تفسير سورة مريم

أيسر التفاسير للجزائري
تفسير سورة سورة مريم من كتاب أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير المعروف بـأيسر التفاسير للجزائري .
لمؤلفه أبو بكر الجزائري . المتوفي سنة 1439 هـ

شرح الكلمات:
كَهَيَعَص ١: هذه من الحروف المقطعة تكتب كهيعص وتُقرأ كاف، هاء يا عين صاد. ومذهب السلف أن يقال فيها: الله أعلم بمراده بذلك.
ذكر رحمة ربك: أي هذا ذكر رحمة ربك.
نادى ربه: أي قال: يا رب ليسأله الولد.
نداءً خفيا: أي سر بعداً عن الرياء.
وهن العظم مني: أي رق وضعف لكبر سني.
واشتعل الرأس شيبا: أي انتشر الشيب ثما شعر رأسي انتشار النار في الحطب.
ولم أكن بدعائك رب شقيا: أي إنك لم تخيبني فيما دعوتك فيه قبل، فلا تخيبني اليوم فيما أدعوك فيه.
وإني خفت الموالي: أي خشيت بني عمي أن يضيعوا الدين بعد موتي.
إمرأتي عاقراً: لا تلد واسمها أشاع فهي أخت حنة أم مريم.
فهب لي من لدنك وليا: أي ارزقي من عندك ولداً.
ويرث من آل يعقوب: أي جدي يعقوب العلم والنبوة.
واجعله رب رضيا: أي مرضياً عندك.
سميا: أي مسمى يحيى.
معنى الآيات:
أما قوله تعالى: ﴿كَهَيَعص٢﴾ فإن هذا من الحروف المقطعة والراجح أنها من المتشابه الذي نؤمن به ونفوض فهم معناه لمنزله سبحانه وتعالى فنقول: ﴿كهيعص﴾ ألله أعلم بمراده به.
وأما قوله تعالى: ﴿ذكر٣ رحمة ربك عبده زكريا﴾ فإن معناه: مما تتلو٤ عليك في هذا القرآن يا نبينا
١ روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال إن الكاف من كافٍ والهاء من هادٍ والياء من حكيم والعين من عليم والصاد من صادق. وعن قتادة أنه اسم من أسماء القرآن، وقيل: هو اسم للسورة وقيل: هي اسم الله الأعظم، وكان علي يقول: يا كهيعص اغفر لي.
٢ كهيعص: هذه حروف هجاء مكتوبة بمسمياتها مقروءة بأسمائها.
٣ ﴿ذكر﴾ خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذا ذكر رحمة ربك وعبده: منصوب بالمصدر الذي هو ذكر.
٤ بناء على أن ذكر رحمة ربك: خبر والمبتدأ محذوف فإنه يصح تقديره. هذا ذكر وذكر رحمة ربك، وهذا الذي نتلوه عليك ذكر رحمة ربك.
293
فيكون دليلاً على نبوتك ذكر رحمة ربك التي رحم بها عبده زكريا حيث كبرت سنه، وامرأته عاقر لا يولد لها ورغب في الولد لمصلحة الدعوة الإسلامية إذ لا يوجد من يخلفه فيها إذا مات نظراً إلى أن الموجود من بني عمه ومواليه ليس بينهم كفؤ لذلك بل هم دعاة إلى السوء فنادى١ ربه نداء خفياً قائلاً: ﴿رب إني وهن العظم مني﴾ أي رق وضعف، ﴿واشتعل الرأس شيباً﴾ أي شاب شعر رأسي لكبر سني، ﴿ولم أكن بدعائك رب شقياً﴾ أي في يوم من الأيام بمعنى أنك عودتني الاستجابة لما أدعوك له ولم تحرمني استجابة دعائي فأشقى به دون الحصول على رغبتي. ﴿وإني﴾ يا ربي قد ﴿خفت٢ الموالي﴾ أن يضيعوا هذه الدعوة دعوة الحق التي هي عبادتك بما شرعت وحدك لا شريك لك، وذلك بعد موتي ﴿فهب لي من لدنك﴾ أي من عندك تفضلاً به علي إذ الأسباب غير متوفرة للولد: المرأة عاقر وأنا شيخ كبير هرم، ﴿ولياً﴾ أي ولداً يلي أمر هذه الدعوة بعد وفاتي فيرثني فيها ﴿ويرث٣ من آل يعقوب﴾ جدي ما تركوه بعدهم من دعوة أبيهم إبراهيم وهي الحنيفية عبادة الله وحده لا شريك له ﴿واجعله رب رضيا﴾ أي واجعل الولد الذي تهبني يا ربي ﴿رضيا﴾ أي عبداً صالحاً ترضاه لحمل رسالة الدعوة إليك، فأجابه الرب تبارك وتعالى بما في قوله: ﴿يا زكريا٤ إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى٥، لم نجعل له من قبل سميا﴾ أي من سمي باسمه يحيى قط.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- تقرير نبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإخباره بهذا الذي أخبر به عن زكريا عليه السلام.
٢- استحباب السرية في الدعاء لأنه أقرب إلى الاستجابة.
١ النداء هنا: الدعاء والرغبة إلى الله تعالى، وفيه استحباب دعاء السرّ والمناجاة الخفية، وقد أسرّ مالك القنوت وجهر به الشافعي لأن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جهر به.
٢ الموالي هنا: الأقارب وبنوا العم والعصبة الذين يلونه في النسب لأنّ العرب تسمّي بني العم موالي قال شاعرهم: مهلا بني عمّنا مهلا موالينا لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا
٣ المراد من الإرث هو: إرثه في دعوته لأنّ مواليه كانوا مهملين للدّين والدعوة فخاف ضياع ذلك فسأل ربه ولداً يقوم بذلك، أمّا المال فإنّ الأنبياء لا يورثون وما يتركونه فهو صدقة.
٤ في الكلام حذف تقديره: فاستجاب الله دعاءه فقال: يا زكريا.. الخ.
٥ تضمنت هذه البشرى ثلاثة أمور: أحدها: إجابة دعائه وهي كرامة. الثاني: إعطاؤه الولد وهو قوّة له، والثالث: إفراده بتسمية لم يسمّ بها أحد قبله، قيل في قوله: ﴿من قبل﴾ إشارة إلى أنه سيخلف بعده من هو أشرف اسماً وذاتاً وحالاً وهو محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
294
٣- وجود العقم في بعض النساء.
٤- قدرة الله تعالى فوق الأسباب وإن شاء تعالى أوقف الأسباب وأعطى بدونها.
٥- تقرير مبدأ أن الأنبياء لا يورثون فيما يخلفون من المال كالشاه والبعير١ وإنما يورثهم الله أولادهم في النبوة والعلم والحكمة.
قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (٨) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (٩) قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (١٠) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (١١) يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (١٢) وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (١٣) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا (١٤) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (١٥)
شرح الكلمات:
أنى يكون لي غلام؟ : أي ن أي وجهٍ وَجِهَةٍ يكون لي ولد.
عتيا: أي يبست مفاصي وعظامي.
آية: أي علامة تدلني على حمل امرأتي.
سويا: أي حال كونك سويَّ الخَلّقِ ما بك عليه خرس.
١ والدينار والدرهم.
295
من المحراب١: المصلى الذي يصلى فيه وهو المسجد.
فأوحى إليهم: أومأ إليهم وأشار عليهم.
وآتيناه الحكم صبيا: الحكم والحكمة بمعنى واحد وهما الفقه في الدين ومعرفة أسرار الشرع.
وحناناً من لدنا: أي عطفاً على الناس موهوباً له من عندنا.
وزكاة: أي طهارة من الذنوب والآثام.
جباراً عصياً: أي متعالياً لا يقبل الحق عصياً لا يطيع أمر الله عز وجل وأمر والديه.
وسلام عليه: أي أمان له من الشيطان أن يمسه بسوء يوم يولد، وأمان له من فتاني القبر يوم يموت، وأمان له من الفزع الأكبر يوم يبعث حياً.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في ذكر رحمة الله عبده زكريا إنه لما بشره ربه تعالى بيحيى قال: ما أخبر به تعالى عنه في قوله: ﴿قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقراً وقد بلغت من الكبر عتيا ٢﴾ أي من أي وجه وجهة يأتيني الولد أمن إمرأة غير امرأتي، أم منها ولكن تهبني قوة على مباضعتها٣ وتجعل رحمها قادرة على العلوق٤، لأني كما تعلم يا ربي قد بلغت من الكبر حداً بس فيه عظمي ومفاصلي وهو العتى كما أن امرأتي عاقر لا يولد لها. فأجابه الرب تبارك وتعالى بما في قوله عز وجل: ﴿قال كذلك﴾ أي الأمر كما قلت يا زكريا، ولكن ﴿قال ربك هو على هين﴾ أي إعطاؤك الولد على ما أنت عليه من الضعف والكبر وامرأتك من العقر سهل يسير لا صعوبة فيه ويدلك على ذلك أني ﴿قد خلقتك من٥ قبل ولم تك شيئاً﴾، فكما قدر ربك على خلقك ولم تك شيئاً فهو قادر على هبتك الولد على ضعفك وعقر امرأتك وهنا طالب زكريا ربه بأن يجعل له علامة تدله على وقت حمل امرأته بالولد فقال ما أخبر به تعالى في قوله: ﴿قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سوياً﴾ فأعطاه تعالى علامة على وقت حمل امرأته بالولد وهي أنه يصبح يوم بداية الحمل لا يقدر على الكلام
١ المحراب: مكان مرتفع، ومن هنا كره مالك أن يصلي الإمام في مكان أرفع من المكان الذي يصلي فيه الناس وراءه خشية الكبر عليه، والكبر من كبائر الذنوب ولم يكره أحمد رحمه الله تعالى.
٢ قرأ نافع (عُتيا) بضم أوله كما: بُكيَّا وصليَّا، وبكسرها قرأ حفص، والعتي: هو قحول العظم ويبوسته.
٣ أي: جماعها من إدخال البضع في البضع.
٤ أي: علوق النطفة في الرحم.
٥ أي: فخلق الولد كخلقك.
296
وهو سوي البدن ما به خرس ولا مرض يمنعه من الكلام، ﴿فخرج على قومه من المحراب﴾ أي المصلى الذي يصلي فيه ﴿فأوحى إليهم﴾ أي أومأ وأشار١ إليهم ﴿أن سبحوا٢ بكرة وعشياً٣﴾ أي اذكروا الله في هذين الوقتين بالصلاة والتسبيح. وهنا علم بحمل امرأته إذ إمتناعه عن الكلام مع سلامة جسمه وحواسه آية على بداية الحمل. وقوله تعالى: ﴿يا يحيى خذ الكتاب بقوة﴾ هذا قول الله تعالى للغلام بعد بلوغه ثلاث سنين أمره الله تعالى أن يتعلم التوراة ويعمل بها بقوة جد وحزم وقوله ﴿وآتيناه الحكم٤ صبيا﴾ أي وهبناه الفقه في الكتاب ومعرفة أسرار الشرع وهو صبي لم يبلغ سن الاحتلام. وقوله تعالى: ﴿وحناناً٥ من لدنا وزكاة وكان تقياً﴾ أي ورحمة منا به ومحبة له آتيناه الحكم صبياً كما أنه عليه السلام كان ذا حنان على أبويه وغيرهما من المسلمين وقوله ﴿وزكاة﴾ أي طهارة من الذنوب باستعمال بدنه في طاعة ربه عز وجل ﴿وكان تقياً﴾ أي خائفاً من ربه فلا يعصه بترك فريضة ولا يفعل حرام.
وقوله تعالى: ﴿وبرا بوالديه﴾ أي محسناً بهما مطيعاً لهما لا يؤذيهما أدنى أذى وقوله ﴿ولم يكن جباراً عصياً﴾ أي لم يكن عليه السلام مستكبراً ولا ظالماً، ولا متمرداً عاصياً لربه ولا لأبويه وقوله: ﴿وسلام عليه يوم٦ ولد﴾ أي أمان له من الشيطان يوم ولد، وأمان له من فتانى القبر يوم يموت، وأمان له من الفزع الأكبر يوم يبعث حياً، فسبحان الله ما أعظم فضله وأجزل عطاءه على أوليائه، اللهم أمنا كما أمنته فإنك ذو فضل عظيم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- طلب معرفة السبب الذي يتأتى به الفعل غير قادح في صاحبه فسؤال زكريا عن الوجه الذي يأتي به الولد، كسؤال إبراهيم عن كيفية إحياء الموتى.
١ أو كتب إليهم كتابة.
٢ إذ كان يأمرهم بالصلاة بكرة وعشيا فلما حملت امرأته أمرهم بالصلاة بالإشارة لأنه لم يقدر على الكلام إذ جعل الله تعالى عجزه عن الكلام علامة الحمل لامرأته.
٣ بكرة وعشياً ظرفان في الصباح والمساء.
٤ يروى أنه قال له الأولاد: هيا بنا نلعب فقال لهم: ما للعب خلقت، فهذا مما أوتيه من الحكم صبياً.
٥ الحنان: التعطف والترحم وأصله من حنين الناقة إلى فصيلها، ويقال: حنانك وحنانيك وهما بمعنى واحد. قال طرفة:
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا
حنانيك بعض الشر أهو من بعض
٦ وجائز أن يكون المراد بالسلام هنا: التحية منه تعالى وهي أشرف من غيرها.
297
٢- جواز طلب العلامات الدالة على الشيء للمعرفة.
٣- آية عجيبة أن يصبح زكريا لا يتكلم فيفهم غيره بالإشارة فقط.
٤- فضل التسبيح في الصباح والمساء.
٥- وجوب أخذ القرآن بجد وحزم قراءة وحفظاً وعملاً بما فيه.
٦- صدق قول أهل العلم من حفظ القرآن في سن ما قبل البلوغ فقد أوتي الحكم صبياً.
٧- وجوب البر بالوالدين ورحمتهما والحنان عليهما والتواضع لهما.
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (١٦) فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (١٧) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا (١٨) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لاهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا (١٩) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا (٢١)
شرح الكلمات:
واذكر في الكتاب: أي القرآن مريم أي خبرها وقصتها.
مريم: هي بنت عمران والدة عيسى عليه السلام.
إذ انتبذت: أي حين اعتزلت أهلها باتخاذها مكاناً خاصاً تخلو فيه بنفسها.
شرقيا: أي شرق الدار التي بها أهلها.
حجابا: أي ساتراً يسترها عن أهلها وذويها.
روحنا: جبريل عليه السلام.
298
بشراً سوياً: أي تام الخلق حتى لا تفزع ولا تروع منه.
إن كنت تقياً: أي عاملاً بإيمانك وتقواك لله فابتعد عنى ولا تؤذني.
غلاماً زكياً: ولداً طاهراً لم يتلوث بذنب قط.
ولم يمسسني بشر: أي لم أتزوج.
ولم أك بغيّاً: أي زانية.
قال كذلك: أي الأمر كذلك وهو خلق غلام منك من غير أب.
هو على هين: ما هو إلاّ أن ينفخ رسولنا في كم درعك حتى يكون الولد.
ولنجعله آية للناس: أي على عظيم قدرتنا.
ورحمة منا: أي وليكون الولد رحمة بمن آمن به واتبع ما جاء به.
أمراً مفضياً: أي حكم الله به وفرغ منه فهو كائن حتماً لا محالة.
معنى الآيات:.
هذه بداية قصة مريم عليها السلام إذ قال تعالى لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿واذكر في الكتاب﴾ أي القرآن الكريم ﴿مريم﴾ أي نبأها وخبرها ليكون ذلك دليلاً على نبوتك وصدقك في رسالتك وقوله ﴿إذ انتبذت﴾ أي اعتزلت ﴿من أهلها﴾ هذا بداية القصة وقوله ﴿مكاناً شرقياً﴾ أي موضعاً شرقي دار قومها وشرق المسجد، ولذا اتخذ النصارى المشرق قبلة لهم في صلاتهم ولا حجة لهم في ذلك إلاّ الابتداع وإلاّ فقبلة كل مصلي لله الكعبة بيت الله الحرام قوله تعالى: ﴿فاتخذت من دونهم﴾ أي من دون أهلها ﴿حجاباً﴾ ساتراً لها عن أعينهم١، ولما فعلت ذلك أرسل الله تعالى إليها جبريل في صورة بشر سوي الخلقة معتد لها، فدخل عليها فقالت ما قص الله تعالى في كتابه ﴿إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا﴾ أي أحتمي بالرحمن الذي يرحم الضعيفات مثلي إن كنت مؤمناً تقياً فاذهب عني ولا تروعني أو تمسني بسوء. فقال لها جبريل عليه السلام ما أخبر تعالى به وهو ﴿قال إنما أنا رسول ربك لأهب٢ لك غلاماً زكياً﴾ أي طاهراً لا يتلوث بذنب قط. فأجابت بما أخبر تعالى عنها في قوله: {أنى يكون لي
١ قيل: استترت عن أهلها لتغتسل من حيضتها وتمتشط، وذلك لكمال حيائها.
٢ قرأ ورش عن نافع: (ليهب) بالياء بغير همزة، وقرأ غيره: (لأهب) بالهمزة فعلى قراءة نافع المعنى: أرسلني ليهب لك، وعلى قراءة غيره أرسلني يقول لك أرسلت رسولي إليك لأهب لك.
299
غلام} أي من أي وجه يأتيني الولد، ﴿ولم يمسسني بشر﴾ أي وأنا لم أتزوج، ﴿ولم أك بغيا١﴾ أي ولم أكزانية، فأجابها جبريل بما أخبر تعالى به في قوله: ﴿قال كذلك﴾ أي الأمر كما قلت ولكن ربك قال: ﴿هو علي هين﴾ أي خلقه بدون أب من نكاح أو سفاح، لأنه هين علينا من جهة، ﴿ولنجعله٢ آية للناس﴾ دالة على قدرتنا على خلق آدم بدون أب ولا أم، والبعث الآخر من جهة أخرى. وقوله تعالى ﴿رحمة منا وكان أمراً مقضياً٣﴾ أي ولنجعل الغلام المبشر به رحمة منا لكل من آمن به واتبع طريقته في الإيمان والاستقامة وكان هذا الخلق للغلام وهبته لك أمراً مقضياً أي حكم الله فيه وقضى به فهو كائن لا محالة ونفخ جبريل في جيب قميصها فسرت النفخة في جسمها فحملت به كما سيأتي بيانه في الآيات التالية.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بيان شرف مريم وكرامتها على ربها.
٢- فضيلة العفة والحياء.
٣- كون الملائكة يتشكلون كما أذن الله تعالى لهم.
٤- مشروعية التعوذ بالله من كل ما يخاف من إنسان أو جان.
هـ – التقوى٤ مانعة من فعل الأذى بالناس أو إدخال الضرر عليهم.
٦- خلق عيسى آية مبصرة تتجلى فيها قدرة الله تعالى على الخلق بدأ وإعادة.
١ لم تقل بغيّة لأنه وصف يغلب على النساء فقلما تقول العرب رجل بغي فجرى بغيا مجرى حائض وعاقر، وقيل هو فعيل بمعنى فاعل والأوّل أولى.
٢ ﴿ولنجعله﴾ متعلق بمحذوف تقديره: ونخلقه لنجعله.
٣ أي: مقدرا في اللوح المحفوظ كتاب المقادير العام.
٤ بخلاف الفجور فإنه مصدر كل ضرّ وشرّ.
300
فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (٢٢) فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا (٢٣) فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (٢٥) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا (٢٦)
شرح الكلمات:
فانتبذت به: فاعتزلت به.
مكاناً قصيا: أي بعيداً من أهلها.
فأجاءها المخاض: أي ألجأها الطلق واضطرها وجع الولادة.
إلى جذع النخلة: لتعتمد عليها وهي تعاني من آلام الولادة.
نسياً منسياً: أي شيئاً متروكا لا يعرف ولا يذكر.
فناداها من تحتها: أي عيسى عليه السلام بعدما وضعته.
﴿نسياً منسياً﴾ : أي شيئاً متروكاً لا يعرف بعدما وضعته.
﴿تحتك سرياً﴾ : أي نهراً يقال له سري.
رطباً جنياً: الرطب الجني: ما طاب وصلح للإجتناء.
فكلي وأشربي: أي كل من الرطب واشربي من السري.
وقري عينا: أي وطيبي نفساً وافرحي بولادتك إياي ولا تحزني.
نذرت للرحمن صوماً: أي إمساكاً عن الكلام وصمتاً.
301
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في قصة مريم إنه بعد أن بشرها جبريل بالولد وقال لها وكان أمراً مقضياً ونفخ في كم درْعها أو جيب قميصها فحملته١ فوراً ﴿وانتبذت به مكاناً قصياً﴾ أي فاعتزلت به في مكان بعيد٢ ﴿فأجاءها المخاض٣﴾ أي ألجأها وجع النفاس ﴿إلى جذع النخلة﴾ لتعتمد عليه وهي تعاني من آلام الطلق وأوجاعه، ولما وضعته قالت متأسفة متحسرة ما أخبر تعالى به: ﴿قالت يا ليتني٤ مت قبل هذا﴾ أي الوقت الذي. أصبحت فيه أم ولد، ﴿وكنت نسياً منسياً٥﴾ أي شيئاً متروكا لا يذكر ولا يعرف وهنا ﴿فنادها﴾ عيسى٦ عليه السلام ﴿من تحتها ألاّ تحزني﴾ يحملها على الصبر والعزاء وقوله تعالى: ﴿قد جعل ربك تحتك سريا﴾ أي نهر ماء يقال له سري، ﴿وهزىء إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا فكلي واشربي﴾ أي كلي من الرطب واشربي من ماء النهر، ﴿وقري عينا﴾ أي طيبي نفسا وافرحي بولدك، ﴿فإما ترين من البشر أحداً﴾ أي فسألك عن حالك أو عن ولدك فلا تكلميه واكتفي بقولك ﴿إني نذرت للرحمن صوماً﴾ أي صمتاً ﴿فلن أكلم اليوم إنسياً﴾ هذا كله من قول عيسى لها أنطقه الله كرامة لها ليذهب عنها حزنها وألمها النفسي من جراء الولادة وهي بكر لم تتزوج.
١ قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما هو إلاّ أن حملت فوضعت في الحال. قال القرطبي: هذا هو الظاهر لأنّ الله تعالى ذكر الانتباذ عقب الحمل: ﴿فحملته فانتبذت به﴾ والفاء للترتيب والتعقيب.
٢ انتحت بالحمل إلى مكان بعيد قال ابن عباس: إلى أقصى الوادي وادي بيت لحم بينه وبين إيلياء أربعة أميال وإنما بعدت فراراً من تعيير قومها بالولادة من غير أب.
٣ يقال: جاء به وأجاءه إلى موضع كذا: اضطره وألجأه.
٤ تمني الموت لا يجوز لحديث: "لاّ يتمنّين أحدكم الموت لضرّ نزل به" الحديث وتمنّته مريم عليها السلام لا لصالح نفسها ولكن لله تعالى، وذلك أنها خافت أن يظنّ بها الشرّ في دينها وتُعَيَّر فتفتن بذلك، وهذا لله، وثانياً خافت أن يقع بعض الناس في البهتان والنسبة إلى الزنى فيهلكون. وهذا أيضاً لله لا لها.
٥ النسي: الشيء الحقير الذي شأنه أن ينسى ولا يُتألم لفقده كالوتد والحبل ونحوهما، ويجمع النسي على أنساء قال الكميت رضي الله عنه:
أتجعلنا جسرا لكب قضاعة
ولست بنسي في معدّ ولا دخل
والنسي أيضاً: خرق الحيض التي ترمى بدمها من الحيض.
٦ قرأ نافع (مِن) بكسر الميم حرف جر، وقرأ حفص مَن بفتحها، اسم موصول والمراد بالموصول عيسى عليه السلام ناداها قبل أن ترضعه من تحتها تعجيلا للمسرة والبشرى لها به فأنْ في ألا تحزني تفسيرية لأنّ النداء قول.
302
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- من مظاهر قدرة الله تعالى حملها ووضعها في خلال ساعة من نهار.
٢- إثبات كرامات الله لأوليائه إذ أكرم الله تعالى مريم بنطق عيسى ساعة وضعه فأرشدها وبشرها وأذهب عنها الألم والحزن، وأثمر لها النخلة فأرطبت وأجرى لها النهر بعد يبسه.
٣- تقرير نظام الأسباب التي في مكنة الإنسان القيام بها فإن الله تعالى قد أثمر لمريم النخلة إذ هذا لا يمكنها القيام به ثم أمرها أن تحرك النخلة من جذعها ليتساقط عليها الرطب١ الجني إذ هذا في استطاعتها.
٤- مشروعية النذر إلاّ أنه بالامتناع٢ عن الكلام منسوخ في الإسلام.
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (٢٧) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (٣١) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣)
١ قالت العلماء: أكل الرطب للنفساء من أنفع الأغذية لها نظراً إلى أنّ الله تعالى اختاره لمريم عليها السلام.
٢ قولها ﴿إني نذرت للرحمن صوماً﴾ فسر الصوم بالصمت كما في التفسير وأولى من هذا أن يكون صوم النذر في دينهم مستلزماً للصمت وعدم الكلام، والسياق دلّ عليه ظاهر فيه، وما زال النصارى يعتبرون الصمت عبادة فيصمتون دقائق على أرواح موتاهم ونسخ الإسلام هذا كما في الصحيح حيث أمر من نذر أن لا يتكلم أن يتكلم، ومن سنن الهدى في الإسلام الامتناع عن الكلام القبيح في الصيام لحديث الصحيح: "إذا كان صومٍ أحدكم فلا يرفث ولا يجهل فإن امرئ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم" وهو كقول مريم: ﴿فقولي إني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلّم اليوم إنسياً﴾.
303
شرح الكلمات:
قأتت به: أي بولدها عيسى عليه وعليها السلام.
جئت شيئاً فرياً١: أي عظيماً حيث أتيت بولد من غير أب.
يا أخت هارون: أي يا أخت الرجل الصالح هارون.
امرأ سوء: أي رجلاً يأتي الفواحش.
فأشارت إليه: أي إلى عيسى وهو في المهد.
آتاني الكتاب: أي الإنجيل باعتبار ما يكون مستقبلاً.
مباركاً أينما كنت: أي حيثما وجدت كانت البركة فيَّ ومعي ينتفع الناس بي.
وبرا بوالدتي: أي محسناً بها مطيعاً لها لا ينالها مني أدنى أذى.
جباراً شقيا: ظالماً متعالياً ولا عاصياً لربي خارجاً عن طاعته.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في قصة مريم مع قومها: إنها بعد أن تماثلت للشفاء حملت ولدها وأتت به قومها وَما ان رأوهما حتى قال قائلهم: ﴿يا مريم لقد جئت شيئاً فريا﴾ أي أمراً عظيماً وهو إتيانك بولد من غير أب. ﴿يا أخت هارون٢﴾ نسبوها إلى عبد صالح يسمى هارون: ﴿ما كان أبوك﴾ عمران ﴿امرأ سوء﴾ يأتي الفواحش ﴿وما كانت أمك﴾ "حنة" ﴿بغيا﴾ أي زانية فكيف حصل لك هذا وأنت بنت البيت الطاهر والأسرة الشريفة. وهنا أشارت إلى عيسى الرضيع في قماطته أي قالت لهم سلوه يخبركم الخبر وينبئكم بالحق، لأنها علمت أنه يتكلم لما سبق أن ناداها ساعة وضعه من تحتها وقال لها ما ذكر تعالى في الآيات السابقة.
(فريًّا) : أي: مختلقاً مفتعلاً من الافتراء الذي هو الكذب يقال: فرى وأفرى: كذب ومن كراماتها أن امرأة مدّت لها يدها لتضرّبها أصيبت بالشلل الفوري فحملت كذلك وقالت لها: أخرى ما أراك إلاّ زنيت فأخرسها الله فوراً فصارت لا تتكلم ومن ثم ألانوا لها الكلام واحترموها.
٢ من الجائز أن يكون لمريم أخ صالح من أبيها أو من أبويها نسبوها إليه ومن الجائز أن تنسب إلى هارون الرسول عليه السلام كقول العرب يا أخا تميم ويا أخا العرب، وما في التفسير إجمال يشمل الكلّ فتأمّل، وفي الآية دليل على جواز التسمية بالأنبياء والصالحين، ولا خلاف في ذلك.
304
فردوا عليها مستخفين بها منكرين عليها متعجبين منها: ﴿كيف نكلم من كان١ في المهد صبيا؟﴾ فأنطق الله عيسى الرضيع فأجابهم بما أخبر تعالى عنه في قوله: ﴿قال إني عبد٢ الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً وبراً٣ بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً﴾ ٤ فأجابهم بكل ما كتب الله وأنطقه به، وكان عيسى كما أخبر عن نفسه لم ينقص من ذلك شيئاً كان عبداً لله وأنزل عليه الإنجيل ونبأه وأرسله إلى بني إسرائيل وكان مباركاً يشفي المرضى ويحيي الموتى بإذن الله تنال البركة من صحبته وخدمته والإيمان به وبمحبته وكان مقيماً للصلاة مؤدياً للزكاة طوال حياته وما كان ظالماً ولا متكبراً عاتياً ولا جباراً عصياً. فعليه كما أخبر السلام أي الأمان التام يوم ولد فلم يقربه شيطان ويوم يموت فلا يفتن في قبره ويوم يبعث حياً فلا يحزنه الفزع الأكبر، ويكون من الآمنين السعداء في دار السلام.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- تقرير نبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعبودية عيسى ونبوته عليهما السلام.
٢- آية نطق عيسى في المهد وإخباره بما أولاه الله من الكمالات.
٣- وجوب بر الوالدين بالإحسان بهما وطاعتهما والمعروف وكف الأذى عنهما.
٤- التنديد بالتعالى والكبر والظلم والشقاوة التي هي التمرد والعصيان.
ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤) مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (٣٥) وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ
١ كان: هنا زائدة للتوكيد، ومن: مبتدأ والخبر في المهد وصبياً: حالي من الموصول.
٢ قيل: لما سمع كلامهم ترك الرضاعة وأقبل عليهم بوجهه وقال مشيراً بسبابته اليمنى: ﴿إني عبد الله﴾ فكان أول ما نطق به الاعتراف بعبوديته لله تعالى، وفي هذا ردّ على الذين ألّهوه وعبدوه من دون الله تعالى.
٣ البر: بمعنى البار وخص بهذه الصفة لأن قومهم قل فيهم البرور بالوالدين وكثر فيهم العقوق نظراً إلى فشو الباطل فيهم ورقة حبل الدين بينهم، والجبّار: المتكبر على الناس الغليظ في معاملتهم، والشقي ضدّ السعيد.
٤ لما قال ما قال في المهد: إني عبد الله.. إلى قوله: ﴿ويوم أبعث حيًّا﴾ لم يتكلم حتى بلغ سن التكلم.
305
فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (٣٦) فَاخْتَلَفَ الاحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٣٧) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ (٣٨) وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الامْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٩) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الارْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (٤٠)
شرح الكلمات:
ذلك عيسى ابن مريم: أي هذا الذي بينت لكم صفته وأخبرتكم خبره هو عيسى بن مريم.
قول الحق: أي وهو قول الحق الذي أخبر تعالى به.
يمترون: يشكون.
ما كان لِله أن يتخذ من ولد: أي ليس من شأن الله أن يتخذ ولداً وهو الذي يقول للشيء كن فيكون.
سبحانه: أي تنزيهاً له عن الولد والشريك والشبيه والنظير.
صراط مستقيم: أي طريق مستقيم لا يضل سالكه.
فاختلف الأحزاب: أي في شأن عيسى فقال اليهود هو ساحر وابن زنا، وقال النصارى هو الله وابن الله تعالى الله عما يصفون.
من مشهد يوم عظيم: هو يوم القيامة.
أسمع بهم وأبصر: أي ما أسمعهم وما أبصرهم يوم القيامة عند معاينة العذاب.
وأنذرهم يوم الحسرة: أي خوفهم بما يقع في يوم القيامة من الحسرة والندامة وذلك عندما يشاهدون أهل الجنة قد ورثوا منازلهم فيها وهم ورثوا منازل أهل الجنة في النار فتعظم الحسرة ويشتد الندم.
306
معنى الآيات:
بعد أن قص الله تعالى قصة مريم من ساعة أن اتخذت من دون أهلها حجاباً معتزلة أهلها منقطعة إلى ربها إلى أن أشارت إلى عيسى وهو في مهده فتكلم فقال: إني عبد الله، فبين تعالى أن جبريل بشرها، وأنه نفخ في كم درعها فحملت بعيسى وأنه ولد في ساعة من حمله وأنها وضعته تحت جذع النخلة وأنه ناداها من تحتها: أن لا تحزني، وأرشدها إلى القول الذي تقول لقومها إذا سألوها عن ولادتها المولود بدون أب، وهو أن تشير إليه تطلب منهم أن يسألوه وسألوه فعلا فأجاب بأنه عبد الله وأنه آتاه الكتاب وجعله نبياً ومباركاً وأوصاه بالصلاة والزكاة ما دام حياً وأنه بر بوالدته، ولم يكن جباراً شقياً فأشار تعالى إلى هذا بقوله في هذه الآية (٣٤) ﴿ذلك﴾ أي هذا الذي بينت لكم صفته وأخبرتكم خبره هو ﴿عيسى ابن مريم﴾، وما أخبرتكم به هو ﴿قول١ الحق الذي فيه يمترون﴾ أي يشكون إذ قال اليهود في عيسى أنه ابن زنا وانه ساحر وقال النصارى هو الله وابن الله وثالث ثلاثة حسب فرقهم وطوائفهم المتعددة وقوله تعالى: ﴿ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه﴾ ينفي تعالى عنه اتخاذ الولد وكيف يصح ذلك له أو ينبغي وهو الغني عما سواه والمفتقر إليه كل ما عداه، وأنه يقول للشيء كن فيكون فعيسى عليه السلام كان بكلمه الله تعالى له كن فكان وهو معنى قوله تعالى ﴿إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون٢﴾. وقد نزه تعالى نفسه عن الولد والشريك والشبيه والنظير، والافتقار والحاجة إلى مخلوقاته بقوله: سبحانه أي تنزيها له عن صفات المحدثين وقوله تعالى: ﴿وأن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم٣﴾ هذا من قول٤ عيسى عليه السلام لبني إسرائيل أخبرهم أنه عبد الله وليس بابن لله ولا بإله مع الله وأخبرهم
١ قرأ الجمهور برفع قول وقرأ عاصم بنصبها، فأما الرفع فهو خبر ثانٍ عن اسم الإشارة أو وصف لعيسىأ وبدل منه، وأمّا النصب فعلى الحال من اسم الإشارة.
٢ في هذا ردّ على النصارى القائلين بأن المكوّن بأمر التكوين من غير سبب معتاد لا يكون إلاّ ابن الله تعالى فبيّنت الآية أن أصول الموجودات كلها كانت بأمر التكوين فهل يقال فيها أبناء الله؟! والجواب قطعاً لا، وعليه فقد بطل قولهم: عيسى ابن الله لأنّه كان بكلمة التكوين.
٣ جملة: ﴿هذا صراط مستقيم﴾ تذييل وفذلكة لما سبق من الكلام وإشارة إلى مضمون ما تقدّم على اختلاف وجوهه، في تقرير الحق وإبطال الباطل.
٤ نعم الظاهر أنه من قول عيسى عليه السلام، والجمل قبله من قوله تعالى: ﴿ذلك عيسى بن مريم﴾ اعتراض بين قول عيسى الأوّل: ﴿إني عبد الله﴾ وبين قوله ﴿وإن الله ربّي وربكم﴾.
307
أن الله تعالى هو ربه وربهم فليعبدوه جميعاً بما شرع لهم ولا يعبدون معه غيره إذ لا إله لهم إلاّ هو سبحانه وتعالى، وأعلمهم أن هذا الاعتقاد الحق والعبادة بما شرع الله هو الطريق المفضي بسالكه إلى السعادة ومن تنكب عنه وسلك طريق الشرك والضلال أفضى به إلى الخسران وقوله تعالى في الآية (٣٧) ﴿فاختلف الأحزاب من بينهم١﴾ أي في شأن عيسى فمن قائل هو الله، ومن قائل هو ابن الله ومن قائل هو وأمه الهين من دون الله والقائلون بهذه المقالات كفروا بها فتوعدهم الله تعالى بالعذاب الأليم فقال ﴿فويل للذين كفروا﴾ بنسبَتِهم الولد والشريك لله، والويل واد في جهنم فهم إذا داخلوها لا محالة، وقوله ﴿من مشهد يوم عظيم﴾ يعني به يوم القيامة وهو يوم ذو أهوال وشدائد لا يقادر قدرها.
وقوله تعالى في الآية (٣٨) ﴿أسمع٢ بهم وأبصر يوم يأتوننا﴾ يخبر تعالى أن هؤلاء المتعامين اليوم عن الحق لا يريدون أن يبصروا آثاره الدالة عليه فيؤمنوا ويوحدوا ويعبدوا، والمتصاممين عن سماع الحجج والبراهين وتوحيد الله وتنزيهه عن الشريك والولد هؤلاء يوم يقدمون عليه تعالى في عرصات القيامة يصبحون أقوى ما يكون أبصاراً وسمعاً، ولكن حين لا ينفعهم سمع ولا بصر، وقوله تعالى: ﴿لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين﴾ يخبر تعالى أن أهل الشرك والكفر وهم الظالمون في ضلال مبين أي عن طريق الهدى وهو سبب عدم إبصارهم للحق وسماعهم لحججه التي جاءت بها رسل الله ونزلت بها كتبه.
وقوله تعالى في آية (٣٩) ﴿وأنذرهم يوم الحسرة٣ إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون﴾ يأمر تعالى رسوله محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن ينذر الكفار والمشركين أي يخوفهم عاقبة شركهم وكفرهم وضلالهم يوم القيامة حيث تشتد فيه الحسرة وتعظم الندامة وذلك عندما يتوارث الموحدون مع المشركين فالموحدون يرثون منازل المشركين في الجنة، والمشركون يرثون منازل
(من) : زائدة واختلاف الأحزاب، وجهه: أن اليهود قادحون والنصارى مادحون، فاليهود قالوا: ساحر وابن زنية، والنصارى فرقة: قالت هو الله وأخرى قالت: ابن الله، وثالثة قالت: ثالث ثلاثة، وهذه الفرق هي الملكانية، واليعقوبية، والنسطورية ثم تشعبت وأشهرها الآن: الملكائية أي الكاثوليك واليعقويية: أي أرثذوكس والاعتراضية أي: البروتستانت.
٢ هذا الكلام ظاهر أنه أمر لحمل السامع على التعجب من حال المذكورين، ومعناه الخبر أي: لا أحد أسمع منهم ولا أبصر يوم يقفون في عرصات القيامة، ويشاهدون النار ويسمعون زفيرها.
٣ روي في مسند أحمد وفي الصحيحين أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار يجاء بالموت، كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار فيقال: يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ قال فيشرئبون وينظرونه ويقولون: نعم هذا الموت. قال: فيقال: يا أهل النار هل تعرفون هذا؟ قال: فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم هذا الموت. قال: فيؤمر به فيذبح. قال. ويقال: يا أهل الجنة خلود بلا موت، ويا أهل النار خلود بلا موت، ثمّ قرأ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿وأنذرهم يوم الحسرة..﴾ الآية.
308
الموحدين في النار، وعندما يؤتى بالموت في صورة كبش فيذبح بين الجنة والنار، وينادي منادٍ يا أهل الجنة خلود فلا موت؟ ويا أهل النار خلود فلا موت عندها تشتد الحسرة ويعظم الندم هذا معنى قوله تعالى ﴿وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة﴾ عما حكم عليهم به من الخلود في نار جهنم ﴿وهم لا يؤمنون﴾ بالبعث ولا بما يتم فيه من نعيم مقيم وعذاب أليم. وقوله تعالى: ﴿إنا نحن١ نرث الأرض ومن عليها، وإلينا يرجعون﴾ يخبر تعالى عن نفسه بأنه الوارث للأرض ومن عليها ومعنى هذا أنه حكم بفناء، هذه المخلوقات وأن يوماً سيأتي يفنى فيه كل من عليها، والجميع سيرجعون إليه ويقفون بين يديه ويحاسبهم بما كتبت أيديهم ويجزيهم به، ولذا فلا تحزن أيها الرسول وامض في دعوتك تبلغ عن ربك ولا يضرك تكذيب المكذبين ولا شرك المشركين.
هداية الآيات
هن هداية الآيات:
١- تقرير أن عيسى عبد الله ورسوله، وليس كما قال اليهود، ولا كما قالت النصارى.
٢- استحالة اتخاذ الله الولد وهو الذي يقول للشيء كن فيكون.
٣- تقرير التوحيد على لسان عيسى عليه السلام.
٤- الإخبار بما عليه النصارى من خلاف في شأن عيسى عليه السلام.
٥- بيان سبب الحسرة يوم القيامة وهو الكفر بالله والشرك به.
٦- تقرير فناء الدنيا، ورجوع الناس إلى ربهم بعد بعثهم وهو تقرير لعقيدة البعث والجزاء التي تعالجها السور المكية في القرآن الكريم.
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إبراهيم إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا (٤١) إِذْ قَالَ لابِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا (٤٢) يَا أَبَتِ
١ هذه الجملة ذيّل بها الكلام السابق فتمت به القصة وضمير (نحن) للتأكيد والأرض: المراد بها ما فيها من غير العقلاء (ومن عليها) المراد بهم العقلاء وهم البشر.
309
إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (٤٣) يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (٤٤) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (٤٥)
شرح الكلمات:
اذكر في الكتاب: أي في القرآن.
إنه كان صديقا: أي كثير الصدق بالغ الحد الأعلى فيه.
يا أبت: يا أبي وهو آزر.
صراطا سويا: أي طريقا مستقيما لا اعوجاج فيه يفضي بك إلى الجنة.
لا تعبد الشيطان: أي لا تطعه في دعوته إياك إلى عبادة الأصنام.
عصيا: أي عاصياً لله تعالى فاسقاً عن أمره.
فتكون للشيطان ولياً: أي قريباً منه قرينا له فيها أي النار.
معنى الآيات:
هذه بداية قصة إبراهيم الخليل عليه السلام مع والده آزر عليه لعائن الرحمن قال تعالى لرسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿واذكر﴾ يا نبينا ﴿في الكتاب﴾ أي القرآن الكريم ﴿إبراهيم﴾ خليلنا ﴿إنه كان صديقا﴾ أي صادقاً في أقواله وأعماله بالغاً مستوى عظيماً في الصدق ﴿نبياً﴾ من أنبيائنا فهو جدير بالذكر في القرآن ليكون قدوة صالحة للمؤمنين. واذكره ﴿إذ قال لأبيه﴾ آزر ﴿يا أبت١ لم تعبد﴾ أي تسأله بالدعاء والتقرب بأنواع القربات ما لا يسمع ولا يبصر من الأصنام أي لا يبصرك ولا يسمعك ﴿ولا يغني عنك شيئاً﴾ لا يدفع عنك ضراً ولا يجلب لك نفعاً فأي حاجة لك إلى عبادته ﴿يا أبت إني قد جاءني من العلم٢﴾ أي من قبل ربي تعالى ﴿ما لم يأتك﴾ أنت ﴿فاتبعني﴾ فيما أعتقده وأعمله وأدعو إليه ﴿أهدك صراطا٣ سويا﴾ أي مستقيما يفضي
١ الاستفهام للإنكار أي: لأيّ شيء تعبد.
٢ أي: من اليقين والمعرفة بالله وبما يكون بعد الموت وأنّ من عبد غير الله يعذّب أبداً.
٣ أرشدك إلى دين قيّم فيه نجاتك وسعادتك.
310
بك إلى السعادة والنجاة، ﴿يا أبت لا تعبد الشيطان﴾ أي بطاعته فيما يدعوك إليه من عبادة غير الله تعالى من هذه الأصنام التي لا تضر ولا تنفع لأنها لا تسمع ولا تبصر ولا تعطي ولا تمنع، ﴿إن الشيطان كان للرحمن عصياً١﴾ أي عاصياً أمره فأبى طاعته وفسق عن أمره. ﴿يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن٢﴾ إن أنت بقيت على شركك وكفرك ولم تتب منهما حتى مت فيمسك عذاب من الرحمن ﴿فتكون﴾ أي بذلك ﴿للشيطان ولياً﴾ أي قريباً منه قريناً له في جهنم فتهلك وتخسر.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- تقرير التوحيد بالدعوة إليه.
! - كمال إبراهيم بذكره في الكتاب.
٣- بطلان عبادة غير الله تعالى.
٤- عبادة الأوثان والأصنام وكل عبادة لغير الله تعتبر عبادة للشيطان لأنه الآمر بها والداعي إليها.
قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إبراهيم لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لارْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (٤٦) قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (٤٧) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا (٤٨) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلا جَعَلْنَا نَبِيًّا (٤٩) وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (٥٠)
١ الجملة تعليلية للنهي عن عبادة الشيطان واتباع وسوسته وما يدعو إليه من الشرك.
٢ أي: إني أخاف أن تموت على الكفر فيمسك العذاب الأليم.
311
شرح الكلمات:
لئن لم تنته: أي عن التعرض لها وعيبها.
لأرجمنك: بالحجارة أو بالقول القبيح فاحذرني.
واهجرني مليا١: أي سليما من عقوبتي.
سلام عليك.: أي أمنةٌ مني لك أن أعاودك فيما كرهت مني.
إنه كان بي حفيا: أي لطيفاً بي مكرماً لي يجيبني لما أدعوه له.
عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا: بل يجيب دعائي ويعطني مسألتي.
فلما اعتزلهم: بأن هاجر إلى أرض القدس وتركهم.
وهبنا له اسحق ويعقوب: أي وهبنا له ولدين يأنس بهما مجازاة منا له على هجرته قومه.
ووهبنا لهم من رحمتنا: خيراً كثيراً المال والولد بعد النبوة والعلم.
لسان صدق عليا: أي رفيعاً بأن يُثنى عليهم ويذكرون بأطيب الخصال.
معنى الآيات:
ما زال السياق في قصة إبراهيم مع أبيه آزار إنه بعد تلك الدعوة الرحيمة بالألفاظ الطيبة الكريمة التي وجهها إبراهيم لأبيه آزر ليؤمن ويوحد فينجو ويسعد قال آزر راداً عليه بعبارات خالية من الرحمة والأدب بل ملؤها الغلظة والفظاظة والوعيد والتهديد وهي ما أخبر به تعالى عنه في قوله: في الآية (٤٦) ﴿قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم﴾ أي أكاره لها تعيبها، ﴿لئن لم تنته﴾ أي عن التعرض لها بأي سوء٢ ﴿لأرجمنك﴾ بأبشع الألفاظ وأقبحها، ﴿واهجرني مليا٣﴾ أي وابعد عني ما دمت معافى سليم البدن سويه قبل أن ينالك مني ما تكره. كان هذا رد آزر الكافر المشرك. فيما أجاب إبراهيم المؤمن الموحد أجاب بما أخبر تعالى به عنه في قوله في آية (٤٧) ﴿قال سلام٤ عليك٥﴾ أي أمان لك مني يا أبتاه فلا أعاودك
١ ﴿واهجرني مليا﴾ أي: اتركني وشأني وابعد عنّي طويلا تسلم من عقوبتي.
٢ أي: كعيبها وشتمها.
٣ وقيل في معناه: اجتنبني سالماً قبل أن تصيبك عقوبتي، وقيل: اهجرني طويلا.
٤ هذا يسمى سلام المتاركة، وليس هو بالتحية وهل يجوز بدء الكافر بالسلام؟ في المسألة خلاف، والراجح: جواز السلام إذا كان لغرض سليم ككونه جاراً لك أو رفيقاً أو مصاحباً لك في عمل أو لك إليه حاجة وما إلى ذلك إذ سلم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على جماعة فيهم مشركون كما في الصحيح، وأمّا حديث: "لاّ تبدأوا اليهود والنصارى بالسلام" فهو إذا لم يكن هناك غرض صحيح.
(سلام) : نكرة وصح الابتداء بها لما فيها من معنى التخصيص فقاربت لذلك المعرفة وصحّ الابتداء بها. وعليك الخبر.
312
فيما كرهت مني قط وسأقابل إساءتك بإحسان ﴿سأستغفر لك ربي﴾ أي أطلب منه أن يهديك للإيمان والتوحيد فتتوب فيغفر لك ﴿إنه كان﴾ سبحانه وتعالى ﴿بي حفيا﴾ لطيفا بي مكرما لي لا يخيبني فيما أدعوه فيه.
وقوله تعالى حكاية عن قيل إبراهيم: ﴿وأعتزلكم وما تدعون من دودن الله﴾ أي أذهب بعيداً عنكم تاركاً لكم ولما تعبدون من دون الله من أصنام وأوثان، ﴿وأدعو ربي عسى إلاّ أكون بدعاء ربي شقياً ١﴾ أي رجائي في ربي كبير أن لا أشقى بعبادته كما شقيتم أنتم بعبادة الأصنام. قال تعالى مخبراً عنه فلما حقق ما واعدهم به من هجرته لديارهم إلى ديار القدس تاركاً أباه وأهله وداره كافأناه بأحسن حيث أعطيناه ولدين يأنس بهما في وحشته وهما إسحق ويعقوب وكلا منهما جعلناه نبيا رسولاً، ووهبنا لجميعهم وهم ثلاثة الوالد إبراهيم وولداه اسحق ويعقوب بن اسحق عليهم السلام من رحمتنا الخير العظيم من المال والولدّ والرزق الحسن هذا معنى قوله تعالى: ﴿فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحق ويعقوب﴾ وهو ابن ولده إسحق ﴿وكلا جعلنا نبيا ووهبنا لهم من رحمتنا﴾. وقوله تعالى عنهم ﴿وجعلنا لهم لسان صدق عليا﴾ هذا إنعام آخر مقابل الهجرة في سبيل الله حيث جعل الله تعالى لهم لسان الصدق في الآخرة فسائر أهل الأديان الإلهية يثنون على إبراهيم وذريته بأطيب الثناء وأحسنه وهو لسان الصدق العلي الرفيع الذي حظى به إبراهيم وولديه إكراماً من الله تعالى وإنعاماً عليهم جزاء صدق إبراهيم وصبره وبالتالي هجرته للأصنام وعابديها.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بيان الفرق بين ما يخرج من فم المؤمن الموحد من طيب القول وسلامة اللفظ ولين الجانب والكلام، وبين ما يخرج من فم الكافر المشرك من سوء القول وقبح اللفظ وقسوة الجانب وفظاظة الكلام.
٢- مشروعية سلام المتاركة والموادعة وهو أن يقال للسيء من الناس سلام عليك وهو لا يريد
١ أراد بهذا الدعاء أن يهب الله تعالى له أهلاً وولداً يتقوى بهم حتى لا يستوحش بالاعتزال، وفي قوله تعالى ﴿فلما اعتزلهم﴾ وهنا له دليل يرجح هذا القول. والله أعلم.
313
بذلك تحيته ولكن تركه وما هو فيه.
٣- مشروعية الهجرة وبيان فضلها وهجرة إبراهيم هذه أول هجرة كانت في الأرض.
٤- الترغيب في حسن الأحدوثة بأن يكون للمرء حسن ثناء بين الناس لما يقدم من جميل وما يورث من خير وإفضال.
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولا نَّبِيًّا (٥١) وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الايْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (٥٢) وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (٥٣)
شرح الكلمات:
واذكر في الكتاب: أي في القرآن تشريفا وتعظيما.
موسى: أي ابن عمران نبي بني إسرائيل عليه السلام.
مخلصا: أي مختاراً مصطفى على قراءة فتح اللام "مخلَصاً" وموحداً لربه مفرداً إياه بعبادته بالغاً في ذلك أعلى المقامات على قراءة كسر اللام.
جانب الطور: الطور جبل بسيناء بين مدين ومصر.
وقربناه نجيا: أي أدنيناه إدناء تشريف وتكريم مناجياً لنا مكلما من قبلنا.
أخاه هارون نبيا: إذ سأل ربه لأخيه الرسالة فأعطاه فنبَّأهُ وأرسله معه إلى فرعون.
معنى الآيات:
هذا موجز قصة موسى عليه السلام قال تعالى في ذلك وهو يخاطب نبيه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿واذكر﴾ في هذه السلسلة الذهبية من عباد الله الصالحين أهل التوحيد واليقين موسى ابن عمران انه جدير بالذكر في القرآن وعلة ذلك في قوله تعالى: ﴿إنه كان مخلصاً﴾ أي مختاراً مصطفى للإبلاغ عنا عبادنا ما خلقناهم لأجله وهو ذكرنا وشكرنا ذكرنا بألسنتهم وقلوبهم وشكرهم لنا بجوارحهم وذلك بعبادتنا وحدنا دون مَن سوانا، وكان موسى كذلك، وقول تعالى: ﴿وكان رسولاً نبيا﴾ أي ومن افضالنا عليه وإكرامنا له أن جعلناه نبياً رسولاً نبأناه
314
وأرسلناه إلى فرعون وملائه، ﴿وناديناه﴾ ١ وهو في طريقه من مدين إلى مصر في جانب الطور الأيمن٢ حيث نبأناه وأرسلناه وبذلك ﴿وقربناه نجيا﴾ فصار يناجينا فنُسمعه كلامنا ونسمع٣ كلامه وأعظم بهذا التكريم من تكريم، وقوله: ﴿ووهبنا له من٤ رحمتنا أخاه هارون نبيا﴾ هذا إنعام آخر من الله تعالى على موسى النبي إذ سأل ربه أن يرسل معه أخاه هارون إلى فرعون فبرحمة من الله تعالى استجاب له ونبأ هارون وأرسله معه رسولاً وما كان هذا إلاّ برحمة خاصة إذ النبوة لا تطلب ولا يتوصل إليها بالاجتهاد والعبادة ولا بالدعاء والصراعة إذ هي هبة إلهية خاصة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- فضيلة الإخلاص، وهو إرادة الله تعالى بالعبادة ظاهراً وباطناً.
٢- إثبات صفة الكلام والمناجاة لله تعالى.
٣- بيان إكرام الله تعالى وإنعامه على موسى إذ أعطاه ما لم يعط أحداً من العالمين باستجابة دعائه بأن جعل أخاه هارون رسولاً نبياً.
٤- تقرير أن كل رسول نبياً والعكس لا أي ليس كل نبي رسولاً.
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولا نَّبِيًّا (٥٤) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (٥٥) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا (٥٦) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (٥٧) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ
١ قيل: كان هذا الكلام والمناجاة ليلة الجمعة. ذكره القرطبي.
٢ هو بالنسبة إلى يمين موسى عليه السلام أما الجبل فلا يمين له ولا شمال "ابن جرير الطبري".
٣ أي: من غير وحي بل كفاحاً وجها لوجه لا واسطة.
٤ وذلك حين سأل ربه قائلاً: ﴿واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي﴾ الآية.
315
أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (٥٨)
شرح الكلمات:
واذكر في الكتاب إسماعيل: أي اذكر في القرآن تشريفا وتعظيما إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام.
صادق الوعد: لم يخلف وعد قط.
بالصلاة والزكاة: أي بإقامة الصلاة لإيتاء الزكاة.
مرضيا: أي رضى الله تعالى قوله وعمله ليقينه وإخلاصه.
إدريس: هو جد أبي نوح عليه السلام.
ورفعناه مكاناً عليا: إلى السماء الرابعة.
إسرائيل: أي يعقوب بن اسحق بن إبراهيم عليهم السلام.
وممن هدينا واجتبينا: أي من جملة من هديناهم لطريقنا واجتبيناهم بنبوتنا.
إذا تتلى عليهم آيات الرحمن: أي تقرأ عليهم وهم يستمعون إليها.
سجداً وبكيا: جمع ساجد وباك أي ساجدين وهم يبكون.
معنى الآيات:
يقول تعالى لنبيه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما ذكرت من ذكرت من مريم وابنها وإبراهيم وموسى اذكر كذلك إسماعيل١ فإنه ﴿كان صادق الوعد﴾ ٢ لم يخلف وعداً قط وكان ينتظر الموعود الليالي حتى يجىء وهو قائم في مكانه ينتظره، ﴿وكان رسولاً نبيا﴾ نبأه تعالى بمكة المكرمة إذ عاش بها وأرسله إلى قبيلة جرهم العربية ومنها تزوج وأنجب وكان من ذريته محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقوله تعالى:
١ هو إسماعيل بن إبراهيم والذي أمّه هاجر عليهما السلام ولا التفات إلى قول من قال: إنه إسماعيل بن حزقيل الذي بعثه الله إلى قوم فسلخوا جلد رأسه.. الخ كما في القرطبي.
٢ في الآية دليل على وجوب صدق الوعد وفي الحديث: "إنّ الخُلف من آيات النفاق". وقد انتظر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاثة أيام وهو مقيم في مكان ينتظر من واعده اللقاء فيه وذلك قبل بعثته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رواه أبو داود والترمذي، والرجل هو: أبو الحمساء وقال له: يا فتى لقد شققت عليّ أنا هنا منذ ثلاث أنتظرك!!
316
﴿وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة﴾ المراد من الأهل أسرته وقومه من قبيلة جرهم والمراد من الصلاة إقامتها ومن الزكاة أداؤها، وهذا مما أعلى شأنه ورفع قدره فاستحق ذكره في القرآن العظيم، وقوله: ﴿كان عند ربه مرضيا﴾ موجب آخر لإكرامه والإنعام عليه بذكره في القرآن الكريم في سلسلة الأنبياء والمرسلين، ومعنى ﴿كان عند ربه مرضيا﴾ أي أقواله وأفعاله كلها كانت مقبولة مرضية فكان بذلك هو مرضيا من١ قبل ربه عز وجل. وقوله تعالى ﴿واذكر في الكتاب إدريس٢﴾ وهو جد أبي نوح واستوجب الذكر في القرآن لأنه ﴿كان صديقا﴾ كثير الصدق مبالغا فيه حتى إنه لم يجر على لسانه كذب قط، وصديقا في أفعاله وما يأتيه فلم يعرف غير الصدق في قول ولا عمل وكان نبياً من أنبياء الله، وقوله ﴿ورفعناه مكاناً علياً﴾ إلى السماء الرابعة٣ في حياته كما رفع تعالى عيسى ورفع محمد إلى ما فوق السماء السابعة. وقوله تعالى: ﴿أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم﴾ كإدريس٤، ﴿وممن حملنا مع نوح﴾ أي في الفلك كإبراهيم، ﴿ومن ذرية إبراهيم﴾ كإسحاق وإسماعيل، ﴿واسرائيل﴾ أي ومن ذرية إسرائيل كموسى وهارون وداود وسليمان وزكريا ويحيى وعيسى، ﴿وممن هدينا﴾ لمعرفتنا وطريقنا الموصل إلى رضانا وذلك بعبادتنا والإخلاص لنا فيها ﴿واجتبينا﴾ لوحينا وحمل رسالتنا. وقوله ﴿إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكياً٥﴾ أي أولئك الذين هديناهم واجتبينا من اجتبينا منهم. والاجتباء الاختيار والاصطفاء بأخذ الصفوة ﴿إذا تتلى عليهم آيات الرحمن﴾ الحاملة للعظات والعبر والدلائل والحجج ﴿خروا سجدا﴾ لله ربهم ﴿وبكياً﴾ عما يرون من التقصير أو التفريط في جنب ربهم جل وعظم سلطانه.
١ قيل: إن إسماعيل عليه السلام لم يعد شيئاً إلاّ وفىّ به وهو صحيح يقتضيه ظاهر الآية الكريمة، وقد قيل العِدة دَين، وفي الأثر: وأي المؤمن واجب. والوأي. الوعد. قال الشاعر:
متى يقل حرّ لصاحب حاجة
نعم يقضها والحر للرأي ضامن
وقال مالك: إذا سأل الرجل الرجل شيئاً فوعده ثم بدا له عدم إنجاز ما وعد لا شيء عليه ولا يقضي عليه بذلك لأنّ العدة بخير من باب الإحسان وليس على المحسنين من سبيل.
٢ قيل: إنّ إدريس هو أوّل من خط بالقلم وأوّل من خاط الثياب ولبس المخيط وأنزل الله تعالى عليه ثلاثين صحيفة كما في حديث أبي ذر.
٣ كما في حديث المعراج في رواية مسلم وجاء فيه: "لما عرج بي إلى السماء أتيت على إدريس في السماء الرابعة".
٤ فنال ادريس الشرف بالقرب من آدم، ونال إبراهيم الشرف بالقرب من نوح ونال إسماعيل الشرف واسحق ويعقوب بالقرب من إبراهيم عليهم السلام أجمعين.
٥ البكيّ: مصدر من مصادر بكى يبكي بكاء وبُكىً وبكيًّا، ويكون البكي جمع باكٍ نحو: قعود، وقاعد وسجود جمع ساجد وأصل بكي: بكوي على وزن فعول فقلبت الواو ياء وأدغمت في الياء.
317
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- تقرير النبوة إذ الذي نبأ هؤلاء وأرسلهم لا ينكر عليه أن ينبىء محمداً ويرسله.
٢- فضيلة الأمر بالصلاة والزكاة.
٣- فضيلة الوفاء بالوعد والصدق في القول والعمل.
٤- سنية السجود لمن تلا هذه الآية أو تليت وهو يستمع إليها. ﴿خروا سجدا وبكيا﴾.
٥- فضيلة البكاء حال السجود فقد كان عمر إذا تلا هذه الآية سجد ثم يقول هذا السجود فأين البكيُّ يعني البكاء.
فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (٥٩) إِلا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (٦٠) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (٦١) لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلا سَلامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (٦٢) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا (٦٣)
شرح الكلمات:
خلف١: أي عقب سوء.
أضاعوا الصلاة: أهملوها فتركوها فكانوا بذلك كافرين.
اتبعوا الشهوات: انغمسوا في الذنوب والمعاصي كالزنا وشرب الخمر.
يلقون غياً: أي وادياً في جهنم يلقون فيه.
ولا يظلمون شيئاً: أي لا ينقصون من ثواب حسناتهم.
١ الخلف: بإسكان اللام خلف سوء وبفتحها خلف خير وصلاح.
318
جنات عدن: أي إقامة دائمة.
بالغيب: أي وعدهم بها وهي غائبة عن أعينهم لغيابهم عنها إذ هي في السماء وهم في الأرض.
مأتياً: أي موعوده وهو ما يعد به عباده آتياً لا محالة.
لغواً: أي فضل الكلام وهو ما لا فائدة فيه.
بكرة وعشياً: أي بقدرهما في الدنيا وإلاّ فالجنة ليس فيها شمس فيكون فيها نهار وليل.
من كان تقياً: أي من كان في الحياة الدنيا تقياً لم يترك الفرائض ولم يغش المحارم.
معنى الآيات:
قوله تعالى: ﴿فخلف من بعدهم خلف﴾ مخبر تعالى عن أولئك الصالحين ممن اجتبى وهدى من النبيين وذرياتهم، انه خلف من بعدهم خلف سوء كان من شأنهم أنهم ﴿أضاعوا١ الصلاة﴾ فمنهم من أخرها عن أوقاتها ومنهم من تركها ﴿واتبعوا الشهوات٢﴾ فانغمسوا في حمأة الرذائل فشربوا الخمور وشهدوا الزور وأكلوا الحرام ولهوا ولعبوا وزنوا وفجروا، بعد ذهاب أولئك الصالحين كما هو حال النصارى واليهود اليوم وحتى كثير من المسلمين، فهؤلاء الخلف السوء يخبر تعالى أنهم ﴿فسوف يلقون غياً﴾ بعد دخولهم نار جهنم. والغي: ورد عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه بئر في جهنم وعن ابن مسعود أنه واد في جهنم٣، والكل صحيح إذ البئر توجد في الوادي وكثيراً ما توجد الآبار في الأودية.
وقوله تعالى: ﴿إلاّ من تاب وآمن وعمل صالحاً فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئاً﴾ أي لكن من تاب من هذا الخلف السوء وآمن أي حقق إيمانه وعمل صالحاً فأدى الفرائض. وترك غشيان المحارم. فأولئك أي فهؤلاء التائبون المنيبون ﴿يدخلون الجنة﴾ مع سلفهم
١ جائز أن يراد بهذا الخلف السيء كل من أضاع الصلاة بتركها أو بعدم إقامتها بإخلاله بشروطها وأركانها وواجباتها وسننها، واتبع الشهوات من أهل الكتاب ومن المسلمين.
٢ اتباع الشهوات لازم لإضاعة الصلاة لقول عمر: مَن أضاعها فهو لما سواها أضيع، ولأنّ اقام الصلاة ينهى عن الفحشاء والمنكر.
٣ قال ابن عباس رضي الله عنهما: غيّ: واد في جهنم وإن أودية جهنم لتستعيذ من حره أعدّ الله تعالى ذلك الوادي للزاني المصرّ على الزنى ولشارب الخمر المدمن عليه ولآكل الربا لا ينزع عنه، ولأهل العقوق ولشاهد الزور ولامرأة أدخلت على زوجها ولداً ليس منه.
319
الصالح، ﴿ولا يظلمون شيئاً﴾ أي ولا ينقصون ولا يبخسون شيئاً من ثواب أعمالهم.
وقوله تعالى: ﴿جنات عدن﴾ أي بساتين إقامة أبدية ﴿التي وعد الرحمن عباده بالغيب﴾ أي وعدهم بها وهي غائبة عنهم لم يروها لأنها في السماء وهم في الأرض.
وقوله: ﴿إنه كان وعده مأتيا﴾ أي كونهم ما رأوها غير ضار لأن ما وعد به الرحمن لا يتخلف أبداً لابد من الحصول عليه ومعنى مأتياً يأتيه صاحبه قطعاً.
وقوله تعالى في الآية (٦٢) ﴿لا يسمعون فيها لغواً﴾ يخبر تعالى أن أولئك التائبين الذين آمنوا وعملوا الصالحات ودخلوا الجنة لا يسمعون فيها أي في الجنة لغواً وهو الباطل من القول وما لا خير فيه من الكلام اللهم إلاّ السلام فإنهم يتلقونه من الملائكة فيسمعونه منهم وهو من النعيم الروحاني في الجنة دار النعيم.
وقوله تعالى: ﴿ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا﴾ أي ولهم طعامهم فيها وهو ما تشتهيه أنفسهم من لذيذ الطعام والشراب ﴿بكرة وعشيا﴾ أي في وقت الغداة في الدنيا وفي وقت العشي في الدنيا إذ لا ليل في الجنة ولا نهار١ وإنما هي أنوار وجائز إذا وصل وقت الغداء أو العشاء تغير الأنوار من لون إلى آخر أو تغلق الأبواب وترخى الستائر ويكون ذلك علامة على وقت الغداء والعشاء.
وقوله تعالى: ﴿تلك الجنة٢﴾ آية (٦٣) يشير تعالى إلى الجنة دار السلام تلك الجنة العالية ﴿التي نورث من عبادنا من كان تقيا﴾ منهم، أما الفاجر فإن منزلته فيها نورثها المتقي كما أن منزل التقي في النار نورثه فاجراً من الفجار، إذ هذا معنى التوارث: هذا يرث هذا وذاك يرث ذا، إذ ما من إنسان إلاّ وله منزلة في الجنة ومنزل في النار فمن آمن وعمل صالحاً دخل الجنة ونزل في منزلته، ومن كفر وأشرك وعمل سوءاً دخل النار ونزل في منزله فيها، ويورث الله تعالى الأتقياء منازل الفجار التي كانت لهم في الجنة.
١ روى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "ليس في الجنة ليل ولا نهار وإنما هم في نور أبداً وإنما يعرفون مقدار الليل من النهار بإرخاء الحجب وإغلاق الأبواب، ويعرفون مقدار النهار برفع الحجب وفتح الأبواب". ذكره أبو الفرج ابن الجوزي، والمهدوي وغيرهما (القرطبي).
٢ الجملة مستأنفة، واسم الإشارة فيها للتنوبه بها وبعلو مقامها وعظم الكرامة فيها لأهل التقوى.
320
هداية الآيات.
من هداية الآيات:
١- التنديد بخلف السوء وهو من يضيع الصلاة ويتبع الشهوات.
٢- الوعيد الشديد لمن ينغمس في الشهوات ويترك الصلاة فيموت على ذلك.
٣- باب التوبة مفتوح والتوبة مقبولة من كل من أرادها وتاب.
٤- بيان نعيم الجنة دار المتقين الأبرار.
٥- تقرير مبدأ التوارث بين أهل الجنة وأهل النار.
٦- بيان أن ورثة الجنة هم الأتقياء، وأن ورثة النار هم الفجار.
وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (٦٤) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (٦٥)
شرح الكلمات:
وما تتنزل: التنزل النزول وقتا بعد وقت.
إلاّ بأمر ربك: أي إلاّ بإذنه لنا في النزول على من يشاء.
له ما بين أيدينا: أي مما هو مستقبل من أمر الآخرة.
وما خلفنا: أي ما مضى من الدنيا.
وما بين ذلك: مما لم يمض من الدنيا إلى يوم القيامة أي له علم ذلك كله.
وما كان ربك نسيا: أي ذا نسيان فإنه تعالى لا ينسى فكيف ينساك ويتركك؟.
رب السموات والأرض: أي مالكهما والمتصرف فيهما.
واصطبر لعبادته: أي اصبر وتحمل الصبر في عبادته حتى الموت.
هل تعلم له سمياً: أي لا سميَّ له ولا مثل ولا نظير فهو الله أحد، لم يكن له كفوا أحد.
321
معنى الآيتين:
لنزول هاتين الآيتين سبب وهو ما روى واستفاض أن الوحي تأخر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والذي يأتي بالوحي جبريل عليه السلام فلما جاء بعد بطءٍ قال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا فأنزل الله تعالى قوله: جواباً لسؤال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿وما نتنزل١﴾ أي نحن الملائكة وقتا بعد وقت على من يشاء ربنا ﴿إلاّ بأمر ربك﴾ أيها الرسول أي إلاّ بإذنه لنا فليس لأحد منا أن ينزل من سماء إلى سماء أو إلى أرض إلاّ بإذن ربنا عز وجل، ﴿له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك﴾ أي له أمر وعلم ما بين أيدينا أي ما أمامنا من أمور الآخرة وما خلفنا أي مما مضى من الدنيا علماً وتدبيراً، وما بين ذلك إلى يوم القيامة علماً وتدبيراً، وما كان ربك عز وجل يا رسول الله ناسيا٢ لك ولا تاركاً فإنه تعالى لم يكن النسيان وصفاً له فينسى.
وقوله تعالى: ﴿رب السموات والأرض وما بينهما﴾ يخبر تعالى رسوله بأنه تعالى مالك السموات والأرض وما بينهما والمتصرف فيهما فكل شيء له وبيده وفي قبضته وعليه ﴿فاعبده﴾ أيها الرسول بما أمرك بعبادته به ﴿واصطبر لعبادته٣﴾ أي تحمل لها المشاق، فإنه لا إله إلاّ هو، فـ ﴿هل تعلم له سمياً ٤﴾ أي نظيراً أو مثيلاً والجواب لا: إذاً فاعبده وحده وتحمل في سبيل ذلك ما استطعت تحمله. فإنه لا معبود بحق إلاّ هو إذ كل ما عداه مربوب له خاضع لحكمه وتدبيره فيه.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
١- تقرير سلطان الله على كل الخلق وعلمه بكل الحلق وقدرته على كل ذلك.
١ روى البخاري أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لجبريل عليه السلام: "ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا فنزلت: ﴿وما نتنزّل إلاّ بأمر ربك﴾ الآية، وقال مجاهد: أبطأ الملك على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثمّ أتاه فقال: ما الذي أبطأك؟ قال: كيف نأتيكم وأنتم لا تقصّون أظفاركم ولا تأخذون من شواربكم ولا تنقون رواجبكم ولا تستاكون. قال مجاهد: فنزلت الآية في هذا والمراد بالمعيب عليهم: بعض المؤمنين لا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فحاشاه أن يكون معيباً وهو على أكمل الأحوال.
٢ هذا تفسير لقوله تعالى: ﴿وما كان ربك نسيّا﴾ أي: ناسيا إذا شاء أن يرسل إليك أرسل.
٣ أي: لطاعته، واللام بمعنى: على أي: على طاعته، ولا تحزن لتأخّر الوحي عنك، وأصل اصطبر: اصتبر فقلبت التاء طاءً تخفيفاً في النطق.
٤ ولذا إجماع أهل الإسلام من عهد آدم أنه لا يجوز أن يسمى مخلوق باسم الله عزّ وجل "الله".
322
٢- استحالة النسيان على الله عز وجل.
٣- تقرير ربوبية الله تعالى للعالمين، وبذلك وجبت له الألوهية على سائر العالمين.
٤- وجوب عبادة الله تعالى ووجوب الصبر عليها حتى الموت.
٥- نفي التشبيه والمثل والنظير لله إذ هو الله أحد لم يكن له كفواً أحد.
وَيَقُولُ الانسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (٦٦) أَوَلا يَذْكُرُ الانسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (٦٧) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (٦٨) ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (٦٩) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (٧٠) وَإِن مِّنكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا (٧١) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (٧٢)
شرح الكلمات:
ويقول الإنسان: أي الكافر بلقاء الله تعالى.
ولم يك شيئاً: أي قبل خلقه فلا ذات له ولا اسم ولا صفة.
جثياً: أي جاثمين على ركبهم في ذل وخوف وحزن.
من كل شيعة: أي طائفة تعاونت على الباطل وتشيع بعضها لبعض فيه.
عتياً: أي تكبراً عن عبادته وظلماً لعباده.
أولى بها صلياً: أي أحق بها اصطلاء واحتراقاً وتعذيباً في النار.
إلاّ واردها: أي ماراً بها إن وقع بها هلك، وإن مر ولم يقع نجا.
حتماً مقضياً: أي أمراً قضى به الله تعالى وحكم به وحتَّمه فهو كائن لابد.
فيها جثياً: أي في النار جاثمين على ركبهم بضهم إلى بعض.
323
معنى الآيات:
الآيات في سياق تقرير عقيدة البعث والجزاء يقول تعالى وقوله الحق: ﴿ويقول الإنسان﴾ أي المنكر للبعث والدار الآخرة وقد يكون القائل أُبي بن خلف أو العاص بن وائل وقد يكون غيرهما إذ هذه قولة كل من لا يؤمن بالآخرة يقول: ﴿أإذا مت لسوف١ أخرج حياً﴾ يقول هذا استنكاراً وتكذيباً قال تعالى: راداً على هذا الإنسان قولته الكافرة ﴿أو لا يذكر٢ الإنسان﴾ أي المنكر للبعث الآخر ﴿أنا خلقناه من٣ قبل ولم يك شيئاً﴾ أيكذب بالبعث وينكره ولا يذكر خلقنا له من قبل، ولم يك شيئاً.
أليس الذي قدر على خلقه قبل أن يكون شيئاً قادراً على إعادة خلقه مرة أخرى أليست الإعادة أهون من الخلق الأول والإيجاد من العدم، ثم يقسم الله تبارك وتعالى لرسوله على أنه معيدهم كما كانوا ويحشرهم جميعاً مع شياطينهم الذين يضلونهم ثم يحضرنهم حول جهنم جثيا على ركبهم أذلاء صاغرين. هذا معنى قوله تعالى في الآية (٦٨) ﴿فوربك لنحشرنهم٤ والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا﴾.
وقوده تعالى: ﴿ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا﴾ يخبر تعالى بعد حشرهم إلى ساحة فصل القضاء أحياء مع الشياطين الذين كانوا يضلونهم، يحضرهم حول جهنم جثياً، ثم يأخذ تعالى من كل طائفة من تلك الطوائف التي أحضرت حول جهنم وهي جاثية تنتظر حكم الله تعالى فيها أيهم كان أشد على الرحمن عتيا أي تمرداً عن طاعته وتكبراً عن الإيمان به وبرسوله ووعده ووعيده وهو معنى قوله تعالى في الآية (٦٩) ﴿ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا﴾ وقوله تعالى: {ثم لنحن أعلم بالذين هم
١ اللام في: (لسوف) للتأكيد والاستفهام: (أإذا) : للإنكار، واللام: لام الابتداء جاء بها المتكلم لتأكيد إنكاره للبعث بعد الموت والخروج من قبره حيًّا.
٢ الاستفهام للإنكار على منكر البعث، والتعجب من عقليته وعمى قلبه من عدم النظر في عدم أصل خلقه فإنه لو أبصر وزالت غفلته لما أنكر البعث فالذي خلقه اليوم يخلقه غداً ولا عجب.
٣ قبل كبعد: ملازمة للإضافة فإذا حذف المضاف بنيت على الضم، والمضاف المحذوف هنا تقديره: من قبل كونه شيئاً يذكر في الوجود وقد أوجده الآن ولعدمه غداً ويحييه بعد موته يوم يريد ذلك.
٤ الفاء: للتفريع، والضمير في: (لنحشرنهم) عائد على جنس الإنسان المكذّب بالبعث الآخر، والمشرك بالله المصر على ذلك، وذكر حشو الشياطين معهم تحقيراً لشأنهم حيث يحشرون مع أخس الخلق وأحطه ثمّ أشار إلى أنّ شركهم وكفرهم كان بتزيين الشياطين لهم ذلك، والجثي: جمع جاثٍ مثل: قاعد وقعود، فجثي: أصلها جثوي قلبت الواو ياء، وأدغمت، والجاثي هو البارك على ركبتيه عجزاً عن القيام.
324
أولى بها صليا} يخبر تعالى بعلمه بالذين هم أجدر وأحق بالاصطلاء بعذاب النار، وسوف يدخلهم النار قبل غيرهم ثم يدخل باقيهم بعد ذلك وهو معنى قوله عزّ وجلّ: ﴿ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا﴾ ١.
وقوله: ﴿وإن منكم إلاّ واردها كان على ربك حتما مقضيا﴾، فإنه يخبر عز وجل عن حكمٍ حكم به وقضاء قضى به وهو أنه ما من واحد منا معشر بني آدم إلاّ وارد جهنم وبيان ذلك كما جاء في الحديث أن الصراط جسر يمد على ظهر جهنم والناس يمرون فوقه فالمؤمنون يمرون ولا يسقطون في النار والكافرون يمرون فيسقطون في جهنم. وهو معنى قوله في الآية (٧٢) ﴿ثم ننجي الذين اتقوا٢﴾ أي ربهم فلم يشركوا به ولم يعصوه بترك واجب ولا بارتكاب محرم ﴿ونذر الظالمين﴾ بالتكبر والكفر وغشيان الكبائر من الذنوب ﴿فيها جثياً﴾ أي ونترك الظالمين فيها أي جهنم جاثمين على ركبهم يعانون أشد أنواع العذاب.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- تقرير عقيدة البعث والجزاء بالحشر والإحضار حول جهنم والمرور على الصراط.
٢ - تقرير معتقد الصراط في العبور عليه إلى الجنة.
٣- تقديم رؤساء الضلال وأئمة الكفر إلى جهنم قبل الأتباع الضالين.
٤- تقرير حتمية المرور على الصراط.
٥ - بيان نجاة الأتقياء، وهلاك الفاجرين الظالمين بالشرك والمعاصي.
١ يقال: صلى يصلى صُليّا كمضى يمضي مُضيا وهوى يهوي هويّا، وصِليّا بكسر الصاد: قراءة حفص، وبضمها: قراءة نافع، وهو مصدر صلي النار كرضي وهو مصدر سماعي بوزن فعول، قلبت فيه الواو ياء وأدغمت في الياء فصار صليَّا كما تقدّم في جثيا.
٢ حاول صاحب التحرير أن يردّ مذهب الجمهور في ورود المؤمنين على الصراط كسائر الخلق ثمّ ينجي الله الذين اتقوا حيث يجتازونه بسلام ويقع فيه الكافرون فلا يخرجون وما هناك حاجة إلى ردّ مذهب الجمهور من أئمة الإسلام إذ حديث الصراط والمرور به ثابت قطعيّاً ففي صحيح مسلم: "ثم يضرب الجسر على جهنم، وتحل الشفاعة فيقولون: اللهم سلم سلم قيل: يا رسول الله: وما الجسر؟ قال: دحض مزلّة فيه خطاطيف وكلاليب وحسك تكون فيها شويكة يقال لها: السعدان، فيمرّ المؤمنون كطرف العين وكالبرق وكالريح وكالطير وكأجاويد الخيل والركاب فناجٍ مسلّم ومخدوش مرسل ومكدوس في نار جهنم، وبهذا الصراط.. فسّر السلف الورود على جهنم، ولم يقولوا بلازم الورود وهو الدخول، إذ قد يَرد المرء على الحوض ويقف على طرفه ولا يدخل فيه وورد وصحّ قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيمن مات له ثلاثة ولد لم يبلغوا الحنث لا تمسه النار إلاّ تحلة القسم" وهو الورود على متن جهنم نظراً إلى الآية ﴿وإن منكم إلاّ واردها﴾.
325
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (٧٣) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (٧٤) قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضْعَفُ جُندًا (٧٥) وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَّرَدًّا (٧٦)
شرح الكلمات:
آياتنا بينات: أي آيات القرآن البينات الدلائل الواضحات الحجج.
خير مقاماً: نحن أم أنتم والمقام المنزل ومحل الإقامة والمراد هنا المنزلة.
وأحسن ندياً: أي ناديا وهو مجتمع الكرام ومحل المشورة وتبادل الآراء.
أحسن أثاثا ورئيا: أي مالا ومتاعا ومنظراً.
إما العذاب وإما الساعة: أي بالقتل والأسر وأما الساعة القيامة المشتملة على نار جهنم.
من هو شر مكانا: أي منزلة.
وأضعف جنداً: أي أقل أعواناً.
وخير مرداً: أي ما يرد إليه ويرجع وهو نعيم الجنة.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير النبوة والتوحيد والبعث الآخر يقول تعالى ﴿وإذا تتلى١ عليهم آياتنا٢ بينات﴾ أي وإذا قرئت على كفار قريش المنكرين للتوحيد والنبوة المحمدية والبعث والجزاء
١ المراد بهم الكفار الذين سبق ذكرهم في الآيات قبل هذه إذا قرئت عليهم الآيات تعزّزوا بالدنيا وقالوا فما بالنا إن كنا على باطل أكثر أموالاً وأعز نفرا وقصدهم إدخال الشبهة على المستضعفين من المؤمنين
(بينات) حال مؤكدة.
326
يوم القيامة إذا قرأ عليهم رسول الله أو أحد المؤمنين من أصحابه بعض الآيات من القرآن البينات في معانيها ودلائلها على التوحيد والنبوة والبعث ﴿قال الذين١ كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاماً وأحسن نديا﴾، وقولهم هذا هو رد فعل لا غير، إذ أنهم لما يسمعون الآيات تحمل الوعد للمؤمنين والوعيد للكافرين مثلهم لا يجدون ما يخففون به ألم نفوسهم فيقولون هذا الذي أخبر تعالى به عنهم ﴿أي الفريقين﴾ أي فريق المؤمنين أو فريق الكافرين خير مقاماً أي منزلاً ومسكناً وأحسن نديا أي نادياً ومجتمعاً يجتمع فيه، لأنهم يقارنون بين منازل فقراء المؤمنين ودار الأرقم بن أبي الأرقم التي يجتمع فيها الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنون وبين دور ومنازل أبي سفيان وأغنياء مكة ونادي قريش وهو مجلس شوراهم فرد تعالى عليهم بقوله: ﴿وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثاً ورئياً٢﴾ أي لا ينبغي أن يغرهم هذا الذي يتبجحون به ويتطاولون فإنه لا يدوم لهم ما داموا يحاربون دعوة الحق والقائمين عليها فكم من أهل قرون أهلكناهم لما ظلموا وكانوا أحسن من هؤلاء مالاً ومتاعاً ومناظرحسنة جميلة.
وقوله تعالى: ﴿قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مداً﴾ أي اذكر لهم سنتنا في عبادنا يا رسولنا وهى أن من كان في ضلالة الشرك والظلم والمكابرة والعناد فإن سنة الرحمن فيه أن يمد له بمعنى يمهله ويملي له استدراجا حتى إذا انتهوا إلى ما حدد لهم من زمن يؤخذون فيه بالعذاب جزاء كفرهم وظلمهم وعنادهم وهو إما عذاب دنيوي بالقتل والأسر ونحوهما أو عذاب الآخرة بقيام الساعة حيث يحشرون إلى جهنم عمياً وبكماً وصماً جزاء التعالي والتبجح بالكلام وهو معنى قوله تعالى: ﴿حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون٣ من هو شر مكاناً وأضعف جنداً﴾ أي شر منزلة وأقل ناصراً أهم الكافرون أم المؤمنون، ولكن حين لا ينفع العلم. إذ التدارك أصبح غير ممكن وإنما هي
١ الذين كفروا كالنضر بن الحارث وأبي جهل والمؤمنون هم أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كعمار وبلال وصهيب.
٢ الأثاث: متاع البيت من فرش وغيرها مما هو جديد، فإن استعمل قيل فيه:. الخرثى قال الشاعر:
تقادم العهد من أم الوليد بنا
دهراً وصار أثاث البيت خرثياً
الرئي: المنظر الحسن. وفيه قراءات خمس أشهرها قراءة الجمهور ورئيا بالهمزة، وقراءة نافع ريّا بدون همزة واشتقاقه من الرؤية أي: المنظر، ومن الريّ ضد العطش، إذ الريّان هو المنعم ذو الحال الحسنة.
٣ في الآية ردّ على قولهم: ﴿أي الفريقين خير مقاماً وأحسن نديا﴾ أي سوف تنكشف الحقائق في يوم القيامة، ويعلمون يقيناً من هو الأفضل حالاً والأحسن مآلاً.
327
الحسرة والندامة لا غير.
وقوله تعالا: ﴿ويزيد الله الذين اهتدوا هدى١﴾ أي إذا كان تلاوة الآيات البينات تحمل المشركين على العناد والمكابرة وذلك لظلمة كفرهم فيزدادون كفراً وعناداً فإن المؤمنين المهتدين يزدادون بها هداية لأنها تحمل لهم الهدى في كل جملة وكلمة منها وهم لإشراق نفوسهم بالإيمان يرون ما تحمل الآيات من الدلائل والحجج والبراهين فيزداد إيمانهم وتزداد هدايتهم في السير في طريق السعادة والكمال بأداء الفرائض واجتناب المناهي.
وقوله تعالى: ﴿والباقيات٢ الصالحات خير عند ربك﴾ أيها الرسول ﴿ثواباً وخير مردّاً﴾ في هذه الآية تسلية للرسول والمؤمنين بأن ما يتبجح به المشركون من المال والمتاع وحسن الحال لا يساوى شيئاً أمام الإيمان وصالح الأعمال لأن المال فانٍ، والصالحات باقية فثواب الباقيات الصالحات من العبادات والطاعات خير من كل متاع الدنيا وخير مرداً أي مردوداً على صاحبها إذ هو الجنة دار السلام والتكريم والإنعام.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- الكشف عن نفسيات الكافرين وهي الإعتزاز بالمال والقوة إذا اعتز المؤمنون بالإيمان وثمراته في الدنيا والآخرة من حسن العاقبة.
٢- بيان سنة الله تعالى في امهال الظلمة والإملاء لهم استدراجاً لهم حتى يهلكوا خاسرين.
٣- بيان سنة الله تعالى في زيادة إيمان المؤمنين عند سماع القرآن الكريم، أو مشاهدة أخذ الله تعالى للظالمين.
٤- بيان فضيلة الباقيات الصالحات ومنها: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله.
١ وفي الآية وجه آخر مشرق صالح وهو: أن الله تعالى يمدّ لأهل الضلالة في ضلالتهم، ويزيد لأهل الهداية في هدايتهم إذ قال: ﴿من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدًّا﴾. وقال: ﴿ويزيد الله الذين اهتدوا هدىً﴾ وما في التفسير صالح ومشرق أيضاً.
٢ أي: الأعمال الصالحة التي يعمل العبد إيماناً وإحساناً كالصلاة والصيام والصدقات والجهاد وذكر الله ثوابها لأهلها المدّخر لهم عند الله تعالى خير من أعمال أهل الكفر والشرك والظلم إذ هي ذاهبة هباء منثوراً فيم يتعزّز الكافرون؟
328
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لاوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا (٧٧) أَاطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (٧٨) كَلا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (٧٩) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (٨٠)
شرح الكلمات:
الذي كفر بآياتنا: هو العاص بن وائل.
لأوتين مالا وولداً: يريد في الآخرة.
أطلع الغيب: أي فعرف أنه يعطى مالاً وولداً يوم القيامة.
كلا: ردع ورد فإنه لم يطلع الغيب ولم يكن له عند الله عهداً.
ونمد له من العذاب مداً: أي نضاعف له العذاب يوم القيامة.
ونرثه ما يقول: أي نسلبه ما تبجح به من المال والولد ويبعث فرداً ليس معه مال ولا ولد.
معنى الآيات:
يقول تعالى لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معجباً له ﴿أفرأيت١ الذي كفر بآياتنا﴾ أي كذب بالوحي وما يدعوا له من التوحيد والبعث والجزاء وترك الشرك والمعاصي. وهو العاص بن وائل المسمى أبو عمرو بن العاص. ﴿وقال لأوتين مالاً وولداً﴾ قال هذا لخباب بن الأرت حينما طالبه بدين له عليه فأبى أن يعطيه استصغاراً له لأنه قيِّن "حداداً" وقال له لا أعطيكه حتى تكفر بمحمد فقال له خباب والله ما أكفر بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى تموت ثُم تبعث فقال له العاص إذا أنا مِتُّ ثم بُعثت كما تقول ثم جئتني ولي مال وولد قضيتك دينك فأكذبه الله تعالى ورد عليه قوله بقوله عز وجل: ﴿أطلع الغيب٢﴾ فعرف أن له يوم القيامة مالاً وولداً. ﴿أم اتخذ عند
١ الأئمة ومن بينهم مسلم في صحيحه على أن هذه الآية نزلت في الخباب والعاص بن وائل إذ كان لخباب دَين على العاص فطالبه فأجابه بما خلاصته في التفسير أعلاه.
٢ {أطلع الغيب﴾ قال ابن عباس رضي الله عنهما: أنظر في اللوح المحفوظ. وقال مجاهد: أعلِم الغيب حتى يعلم أفي الجنة هو أم لا؟
329
الرحمن عهداً} بذلك بأن سيعطيه مالا وولداً يوم القيامة ﴿كلا١﴾ لم يطلع على الغيب ولم يكن له عند الرحمن عهداً. وقوله تعالى: ﴿سنكتب ما يقول﴾ من الكذب والإفتراء ونحاسبه به ونضاعف له العذاب به العذاب وهو معنى قوله تعالى: ﴿ونمد له من العذاب مدا﴾، وقوله تعالى: ﴿ونرثه٢ ما يقول ويأتينا فرداً﴾ أي ونسلبه ما يقول من المال والولد حيث يموت ويترك ذلك أو ينصر رسوله على قومه فيسلبهم المال والولد. ويأتينا في عرصات القيامة للحساب فرداً لا مال معه ولا ولد.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- الكشف عن نفسيات الكافرين لاسيما إذا كانوا أقوياء بمال أو ولد أو سلطان فإنهم يعيشون على الغطرسة منه والاستعلاء وتجاهل الفقراء واحتقارهم.
٢- تقرير البعث والحساب والجزاء.
٣- مضاعفة العذاب على الكافرين الظالمين لظلمهم بعد كفرهم.
٤- تقرير معنى آية: إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون.
وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (٨١) كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (٨٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (٨٣) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (٨٤) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (٨٥) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (٨٦) لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (٨٧)
١ كلا: ردّ عليه أي: لم يكن له ذلك. أي: لم يطلع على الغيب ولم يتخذ عند الرحمن عهداً.
٢ وقيل: نحرمه ما تمناه في الآخرة من مال وولد إذ قال: لأوتين مالاً وولداً ورد تعالى عليه قوله بقوله: ﴿اطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهداً﴾.
330
شرح الكلمات:
ليكونوا لهم عزاً: أي منعة لهم وقوة يشفعون لهم عند الله حتى لا يعذبوا.
سيكفرون بعبادتهم: أي يوم القيامة يجحدون أنهم كانوا يعبدونهم.
ضداً١: أي أعداء لهم وأعوانا عليهم.
تؤزهم أزاً: أي تزعجهم إزعاجاً وتحركهم حراكاً شديداً نحو الشهوات والمعاصي.
وفداً: أي راكبين على النُّجُب تحوطهم الملائكة حتى ينتهوا إلى ربهم فيكرمهم.
إلى جهنم ورداً: أي يساق المجرمون كما تساق البهائم مشاة عطاشاً.
عهداً: هو شهادة أن لا إله إلاّ الله محمد رسول الله ولا حول ولا قوة إلاّ بالله.
معنى الآيات:
يخبر تعالى مندداً بالمشركين فيقول: ﴿واتخذوا من دون الله آلهة﴾ أي معبودات من الأصنام فعبدوها بأنواع من العبادات، ﴿ليكونوا لهم﴾ - في نظرهم الفاسد- ﴿عزاً٢﴾ أي شفعاء لهم عندنا يعزون بواسطتهم ولا يُهانون، ﴿كلا﴾ ٣ أي ليس الأمر كما يظنون ﴿سيكفرون بعبادتهم﴾ وذلك يوم القيامة حيث ينكرون أنهم أمروهم بعبادتهم، ﴿ويكونون عليهم ضداً﴾ أي خصوماً، ومن ذلك قولهم٤ ﴿وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون﴾. وقولهم. ﴿بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون﴾.
وقوله تعالى في الآية الثانية (٨٣) ﴿ألم تر٥ أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا﴾
١ الضدّ: ما يخالف ضده في الماهية أو المعاملة، ومن هذا تسمية العدو ضدّ لأن معاملته تخالف معاملة نظيره، ويكون ضدّ في معنى المصدرعاملوه معاملة المصدر فلا يثني ولا يجمع ولا يؤنث.
٢ العزّ: ضد الذلّ، وأطلق العزّ هنا وأريد به سببه وهو الشفعاء والأعوان إذ بهم تحصل العزة وتكون المنعة.
٣ ﴿كلا﴾ : جائز أن تكون نافية بمعنى: لا وليس وجائز أن تكون بمعنى: حقاً أي: حقاً سيكفرون بعبادتهم.. الخ.
٤ أي: فيما أخبر تعالى به في قوله: ﴿وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون﴾ فها هم قد وقفوا ضدّهم بتكذيبهم إياههم. ورأى بعض أهل التفسير أنّ من الجائز أن تكون الآية مبشرة بنصر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأن يوماً سيأتي يكفر المشركون بآلهتهم وذلك بعد إسلامهم.
٥ الاستفهام للتقرير وفيه معنى التعجب أي: كيف لم تَرَ ذلك والأمر واضح لوجود آثاره يشاهدها كل أحد. وأرسلنا بمعنى سلطناهم أو خلّيناهم يفعلون بهم ما أرادوا من الإغواء والفتنة.
331
يقول تعالى لرسوله ألم ينته إلى علمك يا رسولنا أنا أرسلّنا الشياطين أي شياطين الجن والإنس على الكافرين بنا وبآياتنا ورسولنا ولقائنا تؤزهم أزاً أي تحركهم بشدة نحو الشهوات والجرائم والمفاسد، وتزعجهم إلى ذلك بالإغراء إزعاجاً كبيراً. أي فلا تعجب من حال مسارعتهم إلى الشر والفساد ولا تعجل عليهم بمطالبتنا بهلاكهم إنما نعد لهم كل أعمالهم ونحصيها عليهم حتى أنفاسهم ونحاسبهم على كل ذلك ونجزيهم به. هذا معنى قوله تعالى: ﴿فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا١﴾.
وقوله تعالى في الآية (٨٥) ﴿يوم نحشر المتقين﴾ أي أذكر يا رسولنا يوم نحشر المتقين ﴿إلى الرحمن وفداً﴾. والمتقون هم أهل الإيمان بالله وطاعته وتوحيده ومحبته وخشيته وطاعة رسوله ومحبته وفداً أي راكبين على النجائب من النوق عليها رِحال الذهب إلى الرحمن إلى جوار الرحمن عز وجل في دار المتقين الجنة دار الأبرار والسلام.
وقوله تعالى: ﴿ونسوق المجرمين إلى جهنم ورداً﴾ : أي ونسوق المجرمين على أنفسهم بالشرك والمعاصي مشاة على أرجلهم عطاشاً يُساقون سوق البهائم إلى جهنم وبئس٢ الورد المورود جهنم.
وقوله تعالى ﴿لا يملكون الشفاعة إلاّ من٣ اتخذ عند الرحمن عهداً﴾ ٤ أخبر تعالى أن المشركين المجرمين على أنفسهم بالشرك والمعاصي فدسوها لا يملكون الشفاعة يوم القيامة لا يشفع بعضهم في بعض كالمتقين ولا يشفع لهم أحد أبداً لكن من اتخذ عند الرحمن عهداً بالإيمان به وبطاعته بأداء الفرائض وترك المحرمات يملك إن شاء الله الشفاعة بأن يشفعه الله في غيره إكراماً له أو يشفع فيه غيره إكراما للشافع أيضاً وإنعاماً على المشفوع له. كما أن أهل لا إله إلاّ الله محمد رسول الله المتبرئين من حولهم وقوتهم إلى الله الراجين رجهم يملكون الشفاعة إن دخلوا النار بذنوبهم فيخرجون منها بشفاعة من أراد الله أن يشفعه فيهم.
١ أي: لا تطالب بهلاكهم الفوري فإنا نعدّ لهم الأيام والليالي والشهور والسنين إلى انتهاء آجالهم.
٢ يطلق لفظ الورد على الماشية عندما تساق إلى الماء لترده، ويطلق على السير إلى الماء أيضاً كما يطلق على الماء المورود ومنه قوله تعالى: ﴿وبئس الورد المورود﴾.
٣ الاستثناء منقطع، والمنقطع هو: استثناء الشيء من غير جنسه، ولذا يؤتى بعده بلكن كما هو في التفسير أي: لكن من اتخذ عند الرحمن عهداً يشفع.
٤ من لهم عهد بالشفاعة حيث عهد الله تعالى إليهم بذلك هم الملائكة والأنبياء والشهداء أيضاً بدليل السنة الصحيحة، وفسّر ابن عباس رضي الله عنهما العهد أيضاً بشهادة أن لا إله إلاّ الله محمد رسول الله والقيام بحقها مع التبرؤ من الحول والقوة لله تعالى.
332
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- براءة سائر المعبودات من دون الله من عابديها يوم القيامة خزياً لهم وإحقاقاً للعذاب عليهم.
٢- لا عجب مما يشاهد من مسارعة الكافرين إلى الشر والفساد والشهوات لوجود شياطين تحركهم بعنف إلى ذلك وتدفعهم إليه.
٣- لا ينبغي طلب العذاب العاجل لأهل الظلم لأنهم كلما ازدادوا ظلماً ازداد عذابهم شدة يوم القيامة إذ كل شيء محصىً عليهم حتى أنفاسهم محاسبون عليه ومجزيون به.
٤- بيان كرامة المتقين، ومهانة المجرمين.
وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (٨٨) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (٨٩) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الارْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (٩٠) أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (٩١) وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا (٩٢) إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (٩٣) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (٩٤) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (٩٥)
شرح الكلمات:
وقالوا اتخذ الرحمن ولدا: أي قال العرب الملائكة بنات الله وقال النصارى عيسى ابن الله.
جئتم شيئاً إداً: أي منكراً عظيماً.
يتفطرن: يتشققن من عظم هذا القول وشدة قبحه.
وتخر الجبال هداً: أي تسقط وتتهدم وتنهدم.
أن دعوا للرحمن ولداً: أي من أجل إدعائهم أن للرحمن عز وجل ولدا.
333
ولا ينبغي: أي لا يصلح ولا يليق به ذلك لأنه رب كل شيء ومليكه.
إلا آتى الرحمن عبداً: أي خاضعا منقاداً كائناً من كان.
فرداً: أي ليس معه شيء لا مال ولا سلطان ولا ناصر.
معنى الآيات:
ما زال السياق في ذكر مقولات أهل الشرك والجهل والرد عليها من قبل الحق تبارك وتعالى قال تعالى مخبراً عنهم: ﴿وقالوا﴾ أي أولئك الكافرون ﴿اتخذ الرحمن ولداً﴾ ١ إذ قالت بعض القبائل العربية الملائكة بنات الله، وقالت اليهود عزير بن الله وقالت النصارى المسيح بن الله. يقول تعالى لهم بعد أن ذكر قولهم ﴿لقد جئتم شيئاً إداً٢﴾ أي أتيتم بشيء منكر عظيم، ﴿تكاد٣ السموات يتفطرن منه﴾ أي يتشققن منه لقبح هذا القول وسوئه، ﴿وتنشق الأرض وتخر الجبال٤ هدا﴾ أي تسقط لعظم هذا القول لأنه مغضب للجبار عزّ وجلّ ولولا حلمه ورحمته لمس الكون كله عذاب أليم. وقوله: ﴿أن دعوا للرحمن ولداً٥﴾ أي أن نسبوا للرحمن ولداً، ﴿وما ينبغي للرحمن﴾ أي لا يصلح له ولا يليق بجلاله وكماله الولد، لأن الولد نتيجة شهوة بهيمية عارمة تدفع الذكر إلى إتيان الأنثى فيكون بإذن الله الولد، والله عز وجل منزه عن مشابهته لمخلوقاته وكيف يشبههم وهو خالقهم وموجدهم من العدم؟
وقوله تعالى ﴿إن كل من٦ في السموات والأرض إلا آتى الرحمن عبداً﴾ هذا برهان على بطلان قولة الكافرين الجاهلين، إذ الذي ما من أحد في السموات أو في الأرض من ملائكة
١ قرىء: (وُلداً) بضم الواو وسكون اللام، وقراءة الجمهور (ولدا) بفتح الواو واللام وهما لغتان مثل: العُرب والعَرب. والعُجم والعَجم قال الشاعر:
ولقد رأيت معاشرا
قد ثمّروا مالا ووُلداً
وقال آخر:
مهلا فداءً لك الأقوام كلهم
وما أثمر من مال ومن وَلَد
ففي البيت الأول شاهد وُلد بسكون اللام وفي الثاني شاهد لفتحها مع ضم الواو في الأول وفتحا في الثاني.
٢ الإد والإدة: الداهية والأمر الفظيع. قال ابن عباس: الإدّ: المنكر العظيم.
(تكاد) بالتاء قراءة العامة، وقرأ نافع بالياء (يكاد).
٤ الهدّ: الهدم بصوت شديد، والهدّة: صوت وقع الحائط ونحوه.
٥ روى البخاري عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله: "يقول الله تبارك وتعالى: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك. فأمّا تكذيبه إياي فقوله: ليس يعيدني كما بدأني، وليس أوّل الخلق بأهون عليّ من إعادته. وأمّا شتمه إيّاي: فقوله: اتخذ الله ولداً وأنا الأحد الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد.
(إنْ) نافية بمعنى ما. في الآية دليل على عدم جواز ملك الوالد للولد ولا الولد للوالد، وفي الحديث الصحيح: "لا.. ولد والدا إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه". فإذا لم يملك الأب ابنه فلأن لا يملك الابن أباه من باب أولى.
334
وإنس وجن إلاّ آتى الرحمن عبداً خاضعاً ذليلاً منقاداً يوم القيامة كيف يعقل اتخاذه ولداً١، إذ الولد يطلب للحاجة إليه، والغنى عن كل خلقه ها هي حاجته إلى عبد من عباده يقول هذا ولدي اللهم إنا نبرؤا إليك مما يقوله الجاهلون بك الضالون عن طريق هدايتك.
وقوله تعالى: ﴿لقد أحصاهم وعدهم عدأعداً﴾ أي علمهم واحداً واحداً فلو كان بينهم إله معه أو ولد له لعلمه، فهذا برهان آخر على بطلان تلك الدعوة الجاهلية الباطلة الفاسدة وقوله: ﴿وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً﴾ هذا رد على أولئك الذين يدعون أنهم إن بعثوا يكون لهم المال والولد والشفيع والنصير. فأخبر تعالى أنه ما من أحد إلاّ ويأتيه يوم القيامة فرداً ليس معه شافع ولا ناصر، ولا مال ولا سلطان.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- عظم الكذب على الله بنسبة الولد أو الشريك إليه أو القول عليه بدون علم.
٢- بيان أن كل المخلوقات من أجلّها إلى أحقرها ليس فيها غير عبد لله فنسبة الإنسان أو الجان أو الملك إلى الله تعالى هي عبد لرب مالك قاهر عزيز حكيم.
٣- بيان إحاطة الله بخلقه ومعرفته لعددهم فلا يغيب عن علمه أحد منهم، ولا يتخلف عن موقف القيامة فرد منهم إذ الكل يأتي الله تعالى يوم القيامة فردا.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (٩٦) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا (٩٧) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (٩٨)
١ روي أحمد في المسند أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لا أحد أصبر على أذى يسمعه من الله أن يشرك به ويجعل له ولد وهو يعافيهم ويدفع عنهم ويرزقهم" أخرجاه في الصحيحين: وفي لفظ إ "نهم يجعلون له ولداً وهو يرزقهم ويعافيهم.
335
شرح الكلمات:
وداً: أي حبا فيعيشون متحابين فيما بينهم ويحبهم ربهم تعالى.
فإنما يسرناه بلسانك: أي يسرنا القرآن أي قراءته وفهمه بلغتك العربية.
قوما لداً: أي ألداء شديدوا الخصومة والجدل بالباطل وهم كفار قريش.
وكم أهلكنا: أي كثيراً من أهل القرون من قبلهم أهلكناهم.
هل تحس منهم من أحد: أي هل تجد منهم أحداً.
أو تسمح لهم ركزاً: أي صوتا خفياً والجواب لا لأن الاستفهام إنكاري.
معنى الآيات:
يخبر تعالى أن الذين آمنوا بالله وبرسوله وبوعد الله ووعيده فتخلوا عن الشرك والكفر وعملوا الصالحات وهي أداء الفرائض وكثير من النوافل هؤلاء يخبر تعالى أنه سيجعل لهم في قلوب عباده المؤمنين محبة١ ووداً وقد فعل سبحانه وتعالى فأهل الإيمان والعمل الصالح متحابون متوادون، وهذا التوادد بينهم ثمرة لحب الله تعالى لهم. وقوله تعالى: ﴿فإنما يسرناه﴾ أي هذا القرآن الذي كذب به المشركون سهلنا قراءته عليك إذ أنزلناه بلسانك ﴿لتبشر به المتقين﴾ من عبادنا المؤمنين وهم الذين اتقوا عذاب الله بالإيمان وصالح الأعمال بعد ترك الشرك والمعاصي، ﴿وتنذر به قوما لداً﴾ ٢ وهم كفار قريش وكانوا ألداء أشداء في الجدل والخصومة، وقوله تعالى: ﴿وكم أهلكنا قبلهم٣ من قرن﴾ أي وكثيراً من أهل القرون السابقة لقومك أهلكناهم لما كذبوا رسلنا وحاربوا دعوتنا فـ ﴿هل تحس٤ منهم من أحد﴾ فتراه بعينك أو تمسه بيدك، ﴿أو تسمع٥ لهم ركزاً﴾ أي صوتاً خفياً اللهم لا فهلا يذكر هذا قومك
١ روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إنّ الله تعالى إذا أحبّ عبداً دعا جبريل عليه السلام فقال: إني أحب فلاناً فأحبّه فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلاناً فأحبوه فيحبه أهل السماء- قال: ثم يوضع له القبول في الأرض وإذا أبغض عبداً دعا جبريل عليه السلام وقال: إني أبغض فلاناً فأبغضه فيبغضه جبريل ثم ينادي في أهل السماء إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه قال: فيبغضونه ثم يوضع له البغضاء في الأرض".
(لُدًَّا) : جمع الألد، وهو: الشديد الخصومة، ومنه قوله تعالى: ﴿ألدّ الخصام﴾ وقال الشاعر:
أبيت نجيا للهموم كأنني
أخاصم أقواما ذوي جدل لدّا
٣ في الآية تهديد وتخويف لأهل مكة المصرين على الكفر والشرك والتكذيب. وكم: خبرية، والقرن: الجيل والأمة. ويطلق على الزمان الذي تعيش فيه الأمة وشاع إطلاقه على المائة سنة.
٤ والإحساس: الإشراك بالحس. والاستفهام إنكاري.
٥ قيل: الرّكز: ما لا يفهم من صوت أو حركة.
336
فيتعظوا فيتوبوا إلى ربهم بالإيمان به وبرسوله ولقائه ويتركوا الشرك والمعاصي.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- أعظم بشرى تحملها الآية الأولى وهي حب الله وأوليائه لمن آمن وعمل صالحاً.
٢- بيان كون القرآن ميسراً أن نزل بلغة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أجل البشارة لأهل الإيمان والعمل الصالح والنذارة لأهل الشرك والمعاصي.
٣- إنذار العتاة والطغاة من الناس أن يحل بهم ما حل بمن قبلهم من هلاك ودمار والواقع شاهد أين أهل القرون الأولى؟
337
Icon