سورة الأنبياء
مكية. قال القرطبي في قول الجميع، وهي مائة وإحدى أو اثنتا عشر آية
وسميت بذلك لذكر قصص الأنبياء فيها وأخرج البخاري وغيره عن ابن مسعود قال بنو إسرائيل والكهف ومريم والأنبياء من العتاق الأول وهن من تلادى.
عن عامر بن ربيعة أنه نزل به رجل من العرب فأكرم عامر مثواه وكلم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه الرجل فقال : إني استقطعت رسول الله صلى الله عليه وسلم واديا ما في ديار العرب واد أفضل منه، وقد أردت أن أقطع إليك قطعة تكون لك ولعقبك من بعدك، فقال عامر : لا حاجة لي في قطعتك نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا يريد هذه السورة.
ﰡ
وقيل: لأن كل ما هو آت قريب وإنما البعيد ما انقرض ومضى، وموت كل إنسان قيام ساعته، والقيامة أيضاً قريبة بالإضافة إلى ما مضى من الزمان فما بقي من الدنيا أقل مما مضى، والمراد بالناس العموم، وقيل المشركون مطلقاً، وقيل: كفار مكة وعلى هذا الوجه قيل المراد بالحساب عذابهم يوم بدر.
(وهم في غفلة) عن حسابهم وعما يفعل بهم في الدنيا (معرضون) عن الآخرة غير متأهبين لا يجب عليهم من الإيمان بالله والقيام بفرائضه والانزجار عن مناهيه، أخرج النسائي عن أبي سعيد عن النبي ﷺ في الآية " قال في الدنيا " وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: " من أمر الدنيا ".
وهذه المسألة أعني قدم القرآن وحدوثه قد ابتلي بها كثير من أهل العلم والفضل في الدولة المأمونية والمعتصمية والواثقية وجرى للإمام أحمد بن حنبل ما جرى من الضرب الشديد والحبس الطويل وضرب بسببها عنق محمد بن نصر الخزاعي، وصارت فتنة عظيمة في ذلك الوقت وما بعده؛ والقصة أشهر من أن تذكر، ومن أحب الوقوف على حقيقتها طالع ترجمة الإمام أحمد بن حنبل في كتاب النبلاء لمؤرخ الإسلام الذهبي.
ولقد أصاب أئمة السنة بامتناعهم من الإجابة إلى القول بخلق القرآن وحدوثه وحفظ الله بهم أمة نبيه ﷺ عن الابتداع.
ولكنهم رحمهم الله جاوزوا ذلك إلى الجزم بقدمه، ولم يقتصروا على ذلك حتى كفروا من قال بالحدوث بل جاوزوا ذلك إلى تكفير من قال لفظي بالقرآن مخلوق بل جاوزوا ذلك إلى تكفير من وقف، وليتهم لم يجاوزوا حدّ الوقف وإرجاع العلم إلى علام الغيوب فإنه لم يسمع من السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى وقت قيام المحنة وظهور القول في هذه المسألة شيء من الكلام ولا نقل عنهم كلمة في ذلك فكان الامتناع من الإجابة إلى ما دعوا إليه والتمسك بأذيال الوقف وإرجاع علم ذلك إلى عالمه هو الطريقة المثلى وفيه السلامة والخلوص من تكفير طوائف من عباد الله والأمر لله سبحانه.
وقيل معنى الآية أن الله يحدث الأمر بعد الأمر فينزل الآية بعد الآية، والسورة بعد السورة في وقت الحاجة لبيان الأحكام وغيرها من الأمور والوقائع وهذا القول كالأول؛ وقيل الذكر المحدث ما قاله رسول الله (- ﷺ -) وبينه سوى ما في القرآن والأول أولى.
(إلا استمعوه) من النبي (- ﷺ -) أو غيره ممن يتلوه استثناء مفرغ
(وأسروا النجوى الذين ظلموا) كلام مستأنف مسوق لبيان جناية خاصة إثْرَ حكاية جناياتهم المعتادة، والنجوى اسم من التناجي وهو لا يكون إلا سراً، فمعناه المبالغة في الإخفاء بحيث لم يفهم أحد تناجيهم ومسارتهم تفصيلاً ولا إجمالاً وإنما قالوا ذلك سراً لأنهم كانوا في مبادي الشر والعناد وتمهيد مقدمات الكيد والفساد، وقد اختلف في محل الموصول على أقوال قال أبو عبيدة: أسروا هنا من الأضداد أي بمعنى أخفوا كلامهم؛ أو بمعنى أظهروه وأعلنوه.
(هل هذا) بدل من النجوى مفسر لها أو مفعول لمضمر وهل بمعنى النفي أي قالوا ما هذا الرسول (إلا بشر مثلكم) لا يتميز عنكم بشيء وما يأتي به سحر (أفتأتون السحر) أي إذا كان بشراً مثلكم، وكان الذي جاء به سحراً فكيف تجيبونه إليه وتتبعونه.
(وأنتم تبصرون) حال من فاعل تأتون مقرر للإنكار ومؤكد للاستيعاد وقالوا ما ذكر بناء على ما ثبت في اعتقادهم الزائغ أن الرسول لا يكون إلا ملكاً وأن كل ما يظهر على يد البشر يكون سحراً فأطلع الله سبحانه نبيه (- ﷺ -) على ما تناجوا به وأمره أن يجيب عليهم فقال:
(قالوا) الذي يأتي به من القرآن (أضغاث أحلام) أي أخلاط رآها في النوم. قاله الزجاج. وقال القتيبي: هي الرؤيا الكاذبة، وقال اليزيدي: الأضغاث ما لم يكن له تأويل. قال قتادة: أي دقل الأحلام إنما هي رؤيا رآها، يعني أباطيل وأهاويل رآها في النوم.
(بل افتراه) حكى سبحانه إضرابهم عن قولهم أضغاث أحلام، أي بل قالوا افتراه واختلقه من تلقاء نفسه من غير أن يكون له أصل. ثم حكى عنهم أنهم أضربوا عن هذا وقالوا: (بل هو شاعر) وما أتى به من جنس الشعر، أي كلام يخيل للسامع معاني لا حقيقة لها ويرغبه فيها، هذا هو المراد بالشعر هنا، وفي هذا الإضراب منهم والتلون والتردد أعظم دليل على أنهم جاهلون بحقيقة ما جاء به لا يدرون ما هو ولا يعرفون كنهه، أو كانوا قد علموا أنه حق وأنه من عند الله، ولكن أرادوا أن يدفعوه بالصدر ويرموه بكل حجر ومدر، وهذا شأن من غلبته الحجة وقهره البرهان.
ثم بعد هذا كله قالوا: (فليأتنا بآية) وهذا جواب شرط محذوف، أي إن لم يكن كما قلنا بل كان رسولاً من عند الله فليأتنا بآية إتياناً كائناً (كما أرسل الأولون) أي مثل ما أرسل موسى بالعصا وغيرها، وصالح بالناقة، وكان سؤالهم هذا سؤال تعنت، لأن الله سبحانه قد أعطاهم من الآيات ما يكفي، ولو علم الله سبحانه أنهم يؤمنون إذا أعطاهم ما يقترحونه لأعطاهم ذلك كما قال، (ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون). قال الزجاج: اقترحوا الآيات التي لا يقع معها إمهال فقال الله مجيباً لهم:
(أفهم يؤمنون) الهمزة للتقريع والتوبيخ، والمعنى أن لم تؤمن أمة من الأمم اْلمُهْلَكة عند إعطاء ما اقترحوا فكيف يؤمن هؤلاء لو أعطوا ما اقترحوا قال قتادة: قال أهل مكة للنبي صلى الله عليه وسلم: إذا كان ما تقوله حقاً ويسرك أن نُؤمن فحوّل لنا الصفا ذهباً، فأتاه جبريل فقال: إن شئت كان الذي سألك قومك ولكنه إن كان ثُمَّ لم يؤمنوا لم يُنْظروا، وإن شئت استأنيت بقومك قال: " بل أَسْتَأْنِي بقومي "، فأنزل الله (ما آمنت قبلهم) الآية.
ثم أجاب الله سبحانه عن قولهم: (هل هذا إلا بشر مثلكم) بقوله:
(فاسألوا أهل الذكر) هم أهل الكتابين اليهود والنصارى (إن كنتم لا تعلمون) أن رسل الله من البشر فإنهم لا يجهلون ذلك ولا ينكرونه وإن أنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
وتقدير الكلام إن كنتم لا تعلمون ما ذكر فاسألوا أهل الذكر، وتوجيه الخطاب إلى الكفرة لتبكيتهم واستنزالهم عن رتبة التكبر، وقد استدل بالآية على أن التقليد جائز وهو خطأ، ولو سلم لكان المعنى سؤالهم عن النصوص من الكتاب والسنة، لا عن الرأي البحت، وليس التقليد إلا قبول قول الغير دون حجته، والمقلد إذا سأل أهل الذكر عن كتاب الله وسنة رسوله لم يكن مقلداً. قال الرازي ومن الناس من قال المراد بأهل الذكر أهل القرآن وهو بعيد لأنهم كانوا طاعنين في القرآن وفي الرسول صلى الله عليه وسلم. فأما تعلق كثير من الفقهاء بهذه الآية في أن للعاميّ أن يرجع إلى فتيا العلماء، وفي أن للمجتهد أن يأخذ بقول مجتهد آخر فبعيد لأن هذه الآية خطاب مشافهة وهي واردة في هذه الواقعة المخصوصة ومتعلقة باليهود والنصارى على التعيين أهـ.
وقد قدمنا في سورة النحل أن سياق هذه الآية الكريمة يفيد أن المراد بها السؤال الخاص، وبه يظهر لك أن هذه الآية دليل الاتباع لا دليل التقليد فارجع إليه. وقد أوضح الشوكاني هذا في رسائل بسيطة، منها (القول المفيد في حكم التقليد)، (وأدب الطلب ومنتهى الأرب) وغيره في غيرها. ثم لما فرغ سبحانه عن الجواب عن شبهتهم أكد كون الرسل من جنس البشر فقال:
قال الزجاج: هو واحد ينبئ عن جماعة، أي وما جعلناهم ذوي
(وأهلكنا المسرفين) أي المجاوزين للحد في الكفر والمعاصي وهم المشركون
وقيل أي ذكر أمر دينكم وأحكام شرعكم وما تصيرون إليه من ثواب أو عقاب، وقيل فيه حديثكم، قاله مجاهد والحسن.
وقيل مكارم أخلاقكم وقيل صيتكم، وقيل فيه تذكرة لكم لتحذروا، فيكون الذكر بمعنى الوعد والوعيد، وقيل فيه موعظتكم، قال أبو السعود: وهو الأنسب بسياق النظم الكريم ومساقه فإن قوله:
(أفلا تعقلون) إنكار توبيخي فيه بعث لهم على التدبر في أمر الكتاب والتأمل فيما في تضاعيفه من فنون المواعظ والزواجر التي من جملتها القوارع السابقة واللاحقة، والفاء للعطف على مقدر ينسحب عليه الكلام، أي ألا تتفكرون فلا تعقلون إن الأمر كذلك، أو لا تعقلون شيئاً من الإشياء التي من جملتها ما ذكر؟ ثم أوعدهم وحذرهم ما جرى على الأمم المكذبة فقال:
وأما الفصم بالفاء فهو الصدع في الشيء من غير بينونة، أي وكم قصمنا من أهل قرية كانوا ظالمين، أي كافرين بالله مكذبين بآياته، والظلم في الأصل وضع الشيء في غير موضعه، وهم وضعوا الكفر في موضع الإيمان.
قال ابن عباس: بعث الله نبياً من حمير يقال له شعيب، فوثب إليه عبد فضربه بعصا، فسار إليهم بختنصر فقاتلهم فقتلهم حتى لم يبق منهم شيء، وفيهم أنزل الله: (وكم قصمنا -إلى قوله- خامدين).
وعن الكلبي في الآية قال: هي " حضور " بني أزد باليمن، فيكون التكثير باعتبار أفراد تلك القرية.
(وأنشأنا بعدها) أي أوجدنا وأحدثنا بعد إهلاك أهلها (قوماً آخرين) ليسوا منهم
(إذا هم منها يركضون) أي يسرعون هاربين ويهربون مسرعين من قريتهم لما رأوا مقدمة العذاب، أو من بأسنا لأنه في معنى النقمة والبأساء، فأنث الضمير حملاً على المعنى، ومن على الأول لابتداء الغاية وللتعليل على الثاني، والركض الفرار والهرب والانهزام، وأصله من ركض الرجل الدابة برجليه، يقال رَكَضَ الْفَرَس إذاْ كَدًه بساقيه، ثم كثر حتى قيل: ركض الفرس إذا عَدَا، ومنه (ارْكُضْ بِرِجْلِك) والمعنى أنهم يهربون منها راكضين دوابهم، فقيل لهم.
وقال سعيد بن جبير: ارجعوا إلى دوركم وأموالكم (ومساكنكم) التي تسكنونها وتفتخرون بها (لعلكم تسألون) أي تقصدون للسؤال والتشاور والتدبير في المهمات، وهذا على طريقة التهكم بهم والتوبيخ لهم.
وقيل: المعنى لعلكم تسألون عما نزل بكم وجرى عليكم من العقوبة فتخبرون السائل عن علم ومشاهدة. وقيل: لعلكم تسألون أن تؤمنوا كما كنتم تسئلون ذلك قبل نزول العذاب بكم، أو تسئلون شيئاً من دنياكم على العادة فتعطون من شئتم وتمنعون من شئتم، فإنكم أهل نعمة وثروة؛ وهذا كله توبيخ وتهكم بهم وقيل غير ذلك.
قال المفسرون وأهل الأخبار: أن المراد بهذه الآية أهل حضور من اليمن وكان أهلها عرباً، وكان الله سبحانه قد بعث إليهم نبياً اسمه شعيب بن مهدم. وقبره بجبل من جبال اليمن يقال له صنين، وبينه وبين حضور نحو
ومعنى (خامدين) أنهم ميتون من خمدت النار وهمدت إذا طفئت، فشبه خمود الحياة بخمود النار، كما يقال لمن مات قد طفىء، والخمود عبارة عن سكون لهبها مع بقاء الحر، والهمود عبارة عن ذهابها بالكلية حتى تصير رماداً، فالأحسن أن يكون المراد بالخمود هنا الهمود فإنه أبلغ معنى، والمعنى جعلناهم جامعين لماثلة الحصاد والخمود، كقولك جعلته حلواً حامضاً؛ أي جعلته جامعاً للطعمين. قال مجاهد: بالسيف ضرب الملائكة وُجُوهَهم حتى رجعوا إلى مساكنهم.
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن وهب قال: حدثني رجل من الجزريين قال: كان باليمن قريتان يقال لإحداهما حضور وللأخرى قلابة، فبطروا وأترفوا حتى ما كانوا يغلقون أبوابهم فلما أترفوا بعث الله إليهم نبياً فدعاهم فقتلوه، فألقى الله في قلب بختنصر أن يغزوهم؛ فجهز لهم جيشاً فقاتلوهم فهزموا جيشه فرجعوا منهزمين؛ فجهز إليهم جيشاً آخر أكثف من الأول فهزموهم أيضاً، فلما رأى بختنصر غزاهم هو بنفسه، فقاتلهم حتى خرجوا منها يركضون؛ فسمعوا منادياً يقول: لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيا
قلت: وقرى حضور معروفه الآن، بينها وبين مدينة صنعاء نحو بريد في جهة الغرب منها.
ثم نزه ذاته عن سمات النقص فقال:
قيل: اللهو هنا الزوجة والولد، وقيل: الزوجة فقط، وقيل: الولد فقط، قال الجوهري: قد يكنى باللهو عن الجماع ومنه قول الشاعر:
وفيهن ملهى للصديق ومنظر
والجملة مستأنفة لتقرير مضمون ما قبلها، وجواب لو قوله: (لاتخذناه من لدنا) أي من عندنا ومن جهة قدرتنا لا من عندكم ويستثنى نقيض التالي
قال المفسرون: أي من الولدان أو الحور العين أو الملائكة، وفي هذا رد على من قال بإضافة الصاحبة والولد إلى الله، تعالى عن ذلك علواً كبيراً، وقيل: أراد الرد على من قال الأصنام أو الملائكة بنات الله؛ وقال ابن قتيبة: الآية رد على النصارى.
(إن كنا فاعلين) قال الفراء والمبرد والزجاج: ويجوز أن تكون (إن) للنفي كما ذكره المفسرون أي ما فعلنا ذلك ولم نتخذ صاحبة ولا ولداً ويجوز أن تكون للشرط أي إن كنا ممن يفعل ذلك لاتخذناه من لدنا، قال الفراء: وهذا أشبه الوجهين بمذهب العربية.
(فيدمغه) أي يقهره ويهلكه وأصل الدمغ شق الرأس حتى يبلغ الدماغ، ومنه الدامغة، قال الزجاج: المعنى نذهبه ذهاب الصغار والإذلال؛ وذلك أن أصله إصابة الدماغ بالضرب قيل: أراد بالحق الحجة وبالباطل الشبهة وقيل: الحق المواعظ والباطل المعاصي، وقيل الباطل الشيطان، وقيل بكذبهم ووصفهم الله سبحانه بغير صفاته.
(فإذا هو زاهق) أي زائل ذاهب، وقيل هالك تالف، والمعنى متقارب (وإذا) هي الفجائية (ولكم الويل) يا معشر الكفار (مما تصفون) أي لكم العذاب في الآخرة بسبب وصفكم لله بما لا يجوز عليه من الصاحبة والولد، وقيل: الويل واد في جهنم، وهو وعيد لقريش؛ بأن لهم من العذاب مثل الذي لأولئك و (من) هي التعليلية وهذا وجه وجيه و (ما) مصدرية أو موصولة أو نكرة موصوفة.
قال أبو السعود: بطريق التمثيل وأقول أنا بل بطريق التحقيق كما هو ظاهر النظم القرآني، ثم وصفهم بقوله: (لا يستكبرون) أي لا يتعاظمون ولا يأنفون (عن عبادته) سبحانه والتذلل له.
(ولا يستحسرون) أي لا يعيون ولا يتعبون مأخوذ من الحسير وهو البعير المنقطع بالإعياء والتعب يقال حسر البعير يحسر حسوراً أعيي وكَلُّ واستحسر؛ وتحسر مثله وحسرته انا حسراً يتعدى ولا يتعدى، قال أبو زيد: لا يَكِلون، وقال ابن الأعرابي: لا يفشلون، وقال ابن عباس: لا يرجعون، قال الزجاج: معنى الآية أن هؤلاء الذين ذكرتم أنهم أولاد الله عباد الله لا يأنفون عن عبادته ولا يتعظمون عنها، كقوله: (إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته) وقيل: المعنى لا ينقطعون عن عبادته وهذه المعاني متقاربة.
قال المبرد: أن أم هنا بمعنى هل. أي هل اتخذ هؤلاء المشركون آلهة من الأرض يحيون الموتى؟ ولا يكون (أم) هنا بمعنى بل لأن ذلك يوجب لهم إنشاء الموتى إلا أن يقدر أم مع الاستفهام فتكون أم المنقطعة فيصح المعنى.
(هم ينشرون) أي يبعثون الموتى، والجملة مستأنفة أو صفة لآلهة وهذه الجملة هي التي يدور عليها الإنكار، والتجهيل لا نفس الاتخاذ فإنه واقع منهم لا محالة، والمعنى بل اتخذوا آلهة من الأرض لهم خاصة مع حقارتهم وينشرون الموتى وليس الأمر كذلك فإن ما اتخذوها آلهة بمعزل عن ذلك وقرئ ينشرون من أنشره أي أحياه، وقرئ بفتح الياء أي يَحْيَوْن ولا يموتون ثم إن الله سبحانه أقام البرهان على بطلان تعدد الآلهة فقال:
أقول الأدلة القرآنية والحجج الفرقانية الدالة على توحيد الله تعالى تغني عن البراهين الكلامية والمسائل العقلية الفلسفية في هذا المرام، وليس وراء بيان الله بيان ودونه خرط القتاد.
قال الرازي: القول بوجود إلهين يفضي إلى المحال ثم ذكر دلائل ذلك وهذه حجة تامة في مسألة التوحيد، والفساد لازم على كل التقديرات التي قدروها، وإذا وقفْتَ على هذه عرفت أن جميع ما في العالم العلوي والسفلي من المحدثات والمخلوقات فهو دليل على وحدانية الله تعالى.
وأما الدلائل السمعية على الوحدانية فكثيرة في القرآن وكل من طعن في دلالة التمانع فسر الآية بأن المراد لو كان في السماء والأرض آلهة يقول بإلهيتها عبدة الأصنام لزم فساد العالم، لأنها جمادات لا تقدر على تدبير العالم فلزم إفساد العالم، قالوا: وهذا أولى؛ لأنه تعالى حكى عنهم في قوله: (أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون) ثم ذكر الدلالة على فساد هذا فوجب أن يختص الدليل به.
قال علي القاري: وأما قول التفتازاني: الآية حجة إقناعية فالمحققون
قال الكسائي وسيبويه والأخفش والزجاج وجمهور النحاة إن (إلا) هنا ليست للاستثناء بل بمعنى غير صفة للآلهة، ولذلك ارتفع الاسم الذي بعدها، وظهر فيه إعراب غير التي جاءت إلا بمعناها، وقال الفراء: أن (إلا) هنا بمعنى سوى، ووجه الفساد أن كون إله آخر مع الله يستلزم أن يكون كل واحد منهما قادراً على الاستبداد بالتصرف؛ فيقع عند ذلك التنازع والاختلاف، ويحدث بسببه الفساد.
(فسبحان الله رب العرش عما يصفون) الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها من ثبوت الوحدانية بالبرهان أي تنزه عز وجل عما لا يليق به من ثبوت الشريك له وفي إرشاد للعباد أن ينزهوا الرب سبحانه عما لا يليق به
(وهم) أي العباد (يسألون) عما يفعلون سؤال توبيخ وتقريع يقال لهم يوم القيامة لم فعلتم كذا وكذا، لأنهم عبيد يجب عليهم امتثال أمر مولاهم، والله تعالى ليس فوقه أحد يقول له لشيء فعله لم فعلته؟.
وقيل: أن المعنى أنه سبحانه لا يؤاخذ على أفعاله وهم يؤاخذون، قيل والمراد بذلك أنه سبحانه بين لعباده أن من يسأل عن أعماله كالمسيح والملائكة لا يصلح لأن يكون إلهاً، قال ابن عباس: ما في الأرض قوم أبغض إليّ من القدرية وما ذاك إلا أنهم لا يعلمون قدرة الله، قال الله (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون).
وقيل المعنى هذا القرآن وهذه الكتب التي أنزلت قبلي، فانظروا هل في واحد منها أن الله أمر باتخاذ إنه سواه؟.
قال الزجاج: قيل لهم هاتوا برهانكم بأن رسولاً من الرسل أنبأ أمته بأن لهم إلهاً غير الله، فهل في ذكر من قبلي إلا توحيد الله، وفيه تبكيت لهم متضمن لإثبات نقيض مدعاهم.
وقيل معنى الكلام الوعيد والتهديد؛ أي افعلوا ما شئتم فعن قريب ينكشف الغطاء. وقرئ ذكرٌ مِن مَعي بالتنوين وكسر الميم، أي هذا ذكر مما أنزل إليّ ومما هو معي وذكرٌ مِنْ قبلي، قاله الزجاج. وقيل ذكر كائن من قبلي، أي جئت بما جاءت به الأنبياء من قبلي.
ثم لما توجهت الحجة عليهم ذمهم بالجهل بمواضع الحق فقال: (بل أكثرهم لا يعلمون الحق) وهذا إضراب من جهة الله سبحانه غير داخل في الكلام الملقن وانتقال من تبكيتهم بمطالبتهم بالبرهان إلى بيان أنه لا تؤثر فيهم المحاجة وإقامة البرهان لكونهم جاهلين للحق لا يميزون بينه وبين الباطل، وقرئ الحق بالرفع على معنى هذا الحق أو هو الحق.
(فهم معرضون) تعليل لما قبله من كون أكثرهم لا يعلمون. أي فهم لأجل هذا الجهل المستولي على أكثرهم معرضون عن قبول الحق وعن النظر الموصل إليه، مستمرون على الإعراض عن التوحيد واتباع الرسول، فلا يتأملون حجة ولا يتدبرون في برهان ولا يتفكرون في دليل.
وختم الآية بالأمر لعباده فقال: (فاعبدون) فقد اتضح لكم دليل العقل ودليل النقل، وقامت عليكم حجة الله.
(سبحانه) أي تنزيهاً له عن ذلك، وهو يقول على ألسنة العباد؛ ثم أضرب عن قولهم وأبطله فقال: (بل عباد مكرمون) قرئ من الإكرام والتكريم؛ أي ليسوا كما قالوا، بل عباد الله سبحانه مكرمون بكرامته لهم مقربون عنده، والعبودية تنافي الولادة بحسب المعتاد الذي لا يتخلف عند
قال قتادة: قالت اليهود إن الله صاهر الجن فكانت بينهم الملائكة، فقال الله تكذيباً لهم: (بل عباد مكرمون) أي الملائكة أكرمهم بعبادته واصطفاهم ووصفهم بصفات سبعة؛ الأولى هذه والأخيرة. ومن يقل منهم. فهذه الضمائر كلها للملائكة.
وقيل ما كان قبل خلقهم وما يكون بعد خلقهم، أو يعلم ما بين أيديهم. وهو الآخرة وما خلفهم، وهو الدنيا، والجملة تعليل لما قبلها، ووجه التعليل أنهم إذا علموا بأنه عالم بما قدموا وأخروا لم يعملوا عملاً ولا يقولوا قولاً إلا بأمره.
(ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) أن يشفع الشافعون له وهو ممن رضى عنه وقيل: هم أهل لا إله إلا الله، وقد ثبت في الصحيح. أن الملائكة يشفعون في الدار الآخرة (١)، قال قتادة: لأهل التوحيد، وعن مجاهد نحوه،
_________
(١) وردت أحاديث كثيرة فيها شفاعة الملائكة منها: البخاري كتاب التوحيد باب ٢٤ - الإمام أحمد ٥/ ٤٣.
وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي في البعث عن جابر أن رسول الله (- ﷺ -) تلا هذه الآية وقال: " شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي " (١).
(وهم من خشيته مشفقون) أي من خشيتهم منه، والخشية الخوف مع التعظيم ولهذا خص به العلماء؛ والإشفاق: الخوف مع التوقع والاعتناء والحذر فإن عدي بمن فمعنى الخوف فيه أظهر، وإن عدي بعلى فبالعكس أي لا يأمنون مكر الله، بل هم خائفون وَجِلُون.
_________
(١) المستدرك كتاب الإيمان ١/ ٦٩.
(فذلك) القائل على سبيل الفرض والتقدير (نجزيه جهنم) بسبب هذا القول الذي قاله، كما نجزي غيره من المجرمين (كذلك) أي مثل ذلك الجزاء الفظيع (نجزي الظالمين) أو مثل ما جعلنا جزاء هذا القائل جهنم فكذلك نجزي الظالمين الواضعين الإلهية والعبادة في غير موضعها، والمراد بالظالمين المشركون.
(أن السماوات والأرض كانتا رتقاً) قال الأخفش: إنما قال كانتا دون كنّ لأنهما صنفان أي جماعتا السماوات والأرض، وبه قال الزمخشري.
وقال أبو البقاء: الضمير يعود على الجنسين، وقال الحوفي: أراد الصنفين كما قال سبحانه؛ (إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا)، وقال الزجاج: إنما قال كانتا لأنه يعبر عن السماوات بلفظ الواحد لأنها كانت سماء واحدة وكذلك الأرضون. والرًتْقُ السد ضد الفتق، يقال رتقت الفتق أرتقُه فارتتق أي التأم، ومنه الرتقاء للمنضمة الفرج، يعني أنهما كانا شيئاً واحداً ملتزقين ملتصقين.
وقال: رتقاً ولم يقل رتقين لأنه مصدر والتقدير كانتا ذواتي رتق، وقيل مرتوقتين مسرودتين.
(ففتقناهما) أي ففصلناهما أي فصلنا بعضهما من بعض بالهواء فرفعنا السماء وأبقينا الأرض مكانها، والفتق الفصل بين الشيئين وهو من أحسن البديع هنا حيث قابل الرتق بالفتق قيل كانت السماوات مرتتقة طبقة واحدة ففتقها الله وجعلها سبع سموات، وكذلك الأرض كانت طبقة واحدة فجعلها سبع أرضين. وعن ابن عباس قال: فتقت السماء بالغيث وفتقت الأرض بالنبات.
وقد أطال الكلام القرطبي في ذلك، ولقل عن كعب الأخبار وغيره أحوال خلق الأرض العليا والسفلى؛ ولا يصار إليها إلا أن يصح من ذلك شيء من الله ورسوله ﷺ (وجعلنا من الماء) أي خلقنا وأحيينا أو صيرنا بالماء الذي ننزله من السماء وينبع من الأرض.
(كل شيء حي) فيشمل الحيوان والنبات، والمعنى أن الماء سبب حياة كل شيء، وقيل: المراد بالماء هنا نطفة الرجل وبه قال أبو العالية وأكثر المفسرين وخرج هذا اللفظ مخرج الأغلب والأكثر وهذا احتجاج على المشركين بقدرة الله.
سبحانه، وبديع صنعه، وقد تقدم تفسير هذه الآية.
(أفلا يؤمنون) الهمزة للإنكار عليهم حيث لم يؤمنوا مع وجود ما يقتضيه من الآيات الربانية
(وجعلنا فيها) أي في الرواسي أو في الأرض وهو الظاهر (فجاجاً) طرقاً واسعة، قال أبو عبيدة: هي المسالك، وقال الزجاج: كل مخترق بين جبلين فهو فج و (سبلاً) تفسير للفجاج، لأن الفج قد لا يكون طريقاً نافذاً مسلوكاً (لعلهم يهتدون) إلى مصالح معاشهم ومقاصدهم في الأسفار، وما تدعو إليه حاجاتهم
وقال الفراء: محفوظاً بالنجوم من الشيطان كقوله: (وحفظاً من كل شيطان مارد)، وقيل محفوظاً لا يحتاج إلى عماد، وقيل المراد بالمحفوظ هنا المرفوع، وقيل محفوظاً عن الشرك والمعاصي، وقيل عن الهدم والنقض، وقيل عن الفساد والانحلال إلى الوقت المعلوم.
(وهم عن آياتها) أي الآيات الكائنة فيها الدالة على وجود الصانع ووحدته وتناهي قدرته وكمال حكمته وأضاف الآيات إلى السماء لأنها مجعولة فيها وذلك كالشمس والقمر والنجوم، وكنفية حركاتها في أفلاكها ومطالعها ومغاربها (معرضون) أي لا يعتبرون بها فيها ولا يتفكرون فيما توجبه من الإيمان.
(كل في فلك) أي مستدير كالطاحونة في السماء (يسبحون)
قال ابن عباس: فلك كفلكة المغزل يدورون في أبواب السماء، كما تدور الفلكة في المغزل، وعنه قال: هو فلك السماء الذي فيه ذلك الكوكب، وكل كوكب يجري في السماء الذي قدر فيه، والجمع في الفعل باعتبار المطالع، قال سيبويه: إنه لما أخبر عنهن بفعل من يعقل وجعلهن في الطاعة بمنزلة من يعقل، جعل الضمير عنهن ضمير العقلاء، ولم يقل يسبحن أو تسبح، وكذا قال الفراء، وقال الكسائي: إنما قال يسبحون لأنه رأس الآية والفلك واحد أفلاك النجوم وأصل الكلمة من الدوران، ومنه فلك المغزل لاستدارتها، والفلك مدار النجوم الذي يضمها وهو في كلام العرب كل شيء مستدير، وقيل الفلك استدارة السماء، وقيل الفلك ماء أو موج مكفوف دون السماء تجري فيه الكواكب.
وقال أهل الهيئة: الأفلاك أجرام صلبة لا ثقيلة ولا خفيفة غير قابلة للخرق والالتئام والنمو والذبول، وفي الرازي: الفلك في كلام العرب كل شيء مستدير وجمعه أفلاك، واختلف العقلاء فيه فقال بعضهم: الفلك ليس بجسم، وإنما هو استدارة هذه النجوم.
وقال الأكثرون: الأفلاك أجسام تدور النجوم عليها وهذا أقرب إلى ظاهر القرآن، واختلف الناس في حركات الكواكب والوجوه الممكنة. فيها ثلاثة فإنه إما أن يكون الفلك ساكناً، والكواكب تتحرك فيه، كحركة السمك في الماء الراكد، وإما أن يكون الفلك متحركاً والكواكب أيضاً إما مخالفة لجهة حركته أو موافقة لجهتها إما بحركة مساوية لحركة الفلك في السرعة والبطء أو مخالفة، وإما أن يكون الفلك متحركاً، والكواكب ساكنة.
والذي يدل عليه لفظ القرآن القسم الأول وهو أن تكون الأفلاك ساكنة والكواكب جارية فيها، كما تسبح السمكة في الماء الراكد انتهى، والحق أنه لا
(فهم الخالدون) قال الفراء: جاء بالفاء لتدل على الشرط لأنه جواب قولهم إن محمداً سيموت قال: ويجوز حذف الفاء وإضمارها، والمعنى إن مت فهم يموتون أيضاً فلا شماتة في الموت وكان سبب نزول هذه الآية قول المشركين فيما حكاه الله عنهم (أم يقولون: شاعر نتربص به ريب المنون).
أخرج البيهقي وغيره عن عائشة قالت: دخل أبو بكر على النبي (- ﷺ -) وقد مات فقبله، وقال وانبياه واخليلاه واصفياه ثم تلا وما جعلنا. الآية.
(ونبلوكم) أي نختبركم (بالشر) أي بالشدة (والخير) أي الرخاء (فتنة) مصدر لنبلوكم من غير لفظه لأن الابتلاء فتنة فكأنه قال: نفتنكم فتنة أو مفعول له أي لننظر كيف شكركم وصبركم، والمراد أنه سبحانه يعاملهم معاملة من يبلوهم فالله لا يخفى عليه شيء.
(وإلينا ترجعون) لا إلى غيرنا لا استقلالاً ولا اشتراكاً فنجازيكم بأعمالكم حسبما يظهر منكم إن خيراً فخير وإن شراً فشر، وفيه إشارة إلى أن المقصود من هذه الحياة الدنيا الابتلاء والتعريض للثواب والعقاب.
(وهم بذكر الرحمن هم كافرون) أي بالقرآن، أو هم بذكر الرحمن الذي خلقهم كافرون؛ إذ قالوا ما نعرفه، والمعنى أنهم يعيبون على النبي ﷺ أن يذكر آلهتهم التي لا تضر ولا تنفع بالسوء، والحال أنهم بذكر الله سبحانه بما يليق به من التوحيد، أو بالقرآن كافرون، فهم أحق بالعيب لهم والإنكار عليهم.
وقال الزجاج. خوطبت العرب بما تعقل، والعرب تقول للذي يكثر منه الشيء خلقت منه، كما تقول أنت من لعب وخلقت من لعب، تريد المبالغة في وصفه بذلك، ويدل على هذا المعنى قوله: (وكان الإنسان عجولاً) والمراد بالإنسان الجنس، وقيل آدم، فإنه لما خلقه الله ونفخ فيه من الروح صار الروح في رأسه، فذهب ينهض قبل أن يبلغ الروح إلى رجليه فوقع؛ فقيل: (خلق الإنسان من عجل) كذا قال عكرمة وسعيد بن جبير والسدي والكلبي ومجاهد، ولفظ عكرمة: لما نفخ في آدم الروح صار في رأسه فعطس، فقال الحمد لله، فقالت الملائكة يرحمك الله؛ فذهب ينهض قبل أن تمور في رجليه فوقع، فقال الله: (خلق الإنسان من عجل) وعن ابن جريج نحوه.
وقال أبو عبيدة وكثير من أهل المعاني: العجل الطين بلغة حمير، وقيل إن هذه الآية نزلت في النضر بن الحرث وهو القائل: (اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك) إلخ، وقيل نزلت في قريش لأنهم استعجلوا العذاب، وقال الأخفش: معناه أنه قيل له كن فكان، وقيل: أن هذه الآية من المقلوب، أي خلق العجل من الإنسان لشدة صدوره منه وملازمته له. وقد حكى هذا عن أبي عبيدة والنحاس وأبى عمرو، والقول الأول أولى.
(سأوريكم آياتي) أي نقماتي منكم ومواعيدي في الآخرة بعذاب النار أو في الدنيا كوقعة بدر (فلا تستعجلون) بالإتيان فإنه نازل بكم لا محالة.
(عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم) لما استعجلوا الوعيد، وقدره الحوفي لسارعوا، وقال الزجاج: التقدير لعلموا صدق الوعد أي البعث. وقيل لو علموه ما أقاموا على الكفر. وقال الكسائي: هو تنبيه على تحقيق وقوع الساعة أي لو علموه علم يقين لعلموا أن الساعة آتية، ويدل عليه قوله الآتي:
(فلا يستطيعون ردها) أي صرفها عن وجوههم ولا عن ظهورهم، فالضمير راجع إلى النار، وقيل إلى الوعد بتأويله بالعدة، وقيل إلى الحين بتأويله بالساعة (ولا هم ينظرون) أي يمهلون ويؤخرون لتوبة واعتذار.
وقال الفراء: المعنى من يحفظكم مما يريد الرحمن إنزاله بكم من عقوبات الدنيا والآخرة. وفي التعرض لعنوان الرحمة إيذان بأن كالئهم ليس إلا رحمته العامة (بل هم عن ذكر ربهم معرضون) فلا يذكرونه ولا يخطرونه ببالهم ولا يتفكرون فيه بل يعرضون عنه أو عن القرآن أو عن مواعظ الله أو عن معرفته.
(لا يستطيعون نصر أنفسهم) أي هم عاجزون عن نصر أنفسهم فكيف يستطيعون أن ينصروا غيرهم، فهو استئناف مقرر لما قبله من الإنكار وموضح لبطلان اعتقادهم (ولا هم) أي الكفار (منا يصحبون) أي يجارون من عذابنا قال ابن قتيبة: أي لا يجيرهم منا أحد لأن المجير صاحب الجار. والعرب تقول: صحبك الله أي حفظك وأجارك، تقول العرب أنا لك جار، وصاحب من فلان أي مجير منه، وهو اختيار الطبري.
قال المازني: هو من أصحبت الرجل إذا منعته. وقال مجاهد: يحفظون قال ابن عباس: أي لا ينصرون ولا يجارون ولا يمنعون. وقال قتادة: لا يصحبون من الله بخير ولا يجعل الله رحمته صاحباً لهم. ذكره القرطبي.
ولما أبطل كون الأصنام نافعة أضرب عن ذلك منتقلاً إلى بيان أن ما هم فيه من الخير والتمتع بالحياة العاجلة هو من الله لا من مانع يمنعهم من الهلاك ولا من ناصر ينصرهم على أسباب التمتع فقال:
(أفلا يرون) أي لا ينظرون فيرون (أنّا نأتي الأرض) أي نقصد أرض الكفر (ننقصها) بالظهور عليها (من أطرافها) فنفتحها بلداً بلداً وأرضاً بعد أرض بتسليط المسلمين عليها، وأسنده إلى نفسه تعظيما لهم. وفيه
(أفهم الغالبون) الاستفهام للإنكار والفاء للعطف على مقدر كنظائره، أي كيف يكونون غالبين بعد نقصنا لأرضهم من أطرافها، وفي هذا إشارة إلى أن الغالبين هم المسلمون أصحاب النبي.
والمعنى أن من أصم الله سمعه وختم على قلبه وجعل على بصره غشاوة لا يسمع الدعاء. وقرئ لا يُسْمَع بضم الياء وفتح الميم على ما لم يسم فاعله، وقرئ بالفوقية وكسر الميم، أي أنك يا محمد لا تُسْمِع هؤلاء و (ال) في الصم للجنس فيدخل المخاطبون فيه دخولاً أولياً أو للعهد.
(إذا ما ينذرون) أي يخوَّفون لتركهم العمل بما سمعوه من الإنذار، والأصل ولا يسمعون إذا ما ينذرون، فوضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على تصامَّهم وسدهم أسماعهم إذا ما أنذروا، وللتسجيل عليهم.
(ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين) بالإشراك وتكذيب محمد، أي ليدعون على أنفسهم بالويل والهلاك ويعترفون عليها بالظلم.
وقد ورد في السنة في صفة الميزان ما فيه كفاية، وقد مضى في (الأعراف)، وفي (الكهف) في هذا ما يغني عن الإعادة، والقسط صفة للموازين وصف به مبالغة، قال الزجاج: قسط مصدر يوصف به، تقول: ميزان قسط، وموازين قسط؛ والمعنى ذوات قسط، والقسط العدل وصف به
وقرئ القصط بالصاد والطاء، وأما ماهية جرمه من أي الجوهر، وأنه موجود الآن أو سيوجد فنمسك عن تعيينه ولا يكون الوزن في حق كل أحد، لأن من لا حساب عليه لا يوزن له كالأنبياء والملائكة، والوزن يكون للمكلفين من الجن والإنس، وقد يوزن العبد نفسه " كما ورد عن النبي (- ﷺ -) لرجل عبد الله بن مسعود في الميزان أثقل من جبل أحد " (١) " ومن مات له ولد يجعل ذلك الولد في الميزان " (٢) وكيفيته ثقلا وخفة مثلها في الدنيا.
(فلا تظلم نفس شيئاً) أي لا ينقص من إحسان محسن ولا يزاد في إساءة مسيء (وإن كان مثقال حبة من خردل) أي إن كان العمل المدلول عليه بوضع الموازين مثقال حبة، كذا قال الزجاج.
وقال أبو علي الفارسي: وإن كان الظلامة مثقال حبة، قال الواحدي: وهذا أحسن لتقدم قوله: فلا تظلم نفس شيئاً، وقرئ برفع (مثقال) على أن كان تامة أي إن وقع أو أن وجد مثقال حبة، ومثقال الشيء ميزانه أي وإن كان في غاية الخفة والقلة والحقارة، فإن حبة الخردل مثل في الصغر.
(أتينا بها) أي أحضرناها وجئنا بها أي بموزونها للمجازاة عليها، وقرئ آتينا بالمد على معنى جازينا بها يقال آتى يؤاتي مؤاتاة جازى (وكفى بنا حاسبين) أي مُحْصِين في كل شيء، والحسب في الأصل معناه: الْعَدّ، وقيل عالمين لأن من حسب شيئاً علمه وحفظه، وقيل مجازين على ما قدموه من خير وشر والغرض منه التحذير، فإن المحاسب إذا كان في العلم بحيث لا يمكن
_________
(١) الإمام أحمد ١/ ١١٤ - ١/ ٤٢١ - ٥/ ١٣١.
(٢) البخاري كتاب الجنائز باب ٦.
وقد أخرج أحمد والترمذي وابن جرير في تهذيبه والبيهقي وغيرهم عن عائشة أن رجلاً قال: يا رسول الله إن لي مملوكين يكذبونني ويخونونني ويعصونني وأضربهم وأشتمهم فكيف أنا منهم؟ فقال رسول الله ﷺ " يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك وعقابك إياهم، فإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم كان فضلاً لك، وإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافاً لا عليك ولا لك، وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم اقتص لهم منك الفضل " فجعل الرجل يبكي ويهتف، فقال رسول الله (- ﷺ -) " أما تقرأ كتاب الله (ونضع الموازين القسط) إلى قوله (حاسبين) " فقال الرجل: يا رسول الله ما أجد لي ولهم خيراً من مفارقتهم أشهدك أنهم أحرار. (١) وفي معناه أحاديث، وروي عن الشبلي أنه رؤى في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال:
حاسبونا فدققوا... ثم منوا فأعتقوا
وكذا كل مالك... بالمماليك يرفق
ثمِ شرع الله سبحانه في تفصيل ما أجمله سابقاً بقوله (وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم) وذكر عشر قصص، الأولى. قصة موسى، ثم إبراهيم ثم لوط ثم نوح ثم داود وسليمان ثم أيوب ثم إسماعيل وإدريس وذي الكفل، ثم يونس ثم زكريا ثم مريم وابنها عيسى فقال:
_________
(١) الترمذي تفسير سورة ٢١/ ٢ - الإمام أحمد ٦/ ٢٨٠.
وخص المتقين لأنهم ينتفعون بذلك ووصفهم بقوله
(وهم من الساعة مشفقون) أي وهم من أهوال القيامة خائفون وَجِلُون، وهذا من ذكر الخاص بعد العام، لكونها أعظم المخلوقات وللتنصيص على إنصافهم بضد ما أنصف به المستعجلون وإيثار الجملة الاسمية للدلالة على ثبات الإشفاق ودوامه.
(أفأنتم له منكرون)؟ الاستفهام للإنكار لما وقع منهم من الإنكار أي كيف تنكرون كونه منزلاً من عند الله؟ مع اعترافكم بأن التوراة منزلة من عنده، أو أنكم من أهل اللسان تدركون مزايا الكلام ولطائفه، وتفهمون من بلاغة القرآن ما لا يدركه غيركم؛ مع أن فيه شرفكم وَصِيَّتكم. كما يشير إليه لفظ الذكر على ما سبق، فلو أنكره غيركم لكان ينبغي لكم مناصبته، وتقديم الظرف على المتعلق دال على التخصيص أي أفأنتم للقرآن خاصة دون كتاب اليهود فإنهم كانوا يراجعون اليهود فيما عنّ لهم من المشكلات.
(من قبل) أي قبل إيتاء موسى وهارون التوراة، أو محمد صلى الله عليه وسلم، وقال الفراء: أي أعطيناه هداه من قبل النبوة والبلوغ أي وفقناه للنظر والاستدلال لما جن عليه الليل فرأى الشمس والقمر والنجم، وعلى هذا أكثر المفسرين وبالأول قال أقلهم.
(وكنا به عالمين) أي أنه موضع لإيتاء الرشد وأنه يصلح لذلك
وأصل التمثال: الشيء المصنوع المشابه لشيء من مخلوقات الله سبحانه، يقال مَثَّلْتُ الشيء بالشيء إذا جعلته مشابهاً له، واسم ذلك اْلمُمَثل تمثال، وهو الصورة المصنوعة من رخام أو نحاس أو خشب شبيهة بخلق
(التي أنتم لها عاكفون) العكوف عبارة عن اللزوم والاستمرار على الشيء لغرض من الأغراض، واللام في لها للاختصاص، ولو كانت للتعدية لجيء بكلمة على أي ما هذه الأصنام التي أنتم مقيمون على عبادتها؟ وقيل: إن العكوف مضمن معنى العبادة وكانت تلك الأصنام اثنين وسبعين صنماً، بعضها من ذهب وبعضها من فضة، وبعضها من حديد، وبعضها من رصاص، وبعضها من نحاس وبعضها من حجر، وبعضها من خشب، وكان كبيرها من ذهب مكللاً بالجواهر في عينيه ياقوتتان متقدتان تضيآن في الليل.
وهكذا يجيب هؤلاء المقلدة من أهل هذه الملة الإسلامية فإن العالم بالكتاب والسنة إذا أنكر عليهم العمل بمحض الرأي المدفوع بالدليل، قالوا: هذا قد قال به إمامنا الذي وجدنا آباءنا له مقلدين وبرأيه آخذين، قال الحفناوي: أي فلم يكن جوابهم إلا التقليد انتهى، وجوابهم هو ما أجاب به الخليل هاهنا.
أقول: وهؤلاء المُقَلَّدة من أهل الإسلام استبدلوا بكتاب الله وسنة رسوله ﷺ كتباً قد دونت فيها اجتهادات عالم من علماء الإسلام زعم أنه لم يقف على دليل يخالفها إما لقصور منه أو لتقصير في البحث فوجد ذلك الدليل من وجده وأبرزه واضح المنار كأنه علم في رأسه نار، وقال هذا كتاب الله أو هذه سنة رسوله وأنشدهم:
دعوا كل قول عند قول محمد | فما آمِنٌ في دينه كمُخَاطِرِ |
وهل أنا إلا من غَزِيَّة إن غوت | غَوِيت وإن ترشد غَزِيَّةُ أرشد |
يأبي الفتى إلا اتباع الهوى | ومنهجُ الحق له واضح |
(بل ربكم رب السماوات والأرض) وقيل هو إضراب عن كونه لاعباً، بإقامة البرهان على ما ادعاه، والأول أظهر (الذي فطرهن) أي خلقهن وأبدعهن والضمير للسموات أو للتماثيل وهو أدخل في تضليلهم وإقامة الحجة عليهم لأن فيه تصريحاً بأن معبوداتهم من جملة مخلوقاته.
(وأنا على ذلكم) الذي ذكرته لكم من كون ربكم هو رب السماوات والأرض فقط دون ما عداه كائناً ما كان (من الشاهدين) أي العالمين به على سبيل الحقيقة المبرهنين عليه، فإن الشاهد على الشيء هو من كان عالماً به، مبرهناً عليه مبيناً له.
(بعد أن تولوا مدبرين) أي بعد أن تراجعوا من عبادتها ذاهبين منطلقين. قال المفسرون. كان لهم عيد في كل سنة يجتمعون فيه، فقالوا لإبراهيم لو خرجت معنا إلى عيدنا أعجبك ديننا، فقال إبراهيم هذه المقالة.
قاله ابن عباس وعنه قال: فتاتاً. الْجَذّ القطع والكسر، يقال جذذت الشيء قطعته وكسرته، الواحد جذاذة، والجذاذ ما تكسر منه.
قال الجوهري. قال الكسائي ويقال لحجارة الذهب الجذاذ لأنها تكسر، وقرئ جذاذاً بكسر الجيم، أي كِسَراً وَقِطَعاً، جمع جذيذ وهو الهشيم، مثل خفيف وخفاف وظريف وظراف، وقرئ بالضم كالحطام، والرِّقاق فعال بمعنى مفعول وقرئ بفتحها. قال قطرب: هي في لغاتها كلها مصدر فلا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث، والقراءتان الأوليان سبعيتان، وهذا هو الكيد الذي وعدهم به. (إلا كبيراً لهم) أي عظيم آلهتهم. قاله ابن عباس، يعني تركه ولم يكسره، والضمير للآلهة أو عائد على عابديها ووضع الفأس في عنقه ثم خرج.
(لعلهم إليه) أي إلى إبراهيم (يرجعون) فيحاجهم بما سيأتي فيحجهم. وقال الرازي: أما إذا قلنا إن الضمير راجع إلى الكبير، فالمعنى لعلهم يرجعون إليه كما يرجع إلى العالم في حل المشكلات فيقولون له ما لهؤلاء مكسورة ومالك صحيحاً؟ وما لهذا الفأس في عنقك؟ وقال ذلك بناء
وقيل المعنى لعلهم إلى الصنم الكبير يرجعون فيسألونه عن الكاسر، لأن من شأن المعبود أن يرجع إليه في المهمات، فإذا رجعوا إليه لم يجدوا عنده خبراً، فيعلمون حينئذ أنها لا تجلب نفعاً ولا تدفع ضرراً، ولا تعلم بخير ولا شر، ولا تخبر عن الذي ينوبها من الأمر. وقيل لعلهم إلى الله يرجعون، وهو بعيد جداً
عن ابن مسعود قال: لما خرج قوم إبراهيم إلى عيدهم مروا عليه فقالوا يا إبراهيم ألا تخرج معنا؟ قال إني سقيم، وقد كان بالأمس قال: (تالله لأكيدن أصنامكم) الآية، فسمعه ناس منهم فلما خرجوا انطلق إلى أهله فأخذ طعاماً، ثم انطلق إلى آلهتهم فقربه إليهم فقال ألا تأكلون؟ فكسرها إلا كبيرهم؛ ثم ربط في يده الذي كسر به آلهتهم، فلما رجع القوم من عيدهم دخلوا، فإذا هم بآلهتهم قد كسرت، وإذا كبيرهم في يده الذي كسر به الأصنام، قالوا من فعل هذا بآلهتنا؟.
(يقال له إبراهيم) قال الزجاج: أي هو إبراهيم، فهو خبر مبتدأ
ومن غرائب التدقيقات النحوية وعجائب التوجيهات الإعرابية أن الأعلم الشنتمري الأشبيلي قال: أنه مرتفع على الإهمال قال ابن عطية: ذهب إلى رفعه بغير شيء.
(لعلهم يشهدون) أي يحضرون عقابه حتى ينزجر غيره عن الاقتداء به في مثل هذا. وقيل: لعلهم يشهدون عليه بأنهم رأوه يكسر أصنامهم، أو لعلهم يشهدون طعنه على أصنامهم.
وقال الشهاب: هذا على طريقة الكناية الفرضية، فهذا يستلزم نفي فعل الصنم الكبير للكسر وإثباته لنفسه، وحاصله أنه إشارة لنفسه على الوجه الأبلغ مضمناً فيه الاستهزاء والتضليل. انتهى.
وقيل: أراد إبراهيم عليه السلام بنسبة الفعل إلى ذلك الكبير من الأصنام أنه فعل ذلك لأنه غار وغضب من أن يعبد وتعبد الصغار معه، إرشاداً لهم إلى أن عبادة هذه الأصنام التي لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تدفع، لا تستحسن في العقل مع وجود خالقها وخالقهم والأول أولى، وقرئ بل فعله بتشديد اللام، على معنى بل فَلَعَلَّ الفاعل كبيرهم.
(فاسألوهم) عن فاعله (إن كانوا ينطقون) أي إن كانوا ممن يمكنه النطق ويقدر على الكلام ويفهم ما يقال له فيجيب عنه بما يطابقه، وفيه تقديم جواب الشرط، أراد عليه السلام أن يبين لهم أن من لا يتكلم ولا يعلم ليس بمستحق للعبادة ولا يصح في العقل أن يطلق عليه أنه إله، فأخرج الكلام مخرج التعريض لهم بما يوقعهم في الاعتراف بأن الجمادات التي عبدوها ليست بآلهة، لأنهم إذا قالوا إنهم لا ينطقون، قال لهم فكيف تعبدون من يعجز عن النطق ويقصر عن أن يعلم بما يقع عنده في المكان الذي هو فيه؛ فهذا الكلام من باب فرض الباطل مع الخصم حتى تلزمه الحجة ويعترف بالحق، فإن ذلك أقطع لشبهته وأدفع لمكابرته. وإنما قال: ينطقون ولم يقل يسمعون أو يعقلون، مع أن السؤال موقوف على السمع والعقل أيضاً، لما أن نتيجة
_________
(١) الترمذي تفسير ٢١/ ٣ - مسلم ٢٣٧١ - البخاري ١١١٣.
(إنكم أنتم الظالمون) لأنفسكم بعبادة هذه الجمادات، وليس الظالم من نسبتم إليه الظلم بقولكم أنه لمن الظالمين
ثم قالوا بعد أن نكسوا مخاطبين لإبراهيم (لقد علمت ما هؤلاء ينطقون) أي لقد علمت أن النطق ليس من شأن هذه الأصنام فكيف تأمرنا بسؤالهم؟ وما هذه حجازية أو تميمية.
(حرّقوه) انصرافاً منهم إلى طريق الظلم والغشم وميلاً منهم إلى إظهار الغلبة بأي وجه كان وعلى أي أمر اتفق؛ وهكذا ديدن المبطل المحجوج إذا قرعت شبهته بالحجة القاطعة، وافتضح لا يبقى له مفزع إلا المناصبة.
(إن كنتم فاعلين) للنصر، فجمعوا له الحطب الكثير وأضرموا النار في جميعه وأوثقوا إبراهيم وجعلوه في منجنيق ورموه في النار. قاله المحلي، وكانت مدة الجمع شهراً ومدة الإيقاد سبعة أيام ومدة مكث إبراهيم في النار سبعة أيام. وفي الرازي أربعين يوماً أو خمسين، ومثله في أبي السعود، وكان وقت إلقائه فيها ابن ست عشرة سنة. وقيل ست وعشرين قاله الماوردي.
(قلنا في الكلام حذف تقديره: فأضرموا النار وذهبوا بإبراهيم إليها فعند ذلك
قيل وانتصاب (سلاماً) على أنه مصدر أي وسلمنا سلاماً.
(على إبراهيم) ولو لم يقل (على إبراهيم) لما أحرقت نار ولا اتقدت، قاله أبو حيان في البحر، عن ابن عباس قال: لما جمع لإبراهيم ما جمع، وألقي في النار جعل خازن المطر يقول: متى أومر بالمطر؟ فأرسله فكان أمر الله أسرع، قال الله: (كوني برداً وسلاماً) فلم تبق في الأرض نار إلا طفئت.
وأخرج أحمد وابن ماجه وابن حبان وأبو يعلى وابن أبي حاتم والطبراني، عن عائشة أن رسول الله ﷺ قال: " إن إبراهيم حين ألقي في النار لم تكن دابة إلا تطفئ عنه النار غير الوزغ، فإنه كان ينفخ على إبراهيم، فأمر رسول الله ﷺ بقتله وهو سام أبرص " (١)،
_________
(١) الإمام أحمد ٦/ ٢٨٠ - البخاري كتاب الأنبياء باب ٨.
وعن معتمر بن سليمان التيمي قال: جاء جبريل إلى إبراهيم وهو يوثق ليلقى في النار، فقال: يا إبراهيم ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا، وعن كعب قال: ما أحرقت النار من إبراهيم إلا وثاقه وذهبت حرارتها وبقيت إضاءتها.
وعن المنهال بن عمرو قال: أخبرت أن إبراهيم ألقي في النار، فكان فيها إما خمسين وإما أربعين، فقال: ما كنت أياماً وليالي قط أطيب عيشاً إذ كنت فيها ووددت أن عيشي وحياتي كلها مثل عيشي إذ كنت فيها.
قال المفسرون. والأرض هي أرض الشام؛ قاله أبيٌ وكانا بالعراق وسماها سبحانه مباركة لكثرة خصبها وأشجارها وثمارها وأنهارها ولأنها معادن الأنبياء وأصل البركة ثبوت الخير، ومنه برك البعير إذا لزم مكانه فلم يبرح وقيل: الأرض المباركة مكة، وقيل: بيت المقدس لأن منها بعث الله أكثر الأنبياء: وهي أيضاً كثيرة الخصب، والأول أولى لأن إبراهيم خرج من كوثى من أرض العراق؛ ومعه لوط، وسارة، فخرج يلتمس الفرار بدينه والأمان على عبادة ربه حتى نزل حران فمكث بها ما شاء الله، ثم خرج من حران حتى قدم مصر، ثم ورجع إلى الشام، فنزل السبع من أرض فلسطين وترك لوطاً بالمؤتفكة وهي على مسيرة يوم وليلة من السبع، فبعثه الله نبياً إلى أهلها وما قرب منها، ذكره الخازن.
وقد تقدم تفسير للعالمين ثم قال سبحانه ممتناً على إبراهيم
وقيل المراد بالنافلة هنا العطية، قاله الزجاج ومجاهد، وقيل النافلة هنا ولد الولد لأنه زيادة على الولد، وقال ابن عباس: نافلة ابن الابن، وعن قتادة والحكم نحوه، وقال الفراء: النافلة يعقوب خاصة لأنه ولد الولد.
(وكًلاًّ جعلنا صالحين) أي كل واحد من هؤلاء الأربعة إبراهيم ولوط وإسحاق ويعقوب لا بعضهم دون بعض جعلناه صالحاً عاملاً بطاعة الله تاركاً لمعاصيه، وقيل المراد بالصلاح هنا النبوة.
(يهدون) الناس (بأمرنا) أي بما أنزلنا عليهم من الوحي (وأوحينا إليهم فعل الخيرات) أي أن يفعلوا الطاعة، وقيل شرائع النبوات (وإقام الصلاة) الأصل الإقامة إلا أن المضاف إليه جعل بدلاً من الهاء، والمعنى المحافظة عليها.
(وإيتاء الزكاة) الواجبة، وخصهما بالذكر لأن الصلاة أفضل العبادات البدنية وشرعت لذكر الله، والزكاة أفضل العبادات المالية، ومجموعهما التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله (وكانوا لنا) خاصة دون غيرنا من الأصنام قاله العمادي (عابدين) أي مطيعين فاعلين ما نأمرهم به تاركين، لما ننهاهم عنه، وقيل موحدين.
ثم علل سبحانه ذلك بقوله: (إنهم كانوا قوم سوء فاسقين) أي خارجين عن طاعة الله
والمعنى دعا على قومه بقوله رب: لا تذر إلخ، دعاء تفصيلياً ودعا دعاء آخر إجمالياً، بقوله: إني مغلوب فانتصر، وإما نبينا محمد ﷺ فدعا لقومه بالهداية بقوله: رب اهد قومي فإنهم لا يفهمون كما فهمنا ولذلك ورد أن أمة محمد ﷺ ثلثا أهل الجنة ولهم ثلاثة أرباع الجنة، بل تسعة أعشارها وبقية الأمم لهم العشر، ذكره السنوسي في شرح الصغرى.
(فاستجبنا له) دعاءه (فنجيناه وأهله) أي المؤمنين منهم (من الكرب العظيم) أي من الغرق بالطوفان وتكذيب قومه له، والكرب الغم الشديد
(إذ نفشت) قال ابن السكيت: النفش بالتحريك أن تنشر الغنم بالليل من غير راع أي تفرقت وانتشرت، ورعت بأن انفلتت (فيه غنم القوم) أي غنم بعض القوم من أمة داوود (وكنا لحكمهم) أي لحكم الحاكمين، وفيه جواز إطلاق الجمع على الاثنين، وهو مذهب طائفة من أهل العربية كالزمخشري والرضي وتقدمهما إلى القول به الفراء، وإنما وقع الجمع موقع التثنية مجازاً أو لأن التثنية جمع وأقل الجمع اثنان وتدل عليه قراءة لحكمهما.
وقيل المراد الحاكمان والمحكوم عليه فهؤلاء جماعة وفيه الجمع بين الحقيقة والمجاز، فإن الحقيقة إضافة المصدر لفاعله، والمجاز إضافته لمفعوله، ومعنى (شاهدين) حاضرين، والجملة اعتراضية.
وقد روى البيهقي في سننه عن ابن مسعود، ولفظه قال: كرم قد أنبتت عناقيده فأفسدته الغنم فقضى داود بالغنم لصاحب الكرم؛ فقال سليمان: غير هذا يا نبي الله، قال: وما ذاك؟ قال: يدفع الكرم إلى صاحب الغنم، فيقوم عليه حتى يعود كما كان، وتدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصيب منها حتى إذا عاد الكرم كما كان، دفعت الكرم إلى صاحبه والغنم إلى صاحبها فذلك قوله.
وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ " بينما امرأتان معهما ابنان جاء الذئب فأخذ أحد الابنين فتحاكما إلى داود فقضى به للكبرى فخرجتا فدعاهما سليمان فقال: هاتوا السكين أشقه بينهما فقالت الصغرى: رحمك الله هو ابنها لا تشقه فقضى به للصغرى " (١) وهذا الحديث وإن لم يكن داخلاً فيما حكته الآية لكنه من جملة ما وقع لهما.
قال المفسرون: دخل رجلان على داود وعنده ابنه سليمان، أحدهما صاحب حرث، والآخر صاحب غنم، فقال صاحب الحرث: إن هذا انفلتت غنمه ليلاً فوقعت في حرثي، فلم تبق منه شيئاً، فقال: لك رقاب الغنم فقال سليمان: أو غير ذلك ينطلق أصحاب الكرم بالغنم فيصيبوا من ألبانها ومنافعها، ويقوم أصحاب الغنم على الكرم حتى إذا كان كليلة نفشت
_________
(١) مسلم ١٧٢٠ - البخاري ١٦١١.
قال النحاس: إنما قضى داود بالغنم لصاحب الحرث، لأن ثمنها كان قريباً منه، وأما في حكم سليمان فقد قيل كانت قيمة ما نال من الغنم وقيمة ما أفسدت الغنم سواء، قال جماعة من العلماء: إن داود حكم بوحي، وحكم سليمان بوحي نسخ الله به حكم داود، فيكون التفهيم على هذا بطريق الوحي، وقال الجمهور: إن حكمهما كان باجتهاد وكلام أهل العلم في حكم اجتهاد الأنبياء معروف وهكذا ما ذكروه في اختلاف المجتهدين، وهل كل مجتهد مصيب؟ أو الحق مع واحد؟.
وقد استدل المستدلون بهذه الآية على أن كل مجتهد مصيب ولا شك أنها تدل على رفع الإثم عن المخطئ، وأما كون كل واحد منهما مصيباً فلا تدل عليه هذه الآية ولا غيرها بل صرح الحديث المتفق عليه في الصحيحين وغيرهما " أن الحاكم إذا اجتهد فأصاب فله أجران وإن اجتهد فأخطأ فله أجر " (١) فسماه النبي ﷺ فكيف يقال أنه مصيب لحكم الله موافق له فإن حكم الله سبحانه واحد لا يختلف باختلاف المجتهدين، وإلا لزم توقف حكمه عز وجل على اجتهادات المجتهدين واللازم باطل فالملزوم مثله.
وأيضاً يستلزم أن تكون العين التي اختلف فيها اجتهاد المجتهدين بالحل والحرمة حلالاً وحراماً في حكم الله سبحانه، وهذا اللازم باطل بالإجماع فالملزوم مثله؛ وأيضاً يلزم أن حكم الله سبحانه لا يزال يتجدد عند وجود كل مجتهد، له اجتهاده في تلك الحادثة، ولا ينقطع ما يريده الله سبحانه فيها إلا بانقطاع المجتهدين، واللازم باطل فالملزوم مثله.
_________
(١) مسلم ١٧١٦ - البخاري ٢٥٩٣.
قال الحسن: لولا هذه الآية لرأيت الحكام قد هلكوا، ولكن الله حمد هذا بصوابه وأثنى على هذا باجتهاده. وقال مجاهد: كان هذا صلحاً وما فعله داود كان حكماً والصلح خير، فإن قلت فما حكم هذه الحادثة التي حكم فيها داوود وسليمان في هذه الشريعة المحمدية والملة الإسلامية؟.
قلت قد ثبت عن النبي ﷺ من حديث البراء أنه شرع لأمته أن على أهل الماشية حفظها بالليل، وعلى أصحاب الحوائط حفظها بالنهار، وأن ما أفسدت المواشي بالليل مضمون على أهلها (١)، وهذا الضمان هو مقدار الذاهب عنها أو قيمته وقد ذهب جمهور العلماء إلى العمل بما تضمنه هذا الحديث. وذهب أبو حنيفة وأصحابه وجماعة من الكوفيين إلى أن هذا الحكم منسوخ وأن البهائم إذا أفسدت زرعاً في ليل أو نهار لا يلزم صاحبها شيء، وأدخلوا فسادها في عموم قول النبي: " جرح العجماء جبار " (٢)؛ قياساً لجميع أفعالها على جرحها.
ويجاب عنه بأن هذا القياس فاسد الاعتبار لأنه في مقابلة النص. ومن أهل العلم من ذهب إلى أنه يضمن رب الماشية ما أفسدته من غير فرق بين الليل والنهار ويجاب عنه بحديث البراء، وقد بسط الشوكاني رحمه الله الكلام
_________
(١) الموطأ كتاب الأقضية ٣٦ - الإمام أحمد ٥/ ٤٣٦.
(٢) مسلم ١٧١٠ - البخاري ٨٠٢ بلفظ: " العجماء وجرحها جبار ".
(وكلا آتينا حكماً وعلماً) فإن الله سبحانه أخبرنا بأنه أعطى كل واحد منهما هذين الأمرين وهما إن كانا خاصين فصدقهما على هذه القضية التي حكاها الله سبحانه عنهما مقدم على صدقهما على غيرهما، وإن كانا عامين فهذا الفرد من الحكم والعلم، وهو ما وقع من كل واحد منهما في هذه القضية أحق أفراد ذلك العام بدخوله تحته ودلالته عليه.
ومما يستفاد من ذلك دفع ما عسى يوهمه تخصيص سليمان بالتفهيم من عدم كون حكم داوود حكماً شرعياً، أي وكل واحد منهما أعطيناه حكماً وعلماً كثيراً، لا سليمان وحده، ولما مدح داوود وسليمان على سبيل الاشتراك ذكر ما. يختص بكل واحد منهما فبدأ بداود فقال:
(وسخرنا) التسخير التكليف للعمل بلا أجرة، وسخره تسخيراً كلفه عملاً بلا أجرة، والمراد هنا التذليل أي ذللنا (مع داود الجبال يسبحن) التسبيح إما حقيقة أو مجاز، وقد قال بالأول جماعة وهو الظاهر، وذلك أن داوود كان إذا سبح سبحت الجبال معه.
وقيل إنها كانت تصلي معه إذا صلى. قاله قتادة، وهو معنى التسبيح. وقال بالمجاز جماعة آخرون، وحملوا التسبيح على تسبيح من رآها تعجباً من عظيم خلقها وقدرة خالقها.
وقيل كانت الجبال تسير مع داوود حيث سار، وكان من رآها سائرة معه سبح، والظاهر وقوع التسبيح منها بالنطق، خلق الله فيها الكلام كما سبح الحصى في كف رسول الله ﷺ وسمع الناس ذلك، وكان داوود هو الذي يسمع وحده. قاله أبو حيان.
وقال ابن الأنباري: الطير جماعة وتأنيثها أكثر من التذكير، ولا يقال للواحد طير بل طائر، وقلما يقال للأنثى طائرة.
(فهل أنتم) يا أهل مكة (شاكرون) لهذه النعمة التي أنعمنا بها عليكم، والاستفهام في معنى الأمر، ثم ذكر سبحانه ما خص به سليمان فقال:
(عاصفة) أي شديدة الهبوب وخفيفته، يقال عصفت الريح أي اشتدت فهي ريح عاصف وعصوف (تجري بأمره) أي إن أراد أن تشتد اشتدت، وإن أراد أن تلين لانت، فهي جامعة للوصفين في وقت واحد، وهذه آية أخرى غير التسخير.
(إلى الأرض التي باركنا فيها) أي تجري منتهية إليها في رواحه من سفره، أي رجوعه منه وهي أرض الشام. عن ابن عباس قال: كان سليمان يوضع له ستمائة ألف كرسي، ثم يجيء أشراف الإنس فيجلسون مما يليه، ثم يجيء أشراف الجن فيجلسون مما يلي أشراف الإنس، ثم يدعو الطير فتظلهم، ثم يدعو الريح فتحملهم تسير مسيرة شهر في الغداة الواحدة.
(وكنا بكل شيء) وتدبيره (عالمين و) سخرنا له
(ويعملون عملاً دون ذلك قال الفراء: أي سوى ذلك، ودون بمعنى غير وسوى لا بمعنى أقل وأدون، أي سوى الغوص كالبناء والنورة والطاحون والقوارير والصابون، لأن ذلك من استخراجهم، وقيل يراد بذلك المحاريب والتماثيل، وغير ذلك مما يسخرهم فيه.
(وكنا لهم) أي لأعمالهم (حافظين) وقال الفراء أي من أن يهربوا ويمتنعوا أو حفظناهم من أن يخرجوا عن أمره قال الزجاج: كان يحفظهم من أن يفسدون ما عملوا، وإن دأبهم أن يفسدوا بالليل ما عملوا بالنهار.
جسده وهجر جميع الناس له إلا زوجته، وضيق عيشه (أني) أي بأني
(مسني الضر) اختلف في الضر الذي كان نزل به ماذا هو، فقيل إنه قام
ليصلي فلم يقدر على النهوض. وقيل إنه أقر بالعجز فلا يكون ذلك منافياً للصبر. وقيل انقطع الوحي عنه أربعين يوماً.
وقيل: إن دودة سقطت من لحمه فأخذها وردها في موضعها فأكلت منه فصاح مسني الضر. وقيل: كانت الدود تناول بدنه فيصبر حتى تناولت دودة قلبه. وقيل: إنه ضره قول إبليس لزوجته اسجدي لي، فخاف ذهاب إيمانها، وقيل: إنها تقذره قومه؛ وقيل: أراد بالضر الشماتة، وقيل غير ذلك.
وأخرج ابن عساكر والديلمي وابن النجار عن عقبة بن عامر قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قال الله لأيوب: تدري ما جرمك عليّ حتى ابتليتك؟ قال لا يا رب، قال لأنك دخلت على فرعون فداهنت عنده في كلمتين ". وعن ابن عباس قال: إنما كان ذنب أيوب أنه استعان به مسكين على ظالم يدرؤه فلم يعنه ولم يأمر بالمعروف ولم ينه الظالم عن ظلم المسكين فابتلاه الله، وفي إسناده جُوَيبر، ولما نادى ربه متضرعاً إليه وصفه بغاية الرحمة فقال:
(وأنت أرحم الراحمين) وألطف في السؤال ولم يصرح بالمطلوب فكأنه
عن عبد الله بن عبد بن عمير قال: كان لأيوب أخوان جاءا يوماً فلم يستطيعا أن يدنوا منه من ريحه فقام من بعيد، فقال أحدهما للآخر: لو كان علم الله من أيوب خيراً ما ابتلاه بهذا، فجزع أيوب من قولهما جزعاً لم يجزع من شيء قط مثله، فقال: اللهم إن كنت تعلم أني لم أبت ليلة قط شبعاناً وأنا أعلم مكان جائع فصدقني، فصدق من السماء وهما يسمعان.
ثم قال: اللهم إن كنت تعلم أني لم ألبس قميصاً قط وأنا أعلم مكان عار فصدقني فصدق من السماء وهما يسمعان، ثم خر ساجداً وقال: اللهم بعزتك لا أرفع رأسي حتى تكشف عني، فما رفع رأسه حتى كشف الله عنه، وقد رواه ابن أبي حاتم مرفوعاً بنحو هذا.
(وآتيناه أهله ومثلهم معهم) قيل تركهم الله عز وجل وأعطاه مثلهم في الدنيا. قال النحاس: والإسناد بذلك صحيح، وقد كان مات أهله جميعاً إلا امرأته فأحياهم الله في أقل من طرف البصر وآتاه مثلهم معهم، وهو ظاهر القرآن، وبه قال أكثر المفسرين، وكان له سبعة بنين وسبع بنات. وقيل كان ذلك بأن ولد له ضعف الذين أماتهم الله؛ فيكون معنى الآية على هذا آتيناه مثل أهله ومثلهم معهم. وعن مجاهد قال: قيل له يا أيوب إن
وأخرج ابن أبي الدنيا وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم والروياني وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه عن أنس أن رسول الله ﷺ قال: " إن أيوب لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنة فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه، كانا من أخص إخوانه، كانا يغدوان إليه ويروحان، فقال أحدهما لصاحبه ذات يوم: تعلم والله لقد أذنب أيوب ذنباً ما أذنبه أحد، قال وما ذاك؟ قال منذ ثماني عشرة سنة ولم يرحمه الله فيكشف عنه ما به.
فلما راحا إلى أيوب لم يصبر الرجل حتى ذكر له ذلك، فقال أيوب لا أدري ما نقول غير أن الله يعلم أني أمر بالرجلين يتنازعان يذكران الله فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما كراهة أن يذكر الله إلا في حق " (١) وكان يخرج لحاجته فإذا قضى حاجته أمسكت امرأته بيديه حتى يبلغ، فلما كان ذات يوم أبطأ عليها فأوحى الله إلى أيوب في مكانه أن اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب، فاستبطأته فتلقته وأقبل عليها قد أذهب الله ما به من البلاء وهو أحسن ما كان، فلما رأته قالت: أي بارك الله فيك، رأيت نبي الله المبتلى؛ والله على ْذلك ما رأيت رجلاً أشبه به منك إذ كان صحيحاً، قال فإني أنا هو.
قال وكان له اندران، أندر للقمح واندر للشعير، فبعث الله سحابتين، فلما كانت إحداهما على اندر القمح أفرغت فيه الذهب حتى فاض وأفرغت الأخرى في اندر الشعير الورق حتى فاض.
_________
(١) المستدرك كتاب التاريخ ٢/ ٥٨١.
قال الكرخي: وهذا القول هو الصحيح، وعاش أيوب ثلاثاً وستين سنة وكان أيوب رجلاً من الروم، ينتسب للعيص بن إسحاق، وكانت أمه من ولد لوط بن هاران.
(وذا الكفل) هو إلياس، وقيل يوشع بن نون، وقيل زكريا، والصحيح أنه رجل من بني إسرائيل كان لا يتورع عن شيء من المعاصي فتاب فغفر الله له وقيل إن اليسع لما كبر قال: من يتكفل لي بكذا وكذا من خصال الخير حتى استخلفه فقال رجل: أنا فاستخلفه، وسمي ذا الكفل، وقيل كان رجلاً يتكفل بشأن كل إنسان إذا وقع في شيء من المهمات.
وقيل هو ولد أيوب واسمه بشر بعثه الله بعد أبيه، وسماه ذا الكفل وأمره بالتوحيد، وكان مقيماً بالشام حتى مات وعمره خمس وسبعون سنة، وعن مجاهد قال: رجل صالح غير نبي تكفل لنبي قومه أن يكفيه أمر قومه ويقيمهم له ويقضي بينهم بالعدل ففعل ذلك فسمي ذا الكفل.
وعن أبي موسى الأشعري قال: ما كان ذو الكفل نبياً ولكن كان في بني إسرائيل رجل صالح يصلي كل يوم مائة صلاة، فتوفي فتكفل له ذو الكفل من بعده، فكان يصلي كل يوم مائة صلاة، فسمي ذا الكفل.
وأخرج أحمد والترمذي وحسنه وابن حبان والطبراني والبيهقي في شعب الإيمان وغيرهم عن ابن عمر عن رسول الله ﷺ قال: " كان ذو الكفل من بني إسرائيل لا يتورع عن ذنب عمله، فأتته امرأة فأعطاها ستين ديناراً على أن يطأها، فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته ارتعدت وبكت فقال ما يبكيك أكرهتك؟ قالت: لا، ولكنه عمل ما عملته قط، وما حملني عليه إلا الحاجة فقال: تفعلين أنت هذا وما فعلته اذهبي فهي لك، وقال والله لا أعصي الله بعدها أبداً فمات من ليلته فأصبح مكتوب على بابه " إن الله قد غفر لذي الكفل " (١).
وقد ذهب الجمهور إلى أنه ليس بنبي، وبه قال أبو موسى الأشعري ومجاهد وغيرهما، وقال جماعة: هو نبي ولعله هو الصحيح، وبه قال الحسن لأن الله قرن ذكره بإسماعيل وإدريس؛ ولأن السورة ملقبة بسورة الأنبياء؛ ثم وصف الله سبحانه هؤلاء بالصبر فقال:
(كل من الصابرين) على القيام بما كلفهم الله به
_________
(١) الترمذي، كتاب القيامة باب ٤٨ - الإمام أحمد ٢/ ٢٣.
وقال الشهاب: ومتى اسم أبيه على الصحيح، وسمي ذا النون لابتلاع الحوت له، فإن النون اسم للحوت وجمعه أنوان ونينان، والحوت السمكة، وجمعه حيتان، وقيل سمي به لأنه رأى صبياً مليحاً، فقال: دسموا نونته لئلا تصيبه العين وعن ابن الأعرابي أن نونة الصبي هي الثقبة التي تكون في ذقن الصبي الصغير ومعنى دسموا سودوا.
(إذ ذهب مغاضباً) أي اذكره وقت ذهابه مغاضباً أي مراغماً لقومه لا لربه، وقال الحسن والشعبي وسعيد بن جبير: مغاضباً لربه، واختاره ابن جرير والقتيبي، وحكى عن ابن مسعود، قال النحاس: وربما أنكر هذا من لا يعرف اللغة، وهو قول صحيح، والمعنى مغاضباً لأجل ربه، كما تقول: غضبت لك أي من أجلك، وقال الضحاك، مغاضباً لقومه، وحكى عن ابن عباس.
وقالت فرقة منهم الأخفش إنما خرج مغاضباً للملك الذي كان في وقته واسمه حزقيا، وقيل لم يغاضب ربه ولا قومه ولا الملك، ولكنه مأخوذ من
(فظن أن لن نقدر عليه) بفتح النون وكسر الدال؛ واختلف في معنى الآية على هذه القراءة، فقيل: معناها أنه وقع في ظنه أن الله تعالى لا يقدر على معاقبته، وقد حكى هذا القول عن الحسن وسعيد بن جبير، وهو قول مردود؛ فإن هذا الظن بالله كفر؛ ومثل ذلك لا يقع من الأنبياء عليهم السلام.
وذهب جمهور العلماء إلى أن معناها فظن أن لن نضيق عليه كقوله: (يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) أي يضيق، ومنه قوله: (ومن قدر عليه رزقه)، يقال يقدر وقدر وقتر وقتر أي ضيق، وقيل هو من القدر الذي هو القضاء والحكم دون القدرة والاستطاعة أي فظن أن لن نقضي عليه العقوبة، قاله قتادة ومجاهد، واختاره الفراء والزجاج.
قال ثعلب: هو من القدير ليس من القدرة يقال منه قدر الله لك الخير يقدره قدراً؛ ويؤيده قراءة عمر بن عبد العزيز والزهري، نقَدَّر بضم النون وتشديد الدال من التقدير، وحكى هذا عن ابن عباس، ويؤيده قراءة قتادة والأعرج يُقَدّرَ مبنياً للمفعول من التقدير، وقرئ يُقَدّرَ مخففاً مبنياً للمفعول.
وقد اختلف العلماء في تأويل الحديث الصحيح في قول الرجل الذي لم يعمل خيراً قط لأهله أن يحرقوه إذا مات؛ ثم قال فوالله لئن قدر الله عليّ، الحديث (١) كما اختلفوا في تأويل هذه الآية والكلام في هذا يطول، وقد ذكرنا هاهنا ما لا يحتاج معه الناظر إلى غيره.
_________
(١) مسلم ٢٧٥٦ - البخاري ١٦٣٥.
وكان نداؤه هو قوله: (أن) أي بأن (لا إله إلا أنت سبحانك) يعني تنزيهاً من أن يعجزك شيء (إني كنت من الظالمين) الذين يظلمون أنفسهم، وأول هذا الدعاء تهليل وأوسطه تسبيح وآخره إقرار بالذنب.
وقال الحسن وقتادة: هذا القول من يونس اعتراف بذنبه وتوبة من خطيئته قال ذلك وهو في بطن الحوت، قيل مكث فيه أربعين يوماً وليلة، وقيل سبعة وقيل ثلاثة كما في الخازن، وفي البيضاوي أربع ساعات.
ثم أخبر الله سبحانه بأنه استجاب له فقال:
وخطأها أبو حاتم والزجاج، وقالا: هي لحن لأنه نصب اسم ما لم يسم فاعله، وإنما يقال نجى المؤمنون، وقيل أدغم النون في الجيم وبه قال القتبي وأبو عبيدة واعترضه النحاس، فقال: هذا لا يجوز عند أحد من النحويين لبعد مخرج المدغم والمدغم فيه.
وأخرج أحمد والترمذي والنسائي والحاكم وصححه والبيهقي، عن سعد ابن أبي وقاص قال: سمعت رسول الله (- ﷺ -) قال: " دعوة ذي النون إذ هو في بطن الحوت لا إله إلا أنت -الخ- لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط إلا استجاب له " (١).
وأخرج ابن جرير عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: " اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطي دعوة يونس بن متى، قلت: يا رسول الله هل ليونس خاصة؟ أم لجماعة المسلمين قال: هي ليونس خاصة وللمؤمنين عامة إذا دعوا به، ألم تسمع قول الله (وكذلك ننجي المؤمنين) فهو شرط من الله لمن دعاه ".
وأخرج الحاكم من حديثه أيضاً نحوه، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى " (٢) وروي أيضاً في الصحيح وغيره من حديث ابن مسعود، وروي أيضاً في الصحيحين من حديث أبي هريرة.
_________
(١) المستدرك كتاب الدعاء ١/ ٥٠٥.
(٢) مسلم ٢٣٧٦ - البخاري ١٦٠٨.
وأنه سيقوم بذلك من عبادك من تختاره له وترتضيه للتبليغ.
قال ابن عباس: كان في لسان امرأة زكريا طول فأصلحه الله، وروي نحو ذلك عن جماعة من التابعين، وقال أيضاً: وهبنا له ولدها، وعن قتادة قال: كانت عاقراً فجعلها الله ولوداً ووهب له منها يحيى.
(إنهم كانوا يسارعون في الخيرات) هذه الجملة تعليل لما قبلها من إحسانه سبحانه إلى أنبيائه عليهم السلام، والمعنى يبادرون في وجوه الخيرات مع ثباتهم واستقرارهم في أصل الخير وهو السر في إيثار كلمة في على كلمة إلى المشعرة بخلاف المقصود من كونهم خارجين عن أصل الخيرات متوجيهن إليها كما في قوله تعالى: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) وقيل الضمير راجع إلى زكريا وامرأته ويحيى (ويدعوننا رغباً ورهباً) أي يتضرعون إلينا في حال الرخاء وحال الشدة. وقيل الرغبة رفع بطون الأكف إلى السماء والرهبة رفع ظهورها، والتقدير يرغبون رغباً ويرهبون رهباً، أو للرغب والرهب، أو راغبين وراهبين (وكانوا لنا خاشعين) أي متواضعين متضرعين. قال قتادة: أذلاء، وقال ابن جريج: رغباً في رحمة الله ورهباً من عذاب الله.
وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال: سئل رسول الله ﷺ عن قول الله رغباً ورهباً، فقال: رغباً هكذا ورهباً هكذا، وبسط كفيه يعني جعل ظهرهما للأرض في الرغبة وعكسه في الرهبة ".
وقيل المراد بالفرج جيب القميص، أي أنها طاهرة الأثواب، وقد مضى بيان مثل هذا في سورة النساء ومريم.
(فنفخنا فيها من روحنا) أضاف سبحانه الروح إليه وهو للملك تشريفاً وتعظيماً، وهو يريد روح عيسى. وقيل المراد بالروح جبريل؛ أي أمرناه فنفخ في جيب درعها فحملت بعيسى.
(وجعلناها وابنها آية للعالمين) قال الزجاج: الآية فيهما واحدة لأنها ولدته من غير فحل. وقيل أن التقدير على مذهب سيبويه وجدلناها آية وجعلنا ابنها آية، كقوله تعالى: (والله ورسوله أحق أن يرضوه) والمعنى أن الله سبحانه جعل قصتهما آية تامة مع تكاثر آيات كل واحد منهما، وقيل أراد
(وأنا ربكم فاعبدون) خاصة لا تعبدوا غيري كائناً ما كان.
(كل إلينا راجعون) أي كل واحد من هذه الفرق الثابت على دينه الحق، والزائغ عنه إلى غيره راجع إلينا بالبعث لا إلى غيرنا
والمراد نفي الجنس للمبالغة لأن نفي الماهية يستلزم نفي جميع أفرادها،
قال النحاس: والآية مشكلة. ومن أحسن ما قيل فيها وأجله ما روي عن ابن عباس في معنى الآية قال: واجب أنهم لا يتوبون. قال الزجاج وأبو علي الفارسي: إن في الكلام إضماراً، أي وحرام على قرية حكمنا باستئصالها أو بالختم على قلوب أهلها أن يتقبل منهم عمل لأنهم لا يرجعون أي لا يتوبون.
(وهم) أي يأجوج ومأجوج أو العالم بأسره والأول أظهر (من كل حدب) أي نشز، وهو كل أكمة وكدية من الأرض مرتفعة، والجمع أحداب
(فإذا هي) يعني القيامة، بارزة واقعة كأنها آية حاضرة (شاخصة أبصار الذين كفروا) يعني أن القيامة إذا قامت شخصت أبصار الكفار من شدة الأهوال ولا تكاد تطرف من هول ذلك اليوم وهول ما هم فيه. ومعنى شاخصة مرتفة الأجفان، وإنما هو في القيامة بعد النفخة الثانية، فالتعقيب عرفي أريد به المبالغة هنا.
(يا ويلنا) على تقدير القول (قد كنا في غفلة) في الدنيا (من هذا) أي من هذا الذي دهمنا من البعث والحساب (بل كنا ظالمين) أضربوا عن وصف أنفسهم بالغفلة، أي لم نكن غافلين، بل كنا ظالمين لأنفسنا بالتكذيب وعدم الانقياد للرسل، ثم بين سبحانه حال معبوديهم يوم القيامة فقال:
(أنتم لها واردون) الخطاب لهم ولما يعبدون تغليباً، واللام في لها للتقوية لضعف عمل اسم الفاعل. وقيل هي بمعنى على، والمراد بالورود هنا الدخول. قال كثير من أهل العلم: ولا يدخل في هذه الآية عيسى وعزير والملائكة؛ لأن (ما) لما لا يعقل، ولو أراد العموم لقال ومن تعبدون.
قال الزجاج: ولأن المخاطبين بهذه الآية مشركو مكة دون غيرهم. قال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية قال المشركون: " فالملائكة وعيسى وعزير
وقيل لا يسمعون شيئاً لأنهم يحشرون صماً، كما قال سبحانه: (ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً) وإنما سلبوا السماع لأن فيه بعض تروّح وتأنس. وقيل لا يسمعون ما يسرهم، بل يسمعون ما يسوءهم، ثم لما بين سبحانه حال هؤلاء الأشقياء شرع في بيان حال السعداء فقال:
وعن ابن عثمان النهدي قال: حيات على الصراط تلسعهم فإذا لسعتهم قالوا: حس حس، وقال ابن عباس: لا يسمع أهل الجنة حسيس النار إذا نزلوا منزلهم من الجنة.
(وهم فيما اشتهت أنفسهم) من النعيم والكرامة (خالدون) أي دائمون مقيمون، والشهوة طلب النفس اللذة، وفي الجنة ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين كما قال تعالى: (ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون)
قال اليزيدي: حزنه لغة قريش وأحزنه لغة تميم، بيان لنجاتهم من الفزع بالكلية إثر بيان نجاتهم من النار لأنهم إذا لم يحزنهم (الفزع الأكبر) وهو أهوال يوم القيامة من البعث والحساب والعقاب، والأمر بالعبد إلى النار، لا يحزنهم ما عداه بالضرورة.
وأخرج أحمد والترمذي وحسنة عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثلاثة على كثبان المسك لا يهولهم الفزع الأكبر يوم القيامة؛ رجل أمَّ قوماً وهم له راضون، ورجل كان يؤذن في كل يوم وليلة وعبد أدى حق الله وحق مواليه " (١).
(وتتلقاهم الملائكة) أي تستقبلهم على أبواب الجنة يهنونهم، وقال المحلي: عند خروجهم من القبور، ولا مانع أنها تستقبلهم في الحالين، ويقولون لهم (هذا يومكم الذي كنتم توعدون) به في الدنيا وتبشرون بما فيه، هكذا قال جماعة من المفسرين: إن المراد بقوله: (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى) إلى هنا هم كافة الموصوفين بالإيمان والعمل الصالح لا المسيح وعزير والملائكة، لأن علياً قرأ هذه الآية، ثم قال: أنا منهم وأبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف.
وقال أكثر المفسرين: إنه لما نزل (إنكم وما تعبدون) الآية أتى ابن الزبعري (٢) إلى رسول الله ﷺ فقال: يا محمد ألست تزعم أن عزيراً رجل صالح وأن عيسى رجل صالح، وأن مريم امرأة صالحة؟ قال: " بلى "، قال: فإن الملائكة وعيسى وعزيراً ومريم يعبدون من دون الله، فهؤلاء في النار، فأنزل الله هذه الآية إلى آخرها أخرجه ابن مردويه والضياء في المختارة عن ابن عباس وأخرجه أبو داود والطبراني من وجه آخر بأطول منه.
_________
(١) الترمذي كتاب البر باب ٥٤ - كتاب الجنة باب ٢٥ - الإمام أحمد ٢/ ٢٦.
(٢) الزبعري معناه السيء الخلق الغليط وهو لقب والمد عبد الله القرشي ولقد أسلم بعد هذه القصة إهـ منه.
أحدهما الذي هو ضد النشر، ومنه قوله: (والسماوات مطويات بيمينه).
والثاني الإخفاء والتعمية والمحو، لأن الله سبحانه يمحو ويطمس رسومها، ويكدر نجومها، والمراد بالسماء الجنس والسجل الصحيفة أي طياً كطي الطومار للكتابة، وقيل السجل الصك وهو مشتق من المساجلة وهي المكاتبة وأصلها من السجل وهو الدلو، يقال ساجلت الرجل، إذا نزعت دلواً ونزع هو دلواً؛ ثم استعيرت للمكاتبة والمراجعة في الكلام، وقرئ السُّجُلّ بضم السين والجيم وتشديد اللام، وقرئ السجل بفتح السين وإسكان الجيم، وقيل السجل اسم ملك في السماء الثالثة، وهو الذي يطوي كتب بني آدم.
وقيل هو اسم كاتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله ابن عباس أخرجه أبو داود والنسائي، وعن ابن عمر مثله، قال ابن كثير: هذا منكر جداً، وقد صرح جماعة من الحفاظ بوضعه، وإن كان في سنن أبي داود منهم الحافظ المزي وقد أفرد الشوكاني لهذا الحديث جزءاً على حده، وقد تصدى الإمام ابن جرير للإنكار على هذا الحديث ورده أتم رد، وقال: ولا نعرف في الصحابة أحداً اسمه سجل، وكتاب رسول الله ﷺ كانوا معروفين، وليس فيهم أحد اسمه السجل انتهى، وصدق رحمه الله في ذلك، وهو من أقوى الأدلة على نكارة هذا الحديث، وأما من ذكر في أسماء الصحابة هذا فإنما اعتمد على هذا الحديث لا على غيره والله أعلم، قال: والصحيح عن ابن عباس أن السجل هو الصحيفة، ونص على ذلك مجاهد وقتادة وغير
وأخرج النسائي عن ابن عباس قال: السجل هو الرجل أي بلغة الحبشة، والأول أولى، وقرئ للكتب جمعاً؛ وللكتاب وهو متعلق بمحذوف حال من السجل أي كطي السجل كائناً للكتب فإن الكتب عبارة عن الصحائف وما كتب فيها فسجلها بعضر أجزائها وبه يتعلق الطي حقيقة.
وأما على الثانية فالكتاب مصدر، واللام للتعليل، أي كما يطوى الطومار للكتابة أي ليكتب فيه أو لما يكتب فيه من المعاني الكثيرة والأعمال المنتشرة وهذا على أن معنى الطي ضد النشر.
وعن علي قال: كطي السجل ملك، وعن عطية وأبي جعفر مثله، قال ابن عمر: السجل ملك، فإذا صعد بالاستغفار قال: اكتبوها نوراً.
(كما بدأنا أول خلق نعيده) بعد إعدامه تشبيهاً للإعادة بالابتداء في تناول القدرة لهما على السواء أي كما بدأناهم في بطون أمهاتهم، وأخرجناهم إلى الأرض حفاة عراة غرلاً، كذلك نعيدهم يوم القيامة، وإنما خص أول الخلق بالذكر تصويراً للإيجاد عن العدم، والمقصود بيان صحة الإعادة بالقياس على المبدأ لشمول الإمكان الذاتي لهما، وقيل معنى الآية نهلك كل نفس كما كان أول مرة، قاله ابن عباس، وقيل المعنى نغير السماء ثم نعيدها مرة أخرى بعد طيها وزوالها، والأول أولى؛ وهو مثل قوله: (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة) ثم قال سبحانه.
(وعداً علينا) أي وعدنا وعداً علينا إنجازه والوفاء به وهو البعث والإعادة ثم أكد سبحانه ذلك بقوله: (إنا كنا فاعلين) أي محققين هذا الوعد فاستعدوا له وقدموا صالح الأعمال للخلاص من هذه الأهوال، قال الزجاج: معناه إنا كنا قادرين على ما نشاءه، وقيل فاعلين ما وعدناكم، ومثله قوله: (كان وعده مفعولاً).
وقيل المراد به هنا كتاب داود خاصة (من بعد الذكر) أي اللوح المحفوظ كما في البيضاوي والخازن وأبي السعود وأبي حيان.
وقيل هو القرآن قاله ابن عباس، وعنه قال: والذكر الأصل الذي نسخت منه هذه الكتب الذي في السماء أي والله لقد كتبنا في كتاب داوود من بعد كتبنا في كتاب داوود من بعد كتبنا في التوراة أو من بعد كتبنا في اللوح المحفوظ.
(أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) قد اختلف في معنى هذه الآية فقيل المراد أرض الجنة، قاله ابن عباس، واستدل القائلون بهذا بقوله سبحانه: (وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض)، وقيل هي الأرض المقدسة، وقيل هي أرض الأمم الكثيرة الكافرة، يرثها نبينا ﷺ وأمته بفتحها، وقيل المراد بذلك بنو إسرائيل بدليل قوله سبحانه: (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها).
والظاهر أن هذا تبشير لأمته ﷺ بوراثة أرض الكافرين، وعليه أكثر المفسرين.
قال ابن عباس: أخبر الله سبحانه في التوراة والزبور وسابق علمه قبل أن تكون السماوات والأرض أن يورث أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ويدخلهم الجنة وهم الصالحون، وقيل عام في كل صالح فيتناول أمة محمد ﷺ وغيرها من الأمم.
(لقوم عابدين) أي مشغولين بعبادة الله مهتمين بها، والعبادة هي الخضوع والتذلل، وهم أمة محمد (- ﷺ -) ورأس العبادة الصلاة قال أبو هريرة: الصلوات الخمس، وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم والديلمي، عن أنس قال: قال رسول الله (- ﷺ -) في الآية قال: " إن في الصلوات الخمس شغلاً للعبادة ".
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أن النبي ﷺ قرأ هذه الآية وقال: " هي الصلوات الخمس في المسجد الحرام جماعة "، وقيل هم العالمون العاملون الموحدون، وقال الرازي: والأولى أنهم الجامعون بين الأمرين، لأن العلم كالشجرة، والعمل كالثمرة، والشجر بدون الثمر غير مفيد، والثمر بدون الشجر غير كائن.
وعن ابن عباس في الآية قال: من آمن تمت به الرحمة في الدنيا والآخرة، ومن لم يؤمن عوفي مما كان يصيب الأمم في عاجل الدنيا من العذاب من المسخ، والخسف والقذف.
وأخرج مسلم عن أبي هريرة قال: قيل يا رسول الله ادع الله على المشركين، قال: " إني لم أبعث لعاناً، وإنما بعثت رحمة " (١) وأخرج أحمد والطيالسي والطبراني وأبو نعيم، عن أبي امامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله بعثني رحمة للعالمين وهدى للمتقين " (٢).
وأخرج أحمد والطبراني عن سلمان أن رسول الله ﷺ قال: " أيما رجل من أمتي سببته سبة في غضبي أو لعنته لعنة، فإنما أنا رجل من بني آدم أغضب كما يغضبون، وإنما بعثني رحمة للعالمين، فأجعلها عليه صلاة يوم القيامة " (٣).
وأخرج البيهقي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنما أنا رحمة مهداة " (٤) وقد روي معنى هذا من طرق، ثم بين سبحانه أن أصل تلك الرحمة هو التوحيد والبراءة من الشرك فقال:
_________
(١) مسلم ٢٥٩٩.
(٢) الإمام أحمد ٥/ ٢٦٥.
(٣) الإمام أحمد ٥/ ٢٩٤.
(٤) طبقات ابن سعد ١/ ١٩٢ - الطبراني المعجم الكبير ١/ ٧٦/٢.
وقال الزجاج: المعنى أعلمتكم بما يوحى إليّ على استواء في العلم به، ولا أظهر لأحد شيئاً كتمته على غيره.
(وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون) أي ما أدري أقريب حصوله أم بعيد وهو غلبة الإسلام وأهله على الكفر وأهله، وقيل المراد العذاب أو القيامة المشتملة عليه ولا يعلمها إلا الله تعالى، وقيل آذنتكم بالحرب ولكن لا أدري ما يؤذن لي في محاربتكم.
عن الربيع بن أنس قال: " لما أسري بالنبي ﷺ رأى فلاناً، وهو بعض بني أمية على المنبر يخطب الناس، فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية يقول هذا الملك. وقال: ابن عباس، يقول ما أخبركم به من العذاب والساعة لعل تأخير ذلك عنكم فتنة لكم.
وقال ابن عباس: لا يحكم الله إلا بالحق، وإنما يستعجل بذلك في الدنيا يسأل ربه، وقرئ رب بضم الباء قال النحاس: وهذا لحن عند النحويين.
وقرئ أَحْكَمُ بقطع الهمزة وفتح الكاف وضم الميم، أي قال محمد: ربي أحكم بالحق من كل حاكم، وقرئ أَحْكَمَ بصيغة الماضي، أي أحكم الأمور بالحق، وقرئ قُلْ بصيغة الأمر، أي قل يا محمد.
قال أبو عبيدة: الصفة هنا أقيمت مقام الموصوف، والتقدير رب احكم بحكمك الحق. وقد استجاب سبحانه دعاء نبيه ﷺ فعذبهم ببدر، ثم جعل العاقبة والغلبة والنصر لعباده المؤمنين، والحمد لله رب العالمين.
ثم قال سبحانه متمماً لتلك الحكاية (وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون) من الكفر والتكذيب، أي هو كثير الرحمة لعباده، والمستعان به في الأمور التي من جملتها ما تصفونه من أن الشوكة تكون لكم. ومن قولكم: (هل هذا إلا بشر مثلكم؟) وقولكم: (اتخذ الرحمن ولداً)، وكثيراً ما يستعمل الوصف في كتاب الله بمعنى الكذب، كقوله: (ولكم الويل مما تصفون) وقوله: (سيجزيهم وصفهم)، وقرئ بالتحتية وبالفوقية على الخطاب.
تم بعون الله الجزء الثامن من كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن ويليه الجزء التاسع وأوله: تفسير سورة الحج
تفسِير سَلفي أثري خالٍ منَ الإِسرَائيليّاتِ والجَدليَّاتِ المذهبية والكلامية يغني عَن جميع التفاسِير وَلا تغني جميعُهَا عَنه
تأليف: السيد الإمام العلامة الملك المؤيد من الله الباري آبي الطيب صديق بن حسن بن علي الحسين القنوجي النجاري ١٢٤٨ - ١٣٠٧ هـ
عني بطبعهِ وقدّم له وراجعه: خادم العلم عَبد الله بن إبراهيم الأنصَاري
الجزء التاسع
المَكتبة العصريَّة
صَيدَا - بَيروت
١٤١٢ هـ - ١٩٩٢ م
شركة أبناء شريف الأنصاري للطباعة والنشر والتوزيع
المَكتبة العصريَّة للطبَاعة والنّشْر
الدار النموذجية ــ المكتبة العصرية
بَيروت - صَ. ب ٨٣٥٥ - تلكس LE ٢٠٤٣٧ SCS
صَيدَا - صَ. ب ٢٢١ - تلكس LE ٢٩١٩٨
بسم الله الرحمن الرحيم
ويشتمل على:- سورة الحج
- سورة المؤمنون
- سورة النور
- سورة الفرقان
- سورة الشعراء
(هي سبع أو ثمان وسبعون آية)
اختلف العلماء هل هي مكية أو مدنية؟ قال ابن عباس: نزلت بالمدينة. وعن ابن الزبير ومجاهد مثله. وقال قتادة: إلا أربع آيات. " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي " -إلى قوله- " عذاب يوم مقيم " فهن مكيات. وقال ابن عباس: سوى ثلاث آيات. وقيل: أربع آيات إلى قوله " عذاب الحريق " وعن النقاش أنه عد ما أنزل منها بالمدينة عشر آيات.
وقال الجمهور: إن السورة مختلطة منها مكي ومنها مدني.
قال القرطبي: وهذا هو الصحيح لأن الآيات تقتضي ذلك، لأن " يا أيها الناس " مكي، و " يا أيها الذين آمنوا " مدني.
قال العزيزي: وهي من أعاجيب السور؛ نزلت ليلاً ونهاراً، سفراً وحضراً، مكياً ومدنياً؛ سلمياً وحربياً، ناسخاً ومنسوخاً، محكماً ومتشابهاً.
وقد ورد في فضلها ما أخرجه أحمد أبو داود والترمذي وغيرهم عن عقبة بن عامر قال قلت يا رسول الله: أفضلت سورة الحج على سائر القرآن بسجدتين؟ قال: " نعم. فمن لم يسجدهما فلا يقرؤها " (١).
قال الترمذي: هذا حديث حسن ليس إسناده بالقوي، وقد روي عن كثير من الصحابة أن فيها سجدتين، وبه يقول ابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق، وقال بعضهم: إن فيها سجدة واحدة، وهو قول سفيان الثوري، وروي هذا عن ابن عباس وإبراهيم النخعي.
_________
(١) الإمام أحمد ٤/ ١٥١ - الترمذي كتاب الجمعة باب ٥٤.
بسم الله الرحمن الرحيم
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (٢) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (٣) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (٤)لما انجر الكلام في خاتمة السورة المتقدمة إلى ذكر الإعادة وما قبلها وما بعدها بدأ سبحانه في هذه السورة بذكر القيامة وأهوالها حثاً على التقوى التي هي أنفع زاد فقال: