وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ:
سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.. «٢».
ويبدو لنا أن قوله- تعالى-: وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ لفظ عام، يشمل كل قول، أو عمل يرضى الله- عز وجل- ويدخل في ذلك دخولا أوليا: الصلوات الخمس وغيرها مما ذكره المفسرون من أقوال.
وسمى- سبحانه- ما يرضيه. من أقوال، وأعمال بالباقيات الصالحات لأنها باقية لصاحبها غير زائلة ولا فانية، بخلاف زينة الحياة الدنيا فإنها زائلة فانية.
قال الإمام ابن جرير- رحمه الله- وأولى الأقوال بالصواب قول من قال: هن جميع أعمال الخير.. لأن ذلك كله من الصالحات التي تبقى لصاحبها في الآخرة، وعليها يجازى
(١) تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ٢٨٦.
(٢) راجع تفسير ابن كثير ج ٥ ص ١٥٧.
527
ويثاب. وإن الله- عز وجل- لم يخصص من قوله وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ.. بعضا دون بعض في كتاب، ولا بخبر عن رسوله الله ﷺ «١».
ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن أهوال يوم القيامة، ذلك اليوم الذي تنفع فيه الباقيات الصالحات، وليس الأموال ولا الأولاد، فقال- تعالى-:
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٤٧ الى ٤٩]
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (٤٧) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (٤٨) وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (٤٩)
والظرف في قوله: - تعالى- وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ منصوب بفعل محذوف تقديره:
«اذكر».
والمراد بتسيير الجبال: اقتلاعها من أماكنها، وصيرورتها كالعهن المنفوش.
أى: واذكر- أيها العاقل- لتعتبر وتتعظ، أهوال يوم القيامة، يوم نقتلع الجبال من أماكنها، ونذهب بها حيث شئنا، ونجعلها في الجو كالسحاب، كما قال- سبحانه-:
وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ.
وكما قال- عز وجل-: وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً.
(١) راجع تفسير ابن جرير ج ١٥ ص ١٦٧.
528
وقوله: وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً.. بيان لحالة ثانية من أهوال يوم القيامة.
أى: وترى- أيها المخاطب- الأرض ظاهرة للأعين دون أن يسترها شيء من جبل، أو شجر، أو بنيان.
يقال: برز الشيء بروزا، أى: خرج إلى البراز- بفتح الباء- أى: الفضاء وظهر بعد الخفاء.
قال- تعالى-: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ. وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً، فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ.
ثم بين- سبحانه- حالة ثالثة من أهوال يوم القيامة فقال: وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً.
أى: وحشرنا الخلائق جميعا، بأن جمعناهم في المكان المحدد لجمعهم، دون أن نترك منهم أحدا، بل أخرجناهم جميعا من قبورهم لنحاسبهم على أعمالهم.
والفعل «نغادر» من المغادرة بمعنى الترك، ومنه الغدر لأنه ترك الوفاء والأمانة وسمى الغدير من الماء غديرا، لأن السيل ذهب وتركه.
ثم تذكر السورة الكريمة حالة رابعة من أهوال يوم القيامة، هي حالة العرض بعد حالة الجمع فتقول: عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا.
أى: وأحضروا جميعا إلى ربك مصفوفين في صف واحد أو في صفوف متعددة، ليقضى فيهم- سبحانه- بقضائه العادل.
قال الآلوسى: أخرج ابن مندة في التوحيد عن معاذ بن جبل، أن النبي ﷺ قال:
«إن الله- تعالى- ينادى يوم القيامة، يا عبادي: أنا الله لا إله إلا أنا أرحم الراحمين.
وأحكم الحاكمين، وأسرع الحاسبين. أحضروا حجتكم ويسروا جوابكم. فإنكم مسئولون محاسبون. يا ملائكتي أقيموا عبادي صفوفا على أطراف أنامل أقدامهم للحساب»
.
وفي الحديث الصحيح: «يجمع الله- تعالى- الأولين والآخرين في صعيد واحد صفوفا يسمعهم الداعي وينفذهم البصر..» «١».
وقوله- سبحانه-: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ.. مقول لقول محذوف، وجملة «كما خلقناكم» نعت لمصدر محذوف.
(١) تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ٢٨٩.
529
والمعنى: ونقول لمنكري البعث والحساب بعد عرضهم علينا على سبيل التوبيخ والتأنيب:
لقد جئتمونا- أيها المكذبون- مجيئا كائنا كمجيئكم عند خلقنا إياكم أول مرة. أى حفاة عراة لا مال معكم ولا ولد.
وعبر- سبحانه- بالماضي في قوله: قَدْ جِئْتُمُونا..
لتحقق الوقوع وتنزيله منزلة الواقع بالفعل.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ. وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ، وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ. لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ «١».
ثم ختم- سبحانه- الآية بالانتقال من توبيخهم هذا إلى توبيخ أشد وأقسى فقال:
ْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً.
أى: بل زعمتم أيها المكذبون بالبعث- أن لن نجعل لكم زمانا أو مكانا نجازيكم فيه على أعمالكم، وأنكرتم إنكارا مصحوبا بقسم أننا لا نبعث من يموت.
قال- تعالى-: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ «٢».
ثم صور- سبحانه- أحوال المجرمين عند ما يرون مصيرهم السيئ فقال- تعالى-:
وَوُضِعَ الْكِتابُ، فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ، وَيَقُولُونَ: يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها.
والمراد بالكتاب: جنسه، فيشمل جميع الصحف التي كتبت فيها أعمال المكلفين في دار الدنيا.
أى: وأحضرت صحائف أعمال العباد، ووضعت في ميزانهم «فترى» - أيها المخاطب- «المجرمين» كافة، مشفقين، خائفين، مما فيه من جرائم وذنوب «ويقولون» على سبيل التفجع والتحسر عند معاينتهم لثقل ميزان سيئاتهم، وخفة ميزان حسناتهم.
«يا ويلتنا». والويلة: الهلاك وحلول الشر والقبح والحسرة، وهو- أى لفظ الويلة-: مصدر لا فعل له من لفظه.
وهذا النداء على التشبيه بشخص يطلب إقباله.
(١) سورة الأنعام الآية ٩٤.
(٢) سورة النحل الآية ٣٨.
530
أى: ويقولون بأسف وندامة وحسرة: يا هلاكنا أقبل فهذا أوان إقبالك.
ثم يقولون على سبيل التعجب والدهشة من دقة ما اشتمل عليه هذا الكتاب: مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها؟
أى: أى شيء ثبت لهذا الكتاب، حيث نراه لا يترك معصية صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها علينا، وسجلها في صحف أعمالنا.
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بما يدل على شمول علمه. ونفاذ قدرته وكمال عدله، فقال: وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً، وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً.
أى: ووجدوا ما عملوه في الدنيا حاضرا ومسطورا في صحائف أعمالهم، ولا يظلم ربك أحدا من العباد، وإنما يجازى كل إنسان على حسب ما يستحقه من ثواب أو عقاب كما قال- سبحانه-: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً، وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها، وَكَفى بِنا حاسِبِينَ «١».
وكما قال- عز وجل-: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ، وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها، وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً «٢».
قال الإمام ابن كثير وقوله: وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً أى: فيحكم بين عباده في أعمالهم جميعها، ولا يظلم أحدا من خلقه، بل يغفر ويصفح ويرحم، ويعذب من يشاء، بقدرته وحكمته وعدله.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد أخبرنا همام بن يحيى، عن القاسم بن عبد الواحد المكي، عن عبد الله بن محمد بن عقيل أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: بلغني حديث عن رجل سمعه من رسول الله ﷺ فاشتريت بعيرا ثم شددت عليه رحلي، فسرت إليه شهرا، حتى قدمت عليه الشام، فإذا عبد الله بن أنيس، فقلت للبواب: قل له جابر على الباب، فقال: ابن عبد الله؟ فقلت: نعم، فخرج يطأ ثوبه، فاعتنقنى واعتنقته، فقلت:
حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله ﷺ في القصاص فخشيت أن تموت أو أموت قبل أن أسمعه، فقال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: يحشر الله- عز وجل- الناس يوم القيامة، عراة غرلا بهما، أى: ليس معهم شيء، ثم يناديهم بصوت يسمعه من
(١) سورة الأنبياء آية ٤٧. [.....]
(٢) سورة النساء آية ٤٠.
531
بعد، كما يسمعه من قرب: أنا الملك، أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار، وله عند أحد من أهل الجنة حق، حتى أقصه منه، أى: حتى أمكنه من أخذ القصاص، وهو أن يفعل به مثل فعله، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة، وله عند رجل من أهل النار حق، حتى أقصه منه، حتى اللطمة.
قال: قلنا: كيف وإنما نأتى الله- عز وجل- عراة غرلا بهما؟ قال: بالحسنات والسيئات «١».
وبعد أن وضح- سبحانه- من أهوال الحشر ما تخشع له النفوس، وتهتز له القلوب، أتبع ذلك بالنهى عن اتخاذ إبليس وذريته أولياء، وببيان جانب من المصير الأليم الذي ينتظر المجرمين وشركاءهم فقال- تعالى-:
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٥٠ الى ٥٣]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (٥٠) ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (٥١) وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (٥٢) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (٥٣)
فقوله- سبحانه-: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ، فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ.
تذكير لبنى آدم بالعداوة القديمة بين أبيهم آدم وبين إبليس وذريته.
(١) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ١٦٢.
532
والمقصود بهذا التذكير تحذيرهم من وساوسه، وحضهم على مخالفته، كما قال- تعالى-:
إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا، إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ «١».
والملائكة: جمع ملك. وهم- كما وصفهم الله تعالى-: لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ «٢».
وآدم: اسم لأبى البشر، قيل: إنه اسم عبراني مشتق من أدمه بمعنى التراب.
والسجود لغة: التذلل والخضوع. وخص في الشرع بوضع الجبهة على الأرض بقصد العبادة.
وإبليس اسم مشتق من الإبلاس، وهو الحزن الناشئ عن شدة اليأس وفعله أبلس، والراجح أنه اسم أعجمى. ومنعه من الصرف للعلمية والعجمة.
والمعنى- واذكر- أيها العاقل- لتعتبر وتتعظ، وقت أن قلنا للملائكة اسجدوا لآدم، سجود تحية واحترام وتوقير، لا سجود عبادة وطاعة لأن ذلك لا يكون إلا لله رب العالمين.
فامتثلوا أمرنا وسجدوا جميعا، كما قال- تعالى-: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ.
وجاء العطف في قوله فَسَجَدُوا بالفاء المفيدة للتعقيب، للإشارة إلى أن الملائكة قد بادروا بالامتثال بدون تردد، استجابة لأمر خالقهم- عز وجل.
وقوله- تعالى- إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ بيان لموقف إبليس من أمر الله تعالى، وهو أنه أبى واستكبر وامتنع عن السجود لآدم. وظاهر الآية يفيد أن سبب فسقه عن أمر ربه: كونه من الجن لا من الملائكة إذ من المقرر في علم الأصول أن الفاء من الحروف الدالة على التعليل، كما في قولهم، سرق فقطعت يده.
والمعنى: امتثل الملائكة جميعا أمرنا فسجدوا لآدم، إلا إبليس فإنه أبى واستكبر ولم يسجد لأنه كان من الجن ولم يكن من الملائكة «ففسق عن أمر ربه» أى. فخرج بذلك عن طاعتنا، واستحق لعنتنا وغضبنا.
وأصل الفسق: الخروج عن الطاعة مأخوذ من قولهم: فسق الرطب فسوقا إذا خرج عن قشره وهو أعم من الكفر، فيقال للعاصي فاسق، وللكافر فاسق.
(١) سورة فاطر الآية ٦.
(٢) سورة التحريم الآية ٦.
533
قال بعض العلماء ما ملخصه: والخلاف في كون إبليس من الملائكة أولا مشهور عند أهل العلم.
وحجة من قال إنه ليس منهم أمران: أحدهما: عصمة الملائكة من ارتكاب الكفر الذي ارتكبه إبليس، فهم- كما قال الله عنهم: لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ.
والثاني: أن الله- تعالى- صرح في هذه الآية الكريمة بأنه كان من الجن، والجن غير الملائكة. قالوا: وهو نص قرآنى في محل النزاع.
واحتج من قال بأنه منهم، بما تكرر في الآيات القرآنية من قوله: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ قالوا: فإخراجه بالاستثناء من لفظ الملائكة دليل على أنه منهم، والظواهر إذا كثرت صارت بمنزلة النص ومن المعلوم أن الأصل في الاستثناء الاتصال لا الانقطاع.
قالوا: ولا حجة لمن خالفنا في قوله- تعالى- كانَ مِنَ الْجِنِّ، لأن الجن قبيلة من الملائكة، خلقوا من بين الملائكة من نار السموم.
وأظهر الحجج في المسألة. حجة من قال: إنه ليس من الملائكة، لأن قوله- تعالى- إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ هو أظهر شيء في الموضوع من نصوص الوحى، والعلم عند الله- تعالى- «١».
ومن المفسرين الذين يدل كلامهم على أن إبليس لم يكن من الملائكة. الإمام ابن كثير، فقد قال- رحمه الله- قوله: فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ أى: خانه أصله، فإنه خلق من مارج من نار، وأصل خلق الملائكة من نور، كما ثبت في صحيح مسلم، عن عائشة عن رسول الله ﷺ أنه قال: «خلقت الملائكة من نور، وخلق إبليس من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم». فعند الحاجة نضح كل إناء بما فيه، وخانه الطبع عند الحاجة، وذلك أنه قد توسم بأفعال الملائكة، وتشبه بهم، وتعبد وتنسك فلهذا دخل في خطابهم، وعصى بالمخالفة.
ونبه- تعالى- هاهنا على أنه «من الجن» أى: «أنه خلق من نار..» «٢».
(١) تفسير أضواء البيان ج ٤ ص ١٢٠.
(٢) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ١٦٣.
534
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بالإنكار والتوبيخ والتعجيب ممن يتبع خطوات إبليس وذريته فقال: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ، بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا.
أى: أفبعد أن ظهر لكم- يا بنى آدم- ما ظهر من فسوق إبليس عن أمر ربه، تتخذونه وذريته الذين نهجوا نهجه، أولياء، وأصفياء من دوني، فتطيعونهم بدل أن تطيعوني، والحال أن إبليس وذريته لكم عدو؟
لا شك أن من يفعل ذلك منكم يكون قد استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، وآثر الغي على الرشد، والضلالة على الهداية، والفسوق على الإيمان!!.
فالجملة الكريمة تستبعد من كل عاقل، أن يطيع إبليس وذريته، بعد أن تبين له عداوتهم إياه، وحرصهم على إيقاعه في موارد الهلكة والسوء.
وقوله: وَذُرِّيَّتَهُ يدل على أن لإبليس ذرية، إلا أن الطريقة التي بواسطتها كانت له الذرية، لم يرد بها نص صحيح يعتمد عليه، لذا وجب تفويض علمها إلى- الله تعالى-.
قال الآلوسى عند تفسيره لهذه الآية: والظاهر أن المراد من الذرية الأولاد فتكون الآية دالة على أن له أولادا، وبذلك قال جماعة.. وعن قتادة أنه قال: إنه ينكح وينسل كما ينسل بنو آدم.
ثم قال الآلوسى: ولا يلزمنا أن نعلم كيفية ولادته، فكثير من الأشياء مجهول الكيفية عندنا، ونقول «٢» به.
وقوله- تعالى-: بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا حكم منه- سبحانه- بسوء التفكير والمصير على المتخذين إبليس وذريته أولياء من دونه- تعالى- وبئس فعل يفيد الذم، والبدل: العوض عن الشيء.
أى بئس للظالمين، الواضعين للشيء في غير موضعه، ما فعلوه من تركهم طاعة الله- تعالى- وأخذهم في مقابل ذلك طاعة إبليس وذريته.
والمخصوص بالذم محذوف دل عليه المقام والتقدير: بئس البدل والعوض عن طاعة الله- تعالى- طاعة إبليس وذريته.
ثم ساق- سبحانه- ما يدل على كمال علمه وقدرته، وعلى عجز وجهالة المعبودين من دونه، فقال- تعالى-: ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ.
(٢) تفسير الآلوسي ج ١٥ من ٢٩٥.
535
والضمير في قوله «ما أشهدتهم» يعود إلى إبليس وذريته، والإشهاد: بمعنى الإحضار والإعلام.
أى: ما أشهدت إبليس وذريته خلق السموات والأرض، لأنى خلقتهما دون أن أستعين في خلقهما بأحد، أو لأنى خلقتهما قبل خلقهم، وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ أى: ولا أشهدت بعضهم خلق بعض، لأنى لا أستعين بأحد حين أخلق ما أشاء، ولا أستشير أحدا حين أقدر ما أشاء.
وما دام الأمر كذلك فكيف تتخذونهم أولياء وشركاء من دوني وأنا الخالق لكل شيء، والقاهر فوق كل شيء؟.
فالجملة الكريمة استئناف مسوق لبيان كمال علمه وقدرته- سبحانه-، ولبيان عدم استحقاق إبليس وذريته للاتخاذ المذكور في أنفسهم، بعد بيان المواقع والصوارف التي تمنع وتصرف عن اتخاذهم أولياء، من خباثة أصلهم، وفسوقهم عن أمر ربهم.
وهذا المعنى الذي صرحت به الآية الكريمة من تفرد الله- تعالى- بالخلق والقدرة. قد جاء في آيات أخرى منها قوله- تعالى- هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ، بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ «١».
وقوله- سبحانه- وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً مؤكد لما قبله من تفرده- سبحانه- بالخلق والقدرة والعلم.
والعضد- بفتح العين وضم الضاد- في الأصل، يطلق على العضد المعروف ما بين المرفق إلى الكتف، ويستعار للمعين والناصر فيقال: فلان عضدي، أى: نصيرى.
ومنه قوله- تعالى- لنبيه موسى- عليه السلام- سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ أى:
سنقويك ونعينك بأخيك هارون وذلك لأن اليد قوامها العضد، فإذا فقدته أصابها العجز.
أى: وما كنت متخذ المضلين عن سبيلي أعوانا وأنصارا في شأن من شئونى، وخص- سبحانه- المضلين بالذكر، زيادة في ذمهم وتوبيخهم، وتقريعا لأمثالهم، لأنه- عز وجل- ليس له أعوان ولا أنصار فيما يفعله لا من المضلين ولا من المهتدين.
ولم يقل- سبحانه- وما كنت متخذهم.. بالإضمار، كما قال: ما أَشْهَدْتُهُمْ بل
(١) سورة لقمان الآية ١١.
536
أظهر في مقام الإضمار، لتسجيل الضلال عليهم، حتى ينصرف عنهم كل عاقل، وللتنبيه على أن الضالين المضلين لا تصح الاستعانة بهم.
ولقد حكى الله- تعالى- عن نبيه موسى- عليه السلام- براءته من المجرمين فقال:
قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ «١».
والظهير: الناصر والمعين لغيره.
ثم ساقت السورة الكريمة مشهدا من مشاهد القيامة- يكشف عن سوء المصير الذي ينتظر الشركاء وينتظر المجرمين. فقال- تعالى-: وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ....
أى: واذكر- أيها العاقل- يوم يقول الله- تعالى- للمجرمين والكافرين على سبيل التوبيخ والتقريع: أيها الكافرون، نادوا شركائى الذين زعمتم أنهم ينفعونكم ويشفعون لكم في هذا الموقف العصيب «فدعوهم» أى: فأطاعوا أمر خالقهم، ودعوا شركاءهم لكي يستغيثوا بهم «فلم يستجيبوا لهم» أى: فلم يجدوا منهم أدنى استجابة فضلا عن النفع أو العون.
وقوله: وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً أى: وجعلنا بين الداعين والمدعوين مهلكا يشتركون فيه جميعا وهو جهنم.
فالموبق: اسم مكان من وبق وبوقا- كوثب وثوبا- أو وبق وبقا كفرح فرحا- إذا هلك. ويقال فلان أوبقته ذنوبه: أى أهلكته. ومنه قوله- تعالى-: أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا أى يهلكهن. ومنه الحديث الشريف: «كل يغدو فموبق نفسه» - أى مهلكها- ومنه أيضا قوله صلى الله عليه وسلم: «اجتنبوا السبع الموبقات» أى: المهلكات.
وقيل: الموبق اسم واد في جهنم فرق الله به بينهم، أى بين الداعين والمدعوين.
وقيل: كل حاجز بين شيئين فهو موبق.
قال ابن جرير- رحمه الله- بعد أن ذكر جملة من الأقوال في ذلك: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، القول الذي ذكرناه من أن الموبق بمعنى المهلك وذلك أن العرب تقول في كلامها:
قد أوبقت فلانا إذا أهلكته..» «٢».
(١) سورة القصص الآية ١٧.
(٢) تفسير ابن جرير ج ١٥ ص ١٧٢.
537
ثم بين- سبحانه- حالة المجرمين عند ما يبصرون النار فقال: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً.
ورأى هنا بصرية. والظن بمعنى اليقين والعلم، لأنهم أبصروا الحقائق، وشاهدوا واقعهم الأليم مشاهدة لا لبس فيها ولا خفاء.
أى: وشاهد المجرمون بأعينهم النار، فأيقنوا أنهم مخالطوها وواقعون فيها. بسبب سوء أعمالهم، وانكشاف الحقائق أمامهم، ولم يجدوا عنها مصرفا أى مكانا ينصرفون إليه، ويعتصمون به ليتخذوه ملجأ لهم منها.
فالمصرف: اسم مكان للجهة التي ينصرف إليها الإنسان للنجاة من ضر أحاط به.
وعبر- سبحانه- عن رؤيتهم للنار بالفعل الماضي، لتحقق الوقوع.
وقال- سبحانه- وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ فوضع المظهر موضع المضمر، لتسجيل الإجرام عليهم، ولزيادة الذم لهم.
وقد ذكر- سبحانه- هنا أن المجرمين يرون النار، وذكر في آية أخرى أنها تراهم- أيضا- قال- تعالى-: إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً «١».
وبذلك نرى الآيات الكريمة قد حكت لنا فسوق إبليس عن أمر ربه، وحذرتنا من اتخاذه وليا، ومن الانقياد لوسوسته وإغراءاته، كما حكت لنا جانبا من أحوال المشركين وشركائهم، وكيف أن الشركاء قد تخلوا عن عابديهم في هذا اليوم العصيب، بعد أن أحاطت النار بالجميع، وأيقن المجرمون أنه لا فكاك لهم منها، ولا نجاة لهم من لهيبها.
نسأل الله- تعالى- بفضله وكرمه أن ينجينا من هذا الموقف الرهيب.
ثم مدحت السورة الكريمة القرآن، فوصفته بأن الله- تعالى- قد أكثر فيه من ضرب الأمثال، ونوعها لتشمل جميع الأحوال، وبينت سنة الله- تعالى- في الأمم السابقة، كما بينت وظيفة الرسل- عليهم الصلاة والسلام- وسوء عاقبة المكذبين لهم، ومظاهر رحمة الله- تعالى- بالناس.
استمع إلى السورة الكريمة وهي تحكى كل هذه المعاني بأسلوبها البليغ المؤثر فتقول:
(١) سورة الفرقان الآية ١٢.
538

[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٥٤ الى ٥٩]

وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (٥٤) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (٥٥) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (٥٦) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (٥٧) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (٥٨)
وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (٥٩)
وقوله- سبحانه- صَرَّفْنا من التصريف بمعنى التنويع والتكرير.
والمثل: هو القول الغريب السائر في الآفاق الذي يشبه مضربه مورده.
وقد أكثر القرآن من ضرب الأمثال لإيضاح المعنى الخفى وتقريب الأمر المعقول من الأمر المحسوس، وعرض الأمر الغائب في صورة الحاضر.
والمعنى: ولقد كررنا ورددنا ونوعنا في هذا القرآن من أجل هداية الناس، ورعاية مصلحتهم ومنفعتهم، من كل مثل من الأمثال التي تهدى النفوس، وتشفى القلوب، لعلهم
539
بذلك يسلكون طريق الحق، ويتركون طريق الباطل.
فالمقصود بهذه الجملة الكريمة، الشهادة من الله- تعالى- بأن هذا القرآن الذي أنزله- سبحانه- على نبيه ﷺ فيه من الأمثال الكثيرة المتنوعة النافعة، ما يرشد الناس إلى طريق الحق والخير، متى فتحوا قلوبهم له. وأعملوا عقولهم لتدبره وفهمه.
ومفعول «صرفنا» محذوف، و «من» لابتداء الغاية، أى: ولقد صرفنا البينات والعبر والحكم في هذا القرآن، من أنواع ضرب المثل لمنفعة الناس ليهتدوا ويذكروا.
ثم بين- سبحانه- موقف الإنسان من هذه الأمثال فقال: وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا.
والمراد بالإنسان: الجنس، ويدخل فيه الكافر والفاسق دخولا أوليا.
والجدل: الخصومة والمنازعة مع الغير في مسألة من المسائل.
أى: وكان الإنسان أكثر شيء مجادلة ومنازعة لغيره، أى: أن جدله أكثر من جدل كل مجادل.
قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية: ولقد بينا للناس في هذا القرآن، ووضحنا لهم الأمور، وفصلناها، كيلا يضلوا عن الحق.. ومع هذا البيان، فالإنسان كثير المجادلة والمعارضة للحق بالباطل، إلا من هدى الله وبصره لطريق النجاة.
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب. عن الزهري قال: أخبرنى على بن الحسين، أن الحسين بن على أخبره، أن على بن أبى طالب أخبره. أن رسول الله ﷺ طرق عليا وفاطمة ليلة فقال: «ألا تصليان؟ فقلت: يا رسول الله، إنما أنفسنا بيد الله..
فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا. فانصرف حين قلت ذلك ولم يرفع إلى بشيء ثم سمعته وهو مول يضرب فخذه ويقول: وكان الإنسان أكثر شيء جدلا»
«١».
وفي التعبير عن الإنسان في هذه الجملة بأنه «شيء» وأنه «أكثر شيء جدلا» إشعار لهذا الإنسان بأن من الواجب عليه أن يقلل من غروره وكبريائه. وأن يشعر بأنه خلق من مخلوقات الله الكثيرة، وأن ينتفع بأمثال القرآن ومواعظه وهداياته.. لا أن يجادل فيها بالباطل.
ومنهم من يرى أن المراد بالإنسان هنا: الكافر، أو شخص معين، قيل: هو النضر بن الحارث، وقيل: أبى بن خلف.
(١) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ١٦٧.
540
لكن الظاهر أن المراد به العموم- كما أشرنا- ويدخل فيه هؤلاء دخولا أوليا.
ثم حكى- سبحانه- الأسباب التي منعت بعض الناس من الإيمان فقال: وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ. إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ، أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا.
والمراد بالناس: كفار مكة ومن حذا حذوهم في الشرك والضلال والمراد بسنة الأولين:
ما أنزله- سبحانه- بالأمم السابقة من عذاب بسبب إصرارها على الكفر والجحود.
والمعنى: وما منع الكفار من الإيمان وقت أن جاءهم الهدى عن طريق نبيهم صلى الله عليه وسلم، ومن أن يستغفروا ربهم من ذنوبهم، إلا ما سبق في علمنا، من أنهم لا يؤمنون، بل يستمرون على كفرهم حتى تأتيهم سنة الأولين، أى: سنتنافى إهلاكهم بعذاب الاستئصال بسبب إصرارهم على كفرهم.
ويجوز أن يكون الكلام على حذف مضاف، و «أن» وما بعدها في قوله إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ في تأويل فاعل الفعل «منع».
والمعنى: وما منع الناس من الإيمان والاستغفار وقت مجيء الهدى إليهم، إلا طلب إتيان سنة الأولين، كأن يقولوا- كما حكى الله- تعالى- عن بعضهم: فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ.
فسنة الأولين أنهم طلبوا من أنبيائهم تعجيل العذاب، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر.
وقوله: أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا بيان لعذاب آخر ينتظرونه.
وكلمة قُبُلًا قرأها عاصم والكسائي وحمزة- بضم القاف والباء- على أنها جمع قبيل وهو النوع فيكون المعنى: أو يأتيهم العذاب على صنوف وأنواع مختلفة، ومن جهات متعددة يتلو بعضها بعضا.
وقرأها الباقون: قُبُلًا- بكسر القاف وفتح الباء- بمعنى عيانا ومواجهة.
والمعنى: أو يأتيهم العذاب عيانا وجهارا، وأصله من المقابلة، لأن المتقابلين يعاين ويشاهد كل منهما الآخر.
وهي على القراءتين منصوبة على الحالية من العذاب.
فحاصل معنى الآية الكريمة أن هؤلاء الجاحدين لا يؤمنون ولا يستغفرون إلا حين نزول العذاب الدنيوي بهم وهو ما اقتضته سنة الله- تعالى- في أمثالهم، أو حين نزول أصناف العذاب بهم في الآخرة.
541
ثم بين- تعالى- وظيفة الرسل فقال: وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ.
أى: تلك هي وظيفة الرسل الكرام الذين نرسلهم لهداية الناس وإخراجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان.
فهم يبشرون المؤمنين بحسن العاقبة وجزيل الثواب، وينذرون الفاسقين والكافرين بسوء العاقبة، وشديد العقاب.
وقوله- تعالى-: وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ بيان لموقف الكافرين من الرسل- عليهم الصلاة والسلام-.
ويجادل من المجادلة بمعنى المخاصمة والمنازعة. ومفعوله محذوف.
والباطل: هو الشيء الزائل المضمحل الذي هو ضد الحق والعدل. والحق هو الشيء الثابت القويم الذي تؤيده شريعة الله- عز وجل-.
والدحض: الطين الذي لا تستقر عليه الأقدام. فمعنى يدحضوا: يزيلوا ويبطلوا تقول العرب: دحضت رجل فلان، إذا زلت وزلقت.. ومنه قوله- تعالى-: حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ.
والمعنى: ويجادل الذين كفروا رسلهم بالجدال الباطل، ليزيلوا به الحق الذي جاء به هؤلاء الرسل ويدحضوه ويبطلوه، والله- تعالى- متم نوره ولو كره الكافرون، فإن الباطل مهما طال فإن مصيره إلى الاضمحلال والزوال.
وقوله- تعالى- وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً معطوف على ما قبله لبيان رذيلة أخرى من رذائل هؤلاء الكافرين.
والمراد بآيات الله: تلك المعجزات التي أيد الله- تعالى- بها رسله سواء أكانت قولا أم فعلا، ويدخل فيها القرآن دخولا أوليا.
أى: أن هؤلاء الكافرين لم يكتفوا بجدال رسلهم بالباطل، بل أضافوا إلى ذلك أنهم اتخذوا الآيات التي جاء بها الرسل كدليل على صدقهم، واتخذوا ما أنذروهم به من قوارع إذا ما استمروا على كفرهم. اتخذوا كل ذلك «هزوا» أى: اتخذوها محل سخريتهم ولعبهم ولهوهم واستخفافهم، كما قال- سبحانه-: وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً.
ثم بين- سبحانه- سوء عاقبة المعرضين عن التذكير وعن آيات الله فقال: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ.
542
والاستفهام هنا للنفي والإنكار والمراد بالآيات آيات القرآن الكريم. لقوله- تعالى- بعد ذلك: أَنْ يَفْقَهُوهُ.
والمراد بالنسيان: الترك والإهمال وعدم التفكر والتدبر في العواقب.
أى: ولا أحد أشد ظلما وبغيا. من إنسان ذكره مذكر ووعظه بآيات الله التي أنزلها على رسوله ﷺ فأعرض عنها دون أن يقبلها أو يتأملها. بل نبذها وراء ظهره، ونسى ما قدمت يداه من السيئات والمعاصي، نسيان ترك وإهمال واستخفاف.
ثم بين- سبحانه- علة هذا الإعراض والنسيان فقال: إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً، وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً.
والأكنة: جمع كنان بمعنى غطاء والوقر الثقل والصمم. يقال فلان وقرت أذنه، أى: ثقل سمعها وأصيبت بالصمم.
أى: إنا جعلنا على قلوب هؤلاء الظالمين المعرضين عن الحق، أغطية تمنع قلوبهم عن وصول النور إليها، وتحجبها عن فقه آياته- سبحانه- وجعلنا- أيضا- في آذانهم صمما وثقلا عن سماع ما ينفعهم وذلك يسبب استحبابهم العمى على الهدى، وإيثارهم الكفر على الإيمان.
وَإِنْ تَدْعُهُمْ أيها الرسول الكريم إِلَى الْهُدى والرشد فلن، يستجيبوا لك، ولن يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً إلى الحق وإلى الصراط المستقيم، بسبب زيغ قلوبهم، واستيلاء الكفر والجحود والعناد عليها.
والضمير في قوله أَنْ يَفْقَهُوهُ يعود إلى الآيات، وتذكيره وإفراده باعتبار المعنى، إذ المراد منها القرآن الكريم.
وجاءت الضمائر في أول الآية بالإفراد، كما في قوله، ذُكِّرَ وفَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ باعتبار لفظ «من» في قوله «ومن أظلم» وجاءت بعد ذلك بالجمع كما في قوله سبحانه-: إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً.. باعتبار المعنى.
وهذا الأسلوب كثير في القرآن الكريم، ومنه قوله- تعالى-: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً، قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً.
فالضمير في قوله: «يؤمن ويعمل ويدخله» جاء بصيغة الإفراد باعتبار لفظ «من»، وفي قوله: خالِدِينَ فِيها جاء بصيغة الجمع باعتبار معنى «من».
ثم ساق- سبحانه- بعد ذلك ما يدل على سعة رحمته، وعظيم فضله فقال: وَرَبُّكَ
543
الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ، بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا.
أى: وربك- أيها الرسول الكريم- هو صاحب المغفرة الكثيرة، وصاحب الرحمة التي وسعت كل شيء. لو يؤاخذ الناس بما كسبوا من الذنوب والمعاصي، لعجل لهم العذاب بسبب ما يرتكبونه من كفر وآثام، ولكنه- سبحانه- لم يعجل لهم العذاب رحمة منه وحلما.
وجملة «بل لهم موعد..» معطوفه على مقدر، فكأنه- سبحانه- قال: لكنه- سبحانه- لم يؤاخذهم، بل جعل وقتا معينا لعذابهم، لن يجدوا من دون هذا العذاب موئلا.
أى ملجأ يلتجئون إليه، أو مكانا يعتصمون به.
فالموئل: اسم مكان. يقال: وأل فلان إلى مكان كذا يئل وألا.. إذا لجأ إليه ليعتصم به من ضر متوقع.
فالآية الكريمة تبين أن الله- تعالى- بفضله وكرمه لا يعاجل الناس. بالعقاب، ولكنه- عز وجل- ليس غافلا عن أعمالهم، بل يؤخرهم إلى الوقت الذي تقتضيه حكمته، لكي يعاقبهم على ما ارتكبوه من ذنوب وآثام.
وفي معنى هذه الآية وردت آيات كثيرة، منها قوله- تعالى-: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ، وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى. فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً «١».
وقوله- تعالى-: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ «٢» ثم بين- سبحانه- سننه في الأمم الماضية فقال: وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً.
واسم الإشارة «تلك» تعود إلى القرى المهلكة بسبب كفرها وفسوقها عن أمر ربها، كقرى قوم نوح وهود وصالح- عليهم السلام-.
والقرى: جمع قرية والمراد بها أهلها الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والجحود.
أى: وتلك القرى الماضية التي أصر أهلها على الكفر والفسوق والعصيان أهلكناهم بعذاب الاستئصال في الدنيا، بسبب هذا الكفر والظلم، وجعلنا لوقت هلاكهم موعدا لا يتأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون.
(١) سورة فاطر الآية ٤٥.
(٢) سورة الرعد الآية ٦. [.....]
544
ولفظ «تلك» مبتدأ، والقرى صفة له أو عطف بيان، وجملة أَهْلَكْناهُمْ هي الخبر.
وقوله لَمَّا ظَلَمُوا بيان للأسباب التي أدت بهم إلى الهلاك والدمار، أى: أهلكناهم بسبب وقوع الظلم منهم واستمرارهم عليه.
وجيء باسم الإشارة «تلك» للإشعار بإن أهل مكة يمرون على تلك القرى الظالمة المهلكة، ويعرفون أماكنهم معرفة واضحة عند أسفارهم من مكة إلى بلاد الشام. قال- تعالى- وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ. وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ
«١».
وقوله: وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً قرأ الجمهور، لمهلكهم، - بضم الميم وفتح اللام- على صيغة اسم المفعول، وهو محتمل أن يكون مصدرا ميميا. أى: وجعلنا لإهلاكهم موعدا.
ويحتمل أن يكون اسم زمان، أى: وجعلنا لزمان إهلاكهم موعدا.
وقرأ حفص عن عاصم «لمهلكهم» بفتح الميم وكسر اللام- فيكون اسم زمان، وقرأ شعبة عن عاصم. لمهلكهم» - بفتح الميم واللام- فيكون مصدرا ميميا.
وإلى هنا نجد الآيات الكريمة قد وضحت أن القرآن الكريم قد نوع الله- تعالى- فيه الأمثال لقوم يعقلون، كما بينت أن الإنسان مجبول على المجادلة والمخاصمة. وأن المشركين قد أصروا على شركهم بسبب انطماس بصائرهم. وزيغهم عن الحق، وأن الرسل- عليهم الصلاة والسلام- وظيفتهم البلاغ والتبشير والإنذار، وأن عاقبة الجاحدين الذين ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم هي النار وبئس القرار، وأن الله- تعالى- يمهل الظالمين ولا يهملهم، فهو كما قال- سبحانه- نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ «٢».
ثم ساق- سبحانه- قصة فيها ما فيها من الأحكام والعظات، ألا وهي قصة موسى- عليه السلام- مع عبد من عباد الله الصالحين، فقال- تعالى-:
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٦٠ الى ٦٥]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (٦٠) فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (٦١) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (٦٢) قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (٦٣) قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (٦٤)
فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (٦٥)
(١) سورة الصافات الآيتان ١٣٧، ١٣٨.
(٢) سورة الحجر الآيتان ٤٩، ٥٠.
545
قال الإمام الرازي ما ملخصه: اعلم أن هذا ابتداء قصة ثالثة ذكرها الله- تعالى- في هذه السورة، وهي أن موسى- عليه السلام- ذهب إلى الخضر ليتعلم منه، وهذا وإن كان كلاما مستقلا في نفسه إلا أنه يعين على ما هو المقصود في القصتين السابقتين: أما نفع هذه القصة في الرد على الكفار الذين افتخروا على فقراء المسلمين، فهو أن موسى مع كثرة علمه وعمله.. ذهب إلى الخضر لطلب العلم وتواضع له.
وأما نفع هذه القصة في قصة أصحاب الكهف، فهو أن اليهود قالوا لكفار مكة: «إن أخبركم محمد ﷺ عن هذه القصة فهو نبي وإلا فلا وهذا ليس بشيء. لأنه لا يلزم من كونه نبيا أن يكون عالما بجميع القصص كما أن كون موسى نبيا لم يمنعه من الذهاب ليتعلم منه» «١».
وموسى- عليه السلام- هو ابن عمران، وهو أحد أولى العزم من الرسل، وينتهى نسبه إلى يعقوب- عليه السلام-.
وفتاه: هو يوشع بن نون، وسمى بذلك لأنه كان ملازما لموسى- عليه السلام- ويأخذ عنه العلم.
(١) التفسير الكبير للفخر الرازي ج ٢١ ص ١٤٣.
546
وقوله: لا أَبْرَحُ أى: لا أزال سائرا. ومنه قوله- تعالى- لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ. من برح الناقص.
قال الجمل: واسمها مستتر وجوبا، وخبرها محذوف، تقديره: لا أبرح سائرا، وقوله حَتَّى أَبْلُغَ.. غاية لهذا المقدر. ويحتمل أنها تامة فلا تستدعى خبرا، بمعنى: لا أزول عما أنا عليه من السير والطلب ولا أفارقه حتى أبلغ..» «١».
ومَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ: المكان الذي فيه يلتقى البحر الأحمر بالبحر الأبيض المتوسط.
قال الآلوسى: والمجمع: الملتقى، وهو اسم مكان.. والبحران: بحر فارس والروم، كما روى عن مجاهد وقتادة وغيرهما وملتقاهما: مما يلي المشرق ولعل المراد مكان يقرب فيه التقاؤهما.. وقيل البحران: بحر الأردن وبحر القلزم..» «٢».
وقال بعض العلماء: والأرجح- والله أعلم- أن مجمع البحرين: بحر الروم وبحر القلزم.
أى: البحر الأبيض والبحر الأحمر. ومجمعهما مكان التقائهما في منطقة البحيرات المرة وبحيرة التمساح. أو أنه مجمع خليجى العقبة والسويس في البحر الأحمر. فهذه المنطقة كانت مسرح تاريخ بنى إسرائيل بعد خروجهم من مصر، وعلى أية حال فقد تركها القرآن مجملة فنكتفى بهذه الإشارة» «٣».
والمعنى: واذكر- أيها الرسول الكريم- لقومك لكي يعتبروا ويتعظوا وقت أن قال أخوك موسى- عليه السلام- لفتاه يوشع بن نون، اصحبنى في رحلتي هذه فإنى لا أزال سائرا حتى أصل إلى مكان التقاء البحرين، فأجد فيه بغيتي ومقصدي، «أو أمضى» في سيرى «حقبا» أى: زمنا طويلا، إن لم أجد ما أبتغيه هناك.
والحقب- بضم الحاء والقاف- جمعه أحقاب، وفي معناه: الحقبة- بكسر الحاء- وجمعها حقب- كسدرة وسدر- والحقبة- بضم الحاء- وجمعها: حقب كغرفة وغرف- قيل: مدتها ثمانون عاما. وقيل سبعون. وقيل: زمان من الدهر مبهم غير محدد.
والآية الكريمة تدل بأسلوبها البليغ، على أن موسى- عليه السلام- كان مصمما على بلوغ مجمع البحرين مهما تكن المشقة في سبيل ذلك، ومهما يكن الزمن الذي يقطعه في سبيل
(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ٣٢.
(٢) تفسير الآلوسي ج ١٥ ص ٣١٢.
(٣) في ظلال القرآن ج ١٥ ص ٢٢٨٧ للأستاذ سيد قطب.
547
الوصول إلى غايته، وهو يعبر عن هذا التصميم بما حكاه عنه القرآن بقوله: «أو أمضى حقبا».
وقد أشار الآلوسى- رحمه الله- إلى سبب تصميم موسى على هذه الرحلة فقال: وكأن منشأ عزيمة موسى- عليه السلام- على ما ذكره ما رواه الشيخان وغيرهما من حديث ابن عباس عن أبى بن كعب، أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: «إن موسى- عليه السلام- قام خطيبا في بنى إسرائيل فسئل: أى الناس أعلم؟ فقال: أنا. فعاتبه الله- تعالى- عليه، إذ لم يرد العلم إليه- سبحانه- فأوحى الله- تعالى- إليه: إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك.
وفي رواية أخرى عنه عن أبى- أيضا- عن رسول الله ﷺ أن موسى- عليه السلام- سأل ربه فقال: أى رب إن كان في عبادك أحد هو أعلم منى فدلني عليه فقال له:
«نعم في عبادي من هو أعلم منك، ثم نعت له مكانه وأذن له في لقائه»
«١».
ثم تقص علينا السورة الكريمة ما حدث بعد ذلك فتقول: فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما. فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً.
والفاء في قوله: فَلَمَّا بَلَغا وفي قوله فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ.. هي الفصيحة.
والسرب: النفق الذي يكون تحت الأرض. أو القناة التي يدخل منها الماء إلى البستان لسقى الزرع.
والمعنى: وبعد أن قال موسى لفتاه ما قال، أخذا في السير إلى مجمع البحرين، فلما بلغا هذا المكان «نسيا حوتهما» أى: نسيا خبر حوتهما ونسيا تفقد أمره، فحيي الحوت، وسقط في البحر، واتخذ «سبيله» أى طريقه «في البحر سربا».
أى: واتخذ الحوت طريقه في البحر، فكان هذا الطريق مثل السرب أى النفق في الأرض بحيث يسير الحوت فيه، وأثره واضح.
قال الإمام ابن كثير: قوله فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما وذلك أنه كان قد أمر بحمل حوت مملوح- أى مشوى- معه وقيل له: متى فقدت الحوت، فهو ثمة- أى الرجل الصالح الذي هو أعلم منك يا موسى في هذا المكان- فسارا حتى بلغا مجمع البحرين. وهناك عين يقال لها عين الحياة، فناما هناك، وأصاب الحوت من رشاش ذلك الماء
(١) تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ٣١٣.
548
فاضطرب، وكان في مكتل مع يوشع، وطفر من المكتل إلى البحر، فاستيقظ يوشع، وسقط الحوت في البحر، وجعل يسير فيه، والماء له مثل الطاق- أى مثل البناء المقوس كالقنطرة- لا يلتئم بعده، ولهذا قال: فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً أى: مثل السرب في الأرض «١».
وقال الإمام البيضاوي: قوله «نسيا حوتهما» أى: نسى موسى أن يطلبه ويتعرف حاله، ونسى يوشع أن يذكر له ما رأى من حياته ووقوعه في البحر «٢».
ثم بين- سبحانه- ما كان منهما بعد ذلك فقال: فَلَمَّا جاوَزا أى: المكان الذي فيه مجمع البحرين.
«قال» موسى- عليه السلام- لفتاه يوشع بن نون «آتنا غداءنا» أى: أحضر لنا ما نأكله من هذا الحوت المشوى الذي معنا: ثم علل موسى- عليه السلام- هذا الطلب بقوله: لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً أى: تعبا وإعياء.
واسم الإشارة «هذا» مشار به إلى سفرهما المتلبسين به.
قالوا: ولكن باعتبار بعض أجزائه، فقد صح أنه ﷺ قال: «لم يجد موسى شيئا من التعب حتى جاوز المكان الذي أمر به» «٣».
وقوله- سبحانه-: قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ حكاية لما رد به يوشع على موسى- عليه السلام- عند ما طلب منه الغداء.
والاستفهام في قوله أَرَأَيْتَ للتعجب مما حدث أمامه من شأن الحوت حيث عادت إليه الحياة، وقفز في البحر، ومع ذلك نسى يوشع أن يخبر موسى عن هذا الأمر العجيب.
أى: قال يوشع لموسى- عليه السلام-: تذكر وانتبه واستمع إلى ما سألقيه عليك من خبر هذا الحوت، أرأيت ما دهانى في وقت أن أوينا ولجأنا إلى الصخرة التي عند مجمع البحرين، فإنى هناك نسيت أن أذكر لك ما شاهدته منه من أمور عجيبة، فقد عادت إليه الحياة، ثم قفز في البحر.
وقال إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ دون أن يذكر مجمع البحرين، زيادة في تحديد المكان
(١) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ١٧١.
(٢) تفسير البيضاوي ج ٢ ص ١٨.
(٣) تفسير الآلوسى، ج ١٥ ص ٣١٧.
549
وتعيينه. وأوقع النسيان على الحوت دون الغداء الذي طلبه منه موسى، للإشعار بأن الغداء الذي طلبه موسى منه، هو ذلك الحوت الذي فقداه.
وقوله وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ جملة معترضة جيء بها لبيان ما يجرى مجرى السبب في وقوع النسيان منه.
وقوله أَنْ أَذْكُرَهُ بدل اشتمال من الهاء في «أنسانيه».
أى: وما أنسانى تذكيرك بما حدث من الحوت إلا الشيطان الذي يوسوس للإنسان، بوساوس متعددة، تجعله يذهل وينسى بعض الأمور الهامة.
وقوله وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً معطوف على قوله فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ.
أى: نسيت أن أخبرك بأن الحوت عند ما أوينا إلى الصخرة عادت إليه الحياة، واتخذ طريقه في البحر اتخاذا عجيبا، حيث صار يسير فيه وله أثر ظاهر في الماء، والماء من حوله كالقنطرة التي تنفذ منها الأشياء.
وعلى هذا تكون جملة، «واتخذ سبيله في البحر عجبا»، من بقية كلام يوشع للتعجب مما حدث من الحوت، حيث عادت إليه الحياة بقدرة الله- تعالى-، واتخذ طريقه في البحر بتلك الصورة العجيبة.
وقيل: إن هذه الجملة من كلام الله- تعالى- لبيان طرف آخر من أمر هذا الحوت العجيب، بعد بيان أمره قبل ذلك بأنه اتخذ سبيله في البحر سربا.
ويبدو لنا أن الرأى الأول أرجح، لأن سياق الآية يدل عليه، لذا اكتفى به بعض المفسرين دون أن يشير إلى غيره.
قال الامام الرازي: قوله وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً فيه وجوه:
الأول: أن قوله عَجَباً صفة لمصدر محذوف، كأنه قيل: واتخذ سبيله في البحر اتخاذا عجبا، ووجه كونه عجبا، انقلابه من المكتل وصيرورته حيا وإلقاء نفسه في البحر.
الثاني: أن يكون المراد منه ما ذكرنا من أنه- تعالى- جعل الماء عليه كالطاق وكالسراب.
الثالث: قيل إنه تم الكلام عند قوله وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ ثم قال بعده:
عَجَباً والمقصود منه تعجب يوشع من تلك الحالة العجيبة التي رآها، ثم من نسيانه لها.. «١».
(١) تفسير الفخر الرازي ج ٢١ ص ١٤٧.
550
وهنا يحكى القرآن ما يدل على أن موسى- عليه السلام- قد أدرك أنه تجاوز المكان الذي حدده له ربه- تعالى- للقاء العبد الصالح فقال: قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ، فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً.
أى قال موسى لفتاه: ذلك الذي ذكرته لي من أمر نسيانك لخبر الحوت هو الذي كنا نبغيه ونطلبه، فإن العبد الصالح الذي نريد لقاءه موجود في ذلك المكان الذي فقدنا فيه الحوت.
فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً أى: فرجعا من طريقهما الذي أتيا منه، يتتبعان آثارهما لئلا يضلا عنه، حتى انتهيا عائدين مرة أخرى إلى موضع الصخرة التي فقد الحوت عندها.
وقصصا: من القص بمعنى اتباع الأثر. يقال: قص فلان أثر فلان قصا وقصصا إذا تتبعه.
ثم حكى القرآن ما تم لهما بعد أن عادا إلى مكانهما الأول فقال: فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً.
أى: وبعد أن عادا إلى مكان الصخرة عند مجمع البحرين مرة أخرى وجدا «عبدا من عبادنا» الصالحين. والتنكير في «عبدا» للتفخيم، والإضافة في «عبادنا» للتشريف والتكريم.
آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا أى: هذا العبد الصالح منحناه وأعطيناه رحمة عظيمة من عندنا وحدنا لا من عند غيرنا: واختصصناه بها دون غيره.
وهذه الرحمة تشمل النعم التي أنعم الله- تعالى- بها عليه- كنعمة الهداية والطاعة وغيرهما.
وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً أى: وعلمناه من عندنا لا من عند غيرنا علما خاصا، لا يتيسر إلا لمن نريد تيسيره ومنحه له.
والمراد بهذا العبد: الخضر- عليه السلام- كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة.
ومن العلماء من يرى أنه كان نبيا، ومنهم من يرى أنه كان عبدا صالحا اختصه الله بلون معين من العلم اللدني.
أخرج البخاري وغيره عن أبى هريرة عن النبي ﷺ قال: «إنما سمى الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء، فإذا هي تهتز من خلفه خضراء» «١».
ويرى المحققون من العلماء أنه قد مات كما يموت سائر الناس. وإلى ذلك ذهب الإمام
(١) تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ٣١٩.
551
البخاري وشيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم وغيرهم.
ويرى آخرون أنه حي وسيموت في آخر الزمان.
قال ابن القيم: إن الأحاديث التي يذكر فيها أنه حي كلها كذب، ولا يصح في ذلك حديث واحد. وهذه المسألة من المسائل التي فصل العلماء الحديث عنها. فارجع إلى أقوالهم فيها إن شئت «١».
ثم حكى- سبحانه- بعد ذلك، ما دار بين موسى والخضر- عليهما السلام- بعد أن التقيا فقال- تعالى-:
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٦٦ الى ٧٠]
قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (٦٦) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٦٧) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (٦٨) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (٦٩) قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (٧٠)
أى: قال موسى للخضر- عليهما السلام- بعد أن التقيا «هل أتبعك» أى: هل تأذن لي في مصاحبتك واتباعك. بشرط أن تعلمني من العلم الذي علمك الله إياه: شيئا أسترشد به في حياتي، وأصيب به الخير في ديني.
فأنت ترى أن موسى- عليه السلام- قد راعى في مخاطبته للخضر أسمى ألوان الأدب اللائق بالأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- حيث خاطبه بصيغة الاستفهام الدالة على التلطف، وحيث أنزل نفسه منه منزلة المتعلم من المعلم، وحيث استأذنه في أن يكون تابعا له، ليتعلم منه الرشد والخير.
قال بعض العلماء: في هذه الآية دليل على أن المتعلم تبع للعالم، وإن تفاوتت المراتب،
(١) راجع ابن كثير ج ٥ ص ١٧١. والآلوسى ج ١٥ ص ٣١٩ وأضواء البيان ج ٤ ص ١٥٧.
552
ولا يظن أن في تعلم موسى من الخضر ما يدل على أن الخضر كان أفضل من موسى، فقد يأخذ الفاضل عن الفاضل، وقد يأخذ الفاضل عن المفضول، إذا اختص الله- تعالى- أحدهما بعلم لا يعلمه الآخر، فقد كان علم موسى يتعلق بالأحكام الشرعية والقضاء بظاهرها، وكان علم الخضر يتعلق ببعض الغيب ومعرفة البواطن.. «١».
ثم حكى- سبحانه- ما رد به الخضر على موسى فقال: قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً.
أى: قال الخضر لموسى إنك يا موسى إذا اتبعتنى ورافقتنى، فلن تستطيع معى صبرا، بأى وجه من الوجوه.
قال ابن كثير: أى: إنك لا تقدر يا موسى أن تصاحبني، لما ترى من الأفعال التي تخالف شريعتك، لأنى على علم من علم الله- تعالى- ما علمك إياه، وأنت على علم من علم الله- تعالى- ما علمني إياه، فكل منا مكلف بأمور من الله دون صاحبه، وأنت لا تقدر على صحبتي» «٢».
وقوله: وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً تعليل لعدم استطاعة الصبر معه.
أى: وكيف تصبر يا موسى على أمور ستراها منى. هذه الأمور ظاهرها أنها منكرات لا يصح السكوت عليها، وباطنها لا تعلمه لأن الله لم يطلعك عليه؟
فالخبر بمعنى العلم. يقال: خبر فلان الأمر يخبره: أى: علمه. والاسم الخبر، وهو العلم بالشيء، ومنه الخبير، أى: العالم.
وكأن الخضر يريد بهذه الجملة الكريمة أن يقول لموسى: إنى واثق من أنك لن تستطيع معى صبرا، لأن ما سأفعله سيصطدم بالأحكام الظاهرة، وبالمنطق العقلي، وبغيرتك المعهودة فيك، وأنا مكلف أن أفعل ما أفعل، لأن المصلحة الباطنة في ذلك، وهي تخفى عليك.
ولكن موسى- عليه السلام- الحريص على تعلم العلم النافع، يصر على مصاحبة الرجل الصالح، فيقول له في لطف وأدب، مع تقديم مشيئة الله- تعالى-: سَتَجِدُنِي- إِنْ شاءَ اللَّهُ- صابِراً، وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً.
أى: قال موسى للخضر سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً معك، غير معترض عليك، ولا أعصى لك أمرا من الأمور التي تكلفني بها.
(١) تفسير فتح البيان ج ٥ ص ٤٧٧. [.....]
(٢) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ١٧٨.
553
وقدم موسى- عليه السلام- المشيئة، أدبا مع خالقه- عز وجل- واستعانة به- سبحانه- على الصبر وعدم المخالفة.
وهنا يحكى القرآن الكريم أن الخضر، قد أكد ما سبق أن قاله لموسى، وبين له شروطه إذا أراد مصاحبته، فقال: قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً.
أى: قال الخضر لموسى على سبيل التأكيد والتوثيق: يا موسى إن رافقتنى وصاحبتنى، ورأيت منى أفعالا لا تعجبك، لأن ظاهرها يتنافى مع الحق. فلا تعترض عليها، ولا تناقشني فيها، بل اتركني وشأنى، حتى أبين لك في الوقت المناسب السبب في قيامي بتلك الأفعال، وحتى أكون أنا الذي أفسره لك.
قالوا: «وهذا من الخضر تأديب وإرشاد لما يقتضى دوام الصحبة، فلو صبر موسى ودأب لرأى العجب «١».
ثم تحكى السورة بعد ذلك ثلاثة أحداث فعلها الخضر ولكن موسى لم يصبر عليها، بل اعترض وناقش، أما الحادث الأول فقد بينه- سبحانه- بقوله:
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٧١ الى ٧٣]
فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (٧١) قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٢) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (٧٣)
وقوله: فَانْطَلَقا بيان لما حدث منهما بعد أن استمع كل واحد منهما إلى ما قاله صاحبه.
أى فانطلق موسى والخضر- عليهما السلام- على ساحل البحر، ومعهما يوشع بن نون، ولم يذكر في الآية لأنه تابع لموسى.
(١) تفسير القرطبي ج ١١ ص ١٨.
554
ويرى بعضهم أن موسى- عليه السلام- صرف فتاه بعد أن التقى بالخضر.
أخرج الشيخان عن ابن عباس: أنهما انطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرت بهما سفينة فكلموهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر فحملوهما بغير نول: أى أجر، «١».
وقوله: حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها بيان لما فعله الخضر بالسفينة.
أى: فانطلقا يبحثان عن سفينة، فلما وجداها واستقرا فيها، ما كان من الخضر إلا أن خرقها. قيل: بأن قلع لوحا من ألواحها.
وهنا ما كان من موسى إلا أن قال له على سبيل الاستنكار والتعجب مما فعله: أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها... أى: أفعلت ما فعلت لتكون عاقبة الراكبين فيها الغرق والموت بهذه الصورة المؤلمة؟
لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً، والإمر: الداهية. وأصله كل شيء شديد كبير، ومنه قولهم:
إن القوم قد أمروا. أى: كثروا واشتد شأنهم. ويقال: هذا أمر إمر، أى: منكر غريب.
أى: قال موسى للخضر بعد خرقه للسفينة: لقد جئت شيئا عظيما، وارتكبت أمرا بالغا في الشناعة. حيث عرضت ركاب السفينة لخطر الغرق.
وهنا أجابه الخضر بقوله: أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً أى: ألم أقل لك سابقا إنك لن تسطيع مصاحبتي، ولا قدرة لك على السكوت على تصرفاتي التي لا تعرف الحكمة من ورائها؟
ولكن موسى- عليه السلام- رد معتذرا لما فرط منه وقال: لا تُؤاخِذْنِي أيها العبد الصالح، بما نسيت، أى: بسبب نسياني لوصيتك في ترك السؤال والاعتراض حتى يكون لي منك البيان. وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً أى: ولا تكلفني من أمرى مشقة في صحبتي إياك.
يقال: أرهق فلان فلانا. إذا أتعبه وأثقل عليه وحمله مالا يطيقه.
والمراد: التمس لي عذرا بسبب النسيان، ولا تضيق على الأمر، فإن في هذا التضييق ما يحول بيني وبين الانتفاع بعلمك.
وكأن موسى- عليه السلام- الذي اعتزم الصبر وقدم المشيئة، ورضى بشروط الخضر في
(١) تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ٣٣٥.
555
المصاحبة.. كأنه قد نسى كل ذلك أمام المشاهدة العملية، وأمام التصرف الغريب الذي صدر من الخضر دون أن يعرف له سببا.
وهكذا الطبيعة البشرية تلتقي في أنها تجد للتجربة العملية وقعا وطعما، يختلف عن الوقع والطعم الذي تجده عند التصور النظري.
فموسى- عليه السلام- وعد الخضر بأنه سيصبر إلا أنه بعد أن شاهد مالا يرضيه اندفع مستنكرا.
أما الحادث الثاني الذي لم يستطع موسى أن يقف أمامه صامتا، فقد حكاه القرآن في قوله:
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٧٤ الى ٧٦]
فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (٧٤) قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٥) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (٧٦)
أى: فانطلق موسى والخضر للمرة الثانية بعد خروجهما من السفينة، وبعد أن قبل الخضر اعتذار موسى.
حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً في طريقهما، ما كان من الخضر إلا أن أخذه فَقَتَلَهُ.
وهنا لم يستطع موسى- عليه السلام- أن يصبر على ما رأى، أو أن يكظم غيظه، فقال باستنكار وغضب: أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً أى: طاهرة بريئة من الذنوب بِغَيْرِ نَفْسٍ.
أى: بغير أن ترتكب ما يوجب قتلها، لأنها لم تقتل غيرها حتى تقتص منها. أى: أن قتلك لهذا الغلام كان بغير حق.
لَقَدْ جِئْتَ أيها الرجل «شيئا نكرا» أى: منكرا عظيما. يقال. نكر الأمر، أى:
صعب واشتد. والمقصود: لقد جئت شيئا أشد من الأول في فظاعته واستنكار العقول له.
ومرة أخرى يذكره الخضر بالشرط الذي اشترطه عليه. وبالوعد الذي قطعه على نفسه، فيقول له: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً.
وفي هذه المرة لا يكتفى الخضر بقوله: أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ.. بل يضيف لفظ لك، زيادة في التحديد والتعيين والتذكير.
أى: ألم أقل لك أنت يا موسى لا لغيرك على سبيل التأكيد والتوثيق: إنك لن تستطيع معى صبرا، لأنك لم تحط علما بما أفعله.
ويراجع موسى نفسه. فيجد أنه قد خالف ما اتفق عليه مع الرجل الصالح مرتين، فيبادر بإخبار صاحبه أن يترك له فرصة أخيرة فيقول: إِنْ سَأَلْتُكَ أيها الصديق عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها أى: بعد هذه المرة الثانية فَلا تُصاحِبْنِي أى: فلا تجعلني صاحبا أو رفيقا لك، فإنك قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً أى: فإنك قد بلغت الغاية التي تكون معذورا بعدها في فراقي، لأنى أكون قد خالفتك مرارا.
وهذا الكلام من موسى- عليه السلام- يدلك على اعتذاره الشديد للخضر، وعلى شدة ندمه على ما فرط منه، وعلى الاعتراف له بخطئه.
قال القرطبي: كان رسول الله ﷺ إذا دعا لأحد بدأ بنفسه فقال يوما: «رحمة الله علينا وعلى موسى، لو صبر على صاحبه لرأى العجب، ولكنه قال: إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي.. «١».
ثم تسوق لنا السورة الكريمة الحادث الثالث والأخير في تلك القصة الزاخرة بالمفاجآت والعجائب فنقول:
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٧٧ الى ٧٨]
فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (٧٧) قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٧٨)
أى: فانطلق موسى والخضر- عليهما السلام- يتابعان سيرهما. حتى إذا أتيا أهل قرية قيل هي «أنطاكيه»، وقيل: هي قرية بأرض الروم.
(١) تفسير القرطبي ج ١١ ص ٢٣.
557
اسْتَطْعَما أَهْلَها والاستطعام: سؤال الطعام. والمراد به هنا سؤال الضيافة لأنه هو المناسب لمقام موسى والخضر- عليهما السلام- ولأن قوله- تعالى- بعد ذلك: فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما يشهد له.
أى: فأبى وامتنع أهل تلك القرية عن قبول ضيافتهما بخلا منهم وشحا.
وقوله- تعالى- فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ معطوف على أَتَيا أى: وبعد أن امتنع أهل القرية عن استضافتهما، تجولا فيها فَوَجَدا فِيها جِداراً أى:
بناء مرتفعا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ أى: ينهدم ويسقط فَأَقامَهُ أى الخضر بأن سواه وأعاد إليه اعتداله، أو بأن نقضه وأخذ في بنائه من جديد.
وهنا لم يتمالك موسى- عليه السلام- مشاعره، لأنه وجد نفسه أمام حالة متناقضة، قوم بخلاء أشحاء لا يستحقون العون.. ورجل يتعب نفسه في إقامة حائط مائل لهم.. هلا طلب منهم أجرا على هذا العمل الشاق، خصوصا وهما جائعان لا يجدان مأوى لهما في تلك القرية! لذا بادر موسى- عليه السلام- ليقول للخضر: لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً.
أى: هلا طلبت أجرا من هؤلاء البخلاء على هذا العمل، حتى تنتفع به. وأنت تعلم أننا جائعان وهم لم يقدموا لنا حق الضيافة.
فالجملة الكريمة تحريض من موسى للخضر على أخذ الأجر على عمله، ولوم له على ترك هذا الأجر مع أنهما في أشد الحاجة إليه.
وكان هذا التحريض من موسى للخضر- عليهما السلام- هو نهاية المرافقة والمصاحبة بينهما، ولذا قال الخضر لموسى: هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ أى: هذا الذي قلته لي، يجعلنا نفترق، لأنك قد قلت لي قبل ذلك: إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي وها أنت تسألنى وتحرضنى على أخذ الأجر.
ومع ذلك فانتظر: سأنبئك، قبل مفارقتي لك بِتَأْوِيلِ أى: بتفسير وبيان ما خفى عليك من الأمور الثلاثة التي لم تستطع عليها صبرا، لأنك لم يكن عندك ما عندي من العلم بأسرارها الباطنة التي أطلعنى الله- تعالى- عليها.
ثم حكى القرآن الكريم ما قاله الخضر لموسى عليهما السلام- في هذا الشأن فقال- تعالى-
558

[سورة الكهف (١٨) : آية ٧٩]

أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (٧٩)
أى قال الخضر لموسى: أَمَّا السَّفِينَةُ التي خرقتها ولم ترض عنه، فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ أى: لضعفاء من الناس لا يستطيعون دفع الظلم عنهم، ولم يكن لهم مال يتعيشون منه سواها، فكان الناس يركبون فيها ويدفعون لهؤلاء المساكين الأجر الذين ينتفعون به.
فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها أى: أن أجعلها ذات عيب بالخرق الذي خرقتها فيه، ولم أرد أن أغرق أهلها كما ظننت يا موسى، والسبب في ذلك: أنه كانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ، ظالم، من دأبه أن يتعقب السفن الصالحة الصحيحة، ويستولى عليها، ويأخذها اغتصابا وقسرا من أصحابها.
فهذا العيب الذي أحدثته في السفينة. كان سببا في نجاتها من يد الملك الظالم، وكان سببا في بقائها في أيدى أصحابها المساكين.
فالضرر الكبير الذي أحدثته بها، كان دفعا لضرر أكبر كان ينتظر أصحابها المساكين لو بقيت سليمة.
ويرى بعضهم أن المراد بالوراء الأمام. ويرى آخرون أن المراد به الخلف. وقال الزجاج:
وراء: يكون للخلف والأمام. ومعناه: ما توارى عنك واستتر.
وظاهر قوله- تعالى-: يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً، يفيد أن هذا الملك كان يأخذ كل سفينة سواء أكانت صحيحة أم معيبة، ولكن هذا الظاهر غير مراد. وإنما المراد: يأخذ كل سفينة سليمة. بدليل: فأردت أن أعيبها، أى: لكي لا يأخذها، ومن هنا قالوا: إن لفظ «سفينة» هنا موصوف لصفة محذوفة. أى: يأخذ كل سفينة صحيحة.
و «غصبا»، منصوب على أنه مصدر مبين لنوع الأخذ. والغصب- من باب ضرب-:
أخذ الشيء ظلما وقهرا.
ثم بين- سبحانه- ما رد به الخضر على موسى في اعتراضه على الحادثة الثانية فقال- تعالى-:

[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٨٠ الى ٨١]

وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (٨٠) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (٨١)
أى: وَأَمَّا الْغُلامُ الذي سبق لي أن قتلته، واعترضت على في قتله يا موسى فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ ولم يكن هو كذلك فقد أعلمنى الله- تعالى- أنه طبع كافرا.
فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً، والخشية: الخوف الذي يشوبه تعظيم، وأكثر ما يكون عن علم بما يخشى منه.
و «يرهقهما» من الإرهاق وهو أن يحمّل الإنسان ما لا يطيقه.
أى: فخشينا لو بقي حيا هذا الغلام أن يوقع أبويه في الطغيان والكفر، لشدة محبتهما له، وحرصهما على إرضائه.
فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ والإبدال: رفع شيء. وإحلال آخر محله.
أى: «فأردنا» بقتله «أن يبدلهما ربهما» بدل هذا الغلام الكافر الطاغي، ولدا آخر «خيرا منه» أى من هذا الغلام، زكاة «أى» طهارة وصلاحا «وأقرب رحما» أى: وأقرب في الرحمة بهما. والعطف عليهما، والطاعة لهما.
ثم ختم- سبحانه- القصة، ببيان ما قاله الخضر لموسى في تأويل الحادثة الثالثة فقال- تعالى-:
[سورة الكهف (١٨) : آية ٨٢]
وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٨٢)
560
أى: وَأَمَّا الْجِدارُ الذي أتعبت نفسي في إقامته، ولم يعجبك هذا منى.
فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ مات أبوهما وهما صغيران، وهذان الغلامان يسكنان في تلك المدينة، التي عبر عنها القرآن بالقرية سابقا في قوله: فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ.
قالوا: ولعل التعبير عنها بالمدينة هنا، لإظهار نوع اعتداد بها، باعتداد ما فيها من اليتيمين، وما هو من أهلها وهو أبوهما الصالح، «١».
وكان تحته أى تحت هذا الجدار كَنْزٌ لَهُما أى: مال مدفون من ذهب وفضة.. ولعل أباهما هو الذي دفنه لهما.
وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً أى: رجلا من أصحاب الصلاح والتقوى، فكان ذلك منه سببا في رعاية ولديه، وحفظ مالهما.
فَأَرادَ رَبُّكَ ومالك أمرك ومدير شئونك، والذي يجب عليك أن تستسلم وتنقاد لإرادته.
أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما أى: كمال رشدهما، وتمام نموهما وقوتهما.
ويستخرجا كنزهما من تحت هذا الجدار وهما قادران على حمايته، ولولا أنى أقمته لا نقض وخرج الكنز من تحته قبل اقتدارهما على حفظه وعلى حسن التصرف فيه.
رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ أى: وما أراده ربك- يا موسى- بهذين الغلامين، هو الرحمة التي ليس بعدها رحمة، والحكمة التي ليس بعدها حكمة.
فقوله «رحمة» مفعول لأجله.
ثم ينفض الخضر يده من أن يكون قد تصرف بغير أمر ربه فيقول: وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً.
أى: وما فعلت ما فعلته عن اجتهاد منى، أو عن رأيى الشخصي، وإنما فعلت ما فعلت بأمر ربي ومالك أمرى، وذلك الذي ذكرته لك من تأويل تلك الأحداث هو الذي لم تستطع عليه صبرا، ولم تطق السكوت عليه، لأنك لم يطلعك الله- تعالى- على خفايا تلك الأمور وبواطنها.. كما أطلعنى.
وحذفت التاء من تَسْطِعْ تخفيفا. يقال: استطاع فلان هذا الشيء واستطاعه بمعنى أطاقه وقدر عليه.
(١) تفسير الآلوسى ج ١٦ ص ١٢.
561
وبذلك انكشف المستور لموسى عليه السلام- وظهر ما كان خافيا عليه.
هذا، وقد ساق الإمام ابن كثير عند تفسيره لآيات تلك القصة جملة من الأحاديث، منها ما رواه الشيخان، ومنها ما رواه غيرهما، ونكتفي هنا بذكر حديث واحد.
قال- رحمه الله- قال البخاري: حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، حدثنا عمرو بن دينار، أخبرنى سعيد بن جبير قال. قلت لابن عباس: إن نوفا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى نبي بنى إسرائيل.
قال ابن عباس: كذب عدو الله، حدثنا أبى بن كعب أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: «إن موسى قام خطيبا في بنى إسرائيل، فسئل أى الناس أعلم؟ فقال: أنا. فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه. فأوحى الله إليه: إن عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك. فقال موسى: يا رب، وكيف لي به؟
قال: تأخذ معك حوتا، تجعله بمكتل، فحيثما فقدت الحوت فهو ثم»
.
فأخذ حوتا، فجعله في مكتل، ثم انطلق وانطلق معه بفتاه يوشع بن نون. حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رءوسهما فناما، واضطرب الحوت في المكتل، فخرج منه فسقط في البحر، واتخذ سبيله في البحر سربا، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء، فصار عليه مثل الطاق.
فلما استيقظ نسى صاحبه أن يخبره بالحوت.
فانطلقا بقية يومهما وليلتهما، فلما كان الغد قال موسى لفتاه: آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمره الله به.
قال له فتاه: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ، وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً. قال: فكان للحوت سربا ولموسى وفتاه عجبا.
فقال موسى: ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً.
قال: فرجعا يقصان أثرهما، حتى انتهيا إلى الصخرة، فإذا رجل مسجى- أى مغطى- بثوب، - فسلم عليه موسى، فقال الخضر: وأنى بأرضك السلام.
قال: أنا موسى: قال: موسى نبي إسرائيل قال: نعم، أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا.
قال: إنك لن تستطيع معى صبرا.
يا موسى: إنى على علم من علم الله علمنيه، لا تعلمه أنت، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه.
562
قال موسى: ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصى لك أمرا. قال الخضر فإن اتبعتنى فلا تسألنى عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا.
فانطلقا يمشيان، فمرت سفينة فكلمهم أن يحملوه، فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نول- أى بغير أجر- فلما ركبا في السفينة، لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقدوم.
فقال له موسى: قد حملونا بغير نول، فعمدت إلى سفينتهم فخرقتها، لتغرق أهلها، لقد جئت شيئا إمرا.
قال له الخضر: ألم أقل إنك لن تستطيع معى صبرا. قال: لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمرى عسرا.
قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت الأولى من موسى نسيانا، قال: وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة. فنقر في البحر نقرة. فقال له الخضر: ما علمي وعلمك في علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من البحر.
ثم خرجا من السفينة، فبينما هما يمشيان على الساحل، إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه فاقتلعه بيده فقتله- فقال له موسى: أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً قال: ألم أقل لك إنك لن تستطيع معى صبرا.
قال: وهذه أشد من الأولى. قال: إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي.
فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ. قالَ: لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً. قالَ: هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وددنا أن موسى كان قد صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما» «١».
وقد أخذ العلماء من هذه القصة أحكاما وآدابا من أهمها ما يأتى:
١- أن الإنسان مهما أوتى من العلم، فعليه أن يطلب المزيد، وأن لا يعجب بعلمه، فالله- تعالى- يقول: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا وطلب من نبيه ﷺ أن يتضرع إليه بطلب الزيادة من العلم فقال: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً.
(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٥ ص ١٧٢ طبعة دار الشعب.
563
٢- أن الرحلة في طلب العلم من صفات العقلاء. فموسى- عليه السلام- وهو من أولى العزم من الرسل، تجشم المشاق والمتاعب لكي يلتقى بالرجل الصالح لينتفع بعلمه، وصمم على ذلك مهما كانت العقبات بدليل قوله- تعالى- حكاية عنه: لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً.
قال القرطبي عند تفسيره لهذه الآية: في هذا من الفقه رحلة العالم في طلب الازدياد من العلم، والاستعانة على ذلك بالخادم والصاحب واغتنام لقاء الفضلاء والعلماء وإن بعدت أقطارهم. وذلك كان دأب السلف الصالح، وبسبب ذلك وصل المرتحلون لطلب العلم إلى الحظ الراجح: وحصلوا على السعى الناجح، فرسخت لهم في العلوم أقدام. وصح لهم من الذكر والأجر والفضل أفضل الأقسام.
قال البخاري: ورحل جابر بن عبد الله مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس في طلب حديث «١».
٣- جواز إخبار الإنسان عما هو من مقتضى الطبيعة البشرية، كالجوع والعطش والتعب والنسيان فقد قال موسى لفتاه: آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً ورد عليه فتاه بقوله: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ...
وفي هذا الرد- أيضا- من الأدب ما فيه، فقد نسب سبب النسيان إلى الشيطان، وإن كان الكل بقضاء الله- تعالى- وقدره.
٤- أن العلم على قسمين: علم مكتسب يدركه الإنسان باجتهاده وتحصيله.. بعد عون الله تعالى- له. وعلم لدنى يهبه الله- سبحانه- لمن يشاء من عباده فقد قال- تعالى- في شأن الخضر وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً أى: علما خاصا أطلعه الله عليه يشمل بعض الأمور الغيبية.
٥- أن على المتعلم أن يخفض جناحه للمعلم، وأن يخاطبه بأرق العبارات وألطفها، حتى يحصل على ما عنده من علم بسرور وارتياح.
قال بعض العلماء ما ملخصه: وتأمل ما حكاه الله عن موسى في قوله للخضر: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً فقد أخرج الكلام بصورة الملاطفة والمشاورة، فكأنه يقول له: هل تأذن لي في ذلك أولا، مع إقراره بأنه يتعلم منه، بخلاف ما عليه أهل الجفاء أو
(١) تفسير القرطبي ج ١١ ص ١١.
564
الكبر، الذي لا يظهر للمعلم افتقاره إلى علمه.. «١».
٦- أنه لا بأس على العالم، إذا اعتذر للمتعلم عن تعليمه، لأن المتعلم لا يطيق ذلك، لجهله بالأسباب التي حملت العالم على فعل تلك الأمور التي ظاهرها يخالف الحق والعدل والمنطق العقلي، وأن معرفة الأسباب تعين على الصبر.
فقد قال الخضر لموسى: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً فقد جعل الموجب لعدم صبره عدم إحاطته خبرا بالأمر.
٧- إن من علامات الإيمان القوى، أن يقدم الإنسان المشيئة عند الإقدام على الأعمال، وأن العزم على فعل الشيء ليس بمنزلة فعله، فقد قال موسى للخضر: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً ومع ذلك فعند ما رأى منه أفعالا يخالف ظاهرها الحق والصلاح، لم يصبر.
وأنه لا بأس على العالم أن يشترط على المتعلم أمورا معينة قبل أن يبدأ في تعليمه.
فقد قال الخضر لموسى: فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً.
٨- أنه يجوز دفع الضرر الأكبر بارتكاب الضرر الأصغر، فإن خرق السفينة فيه ضرر ولكنه أقل من أخذ الملك لها غصبا، وإن قتل الغلام شر، ولكنه أقل من الشر الذي سيترتب على بقائه. وهو إرهاقه لأبويه، وحملهما على الكفر.
كما يجوز للإنسان أن يعمل عملا في ملك غيره بدون إذنه بشرط أن يكون هذا العمل فيه مصلحة لذلك الغير كأن يرى حريقا في دار إنسان فيقدم على إطفائه بدون إذنه. ويدفع ضرر الحريق بضرر أقل منه، فقد خرق الخضر السفينة، لكي تبقى لأصحابها المساكين.
٩- أن التأنى في الأحكام. والتثبت من الأمور، ومحاولة معرفة العلل والأسباب كل ذلك يؤدى إلى صحة الحكم، وإلى سلامة القول والعمل.
وصدق رسول الله ﷺ حيث يقول: «رحمة الله علينا وعلى موسى، لو صبر على صاحبه لرأى العجب».
١٠- أن من دأب العقلاء الصالحين. استعمال الأدب مع الله- تعالى- في التعبير، فالخضر قد أضاف خرقه للسفينة إلى نفسه فقال: «فأردت أن أعيبها..» وأضاف الخير الذي
(١) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ج ٥ ص ٢٣ للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي.
565
فعله من أجل الغلامين اليتيمين إلى الله فقال: فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ:
وشبيه بهذا ما حكاه الله- تعالى- عن صالحي الجن في قولهم: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ، أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً.
١١- قال القرطبي: قوله- تعالى- يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ أى: قرب أن يسقط. وهذا مجاز وتوسع.
وقد فسره في الحديث بقوله «مائل» فكان فيه دليل على وجود المجاز في القرآن، وهو مذهب الجمهور.
وجميع الأفعال التي حقها أن تكون للحي الناطق إذا أسندت إلى جماد أو بهيمة، فإنما هي استعارة.
أى: لو كان مكانها إنسان لكان ممتثلا لذلك الفعل، وهذا في كلام العرب وأشعارهم كثير، كقول الأعشى:
أتنهون ولا ينهى ذوى شطط كالطّعن يذهب فيه الزيت والفتل
والشطط: الجور والظلم، يقول: لا ينهى الظالم عن ظلمه إلا الطعن العميق الذي يغيب فيه الفتل- فأضاف النهى إلى الطعن.
وذهب قوم إلى منع المجاز في القرآن فإن كلام الله عز وجل- وكلام رسوله ﷺ حمله على الحقيقة أولى بذي الفضل والدين، لأنه يقص الحق كما أخبر الله- تعالى- في كتابه.. «١».
وقد صرح صاحب أضواء البيان أنه لا مجاز في القرآن فقال ما ملخصه: قوله- تعالى-: فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ.
هذه الآية من أكبر الأدلة التي يستدل بها القائلون: بأن المجاز في القرآن، زاعمين أن إرادة الجدار الانقضاض لا يمكن أن تكون حقيقة وإنما هي مجاز.
وقد دلت آيات من كتاب الله على أنه لا مانع من أن تكون إرادة الجدار حقيقة، لأن الله- تعالى- يعلم للجمادات إرادات وأفعالا وأقوالا لا يدركها الخلق، كما صرح- تعالى- بأنه يعلم من ذلك مالا يعلمه خلقه في قوله- سبحانه- وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ...
(١) راجع تفسير القرطبي ج ١١ ص ٢٥.
566
فصرح بأننا لا نفقه تسبيحهم، وتسبيحهم واقع عن إرادة لهم يعلمها- سبحانه- ونحن لا نعلمها.
ومن الأحاديث الدالة على ذلك ما ثبت في صحيح مسلم أن النبي ﷺ قال: «إنى لأعرف حجرا كان يسلم على بمكة». وما ثبت في صحيح البخاري من حنين الجذع الذي كان يخطب عليه ﷺ حزنا لفراقه.
فتسليم ذلك الحجر، وحنين ذلك الجزع، كلاهما بإرادة وإدراك يعلمه الله ونحن لا نعلمه.. «١».
١٢- أن صلاح الآباء ينفع الأبناء. بدليل قوله- تعالى-: وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً.
قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية: فيه دليل على أن الرجل الصالح يحفظ في ذريته وتشمل بركة عبادته ما ينفعهم في الدنيا والآخرة، بشفاعته فيهم، ورفع درجتهم إلى أعلى درجة في الجنة لتقر عينه بهم، كما جاء في القرآن ووردت السنة به.
قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: حفظا بصلاح أبيهما.
١٣- أن على الصاحب أن لا يفارق صاحبه حتى يبين له الأسباب التي حملته على ذلك، فأنت ترى أن الخضر قد قال لموسى: «هذا فراق بيني وبينك، سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا» «٢» أى: قبل مفارقتي لك سأخبرك عن الأسباب التي حملتني على فعل ما فعلت مما لم تستطع معه صبرا.
ويفهم من ذلك أن موافقة الصاحب لصاحبه- في غير معصية الله- تعالى- على رأس الأسباب التي تعين على دوام الصحبة وتقويتها، كما أن عدم الموافقة، وكثرة المخالفة، تؤدى إلى المقاطعة.
كما يفهم من ذلك- أيضا- أن المناقشة والمحاورة متى كان الغرض منها الوصول إلى الحق، وإلى المزيد من العلم، وكانت بأسلوب مهذب، وبنية طيبة، لا تؤثر في دوام المحبة والصداقة، بل تزيدهما قوة وشدة.
نسأل الله- تعالى- أن يؤدبنا بأدبه، وأن يجعل القرآن ربيع قلوبنا، وأنس نفوسنا.
ثم ساق- سبحانه- قصة ذي القرنين، وهي القصة الرابعة والأخيرة في السورة فقد سبقتها قصة أصحاب الكهف. وقصة صاحب الجنتين وقصة موسى والخضر.
(١) راجع أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن ج ٤ ص ١٧٨.
(٢) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ١٨٣.
567
استمع إلى القرآن الكريم وهو يقص علينا بأسلوبه البليغ المؤثر خبر ذي القرنين فيقول:
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٨٣ الى ٩٨]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (٨٣) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (٨٤) فَأَتْبَعَ سَبَباً (٨٥) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (٨٦) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (٨٧)
وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (٨٨) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٨٩) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (٩٠) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (٩١) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٩٢)
حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (٩٣) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (٩٤) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (٩٥) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (٩٦) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (٩٧)
قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (٩٨)
568
وقوله- سبحانه-: وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ.. معطوف على قصة موسى والخضر- عليهما السلام- عطف القصة على القصة.
قال البقاعي: كانت قصة موسى مع الخضر مشتملة على الرحلات من أجل العلم، وكانت قصة ذي القرنين مشتملة على الرحلات من أجل الجهاد في سبيل الله، ولما كان العلم أساس الجهاد تقدمت قصة موسى والخضر على قصة ذي القرنين.. «١».
والسائلون هم كفار قريش بتلقين من اليهود، فقد سبق أن ذكرنا عند تفسيرنا لقصة أصحاب الكهف. أن اليهود قالوا لوفد قريش: سلوه- أى الرسول ﷺ عن ثلاث نأمركم بهن.. سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ماذا كان من أمرهم.. وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها.. وسلوه عن الروح.
وجاء التعبير بصيغة المضارع- مع أن الآيات نزلت بعد سؤالهم- لاستحضار الصورة الماضية، أو للدلالة على أنهم استمروا في لجاجهم إلى أن نزلت الآيات التي ترد عليهم.
أما ذو القرنين، فقد اختلفت في شأنه أقوال المفسرين اختلافا كبيرا، لعل أقربها إلى الصواب ما أشار إليه الآلوسى بقوله: وذكر أبو الريحان البيروني في كتابه المسمى «بالآثار الباقية عن القرون الخالية»، أن ذا القرنين هو أبو كريب الحميرى، وهو الذي: افتخر به تبع اليمنى حيث قال:
قد كان ذو القرنين جدي مسلما ملكا علا في الأرض غير مفند
بلغ المغارب والمشارق يبتغى أسباب ملك من حكيم مرشد
ثم قال أبو الريحان: ويشبه أن يكون هذا القول أقرب، لأن ملوك اليمن كانوا يلقبون بكلمة ذي. كذي نواس، وذي يزن. إلخ. «٢».
(١) نظم الدرر للبقاعى ج ١٢ ص ١٢٨.
(٢) تفسير الآلوسى ج ١٦ ص ٢٧.
569
ومن المقطوع به أن ذا القرنين هذا: ليس هو الإسكندر المقدونى الملقب بذي القرنين.
تلميذ أرسطو، فإن الإسكندر هذا كان وثنيا.. بخلاف ذي القرنين الذي تحدث عنه القرآن، فإنه كان مؤمنا بالله- تعالى- ومعتقدا بصحة البعث والحساب.
والرأى الراجح أنه كان عبدا صالحا، ولم يكن نبيا.
ويرى بعضهم أنه كان بعد موسى- عليه السلام-، ويرى آخرون غير ذلك ومن المعروف أن القرآن الكريم يهتم في قصصه ببيان العبر والعظات المستفادة من القصة، لا ببيان الزمان أو المكان للأشخاص.
وسمى بذي القرنين- على الراجح- لبلوغه في فتوحاته قرني الشمس من أقصى المشرق والمغرب.
والمعنى: ويسألك قومك- يا محمد- عن خبر ذي القرنين وشأنه.
«قل» لهم- على سبيل التعليم والرد على تحديهم لك. «سأتلو عليكم منه ذكرا».
والضمير في «منه» يعود على ذي القرنين و «من» للتبعيض.
أى: قل لهم: سأتلو عليكم من خبره- وسأقص عليكم من أنبائه عن طريق هذا القرآن الذي أوحاه الله إلى ما يفيدكم ويكون فيه ذكرى وعبرة لكم إن كنتم تعقلون.
ثم بين- سبحانه- ما أعطاه الله لذي القرنين من نعم فقال: إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً. فَأَتْبَعَ سَبَباً.
وقوله: «مكنا» من التمكين بمعنى إعطائه الوسائل التي جعلته صاحب نفوذ وسلطان في أقطار الأرض المختلفة. والمفعول محذوف، أى: إنا مكنا له أمره من التصرف فيها كيف يشاء. بأن أعطيناه سلطانا وطيد الدعائم، وآتيناه من كل شيء أراده في دنياه لتقوية ملكه «سببا» أى سبيلا وطريقا يوصله إلى مقصوده، كآلات السير، وكثرة الجند، ووسائل البناء والعمران.
وهذه الأسباب التي أعطاها الله إياه، لم يرد حديث صحيح بتفصيلها، فعلينا أن نؤمن بأن الله- تعالى- قد أعطاه وسائل عظيمة لتدعيم، ملكه، دون أن نلتفت إلى ما ذكره هنا بعض المفسرين من إسرائيليات لا قيمة لها.
والفاء في قوله فَأَتْبَعَ سَبَباً فصيحة. أى: فأراد أن يزيد في تدعيم ملكه، فسلك طريقا لكي يوصله إلى المكان الذي تغرب فيه الشمس.
570
حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ أى حتى إذا وصل إلى منتهى الأرض المعمورة في زمنه من جهة المغرب.
وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ أى: رآها في نظره عند غروبها، كأنها تغرب في عين مظلمة، وإن لم تكن هي في الحقيقة كذلك.
وهذا هو المعتاد لمن كان بينه وبين أفق الشمس ماء فإنه يراها كأنها تشرق منه وتغرب فيه، كما أن الذي يكون في أرض ملساء واسعة، يراها كأنها تطلع من الأرض وتغيب فيها.
وحمئة: أى: ذات حمأة وهي الطين الأسود. يقال: حمأت البئر تحمأ حمأ، إذا صارت فيها الحمأة وهي الطينة السوداء.
وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي: «وجدها نغرب في عين حامية» أى: حارة. اسم فاعل من حمى يحمى حميا.
وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً أى: ووجد عند تلك العين على ساحل البحر قوما.
الظاهر أن هؤلاء القوم كانوا من أهل الفترة، فدعاهم ذو القرنين إلى عبادة الله- تعالى- وحده، فيهم من آمن وفيهم من كفر، فخيره الله- تعالى- فيهم فقال: قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً.
أى: قال الله- تعالى- له عن طريق الإلهام، أو على لسان ملك أخبره بذلك: يا ذا القرنين إما أن تعذب هؤلاء القوم الكافرين أو الفاسقين بالقتل أو غيره، وإما أن تتخذ فيهم أمرا ذا حسن، أو أمرا حسنا، تقتضيه المصلحة والسياسة الشرعية.
ثم حكى الله- تعالى- عنه في الجواب ما يدل على سلامة تفكيره، فقال: قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ.. أى: قال ذو القرنين في الرد على تخيير ربه له في شأن هؤلاء القوم، يا رب: أما من ظلم نفسه بالإصرار على الكفر والفسوق والعصيان «فسوف نعذبه» في هذه الدنيا بالقتل وما يشبهه. ثم يرد هذا الظالم نفسه إلى ربه- سبحانه- فيعذبه في الآخرة عذابا «نكرا» أى: عذابا فظيعا عظيما منكرا وهو عذاب جهنم.
«وأما من آمن وعمل عملا صالحا» يقتضيه إيمانه «فله» في الدارين «جزاء الحسنى» أى: فله المثوبة الحسنى، أو الفعلة الحسنى وهي الجنة.
«وسنقول له» أى لمن آمن وعمل صالحا «من أمرنا» أى مما نأمره به قولا «يسرا» لا صعوبة فيه ولا مشقة ولا عسر.
571
فأنت ترى أن ذا القرنين قد رد بما يدل على أنه قد اتبع في حكمه الطريق القويم، والأسلوب الحكيم، الذي يدل على قوة الإيمان، وصدق اليقين، وطهارة النفس.
إنه بالنسبة للظالمين، يعذب، ويقتص، ويرهب النفوس المنحرفة، حتى تعود إلى رشدها، وتقف عند حدودها.
وبالنسبة للمؤمنين الصالحين، يقابل إحسانهم بإحسان وصلاحهم بصلاح واستقامتهم بالتكريم والقول الطيب، والجزاء الحسن.
وهكذا الحاكم الصالح في كل زمان ومكان: الظالمون والمعتدون.. يجدون منه كل شدة تردعهم وتزجرهم وتوقفهم عند حدودهم.
والمؤمنون والمصلحون يجدون منه كل تكريم وإحسان واحترام وقول طيب.
وقوله: ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً بيان لما فعله بعد أن بلغ مغرب الشمس.
أى: وبعد أن بلغ مغرب الشمس، ونال مقصده، كر راجعا من جهة غروب الشمس إلى جهة شروقها.
حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ أى: حتى إذا كر راجعا وبلغ منتهى الأرض المعمورة في زمنه من جهة المشرق.
وَجَدَها أى الشمس تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً أى: لم نجعل لهم من دون الشمس ما يستترون به من البناء أو اللباس، فهم قوم عراة يسكنون الأسراب والكهوف في نهاية المعمورة من جهة المشرق.
وقوله: كَذلِكَ خبر لمبتدأ محذوف، أى: أمر ذي القرنين كذلك من حيث إنه آتاه الله من كل شيء سببا، فبلغ ملك مشارق الأرض ومغاربها.
وقوله وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً بيان لشمول علم الله- تعالى- بأحوال ذي القرنين الظاهرة والباطنة ولأحوال غيره.
أى: كذلك كان شأن ذي القرنين. وقد أحطنا إحاطة تامة وعلمنا علما لا يعزب عنه شيء، بما كان لدى ذي القرنين من جنود وقوة وآلات... وغير ذلك من أسباب الملك والسلطان.
وقوله- سبحانه-: ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً بيان لما فعله بعد أن بلغ مغرب الشمس ومشرقها.
أى: ثم بعد أن بلغ مغرب الشمس ومشرقها... سار في طريق ثالث معترض بين المشرق والمغرب، آخذا فيه حَتَّى إِذا بَلَغَ في مسيره ذلك بَيْنَ السَّدَّيْنِ أى: الجبلين، وسمى الجبل سدا، لأنه سد فجا من الأرض.
572
قالوا: والسدان هما جبلان من جهة أرمينية وأذربيجان، وقيل هما في نهاية أرض الترك مما يلي المشرق:
وَجَدَ مِنْ دُونِهِما أى: من دون السدين ومن ورائهما قَوْماً أى: أمة من الناس لغتهم لا تكاد تعرف لبعدهم عن بقية الناس، ولذا قال- سبحانه-.
لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا أى: لا يكاد هؤلاء القوم يفهمون أو يقرءون ما يقوله الناس لهم، لغرابة لغتهم وقلة فطنتهم، ولا يعرف الناس- أيضا- ما يقوله هؤلاء القوم لهم، لشدة عجمتهم.
قالُوا أى: هؤلاء القوم لذي القرنين: يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ.
ويأجوج ومأجوج اسمان أعجميان، قيل: مأخوذان من الأوجة وهي الاختلاط أو شدة الحر: وقيل: من الأوج وهو سرعة الجري.
واختلف في نسبهم، فقيل: هم من ولد يافث بن نوح والترك منهم. وقيل: يأجوج من الترك، ومأجوج من الديلم.
أى: قال هؤلاء القوم- الذين لا يكادون يفقهون قولا- لذي القرنين، بعد أن توسموا فيه القوة والصلاح.. يا ذا القرنين إن قبيلة يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض بشتى أنواع الفساد والنهب والسلب.
وفي الصحيحين من حديث زينب بنت جحش- رضى الله عنها- قالت: استيقظ رسول الله ﷺ من نومه وهو محمر وجهه وهو يقول: «لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلق- بين أصابعه- قلت:
يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث»
.
وقوله- تعالى- فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا حكاية لما عرضه هؤلاء القوم على ذي القرنين من عروض تدل على ثقتهم فيه وحسن أدبهم معه، حيث خاطبوه بصيغة الاستفهام الدالة على أنهم يفوضون الأمر إليه.
والخرج: اسم لما يخرجه الإنسان من ماله لغيره. وقرأ حمزة والكسائي خراجا: وهما بمعنى واحد، وقيل الخرجة: الجزية. والخراج: اسم لما يخرجه عن الأرض.
أى: فهل نجعل لك مقدارا كبيرا من أموالنا على سبيل الأجر، لكي تقيم بيننا وبين قبيلة يأجوج ومأجوج سدا يمنعهم من الوصول إلينا. ويحول بيننا وبينهم؟
573
وهنا يرد عليهم ذو القرنين- كما حكى القرآن عنه بما يدل على قوة إيمانه وحرصه على إحقاق الحق وإبطال الباطل. فيقول قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ....
أى: قال ذو القرنين لهؤلاء القوم الذين لا يكادون يفقهون قولا: إن ما بسطه الله- تعالى- لي من الرزق والمال والقوة.. خير من خرجكم ومالكم الذي تريدون أن تجعلوه لي في إقامة السد بينكم وبين يأجوج ومأجوج، فوفروا عليكم أموالكم، وقفو إلى جانبي فَأَعِينُونِي بسواعدكم وبآلات البناء بِقُوَّةٍ أى: بكل ما أتقوى به على المقصود وهو بناء السد، لكي أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وبين يأجوج ومأجوج «ردما».
أى: حاجزا حصينا. وجدارا متينا، يحول بينكم وبينهم.
والردم: الشيء الذي يوضع بعضه فوق بعض حتى يتصل ويتلاصق. يقال: ثوب مردم، أى: فيه رقاع فوق رقاع. وسحاب مردم، أى: متكاتف بعضه فوق بعض. ويقال: ردمت الحفرة، إذا وضعت فيها من الحجارة والتراب وغيرهما ما يسويها بالأرض.
قال ابن عباس: الردم أشد الحجاب.
وجملة أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً جواب الأمر في قوله: فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ.
ثم شرع في تنفيذ ما راموه منه من عون فقال لهم: آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ...
والزبر- كالغرف- جمع زبره- كغرفة- وهي القطعة الكبيرة من الحديد وأصل الزبر.
الاجتماع ومنه زبرة الأسد لما اجتمع من الشعر على كاهله. ويقال: زبرت الكتاب أى كتبته وجمعت حروفه.
أى: أحضروا لي الكثير من قطع الحديد الكبيرة، فأحضروا له ما أراد حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ أى بين جانبي الجبلين. وسمى كل واحد من الجانبين صدفا. لكونه مصادفا ومقابلا ومحاذيا للآخر، مأخوذ من قولهم صادفت الرجل: أى: قابلته ولاقيته، ولذا لا يقال للمفرد صدف حتى يصادفه الآخر، فهو من الأسماء المتضايفة كالشفع والزوج.
وقوله: قالَ انْفُخُوا أى النار على هذه القطع الكبيرة من الحديد الموضوع بين الصدفين.
وقوله: حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً أى: حتى إذا صارت قطع الحديد الكبيرة كالنار في احمرارها وشدة توهجها قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً أى: نحاسا أو رصاصا مذابا، وسمى بذلك لأنه إذا أذيب صار يقطر كما يقطر الماء.
أى: قال لهم أحضروا لي قطع الحديد الكبيرة، فلما أحضروها له، أخذ يبنى شيئا فشيئا
574
حتى إذا ساوى بين جانبي الجبلين بقطع الحديد، قال لهم: أوقدوا النار وانفخوا فيها بالكيران وما يشبهها لتسخين هذه القطع من الحديد وتليينها، ففعلوا ما أمرهم به، حتى صارت تلك القطع تشبه النار في حرارتها وهيئتها، قال أحضروا لي نحاسا مذابا، لكي أفرغه على تلك القطع من الحديد لتزداد صلابة ومتانة وقوة.
وبذلك يكون ذو القرنين قد لبى دعوة أولئك القوم في بناء السد. وبناه لهم بطريقة محكمة سليمة، اهتدى بها العقلاء في تقوية الحديد والمبانى في العصر الحديث.
وكان الداعي له لهذا العمل الضخم، الحيلولة بين هؤلاء القوم، وبين يأجوج ومأجوج الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون.
ولقد أخبر القرآن الكريم بأن ذا القرنين بهذا العمل جعل يأجوج ومأجوج يقفون عاجزين أمام هذا السد الضخم المحكم فقال: فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ، وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً.
أى: فما استطاع قوم يأجوج ومأجوج أن يرتفعوا على ظهر السد، أو يرقوا فوقه لملاسته وارتفاعه، وما استطاعوا- أيضا- أن يحدثوا فيه نقبا أو خرقا لصلابته ومتانته وثخانته.
ووقف ذو القرنين أمام هذا العمل العظيم، مظهرا الشكر لله- تعالى-، والعجز أمام قدرته- عز وجل- شأن الحكام الصادقين في إيمانهم، الشاكرين لخالقهم توفيقه إياهم لكل خير.
وقف ليقول بكل تواضع وخضوع لخالقه..: هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي.
أى: هذا الذي فعلته من بناء السد وغيره، أثر من آثار رحمة ربي التي وسعت كل شيء.
فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي الذي حدده لفناء هذه الدنيا ونهايتها، أو الذي حدده لخروجهم منه جَعَلَهُ دَكَّاءَ أى: جعل هذا السد أرضا مستوية، وصيره مدكوكا أى: بمساواة الأرض. ومنه قولهم: ناقة دكاء أى: لا سنام لها.
وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا أى: وكان كل ما وعد الله- تعالى- به عباده من ثواب وعقاب وغيرهما، وعدا حقا لا يتخلف ولا يتبدل، كما قال- سبحانه-: وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ.
وبذلك نرى في قصة ذي القرنين ما نرى من الدروس والعبر والعظات، التي من أبرزها.
أن التمكين في الأرض نعمة يهبها الله لمن يشاء من عباده. وأن السير في الأرض لإحقاق الحق وإبطال الباطل من صفات المؤمنين الصادقين، وأن الحاكم العادل من صفاته: ردع الظالمين عن ظلمهم، والإحسان إلى المستقيمين المقسطين، والعمل على ما يجعلهم يزدادون استقامة
575
وفضلا، وأن من معالم الخلق الكريم، أن يعين الإنسان المحتاج إلى عونه، وأن يقدم له ما يصونه عن الوقوع تحت وطأة الظالمين المفسدين، وأن من الأفضل أن يحتسب ذلك عند الله- تعالى-. وألا يطلب من المحتاج إلى عونه أكثر من طاقته.
كما أن من أبرز صفات المؤمنين الصادقين: أنهم ينسبون كل فضل إلى الله- تعالى- وإلى قدرته النافذة، وأنهم يزدادون شكرا وحمدا له- تعالى- كلما زادهم من فضله، وما أجمل وأحكم أن تختتم قصة ذي القرنين بقوله- تعالى-: قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي، فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا.
ثم تسوق السورة الكريمة بعد قصة ذي القرنين آيات تذكر الناس بأهوال يوم القيامة، لعلهم يتوبون ويتذكرون.
استمع إلى السورة الكريمة وهي تصور ذلك فتقول:
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٩٩ الى ١٠٢]
وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (٩٩) وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (١٠٠) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (١٠١) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (١٠٢)
وقوله: وَتَرَكْنا بمعنى جعلنا وصيرنا، والضمير المضاف في قوله «بعضهم» يعود إلى يأجوج ومأجوج، والمراد «بيومئذ» : يوم تمام بناء السد الذي بناه ذو القرنين.
وقوله- سبحانه- يَمُوجُ من الموج بمعنى الاضطراب والاختلاط يقال: ماج البحر إذا اضطرب موجه وهاج واختلط. ويقال: ماج القوم إذا اختلط بعضهم ببعض وتزاحموا حائرين فزعين.
والمعنى وجعلنا وصيرنا بمقتضى حكمتنا وإرادتنا وقدرتنا، قبائل يأجوج ومأجوج يموج
576
بعضهم في بعض. أى: يتزاحمون ويضطربون من شدة الحيرة لأنهم بعد بناء السد، صاروا لا يجدون مكانا ينفذون منه إلى ما يريدون النفاذ إليه، فهم خلفه في اضطراب وهرج.
ويجوز أن يكون المراد بيومئذ: يوم مجيء الوعد بخروجهم وانتشارهم في الأرض، وهذا الوعد قد صرحت به الآية السابقة في قوله- تعالى- فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا.
فيكون المعنى: وتركنا قبائل يأجوج ومأجوج، يوم جاء وعد الله بجعل السد مدكوكا ومتساويا مع الأرض، يموج بعضهم في بعض، بعد أن خرجوا منتشرين في الأرض، وقد تزاحموا وتكاثروا واختلط بعضهم ببعض.
قال الفخر الرازي: اعلم أن الضمير في قوله «بعضهم» يعود إلى يأجوج ومأجوج.
وقوله: (يومئذ) فيه وجوه:
الأول: أن يوم السد ماج بعضهم في بعض خلفه لما منعوا من الخروج.
الثاني: أنه عند الخروج يموج بعضهم في بعض. قيل: إنهم حين يخرجون من وراء السد يموجون مزدحمين في البلاد.
الثالث: أن المراد من قوله (يومئذ) يوم القيامة.
وكل ذلك محتمل، إلا أن الأقرب أن المراد به: الوقت الذي جعل الله فيه السد دكا فعنده ماج بعضهم ونفخ في الصور، وصار ذلك من آيات القيامة» «١».
وقال القرطبي: قوله- تعالى-: وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ الضمير في تَرَكْنا لله- تعالى- أى: تركنا الجن والإنس يوم القيامة يموج بعضهم في بعض.
وقيل: تركنا يأجوج ومأجوج «يومئذ» أى: يوم كمال السد يموج بعضهم في بعض، واستعارة الموج لهم عبارة عن الحيرة وتردد بعضهم في بعض.
وقيل: تركنا يأجوج ومأجوج يوم انفتاح السدّ يموجون في الدنيا مختلطين لكثرتهم. فهذه أقوال ثلاثة: أظهرها أوسطها وأبعدها آخرها. وحسن الأول، لأنه تقدم ذكر القيامة في تأويل قوله- تعالى- فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي «٢».
وقوله- سبحانه- وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً بيان لعلامة من علامات قيام الساعة.
(١) تفسير الفخر الرازي ج ٢١ ص ١٧٢. [.....]
(٢) تفسير القرطبي ج ١١ ص ٦٥.
577
والنفخ لغة: إخراج النفس من الفم لإحداث صوت معين. والصور: القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل- عليه السلام- نفخة الصعق والموت، ونفخة البعث والنشور، كما قال- تعالى-: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ، ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ «١».
والمعنى: وتركنا يأجوج ومأجوج يموج بعضهم في بعض. وأمرنا إسرافيل بالنفخ في الصور، فجمعناهم وجميع الخلائق جمعا تاما، دون أن نترك أحدا من الخلائق بدون إعادة إلى الحياة، بل الكل مجموعون ليوم عظيم هو يوم البعث والحساب.
والمراد بالنفخ هنا: النفخة الثانية التي يقوم الناس بعدها من قبورهم للحساب، كما أشارت إلى ذلك آية سورة الزمر السابقة.
وفي التعبير بقوله: فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً. أى: جمعناهم جمعا تاما كاملا لا يشذ عنه أحد، ولا يفلت منه مخلوق، كما قال- سبحانه-: قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ. إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ.
هذا، وهنا مسألة تكلم عنها العلماء، وهي وقت خروج يأجوج ومأجوج.
فمنهم من يرى أنه لا مانع من أن يكونوا قد خرجوا، بدليل ما جاء في الحديث الصحيح من أن الرسول ﷺ قال: ويل للعرب من شر قد اقترب. فتح اليوم من سد يأجوج ومأجوج مثل هذا، وحلق أى بين أصابعه.
ولأن الآيات الكريمة تقول: فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ.. ووعد الله لا مانع من أن يكون قد أتى.
قال الشيخ القاسمى: والغالب أن المراد بخروجهم هذا خروج المغول التتار. وهم من نسل يأجوج ومأجوج- وهو الغزو الذي حصل منهم للأمم في القرن السابع الهجري. وناهيك بما فعلوه إذ ذاك في الأرض من فساد..» «٢».
وقال الشيخ المراغي عند تفسير قوله- تعالى-: وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا وقد جاء وعده- تعالى- بخروج جنكيزخان وسلائله فعاثوا في الأرض فسادا.. وأزالوا معالم الخلافة من بغداد.. «٣».
(١) سورة الزمر الآية ٦٨.
(٢) تفسير القاسمى ج ١١ ص ١٤١٤.
(٣) تفسير المراغي ج ١٦ ص ٢٠.
578
وقال صاحب الظلال: «وبعد، فمن يأجوج ومأجوج؟ وأين هم الآن؟ وماذا كان من أمرهم وماذا سيكون؟
كل هذه أسئلة تصعب الإجابة عليها على وجه التحقيق، فنحن لا نعرف عنهم إلا ما ورد في القرآن، وفي بعض الأثر الصحيح.
والقرآن يذكر في هذا الموضع ما حكاه من قول ذي القرنين: فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا.
وهذا النص لا يحدد زمانا ووعد الله بمعنى وعده بدك السد، ربما يكون قد جاء منذ أن هجم التتار وانساحوا في الأرض. ودمروا الممالك تدميرا.
وفي موضع آخر من سورة الأنبياء: حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ. وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ.
وهذا النص- أيضا- لا يحدد زمانا معينا لخروجهم، فاقتراب الوعد الحق، بمعنى اقتراب الساعة قد وقع منذ زمن الرسول ﷺ فقد جاء في القرآن: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ والزمان في الحساب الإلهى غيره في حساب البشر، فقد تمر بين اقتراب الساعة ووقوعها ملايين السنين أو القرون.
وإذا فمن الجائز أن يكون السد قد فتح ما بين: «اقتربت الساعة»
، ويومنا هذا.
وتكون غارات المغول والتتار التي اجتاحت الشرق، هي انسياح يأجوج ومأجوج.. وكل ما نقوله ترجيح لا يقين «١».
هذه بعض حجج القائلين بأنه لا مانع من أن يكون يأجوج ومأجوج قد خرجوا.
وهناك فريق آخر من العلماء، يرون أن يأجوج ومأجوج لم يخرجوا بعد، وأن خروجهم إنما يكون قرب قيام الساعة.
ومن العلماء الذين أيدوا ذلك صاحب أضواء البيان، فقد قال- رحمه الله- ما ملخصه:
اعلم أن هذه الآية: فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وآية الأنبياء: حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ قد دلتا في الجملة على أن السد الذي بناه ذو القرنين، دون يأجوج ومأجوج، إنما يجعله الله دكا عند مجيء الوقت الموعود بذلك فيه. وقد دلتا على أنه بقرب يوم
(١) في ظلال القرآن ج ١٦ ص ٢٢٩٣.
579
القيامة.. لأن المراد بيومئذ في قوله وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ أنه يوم مجيء وعد ربي بخروجهم وانتشارهم في الأرض.
وآية الأنبياء تدل في الجملة على ما ذكرنا هنا. وذلك يدل على بطلان قول من قال: إنهم «روسيا» وأن السد فتح منذ زمن طويل.
والاقتراب الذي جاء في قوله- تعالى- اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وفي الحديث: «ويل للعرب من شر قد اقترب» لا يستلزم اقترانه من دك السد، بل يصح اقترابه مع مهلة.
وهذه الآيات لا يتم الاستدلال بها على أن يأجوج ومأجوج لم يخرجوا بعد- إلا بضميمة الأحاديث النبوية لها.
ومن ذلك ما رواه الإمام مسلم في صحيحه في ذلك، وفيه: خروج الدجال وبعث عيسى، وقتله للدجال.. ثم يبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون.
فينحاز عيسى ومن معه من المؤمنين إلى الطور.. ثم يرسل الله على يأجوج ومأجوج النغف في رقابهم فيموتون.
وهذا الحديث الصحيح قد رأيت فيه تصريح النبي ﷺ بأن الله يوحى إلى عيسى ابن مريم بخروج يأجوج ومأجوج بعد قتله الدجال فمن يدعى أنهم «روسيا» وأن السد قد اندك منذ زمان، فهو مخالف لما أخبر به النبي ﷺ مخالفة صريحة لا وجه لها، ولا شك أن كل خبر يخالف الصادق المصدوق ﷺ فهو باطل، لأن نقيض الخبر الصادق. كاذب ضرورة كما هو معلوم.
ولم يثبت في كتاب الله ولا في سنة نبيه ﷺ شيء يعارض هذا الحديث الذي رأيت صحة سنده، ووضوح دلالته على المقصود..» «١».
والذي يبدو لنا أن ما ذهب إليه صاحب أضواء البيان، أقرب إلى الحق والصواب للأسباب التي ذكرها، ولقرينة تذييل الآيات التي تحدثت عن يأجوج ومأجوج عن أهوال يوم القيامة.
ففي سورة الكهف يقول الله- تعالى- في أعقاب الحديث عنهم وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ، وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً.
وفي سورة الأنبياء يقول الله- تعالى-: حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ. وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ...
(١) راجع تفسير أضواء البيان ج ٤ ص ١٨١ وما بعدها للشيخ محمد الأمين الشنقيطى.
580
وفضلا عن كل ذلك فإن الحديث الذي رواه الإمام مسلم عنهم، صريح في أن خروجهم سيكون من علامات الساعة، والله- تعالى- أعلم.
ثم بين- سبحانه- ما أعده للكافرين من عذاب يوم القيامة فقال: وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً، الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً.
وقوله: وَعَرَضْنا.. أى: أظهرنا وأبرزنا يقال: عرض القائد جنده إذا أظهرهم ليشاهدهم الناس.
أى: جمعنا الخلائق يوم البعث والنشور جمعا تاما كاملا. وأبرزنا وأظهرنا جهنم في هذا اليوم للكافرين إبرازا هائلا فظيعا، حيث يرونها ويشاهدونها بدون لبس أو خفاء، فيصيبهم ما يصيبهم من رعب وفزع عند مشاهدتها.
وتخصيص العرض بهم، مع أن غيرهم- أيضا- يراها، لأنها ما عرضت إلا من أجلهم، ومن أجل أمثالهم ممن فسقوا عن أمر ربهم.
ويرى بعضهم أن اللام في «للكافرين» بمعنى على، لأن العرض يتعدى بها، قال- تعالى-: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ.. وقال- سبحانه-: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا....
ثم وصفهم- سبحانه- بما يدل على استحقاقهم دخول النار فقال: الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي.
أى: أبرز جهنم في هذا اليوم العصيب للكافرين الذين كانت أعينهم في الدنيا في «غطاء» كثيف وغشاوة غليظة، «عن ذكرى» أى: عن الانتفاع بالآيات التي تذكرهم بالحق، وتهديهم إلى الرشاد، بسبب استحواذ الشيطان عليهم.
وفي التعبير بقوله: غِطاءٍ إشعار بأن الحائل والساتر الذي حجب أعينهم عن الإبصار، كان حائلا شديدا، إذ الغطاء هو ما يغطى الشيء ويستره من جميع جوانبه.
والمراد بالذكر: القرآن الكريم، أو ما يشمله ويشمل كل ما في الكون من آيات يؤدى التفكر فيها إلى الإيمان بالله- تعالى-.
وقوله: وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً صفة أخرى من صفاتهم الذميمة، أى: وكانوا في الدنيا- أيضا- لا يستطيعون سمعا للحق أو الهدى، بسبب إصرارهم على الباطل، وإيغالهم في الضلال والعناد، بخلاف الأصم فإنه قد يستطيع السماع إذا صيح به.
581
قال الآلوسى: فالجملة الكريمة نفى لسماعهم على أتم وجه، ولذا عدل عن: وكانوا صما مع أنه أخصر، لأن المراد أنهم مع ذلك كفاقدى السمع بالكلية وهو مبالغة في تصوير إعراضهم عن سماع ما يرشدهم إلى ما ينفعهم بعد تصوير تعاميهم عن الآيات المشاهدة بالأبصار.. «١».
ثم يعقب- سبحانه- على هذا الوعيد الشديد للكافرين، بالتهكم اللاذع لهم فيقول:
أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ.
فالاستفهام: للإنكار والتوبيخ. والحسبان: بمعنى الظن.
والمراد بعبادي هنا: الملائكة وعيسى وعزير ومن يشبههم من عباد الله الصالحين، إذ مثل هذه الاضافة تكون غالبا للتشريف والتكريم.
وفي الآية الكريمة حذف دل عليه المقام.
والتقدير: أفحسب الذين كفروا بي أن يتخذوا عبادي الصالحين آلهة يستنصرون بهم من دوني، أو يعبدونهم من دوني، ثم لا أعذبهم- أى هؤلاء الكافرين بي- على هذا الاتخاذ الشديد الشناعة.
إن كان هؤلاء الكافرون بي يحسبون ذلك، فقد ضلوا ضلالا بعيدا، فإنى لا بد أن أعذبهم على كفرهم وشركهم.
أو التقدير: أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء، لكي يشفعوا لهم يوم القيامة؟ كلا لن يشفعوا لهم بل سيتبرأون منهم، كما قال- سبحانه- كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا.
ثم بين- سبحانه- ضلال هذا الحسبان الباطل فقال: إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلًا.
والنزل: ما يقدم للضيف عند نزوله، والقادم عند قدومه، على سبيل التكريم والترحيب.
أى: إنا أعتدنا جهنم لهؤلاء الكافرين بي، المتخذين عبادي من دوني أولياء، لتكون معدة لهم عند قدومهم تكريما لهم.
فالجملة الكريمة مسوقة على سبيل التهكم بهم، والتقريع لهم، لأن جهنم ليست نزل إكرام للقادم عليها، بل هي عذاب مهين له.
(١) تفسير الآلوسى ج ١٦ ص ٤٥.
582
وشبيه بهذه الجملة قوله- تعالى-: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ وقوله: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ.
ويجوز أن يكون النزل بمعنى المنزل، أى: إنا هيأنا جهنم للكافرين لتكون مكانا وحيدا لنزولهم فيها، إذ ليس لهم منزل سواها.
ثم يأمر الله- تعالى- نبيه ﷺ في أواخر السورة الكريمة، بأن يبين للناس من هم الأخسرون أعمالا، ومن هم الأسوأ عاقبة فيقول:
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ١٠٣ الى ١٠٦]
قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (١٠٣) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (١٠٤) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (١٠٥) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (١٠٦)
أى: قل- أيها الرسول الكريم لهؤلاء الكافرين الذين أعجبتهم أعمالهم وتصرفاتهم الباطلة.
قل لهم: ألا تريدون أن أخبركم خبرا هاما، كله الصدق والحق، وأعرفكم عن طريقه من هم الأخسرون أعمالا في الدنيا والآخرة؟
وجاء هذا الإخبار في صورة الاستفهام لزيادة التهكم بهم، وللفت أنظارهم إلى ما سيلقى عليهم.
والأخسرون: جمع أخسر، صيغة تفضيل من الخسران، وأصله نقص مال التاجر.
والمراد به هنا: خسران أعمالهم وضياعها بسبب إصرارهم على كفرهم.
وجمع الأعمال، للإشعار بتنوعها، وشمول الخسران لجميع أنواعها.
وقوله- سبحانه- الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً.
583
جواب عن السؤال الذي اشتملت عليه الآية السابقة وهي: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ...
فكأنه قيل: نبئنا عن هؤلاء الأخسرين أعمالا؟
فكان الجواب: هم الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ أى بطل وضاع بالكلية سعيهم وعملهم في هذه الحياة الدنيا بسبب إصرارهم على كفرهم وشركهم، فالجملة الكريمة خبر لمبتدأ محذوف.
وقوله وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً أى: والحال أنهم يظنون أنهم يقدمون الأعمال الحسنة التي تنفعهم.
فالجملة الكريمة حال من فاعل ضَلَّ أى: ضل وبطل سعيهم، والحال أنهم يظنون العكس. كما قال- تعالى-: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً.
وهذا هو الجهل المركب بعينه، لأن الذي يعمل السوء ويعلم أنه سوء قد ترجى استقامته.
أما الذي يعمل السوء ويظنه عملا حسنا فهذا هو الضلال المبين.
والتحقيق أن المراد بالأخسرين أعمالا هنا: ما يشمل المشركين واليهود والنصارى، وغيرهم ممن يعتقدون أن كفرهم وضلالهم صواب وحق.
وقوله- سبحانه-: أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ.
كلام مستأنف لزيادة التعريف بهؤلاء الأخسرين أعمالا، ولبيان سوء مصيرهم.
أى: أولئك الذين كفروا بآيات ربهم الدالة على وحدانيته وقدرته وكفروا بالبعث والحشر والحساب وما يتبع ذلك من ثواب وعقاب، فكانت نتيجة هذا الكفر أن فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ أى: فسدت وبطلت.
وأصل الحبوط: انتفاخ بطن الدابة بسبب امتلائها بالغذاء الفاسد الذي يؤدى إلى هلاكها.
والتعبير بالحبوط هنا في أعلى درجات البلاغة، لأن هؤلاء الكافرين ملأوا صحائف أعمالهم بالأقوال والأفعال القبيحة التي ظنوها حسنة، فترتب على ذلك هلاكهم وسوء مصيرهم.
وقوله: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً تصريح بهوانهم والاستخفاف بهم، واحتقار شأنهم.
أى: فلا نلتفت إليهم يوم القيامة، ولا نعبأ بهم احتقارا لهم، بل نزدريهم ولا نقيم لهم ولا لأعمالهم وزنا، لأنهم لا توجد لهم أعمال صالحة توضع في ميزانهم، كما قال تعالى-: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً.
وفي الصحيحين من حديث أبى هريرة أن رسول الله ﷺ قال: «إنه ليأتى الرجل
584
العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة». وقال: اقرءوا إن شئتم قوله تعالى-: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً.
ثم ختم- سبحانه- الآيات الكريمة ببيان مآل أمرهم فقال: ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا. وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً.
فاسم الإشارة «ذلك» مشار به إلى عقابهم السابق المتمثل في حبوط أعمالهم واحتقار شأنهم. وهو خبر لمبتدأ محذوف. أى: أمرهم وشأنهم ذلك الذي بيناه سابقا.
وقوله: جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ جملة مفسرة لاسم الإشارة لا محل لها من الإعراب أو هو جملة مستقلة برأسها مكونة من مبتدأ وخبر.
وقوله: بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً بيان للأسباب التي جعلتهم وقودا لجهنم.
أى: أن مصيرهم إلى جهنم بسبب كفرهم بكل ما يجب الإيمان به، وبسبب اتخاذهم آيات الله الدالة على وحدانيته، وبسبب اتخاذهم رسله الذين أرسلهم لهدايتهم، محل استهزاء وسخرية.
فهم لم يكتفوا بالكفر بل أضافوا إلى ذلك السخرية بآيات الله- تعالى- والاستهزاء بالرسل الكرام- عليهم الصلاة والسلام-.
ثم أتبع- سبحانه- هذا الوعيد الشديد للكافرين، بالوعد الحسن للمؤمنين فقال- تعالى-:
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ١٠٧ الى ١٠٨]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (١٠٧) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (١٠٨)
وجنات الفردوس: هي أفضل الجنات وأعلاها. ولفظ الفردوس: لفظ عربي ويجمع على فراديس، ومنه قولهم صدر مفردس، أى: واسع.
قال الآلوسى ما ملخصه: عن مجاهد أن الفردوس هو البستان بالرومية، وعن عكرمة أن الفردوس هو الجنة بالحبشية.
585
ونص الفراء على أن هذا اللفظ عربي ومعناه البستان الذي فيه كرم.
وقال المبرد: هي- أى كلمة الفردوس- فيما سمعت من العرب: الشجر الملتف والأغلب عليه العنب.
وأخرج الشيخان عن أبى هريرة أن رسول الله ﷺ قال: إذا سألتم الله- تعالى- فاسألوه الفردوس، فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن. ومنه تفجر أنهار الجنة «١».
والمعنى: إن الذين آمنوا بالله- تعالى- وبكل ما يجب الإيمان به، وعملوا الأعمال الصالحات بإخلاص واتباع لما جاء به الصادق المصدوق ﷺ كانت لهم عند الله- تعالى- جنات الفردوس، التي هي أفضل الجنات وأرفعها درجة نُزُلًا أى: هدية تقدم لهم منه يوم القيامة، ومكانا ينزلون به تكريما وتشريفا لهم.
خالِدِينَ فِيها خلودا أبديا، حالة كونهم لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا أى: لا يطلبون تحولا أو انتقالا منها إلى مكان آخر، لكونها أطيب المنازل وأعلاها.
وفي قوله- تعالى-: لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا لفتة دقيقة عميقة للإجابة على ما يعترى النفس البشرية من حب للانتقال والتحول من مكان إلى مكان، ومن حال إلى حال.
فكأنه- سبحانه- يقول: إن ما جبلت عليه النفوس في الدنيا من حب للتحول والتنقل. قد زال وانتهى بحلولها في الآخرة في الجنة، فالنفس الإنسانية عند ما تستقر في الجنة- ولا سيما جنة الفردوس- لا تريد تحولا أو انتقالا عنها، لأنها المكان الذي لا تشتاق النفوس إلى سواه، لأنها تجد فيه ما تشتهيه وما تبتغيه، نسأل الله- تعالى- أن يرزقنا جميعا جنات الفردوس.
وكما افتتح- سبحانه- السورة الكريمة بالثناء على ذاته، ختمها- أيضا- بالثناء والحمد، فقد أثبت- عز وجل- أن علمه شامل لكل شيء. وأن قدرته نافذة على كل شيء، وأنه- تعالى- هو المستحق للعبادة والطاعة، فقال:
(١) تفسير الآلوسى ج ٦١ ص ٥٠.
586

[سورة الكهف (١٨) : الآيات ١٠٩ الى ١١٠]

قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (١٠٩) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (١١٠)
والمراد بالبحر: جنسه، والمداد في الأصل: اسم لكل ما يمد به الشيء، واختص في العرف لما تمد به الدواة من الحبر.
والمراد بكلمات ربي: علمه وحكمته وكلماته التي يصرف بها هذا الكون.
وقوله: لَنَفِدَ الْبَحْرُ: أى لفنى وفرغ وانتهى. يقال: نفد الشيء ينفد نفادا، إذا فنى وذهب، ومنه قولهم: أنفد فلان الشيء واستنفده، أى: أفناه.
والمعنى: قل- أيها الرسول الكريم- للناس: لو كان ماء البحر مدادا للأقلام التي تكتب بها كلمات ربي ومعلوماته وأحكامه.. لنفد ماء البحر ولم يبق منه شيء- مع سعته وغزارته- قبل أن تنفد كلمات ربي، وذلك لأن ماء البحر ينقص وينتهى أما كلمات الله- تعالى- فلا تنقص ولا تنتهي.
وقوله- سبحانه-: وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً زيادة في المبالغة وفي التأكيد لما قبله من شمول علم الله- تعالى- لكل شيء، وعدم تناهيه.
أى: وبعد نفاد ماء البحر السابق، لو جئنا بماء بحر آخر مثله في السعة والغزارة، وكتبنا به كلمات الله- تعالى- لنفد- أيضا- ماء البحر الثاني دون أن تنفد كلمات ربي.
فالآية الكريمة تصور شمول علم الله- تعالى- لكل شيء، وعدم تناهى كلماته، تصويرا بديعا، يقرب إلى العقل البشرى بصورة محسوسه كمال علم الله- تعالى- وعدم تناهيه.
قال الآلوسى: وقوله: وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً: هذا كلام من جهته- تعالى شأنه- غير داخل في الكلام الملقن، جيء به لتحقيق مضمونه، وتصديق مدلوله على أتم وجه.
والواو لعطف الجملة على نظيرتها المستأنفة المقابلة لها المحذوفة لدلالة ما ذكر عليها دلالة واضحة:
587
أى: لنفد البحر قبل أن تنفد كلماته- تعالى- لو لم نجئ بمثله مددا، ولو جئنا بمثله مددا- لنفد أيضا- «١».
وقال بعض العلماء: وهذا من باب تقريب المعنى إلى الأذهان، لأن هذه الأشياء مخلوقة، وجميع المخلوقات منقضية منتهية، وأما كلام الله- تعالى- فهو من جملة صفاته، وصفاته غير مخلوقة ولا لها حد ولا منتهى، فأى سعة وعظمة تصورتها القلوب، فالله- تعالى- فوق ذلك، وهكذا سائر صفات الله- سبحانه- كعلمه وحكمته وقدرته ورحمته «٢».
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ، وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ «٣» ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة بأمر آخر منه- تعالى- لنبيه ﷺ فقال: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ.
أى: قل- أيها الرسول الكريم- للناس، مبينا لهم حقيقة أمرك، بعد أن بينت لهم عدم تناهى كلمات ربك.
قل لهم: إنما أنا بشر مثلكم أوجدنى الله- تعالى- بقدرته من أب وأم كما أوجدكم.
وينتهى نسبي ونسبكم إلى آدم الذي خلقه الله- تعالى- من تراب.
ولكن الله- عز وجل- اختصني بوحيه وبرسالته- وهو أعلم حيث يجعل رسالته- وأمرنى أن أبلغكم أن إلهكم وخالقكم ورازقكم ومميتكم، هو إله واحد لا شريك له لا في ذاته، ولا في أسمائه، ولا في صفاته.
فعليكم أن تخلصوا له العبادة والطاعة، وأن تستجيبوا لما آمركم به، ولما أنهاكم عنه، فإنى مبلغ عنه ما كلفنى به.
فالآية الكريمة وإن كانت تثبت للرسول ﷺ صفة البشرية وتنفى عنه أن يكون ملكا أو غير بشر.. إلا أنها تثبت له- أيضا- أن الله- تعالى- قد فضله على غيره من البشر بالوحي إليه، وبتكليفه بتبليغ ما أمره الله- تعالى- بتبليغه للعالمين. كما قال- سبحانه- وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ وكما قال- عز وجل-: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي
(١) تفسير الآلوسى ج ١٦ ص ٥٢.
(٢) تفسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المتان، ج ٥ ص ٤٣ للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي طبعة مؤسسة مكة للطباعة والإعلام.
(٣) سورة لقمان الآية ٢٧.
588
خَزائِنُ اللَّهِ، وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ، وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ، إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ. «١».
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة بتلك الجملة الجامعة لكل خير فقال: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ، فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً، وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً.
أى: قل- أيها الرسول الكريم- للناس: إنما أنا واحد مثلكم في البشرية إلا أن الله- تعالى- قد خصنى واصطفاني عليكم برسالته ووحيه، وأمرنى أن أبلغكم أن إلهكم إله واحد. فمن كان منكم يرجو لقاء الله- تعالى- ويأمل في ثوابه ورؤية وجهه الكريم، والظفر بجنته ورضاه، فليعمل عملا صالحا، بأن يكون هذا العمل خالصا لوجه الله- تعالى- ومطابقا لما جئت به من عنده- عز وجل- ولا يشرك بعبادة ربه أحدا من خلقه سواء أكان هذا المخلوق نبيا أم ملكا أم غير ذلك من خلقه- تعالى-.
وقد حمل بعض العلماء الشرك هنا على الرياء في العمل، فيكون المعنى: «فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا، ولا يرائى الناس في عمله، لأن العمل الذي يصاحبه الرياء هو نوع من أنواع الشرك بالله تعالى».
والذي يبدو لنا أن حمل الشرك هنا على ظاهره أولى، بحيث يشمل الإشراك الجلى كعبادة غير الله- تعالى- والإشراك الخفى كالرياء وما يشبهه.
أى: ولا يعبد ربه رياء وسمعة، ولا يصرف شيئا من حقوق خالقه لأحد من خلقه، لأنه- سبحانه- يقول: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ، وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً «٢».
وقد ساق الإمام ابن كثير جملة من الأحاديث عند تفسيره لقوله- تعالى- فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً.
ومن هذه الأحاديث ما رواه ابن أبى حاتم، من حديث معمر، عن عبد الكريم الجزري، عن طاوس قال: قال رجل يا رسول الله، إنى أقف المواقف أريد وجه الله، وأحب أن يرى موطني، فلم يرد عليه رسول الله ﷺ شيئا حتى نزلت هذه الآية: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً «٣».
(١) سورة الأنعام الآية ٥٠.
(٢) سورة النساء الآية ٤٨.
(٣) راجع تفسير ابن كثير ج ٥ ص ٢٠٠ طبعة دار الشعب. [.....]
589
أما بعد: فهذه سورة الكهف، وهذا تفسير محرر لها، نسأل الله- تعالى- أن ينفعنا بالقرآن الكريم، وأن يجعله ربيع قلوبنا، وأنس نفوسنا، وشفيعنا يوم نلقاه يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
المدينة المنورة: مساء الخميس ١٨ من رجب سنة ١٤٠٤ هـ الموافق: ١٩ من إبريل سنة ١٩٨٤ م د/ محمد سيد طنطاوى
590
فهرس إجمالى لتفسير «سورة الحجر»
رقم الآية الآية المفسرة الصفحة تعريف بسورة الحجر ٥ ١ الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين ٩ ١٦ ولقد جعلنا في السماء بروجا ٢٦ ٢٦ ولقد خلقنا الإنسان من صلصال ٣٥ ٤٥ إن المتقين في جنات وعيون ٤٩ ٤٩ نبئ عبادي أنى أنا الغفور الرحيم ٥٢ ٦١ فلما جاء آل لوط المرسلون ٥٩ ٧٥ إن في ذلك لآيات للمتوسمين ٦٨ ٨٥ وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق ٧٣
591
فهرس إجمالى لتفسير «سورة النحل»
رقم الآية الآية المفسرة رقم الصفحة مقدمة ٨٩ تعريف بسورة النحل ٩١ ١ أتى أمر الله فلا تستعجلوه ٩٩ ١٠ هو الذي أنزل من السماء ماء ١١٢ ١٢ وسخر لكم الليل والنهار ١١٥ ١٤ وهو الذي سخر البحر ١١٧ ١٥ وألقى في الأرض رواسى ١٢٠ ١٧ أفمن يخلق كمن لا يخلق ١٢٢ ٢٤ وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم ١٢٨ ٣٠ وقيل للذين اتقوا ١٣٨ ٣٣ هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة ١٤١ ٣٥ وقال الذين أشركوا ١٤٣ ٣٨ وأقسموا بالله جهد أيمانهم ١٤٩ ٤١ والذين هاجروا في الله ١٥٣ ٤٣ وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا ١٥٦ ٤٥ أفأمن الذين مكروا السيئات ١٥٩ ٤٨ أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء ١٦٣ ٥١ وقال الله لا تتخذوا إلهين ١٦٦ ٥٦ ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا ١٧٠ ٦١ ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ١٧٥ ٦٥ والله أنزل من السماء ماء ١٨١ ٦٨ وأوحى ربك إلى النحل ١٨٧
592
رقم الآية الآية المفسرة رقم الصفحة ٧٠ والله خلقكم ثم يتوفاكم ١٩٢ ٧٣ ويعبدون من دون الله ١٩٧ ٧٧ ولله غيب السموات والأرض ٢٠٣ ٨٤ ويوم نبعث من كل أمة شهيدا ٢١١ ٩٠ إن الله يأمر بالعدل والإحسان ٢١٩ ٩٤ ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم ٢٢٧ ٩٨ فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله ٢٣٢ ١٠١ وإذا بدلنا آية مكان آية ٢٣٥ ١٠٦ من كفر بالله من بعد إيمانه ٢٤٠ ١١٠ ثم إن ربك للذين هاجروا ٢٤٣ ١١٢ وضرب الله مثلا قرية ٢٤٥ ١١٤ فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا ٢٤٩ ١١٦ ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم ٢٥١ ١١٨ وعلى الذين هادوا حرمنا ٢٥٣ ١٢٠ إن إبراهيم كان أمة ٢٥٦ ١٢٥ ادع إلى سبيل ربك ٢٦١
593
فهرس إجمالى لتفسير «سورة الإسراء»
رقم الآية الآية المفسرة رقم الصفحة مقدمة وتعريف بالسورة ٢٧٣ ١ سبحان الذي أسرى ٢٨١ ٢ وآتينا موسى الكتاب ٢٨٧ ٤ وقضينا إلى بنى إسرائيل ٢٨٩ ٩ إن هذا القرآن يهدى ٣٠٢ ١١ ويدع الإنسان بالشر ٣٠٤ ١٢ وجعلنا الليل والنهار آيتين ٣٠٦ ١٦ وإذا أردنا أن نهلك ٣١٤ ٢٣ وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه ٣٢٣ ٢٦ وآت ذا القربى حقه ٣٣١ ٣١ ولا تقتلوا أولادكم ٣٣٦ ٤٠ أفأصفاكم ربكم بالبنين ٣٥٥ ٤٥ وإذا قرأت القرآن ٣٦٢ ٤٩ وقالوا أإذا كنا عظاما ٣٦٨ ٥٣ وقل لعبادي يقولوا ٣٧٢ ٥٦ قل ادعوا الذين زعمتم ٣٧٥ ٥٨ وإن من قرية إلا نحن مهلكوها ٣٧٨ ٦١ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا ٣٨٦ ٦٦ ربكم الذي يزجى لكم الفلك في البحر ٣٩٣ ٧٠ ولقد كرمنا بنى آدم ٣٩٨ ٧٣ وإن كادوا ليفتنونك ٤٠٣ ٧٨ أقم الصلاة لدلوك ٤٠٧ ٨٢ وننزل من القرآن ٤١٥ ٨٥ ويسألونك عن الروح ٤٢٠
594
رقم الآية الآية المفسرة رقم الصفحة ٩٠ وقالوا لن نؤمن لك ٤٢٧ ٩٤ وما منع الناس أن يؤمنوا ٤٣٢ ٩٧ ومن يهد الله فهو المهتد ٤٣٥ ١٠١ ولقد آتينا موسى تسع آيات ٤٤١ ١٠٥ وبالحق أنزلناه وبالحق نزل ٤٤٧ ١١٠ قل ادعو الله أو ادعو الرحمن ٤٥١
595
فهرس إجمالى لتفسير «سورة الكهف»
رقم الآية الآية المفسرة رقم الصفحة المقدمة ٤٥٧ ١ الحمد لله الذي أنزل ٤٦٤ ٩ أم حسبت أن أصحاب ٤٧٢ ١٣ نحن نقص عليك نبأهم ٤٧٩ ١٧ وترى الشمس إذا طلعت ٤٨٤ ١٩ وكذلك بعثناهم ليتساءلوا ٤٨٩ ٢١ وكذلك أعثرنا عليهم ٤٩٢ ٢٢ سيقولون ثلاثة رابعهم ٤٩٥ ٢٣ ولا تقولن لشيء إنى فاعل ٤٩٨ ٢٥ ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين ٥٠١ ٢٧ واتل ما أوحى إليك ٥٠٥ ٣٢ واضرب لهم مثلا رجلين ٥١٣ ٣٧ قال له صاحبه وهو يحاوره ٥١٧ ٤٢ وأحيط بثمره فأصبح ٥٢١ ٤٥ واضرب لهم مثل الحياة ٥٢٤ ٤٧ ويوم نسير الجبال وترى ٥٢٨ ٥٠ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا ٥٣٢ ٥١ ولقد صرفنا في هذا القرآن ٥٣٩ ٦٠ وإذ قال موسى لفتاه ٥٤٥ ٦٦ قال له موسى هل أتبعك ٥٥٢ ٧١ فانطلقا حتى إذا ركبا ٥٥٤ ٧٤ فانطلقا حتى إذا لقيا ٥٥٦ ٧٧ فانطلقا حتى إذا أتيا أهل ٥٥٧
596
رقم الآية الآية المفسرة رقم الصفحة ٧٩ أما السفينة فكانت لمساكين ٥٥٩ ٨٠ وأما الغلام فكان أبواه ٥٦٠ ٨٢ وأما الجدار فكان لغلامين ٥٦٠ ٨٣ ويسألونك عن ذي القرنين ٥٦٨ ٩٩ وتركنا بعضهم يومئذ ٥٧٦ ١٠٣ قل هل ننبئكم بالأخسرين ٥٨٣ ١٠٧ إن الذين آمنوا وعملوا ٥٨٥ ١٠٩ قل لو كان البحر مدادا ٥٨٧
597

[المجلد التاسع]

تفسير سورة مريم

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدّمة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وأصحابه وأتباعه، ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.
وبعد فهذا تفسير لسورة «مريم» أكتبه بعد أن كتبت قبله تفاسير لسورة: البقرة، آل عمران، النساء، المائدة، الأنعام، الأعراف، الأنفال، التوبة، يونس، هود، يوسف، الرعد، إبراهيم، الحجر، النحل، الإسراء، الكهف...
والله- تعالى- أسأل، أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم، ونافعا لعباده، وشفيعا لنا يوم نلقاه، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
د. محمد سيد طنطاوى
5
تفسير سورة مريم
7
تعريف بسورة مريم
١- سورة مريم من السور المكية.
قال القرطبي: وهي مكية بالإجماع. وهي تسعون وثماني آيات «١».
وقال ابن كثير: وقد روى محمد بن إسحاق في السيرة، من حديث أم سلمة، وأحمد بن حنبل عن ابن مسعود في قصة الهجرة إلى أرض الحبشة من مكة، أن جعفر بن أبى طالب- رضى الله عنه- قرأ صدر هذه السورة على النجاشيّ «٢».
وكان نزولها بعد سورة فاطر «٣».
٢- ويبدو أن تسميتها بهذا الاسم كان بتوقيف من النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقد أخرج الطبراني والديلمي، من طريق أبى بكر بن عبد الله بن أبى مريم الغساني عن أبيه عن جده، قال:
أتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم فقلت: ولدت لي الليلة جارية. فقال: والليلة أنزلت على سورة مريم.
وجاء فيما روى عن ابن عباس، تسميتها بسورة كهيعص «٤».
وقد تكرر اسم مريم في القرآن ثلاثين مرة، ولم تذكر امرأة سواها باسمها الصريح.
٣- والذي يقرأ هذه السورة الكريمة بتدبر وتأمل، يراها زاخرة بالحديث عن عدد من الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام-.
فقد افتتحت بالحديث عن تلك الدعوات التي تضرع بها زكريا إلى ربه، لكي يهب له وليا، يرثه ويرث من آل يعقوب.
وقد استجاب الله- تعالى- دعاء زكريا، فوهبه يحيى كما قال- تعالى-: يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا.
ثم تحدثت السورة بعد ذلك عن قصة مريم، بصورة فيها شيء من التفصيل، فذكرت اعتزالها لقومها ومجيء جبريل إليها وما دار بينه وبينها من محاورات، ومولدها لعيسى وإتيانها
(١) تفسير القرطبي ج ١١ ص ٧٢.
(٢) تفسير ابن كثير ج ٣ ص ١١٠.
(٣) الإتقان في علوم القرآن للسيوطي ج ١ ص ٢٧.
(٤) تفسير الآلوسى ج ١٦ ص ٥٦.
9
به قومها، وما دار بينها وبينهم في شأنه. ثم ختمت هذه القصة بالقول الحق في شأن عيسى، قال- تعالى-: ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ. ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ، إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ.
٥- ثم تحدثت السورة بعد ذلك عن طرف من قصة إبراهيم وموسى وإسماعيل وإدريس، وختمت حديثها عن الرسل الكرام بقوله- تعالى-: أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ، وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ. وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ. وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا، إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا.
٦- ثم حكت السورة الكريمة أنماطا من الشبهات التي تفوه بها الضالون، ومن هذه الشبهات ما يتعلق بالبعث والنشور، ومنها ما يتعلق بموقفهم من القرآن الكريم ومنها ما يتعلق بزعمهم أن لله ولدا... وقد ردت على كل شبهة من هذه الشبهات بما يبطلها، ويخرس ألسنة قائليها.
ومن ذلك قوله- تعالى-: وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً.
وقوله- سبحانه-: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً. أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً. كَلَّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا. وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً.
وقوله- عز وجل-: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً. لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا. تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا. أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً. وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً.
٧- ومن هذا العرض الإجمالى لآيات السورة الكريمة، يتبين لنا أن سورة مريم قد اهتمت بإقامة الأدلة على وحدانية الله- تعالى-، وعلى نفى الشريك والولد عن ذاته- سبحانه-، كما اهتمت- أيضا- بإقامة الأدلة على أن البعث حق، وعلى أن الناس سيحاسبون على أعمالهم يوم القيامة.
كما زخرت السورة بالحديث عن قصص بعض الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- تارة بشيء من التفصيل كما في قصة زكريا وعيسى ابن مريم، وتارة بشيء من الاختصار والتركيز كما في قصة إبراهيم وموسى وإسماعيل وإدريس.
كما نراها بوضوح تحكى شبهات المشركين. ثم ترد عليها بما يبطلها...
10
وقد ساقت السورة ما ساقت من قضايا، بأسلوب عاطفى بديع، يهيج المشاعر نحو الخير والحق والفضيلة، وينفر من الشر والباطل والرذيلة، ويطلع العقول على نماذج شتى من مظاهر رحمة الله- تعالى- بعباده الصالحين ترى ذلك في مثل قوله- تعالى-: ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا.
وفي مثل قوله- سبحانه-: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا.
٨- قال بعض العلماء ما ملخصه: والظل الغالب في جو السورة هو ظل الرحمة والرضا والاتصال. فهي تبدأ بذكر رحمة ربك لعبده زكريا. ويتكرر لفظ الرحمة ومعناها وظلها في ثنايا السورة كثيرا. ويكثر فيها اسم الرَّحْمنِ.
وإنك لتحس لمسات الرحمة الندية. ودبيبها اللطيف في الكلمات والعبارات والظلال، كما تحس انتفاضات الكون وارتجافاته لوقع كلمة الشرك التي لا تطيقها فطرته...
كذلك تحس أن للسورة إيقاعا موسيقيا خاصا، فحتى جرس ألفاظها وفواصلها فيه رخاء، وفيه عمق كألفاظ: رضيا، سريا، حفيا، نجيا...
فأما المواضع التي تقتضي الشدة والعنف، فتجيء فيها الفاصلة مشددة في الغالب، كألفاظ: ضدّا، هدّا، إدّا، أزّا «١».
وبعد فهذا تعريف لسورة مريم، نرجو أن يكون القارئ له، قد أخذ صورة مركزة عن أهم المقاصد التي اشتملت عليها السورة الكريمة.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.
(١) من تفسير في ظلال القرآن ج ١٦ ص ٤٢٢ للمرحوم سيد قطب.
11
Icon