تفسير سورة النّور

تفسير الماوردي
تفسير سورة سورة النور من كتاب النكت والعيون المعروف بـتفسير الماوردي .
لمؤلفه الماوردي . المتوفي سنة 450 هـ
سورة النور
مدنية بإجماع

﴿سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين﴾ قوله تعالى: ﴿سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا﴾ أي هذه سورة أنزلناها ويحتمل أن يكون قد خصها بهذا الافتتاح لأمرين: أحدهما: أن المقصود الزجر والوعيد فافتتحت بالرهبة كسورة التوبة. الثاني: أن فيها تشريفاً للنبي ﷺ بطهارة نسائه فافتتحت بذكر والسورة اسم للمنزلة الشريفة ولذلك سميت السورة من القرآن سورة قال الشاعر:
(ألم تَرَ أنَّ اللَّهَ أعْطَاكَ سُورةً ترى كُلَّ مَلْكٍ دُونَها يَتَذَبْذَبُ)
﴿وَفَرَضْنَاهَا﴾ فيه قراءتان بالتخفيف وبالتشديد. فمن قرأ بالتخفيف ففي تأويله وجهان: أحدهما: فرضنا فيها إباحة الحلال وحظر الحرام، قاله مجاهد.
70
الثاني: قدرنا فيها الحدود من قوله تعالى: ﴿فنصف ما فرضتم﴾ [البقرة: ٢٣٧] أي قدرتم، قاله عكرمة. ومن قرأ بالتشديد ففي تأويله وجهان: أحدهما: معناه تكثير ما فرض فيها من الحلال والحرام، قاله ابن عيسى. الثاني: معناه بيناها، قاله ابن عباس. ﴿وَأَنزَلْنَا فِيهآءَايَاتٍ بَيِّناتٍ﴾ فيه وجهان: أحدهما: أنها الحجج الدالة على توحيده ووجوب طاعته. الثاني: أنها الحدود والأحكام التي شرعها. قوله تعالى: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ﴾ وإنما قدم ذكر الزانية على الزاني لأمرين: أحدهما: أن الزنى منها أعَرُّ، وهو لأجل الحَبَل أضر. الثاني: أن الشهوة فيها أكثر وعليها أغلب، وقدر الحد فيه بمائة جلدة من الحرية والبكارة، وهو أكثر حدود الجلد، لأن فعل الزنى أغلظ من القذف بالزنى، وزادت السنة على الجلد بتغريب عام بعده، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خُذُواْ عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً، البِكْرُ بِالبِكْرِ جَلْدُ مَائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ) ومنع العراقيون من التغريب اقتصاراً على الجلد وحده، وفيه دفع السنة والأثر. والجلد مأخوذ من وصول الضرب إلى الجلد. فأما المحصنان فحدهما الرجم بالسنة إما بياناً لقوله تعالى في سورة النساء: ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً﴾ [النساء: ١٥] على قول فريق: وإما ابتداء فرض على قول آخرين. وروى زر بن حبيش عن أُبَيٍّ أن في مصحفه من سورة الأحزاب ذكر الرجم: (إِذَا زَنَى الشَّيخُ وَالشَّيخَةُ فَارْجُمَوهُمَا البَتَّةَ نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ "
71
). ﴿وَلاَ تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ﴾ أي في طاعة الله، وقد يعبر بالدين عن الطاعة. ﴿إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾ أي إن كنتم تقيمون طاعة الله قيام من يؤمن بالله واليوم الآخر، والرأفة الرحمة ولم ينه عنها لأن الله هو الذي يوقعها في القلوب وإنما نهى عما تدعو الرحمة إليه، وفيه قولان: أحدهما: أن تدعوه الرحمة إلى إسقاط الحد حتى لا يقام، قاله عكرمة. الثاني: أن تدعوه الرحمة إلى تخفيف الضرب حتى لا يؤلم، قاله قتادة. واستنبط هذا المعنى الجنيد فقال: الشفقة على المخالفين كالإِعراض عن المواقعين ﴿وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا﴾ يعني بالعذاب الحد يشهده عند الإِقامة طائفة من المؤمنين، ليكونوا زيادة في نكاله وبينة على إقامة حده واختلف في عددهم على أربعة أقاويل: أحدها: أربعة فصاعداً، قاله مالك والشافعي. الثاني: ثلاثة فصاعداً، قاله الزهري. الثالث: اثنان فصاعداً، قال عكرمة. الرابع: واحد فصاعداً، قاله الحسن، وإبراهيم. ولما شرط الله إيمان من يشهد عذابهما، قال بعض أصحاب الخواطر: لا يشهد مواضع التأديب إلا من لا يستحق التأديب.
72
قوله تعالى :﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ﴾ وإنما قدم ذكر الزانية على الزاني لأمرين :
أحدهما : أن الزنى منها أعَرُّ، وهو لأجل الحَبَل أضر.
الثاني : أن الشهوة فيها أكثر وعليها أغلب. وقدر الحد فيه بمائة جلدة من الحرية والبكارة وهو أكثر حدود الجلد لأن فعل الزنى أغلظ من القذف بالزنى، وزادت السنة على الجلد بتغريب عام بعده لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :" خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً، البِكْرُ بِالبِكْرِ جَلْدُ مَائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ " ومنع العراقيون من التغريب اقتصاراً على الجلد وحده، وفيه دفع السنة والأثر.
والجلد مأخوذ من وصول الضرب إلى الجلد فأما المحصنان فحدهما الرجم بالسنة إما بياناً لقوله تعالى في سورة النساء :
﴿ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً ﴾
[ النساء : ١٥ ] على قول فريق، وإما ابتداء فرض على قول آخرين. وروى زر بن حبيش عن أُبَيٍّ أن في مصحفه من سورة الأحزاب ذكر الرجم :" إِذَا زَنَى الشَّيخُ وَالشَّيخَةُ فَارْجُمَوهُمَا البَتَّةَ نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ".
﴿ وَلاَ تأخذكم بِهِمَا رأفة فِي دِينِ اللَّهِ ﴾ أي في طاعة الله. وقد يعبر بالدين عن الطاعة.
﴿ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ﴾ أي إن كنتم تقيمون طاعة الله قيام من يؤمن بالله واليوم الآخر. والرأفة الرحمة ولم ينه عنها لأن الله هو الذي يوقعها في القلوب وإنما نهى عما تدعو الرحمة إليه، وفيه قولان :
أحدهما : أن تدعوه الرحمة إلى إسقاط الحد حتى لا يقام، قاله عكرمة.
الثاني : أن تدعوه الرحمة إلى تخفيف الضرب حتى لا يؤلم، قاله قتادة، واستنبط هذا المعنى الجنيد فقال : الشفقة على المخالفين كالإِعراض عن المواقعين. ﴿ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا ﴾ يعني بالعذاب الحد يشهده عند الإِقامة طائفة من المؤمنين، ليكونوا زيادة في نكاله وبينة على إقامة حده. واختلف في عددهم على أربعة أقاويل :
أحدها : أربعة فصاعداً، قاله مالك والشافعي.
الثاني : ثلاثة فصاعداً، قاله الزهري.
الثالث : اثنان فصاعداً، قال عكرمة.
الرابع : واحد فصاعداً، قاله الحسن وإبراهيم.
ولما شرط الله إيمان من يشهد عذابهما قال بعض أصحاب الخواطر : لا يشهد مواضع التأديب إلا من لا يستحق التأديب.
﴿الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين﴾ قوله: ﴿الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً... ﴾ الآية. فيه خمسة أوجه:
72
أحدها: أنها نزلت مخصوصة في رجل من المسلمين استأذن رسول الله ﷺ في امرأة يقال لها أم مهزول كانت من بغايا الجاهلية من ذوات الرايات وشرطت له أن تنفق عليه فأنزل الله هذه الآية فيه وفيها قاله عبد الله بن عمرو، ومجاهد. الثاني: أنها نزلت في أهل الصفة، وكانوا قوماً من المهاجرين فقراء ولم يكن لهم بالمدينة مساكن ولا عشائر، فنزلوا صفة المسجد، وكانواْ نحو أربعمائة رجل يلتمسون الرزق بالنهار ويأوون إلى الصفة في الليل، وكان بالمدينة بغايا متعالنات بالفجور مما يصيب الرجال بالكسوة والطعام، فهمَّ أهل الصفة أن يتزوجوهن ليأووا إلى مساكنهن وينالوا من طعامهن وكسوتهن فنزلت فيهن هذه الآية، قاله أبو صالح. الثالث: معناه أن الزاني لا يزني إلا بزانية والزانية لا يزني بها إلا زان، قاله ابن عباس. الرابع: أنه عامٌّ في تحريم نكاح الزانية على العفيف ونكاح العفيفة على الزاني ثم نسخ بقوله تعالى: ﴿فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النَّسَاءِ﴾ [النساء: ٣] قاله ابن المسيب. الخامس: أنها مخصوصة في الزاني المحدود لا ينكح إلا زانية محدودة ولا ينكح غير محدودة ولا عفيفة، والزانية المحدودة لا ينكحها إلا زان محدود، ولا ينكحها غير محدود ولا عفيف، قاله الحسن، ورواه أبو هريرة مرفوعاً.
73
﴿وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ فيه وجهان: أحدهما: الزنى. الثاني: نكاح الزوانى.
74
﴿والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم﴾ قوله: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ﴾ يعني بالزنى. ﴿ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدآءِ﴾ يعني ببينة على الزنى. ﴿فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً﴾ وهذا حد أوجبه الله على القاذف للمقذوفة يجب بطلبها ويسقط بعفوها، وفيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه من حقوق الآدميين، لوجوبه بالطلب، وسقوطه بالعفو، وهذا مذهب الشافعي. الثاني: من حقوق الله لأنه لا ينتقل إلى مال، وهذا مذهب أبي حنيفة. الثالث: أنه من الحقوق المشتركة بين حق الله وحق الآدميين لتمازج الحقين وهذا مذهب بعض المتأخرين. ولا يكمل حد القذف بعد البلوغ والعقل إلى بحريتهما وإسلام المقذوف وعفافه، فإن كان المقذوف كافراً أو عبداً عُزِّر قاذفه ولم يحد، وإن كان القاذف كافراً حُدّ حدّاً كاملاً، وإن كان عبداً حُدّ نصف الحد. ﴿وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلِئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ وهذا مما غلظ الله به
74
القذف حتى علق به من التغليظ ثلاثة أحكام: وجوب الحد، والتفسيق وسقوط الشهادة. ولم يجعل في القذف بغير الزنى حَدّاً لما في القذف بالزنى من تعدّي المعرّة إلا الأهل والنسل. قوله: ﴿إِلاَّ الَّذِينَ تابواْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُواْ﴾ الآية. التوبة من القذف ترفع الفسق ولا تسقط الحدّ. واختلفوا في قبول الشهادة على أربعة أقوال: أحدها: تقبل شهادته قبل الحد وبعده لارتفاع فسقه وعوده إلى عدالته وهذا مذهب مالك والشافعي وبه قال جمهور المفسرين. الثاني: لا تقبل شهادته أبداً، لا قبل الحد ولا بعده، وهذا مذهب شريح. الثالث: أنه تقبل شهادته بالتوبة قبل الحد ولا تقبل بعده، وهذا مذهب أبي حنيفة. الرابع: تقبل شهادته بعد الحد ولا تقبل قبله، وهذا مذهب إبراهيم النخعي قال الشعبي: تقبل توبته ولا تقبل شهادته. وفي صفة التوبة قولان: أحدهما: أنها بإكذابه نفسه وقد رواه الزهري عن ابن المسيب أن عمر بن الخطاب جلد أبا بكرة وشبل بن معبد ونافع بن الحارث بن كلدة وقال لهم: من أكذب نفسه أحرز شهاته فأكذب نفسه شبل ونافع، وأبى أبو بكرة أن يفعل، قال الزهري، وهو والله السنة فاحفظوه. الثاني: أن توبته منه تكون بصلاح حاله وندمه على قذفه والاستغفار منه وترك العود إلى مثله، قاله ابن جرير.
75
قوله :﴿ إِلاَّ الَّذِينَ تابوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا ﴾ الآية. التوبة من القذف ترفع الفسق ولا تسقط الحدّ. واختلفوا في قبول الشهادة على أربعة أقوال :
أحدها : تقبل شهادته قبل الحد وبعده لارتفاع فسقه وعوده إلى عدالته، وهذا مذهب مالك والشافعي وبه قال جمهور المفسرين.
الثاني : لا تقبل شهادته أبداً، لا قبل الحدّ ولا بعده، وهذا مذهب شريح.
الثالث : أنه تقبل شهادته بالتوبة قبل الحد ولا تقبل بعده، وهذا مذهب أبي حنيفة.
الرابع : تقبل شهادته بعد الحد ولا تقبل قبله، وهذا مذهب إبراهيم النخعي قال الشعبي : تقبل توبته ولا تقبل شهادته.
وفي صفة التوبة قولان :
أحدهما : أنها بإكذابه نفسه وقد رواه الزهري عن ابن المسيب أن عمر بن الخطاب جلد أبا بكرة وشبل بن معبد ونافع بن الحارث بن كلدة وقال لهم : من أكذب نفسه أحرز شهاته، فأكذب نفسه شبل ونافع، وأبى أبو بكرة أن يفعل. قال الزهري، وهو والله السنة فاحفظوه.
الثاني : أن توبته منه تكون بصلاح حاله وندمه على قذفه والاستغفار منه وترك العود إلى مثله، قاله ابن جرير.
{والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين
75
والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم} قوله: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ﴾ يعني بالزنى. ﴿وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَآءُ﴾ يعني يشهدون بالزنى إلى أنفسهم وهذا حكم خص الله به الأزواج في قذف نسائهم ليلاعنوا فيذهب حد القذف عنهم. وفي سبب ذلك قولان: أحدهما: ما رواه عكرمة عن ابن عباس أن هلال بن أمية أتى رسول الله ﷺ وهو جالس مع أصحابه فقال: يا رسول الله إني جئت أهلي عشاء فوجدت رجلاً مع أهلي رأيت بعيني بأذني فكره رسول الله ﷺ ما أتاه به وثقل عليه حتى أنزل الله فيه هذه الآية. الثاني: ما رواه الأوزاعي عن الزهري عن سهل بن سعد عويمر أتى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله رجل وجد مع امرأته رجلاً أيقتله فتقتلونه أم كيف يصنع؟ فأنزل الله هذه الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ القُرْآنَ فِيكَ وَفِي صَاحِبَتِكَ) فأمرها رسول الله ﷺ بالملاعنة فلاعنها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (انظرواْ فَإِنْ جَاءتْ بِهِ أَسْحَمَ أَدْعَجَ العَينَينِ عَظِيمَ الأَلِيَتِينِ خَدْلَجَ السَّاقِينِ فَلاَ أَحْسَبُ عُوَيمِراً إِلاَّ قَدْ صَدَقَ عَلَيهَا، وَإنْ جَاءَتْ بِهِ أُحَيمِرَ كَأَنَّهُ وَحْرَةٌ فَلاَ أَرَاهُ إِلاَّ كَاذباً) فجاءت به على النعت الذي نعت رسول الله ﷺ في تصديق عويمر وكان
76
بعد ينسب إلى أمه، قال سعيد بن جبير: ولقد صار أميراً بمصر وإنه ينسب إلى غير أب. فإذا قذف الرجل زوجته بالزنى كان له اللعان منها إن شاء، وإن لم يكن ذلك لقاذف سواه، لأن الزوج لنفي نسب ليس منه ورفع فراش قد عرّه مضطر إلى لعانها دون غيره، فإذا أراد ذلك لاعن بينهما حاكم نافذ الحكم في الجامع على المنبر أو عنده، ويبدأ بالزوج وهي حاضرة فيقول: أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما قذفت به زوجتي هذه من الزنى بفلان إذا ذكره في قذفه، وإن لم يذكره في لعانه كان لعانه نافذاً. وإن أراد نفي ولدها قال: إن هذا الولد من زنى ما هو مني فإذا أكمل ما وصفنا أعاده أربعاً كما قال الله تعالى: ﴿فَشَهَادَةُ أَحَدِهِم أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ﴾ والشهادة هنا يمين عبر عنها بلفظ الشهادة في قول مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة هي شهادة فرد بها لعان الكافر والمملوك ولو كانت شهادة ما جاز أن تشهد لنفسها وبلعنها، والعرب تسمي الحلف بالله تعالى شهادة كما قال قيس بن الملوح:
(وأشهَدُ عِنْدَ اللَّه أنِّي أُحِبُّها فهذَا لَهَا عِندي فَمَا عِنْدَها لِيا)
أي أحلف بالله فيما وصفتها من الزنى، وهو تأويل قوله: ﴿وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ فإذا أكمل الخامسة فقد أكمل لعانه، فتلاعن هي بعده على المنبر أو عنده فتقول وهو حاضر: أشهد بالله أن زوجي فلاناً هذا من الكاذبين فيما رماني به من الزنى وأن هذا - إن كان الزوج قد نفى في لعانه ولده منها - ما هو من زنى، تقول كذلك أربعاً، وهو تأويل قوله تعالى: ﴿وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا الْعَذَابَ﴾ أي يدفع، وفي هذا العذاب قولان: أحدهما: أنه الحد، وهو مذهب مالك، والشافعي. الثاني: أنه الحبس، وهو مذهب أبي حنيفة. ﴿أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ باللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الكَاذِبِينَ﴾ ثم تقول في الخامسة وأن
77
عليّ غضب الله إن كان زوجي من الصادقين فيما رماني به من الزنى وهو تأويل قوله تعالى: ﴿وَالْخَامِسَةُ أَنَّ غَضَبَ اللَّه عَلَيَهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ والغضب في لعانها بدلاً من اللعنة في لعان زوجها، وإذا تم اللعان وقعت الفرقة المؤبدة بينهما، وبماذا تقع؟ فيه أربعة أقاويل: أحدها: بلعان الزوج وحده وهو مذهب الشافعي. الثاني: بلعانهما معاً، وهو مذهب مالك. الثالث: بلعانهما وتفريق الحاكم بينهما، وهو مذهب أبي حنيفة. والرابع: بالطلاق الذي يوقعه الزوج بعد اللعان، وهو مذهب أحمد بن حنبل ثم حرمت عليه أبداً. واختلفوا في إحلالها له إن أكذب بعد اللعان نفسه على قولين: أحدهما: تحل، وهو مذهب أبي حنيفة. والثاني: لا تحل، وهو مذهب مالك والشافعي. وإذا نفى الزوج الولد باللعان لحق بها دونه، فإن أكذب نفسه لحق به الولد حياً أو ميتاً، وألحقه أبو حنيفة به في الحياة دون الموت. قوله تعالى: ﴿وَلَولاَ فَضْلُ اللَّه عَلَيكُمْ وَرَحْمَتُهُ﴾ في فضل الله ورحمته هنا وجهان: أحدهما: أن فضل الله الإسلام ورحمته القرآن، قاله يحيى بن سلام. الثاني: أن فضل الله منه، ورحمته نعمته، قاله السدي. وفي الكلام محذوف اختلف فيه على قولين: أحدهما: أن تقديره: لولا فضل الله عليكم ورحمته بإمهاله حتى تتوبوا لهلكتم. الثاني: تقديره: لولا فضل الله عليكم ورحمته بكم لنال الكاذب منكم عذابٌ عظيم.
78
﴿وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ﴾ فيكون المحذوف على القول الأول الجواب وبعض الشرط، وعلى الثاني الجواب وحده بعد استيفاء الشرط.
79
أي أحلف بالله فيما وصفتها من الزنى، وهو تأويل قوله :﴿ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ فإذا أكمل الخامسة فقد أكمل لعانه، فتلاعن هي بعده على المنبر أو عنده فتقول وهو حاضر : أشهد بالله أن زوجي فلاناً هذا من الكاذبين فيما رماني به من الزنى وأن هذا - إن كان الزوج قد نفى في لعانه ولده منها - ما هو من زنى.
تقول كذلك أربعاً، وهو تأويل قوله تعالى :﴿ وَيَدْرَؤا عَنْهَا الْعَذَابَ ﴾ أي يدفع، وفي هذا العذاب قولان :
أحدهما : أنه الحد، وهو مذهب مالك والشافعي.
الثاني : أنه الحبس، وهو مذهب أبي حنيفة.
﴿ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ باللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الكَاذِبِينَ ﴾
ثم تقول في الخامسة : وأن عليّ غضب الله إن كان زوجي من الصادقين فيما رماني به من الزنى وهو تأويل قوله تعالى :﴿ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ غَضَبَ اللَّه عَلَيَهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ والغضب في لعانها بدلاً من اللعنة في لعان زوجها. وإذا تم اللعان وقعت الفرقة المؤبدة بينهما. وبماذا تقع ؟ فيه أربعة أقاويل :
أحدها : بلعان الزوج وحده وهو مذهب الشافعي.
الثاني : بلعانهما معاً، وهو مذهب مالك.
الثالث : بلعانهما وتفريق الحاكم بينهما وهو مذهب أبي حنيفة.
والرابع : بالطلاق الذي يوقعه الزوج بعد اللعان وهو مذهب أحمد بن حنبل ثم حرمت عليه أبداً.
واختلفوا في إحلالها له إن أكذب بعد اللعان نفسه على قولين :
أحدهما : تحل، وهو مذهب أبي حنيفة.
والثاني : لا تحل، وهو مذهب مالك والشافعي. وإذا نفى الزوج الولد باللعان لحق بها دونه، فإن أكذب نفسه لحق به الولد حياً أو ميتاً، وألحقه أبو حنيفة به في الحياة دون الموت.
قوله تعالى :﴿ وَلَولاَ فَضْلُ اللَّه عَلَيكُمْ وَرَحْمَتُهُ ﴾ في فضل الله ورحمته هنا وجهان :
أحدهما : أن فضل الله الإسلام ورحمته القرآن، قاله يحيى بن سلام.
الثاني : أن فضل الله منّه، ورحمته نعمته، قاله السدي.
وفي الكلام محذوف اختلف فيه على قولين :
أحدهما : أن تقديره : لولا فضل الله عليكم ورحمته بإمهاله حتى تتوبوا لهلكتم.
الثاني : تقديره : لولا فضل الله عليكم ورحمته بكم لنال الكاذب منكم عذابٌ عظيم.
﴿ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ ﴾ فيكون المحذوف على القول الأول الجواب وبعض الشرط، وعلى الثاني الجواب وحده بعد استيفاء الشرط.
﴿إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم﴾ قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُو بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ﴾ في الإِفك وجهان: أحدهما: أنه الإِثم، قاله أبو عبيدة. الثاني: أنه الكذب. قال الشاعر:
(شهيدٌ على الإِفك غَيْرِ الصَّوابِ وما شَاهِدُ الإِفك كَالأَحْنَفِ)
﴿عُصْبَةٌ مِّنكُمْ﴾ وهم زعماء الإِفك، حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وعبد الله بن أبي بن سلول وزيد بن رفاعة وحمنة بنت جحش، وسبب الإفك أن عائشة رضي الله عنها كانت مع رسول الله ﷺ في غزوة المريسيع وهي غزوة بني المصطلق سنة ست فضاع عقد لها من جزع أطفار وقد توجهت لحاجتها فعادت في طلبه ودخل رسول الله ﷺ من منزله فَرُفِعَ هودجها ولم يُشْعَرْ بها أنها ليست فيه لخفتها وعادت فلم تر في المنزل أحداً فأدركها صفوان بن المعطل فحملها على راحلته وألحقها برسول الله ﷺ فتكلم فيها وفي صفوان من تكلم وقدمت المدينة وانتشر الإِفك وهي لا تعلم به ثم علمت فأخذها من ذلك شيء عظيم إلى أن أنزل الله براءتها بعد سبعة وثلاثين يوماً من قدوم المدينة هذه الآية. و ﴿لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ أي لا تحسبواْ ما ذكر من الإِفك شراً لكم بل هو خير لكم لأن الله قد بَرَّاً منه وأبان عليه. وفي المراد بهذا القول قولان: أحدهما: أن المقصود به عائشة وصفوان لأنهما قصدا بالإِفك، قاله يحيى ابن سلام.
79
الثاني: أن المقصود به النبي ﷺ وأبو بكر وعائشة رضي الله عنهما، قاله ابن شجرة. ﴿لِكُلِّ امْرِىءٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ﴾ أي له عقاب ما اكتسب من الإِثم بقدر إِثمه. ﴿وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ﴾ الآية قرىء بكسر الكاف وضمها، وفي الفرق بينما وجهان: أحدهما: أن كبره بالضم معظمه وبالكسر مأثمه. الثاني: أنه بالضم في النسب وبالكسر في النفس. وفي متولي كبره قولان: أحدهما: أنه عبد الله بن أبيّ، والعذاب العظيم جهنم، وهذا قول عائشة وعروة بن الزبير وابن المسيب. الثاني: أنه مسطح بن أثاثة، والعذاب العظيم ذهاب بصره في الدنيا: حكاه يحيى بن سلام.
80
﴿لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون﴾ قوله تعالى: ﴿لَّوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ﴾ هلا إذا سمعتم الإِفك. ﴿ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً﴾ فيه وجهان: أحدهما ظن بعضهم ببعض خيراً كما يظنون بأنفسهم. الثاني: ظنواْ بعائشة عفافاً كظنهم بأنفسهم. ﴿إِفْكٌ مُّبِينٌ﴾ أي كذب بيِّن. قوله تعالى: ﴿لَّوْلاَ جَآءُو عَلَيِهِ﴾ أي هلا جاءُوا عليه لو كانوا صادقين.
80
﴿بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءِ﴾ يشهدون بما قالوه. ﴿فَإِذَا لَمْ يأْتُواْ بِالشُّهَدَآءِ﴾ الآية..
81
قوله تعالى :﴿ لَّوْلاَ جَاؤُوا عَلَيِهِ ﴾ أي هلا جاؤُوا عليه لو كانوا صادقين.
﴿ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءِ ﴾ يشهدون بما قالوه.
﴿ فَإِذَا لَمْ يأتوا بِالشُّهَدَاءِ. . . ﴾ الآية.
﴿ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون﴾ قوله تعالى: ﴿وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ﴾ يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون وعيداً بما له عند الله من العقاب. الثاني: أريد به تكذيب المؤمنين الذي يصدقون ما أنزل الله من كتاب. واختلف هل حد النبي ﷺ أصحاب الإِفك على قولين: أحدهما: أنه لم يحدّ أحداً منهم لأن الحدود إنما تقام بإقرار أو بينة ولم يتعبدنا الله أن نقيمها بإخباره عنها كما لم يتعبدنا بقتل المنافقين وإن أخبر بكفرهم. والقول الثاني: أن النبي ﷺ حد في الإِفك حسان بن ثابت وعبد الله بن أبي ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت حجش وكانوا ممن أفصح بالفاحشة رواه عروة بن الزبير وابن المسيب عن عائشة رضي الله عنها فقال بعض شعراء المسلمين:
81
(لقد ذاق حسان الذي كان أهله وحمنةُ إذ قالا هجيراً ومسطح)
(وابن سلول ذاق في الحدّ خزيه كما خاض في إفك من القول يفصح)
(تعاطوْا برجم الغيب زوج نبيّهم وسخطة ذي العرش العظيم فأبرحوا)
(وآذواْ رسول الله فيها فجللوا مخازي تبقى عمموها وفضحواْ)
(فصبت عليهم محصدات كأنها شآبيب قطر من ذرى المزن تسفح)
حكى مسروق أن حسان استأذن على عائشة فقلت أتأذنين له فقالت: أو ليس قد أصابه عذاب عظيم. فمن ذهب إلى أنهم حدوا زعم أنها أرادت بالعذاب بالعظيم الحد، ومن ذهب إلى أنهم لم يحدّوا زعم أنها أرادت بالعذاب العظيم ذهاب بصره، قاله سفيان. قال حسان بن ثابت يعتذر من الإفك:
(حَصَانٌ رزانٌ ما تُزَنّ بِرِيبَةٍ وتُصْبِحُ غَرْثَى من لُحُومِ الغَوَافِلِ)
(فإن كنتُ قد قلتُ الذي بُلِّغْتُم فلا رَفَعَتْ سَوْطِي إليَّ أنامِلِي)
(فكيفَ ووُدِّي ما حَيِيتُ ونُصْرَتِي لآلِ رسُولِ اللَّهِ زَينِ المَحَافِلِ)
قوله تعالى: ﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ﴾ فيه وجهان: أحدهما: هو أن تتحدث به وتلقيه بين الناس حتى ينتشر. الثاني: أن يتلقاه بالقبول إذا حدث به ولا ينكره. وحكى ابن أبي مليكة أنه سمع عائشة تقرأ إذ تلِقونه بكسر اللام مخففة وفي تأويل هذه القراءة وجهان: أحدهما: ترددونه، قاله اليزيدي. الثاني: تسرعون في الكذب وغيره، ومنه قول الراجز:
(.................. جَاءَتْ به عنسٌ من الشام تَلِقْ)
أي تسرع.
82
قوله تعالى :﴿ وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون وعيداً بما له عند الله من العقاب.
الثاني : أريد به تكذيب المؤمنين الذي يصدقون ما أنزل الله من كتاب.
واختلف هل حد النبي صلى الله عليه وسلم أصحاب الإِفك على قولين :
أحدهما : أنه لم يحدّ أحداً منهم لأن الحدود إنما تقام بإقرار أو بينة ولم يتعبدنا الله أن نقيمها بإخباره عنها كما لم يتعبدنا بقتل المنافقين وإن أخبر بكفرهم.
والقول الثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم حد في الإِفك حسان بن ثابت وعبد الله بن أبي ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش وكانوا ممن أفصح بالفاحشة رواه عروة بن الزبير وابن المسيب عن عائشة رضي الله عنها فقال بعض شعراء المسلمين :
لقد ذاق حسان الذي كان أهله وحمنةُ إذ قالا هجيراً ومسطح
وابن سلول ذاق في الحدّ خزيه كما خاض في إفك من القول يفصح
تعاطوْا برجم الغيب زوج نبيّهم وسخطة ذي العرش العظيم فأبرحوا
وآذوا رسول الله فيها فجللوا مخازي تبقى عمموها وفضحوا
فصبت عليهم محصدات كأنها شآبيب قطر من ذرى المزن تسفح
حكى مسروق أن حسان استأذن على عائشة فقلت أتأذنين له فقالت أو ليس قد أصابه عذاب عظيم. فمن ذهب إلى أنهم حدوا زعم أنها أرادت بالعذاب بالعظيم الحد، ومن ذهب إلى أنهم لم يحدّوا زعم أنها أرادت بالعذاب العظيم ذهاب بصره، قاله سفيان. قال حسان بن ثابت يعتذر من إفكه :
حَصَانٌ رزانٌ ما تُزَنّ بِرِيبَةٍ وتُصْبِحُ غَرْثَى من لُحُومِ الغَوَافِلِ
فإن كنتُ قد قلتُ الذي بُلِّغْتُم فلا رَفَعَتْ سَوْطِي إليَّ أنامِلِي
فكيفَ ووُدِّي ما حَيِيتُ ونُصْرَتِي لآلِ رسُولِ اللَّهِ زَينِ المَحَافِلِ
قوله تعالى :﴿ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : هو أن تتحدث به وتلقيه بين الناس حتى ينتشر.
الثاني : أن يتلقاه بالقبول إذا حدث به ولا ينكره. وحكى ابن أبي مليكة أنه سمع عائشة تقرأ إذ تلِقونه بكسر اللام مخففة وفي تأويل هذه القراءة وجهان :
أحدهما : ترددونه، قاله اليزيدي.
الثاني : تسرعون في الكذب وغيره ومنه قول الراجز :
. . . . . . . . . . . . . . . جَاءَتْ به عنسٌ من الشام تَلِقْ١
أي تسرع.
١ صدر البيت: أن الحصين زلق زملق. وقبله:
لما رأوا جيشا عليهم قد طرق جاءوا بأسراب من السام ولق
والزلق الزملق الذي ينزل قبل أن يجامع.

{ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر
82
بالفحشاء والمنكر ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم} قوله تعالى: ﴿لاَ تَبَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ فيه أربعة أوجه: أحدها: خطايا الشيطان، قاله يحيى بن سلام. الثاني: آثاره، قاله ابن شجرة. الثالث: هو تخطي الشيطان الحلال إلى الحرام والطاعة إلى المعصية، قاله ابن عيسى. الرابع: هو النذور في المعاصي، قاله أبو مجلز. ويحتمل خامساً: أن تكون خطوات الشيطان الانتقال من معصية إلى أخرى مأخوذ من نقل القدم بالخطو من مكان إلى مكان.
83
قوله تعالى :﴿. . . لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ﴾ فيه أربعة أوجه :
أحدها : خطايا الشيطان، قاله يحيى بن سلام.
الثاني : آثاره، قاله ابن شجرة.
الثالث : هو تخطي الشيطان الحلال إلى الحرام والطاعة إلى المعصية، قاله ابن عيسى.
الرابع : هو النذور في المعاصي، قاله أبو مجلز.
ويحتمل خامساً : أن تكون خطوات الشيطان الانتقال من معصية إلى أخرى مأخوذ من نقل القدم بالخطو من مكان إلى مكان.
﴿ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين﴾ قوله تعالى: ﴿وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ﴾ وقرىء ولا يتأل وفي اختلاف القراءتين وجهان: أحدهما: أن معناهما متقارب واحد وفيه وجهان: أحدهما: أي لا يقتصر مأخوذ من قولهم لا ألوت أي لا قصرت، قاله ابن بحر.
83
الثاني: لا يحلف مأخوذ من الألية وهي اليمين. - والقول الثاني: معناهما مختلف فمعنى يأتل أي يألو أو يقصر، ومعنى يتأل أي يحلف. ﴿أَن يُؤْتُواْ أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أي لا يحلفوا ألاّ يبروّا هؤلاء، وهذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه كان ينفق على مسطح بن أثاثة فلما خاض في الإِفك ونشره حلف أبو بكر ألا يبره وكان ابن خالته فنهاه الله عن يمينه وندبه إلى بره مع إساءته. وهذا معنى لا يألو جهداً فالمنهى عنه فيها التوقف عن بر من أساء وأن نقابله بالتعطف والإِغضاء، فقال: ﴿ولْيَعْفُواْ ولْيَصْفَحُواْ﴾ وفيها وجهان: أحدهما: أن العفو عن الأفعال والصفح عن الأقوال. الثاني: أن العفو ستر الذنب من غير مؤاخذة والصفح الإِغضاء عن المكروه. ﴿أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُم﴾ أي كما تحبون أن يغفر الله لكم ذنوبكم فاغفروا لمن أساء إليكم، فلما سمع أبو بكر هذا قال: بلى يا رب وعاد إلى برِّه وكفّر عن يمينه.
84
﴿الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أولئك مبرؤون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم﴾ قوله تعالى: ﴿الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبيثِينَ﴾ الآية. فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء، والطيبات من النساء للطيبين من الرجال، والطيبون من الرجال للطيبات من النساء، قاله ابن زيد. الثاني: الخبيثات من الأعمال للخبيثين من الناس والخبيثون من الناس
84
للخبيثات من الأعمال والطيبات من الأعمال للطيبين من الناس، والطيبون من الناس للطيبات من الأعمال قاله مجاهد وقتادة. الثالث: الخبيثات من الكلام للخبيثين من الناس، والخبيثون من الناس للخبيثات من الكلام، والطيبات من الكلام للطيبين من الناس، والطيبون من الناس للطيبات من الكلام قاله ابن عباس والضحاك. وتأول بعض أصحاب الخواطر: الخبيثات الدنيا، والطيبات الآخرة. ﴿أُوْلئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ﴾ فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أن عائشة وصفوان مبرآن من الإِفك المذكور فيهما، قاله الفراء. الثاني: أن أزواج النبي ﷺ مبرآت من الفواحش، قاله ابن عيسى. الثالث: أن الطيبين والطيبات مبرؤون من الخبيثين والخبيثات، قاله ابن شجرة.
85
﴿يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم والله يعلم ما تبدون وما تكتمون﴾ قوله تعالى: ﴿لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْر بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأُنِسُواْ﴾ فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: حتى تستأذنوا. واختلف من قال بهذا التأويل فقال ابن عباس: أخطأ الكاتب فيه فكتب تستأنسوا وكان يقرأ: حتى تستأذنوا. وقال غيره: لأن
85
الاستئذان مؤنس فعبر عنه بالاستئناس، وليس فيه خطأ من كاتب ولا قارىء. الثاني: معناه حتى تؤنسوا أهل البيت بالتنحنح فيعلموا بقدومك عليهم، قاله مجاهد. الثالث: أن تستأنسوا يعني أن تعلموا فيها أحداً استأذنوه فتسلموا عليه ومنه قوله تعالى: ﴿فإن آنستم منهم رشداً﴾ [النساء: ٦] أي علمتم، قاله ابن قتيبة. وقال ابن الأعرابي الاستئناس الاستثمار، والإيناس اليقين. والإذن يكون بالقول والإشارة. فإن جاهر فسؤال، فقد روى قتادة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رَسُولُ الرَّجُلِ إِذْنُهُ فَإِنِ اسْتَأَذَنَ ثَلاَثاً وَلَمْ يُؤْذَنْ لَه ولَّى فلم يُراجِعْ فِي الاسْتِئْذَانِ) روى الحسن البصري أن [أبا موسى] الأشعري استأذن على عمر رضي الله عنه ثلاثاً فلم يؤذن له فرجع فأرسل إليه عمر فقال: ما ردّك؟ فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنِ اسْتَأَذَنَ ثلاثاً فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِع) فقال عمر: لتجيئني على بينة أو لأجعلنك نكالاً فأتى طلحة فشهد له قال الحسن: الأولى إذنٌ، والثانية مؤامرة، والثالثة: عزمة، إن شاءواْ أذنوا وإن شاءوا ردوا. ولا يستأذن وهو مستقبل الباب إن كان مفتوحاً، وإن أذن لأول القوم فقد أذن
86
لآخرهم، ولا يقعدوا على الباب بعد الرد فإن للناس حاجات. ﴿وَتُسَلِّمُواْ عَلَى أُهْلِهَا﴾ والسلام ندب والاستئذان حتم. وفي السلام قولان: أحدهما: أنه مسنون بعد الإذن على ما تضمنته الآية من تقديم الإِذن عليه. الثاني: مسنون قبل الإذن وإن تأخر في التلاوة فهو مقدم في الحكم وتقدير الكلام حتى تسلموا وتستأذنوا لما روى محمد بن سيرين أن رجلاً استأذن على رسول الله ﷺ فقال: أأدخل؟ فقال النبي ﷺ لرجل عنده: (قُمْ فَعَلِّمْ هذَا كَيْفَ يَسْتَأْذِنُ فإِنَّهُ لَمْ يُحْسِنْ) فسمعها الرجل فسلم واستأذن. وأولى من إطلاق هذين القولين أن ينظر فإن وقعت العين على العين قبل الإِذن فالأولى تقديم السلام، وإن لم تقع العين على العين قبل الإذن فالأولى تقديم الاستئذان على السلام. فأما الاستئذان على منازل الأهل فإن كانوا غير ذي محارم لزم الاستئذان عليهم كالأجانب وإن كانوا ذوي محارم وكان المنزل مشتركاً هو فيه وهم ساكنون لزم في دخوله إنذارهم إما بوطءٍ. أو نحنحة مفهمة إلا الزوجة فلا يلزم ذلك في حقها بحال لارتفاع العودة بينهما. وإن لم يكن المنزل مشتركاً ففي الاستئذان عليهم وجهان: أحدهما: أنها النحنحة والحركة. الثاني: القول كالأجانب. ورى صفوان عن عطاء بن يسار أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (أستأذن على أمي)؟ فقال: (نعم) فقال إني أخدمها فقال: (استأذن عليها) فعاوده ثلاثاً: فقال: (أَتُحِبُّ أَنْ تَرَاهَا عُرْيَانَةً) قال: لا قال: (فَاسْتَأْذِنْ عَلَيهَا). قوله تعالى: ﴿فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَا أَحَداً﴾ يعني يأذن لكم.
87
﴿فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُم﴾ ولا يجوز التطلع إلى المنزل ليرى من فيه فيستأذنه إذا كان الباب مغلقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّمَا جُعِلَ الاسْتِئْذَانُ لأَجْلِ البَصَرِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَفْتُوحاً فَيَجُوزُ إِذا كَانَ خَارِجاً أَنْ يَنْظُرَ لأَنَّ صَاحِبَهُ بالفتح قَدْ أَبَاحَ النَّظَرَ) ﴿وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُواْ فَارْجِعُواْ هُوَ أَزْكَى لَكُمْ﴾ وهنا ينظر فإن كان بعد الدخول عن إذن لزم الانصراف وحرم اللبث، وإن كان قبل الدخول فهو رد الإِذن ومنع من الدخول. ولا يلزمه الانصراف عن موقفه من الطريق إلا أن يكون فناء الباب المانع فيكفي عنه، قال قتادة: لا تقعد على باب قوم ردوك فإن للناس حاجات. قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ﴾ فيها خمسة أقاويل: أحدها: أنها الخانات المشتركة ذوات البيوت المسكونة، قاله محمد بن الحنفية رضي الله عنه. الثاني: أنها حوانيت التجار، قاله الشعبي. الثالث: أنها منازل الأسفار ومناخات الرجال التي يرتفق بها مارة الطريق في أسفارهم، قاله مجاهد. الرابع: أنها الخرابات العاطلات، قاله قتادة. الخامس: أنها بيوت مكة، ويشبه أن يكون قول مالك. ﴿فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ﴾ فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها عروض الأموال التي هي متاع التجار، قاله مجاهد. الثاني: أنها الخلاء والبول سمي متاعاً لأنه إمتاع لهم، قاله عطاء. الثالث: أنه المنافع كلها، قاله قتادة، فلا يلزم الاستئذان في هذه المنازل
88
كلها. قال الشعبي: حوانيت التجار إذنهم جاءوا ببيوتهم فجعلوها فيها وقالوا للناس: هَلُمّ.
89
قوله تعالى :﴿ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً ﴾ يعني يأذن لكم.
﴿ فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُم ﴾ ولا يجوز التطلع إلى المنزل ليرى من فيه فيستأذنه إذا كان الباب مغلقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم :" إِنَّمَا جُعِلَ الاسْتِئْذَانُ لأَجْلِ البَصَرِ١. إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَفْتُوحاً فَيَجُوزُ إِذا كَانَ خَارِجاً أَنْ يَنْظُرَ لأَنَّ صَاحِبَهُ بالفتح قَدْ أَبَاحَ النَّظَرَ "
﴿ وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ ﴾ وهنا ينظر فإن كان بعد الدخول عن إذن لزم الانصراف وحرم اللبث، وإن كان قبل الدخول فهو رد الإِذن ومنع من الدخول. ولا يلزمه الانصراف عن موقفه من الطريق إلا أن يكون فناء الباب المانع فيكفى عنه. قال قتادة : لا تقعد على باب قوم ردوك فإن للناس حاجات.
١ رواه البخاري ومسلم والترمذي في الاستئذان والأدب..
قوله تعالى :﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ ﴾ فيها خمسة أقاويل :
أحدها : أنها الخانات المشتركة ذوات البيوت المسكونة، قاله محمد بن الحنفية رضي الله عنه.
الثاني : أنها حوانيت التجار قاله الشعبي.
الثالث : أنها منازل الأسفار ومناخات الرجال التي يرتفق بها مارة الطريق في أسفارهم، قاله مجاهد.
الرابع : أنها الخرابات العاطلات، قاله قتادة.
الخامس : أنها بيوت مكة١، ويشبه أن يكون قول مالك.
﴿ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها عروض الأموال التي هي متاع التجار، قاله مجاهد.
الثاني : أنها الخلاء والبول سمي متاعاً لأنه إمتاع لهم، قاله عطاء.
الثالث : أنه المنافع كلها، قاله قتادة. فلا يلزم الاستئذان في هذه المنازل كلها. قال الشعبي : حوانيت التجار إذنهم أنهم جاءوا ببيوعهم فجعلوها فيها وقالوا للناس : هَلُمّ.
١ هذا على القول بأنها غير متملكة وأن الناس شركاء فيها وأن مكة أخذت عنوة..
﴿قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون﴾ قوله تعالى: ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ﴾ وفي ﴿مِنْ﴾ في هذا الموضع ثلاثة أقوايل: أحدها: أنها صلة وزائدة وتقدير الكلام: قل للمؤمنين يغضوا أبصارهم، قاله السدي. الثاني: أنها مستعملة في مضمر وتقديره، يغضوا أبصارهم عما لا يحل من النظر، وهذا قول قتادة. الثالث: أنها مستعملة في المظهر، لأن غض البصر عن الحلال لا يلزم وإنما يلزم غضها عن الحرام فلذلك دخل حرف التبعيض في غض الأبصار فقال: من أبصارهم، قاله ابن شجرة. ويحرم من النظر ما قصد، ولا تحرم النظرة الأولى الواقعة سهواً. روى الحسن البصري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ابنُ آدَمَ لَكَ النَّظْرَةُ الأَولَى وَعَلَيكَ الثَّانِيَة). ﴿وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ﴾ فيه قولان: أحدهما: أنه يعني بحفظ الفرج عفافه، والعفاف يكون عن الحرام دون المباح ولذلك لم يدخل فيه حرف التبعيض كما دخل غض البصر.
89
الثاني: قاله أبو العالية الرياحي المراد بحفظ الفروج في هذا الموضع سترها عن الأبصار حتى لا ترى، وكل موضع في القرآن ذكر فيه الفرج فالمراد به الزنى إلا في هذا الموضع فإن المراد به الستر، وسميت فروجاً لأنها منافذ الأجواف ومسالك الخارجات.
90
﴿وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون﴾ قوله تعالى: ﴿وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ... ﴾ والزينة ما أدخلته المرأة على بدنها حتى زانها وحسنها في العيون كالحلي والثياب والكحل والخضاب، ومنه قوله تعالى: ﴿خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ قال الشاعر:
(يأخذ زينتهن أحسن ما ترى وإذا عطلن فهن غير عواطل)
والزينة زينتان: ظاهرة وباطنة، فالظاهرة لا يجب سترها ولا يحرم النظر إليها لقوله تعالى: ﴿وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ وفيها ثلاثة أقاويل:
90
أحدها: أنها الثياب، قاله ابن مسعود. الثاني: الكحل والخاتم، قاله ابن عباس، والمسور بن مخرمة. الثالث: الوجه والكفان، قاله الحسن، وابن جبير، وعطاء. وأما الباطنة فقال ابن مسعود: القرط والقلادة والدملج والخلخال، واختلف في السوار فروي عن عائشة أنه من الزينة الظاهرة، وقال غيرها هو من الباطنة، وهو أشبه لتجاوزه الكفين، فأما الخضاب فإن كان في الكفين فهو من الزينة الظاهرة، وإن كان في القدمين فهو من الباطنة، وهذا الزينة الباطنة يجب سترها عن الأجانب ويحرم عليها تعمد النظر إليها فأما ذوو المحارم فالزوج منهم يجوز له النظر والالتذاذ، وغيره من الآباء والأبناء والإخوة يجوز لهم النظر ويحرم عليهم الالتذاذ. روى الحسن والحسين رضي الله عنهما [أنهما] كانا يدخلان على أختهما أم كلثوم وهي تمتشط. وتأول بعض أصحاب الخواطر هذه الزينة بتأويلين: أحدهما: أنها الدنيا فلا يتظاهر بما أوتي منها ولا يتفاخر إلا بما ظهر منها ولم ينستر. الثاني: أنها الطاعة لا يتظاهر بها رياءً إلا ما ظهر منها ولم ينكتم، وهما بعيدان.
91
﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهنَّ﴾ الخمر المقانع أمِرن بإلقائها على صدورهن تغطية لنحورهن فقد كن يلقينها على ظهورهن بادية نحورهن، وقيل: كانت قمصهن مفروجة الجيوب كالدرعة يبدو منها صدروهن فأمرن بإلقاء الخمر لسترها. وكني عن الصدور بالجيوب لأنها ملبوسة عليها. ثم قال: ﴿وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ﴾ يعني الزينة الباطنة إبداؤها للزوج استدعاء لميله وتحريكاً لشهوته ولذلك لعن رسول الله ﷺ السلتاء والمرهاء فالسلتاء التي لا تختضب، والمرهاء التي لا تكتحل تفعل ذلك لانصراف شهوة الزوج عنها فأمرها بذلك استدعاء لشهوته، ولعن ﷺ المفشلة والمسوفة، المسوفة التي إذا دعاها للمباشرة قالت سوف أفعل، والمفشلة التي إذا دعاها قالت إنها حائض وهي غير حائض، وروي عن النبي ﷺ قال: (لُعِنَتِ الغَائِصَةُ وَالمُغَوِّصَةُ) فالغائصة التي لا تعلم زوجها بحيضها حتى يصيبها، والمغوصة التي تدعى أنها حائض ليمتنع زوجها من إصابتها وليست بحائض.
92
واختلف أصحابنا في تعمد كل واحد من الزوجين النظر إلى فرج صاحبه تلذذاً به على وجهين: أحدهما: يجوز كما يجوز الاستمتاع به لقوله تعالى: ﴿هن لباس لكم وأنتم لباس لهن﴾ [البقرة: ١٨٧]. الثاني: لا يجوز لما روي عن النبي ﷺ أنه قال: (لَعَنَ اللَّهُ النَّاظِرَ وَالمَنْظُورَ إِلَيهِ). فأما ما سوى الفرجين منهما فيجوز لكل واحدٍ منهما أن يتعمد النظر إليه من صاحبه وكذلك الأمة مع سيدها. ﴿أَوْءَابَآئِهِنَّ أَوْءَابَآءِ بُعُولَتِهِنَّ﴾ إلى قوله: ﴿أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ﴾ وهؤلاء كلهم ذوو محارم بما ذكر من الأسباب والأنساب يجوز أبداً نظر الزينة الباطنة لهم من غير استدعاء لشهوتهم، ويجوز تعمد النظر من غير تلذذ.
93
والذي يلزم الحرة أن تستر من بدنها مع ذوي محارمها ما بين سرتها وركبتها، وكذلك يلزم مع النساء كلهن أو يستتر بعضهن من بعض ما بين السرة والركبة وهو معنى قوله: ﴿أو نِسَآئِهِنَّ﴾ وفيهن وجهان: أحدهما: أنهن المسلمات لا يجوز لمسلمة أن تكشف جسدها عند كافرة، قاله الكلبي. والثاني: أنه عام في جميع النساء. ثم قاله تعالى: ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ﴾ يعني عبيدهن، فلا يحل للحرة عبدها، وإن حل للرجل أمته، لأن البضع إنما يستحقه مالكه، وبضع الحرة لا يكون ملكاً لعبدها، وبضع الأمة ملك لسيدها. واختلف أصحابنا في تحريم ما بطن من زينة الحرة على عبدها، على ثلاثة أوجه: أحدها: أنها تحل ولا تحرم، وتكون عورتها معه كعورتها مع ذوي محرمها، ما بين السرة والركبة لتحريمه عليها ولاستثناء الله تعالى له مع استثنائه من ذوي محرمها وهو مروي عن عائشة وأم سلمة. والثاني: أنها تحرم ولا تحل وتكون عورتها معه كعورتها مع الرجال والأجانب وهو ما عدا الزينة الظاهرة من جميع البدن إلا الوجه والكفين، وتأول قائل هذا الوجه قوله تعالى: ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ﴾ على الإِماء دون العبيد، وتأوله كذلك سعيد بن المسيب، وعطاء، ومجاهد. والثالث: أنه يجوز أن ينظر إليها فضلاء، كما تكون المرأة في ثياب بيتها بارزة الذراعين والساقين والعنق اعتباراً بالعرف والعادة، ورفعاً لما سبق، وهو قول عبد الله بن عباس، وأما غير عبدها فكالحر معها، وإن كان عبداً لزوجها وأمها.
94
ثم قال تعالى: ﴿أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَة مِنَ الرِّجَالِ﴾ فيه ثمانية أوجه: أحدها: أنه الصغير لأنه لا إرب له في النساء لصغره، وهذا قول ابن زيد. والثاني: أنه العنين لأنه لا إرب له في النساء لعجزه، وهذا قول عكرمة، والشبعي. والثالث: أنه الأبله المعتوه لأنه لا إرب له في النساء لجهالته، وهذا قول سعيد بن جبير، وعطاء. والرابع: أنه المجبوب لفقد إربه، وهذا قول مأثور. والخامس: أنه الشيخ الهرم لذهاب إربه، وهذا قول يزيد بن حبيب. والسادس: أنه الأحمق الذي لا تشتهيه المرأة ولا يغار عليه الرجل، وهذا قول قتادة. والسابع: أنه المستطعم الذي لا يهمه إلا بطنه، وهذا قول مجاهد. والثامن: أنه تابع القوم يخدمهم بطعام بطنه، فهو مصروف لا لشهوة، وهو قول الحسن. وفيما أخذت منه الإربة قولان: أحدها: أنها مأخوذة من العقل من قولهم رجل أريب إذا كان عاقلاً. والثاني: أنها مأخوذة من الأرب وهو الحاجة، قاله قطرب. ثم أقول: إن الصغير والكبير والمجبوب من هذه التأويلات المذكورة في وجوب ستر الزينة الباطنة منهم، وإباحة ما ظهر منها معهم كغيرهم، فأما الصغير فإن لم يظهر على عورات النساء ولم يميز من أحوالهن شيئاً فلا عورة للمرأة معه. [فإِن كان مميزاً غير بالغ] لزم أن تستر المرأة منه ما بين سرتها وركبتها وفي لزوم ستر ما عداه وجهان: أحدهما: لا يلزم لأن القلم غير جار عليه والتكليف له غير لازم. والثاني: يلزم كالرجل لأنه قد يشتهي ويشتهى.
95
وفي معنى قوله تعالى: ﴿أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ﴾ ثلاثة أوجه: الأول: لعدم شهوتهم. والثاني: لم يعرفوا عورات النساء لعدم تمييزهم. والثالث: لم يطيقوا جماع النساء. وأما الشيخ فإن بقيت فيه شهوة فهو كالشباب، فإن فقدها ففيه وجهان: أحدهما: أن الزينة الباطنة معه مباحة والعورة معه ما بين السرة والركبة. والثاني: أنها معه محرمة وجميع البدن معه عورة إلا الزينة الظاهرة، استدامة لحاله المتقدمة. وأما المجبوب والخصي ففيهما لأصحابنا ثلاثة أوجه: أحدها: استباحة الزينة الباطنة معهما. والثاني: تحريمها عليهما. والثالث: إباحتها للمجبوب وتحريمها على الخصي. والعورة إنما سميت بذلك لقبح ظهورها وغض البصر عنها، مأخوذ من عور العين. ثم قال تعالى: ﴿وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ﴾ قال قتادة: كانت المرأة إذا مشت تضرب برجلها ليسمع قعقعة خلخالها، فنهين عن ذلك.
96
ويحتمل فعلهن ذلك أمرين: فإما أن يفعلن ذلك فرحاً بزينتهن ومرحاً وإما تعرضاً للرجال وتبرجاً، فإن كان الثاني فالمنع منه حتم، وإن كان الأول فالمنع منه ندب.
97
﴿وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين﴾ قوله تعالى: ﴿وَأَنكِحُواْ الأَيَامَى مِنكُمْ﴾ وهو جمع أيّم، وفي الأيم قولان: أحدهما: أنها المتوفى عنها زوجها، قاله محمد بن الحسن. الثاني: أنها التي لا زوج لها بكراً كانت أو ثيباً وهو قول الجمهور. يقال رجل أيّم إذا لم تكن له زوجة وامرأة أيّم إذا لم يكن لها زوج. ومنه ما روي عن النبي ﷺ أنه نهى عن الأيمة يعني العزبة قال الشاعر:
(فَإِن تَنْكَحِي أَنكِحْ وإن تَتَأَيَّمِي وإن كُنْتَ أَفْتَى منكُم أَتَأَيَّمُ)
وروى القاسم قال: أمر بقتل الأيم يعني الحية. وفي هذا الخطاب قولان: أحدهما: أنه خطاب للأولياء أن ينكحوا آيامهم من أكفائهن إذا دعون إليه
97
لأنه خطاب خرج مخرج الأمر الحتم فلذلك يوجه إلى الولي دون الزوج. الثاني: أنه خطاب للأزواج أن يتزوجوا الأيامى عند الحاجة. واختلف في وجوبه فذهب أهل الظاهر إليه تمسكاً بظاهر الأمر، وذهب جمهور الفقهاء إلى استحبابه للمحتاج من غير إيجاب وكراهته لغير المحتاج. ثم قال: ﴿وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَآئِكُمْ﴾ فيه وجهان: أحدهما: أن معنى الكلام وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من رجالكم وأنكحوا إماءَكم. الثاني: وهو الأظهر أنه أمر بإنكاح العبيد والإِيماء كما أمرنا بإنكاح الأيامى لاستحقاق السيد لولاية عبده وأمته فإن دعت الأمة سيدها أن يتزوجها لم يلزمه لأنها فراش له، وإن أراد تزويجها كان له خيراً وإن لم يختره ليكتسب رق ولدها ويسقط عنه نفقتها. وإن أراد السيد تزويج عبد أو طلب العبد ذلك من سيده فهل للداعي إليه أن يجبر الممتنع فيهما عليه أم لا؟ على قولين: ﴿إِن يَكُونُوا فُقَرَآءَ يَغْنِهِمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ﴾ فيه وجهان: أحدهما: إن يكونوا فقراء إلى النكاح يغنهم الله به عن السفاح. الثاني: إن يكونوا فقراء إلى المال يغنهم الله إما بقناعة الصالحين، وإما باجتماع الرزقين، وروى عبد العزيز بن أبي رواد أن النبي ﷺ قال: (اطْلُبُواْ الغِنَى فِي هذِهِ الآية) ﴿إِن يَكُونَواْ فُقَرآءَ يُغْنهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ﴾. ﴿وَاللَّهُ وَاسَعٌ عَلِيمٌ﴾ فيه وجهان: أحدهما: واسع العطاء عليم بالمصلحة.
98
الثاني: واسع الرزق عليهم بالخلق. قوله تعالى: ﴿وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً﴾ أي وليعف، والعفة في العرف الامتناع من كل فاحشة، قال رؤبة: يعف عن أسرارها بعد الفسق. يعني عن الزنى بها. ﴿حَتَّى يَغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ﴾ يحتمل وجهين: أحدهما يغنيهم الله عنه بقلة الرغبة فيه. الثاني: يغني بمال حلال يتزوجون به. ﴿وَالَّذيَنَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِم خَيْراً﴾ أما الكتاب المبتغى هنا هو كتابة العبد والأمة على مال إذا أدياه عتقا به وكانا قبله مالكين للكسب ليؤدي في العتق، فإن تراضى السيد والعبد عليها جاز، وإن دعا السيد إليها لم يجبر العبد عليها. وإن دعا العبد إليها ففي إجبار السيد عليها إذ علم فيه خيراً مذهبان: أحدهما: وهو قول عطاء، وداود، يجب على السيد مكاتبته ويجبر إن أبى. الثاني: وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وجمهور الفقهاء أنه يستحب له ولا يجبر عليه فإذا انعقدت الكتابة لزمت من جهة السيد وكان المكاتب فيها مخيراً بين المقام والفسخ. ﴿إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً﴾ خمسة تأويلات: أحدها: أن الخير، القدرة على الاحتراف والكسب، قاله ابن عمر وابن عباس. الثاني: أن الخير: المال، قاله عطاء ومجاهد. الثالث: أنه الدين والأمانة، قاله الحسن.
99
الرابع: أنه الوفاء والصدق، قاله قتادة وطاووس. الخامس: أنه الكسب والأمانة، قاله الشافعي. ﴿وءَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِيءَاتَاكُمْ﴾ فيه قولان: أحدهما: يعني من مال الزكاة من سهم الرقاب يعطاه المكاتب ليستعين به في أداء ما عليه للسيد. ولا يكره للسيد أخذه وإن كان غنياً، قاله الحسن، وإبراهيم وابن زيد. الثاني: من مال المكاتبة معونة من السيد لمكاتبه كما أعانه غيره من الزكاة. واختلف من ذهب إلى هذا التأويل في وجوبه فذهب أبو حنيفة إلى أنه مستحب وليس بواجب، وذهب الشافعي إلى وجوبه وبه قال عمر وعلي وابن عباس. واختلف من قال بوجوبه في هذا التأويل في تقديره فحكي عن علي أنه قدره بالربع من مال الكتابة، وذهب الشافعي إلى أنه غير مقدر، وبه قال ابن عباس. وإن امتنع السيد منه طوعاً قضى الحاكم به عليه جبراً واجتهد رأيه في قدره، وحكم به في تركته إن مات، وحاص به الغرماء إن أفلس. والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم في قول الشافعي وأصحابه، وإذا عجز عن أداء نجم عند محله كان السيد بالخيار بين إنظاره وتعجيزه وإعادته رقاً، ولا يرد ما أخذه منه أو من زكاة أعين بها أو مال كسبه. قال الكلبي وسبب نزول قوله تعالى: ﴿فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُم فِيهِمْ خَيْراً﴾ الآية؛ أن عبداً اسمه صبح لحويطب بن عبد العزى سأله أن يكاتبه فامتنع حويطب فأنزل الله ذلك فيه. قوله تعالى: ﴿وَلاَ تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً﴾ الفتيات
100
الإماء، البغاء الزنى، والتحصن التعفف، ولا يجوز أن يكرهها ولا يمكنها سواء أرادت تعففاً أو لم تُرِدْ. وفي ذكر الإِكراه هنا وجهان: أحدهما: لأن الإِكراه لا يصح إلا فيمن أراد التعفف، ومن لم يرد التعفف فهو مسارع إلى الزنى غير مكره عليه. الثاني: أنه وارد على سبب فخرج النهي على صفة السبب وإن لم يكن شرطاً فيه، وهذا ما روى جابر بن عبد الله أن عبد الله بن أبي بن سلول كانت له أمة يقال لها مسيكة وكان يكرهها على الزنى فزنت ببُرْدٍ فأعطته إياه فقال: ارجعي فازني على آخر: فقال: لا والله ما أنا براجعة وجاءت إلى النبي ﷺ فقالت: إن سيدي يكرهني على البغاء فأنزل الله هذه الآية، وكان مستفيضاً من أفعال الجاهلين طلباً للولد والكسب. ﴿لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ أي لتأخذوا أجورهن على الزنى. ﴿وَمَن يُكْرِههُّنَّ﴾ يعني من السادة. ﴿فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ يعني للأمة المكرهة دون السيد المكرِه.
101
قوله تعالى :﴿ وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً ﴾ أي وليعف. والعفة في العرف الامتناع عن الزنى وإن جاز أن يستعمل في لامتناع من كل فاحشة، قال رؤبة١ :
يعف عن أسرارها بعد الغسق.
يعني عن الزنى بها.
﴿ الذين لا يجدون نكاحا ﴾ يعني لا يقدرون عليه مع الحاجة إليه لإعسار إما بصداق أو نفقة.
﴿ حَتَّى يَغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما يغنيهم الله عنه بقلة الرغبة فيه.
الثاني : يغني بمال حلال يتزوجون به.
﴿ وَالَّذيَنَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِم خَيْراً ﴾ أما الكتاب المبتغى هنا هو كتابة العبد والأمة على مال إذا أدياه عتقا به وكانا قبله مالكين للكسب ليؤدي في العتق، فإن تراضى السيد والعبد عليها جاز، وإن دعا السيد إليها لم يجبر العبد عليها.
وإن دعا العبد إليها ففي إجبار السيد عليها إذ علم فيه خيراً مذهبان :
أحدهما : وهو قول عطاء وداود يجب على السيد مكاتبته ويجبر إن أبى.
الثاني : وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وجمهور الفقهاء أنه يستحب له ولا يجبر عليه فإذا انعقدت الكتابة لزمت من جهة السيد وكان المكاتب فيها مخيراً بين المقام والفسخ.
وفي قوله ﴿ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً ﴾ خمسة تأويلات :
أحدها : أن الخير : القدرة على الاحتراف والكسب، قاله ابن عمر وابن عباس.
الثاني : أن الخير : المال، قاله عطاء ومجاهد.
الثالث : أنه الدين والأمانة، قاله الحسن.
الرابع : أنه الوفاء والصدق، قاله قتادة وطاوس.
الخامس : أنه الكسب والأمانة، قاله الشافعي.
﴿ وآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : يعني من مال الزكاة من سهم٢ الرقاب يعطاه المكاتب ليستعين به في أداء ما عليه للسيد. ولا يكره للسيد أخذه وإن كان غنياً، قاله الحسن وإبراهيم وابن زيد.
الثاني : من مال المكاتبة معونة من السيد لمكاتبه كما أعانه غيره من الزكاة.
واختلف من ذهب إلى هذا التأويل في وجوبه فذهب أبو حنيفة إلى أنه مستحب وليس بواجب، وذهب الشافعي إلى وجوبه وبه قال عمر وعليّ وابن عباس.
واختلف من قال بوجوبه في هذا التأويل في تقديره فحكي عن علي أنه قدره بالربع من مال الكتابة، وذهب الشافعي إلى أنه غير مقدر، وبه قال ابن عباس.
وإن امتنع السيد منه طوعاً قضى الحاكم به عليه جبراً واجتهد رأيه في قدره، وحكم به في تركته إن مات، وحاصّ به الغرماء إن أفلس.
والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم في قول الشافعي وأصحابه. وإذا عجز عن أداء نجم٣ عند محله كان السيد بالخيار بين إنظاره وتعجيزه وإعادته رقاً، ولا يرد ما أخذه منه أو من زكاة أعين بها أو مال كسبه.
قال الكلبي وسبب نزول قوله تعالى :﴿ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُم فِيهِمْ خَيْرا. . ً ﴾ الآية ؛ أن عبداً اسمه صبح لحويطب بن عبد العزى سأله أن يكاتبه فامتنع حويطب فأنزل الله ذلك فيه٤.
قوله تعالى :﴿ وَلاَ تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً ﴾ الفتيات الإماء، البغاء الزنى. والتحصن التعفف. ولا يجوز أن يكرهها ولا يمكنها سواء أرادت تعففاً أو لم تُرِدْ.
وفي ذكر الإِكراه هنا وجهان :
أحدهما : لأن الإِكراه لا يصح إلا فيمن أراد التعفف، ومن لم يرد التعفف فهو مسارع إلى الزنى غير مكره عليه.
الثاني : أنه وارد على سبب فخرج النهي على صفة السبب وإن لم يكن شرطاً فيه، وهذا ما روى جابر بن عبد الله أن عبد الله بن أبيّ بن سلول كانت له٥ أمة يقال لها مسيكة وكان يكرهها على الزنى فزنت ببُرْدٍ فأعطته إياه فقال : ارجعي فازني على آخر فقالت : لا والله ما أنا براجعة وجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إن سيدي يكرهني على البغاء فأنزل الله هذه الآية. وكان مستفيضاً من أفعال الجاهلين طلباً للولد والكسب.
﴿ لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ أي لتأخذوا أجورهن على الزنى.
﴿ وَمَن يُكْرِههُّنَّ ﴾ يعني من السادة.
﴿ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ يعني للأمة المكرهة دون السيد المكرِه.
١ في ش قال الراجز.
٢ سهم: سقطت من ك.
٣ النجم: هنا القسط المدفوع..
٤ وبعد ذلك كاتبه حويطب على مائة دينار ووهب له منها عشرين دينارا فأداها وقتل بحنين في الحرب. ذكره القشيري والنقاش. وقال مكي هو صبيح القبطي غلام حاطب بن أبي بلتعة. والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب..
٥ الذي في صحيح مسلم أنهما جاريتان الأخرى اسمها أميمة..
﴿الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم﴾ قوله تعالى: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّموَاتِ وَالأَرْضِ﴾ فيه أربعة أقاويل:
101
أحدها: معناه الله هادي السموات والأرض، قاله ابن عباس، وأنس. الثاني: الله مدبر السموات والأرض، قاله مجاهد. الثالث: الله ضياء السموات والأرض، قاله أُبي. الرابع: منور السموات والأرض. فعلى هذا فبما نورهما به ثلاثة أقاويل: أحدها: الله نور السموات بالملائكة ونور الأرض بالأنبياء. الثاني: أنه نور السموات بالهيبة ونور الأرض بالقدرة. الثالث: نورهما بشمسها وقمرها ونجومها، قاله الحسن، وأبو العالية. ﴿مَثَلُ نُورِهِ﴾ فيه أربعة أقاويل: أحدها: مثل نور الله، قاله ابن عباس. الثاني: مثل نور محمد ﷺ، قاله ابن شجرة. الثالث: مثل نور المؤمن، قاله أُبي. الرابع: مثل نور القرآن، قاله سفيان. فمن قال: مثل نور المؤمن، يعني في قلب نفسه، ومن قال: مثل نور محمد، يعني في قلب المؤمن، ومن قال: نور القرآن، يعني في قلب محمد. ومن قال: نور الله، فيه قولان: أحدهما: في قلب محمد. الثاني: في قلب المؤمن. ﴿كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ﴾ فيه خمسة أقاويل: أحدها: أن المشكاة كوة لا منفذ لها والمصباح السراج، قاله كعب الأحبار. الثاني: المشكاة القنديل والمصباح الفتيلة، قاله مجاهد. الثالث: المشكاة موضع الفتيلة من القنديل الذي هو كالأُنبوب، والمصباح الضوء قاله ابن عباس. الرابع: المشكاة الحديد الذي به القنديل وهي التي تسمى السلسلة
102
والمصباح هو القنديل، وهذا مروي عن مجاهد أيضاً. الخامس: أن المشكاة صدر المؤمن والمصباح القرآن الذي فيه والزجاجة قلبه، قاله أُبَي، قال الكلبي: والمشكاة لفظ حبشي معرب. ﴿الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ﴾ فيه قولان: أحدهما: يعني أن نار المصباح في زجاجة القنديل لأنه فيها أضوأ، وهو قول الأكثرين. الثاني: أن المصباح القرآن والإِيمان، والزجاجة قلب المؤمن، قاله أُبَي. ﴿كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ﴾ أما الكوكب ففيه قولان: أحدهما: أنه الزهرة خاصة، قاله الضحاك. الثاني: أنه أحد الكواكب المضيئة من غير تعيين، وهو قول الأكثرين. وأما درّي ففيه أربع قراءات. إحداها: دُريّ بضم الدال وترك الهمز وهي قراءة نافع وتأويلها أنه مضيء يشبه الدر لضيائه ونقائه. الثانية: بالضم والهمز وهي قراءة عاصم في رواية أبي بكر وتأويلها أنه مضيء. الثالثة: بكسر الدال وبالهمز وهي قراءة أبي عمرو والكسائي وتأويلها أنه متدافع لأنه بالتدافع يصير منقضاً فيكون أقوى لضوئه مأخوذ من درأ أي دفع يدفع. الرابعة: بالكسر وترك الهمز وهي قراءة المفضل بن عاصم، وتأويلها أنه جار كالنجوم الدراري الجارية من درّ الوادي إذا جرى. ﴿يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ﴾ فيه قولان:
103
أحدهما: يعني بالشجرة المباركة إبراهيم والزجاجة التي كأنها كوكب دري محمد صلى الله عليه وسلم، وهو مروي عن ابن عمر. الثاني: أنه صفة لضياء المصباح الذي ضربه الله مثلاً يعني أن المصباح يشعل من دهن شجرة زيتونة. ﴿مُّبَارَكَةٍ﴾ في جعلها مباركة وجهان: أحدهما: لأن الله بارك في زيتون الشام فهو أبرك من غيره. الثاني: لأن الزيتون يورق غصنه من أوله إلى آخره وليس له في الشجر مثيل إلا الرمان. قال الشاعر:
(بُورِكَ الْمَيْتُ الغَرِيبُ كَمَا بُو رِكَ نَضْرُ الرُّمَّانِ والزَّيْتُونِ)
﴿زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ﴾ فيه سبعة أقاويل: أحدها: أنها ليست من شجرة الشرق دون الغرب ولا من شجرة الغرب دون الشرق لأن ما اختص بأحد الجهتين أقل زيتاً وأضعف، ولكنها شجر ما بين الشرق والغرب كالشام لاجتماع القوتين فيه، وهو قول ابن شجرة وحكي عن عكرمة. ومنه قولهم: لا خير في المتقاة والمضحاة، فالمتقاة أسفل الوادي الذي لا تصيبه الشمس، والمضحاة رأس الجبل الذي لا تزول عنه الشمس. الثاني: أنها ليست بشرقية تستر عن الشمس في وقت الغروب ولا بغربية تستر عن الشمس وقت الطلوع بل هي بارزة للشمس من وقت الطلوع إلى وقت الغروب فيكون زيتها أقوى وأضوأ، قاله قتادة. الثالث: أنها وسط الشجرة لا تنالها الشمس إذا طلعت ولا إذا غربت وذلك أضوأ لزيتها، قاله عطية.
104
الرابع: أنها ليس في شجر الشرق ولا في شجر الغرب مثلها، حكاه يحيى ابن سلام. الخامس: أنها ليست من شجر الدنيا التي تكون شرقية أو غربية، وإنما هي من شجر الجنة، قاله الحسن. السادس: أنها مؤمنة لا شرقية ولا غربية، أي ليست بنصرانية تصلي إلى الشرق، ولا غربية أي ليست بيهودية تصلي إلى الغرب، قاله ابن عمر. السابع: أن الإِيمان ليس بشديد ولا لين لأن في أهل الشرق شدة، وفي أهل الغرب لينٌ. ﴿يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ﴾ فيه أربعة أقاويل: أحدها: أن صفاء زيتها كضوء النار وإن لم تمسسه نار، ذكره ابن عيسى. الثاني: أن قلب المؤمن يكاد أن يعرف قبل أن يتبين له لموافقته له، قاله يحيى بن سلام. الثالث: يكاد العلم يفيض من فم العالم المؤمن من قبل أن يتكلم به. الرابع: تكاد أعلام النبوة تشهد لرسول الله ﷺ قبل أن يدعو إليها. ﴿نُّورٌ عَلَى نُورٍ﴾ فيه ستة أقاويل: أحدها: يعني ضوء النار على ضوء الزيت على ضوء الزجاجة، قاله مجاهد. الثاني: نور النبوة على نور الحكمة، قاله الضحاك. الثالث: نور الزجاجة على نور الخوف. الرابع: نور الإِيمان على نور العمل. الخامس: نور المؤمن فهو حجة الله، يتلوه مؤمن فهو حجة الله حتى لا تخلو الأرض منهم. السادس: نور نبي من نسل نبي، قاله السدي. ﴿يَهْدِي لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ﴾ فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: يهدي الله لدينه من يشاء من أوليائه، قاله السدي.
105
الثاني: يهدي الله لدلائل هدايته من يشاء من أهل طاعته. الثالث: يهدي الله لنبوته من يشاء من عباده. ﴿وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ﴾ الآية. وفيما ضربت هذه الآية مثلاً فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها مثل ضربه الله للمؤمن في وضوح الحق له. الثاني: أنها مثل ضربه الله لطاعته فسى الطاعة نوراً لتجاوزها عن محلها. الثالث: ما حكاه ابن عباس أن اليهود قالوا: يا محمد كيف يخلص نور الله من دون السماء فضرب الله ذلك مثلاً لنوره.
106
﴿في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب﴾ قوله: ﴿فِي بُيُوتٍ﴾ في هذه البيوت قولان: أحدهما: أنها المساجد، قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد. الثاني: أنها سائر البيوت، قاله عكرمة. ﴿أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ﴾ أربعة أوجه: أحدها: أن تُبْنَى، قاله مجاهد كقوله: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ﴾ أي يبني. الثاني: أنها تطهر من الأنجاس والمعاصي، حكاه ابن عيسى. الثالث: أن تعظم، قاله الحسن. الرابع: أن ترفع فيها الحوائج إلى الله.
106
﴿وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ﴾ فيها ثلاثة أقاويل: أحدها: يتلى فيها كتابه، قاله ابن عباس. الثاني: تذكر فيها أسماؤه الحسنى، قاله ابن جرير. الثالث: توحيده بأن لا إله غيره، قاله الكلبي. وفيما يعود إليه ذكر البيوت التي أذن الله أن ترفع قولان: أحدهما: إلى ما تقدم من قوله: كمشكاة فيها مصباح في بيوت أذن الله. الثاني: إلى ما بعده من قوله: ﴿يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا﴾ وفي هذا التسبيح قولان: أحدهما: أنه تنزيه الله. الثاني: أنه الصلاة، قاله ابن عباس والضحاك. ﴿بالْغَدُوِّ وَالآصَالِ﴾ الغدو جمع غَدوة والآصال جمع أصيل وهي العشاء. ﴿رِجالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ﴾ قال الكلبي: التجار هم الجلاب المسافرون، والباعة هم المقيمون. ﴿عَن ذِكْرِ اللَّهِ﴾ فيه وجهان: أحدهما: عن ذكره بأسمائه الحسنى. الثاني: عن الأذان، قاله يحيى بن سلام. ﴿تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبِ وَالأبْصَارُ﴾ فيه خمسة أوجه: أحدها: يعني تقلبها على حجر جهنم. الثاني: تقلب أحوالها بأن تلفحها النار ثم تنضجها وتحرقها. الثالث: أن تقلب القلوب وجيبها، وتقلب الأبصار النظر بها إلى نواحي الأهوال. الرابع: أن تقلب القلوب بلوغها الحناجر، وتقلب الأبصار الزّرَق بعد الكحل، والعمى بعد البصر.
107
الخامس: أن الكافر بعد البعث ينقلب قلبه على الكفر إلى الإيمان وينقلب بصره عما كان يراه غياً فيراه رشداً. ﴿لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ﴾ فذكر الجزاء على الحسنات ولم يذكر الجزاء على السيئات وإن كان يجازى عليها لأمرين: أحدهما: أنه ترغيب فاقتصر على ذكر الرغبة. الثاني: أنه يكون في صفة قوم لا تكون منهم الكبائر فكانت صغائرهم مغفورة. ﴿وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ﴾ يحتمل وجهين: أحدهما: ما يضاعفه من الحسنة بعشر أمثالها. الثاني: ما يتفضل به من غير جزاء. ﴿وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ فيه أربعة أوجه: أحدها: بغير جزاء بل يسديه تفضلاً. الثاني: غير مقدر بالكفاية حتى يزيد عليها. الثالث: غير قليل ولا مضيق. الرابع: غير ممنون به. وقيل لما نزلت هذه الآية أمر رسول الله ﷺ ببناء مسجد قباء فحضر عبد الله بن رواحة فقال: يا رسول الله قد أفلح من بنى المساجدا؟ قال: (نَعَمْ يَا ابْنَ رَوَاحَةَ) قال، وصلى فيها قائماً وقاعداً قال: (نَعَمْ يَا ابْنَ رَوَاحَةِ) قال: ولم يبت لله إلا ساجداً؟ قال: (نَعَمْ يَا ابْنَ رَوَاحَةَ. كُفّ عَنِ السَّجْعِ فَمَا أُعْطِيَ عَبْدٌ شَيئاً شَرّاً مِن طَلاَقَةِ لِسَانِهِ).
108
﴿ رِجالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ قال الكلبي : التجار هم الجلاب المسافرون، والباعة هم المقيمون.
﴿ عَن ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : عن ذكره بأسمائه الحسنى.
الثاني : عن الأذان، قاله يحيى بن سلام. ﴿ تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبِ وَالأبْصَارُ ﴾ فيه خمسة أوجه :
أحدها : يعني تقلبها على حجر جهنم.
الثاني : تقلب أحوالها بأن تلفحها النار ثم تنضجها وتحرقها.
الثالث : أن تقلب القلوب وجيبها، وتقلب الأبصار النظر بها إلى نواحي الأهوال.
الرابع : أن تقلب القلوب بلوغها الحناجر، وتقلب الأبصار الزّرَق بعد الكحل، والعمى بعد البصر.
الخامس : أن الكافر بعد البعث يتقلب قلبه عن الكفر إلى الإيمان وينقلب بصره عما كان يراه غياً فيراه رشداً.
﴿ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا ﴾ فذكر الجزاء على الحسنات ولم يذكر الجزاء على السيئات وإن كان يجازى عليها لأمرين :
أحدهما : أنه ترغيب فاقتصر على ذكر الرغبة.
الثاني : أنه يكون في صفة قوم لا تكون منهم الكبائر فكانت صغائرهم مغفورة.
﴿ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : ما يضاعفه من الحسنة بعشر أمثالها.
الثاني : ما يتفضل به من غير جزاء.
﴿ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ فيه أربعة أوجه :
أحدها : بغير جزاء بل يسديه تفضلاً.
الثاني : غير مقدر بالكفاية حتى يزيد عليها.
الثالث : غير قليل ولا مضيق.
الرابع : غير ممنون به.
وقيل لما نزلت هذه الآية أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء مسجد قباء فحضر عبد الله بن رواحة فقال : يا رسول الله قد أفلح من بنى المساجدا ؟ قال :" نَعَمْ يَا ابْنَ رَوَاحَةَ "، قال : وصلى فيها قائماً وقاعدا ؟ً قال :" نَعَمْ يَا ابْنَ رَوَاحَةِ " قال : ولم يبت لله إلا ساجداً ؟ قال :" نَعَمْ يَا ابْنَ رَوَاحَةَ. كُفّ عَنِ السَّجْعِ فَمَا أُعْطِيَ عَبْدٌ شَيئاً شَرّاً مِن طَلاَقَةِ في لِسَانِهِ ".
{والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات
108
بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور} قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أََعَمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بقِيعَةٍ﴾ أما السراب فهو الذي يخيل لمن رآه في الفلاة كأنه الماء الجاري قال الشاعر:
(فَلَمَّا كَفَفْنَا الْحَرْبَ كَانَتْ عُهُودُهُمْ كَلَمْعِ سَرَابٍ بِالْفَلاَ مُتَأَلِّق)
والآل كالسراب إلا أنه يرتفع عن الأرض في وقت الضحى حتى يصير كأنه بين الأرض والسماء، وقيل: إن السراب بعد الزوال والآل قبل الزوال والرقراق بعد العصر وأما القيعة فجمع قاع مثل جيرة وجار، والقاع ما انبسط من الأرض واستوى. ﴿يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً﴾ يعني العطشان يحسب السراب ماءً. ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً﴾ وهذا مثل ضربه الله للكافر يعول على ثواب عمله فإذا قدم على الله وجد ثواب عمله بالكفر حابطاً. ﴿وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ﴾ فيه وجهان: أحدهما: وجد أمر الله عند حشره. الثاني: وجد الله عند عرضه. ﴿فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ﴾ يحتمل وجهين: أحدهما: ووجد الله عند عمله فجازاه على كفره. والثاني: وجد الله عند وعيده فوفى بعذابه ويكون الحساب على الوجهين معاً محمولاً على العمل، كما قال امرؤ القيس:
(فوّلَّى مُدْبِراً وَأيْقَنَ أنَّه لاَقِى الْحِسَابَا)
﴿وَاللَّهُ سَرِيع الْحِسَابِ﴾ يحتمل وجهين: أحدهما: لأن حسابه آت وكل آت سريع.
109
الثاني: لأنه يحاسب جميع الخلق في وقت سريع. قيل إن هذه الآية نزلت في شيبة بن ربيعة وكان يترهب في الجاهلية ويلبس الصوف ويطلب الدين فكفر في الإِسلام. قوله: ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ﴾ الظلمات: ظلمة البحر وظلمة السحاب وظلمة الليل. وفي قوله لجيّ ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه البحر الواسع الذي لا يرى ساحله، حكاه ابن عيسى. الثاني: أنه البحر الكثير الموج، قاله الكلبي. الثالث: أنه البحر العميق، وهذا قول قتادة، ولجة البحر وسطه، ومنه ما روي عن النبي ﷺ أنه قال: (مَنْ رَكِبَ البَحْرَ إِذَا الْتَجَّ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ) يعني إذا توسطه. ﴿يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ﴾ يحتمل وجهين: أحدهما: يغشاه موج من فوق الموج ريح، من فوق الريح سحاب فيجمع خوف الموج وخوف الريح وخوف السحاب. الثاني: معناه يغشاه موج من بعده فيكون المعنى الموج بعضه يتبع بعضاً حتى كأنه بعضه فوق بعض وهذا أخوف ما يكون إذا توالى موجه وتقارب، ومن فوق هذا الموج سحاب وهو أعظم للخوف من وجهين: أحدهما: أنه قد يغطي النجوم التي يهتدى بها. الثاني: الريح التي تنشأ مع السحاب والمطر الذي ينزل منه. ﴿ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ﴾ يحتمل وجهين:
110
أحدهما: أن يريد الظلمات التي بدأ بذكرها وهي ظلمة البحر وظلمة السحاب وظلمة الليل. الثاني: يعني بالظلمات الشدائد أي شدائد بعضها فوق بعض. ﴿إِذَا أخْرَجَ يَدَه لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا﴾ فيه وجهان: أحدهما: معناه أنه رآها بعد أن كاد لا يراها، حكاه ابن عيسى. الثاني: لم يرها ولم يكد، قاله الزجاج، وهو معنى قول الحسن. وفي قوله لم يكد وجهان: أحدهما: لم يطمع أن يراها. الثاني: لم يرها ويكاد صلة زائدة في الكلام. ﴿ومَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهَ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ﴾ فيه وجهان: أحدهما: ومن لم يجعل الله له سبيلاً إلى النجاة في الآخرة فما له من سبيل إليها حكاه ابن عيسى. الثاني: ومن لم يهده الله للإِسلام لم يهتد إليه، قاله الزجاج. وقال بعض أصحاب الخواطر وجهاً ثالثاً: ومن لم يجعل الله نوراً له في وقت القسمة فما له من نور في وقت الخلقة. ويحتمل رابعاً: ومن لم يجعل الله له قبولاً في القلوب لم تقبله القلوب. وهذا المثل ضربه الله للكافر، فالظمات ظلمة الشرك وظلمة الليل وظلمة المعاصي، والبحر اللجي قلب الكافر، يغشاه من فوقه عذاب الدنيا، فوقه عذاب الآخرة.
111
قوله :﴿ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ ﴾ الظلمات : ظلمة البحر وظلمة السحاب وظلمة الليل.
وفي قوله لجيّ ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه البحر الواسع الذي لا يرى ساحله، حكاه ابن عيسى.
الثاني : أنه البحر الكثير الموج، قاله الكلبي.
الثالث : أنه البحر العميق، وهذا قول قتادة، ولجة البحر وسطه، ومنه ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" مَنْ رَكِبَ البَحْرَ إِذَا الْتَجَّ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ " يعني إذا توسطه.
﴿ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ﴾ [ ١يحتمل وجهين :
أحدهما : يغشاه موج من فوق الموج ريح، من فوق الريح سحاب ] فيجمع خوف الموج وخوف الريح وخوف السحاب.
الثاني : معناه يغشاه موج من بعده فيكون المعنى الموج بعضه يتبع بعضاً حتى كأن بعضه فوق بعض وهذا أخوف ما يكون إذا توالى موجه وتقارب، ومن فوق هذا الموج سحاب وهو أعظم للخوف من وجهين :
أحدهما : أنه قد يغطي النجوم التي يهتدى بها.
الثاني : الريح التي تنشأ مع السحاب والمطر الذي ينزل منه.
﴿ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يريد الظلمات التي بدأ بذكرها وهي ظلمة البحر وظلمة السحاب وظلمة الليل.
الثاني : يعني بالظلمات الشدائد أي شدائد بعضها فوق بعض.
﴿ إِذَا أخْرَجَ يَدَه لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : معناه أنه رآها بعد أن كاد لا يراها، حكاه ابن عيسى.
الثاني : لم يرها ولم يكد، قاله الزجاج وهو معنى قول الحسن.
وفي قوله لم يكد وجهان :
أحدهما : لم يطمع أن يراها.
الثاني : لم يرها ويكاد صلة زائدة في الكلام.
﴿ ومَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهَ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : ومن لم يجعل الله له سبيلاً إلى النجاة في الآخرة فما له من سبيل إليها، حكاه ابن عيسى.
الثاني : ومن لم يهده الله للإِسلام لم يهتد إليه، قاله الزجاج.
وقال بعض أصحاب الخواطر وجهاً ثالثاً : ومن لم يجعل الله نوراً له في وقت القسمة فما له من نور في وقت الخلقة.
ويحتمل رابعاً : ومن لم يجعل الله له قبولاً في القلوب لم تقبله القلوب.
وهذا المثل ضربه الله للكافر، فالظلمات ظلمة الشرك وظلمة الليل وظلمة المعاصي، والبحر اللجي قلب الكافر. يغشاه من فوقه عذاب الدنيا، فوقه عذاب الآخرة.
١ ما بين الزاويتين سقط من ش..
﴿ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون ولله ملك السماوات والأرض وإلى الله المصير﴾
111
قوله تعالى: ﴿وَالطَّيْرُ صَآفَاتٍ﴾ أي مصطفة الأجنحة في الهواء. ﴿كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ﴾ فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن الصلاة للإِنسان والتسبيح لما سواه من سائر الخلق، قاله مجاهد. الثاني: أن هذا في الطير وإن ضرب أجنحتها صلاة وأن أصواتها تسبيح، حكاه النقاش. الثالث: أن للطير صلاة ليس فيها ركوع ولا سجود، قاله سفيان. ثم فيه قولان: أحدهما: أن كل واحد منهم قد علم صلاته وتسبيحه. الثاني: أن الله قد علم صلاته وتسبيحه.
112
﴿ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار﴾ قوله تعالى: ﴿يُزْجِي سَحَاباً﴾ فيه وجهان: أحدهما: ينزله قليلاً بعد قليل، ومنه البضاعة المزجاة لقلتها. الثاني: أنه يسوقه إلى حيث شاء ومنه زجا الخراج إذا انساق إلى أهله قال النابغة:
(إِنِّي أتَيْتُكَ من أَهْلِي ومنْ وَطَنِي أُزْجِي حُشَاشَةَ نَفْسٍ ما بِها رَمَقٌ)
﴿ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ﴾ أي يجمعه ثم يفرقه عند انتشائه ليقوى ويتصل.
112
﴿ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً﴾ أي يركب بعضه بعضاً. ﴿فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ﴾ فيه قولان: أحدهما: أن الودق البرق يخرج من خلال السحاب قال الشاعر:
(أثرن عجاجة وخرجن منها خروج الودق من خلَلَ السحاب)
وهذا قول أبي الأشهب: الثاني: أنه المطر يخرج من خلال السحاب، وهو قول الجمهور، ومنه قول الشاعر:
(فلا مزنة ودقت ودقها ولا أرض أبقل أبقالها)
﴿وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَآءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ﴾ فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن في السماء جبال برد فينزل من تلك الجبال ما يشاء فيصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء. الثاني: أنه ينزل من السماء برداً يكون كالجبال. الثالث: أن السماء السحاب، سماه لعلوه، والجبال صفة السحاب أيضاً سمي جبالاً لعِظمه فينزل منه برداً يصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء فتكون إصابته نقمة وصرفه نعمة. ﴿يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ﴾ فيه ثلاثة أوجه: أحدها: صوت برقه. الثاني: ضوء برقه، قاله يحيى بن سلام ومنه قول الشماخ.
(وما كادت إذا رفعت سناها ليبصر ضوءها إلاّ البصير)
الثالث: لمعان برقه، قاله قتادة والصوت حادث عن اللمعان كما قال امرؤ القيس:
113
(يضي سناه أو مصابيح راهب أمال السليط بالذبال المفتل)
فيكون البرق دليلاً على تكاثف السحاب، ونذيراً بقوة المطر، ومحذراً من نزول الصواعق. قوله تعالى: ﴿يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيلَ وَالنَّهَارَ﴾ فيه ثلاث أوجه: أحدها: هو أن يأتي بالليل بعد النهار ويأتي بالنهار بعد الليل، حكاه ابن عيسى. الثاني: أن ينقص من الليل ما يزيد من النهار وينقص من النهار ما يزيد في الليل، حكاه يحيى بن سلام. الثالث: أنه يغير النهار بظلمة السحاب تارة وبضوء الشمس أخرى، ويغير الليل بظلمة السحاب مرة وبضوء القمر مرة، حكاه النقاش. ويحتمل رابعاً: أن يقلبها باختلاف ما يقدر فيهما من خير وشر ونفع وضر.
114
قوله تعالى :﴿ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيلَ وَالنَّهَارَ ﴾ فيه ثلاث أوجه :
أحدها : هو أن يأتي بالليل بعد النهار ويأتي بالنهار بعد الليل، حكاه ابن عيسى.
الثاني : أن ينقص من الليل ما يزيد من النهار وينقص من النهار ما يزيد في الليل، حكاه يحيى ابن سلام.
الثالث : أنه يغير النهار بظلمة السحاب تارة وبضوء الشمس أخرى، ويغير الليل بظلمة السحاب مرة وبضوء القمر مرة، حكاه النقاش.
ويحتمل رابعاً : أن يقلبها باختلاف ما يقدر فيهما من خير وشر ونفع وضر.
﴿والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير لقد أنزلنا آيات مبينات والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم﴾ قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبّةٍ مِّن مَّاءٍ﴾ فيه قولان: أحدهما: أن أصل الخلق من ماء ثم قلب إلى النار فخلق منها الجن، وإلى النور فخلق منها الملائكة، وإلى الطين فخلق منه من خلق وما خلق، حكاه ابن عيسى. الثاني: أنه خالق كل دابة من ماء النطفة، قاله السدي. ﴿فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ﴾ كالحية والحوت. ﴿وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رَجْلَينِ﴾ الإِنسان والطير. ﴿وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ﴾ كالمواشي والخيل، ولم يذكر ما يمشي،
114
ولم يذكر ما يمشى على أكثر من أربع لأنه كالذي يمشي على أربع لأنه يعتمد في المشي على أربع.
115
﴿ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون﴾ قوله تعالى: ﴿وَإِذَا دُعُواْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ﴾ هذه الآية نزلت في بشر، رجلٌ من المنافقين كان بينه وبين رجل من اليهود خصومة فدعاه اليهودي إلى النبي ﷺ ودعاه بشر إلى كعب بن الأشرف لأن الحق إذا كان متوجهاً على المنافق إلى غير رسول الله ﷺ ليسقط عنه، وإذا كان له حاكم إليه ليستوفيه منه فأنزل الله هذه الآية. وقيل: إنها نزلت في المغيرة بن وائل من بني أمية كان بينه وبين علي كرم الله وجهه خصومة في ماء وأرض فامتنع المغيرة أن يحاكم علياً إلى رسول الله ﷺ وقال: إنه يبغضني، فنزلت هذه الآية. ﴿وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ﴾ فيه أربعة أوجه: أحدهما: طائعين، حكاه ابن عيسى. الثاني: خاضعين، حكاه النقاش. الثالث: مسرعين، قاله مجاهد.
115
الرابع: مقرنين، قاله الأخفش وفيها دليل على أن من دعي إلى حاكم فعليه الإِجابة ويحرج إن تأخر. وقد روى أبو الأشهب عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ دُعِيَ إِلَى حَاكِمٍ مِنَ المُسْلِمِينَ فَلَمْ يُجِبْ فَهُوَ ظَالِمٌ لاَ حَقَّ لَهُ). ثم قال: ﴿أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾ فيه قولان: أحدهما: شرك، قاله الحسن. الثاني: نفاق، قاله قتادة.
116
﴿أَمِ ارْتَابُواْ﴾ أي شكوا ويحتمل وجهين: أحدهما: في عدل رسول الله صلى الله عليه وسلم. الثاني: في نبوته.
117
قوله تعالى :﴿ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ ﴾ هذه الآية نزلت في بشر، رجلٌ من المنافقين كان بينه وبين رجل من اليهود خصومة فدعاه اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ودعاه بشر إلى كعب بن الأشرف لأن الحق إذا كان متوجهاً على المنافق دعا إلى غير رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسقط عنه، وإذا كان له حاكم إليه ليستوفيه منه فأنزل الله هذه الآية.
وقيل : إنها نزلت في المغيرة بن وائل من بني أمية كان بينه وبين عليّ كرم الله وجهه خصومة في ماء وأرض فامتنع المغيرة أن يحاكم علياً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : إنه يبغضني فنزلت هذه الآية.
﴿ وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يأتوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ﴾ فيه أربعة أوجه :
أحدهما : طائعين، حكاه ابن عيسى.
الثاني : خاضعين، حكاه النقاش.
الثالث : مسرعين، قاله مجاهد.
الرابع : مقرنين، قاله الأخفش وفيها دليل على أن من دعى إلى حاكم فعليه الإِجابة ويحرج إن تأخر.
وقد روى أبو الأشهب عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" مَنْ دُعِيَ إِلَى حَاكِمٍ مِنَ المُسْلِمِينَ فَلَمْ يُجِبْ فَهُوَ ظَالِمٌ لاَ حَقَّ لَهُ ".
ثم قال :﴿ أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : شرك، قاله الحسن.
الثاني : نفاق، قاله قتادة.
﴿ أَمِ ارْتَابُوا ﴾ أي شكوا ويحتمل وجهين :
أحدهما : في عدل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الثاني : في نبوته.
﴿وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة إن الله خبير بما تعملون قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين﴾ قوله تعالى: ﴿قُل لاَّ تُقْسِمُواْ طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ﴾ يحتمل وجهين: أحدهما: طاعة صادقة خير من أيمان كاذبة. الثاني: قد عرف نفاقكم في الطاعة فلا تتجملوا بالأيمان الكاذبة. قوله تعالى: ﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ﴾ أي أعرضوا عن الرسول. ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ﴾ أي عليه ما حمل من إبلاغكم، وعليكم ما حملتم من طاعته. ويحتمل وجهاً ثانياً: أن عليه ما حمل من فرض جهادكم، وعليكم ما حملتم من وزر عباده. ﴿وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ﴾ يعني إلى الحق. ﴿وَمَا عَلَى الرَّسُولَِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ﴾ يعني بالقول لمن أطاع وبالسيف لمن عصى.
قوله تعالى :﴿ فإن تولوا ﴾ أي أعرضوا عن الرسول.
﴿ فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم ﴾ أي عليه ما حمل من إبلاغكم، وعليكم ما حملتم من طاعته.
ويحتمل وجها ثانيا : أن عليه ما حمل من فرض جهادكم، وعليكم ما حملتم من وزر عباده.
﴿ وإن تطيعوه تهتدوا ﴾ يعني إلى الحق.
( وما على الرسول إلا البلاغ المبين ) يعني بالقول لمن أطاع وبالسيف لمن عصى.
{وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر
117
بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض ومأواهم النار ولبئس المصير} قوله تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَءَامَنُواْ مِنكُمْ وَعِمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ليَسَتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ﴾ فيه قولان: أحدهما: يعني أرض مكة، لأن المهاجرين سألوا الله ذلك، قاله النقاش. والثاني: بلاد العرب والعجم، قاله ابن عيسى. روى سليم بن عامر عن المقدام بن الأسود قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: (لاَ يَبْقَى عَلَى الأَرْضِ بَيْتُ حَجَرٍ وَلاَ مَدَرٍ وَلاَ وَبَرٍ إِلاَّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ كَلِمَةَ الإِسْلاَمِ بِعزٍّ عَزِيزٍ أَوْ ذُلٍّ ذَلِيلٍ، إما يعزهم فيجعلهم من أهلها، وإما يذلهم فيدينون لها). ﴿كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ فيه قولان: أحدهما يعني بني إسرائيل في أرض الشام. الثاني: داود وسليمان. ﴿وَلَيُمَكِنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ﴾ يعني دين الإِسلام وتمكينه أن يظهره على كل دين. ﴿وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِم أَمْناً﴾ لأنهم كانوا مطلوبين فطلبوا، ومقهورين فقهروا.
118
﴿يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً﴾ فيه أربعة أوجه: أحدها: لا يعبدون إلهاً غيري، حكاه النقاش. الثاني: لا يراءون بعبادتي أحداً. الثالث: لا يخافون غيري، قاله ابن عباس. الرابع: لا يحبون غيري، قاله مجاهد. قال الضحاك: هذه الآية في الخلفاء الأربعة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي رضي الله عنهم وهم الأئمة المهديون، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الخِلاَفَةُ بَعْدِي ثَلاَثونَ سَنَةً).
119
﴿يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم حكيم والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن والله سميع عليم﴾ قوله تعالى: ﴿لَيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيَمَانُكُم﴾ فيهم قولان:
119
أحدهما: أنهم النساء يستأذنَّ في هذه الأوقات خاصة ويستأذن الرجال في جميع الأوقات، قاله ابن عمر. الثاني: أنهم العبيد والإِماء. وفي المعنى بالاستئذان ثلاثة أقاويل: أحدها: العبد دون الأمة يستأذن على سيده في هذه الأوقات الثلاثة، قاله ابن عمر، ومجاهد. الثاني: أنها الإِماء لأن العبد يجب أن يستأذن أبداً في هذه الأوقات وغيرها، قاله ابن عباس. الثالث: أنه على عمومه في العبد والأمة، قاله أبو عبد الرحمن السلمي. ﴿وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُواْ الحُلُمَ مِنْكُم﴾ هم الصغار الأحرار فمن كان منهم غير مميز لا يصف ما رأى فليس من أهل الاستئذان ومن كان مميزاً يصف ما رأى ويحكي ما شاهد فهو المعني بالاستئذان. ﴿ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِّن قَبْلِ صَلاَةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثَيَابَكُمْ مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلاَةِ الْعِشَآءِ﴾ وهذه الساعات الثلاث هي أوقات الاستئذان من تقدم ذكره ولا يلزمهم الاستئذان في غيرها من الأوقات، فذكر الوقت الأول وهو من قبل صلاة الفجر وهو من بعد الاستيقاظ من النوم إلى صلاة الصبح، ثم ذكر الوقت الثاني فقال: ﴿وَحِينَ تَضَعُونَ﴾ وهو وقت الخلوة لنومة القائلة، ثم ذكر الوقت الثالث فقال: ﴿وَمِن بَعْدِ صَلاَةِ الْعَشَآءِ﴾ يعني الآخرة وقد تسميها العامة العتمة وسميت العشاء لأن ظلام وقتها يعشي البصر. وإنما خص هذه الأوقات الثلاثة لأنها أوقات خلوات الرجل مع أهله ولأنه ربما بدا فيها عند خلوته ما يكره أن يرى من جسده، فقد روي أن عمر بن الخطاب كان في منزله وقت القائلة فأنفذ إليه رسول الله ﷺ بصبي من أولاد الأنصار يقال له مدلج فدخل على عمر بغير إذن وكان نائماً فاستيقظ عمر بسرعة فانكشف شيء من جسده فنظر إليه الغلام فحزن عمر فقال: وددت لو أن الله بفضله نهى أبناءنا عن الدخول علينا في هذه الساعات إلا بإذننا ثم انطلق إلى النبي ﷺ فوجد هذه الآية قد أنزلت فخرَّ ساجداً [شكراً لله].
120
﴿ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ﴾ يعني هذه الساعات الثلاث هي أوقات العورات فصارت من عورات الزمان فجرت مجرى عورات الأبدان فلذلك خصت بالإِذن. ﴿لَيْسَ عَلَيْكَمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جَنَاحٌ بَعْدَهُنَّ﴾ فيه وجهان: أحدهما: يعني ليس عليكم يا أهل البيوت جناح في تبذلكم في هذه الأوقات. الثاني: ليس عليكم جناح في منعهم في هذه الأوقات. ولا على المملوكين والصغار جناح في ترك الاستئذان فيما سوى هذه الأوقات. ﴿طَوَّافُونَ عَلَيْكَم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ يعني أنهم طوّافون عليكم للخدمة لكم فلم ينلهم حرج في دخول منازلكم، والطوافون الذين يكثرون الدخول والخروج. ثم أوجب على من بلغ من الصبيان الاستئذان إذا احتلموا وبلغوا لأنهم صاروا بالبلوغ في حكم الرجال فقال تعالى: ﴿وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنكُم الحُلُمَ فَلْيَسْتَأَذِنُواْ كَمَا اسْتَأَْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم﴾ يعني الرجال. قوله: ﴿وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَآءِ﴾ والقواعد جمع قاعدة وهن اللاتي قعدن بالكبر عن الحيض والحمل ولا يحضن ولا يلدن. قال ابن قتيبة: بل سمين بذلك لأنهن بعد الكبر يكثر منهن القعود. وقال زمعة: لا تراد، فتقعد عن الاستمتاع بها والأول أشبه. قال الشاعر:
(فلو أن ما في بطنه بين نسوة حبلن ولو كان القواعد عقراً)
وقوله: ﴿الَّلاتِي لاَ يَرْجُونَ نَكَاحاً﴾ أي أنهن لأجل الكبر لا يردن الرجال ولا يريدهن الرجال. ﴿فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جَنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ﴾ فيه قولان: أحدهما: جلبابها وهو الرداء الذي فوق خمارها فتضعه عنها إذا سترها باقي ثيابها قاله ابن مسعود وابن جبير. الثاني: خمارها ورداؤها، قاله جابر بن زيد.
121
﴿غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتِ بِزِينَةٍ﴾ والتبرج أن تظهر من زينتها ما يستدعي النظر إليها فإنه في القواعد وغيرهن محظور. وإنما خص القواعد بوضع الجلباب لانصراف النفوس عنهن ما لم يبد شيء من عوراتهن. والشابات المشتهيات يمنعن من وضع الجلباب أو الخمار ويؤمرن بلبس أكثف الجلابيب لئلا تصفهن ثيابهن. وقد روى مجاهد عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لِلزَّوْجِ مَا تَحْتَ الدِّرْعِ، وَلِلإِبْنِ وَالأَخِ مَا فَوقَ الدِّرْعِ، وَلِغَيْرِ ذِي مُحْرِمٍ أَرْبَعَةُ أَثْوَابٍ: دِرْعٍ وَخِمَارٍ وَجِلْبَابٍ وَإِزَارٍ). ﴿وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ﴾ يعني إن يستعفف القواعد عن وضع ثيابهن ويلزمن لبس جلابيبهن خير لهن من وضعها وإن سقط الحرج عنهن فيه.
122
﴿ وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنكُم الحُلُمَ فَلْيَسْتَأَذِنُوا كَمَا استأذن الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم ﴾ يعني الرجال.
قوله :﴿ وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ ﴾ والقواعد جمع قاعدة وهن اللاتي قعدن بالكبر عن الحيض والحمل ولا يحضن ولا يلدن. قال ابن قتيبة : بل سمين بذلك لأنهن بعد الكبر يكثر منهن القعود. وقال زمعة : لا تراد، فتقعد عن الاستمتاع بها والأول أشبه قال الشاعر :
فلو أن ما في بطنه بين نسوة حبلن ولو كان القواعد عقراً
وقوله :﴿ الَّلاتِي لاَ يَرْجُونَ نَكَاحاً ﴾ أي أنهن لأجل الكبر لا يردن الرجال ولا يريدهن الرجال.
﴿ فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جَنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : جلبابها وهو الرداء الذي فوق خمارها فتضعه عنها إذا سترها باقي ثيابها، قاله ابن مسعود وابن جبير.
الثاني : خمارها ورداؤها، قاله جابر بن زيد.
﴿ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتِ بِزِينَةٍ ﴾ والتبرج أن تظهر من زينتها ما يستدعي النظر إليها فإنه في القواعد وغيرهن محظور. وإنما خص القواعد بوضع الجلباب لانصراف النفوس عنهن ما لم يبد شيء من عوراتهن. والشابات المشتهيات يمنعن من وضع الجلباب أو الخمار ويؤمرن بلبس أكثف الجلابيب لئلا تصفهن ثيابهن. وقد روى مجاهد عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لِلزَّوْجِ مَا تَحْتَ الدِّرْعِ، وَلِلإِبْنِ وَالأَخِ مَا فَوقَ الدِّرْعِ، وَلِغَيْرِ ذِي مُحْرِمٍ أَرْبَعَةُ أَثْوَابٍ : دِرْعٍ وَخِمَارٍ وَجِلْبَابٍ وَإِزَارٍ ".
﴿ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ ﴾ يعني إن يستعفف القواعد عن وضع ثيابهن ويلزمن لبس جلابيبهن خير لهن من وضعها وإن سقط الحرج عنهن فيه.
﴿ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون﴾ قوله تعالى: ﴿لَّيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ﴾ فيه خمسة أقاويل: أحدها: أن الأنصار كانوا يتحرجون أن يؤاكلوا هؤلاء إذا دعوا إلى الطعام فيقولون: الأعمى لا يبصر أطيب الطعام، والأعرج لا يستطيع الزحام عند الطعام،
122
والمريض يضعف عن مشاركة الصحيح في الطعام. وكانوا يقولون: طعامهم مفرد ويرون أنه أفضل من أن يكونوا شركاء، فأنزل الله هذه الآية فيهم ورفع الحرج عنهم في مؤاكلتهم، قاله ابن عباس، والضحاك، والكلبي. الثاني: أنه ليس على هؤلاء من أهل الزمانة حرج أن يأكلوا من بيوت من سمى الله بعد هذا من أهاليهم، قاله مجاهد. الثالث: أنه كان المذكورون من أهل الزمانة يخلفون الأنصار في منازلهم إذا خرجواْ بجهاد وكانوا يتحرجون أن يأكلوا منها فرخص الله لهم في الأكل من بيوت من استخلفوهم فيها، قاله الزهري. الرابع: أنها نزلت في إسقاط الجهاد عمن ذكروا من أهل الزمانة. الخامس: ليس على من ذكر من أهل الزمانة حرج إذا دُعِي إلى وليمة أن يأخذ معه قائده، وهذا قول عبد الكريم. ﴿وَلاَ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ﴾ فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: من أموال عيالكم وأزواجكم لأنهم في بيته. الثاني: من بيوت أولادكم فنسب بيوت الأولاد إلى بيوت أنفسهم لقوله صلى الله عليه وسلم: (أَنتَ وَمَالُكَ لأَبِيكَ) ولذلك لم يذكر الله بيوت الأبناء حين ذكر بيوت الآباء والأقارب اكتفاء بهذا الذكر. الثالث: يعني بها البيوت التي هم ساكنوها خدمة لأهلها واتصالاً بأربابها كالأهل والخدم. ﴿أَوْ بُيُوتِءَابَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاَتِكُمْ﴾ فأباح الأكل من بيوت هؤلاء لمكان النسب من غير استئذانهم في الأكل إذا كان الطعام
123
مبذولاً، فإن كان محروزاً دونهم لم يكن لهم هتك حرزه. ولا يجوز أن يتجاوزوا الأكل إلى الادخار، ولا إلى ما ليس بمأكول وإن كان غير محروز عنهم إلا بإذن منهم ثم قال: ﴿أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ﴾ فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه عَنَى به وكيل الرجل وَقيِّمه في ضيعته يجوز له أن يأكل مما يقوم عليه من ثمار ضيعته، قاله ابن عباس. الثاني: أنه أراد منزل الرجل نفسه يأكل مما ادخره، قاله قتادة. الثالث: أنه عنى به أكل السيد من منزل عبده وماله لأن مال العبد لسيده، حكاه ابن عيسى. ﴿أَوْ صَدِيقِكُمْ﴾ فيه قولان: أحدهما: أنه يأكل من بيت صديقه في الوليمة دون غيرها. الثاني: أنه يأكل من منزل صديقه في الوليمة وغيرها إذا كان الطعام حاضراً غير محرز. قال ابن عباس: الصديق أكثر من الوالدين، ألا ترى أن الجهنميين لم يستغيثوا بالآباء ولا الأمهات وإنما قالوا: ﴿فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ﴾ وروي عن النبي ﷺ أنه قال: (قَدْ جَعَلَ اللَّهُ فِي الصَّدِيقِ البَارِّ عِوَضَاً عَنِ الرَّحِمِ المَذْمُومَةِ) والمراد بالصديق الأصدقاء وهو واحد يعبر به عن الجميع، قال جرير:
(دعون الهوى ثم ارتمين قلوبنا. . بأسهم أعداءٍ وهن صديقُ)
وفي الصديق قولان: أحدهما: أنه الذي صدقك عن مودته. الثاني: أنه الذي يوافق باطنه باطنك كما وافق ظاهره ظاهرك. ثم اختلفوا في نسخ ما تقدم ذكره بعد ثبوت حكمه على قولين: أحدهما: أنه على ثبوته لم ينسخ شيء منه، قاله قتادة.
124
الثاني: أنه منسوخ بقوله تعالى: ﴿لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ﴾ الآية. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل مَالُ امْرِىءْ مُسْلِمٍ إلاَّ بِطِيبِ نَفْسٍ مِنهُ) قال تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً﴾ فيه أربعة أوجه: أحدها: أنها نزلت في بني كنانة كان رجل منهم يرى أن مُحرَّماً عليه أن يأكل وحده في الجاهلية حتى أن الرجل ليسوق الزود الحفل وهو جائع حتى يجد من يؤاكله ويشاربه، فأنزل فيهم هذه الآية، قاله قتادة وابن جريج. الثاني: أنها نزلت في قوم من العرب كان الرجل منهم إذا نزل به ضيف تحرج أن يتركه يأكل وحده حتى يأكل معه، فنزل ذلك فيهم، قال أبو صالح. الثالث: أنها نزلت في قوم كانوا يتحرجون أن يأكلوا جميعاً ويعتقدون أنه ذنب ويأكل كل واحد منهم منفرداً، فنزل ذلك فيهم، حكاه النقاش. الرابع: أنها نزلت في قوم مسافرين اشتركوا في أزوادهم فكان إذا تأخر أحدهم أمسك الباقون عن الأكل حتى يحضر، فنزل ذلك فيهم ترخيصاً للأكل جماعة وفرادى. ﴿فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتاً﴾ فيها قولان:
125
: أحدهما: أنه المساجد. الثاني: أنها جميع البيوت. ﴿فَسَلِّمُواْ عَلَى أَنفُسِكُمْ﴾ فيه خمسة أقاويل: أحدها: يعني إذا دخلتم بيوت أنفسكم فسلموا على أهاليكم وعيالكم، قاله جابر. الثاني: إذا دخلتم المساجد فسلموا على من فيها، وهذا قول ابن عباس. الثالث: إذا دخلتم بيوت غيركم فسلموا عليهم، قاله الحسن. الرابع: إذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أهل دينكم، قاله السدي. الخامس: إذا دخلتم بيوتاً فارغة فسلموا على أنفسكم وهو أن يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، قاله ابن عمر، وإبراهيم، وأبو مالك، وقيل: سلامه على نفسه أن يقول: السلام علينا من ربنا تحية من عند الله. وإذا سلم الواحد من الجماعة أجزأ عن جميعهم، فإذا دخل الرجل مسجداً ذا جمع كثير سلم يسمع نفسه، وإذا كان ذا جمع قليل أسمعهم أو بعضهم. قال الحسن: كان النساء يسلمن على الرجال ولا يسلم الرجال على النساء، وكان ابن عمر يسلم على النساء، ولو قيل لا يسلم أحد الفريقين على الآخر كان أولى لأن السلام مواصلة. ﴿تَحِيَّةً مِنْ عِندِ اللَّهِ﴾ فيه أربعة أقاويل: أحدها: يعني أن السلام اسم من أسماء الله تعالى. الثاني: أن التحية بالسلام من أوامر الله. الثالث: أن الرد عليه إذا سلم دعاء له عند الله. الرابع: أن الملائكة ترد عليه فيكون ثواباً من عند الله. ﴿مُبَارَكَةً﴾ فيها وجهان: أحدهما: لما فيها من الثواب الجزيل.
126
الثاني: لما يرجى من ثواب الدعاء. ﴿طَيِّبَةً﴾ يحتمل وجهين: أحدهما: لما فيها من طيب العيش بالتواصل. الثاني: لما فيها من طيب الذكر والشأن.
127
﴿إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم﴾ قوله تعالى: ﴿.... وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ﴾ فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أن الأمر الجامع الجمعة والعيدان والاستسقاء وكل شيء يَكون فيه الخطبة، قاله يحيى بن سلام. الثاني: أنه الجهاد، قاله زيد بن أسلم. الثالث: طاعة الله، قاله مجاهد. ﴿لَّمْ يَذْهَبُواْ حَتَّى يَسْتَئْذِنُوهُ﴾ أي لم ينصرفوا عنه حتى يستأذنوا رسول الله ﷺ فيه. ﴿فَإِذَا اسْتَئذَنُوكَ لبَعْضِ شَأْنِهِمْ....﴾ الآية. وهذا بحسب ما يرى من أعذارهم ونياتهم وروي أن هذا نزل في عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان مع النبي صلى الله عليهم وسلم في غزاة بتوك فاستأذنه في الرجوع إلى أهله فقال: (انْطَلِقْ فَوَاللَّهِ مَا أَنتَ بِمُنَافِقٍ وَلاَ مُرْتَابٍ) وكان المنافقون إذا استأذنوا نظر إليهم ولم يأذن لهم فكان بعضهم يقول لبعض: محمدٌ يزعم أنه بُعِث بالعدل وهكذا يصنع بنا. ﴿وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ﴾ يعني لمن أذن له من المؤمنين ليزول عنه باستغفاره ملامة الانصراف قال قتادة: وهذه الآية ناسخة قوله تعالى: ﴿عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَدِنتَ لَهُم﴾ الآية.
﴿لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ألا إن لله ما في السماوات والأرض قد يعلم ما أنتم عليه ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا والله بكل شيء عليم﴾ قوله تعالى: ﴿لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُم بَعْضاً﴾ الآية. فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه نهي من الله عن التعرض لدعاء رسول الله ﷺ بإسخاطه لأن دعاءه يوجب العقوبة وليس كدعاء غيره، قاله ابن عباس. الثاني: أنه نهي من الله عن دعاء رسول الله بالغلظة والجفاء وَلْيَدْعُ بالخضوع والتذلل: يا رسول الله، يا نبي الله، قاله مجاهد، وقتادة. الثالث: أنه نهي من الله عن الإِبطاء عند أمره والتأخر عند استدعائه لهم إلى الجهاد ولا يتأخرون كما يتأخر بعضهم عن إجابة بعض، حكاه ابن عيسى. ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً﴾ فيه قولان: أحدهما: أنهم المنافقون كانوا يتسلّلُون عن صلاة الجمعة لواذاً أي يلوذ بعضهم ببعض ينضم إليه استتاراً من رسول الله ﷺ لأنه لم يكن على المنافقين أثقل من يوم الجمعة وحضور الخطبة فنزل ذلك فيهم، حكاه النقاش. الثاني: أنهم كانوا يتسللون في الجهاد رجوعاً عنه يلوذ بعضهم ببعض لواذاً فنزل ذلك فيهم، قاله مجاهد. وقال الحسن معنى قوله: ﴿لِوَاذاً﴾ أي فراراً من الجهاد، ومنه قول حسان ابن ثابت:
128
(وقريش تجول منكم لواذاً لم تحافظ وخفّ منها الحلوم)
﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ﴾ فيه قولان: أحدهما: يخالفون عن أمر الله، قاله يحيى بن سلام. الثاني: عن أمر رسول الله ﷺ، قاله قتادة. ومعنى قوله: ﴿يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ﴾ أي يعرضون عن أمره، وقال الأخفش: ﴿عَنْ﴾ في هذا الموضع زائدة ومعنى الكلام فليحذر الذين يخالفون أمره، وسواء كان ما أمرهم به من أمور الدين أو الدنيا. ﴿أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ﴾ فيها ثلاثة تأويلات: أحدها: كفر، قاله السدي. الثاني: عقوبة، قاله ابن كامل. الثالث: بلية تُظْهِرُ ما في قلوبهم من النفاق، حكاه ابن عيسى. ﴿أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ فيه قولان: أحدهما: القتل في الدنيا، قاله يحيى بن سلام. الثاني: عذاب بجهنم في الآخرة.
129
سورة الفرقان
مكية كلها قال ابن عباس وقتادة: إلا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة وهي: ﴿والذين لا يدعون﴾ إلى قوله: ﴿غفورا رحيما﴾. بسم الله الرحمن الرحيم
130
Icon