تفسير سورة آل عمران

التفسير القرآني للقرآن
تفسير سورة سورة آل عمران من كتاب التفسير القرآني للقرآن المعروف بـالتفسير القرآني للقرآن .
لمؤلفه عبد الكريم يونس الخطيب . المتوفي سنة 1390 هـ

٣- سورة آل عمران
اسمها: سورة آل عمران، ومن أسمائها: «الزهراء». وتسمى هى والبقرة: الزهراوين.
نزولها: نزلت بالمدينة.. بعد البقرة، والأنفال.
عدد آياتها: مائتا آية.
عدد كلماتها: ثلاثة آلاف وأربعمائة وثمانون كلمة.
عدد حروفها: أربعة عشر ألفا وخمسمائة وخمسة وعشرون حرفا.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الآية: (١) [سورة آل عمران (٣) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (١)
ذكرنا فى أول سورة البقرة ما يقال عن المراد من الحروف التي بدئت بها بعض السور فى القرآن الكريم
الآيات: (٢- ٤) [سورة آل عمران (٣) : الآيات ٢ الى ٤]
اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٤)
التفسير: جملة «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» صفة لله، «والْحَيُّ» صفة ثانية، و «الْقَيُّومُ» صفة ثالثة.
فالله سبحانه وتعالى الموصوف بالتفرّد بالألوهية، السرمدية الأبدية، التي لم
393
يسبقها ولا يلحقها عدم، وبالقيومية المبسوط سلطانها على كل شىء، القائم أمرها على كل شىء- هذا الإله هو الذي نزل الكتاب على محمد- صلوات الله وسلامه عليه- فمن هذا المقام الكريم الذي لا يطاول ولا يسامى كان متزّل هذا الكتاب الكريم، الذي يقول فيه المشركون والمنافقون- زورا وبهتانا- إنه من معطيات محمد، تلقاه من أصحاب العلم من أهل الكتاب، ولقنه من مدارسة الدارسين.. كما حكى القرآن الكريم ذلك عنهم فى قوله تعالى: «إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ» (١٠٣: النحل) وقوله سبحانه: «وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» (٥: الفرقان) وقد جاء هذا القرآن بالحقّ الذي لا مرية فيه، لأنه من ربّ العالمين، جاء مصدقا لما سبقه من الكتب السماوية، لأنها جميعها من مصدر واحد، جاءت من الحق بالحق كما يقول سبحانه: «وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ» (١٠٥: الإسراء) والله سبحانه الذي أنزل القرآن بالحق، هو الذي أنزل التوراة والإنجيل من قبل هدّى للناس، وأنزل الفرقان أي القرآن كذلك هدى للناس.
فالذين يكفرون بآيات الله التي أنزلها الله على رسله، وأودعها كتبه، لهم عذاب شديد، أعده الله لهم يوم القيامة، ولن يعصمهم من الله عاصم- ولن تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا، «وَاللَّهُ عَزِيزٌ» عزّ سلطانه، وقد اعتز هؤلاء السفهاء بسفههم، فتطاولوا على حماه، وكفروا بآياته، واستخفوا بها. «ذو انتقام» يأخذ بنقمته من استخف بعزته! وفى الآيتين الكريمتين مسائل، منها:
أولا: قوله تعالى: «نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ» فيه إشارة إلى أن القرآن
394
الكريم نزل منجما أي مفرقا، يدل على هذا شاهد التاريخ، كما يدل عليه هذا اللفظ «نزّل» الذي يفيد الحركة والتفرق، بخلاف «أنزل» الذي يدل على الثبوت والوحدة.
ثانيا: قوله تعالى: «مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ» لم تذكر الكتب التي بين يدى القرآن، وإن كان المراد بها التوراة والإنجيل، وذلك الإطلاق إنما ليشمل جميع الكتب والصحف المنزلة على الأنبياء جميعا. ما بقي منها وما لم يبق، وما ذكر وما لم يذكر، لأنها جميعها من مورد الحق، يصدّق بعضها بعضا.
وإذا نظرنا إلى الكتب المنزلة، حسب واقعها التاريخىّ نجد أن القرآن الكريم هو الذي بين يدى الكتب السماوية، وليست هى التي بين يديه، لأنه جاء إلى هذا الوجود تاليا لها، لا سابقا عليها.
ولكن الكتب السماوية ليست أحداثا حادثة، وإنما هى وقائع فى علم الله، موجودة من الأزل، شأنها شأن جميع ما فى علم الله، وظهورها وانكشافها لنا يجىء موقوتا بإرادة الله مقدورا بحكمته.. ففى سير الأحداث من سجل الغيب وظهورها على مسرح حياتنا، نجد أن الكتب السماوية جميعها تقدمت القرآن الكريم، واحدا واحدا، والسابق منها بين يدى اللاحق، وبهذا التقدير تقع جميعها بين يدى القرآن! وليس الأمر كذلك فى حركة التاريخ، حيث تطوى الأحداث التي تجدّ، فكل حدث جديد فى هذه الحركة يمشى على آثار الحدث الذي مضى، ويخلّفه وراءه..
وحركة الزمن ليست على تلك الصورة، إنها حركة واحدة، أشبه بحركة القطار.. والأحداث محمولة على جزئيات هذا الامتداد الزمنى، كما يحمل الأشخاص والأشياء فى عربات القطار، والمتقدم منها يظل دائما متقدما بين يدى المتأخر!
395
وننظر إلى القرآن الكريم فى هذا الوضع فنجده وقد أخذ مكانه من الكتب السماوية، كمصدر إشعاع لها، ومركز انطلاق لكلمات الله منها، يرسل كل حين شعاعات من نور الله، إلى عباد، الله على يد رسل الله، ويقدمها بين يديه، وكأنها تمهد له الطريق، وتهيىء له الأفق الذي يستقبله، حين يطلع على الناس بشعلته المقدسة، ويملأ الوجود بنوره القدسىّ..
وعلى ضوء هذا التصوّر يمكن أن نفهم قول الله تعالى:
«وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ» (٤٨: المائدة).
فهذه الهيمنة إنما تكون لقوة هى مصدر لتلك القوى النابعة منها، المستندة إليها، فيكون لها بهذا الوضع مكان الرقابة عليها، والضبط لخط سيرها..
ثالثا: ومن الهيمنة التي للقرآن على الكتب السماوية التي بين يديه أنه هو المصدّق لها، الشاهد الذي ترى فى أضوائه وفى أحكامه، وأخباره وآدابه- آيات صدقها، وأنها من مورد هذا الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، إذ ليس بعد شهادة القرآن شهادة، ولا وراء الحق الذي يقوله حق، وإنه سيظل قائما هكذا إلى يوم القيامة، معجزة تنحدى الناس جميعا، أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور مثله، أو بسورة من مثله،..
«وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» (٢٣: البقرة) ومن كان هذا شأنه، وذلك إعجازه فله أن يقول، وعلى الناس أن يسمعوا، وله أن يحكم، وعلى الناس أن ينزلوا على حكمه، طوعا أو كرها..
رابعا: قوله تعالى: «وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ» بعد قوله تعالى: «نَزَّلَ
396
عَلَيْكَ الْكِتابَ»
. وذلك لاختلاف المقامين، فالله سبحانه هو الذي أنزل الفرقان، ونسبة هذا الخبر إلى الله سبحانه وتعالى هنا هي نسبة مجردة، لا يراد بها غير إثبات الحكم الذي تضمنه الخبر، وهو أنه تعالى هو الذي أنزل القرآن.. أما الخبر فى قوله تعالى «نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ» فليس مرادا به مجرد النسبة إلى الله تعالى، بل وبيان الصورة التي نزل عليها الكتاب الكريم، وأنه نزل على النبي مفرقا ولم ينزل جملة واحدة.
الآيتان: (٥، ٦) [سورة آل عمران (٣) : الآيات ٥ الى ٦]
إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦)
التفسير: هنا استعراض لقدرة الله، وكشف لمظاهر هذه المقدرة، فيما أبدعت وصورت، من آيات مبثوثة فى ملكوت السموات والأرض! فهذه القدرة محيطة بكل شىء، عالمة بكل شىء، وهو سبحانه خالق كل شىء، فما من شىء إلّا وهو من فيض صنعه وتدبيره، فكيف لا يعلم ما خلق؟
«أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» (١٤: الملك) ومن شواهد قدرة الله، وسلطان علمه، تلك العملية التي تتخلق منها الكائنات الحية، والتي من بعض كائناتها الجنس البشرى! فهذا الإنسان، الذي يفور كيانه عظمة وكبرياء. حتى ليكاد يطاول الإله فى عظمته وكبريائه- هذا الإنسان نشأ على يد القدرة، وتنقّل فى أطوار الخلق، من عدم إلى وجود.. وفيما بين العدم والوجود قطع مراحل طويلة، وتقلب فى صور شتى.. من نطفة، إلى علقة، إلى مضغة، إلى عظام عارية، إلى عظام يكسوها اللحم، إلى كائن له سمع وبصر وشم وذوق.. كل هذا وهو فى عالم
مطبق عليه.. «فى ظلمات ثلاث» فى بطن أمه، فإذا خرج من هذا العالم إلى عالم الناس.. تنقل فى أطوار.. من الطفولة، إلى الصبا، إلى الشباب، إلى الاكتهال، والشيخوخة..
فأين أول الإنسان من آخره؟ وأين النطفة من الطفل؟ وأين الطفل من الشاب؟ « «أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً» (٦٧: مريم).
وقوله تعالى: «هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ» يشير إلى مالله سبحانه من شأن، فى تقدير خلقنا، وتحديد أرزاقنا، وأوضاعنا فى الحياة، حيث اختلفت صور الناس، وتباينت حظوظهم، حسب إرادة الله وتقديره.. فكل إنسان منا هو عالم مستقل بدأته، دائر فى الفلك المقدور له.
الآية: (٧) [سورة آل عمران (٣) : آية ٧]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٧)
التفسير: اختلف الأئمة المفسرون فى هذه الآية، وتضاربت آراؤهم فى مواضع كثيرة منها.. فى الآيات المتشابهة.. ما هى؟ وما مدلول التشابه هذا؟
ومن هم المقصودون بقوله تعالى: «الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ؟ وهل الوقف على
398
لفظ الجلالة فى قوله تعالى: «وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ» ؟ أم يعطف عليه قوله سبحانه «وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ» ؟ وهل الواو هنا للعطف أم للاستئناف؟
وفى الإجابة على أي سؤال من هذه الأسئلة، عشرات من الأجوبة التي يذهب كل منها مذهبا غير مذهب صاحبه! وندع كل هذا، وننظر فى الآية الكريمة نظرا مباشرا، يصافح وجهها المشرق، ويتملّى بيانها المبين..
ونقف قليلا عند قوله تعالى: «وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ» ونطلب المعنى اللغوي لكلمة «التأويل».
وإذ ننظر فى معاجم اللغة.. لا نجد فيها ما يشفى.. إذ لا تبعد كثيرا عن معنى التفسير، أو التخريج، وقد يراها بعضهم هى والتفسير سواء، فلا فرق عندهم بين التفسير والتأويل.
والقرآن الكريم- وهو الحجة على اللغة، وليست اللغة حجة عليه- يفرق بين التأويل والتفسير، ويجعل لكل منهما مجالا لا يعمل فيه الآخر.
يستعمل القرآن الكريم «التأويل» للأمور الخفيّة الغامضة، التي يخفى ظاهرها ما ضمّ عليه باطنها، من أمور محجبة وراء هذا الظاهر.. وبين الظاهر غير المراد والباطن المراد بون شاسع، وبعد بعيد، لا يبلغه إلا بصر ذوى البصائر، ممن رضى الله عنهم، ورفعهم إلى هذا المقام الكريم، الذي يطلعون منه على ماوراء الحجب من علم الله.
ذكر القرآن الكريم أن هذا المقام الكريم- مقام التأويل- كان ليوسف عليه السّلام، فقال تعالى: «وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ» (٢١ يوسف). وقال تعالى:
399
«وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ» (٦: يوسف) وقال سبحانه على لسان يوسف: «رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ» (١٠١: يوسف) وقال سبحانه على لسانه أيضا: «يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ» (١٠٠: يوسف) وقال تعالى على لسان صاحبى السجن «نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ» (٣٦: يوسف) وقال سبحانه على لسان يوسف: «لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي» (٣٧: يوسف) وقال تعالى على لسان أصحاب فرعون: «وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ» (٤٤: يوسف). وقال تعالى على لسان أحد صاحبى السجن، وهو الذي نجا: «أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ» (٤٥:
يوسف).
وكما كان ليوسف هذا العلم الذي فضل الله عليه به، فكشف بهذا العلم ما وراء تلك الحجب من الأزمنة والأمكنة.. كان ذلك العلم أيضا للعبد الصالح صاحب موسى عليهما السلام- والذي يقول لله تعالى فيه: «فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً» (٦٥: الكهف).
وفى صحبة موسى للعبد الصالح، رأى موسى العجب فى أمور كان يأتيها العبد الصالح بين يديه، فتجرى فى وضع مقلوب، كما يبدو ذلك فى مستوى النظر الطبيعي للناس، بينما هى- فى حقيقة أمرها- تسير فى أعدل وجه وأحسنه! كما ظهر ذلك منها، حين كشف العبد الصالح لموسى، عما وراء هذا الظاهر غير المستقيم، أو بمعنى أوضح، حين كشف له عن حجاب الزمن، وأراه مسيرتها، والنهاية التي تنتهى إليها، وما تؤول إليه عاقبة أمرها.
400
وفى هذا يقول العبد الصالح لموسى- بعد أن حجز موسى عن السير ممه فى هذا الطريق- فى هذا يقول، كما قال القرآن على لسانه: «هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً» (٧٨: الكهف) هذا ما ورد فى القرآن الكريم من لفظ «التأويل» وهو فى جميع موارده لم يستعمل إلا فى الكشف عن أمور غامضة، متخفية وراء ستر، تحول بين الناظر إليها وبينها.. وهى- كما نرى فى سورة يوسف- أحلام.. هى رموز إلى أشياء وأحداث، لم يستطع قراءتها وفك رموزها إلا يوسف عليه السلام.. أو هى كما نرى فى مسيرة العبد الصالح مع موسى، أضغاث أحلام من أحلام اليقظة.. لا يكاد المرء يصحو، حتى ينكرها، وينفض أطيافها المحوّمة أمام عينيه.
فالتأويل على هذا هو فك طلاسم ورموز، يقف الناس جميعا أمامها حائرين، ويقول فيها كل إنسان يقول، وينظر كل ناظر إليها بنظر.. وهيهات أن يلتقى قول بقول، أو يقع نظر على نظر! فكل ما يقال فيها هو رجم بالغيب، إلا من علّمه الله تأويل الأحاديث! وقد آن لنا بعد هذا أن ننظر فى الآية الكريمة:
فقوله تعالى: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ».
يبيّن الأسلوب الذي جاءت عليه آيات القرآن.. فمنه الآيات المحكمة، وهى التي تنطق بدلالتها نطقا واضحا محددا لا يقبل التخريج أو التأويل.. وهذه الآيات هى التي تحمل أحكام الشريعة.. من صلاة وصيام، وزكاة، وحج، كقوله
401
تعالى: «وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ» وقوله سبحانه: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» وقوله: «وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا». وكذلك الآيات التي تتعلق بالإيمان بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والجنة والنار.. لأن هذه أمور إن حملها نص غير واضح الدلالة محدد المفهوم- أوقع الناس فى لبس وخلاف، وذهب كلّ فيها مذهبا، ففرقوا دين الله، وتفرقوا فيه، وهو الذي من شأنه أن يجمعهم عليه، وأن يجتمعوا هم على كلمة سواء فيه.
فهذا المحكم من آيات الكتاب الكريم، يعطى دلالته، محددة واضحة، لأول نظرة فيه.
وهناك آيات متشابهة، تحتمل وجوها من التأويل والتخريج.. وسنعرض لها بعد قليل.
وبين الآيات المحكمة والآيات المتشابهة آيات ليست من هذه أو تلك، ليست محدّدة الدلالة، ولا مغلقة المفهوم.. بل يمكن- مع النظر السليم- أن ينكشف مدلولها، ويتحدد مفهومها، وذلك هو معظم القرآن، فيما جاء فى الأخلاقيات وفى الأحكام الجزئية. ذلك أن القرآن الكريم لم يجىء على الأسلوب العلمي، الذي يصبّ قواعد العلم ومقرراته فى قوالب لفظية جامدة، لا تنفتح إلا على حكم واحد لا شىء بعده، بل جاء القرآن على أسلوب أدبى رفيع، استولى على قمة الفن الأدبى، بلا منازع، وهذا الأسلوب مهما كان من الدّقة والإحكام لا يمكن أن ينضبط على القالب العلمي، ولا أن تحمل ألفاظه أحكاما صامتة- مغلقة- مثل ما تحمل ألفاظ الأسلوب العلمي، بل تجىء الأحكام فى هذا الأسلوب مغلّقة فى غلائف رقيقة مشعّة، تومىء إلى المعنى
402
ولا تكشفه، وتتخافت به ولا تجهر! وهذا ما يجعل للقرآن الكريم حياة متجددة فى العقول وفى القلوب، لا يمل مرتله الترتيل أبدا، إذ يجد لما يعاود ترتيله روحا فى كل مرّة، ووجها جديدا في كل ترتيلة..
ونعود إلى المتشابه.. ما هو؟ وأين هو فى القرآن؟ وما الحكمة منه؟
المتشابه- كما قلنا- هو المغلق، الذي لا ينكشف للنظر، بل يتراءى لمعطيات الحدس والرجم بالغيب، أشبه بالأحلام وأضغاث الأحلام التي يتأولها المتأولون، ويقول فيها القائلون! وليس يعلم قولة الحق فيها إلا علّام الغيوب.. ذلك هو المتشابه.
أما أين هو فى القرآن.. فإنا إذا نظرنا فى كتاب الله، فيما بين أوله وآخره نجد أن قوله تعالى: «وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ» يلفتنا لفتا قويا إلى هذا المتشابه، وهو تلك الأحرف المتقطعة التي تبدأ بها بعض سور القرآن الكريم، مثل «الم، الر، المر، كهيعص، طس، طسم... » فهذه الأحرف هى التي يقف أمامها دارس القرآن حائرا، لا يدرى لها مفهوما، إلا أن يكون ذلك بضرب من الحدس والتخمين، ولهذا كثرت فيها تأويلات المتأولين، إلى أن جاوزت السبعين قولا فيها، بل ويمكن أن نزاد هذه الأقوال إلى مئات، بل وتتسع لألوف، دون أن يكون قول أحق فيها من قول، أو أولى بالقبول والتسليم.. إذ كل الأقوال هى اجتهاد شخصى، كالحدس عن شىء داخل صندوق مغلق، ولهذا كان أعدل قول فيها وأصدقه هو القول: «الله أعلم بمراده» فما يعلم تأويلها إلا الله! وقد عرفنا معنى التأويل، وأنه- كما جاء فى القرآن- لا يكون إلا فى مواجهة الأمور المغلقة، كالأحلام وأضغاث الأحلام!
403
قوله تعالى: «فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ».
أي إن الذين فى قلوبهم مرض، بما عشّش فيها من نفاق، وضلال..
هؤلاء لا ينظرون فى كتاب الله، ولا يقفون عند محكم آياته، لأنهم لا يؤمنون به، بل يجعلون همهم كله فى صيد ما يمكن صيده من كتاب الله، من هذا المتشابه من كلماته، التي أشرنا إليها، والتي يمكن ألا يقال فيها أىّ شىء، كما يمكن أن يقال فيها كل شىء! لأنها- كما قلنا- كتاب مغلق.. إذا سئل الإنسان عما فيه، فإن احترم عقله، قال: «لا علم لى»، وإن سفه وحمق، قال، وأكثر القول، وتحدث وأطال الأحاديث بما هو أكثر مما فى الكتاب امتدادا وطولا، وربما كان الكتاب فى علم الحساب، على حين يحسبه المتخرصون كتابا فى الفقه، أو الحديث، أو الأدب، أو الموسيقى مثلا!! وهؤلاء من مرضى القلوب، إنما وقفوا عند هذه المتشابهات، لأنها تفتح لهم أبوابا واسعة إلى أن يقولوا فيها ما يشاءون، وأن يحمّلوها من المعاني ما يريدون من مقولات، تفتن وتضلّ، دون أن يقف لهم أحد، أو يفنّد مقولاتهم مفنّد، فإذا واجههم أحد، أو حاجّهم محتاج سألوه رأيه فيها، وقوله عنها، وقد عرفنا أنها تتسع لكل رأى، وتتقبل كل قول، وليس فيها إلا قول واحد، علمه عند علام الغيوب. «وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ» !..
ولو كان هؤلاء الزائغون المنافقون يؤمنون بالقرآن، وبأنه من عند الله، لكان لهم أن يقولوا فى المتشابه ما يقولون، مما يؤدى إليه نظرهم واجتهادهم، ولكان لهم من إيمانهم ما يعصمهم من أن يزلّوا ويضلّوا، ولكنهم- كما عرفنا- لا يمسكون من القرآن إلا بتلك الكلمات المتشابهة، التي رصدها الله ابتلاء وفتنة، تزداد بها قلوب المنافقين مرضا إلى مرض، ورجسا إلى رجس،
404
أما المؤمنون فقد عافاهم الله من هذا البلاء، وعصمهم من تلك الفتنة، لأنهم يتقبلون هذا المتشابه كما يتقبلون المحكم وغير المتشابه من كتاب الله، ويقولون فيها جميعا: «كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا».
وقوله تعالى: «وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ».
هو بيان لموقف المؤمنين من متشابه القرآن، إزاء موقف المنافقين منه، وهو أنهم- أي المؤمنون- يؤمنون بالمتشابه إيمانهم بالمحكم وبغير المتشابه، إيمان تسليم وامتثال، لأن كتاب الله- المتشابه، وغير المتشابه والمحكم- كله من عند الله، فليس فى المتشابه- والأمر كذلك- ما ليس فى كتاب الله، لأنه بعض كتاب الله، ولا يخرج البعض الكلّ، وإلّا كان غريبا عنه! فإذا كان لقائل أن يقول فى هذا المتشابه فليقل ما يشاء، شريطة أمر واحد، وهو ألا يخرج فى قول من أقواله عمّا فى كتاب الله من أحكام ومقررات.
ولهذا لم يكن ثمة حرج عند علماء التفسير أن يقولوا فى هذه المتشابهات ما قالوه من مختلف الآراء. لأنهم يقولون ما يقولون، وهم مؤمنون بكتاب الله، كله، محكمه ومتشابهه.
وفى قوله تعالى: «وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ» إشارة إلى أن الراسخين فى العلم- وهم ما هم فى العلم والحكمة والعقل- إذا كان موقفهم من هذا المتشابه موقف عجز وتسليم، فلا ينطقون إزاء هذا المتشابه- إذا نطقوا- إلّا كان قولهم: «آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا» - إذا كان هذا هو موقف الراسخين فى العلم، فإن من السفاهة والحمق والجهل جميعا أن يقول غيرهم مما لا رسوخ له فى العلم- غير هذا القول، وألّا يؤمن إيمان عجز وتسليم، كما آمن الراسخون فى العلم إيمان عجز وتسليم، بهذا المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله.
405
وعلى هذا، فإنا نرى أن الوقوف على لفظ الجلالة فى قوله تعالى:
«وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ» هو وقوف لازم، حتى يكون العلم بتأويل هذا المتشابه مقصورا على الله وحده، أما الراسخون فى العلم فهم والجاهلون سواء فى هذا المتشابه، لا يملكون إزاءه إلا التسليم بالعجز، وإلا أن يقولوا:
«آمنّا به» على ما هو عليه، لأنه هو والمحكم على سواء.. «كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا».
وهذا موقف يجب أن يتملّاه العقلاء، وينتفع به أولو الألباب، وذلك بقياس الغائب على الشاهد، والبعيد على القريب، وإحالة المتشابه على المحكم!
الآية: (٨) [سورة آل عمران (٣) : آية ٨]
رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨)
التفسير: مما يقضى به العقل، وينزل على حكمه العقلاء، أن تكون الأحداث والمواقف دروسا نافعة، وعبرا مثمرة، يجتنى من ثمرها الخير، ويدفع بها البلاء.
وقد كان فى الموقف الذي وقفه أهل الزيغ والضلال والنفاق، من المكر بآيات الله، ما أركسهم فى الفتنة، وأغرقهم فى الضلال، حيث طرحوا كتاب الله وراء ظهورهم، وتعلقوا بالمتشابه من آياته، ليفتنوا الناس ويضلوهم، بما يتأولون لهم من مقولات عمياء.. فزادهم الله عمى إلى عمى، وضلالا إلى ضلال.
وإذ يرى المؤمنون هذا الموقف الذي اتخذه الزائغون، فتقطعت بهم الأسباب، التي كانت تصلهم بالإيمان، والتي كان جديرا بهم- لو عقلوا-
أن يستعصموا بها، وأن يحكموا فتلها، بتوجيه قلوبهم إلى الله، وإخلاص نياتهم للإيمان به- إذ رأى المؤمنون هذا فزعوا إلى الله وضرعوا بين يديه، ألّا يصير أمرهم إلى ما صار إليه أمر هؤلاء السفهاء الحمقى، الذين غلبت عليهم شقوتهم.. فضلوا سواء السبيل.. فبين يدى الله يضرع المؤمنون بهذا النداء الذي ساقه الله إليهم، ليكون سفينة النجاة لهم «رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ».
الآية: (٩) [سورة آل عمران (٣) : آية ٩]
رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٩)
التفسير: ومن تمام الإيمان بالله، وجلاء القلوب من الشرك والزيغ، الإيمان بالبعث والجزاء، فبهذا الإيمان تقوى صلة المؤمن بربه، وتشتدّ مراقبته له، وحرصه على مرضاته، لينجو من شر هذا اليوم «يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ» ويفوز بمرضاته ورضوانه.. وإنه لو لم يكن هناك بعث، ولا حساب، ولا جزاء، لكان الإيمان بالله مجرد تصور عقلى، لا يكاد يؤثر فى سلوك الإنسان، أو يمسك زمام هواه! وإذ يذكر المؤمن هذا اليوم- يوم البعث والجزاء- ويستحضر أهواله، وما يلقى فيه العصاة من عذاب- يخشع لله ويخضع، ويفكر أكثر من مرة، قبل أن يركب منكرا، أو يواقع معصية.. ولو استحضر المؤمن هذا اليوم، وتمثله فى خاطره، وأشهده كل موقف تراوده فيه نفسه على منكر، ويؤامره فيه هواه على معصية- لكان له من ذلك قوة تعينه على الخلاص من دوافع شهواته، ونزوات أهوائه، ولهذا كان مما فضل الله به على المؤمنين، أن جعل
ذكر هذا اليوم عبادة يتعبدون بها فيما يتلون من كلماته.. «رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ».. وبهذا تظل أنظارهم شاخصة إلى هذا اليوم، يرجون رحمة الله، ويخشون عذابه.
«يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ، وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً».
الآية: (١٠) [سورة آل عمران (٣) : آية ١٠]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠)
التفسير: وهذا عرض لبعض ما يقع فى يوم البعث، وما يلقى فيه الذين كفروا بالله وباليوم الآخر من نكال وبلاء، حيث يدعّون إلى نار جهنّم دعّا.
فلا يغنى عنهم فى ردّ هذا البلاء ما كان لهم من مال وبنين، ومن أهل وصديق، فلقد أفردوا من كل شىء، وصفرت أيديهم من كل شىء، ومنادى الحق يناديهمَ قَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً»
(٤٨: الكهف).. وفى هذا ما يفتح أنظار الغافلين عن هذا اليوم، إلى ما فيه من أهوال ونكال، لأهل الزيغ والضلال، فيحذرون هذا المصير المشئوم.
الآية: (١١) [سورة آل عمران (٣) : آية ١١]
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (١١)
408
التفسير: الدأب: السعى، والعمل، والحال الذي يبلغه المرء بسعيه وعمله.
وقد ضرب الله سبحانه وتعالى للكافرين مثلا بآل فرعون- وهم جماعة الفراعين- الذين استكثروا من الدنيا، وبلغوا من السلطان والقوة ما بلغوا، حيث استطالوا بما فى أيديهم من سلطان وقوة، وقال قائلهم للناس ما حكاه القرآن عنه: «أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى» (٢٤- ٢٥) : النازعات.
هكذا يغرى السلطان ويغوى، إلّا من عصم الله، وقد كان فرعون مثلا بارزا للكفران بنعمة الله، والاغترار بما مكّن الله له فى الأرض. فقال تعالى:
«وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ «١» الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ» (١٠- ١٤: الفجر).
وقوله تعالى: «وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» أي الذين سبقوا هؤلاء الفراعين فى الضلال والعتوّ، إذ ليس هؤلاء الفراعين هم أول من حادّ الله وكفر به، فالكفر قديم فى الناس، لا يسلم منه جيل من أجيالهم «إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ» (٣٤: إبراهيم).
وهؤلاء الكفرة جميعا- قريبهم وبعيدهم، سابقهم ولاحقهم- لن يفلتوا من قبضة الله، ولن ينجوا من عذابه.. «فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ» إذ انقطع عملهم من الدنيا، وصاروا إلى الله بما اقترفوا من
(١) المراد بالأوتاد هنا تلك الأهرامات التي رفعها فراعين مصر على وجه الأرض، فكانت جبالا كالجبال، التي هى أوتاد الأرض: «أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً وَالْجِبالَ أَوْتاداً» (٦، ٧: النبأ)
409
أوزار، يحملونها على كواهلهم إلى يوم الجزاء، حيث ينزل بهم العذاب الأليم بما حملوا من كفر غليظ! وفى هذه المثل، وتلك النذر، عبرة لهؤلاء الكفار الذين أعنتوا رسول الله، واستطالوا بقوتهم على ضعاف المسلمين بمكة، وسلطوا عليهم ألوانا من العذاب والنّكال.. فلينظروا إلى ما نزل بمن كانوا أشدّ منهم قوة وأكثر بأسا، وأوسع سلطانا.. كيف أخذهم الله، فلم يغن عنهم ما كسبوا من الله شيئا.
الآية: (١٢) [سورة آل عمران (٣) : آية ١٢]
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٢)
التفسير: فى سكرة السلطان، يفقد كثير من الناس صوابهم، ويضل عنهم رشدهم، فتمرّ بهم العبر وهم عنها غافلون..
وفيما ذكر الله سبحانه- مما أخذ به الطغاة والظلمة، ما فيه عبرة ومزدجر للطغاة والظلمة، من كفار مكة.. ولكنهم فى سكرتهم يعمهون.
وإنه لكى تنقطع أعذارهم ولا يكون لهم على الله حجة، فقد أمر الله نبيّه عليه السّلام، أن يلقاهم صراحة بهذا النذير، وأن يقرع آذانهم بما ينتظرهم من مصير مشئوم، إن هم ظلّوا على ما هم عليه من عمى وضلال.. «سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ» فلا حظّ لهم فى الدنيا ولا فى الآخرة..
إذ لا يعصمهم سلطانهم، ولا تمنعهم كثرتهم وقوتهم، من أن يلقوا الهزيمة فى هذه الدنيا على يد هؤلاء الذين استضعفوهم واستبدّوا بهم، وهذا من أنباء
الغيب التي حملها القرآن عزاء وبشرى للمؤمنين، إذ تلقّوا هذا الوعد الصادق الذي لا يخلف أبدا، فهوّن عليهم البلاء الذي هم فيه، وربط على قلوبهم بالصبر، انتظارا ليوم النصر، وقد جاء تأويل هذا فى تلك الخاتمة التي ختمت بها حياة الكفر والكافرين، يوم فتح مكة، يوم جاء نصر الله والفتح، ودخل الناس فى دين الله أفواجا.
هذا ما كان ينتظر الكافرين فى الدنيا، التي ظنوا أنهم يمسكون منها بالسبب القوىّ الذي لا ينقطع.. أما فى الآخرة فالأمر أدهى وأمرّ.. حيث تنتظرهم جهنم بسعيرها المتسعر، وعذابها الأليم.. «وَبِئْسَ الْمِهادُ».
الآية: (١٣) [سورة آل عمران (٣) : آية ١٣]
قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (١٣)
التفسير: إن يكن ثمّه شكّ عند أحد فيما سيلحق هؤلاء الكافرين المغترّين بكثرتهم وقوتهم على أيدى هذه القلّة المستضعفة من المؤمنين- فالشاهد حاضر بين أيديهم، والآثار ماثلة لهم فى أنفسهم.
فهذا يوم بدر- وما زال غبار المعركة منعقدا فى سمائه، وجثث قتلى المشركين وأشلاؤهم متناثرة على أرضه، وما زالت فلول الجيش المنهزم تحبو حبوا نحو مكة، مثخنة الجراح، متقطعة الأنفاس، موقرة بالخزي والعار- هذا يوم بدر يمثل لهؤلاء المشركين ما ينتظرهم فى مستقبل الأيام، من خزى وهزيمة على أيدى المسلمين، وإن قلّ عددهم وعدتهم، فليس الأمر أمر عدد
وعدة، وإنما هو أمر إيمان بالحق. وثبات عليه، واستشهاد فى سبيله، ولقد رأى المشركون ذلك بأعينهم، إذ جاءوا بعددهم وعدّتهم، والمسلمون بين أيديهم قلة فى العدد والعدة «يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ».. فانتصرت الفئة القليلة على الفئة الكثيرة: «كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ» (٢٤٩: البقرة) فليستيقن المؤمنون، ولينتظر المشركون، فإن ما وعد الله به واقع لا شك فيه.
هذا والظاهر- والله أعلم- أن هذه الآية وما قبلها كان نزولها عقب موقعة بدر، بل ربّما والمشركون فى طريقهم بعد الهزيمة، لم يبلغوا مكة بعد، وفى هذا ما يضاعف من حسرتهم، ويملأ قلوبهم يأسا، من كل أمل يتعزّون به فى مستقبل الأيام.. فأيامهم المقبلة أشد سوادا وأكثر شؤما من يومهم هذا الذي هم فيه.
الآية: (١٤) [سورة آل عمران (٣) : آية ١٤]
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤)
التفسير: هذا جواب عن سؤال يعرض فى كل موقف يتصارع فيه الحق والباطل، وهذا السؤال هو: لم هذا الضلال من الناس؟ ولم هذا الباطل الذي يمسكون به ويحرصون عليه؟
وفى الآية الكريمة الجواب على هذا..
فالناس- كل الناس- مفطورون على حبّ الاقتناء، والاستزادة مما
412
يقتنون، من الأشياء التي تغذّى عواطفهم، وتشبع حاجاتهم الجسدية، والنفسية، وتنزلهم فى الحياة منزلا عاليا رفيعا، يبسط لهم سلطانا يستجيب لكلّ ما يدّعون وما يشتهون! هذه طبيعة فى الناس، غير منكرة، ولا متكرّهة، لأنها قوة عاملة فى الحياة، بها يخفّ الناس إلى السعى والجد، والمغامرة والمخاطرة، ، ولولاها لما خطت الإنسانية هذه الخطوات الواسعة، إلى العمران والمدنية! وهذا فى ذاته خير للإنسانية وكسب للناس.
ولكن الشيء إذا زاد عن حدّه انقلب إلى ضدّه- كما يقولون.
وهذا ما يحدث لغريزة حبّ الاقتناء، إذا جاوزت حدّها، وخرجت عن سنن القصد والاعتدال! إنها تتحول حينئذ إلى شره قاتل، يصير به الإنسان حيوانا ضاريا، يشتبك فى صراع دام مع كل من يلقاه! وقوله تعالى: «زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ» عرض لصور مما تشتهيه النفس، وتحرص عليه، وتستكثر منه.. النساء والبنين، والذهب والفضة، والخيل المعلّمة، والأنعام، والحرث والزرع.. ولم يتحدث القرآن عن الدّور والقصور والأناث والرياش، ولا عن ألوان الطعام، ولا عن الخدم والأتباع، وكلها مما تشتهيه النفوس، وترغب فيه.. لم يذكر القرآن الكريم هذا، ولا كثيرا غيره من مطالب النفس- لأنه ذكر
413
الأصل الذي ترجع إليه كل هذه الأشياء، وهو المال، من الذهب والفضة والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، فبهذا المال ينال كل هذا وأكثر من هذا، فحيث كان المال كان معه الجاه والسلطان، وكل متع الحياة، لمن أرادها من أصحاب المال.
وقد ذكر القرآن النساء والبنين والذهب والفضة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث، لأنها أصول قائمة فى النفوس، لا تتغير بتغير الأزمان واختلاف الأمم! النساء رغيبة الرّجال من جميع الشعوب.. الأغنياء والفقراء.
والبنون قرة عين الوالدين، فى كل زمان ومكان.. أغنياء وفقراء.
والذهب والفضة.. لهما حب مستقل لذاتهما، حيث يجد الإنسان القوة والعزة، بامتلاكهما، ولو لم يسخرّهما لمأرب من مآربه..
والخيل المسوّمة، (أي المعلّمة) نموذج للمراكب الطيبة، التي تجمع بين البهجة والمتعة.
والأنعام والحرث، نموذج آخر لمتعة العين وبهجتها لهذا المال المتحرك فى الإنعام، والمزدهر الثمر فى الزروع والجنات.
وقوله تعالى: «ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا» إشارة إلى أن هذا الذي يرغب فيه الناس ويشتهونه فى حياتهم، إنما هو متاع وزاد للحياة الدنيا، يزول بزوال هذه الحياة، ويفنى بفناء الطاعمين له..
وقوله تعالى: «وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ» إلفات إلى حياة أخرى غير هذه الحياة، لا يزول نعيمها، ولا تفنى لذاذاتها. تلك هى الحياة الآخرة، التي أعدّ الله فيها لعباده المتقين، ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
414
الآية: (١٥) [سورة آل عمران (٣) : آية ١٥]
قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (١٥)
التفسير: ذلك هو حسن المآب الذي أعده الله لعباده المتقين.. جاءت هذه الآية الكريمة شارحة له، بهذا الإعلان لذى أمر الله نبيه الكريم أن يؤذّن به فى الناس، وأن يلفت إليه أولئك الذين غلبتهم شهواتهم، فأذهبوا طيباتهم فى حياتهم الدنيا، ولم يستبقوا شيئا للآخرة.
وفى قوله سبحانه: «بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ» إشارة إلى أن تلك الشهوات التي زينت للناس من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث- ليست شرا فى ذاتها، وإنما فيها خير لمن أخذ منها باعتدال وقصد- كما قلنا- ولكن مع هذا فهناك ما هو خير من هذا الخير، وهو ما أعدّه الله للمتقين فى الدار الآخرة من جنات تجرى من تحتها الأنهار، وأزواج مطهرة.. وفوق هذا كله رضوان الله، الذي يفيض الخير كله على أهل الرضا.. جعلنا الله سبحانه وتعالى منهم، بفضله وكرمه..
هذا، والملاحظ أن الله سبحانه عوّض المتقين فى الآخرة عن متع الدنيا وشهواتها، جنات تجرى من تحتها الأنهار، وأزواجا مطهرة.. ولم يكن فيما عوضهم به الذهب والفضة، ولا الخيل المسوّمة والأنعام، ولا البنين..
فكيف هذا؟
والجواب: أنه لا حاجة إلى ذهب وفضة فى الدار الآخرة، وفى جنات النعيم، حيث كل شىء حاضر عتيد لأهل الجنة «لَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ»
. فلا بيع ولا شراء هناك.
وكذلك المراكب من الخيل المسومة والأنعام.. إن شاء الإنسان وجدها
ولكن هناك ما يشغله عن كل هذا، الذي هو إلى جانب نعيم الآخرة هباء وهراء! والشأن كذلك فى البنين، إذ يقوم حبهم فى النفس، على غريزة حب البقاء، حيث يرى الإنسان الفاني امتداد حياته فى بنيه الذين يخلفونه فيما ترك، ويأخذون مكانه من بعده.. أما والإنسان قد وجد الخلود وضمنه فى الحياة الآخرة فإنه لا حاجة به إلى ذرية من بعده.
ثم إن رضوان الله الذي أفاضه على أهل الجنة، هو الغنى كله، وهو السعادة كلها.. فلا مطلب بعده، ولا سعادة وراءه.
الآيتان: (١٦، ١٧) [سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٦ الى ١٧]
الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٦) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (١٧)
التفسير: هاتان الآيتان الكريمتان تبينان المنهج الذي يستقيم عليه الإنسان، ليكون فى عداد أولئك المتقين الذين وعدهم الله بجنات تجرى من تحتها الأنهار وأزواج مطهرة ورضوان من الله.
فالتقوى لا يكسبها الإنسان إلا بمجاهدة، ولا يبلغها إلا بعد أن يقطع إليها طريقا شاقا من الجهد المتصل والعمل الدائب، فى طاعة الله وابتغاء مرضاته.
وأول هذا الطريق. الإيمان بالله، الذي هو ملاك التقوى، وبغيره لا يقبل عمل، ولا يؤذن لإنسان بالدخول مع المتقين.. «الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ».
ثم إن الإيمان بلا عمل زرع بلا ماء.. لا يزهر ولا يثمر.
والصّبر هو عدة المؤمنين، وزادهم العتيد فى الطريق الشاق الذي يصحبون به الإيمان، ليصل بهم إلى التقوى، فبالصبر يغلب الإنسان شهواته، ويقهر أهواءه، ويحتمل تكاليف الشريعة، ويؤديها على الوجه الأكمل لها..
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ» (٥٢: البقرة) والصّبر ملاك أمره الصّدق.. الصدق فى القول والعمل.. والصدق مع النفس، ومع الناس، ومع الله- فإذا لم يكن ذلك كان الصّبر بلادة، وموانا، وموقفا سلبيا من الحياة. ولكن إذا واجه الإنسان الحياة ومعه الصبر وجد فى كل موقف شاق طريقين: طريق الكذب والهروب، وطريق الصدق والثبات.. وهنا تظهر فضيلة الصبر، ويتجلى أثره.. «وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (٣) ».
والولاء لله، والإنفاق فى سبيله، وقيام الليل واستقبال الأسحار بالتوبة والاستغفار.. كل هذه مواقف يمتحن فيها إيمان المؤمنين، وصبرهم، واستمساكهم بالحق الذي أمر الله به.
فبهذه المجاهدات- مع الإيمان- يبلغ الإنسان منازل المتقين، وينال رضوان الله، وينعم بجنات النعيم.
الآية: (١٨) [سورة آل عمران (٣) : آية ١٨]
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨)
417
التفسير: الذين يؤمنون بالله، يجدون فى كل لمحة من لمحات الوجود آيات تشهد بوحدانيته المطلقة، وتفرده بالوجود المطلق، فإن لم يكن لهم نظر يؤدّيهم إلى التحقق من هذه الحقيقة، فقد حملتها إليهم ثلاث شهادات قاطعة:
أولا: شهادة الله، فقد شهد الحق لنفسه: أنه لا إله إلا هو.. وهى عند المؤمنين شهادة صدق مطلق، لا تعلق بها شائبة أو تشوبها شبهة.
ثانيا: شهادة الملائكة، وهم خلق جبله الله على الحق والصدق المطلقين..
وقد يقول جهول: كيف يشهد الله لنفسه وكيف السبيل إلى سماع هذه الشهادة والتحقق منها؟
أما شهادة الله لنفسه، فقد نطق بها هذا الوجود الذي هو صنعة يديه، والذي يشهد كل موجود فيه، بقدرته، وعلمه، وحكمته ووحدانيته، وإن لم تشهد بها الموجودات لسانا، فقد شهدت بها عيانا واعتبارا، لمن نظر واعتبر..
أمّا من لم يكن له نظر واعتبار، فليأخذ بشهادة أهل النظر والاعتبار.. ليأخذ بشهادة الملائكة، وهم بعض هذا الخلق الذي خلق الله، وهم الذين لا يفترون عن عبادته، ولا ينقطعون عن ذكره.. فإن لم يجد لشهادة الملائكة أذنا تسمع، فليستمع إلى شهادة بشر مثله، خلقوا من طينته، ونطقوا بلسانه، وهم:
ثالثا: أولو العلم، الذين نظروا فى هذا الوجود، فعرفوا الله، وعاينوا آثار قدرته، وعلمه، وحكمته، ووحدانيته. وهذه شهادة لا يردّها عاقل، مهما كان حظه من العقل.. فإن الأعمى الذي لا يسلم يده للمبصر الذي يقيمه على الطريق، هو لا محالة ملق بنفسه إلى التهلكة.. والمقعد الذي لا يستسلم لمن يحمله، لا يزال هكذا ملتصقا بالأرض إلى أن يهلك، غير مأسوف عليه.
أما شهادة الله وشهادة الملائكة، فقد أخذ بهما أولو العلم فكانت مع
418
شهادتهم نورا إلى نور ويقينا إلى يقين.. «وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً» (١٦٦: النساء).
وقوله تعالى: «قائِماً بِالْقِسْطِ» صفة للإله المتفرد بألوهيته، كما شهد بذلك الله سبحانه، والملائكة، وأولو العلم.. والمعنى شهد الله والملائكة وأولو العلم أنه لا إله إلا هو قائما بالقسط، أي إلها قائما على الوجود بالعدل المطلق، فيما خلق وفيما نوّع وفرق من مخلوقات، وفيما قدر لكل مخلوق من صورة، ورزق، وأجل.. إذ ليس فى الإمكان أبدع مما كان.
وقوله: «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» قد يكون توكيدا لما شهد الله به والملائكة وأولو العلم، أو يكون إقرارا بلسان الوجود كله بعد أن سمع تلك الشهادة فصدّقها، معترفا بوحدانية الله، مقرا بقيامه على ملكه بالعدل، مذعنا لعزته، راضيا بحكمه، فهو «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ».
الآية: (١٩) [سورة آل عمران (٣) : آية ١٩]
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩)
التفسير: بعد أن بين الله صفته التي ينبغى أن يؤمن عليها المؤمنون، وهو أنه لا إله إلا هو المتفرد بالألوهية، القائم على ملكه بالعدل، فإلى جانب سلطانه المطلق، عدله المطلق، وهو العزيز الذي تقوم إلى جانب عزته، حكمته، فلا يخاف أحد بغيا أو عدوانا من جهة العزيز الحكيم! - بعد أن بيّن الله صفته على هذا الوجه، بيّن دينه الذي يدين عباده به،
419
ويتعبدهم بشريعته، ذلكم الدين هو «الإسلام» الذي حمله رسل الله، إلى عباد الله، من آدم إلى محمد، عليهم جميعا الصلاة والسلام.
يقول الله سبحانه وتعالى لنبيه الكريم: «إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً» (١٦٣: النساء).
فالذى أوحاه الله إلى رسله، هو دينه الذي ارتضاه لعباده، وهو الإسلام.
وفى هذا يقول سبحانه وتعالى: «شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ» (١٣: الشورى) وفى قوله تعالى: «وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ» إشارة إلى ما وقع بين أصحاب الكتب السماوية من خلاف، وأنه خلاف لم يقم على عقل، ولم يستند إلى منطق، لأن الكتب التي يختلفون فيها تجىء من مصدر واحد، وتتجه نحو غاية واحدة، فيلتقى بعضها ببعض، ويصدّق بعضها بعضا، فكيف يقع بينها خلاف أو يدور عليها اختلاف؟ وكيف يؤمن الإنسان ببعض الشيء ثم يكفر ببعضه الآخر؟ إن ذلك لم يكن إلا عن بغى وعدوان بين أصحاب هذه الكتب.. فاختلاف من اختلف من أهل الكتاب، وزيغ من زاغ منهم، إنما هو عن علم، وذلك هو البغي على الحق، والعدوان على العقل! وقوله تعالى: «وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ» تهديد لأهل الكتاب من اليهود والنصارى، ونذير لهم إذا اختلفوا، وكفّر
420
بعضهم بعضا، ثم هو تحذير لهم من أن يكون شأنهم مع الكتاب الذي نزل على محمد كشأنهم فيما كان منهم مع الكتب التي نزلت على الأنبياء من قبله، وخاصة النبيين الكريمين، موسى وعيسى عليهما السّلام.. إن يفعلوا «فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ».. لهم فى الدنيا خزى ولهم فى الآخرة عذاب عظيم.
الآية: (٢٠) [سورة آل عمران (٣) : آية ٢٠]
فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٢٠)
التفسير: ذلك هو الموقف الذي يتخذه النبي من أهل الكتاب، ألا يدخل معهم فى جدل ومحاجّة.. وإنما يلقى لجاجهم ومحاجتهم بما أمره الله به، إذ يكون قوله لهم: «أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ» أي إنى أسلمت وجهى لله حنيفا، لا أشرك به أحدا.. هذا هو دينى، ودين من اتبعنى من المؤمنين.
وقوله تعالى: «وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ؟» هو ما يعقّب به النبىّ فى ردّه على المجادلين من أهل الكتاب ومن مشركى مكة، وهم الأميون.. فبعد أن يلقى جدلهم بقوله: أسلمت وجهى لله.. يعقبّ على ذلك بدعوتهم إلى أن يسلموا وجوههم إلى الله كما أسلم هو وجهه إلى الله، فلا يدعون مع الله أحدا، وذلك هو الدّين الخالص.. دين الله.. دين الإسلام.
«فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ». أي إن لم يستجيبوا لك ويؤمنوا كما آمنت، فسيظل أمرهم هكذا فى شقاق واختلاف، وليس عليك من أمرهم من شىء، إنما عليك البلاغ «وَاللَّهُ
بَصِيرٌ بِالْعِبادِ»
يهدى من يشاء ويضلّ من يشاء.. «مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» (٣٩: الأنعام).
الآيتان: (٢١، ٢٢) [سورة آل عمران (٣) : الآيات ٢١ الى ٢٢]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢١) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٢)
التفسير: هاتان الآيتان لتقرير أمر واقع.. ففيهما كشف عن جرائم أهل الكتاب من اليهود، الذين كفروا بآيات الله، وقتلوا أنبياءه، وأشياع أنبيائه، ولهذا أحصت الآيتان الكريمتان، تلك الجرائم الغليظة التي ارتكبوها، وهى الكفر بآيات الله التي حملها إليهم رسل الله، وهى آيات لا يكذّب بها إلا كل معتد أثيم.. كفلق البحر بالعصا، وتفجير الماء من الصخر بها، على يد موسى عليه السّلام.. فكفروا بتلك الآيات وعبدوا العجل من دون الله، وكذلك فعلوا مع الآيات التي أجراها الله سبحانه على يد عيسى- عليه السّلام- من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص.. فكفروا بتلك الآيات، ورموا عيسى بالبهت والشعوذة، حتى دفعهم ذلك إلى السعى فى قتله، وتقديمه للمحاكمة والصلب، ولكن الله أبطل كيدهم، وأفسد تدبيرهم، وهم يحسبون أنهم صلبوه: «وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ» (١٥٧: النساء).
فهؤلاء هم الذين كفروا بآيات الله، وقتلوا أنبياءه، ومنهم زكريا عليه
422
السلام، وقتلوا كثيرا من صلحائهم ودعاة الخير فيهم.. وقد توعدهم الله سبحانه وتعالى بالعذاب الأليم..
على أن واحدة من هذه الجرائم المنكرة تكفى فى تجريم صاحبها، وفى سوقه إلى العذاب الأليم، فالكفر وحده، يحبط كل عمل: «وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ» (١٠٤: البقرة).
والقتل العمد وحده، يوجب الخلود فى النار: «وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً» (٩٣: النساء) فكيف بقتل أنبياء الله ورسله؟.
ولكن ما ذكر من هذه الجرائم هو تسجيل للواقع الذي حدث- كما ذكرنا من قبل- وهو تشنيع على أولئك اليهود الذين وقفوا من الدعوة الإسلامية موقف المحادّة والخلاف، كما وقف أسلافهم من قبل، مع أنبياء الله فيهم، ورسله إليهم. فما أشبه الأبناء بالآباء، والخلف بالسّلف، فى المكر بآيات الله والزيغ عن الهدى، والإعنات للأنبياء.. وقد سجل القرآن الكريم عليهم هذا الموقف الذي يصل حاضرهم بماضيهم، على طريق الكفر والضلال، فقال تعالى: «وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» (٩١: البقرة)..
فهل يلتقى الإيمان وقتل المؤمنين؟ بل وقتل حملة الإيمان ودعاته، من الأنبياء والرسل؟
وفى قوله تعالى: «وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ» هو تقرير لما حدث، وإعلان لما تكشف من تلك الحرائم الشنعاء، التي أريقت فيها دماء الأنبياء،
423
إذ قد ثبت لهؤلاء اليهود أنفسهم أن آباءهم الذين ارتكبوا هذا الإثم العظيم إنما قتلوا أنبياء حقيقيين، لم يكونوا من الأنبياء الكذبة كما ادّعوا عليهم، وهذا ما كان فى قتل يحيى عليه السّلام، قتله اليهود بأيديهم، وآمن به اليهود وبعد ذلك، نبيا صادقا، ورسولا كريما فى كتابهم المقدس التوراة. فشهدوا بذلك على أنفسهم وبلسان أبنائهم أنهم قتلوا هذا النبىّ الكريم ظلما وعدوانا..
بغير حق.
فقوله تعالى: «بِغَيْرِ حَقٍّ» هو من اعتراف القتلة أنفسهم، بما شهد به عليهم بعضهم، وهم أبناؤهم من بعدهم.
وقوله تعالى: «فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ» هو غاية فى التيئيس من كل أمل فى نفحة من خير، أو عافية، من هذا البلاء المطبق عليهم.. إذ كان ما تحمله البشرى إليهم هو العذاب الأليم، فكيف بما يساق إليهم بين يدى النّذر والفواجع؟ ذلك شىء لا يمكن تصوره من الأهوال والشدائد، التي أخفها وأهونها، هو العذاب الأليم!!
الآية: (٢٣) [سورة آل عمران (٣) : آية ٢٣]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣)
التفسير: الذين أوتوا نصيبا من الكتاب، هم اليهود، وعلماء اليهود خاصة، والنصيب من الكتاب هو جزء وبعض منه، وذلك أن الكتاب الذي فى أيديهم، وهو التوراة، ليس هو كل كتاب الله، إذ حرّفوا فيه، وبدّلوا وحذفوا، وأضافوا، فما بقي من كتاب الله فى أيديهم هو بعض من كلّ..
وفى قوله تعالى: «يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ» تنويه بشأن القران الكريم، وأنه كتاب الله، الذي يستحق أن يضاف إلى اسمه الكريم، حيث ظل- وسيظل أبدا- محتفظا بالصورة التي نزل عليها دون أن يمسه تبديل أو تحريف.. مصداقا لقوله تعالى: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ».
وهؤلاء الذين أوتوا نصيبا من الكتاب، وحظا من العلم، حين يدعون إلى القرآن الكريم ليقضى بينهم فيما اختلفوا فيه، وليريهم الوجه الصحيح من الكتاب الذي بين أيديهم، - يأبون أن يسمعوا، «ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ» (١٢٧: التوبة).
وفى قوله تعالى: «يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ» تصوير لحالهم التي استقبلوا بها دعوة داعيهم إلى كتاب الله، وأنهم على خلاف مبيّت على الإعراض عن القرآن، والاستماع إليه، والنزول على حكمه، فإذا سمعوا هذه الدعوة الكريمة الموجهة إليهم أعطوها ظهورهم، منصرفين عنها، حاملين معهم عقدة الإعراض والخلاف التي انعقدت عليها قلوبهم.
الآية: (٢٤) [سورة آل عمران (٣) : آية ٢٤]
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤)
التفسير: هذا التمادي فى الضلال، والإعراض عن آيات الله، وعدم التوقف للتثبت من الحق، هو مما دخل على القوم من غرور، بسبب ما بدلوا وغيروا فى دين الله، حتى أخذوا عن هذا الدين المحرّف أنهم شعب مختار، لهم
عند الله فضل ومنزلة، وأن من يدخل النار من عصاتهم لن تمسّه النار إلا أياما معدودة، على حين يخلد غيره فى النار ممن ليس منهم! وبهذا اجترءوا على الله، واستباحوا حرماته، لأنهم كما صوّر لهم دينهم الذي لعبوا فيه بأهوائهم- لا ينالهم الله بعذابه! وأن العصاة الغارقين منهم فى العصيان لن يمسّهم عذاب الله إلا مسّا رفيقا..
وكذبوا وافتروا.. وقد فضحهم الله تعالى فى قوله: «وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» (٨٠- ٨١: البقرة) وفى قوله تعالى فى هذه الآية: «أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ» وفى آية البقرة «أَيَّاماً مَعْدُودَةً» هو حكاية لأقوالهم التي تختلف فى أسلوبها، وإن لم تختلف فى مضمونها، فكل واحد منهم له أسلوبه فى التعبير عن هذا المعنى الذي تتوارد عليه ضلالاتهم.. ففريق يقول «أَيَّاماً مَعْدُودَةً»، وفريق آخر يقول «أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ» وذلك بلسانهم العبرىّ، وتلك ترجمته الصادقة الأمينة.
الآية: (٢٥) [سورة آل عمران (٣) : آية ٢٥]
فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٥)
التفسير: تنتقل هذه الآية بهؤلاء المفتونين فى دين الله، والمتألّين على الله
ألا تمسّهم النار إلا أياما معدودات- تنتقل بهم فى لمحة خاطفة إلى الدار الآخرة، حيث الحساب والجزاء، وحيث توفّى كل نفس ما كسبت من خير أو شر..
وفى هذا المشهد يرون سوء المصير الذي ينتظرهم، وأنهم قد مكروا بآيات الله، وخانوا أنفسهم، ووجدوا أعمالهم السيئة بين أيديهم، توزن بميزان العدل المطلق، حيث لا محاباة لأحد.. عندئذ يبدو لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون، وعندئذ يمضغون الندم، ويبتلعون الحسرة، ثم يساقون إلى عذاب جهنم، وبئس المصير!.
الآيتان: (٢٦- ٢٧) [سورة آل عمران (٣) : الآيات ٢٦ الى ٢٧]
قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢٧)
التفسير: الحسد هو الذي يفسد على كثير من الناس أمورهم، فلا يرونها على وجهها الصحيح، وإنما تبدو لهم على الوجه الذي تصوره أوهامهم وأهواؤهم.
وقد استشرى هذا الداء فى بنى إسرائيل، فحسدوا أنبياءهم، الذين اصطفاهم الله للسفارة بينه وبين عباده، ورموهم بالكذب والبهتان، وبلغ بهم الأمر فى كثير من الأحيان إلى قتلهم، شفاء لما فى صدورهم من نار الحسد لهم.
وموقفهم من رسول الله، وخلافهم عليه، وبهتهم له، لم يكن إلا عن حسد، أعمى قلوبهم عن الحق الذي كانوا على علم به وانتظار له.
427
ونسى هؤلاء القوم أن نعم الله ونقمه إنما هى بيد مالك الملك، الحكم العدل، وأن الحسد لنعمة يلبسها الله عبدا من عباده، أو الشماتة فى نقمه ينزلها على عبد من عباده كذلك- هو اعتراض على الله، ومشاركة له فى تدبيره وتقديره.
أما طريق المؤمنين فهو قائم على التسليم لحكم الله، والرضا بقضاء الله «قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» وفى قوله تعالى «بِيَدِكَ الْخَيْرُ» إشارة إلى أن كل ما يأتى من عند الله هو خير، وإن بدا لنا فى صورة الشر الخالص..
«وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» (٢١٦: البقرة) وفى قوله تعالى: «تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ» استعراض لقدرة الله، وعجائب تصريفه فى ملكه، إذ يؤلّف بين المتناقضات.. يولج الليل فى النهار، ويولج النّهار فى الليل، ويستخرج من الشيء نقيضه، فيخرج الحىّ من الميت ويخرج الميت من الحىّ.. وذلك من تمام القدرة، التي لا تكون إلا لله رب العالمين.
وفى الآية إشارة إلى ما فى الآية التي قبلها من قوله تعالى «بِيَدِكَ الْخَيْرُ» وأنه سبحانه قادر على أن يجعل من الخير شرا، ومن الشر خيرا..
«فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً».
(١٩: النساء)
428
فالذى يخرج الحىّ من الميت، ويخرج الميت من الحىّ، قادر على أن يجعل من الخير شرا، ومن الشر خيرا.
الآية: (٢٨) [سورة آل عمران (٣) : آية ٢٨]
لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (٢٨)
التفسير: الصلة التي ينبغى أن تقوم بين المؤمنين، هى صلة أخوة ومودة، دون نظر إلى لون أو جنس أو وطن.. فقد جمعهم الإسلام فى نسب يعلو على نسب الدّم والجنس والوطن..
«إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ» (١٠: الحجرات) وإنه لمن قلب الأوضاع أن ينعزل المؤمن بشعوره هذا من المودة والأخوة عن إخوانه المؤمنين، وينحاز إلى الكفار، يعطيهم ولاءه ومودته وأخوته.
والإسلام الذي يدعو إلى الحبّ والسلام.. إذ يدعو أتباعه إلى التراحم والتواد والتآخى فيما بينهم، لا يجعل ذلك على حساب الصلات الأخوية التي ينبغى أن تكون بين المسلم وبين سائر الناس.. وفى هذا يقول الله تعالى فى وصايته للمسلمين، فى تحديد صلتهم بغير المسلمين:
«لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ
429
دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ»
(٨، ٩: الممتحنة) فما بين المسلم وغير المسلم هى صلات إنسانية، فيها المودة والألفة والإحسان، إلّا أن يقع بين المسلم وغير المسلم قتال فى سبيل الدين، ومن أجل الدين.. عندئذ ينبغى ألا يعطى المسلم ولاءه لمن قاتله فى دينه، فذلك خيانة لدينه، فوق أنه خيانة لنفسه ولجماعة المسلمين معه.
وفى قوله تعالى: «لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ» نهى عن أن يكون ولاء المؤمن كلّه للكافرين فى الوقت الذي لا ولاء بينه وبين إخوانه المؤمنين، فذلك يقطع صلته بأهل الإيمان والتقوى، على حين يدعم صلته بأهل الإلحاد والكفر، وليس يأمن مع هذا أن تنضح عليه آثار الإلحاد والكفر، وأنه كلما مضى الزمن به كلما ازداد من الإيمان بعدا، وازداد من الكفر قربا.
وقوله تعالى: «وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ» أي بعد عن الله، وقطع صلته به، إذ بعد عن المؤمنين وقطع صلته بهم، وقرب من الكفر ووثق صلته بالكافرين.
وقوله تعالى: «إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً» استثناء وارد على النهى عن مولاة الكافرين، وهو أنه لا بأس- فى ظروف خاصة قد يضطر فيها الإنسان إلى أن يوالى غير المؤمنين- لا بأس أن يفعل الإنسان ذلك، ولكن شريطة أن يكون ذلك لدفع مكروه محقق، عنه أو عن جماعة المسلمين، على أن يكون ذلك موقوتا بوقته، محكوما بظروفه، ينتهى متى مضى الوقت، وتغيرت الظروف، فيعود إلى ولائه الكامل للمؤمنين.
فإذا قامت بينه وبين غير المؤمنين صلة، فلتكن بحساب وحذر!
430
الآيتان: (٢٩- ٣٠) [سورة آل عمران (٣) : الآيات ٢٩ الى ٣٠]
قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٩) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٣٠)
التفسير: بعد أن ذكر القرآن الكريم التحذير من موالاة الكافرين، وأباح ذلك فى أحوال وظروف خاصة- أشار هنا إلى أن المعتبر فى هذا الموقف هو ما انعقد عليه قلب المؤمن من إيمان، وهو فى تلك التجربة التي اضطرته الظروف فيها إلى مولاة الكافرين.. فقد أباح الإسلام «التقيّة» وهى أن يتقى المسلم أذى المشركين بكلمة أو فعل، ليدفع عنه أذاهم، دون أن يدخل من ذلك شىء على قلبه وما انعقد عليه من إيمان، وفى هذا يقول الله تعالى:
«مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» (١٠٦: النحل) وقوله تعالى: «يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً..»
الظرف هنا «يوم» منصوب بفعل محذوف تقديره: اذكروا، واحذروا..
فذكر هذا اليوم، وما يلقى فيه الناس جزاء أعمالهم من خير أو شر- يخفف عن الإنسان كثيرا من ضواعط الحياة ومغرياتها، التي تحمله على التضحية بشىء من دينه فى مقابل كسب مادى عاجل، أو قضاء شهوة عارضة زائلة..
وفى قوله تعالى: «وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ» تنبيه لأولئك الذين يتألّون
على الله، ويمنّون أنفسهم الأمانىّ بالطمع فى رحمته وغفرانه، وهم قائمون على عصيانه، ومحاربته، واستباحة حرماته، والاستخفاف بأوامره.. فهذا من الضلال الذي يفسد على المرء دينه ودنياه جميعا.. إذ لا يتفق عصيان الله، والتمرد على شريعته، مع موالاته والطمع فى رضاه..
ونعم.. إن رحمة الله واسعة، ومغفرته شاملة، ولكن لأهل طاعته، والمتجهين إليه.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ» (١٥٦: الأعراف) وفى قوله تعالى: «وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ» بعد قوله سبحانه «وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ» استصحاب لرحمة الله ولطفه بعباده الواقعين تحت بأسه وعذابه، وذلك مما يطمع المذنبين فى عفو الله ومغفرته، فيرجعون إليه ويمدون أيديهم بالتوبة له، فيجدونه ربّا رحيما غفورا، أما الطمع فى رحمة الله دون استصحاب العمل على مرضاته، بالنزوع عن مقاربة المنكرات- فذلك مكر بالله «وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ» (٥٤: آل عمران)
الآيتان: (٣١- ٣٢) [سورة آل عمران (٣) : الآيات ٣١ الى ٣٢]
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣١) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٣٢)
التفسير: ومما هو مكر بالله ما يدّعيه المدّعون على الله من اليهود أنّهم أبناء الله وأحبّاؤه، وهم فى الوقت نفسه يعادون أولياء الله، ويشاقّون رسله،
ويقتلون أنبياءه.. فكيف تصح لهم هذه الدعوى، وآخرها ينقض أولها؟
فإن المحبّ الحقيقي يحبّ كل من أحبّ من يحبّ، وإلّا فحبّه لمن أحبّ نزوة طارئة، أو دعوى باطلة.
والعداوة التي يضمرها اليهود للنبىّ، والتي تستعلن فى كيدهم له ومكرهم به، لا تستقيم مع دعواهم بأنهم أحباء الله، فإن كانوا أحباء الله حقّا فليتّبعوا رسوله، وليستجيبوا لما يدعوهم إليه من كلمات ربّه.. إنهم لو فعلوا ذلك لصدقت دعواهم، ولأحبّهم الله حقّا، ولغفر لهم ذنوبهم، وما قطعوا من عمر طويل مع الشقاق والنفاق «وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ».. فإن أبوا إلا شقاقا ونفاقا، فهم على دعوى باطلة.. إنهم ليسوا أحبابا لله، بل هم أعداء محاربون له، كافرون بآياته وبرسله «فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ» وإنما حبّه للمؤمنين، فمن لبس الإيمان ظاهرا وباطنا، فهو من أولياء الله وأحبائه، ومن استبطن الكفر والنّفاق فهو عدوّ لله، لا يكون محبّا ولا محبوبا.
الآيتان: (٣٣، ٣٤) [سورة آل عمران (٣) : الآيات ٣٣ الى ٣٤]
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٣) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٣٤)
التفسير: من تصريف الله فى ملكه أنه يؤتى الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعزّ من يشاء، ويذل من يشاء! وقد اقتضت حكمته- سبحانه- أن يصطفى من يشاء من عباده لتلقى هباته
وعطاياه.. وإن من عباده الذين اصطفاهم لأفضاله ومنحه.. آدم، ونوحا. وآل إبراهيم، وآل عمران..
فآدم، هو أبو البشر.. وقد اصطفاه الله فجعله خليفته فى الأرض.
ونوح، هو الأب الثاني للبشرية، بعد أن هلك البشر بالطوفان.
وإبراهيم، هو أبو الأنبياء.. وآله هم هؤلاء الأنبياء من ذريته.
وعمران، هو الفرع الزاكي من شجرة إبراهيم، ومن ذريته موسى وهرون وزكريا ويحيى وعيسى.
وفى قوله تعالى: «وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ» إشارة إلى امتداد الاصطفاء من الأصول إلى الفروع.. ولهذا قال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً» لا آل آدم، ولا آل نوح.. لأن ذلك يشمل الإنسانية كلّها، من حيث كان آدم ونوح أبوى البشرية كلها، فلا يكون- والأمر كذلك- مكان للاصطفاء من بين الذرية المصطفاة كلها..
وفى قوله تعالى: «ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ» أي أن هؤلاء المصطفين من آل إبراهيم وآل عمران، هم وآباؤهم من معدن واحد، خلص من شوائب الفساد والكدر، فجاء الفرع مشابها للأصل، طيبا وكرما، وكمالا وحسنا..
الآيتان: (٣٥، ٣٦) [سورة آل عمران (٣) : الآيات ٣٥ الى ٣٦]
إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٣٦)
434
التفسير: لقد سمع الله مريم إذ تناجى نفسها، وعلم- سبحانه- ما أخفاه عنها من ألطافه ونعمه إذ ناجته بنذرها الذي نذرته، وهو هذا الجنين الذي حملت به.
«إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً».
فإنها ما كادت تتحقق من أن جنينا يتحرك فى أحشائها، حتى أقبلت على الله بكيانها كله، وإيمانها كلّه، جاعلة هذا الذي وهبها الله إياه خادما لله، محرّرا من كل رباط يربطه بالحياة، ليكون كلّه فى خدمة بيت الله: «إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً» وضرعت إلى الله تعالى أن يقبل هذا النذر، وأن يرضاه لها، تحية شكر له، على ما أنعم عليها من ولد بعد يأس كاد يدخل عليها، ويخرجها من الدنيا عقيما بين النساء: «فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» وجاءها المخاض، وولد المولود الذي كانت تنتظره، فإذا هو أنثى!! ونظرت فى وجه مولودتها فحزنت أن جاءت على غير ما كانت تنتظر. إنها كانت ترجو أن يكون وليدها ذكرا، فهو الذي ترى فيه الوفاء بنذرها، حيث هو الذي يصلح للخدمة فى بيت الله، أما الأنثى فمكانها هناك قلق حرج، بين المنذورين الذين يخدمون فى بيت الله، وكلهم من الذكور.
ومع هذا، فقد نذرت ما فى بطنها محررا لخدمة الله، وقد جاء ما فى بطنها أنثى، فهى- والأمر كذلك- لا تملك غير هذه التي أعطاها الله، فلتقدمها لله وفاء بما نذرت: «فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى» !! وفى قوله تعالى: «فَلَمَّا وَضَعَتْها» إشارة إلى ما تقرر فى علم الله من أنها لا تضع إلا أنثى، فالضمير المؤنث فى «وضعتها» يشير إلى معهود معلوم من قبل الوضع. وذلك ما كان فى علم الله وتقديره!
435
وفى قوله تعالى على لسان امرأة عمران: «قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى» ما يكشف عن استحيائها وخجلها من أن تقدم لله أنثى تخدم فى بيته، وكأن الله- سبحانه- لم يجعلها أهلا لأن تجىء بالذكر الذي هو أهل لتلك الخدمة.
وقول الله تعالى: «وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ» ردّ على هذا الشعور الحزين الآسف الذي كان يعتمل فى نفسها، وعزاء لها من أن تتحسر أو تحزن أو تعتذر لله، فالله سبحانه «أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ» وهو الذي قدّر هذا، وأراد الوليدة لأمر عظيم، ستكشف عنه الأيام، بعد قليل.. وهذا ما أشار إليه سبحانه بقوله:
«وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى» أي أن الذكر الذي كانت تتمناه امرأة عمران وترجوه، لا يتحقق به هذا الأمر العظيم، الذي جعل الله إظهاره على يد هذه الأنثى، التي ستلد مولود البشريّة البكر: «عيسى عليه السّلام» ! فهل لو ولدت امرأة عمران ذكرا أكان لهذا الذكر أن يلد «عيسى» على الأسلوب الذي ولد به؟
ولهذا جاء أسلوب التشبيه على وجه عجيب: «وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى» وهذا ما جعل المفسرين يتأولون مختلف التأويلات له، مع أن الأمر لا يحتاج إلى أكثر من نظرة، حتى تنحلّ عقدة هذا التشبيه، فإذا هو فى أعلى درجات البيان والوضوح.. إنه ليس قائما على مطلق المفاضلة بين الذكر والأنثى، ولكنه قائم على مفاضلة بين الذكر الذي كانت ترجوه امرأة عمران والأنثى التي وضعتها..
فإذا كان ذلك كذلك فهل لأحد قول فى أن هذا الذكر ليس كهذه الأنثى؟
محال! ليس الذكر كالأنثى لتحقيق هذا الأمر العظيم الذي أراده الله، واختص هذه الأنثى به. وهى أن تلد مولودا من غير أب، هو المسيح.
«وعمران» هذا الذي تحدّث الآية بأنه أبو هذه الأنثى وزوج أمّها «امْرَأَتُ عِمْرانَ» ليس المراد به- والله أعلم- أنه زوجها، وإنما هو رجل من آل «عمران» الذين اصطفاهم الله فيما اصطفى من عباده، كما قال تعالى فى
436
الآية السابقة «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ».
وقد وصفت أم مريم هنا بأنها امرأة عمران، إشارة إلى اتصال نسبها بهذا النسب الكريم المصطفى، وكذلك اتصال نسلها بهذا النسب الكريم المصطفى أيضا.. فهى امرأة عمران أي من نسل «عمران» وابنتها ابنة عمران أي أن ذريتها من نسل عمران كذلك، فهى مصطفاة من مصطفين أخيار، من جهة الأم والأب جميعا!
الآية: (٣٧) [سورة آل عمران (٣) : آية ٣٧]
فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٧)
التفسير: قوله تعالى: «وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا» أي أن الله سبحانه وتعالى جعل كفالة مريم ورعايتها وتنشئتها إلى يد كريمة طاهرة، هى يد النبىّ الكريم، زكريا عليه السّلام.
وقوله تعالى: «كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً» أي رزقا متجددا، ما يراه اليوم غير ما رآه أمس، وغير ما سيراه غدا..
وهذا ما جعله يرى نفسه أمام ظاهرة غريبة، تطالع عينه فيها نفحات الله وأفضاله فيجد بين يديها كل طيب كريم، من الطعام، لم يقدمه لها أحد.. ويسألها زكريا. فتجيب: «هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.. إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ» وليس من جواب غير هذا الجواب، يحبس تساؤل المتسائلين، ويذهب بما
ملأ صدورهم عجبا ودهشا، من هذه الآيات التي تتنزل بين يدى مريم، رزقا من السماء بلا انقطاع.. إنه من عند الله! وما كان من عند الله فلا مثار منه لعجب أو دهش!!
الآيتان: (٣٨، ٣٩) [سورة آل عمران (٣) : الآيات ٣٨ الى ٣٩]
هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٨) فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣٩)
التفسير: «هنالك» أي هذا المقام الكريم، الذي شهد فيه زكريا ما شهد من آيات ربّه المتنزلة على مريم بالنفحات والرحمات.. وفى هذا الموقف الذي اشتعل فيه كيان زكريا كلّه بأشواق التطلعات إلى السماء، وأحاسيس التداني والقرب.. هنالك استشعر زكريا قربه من ربّه، ودنوه من رحمته، فضرع بين يديه داعيا يطلب الولد، الذي حرمه حتى بلغ من الكبر عتيا، وكانت امرأته- مع ذلك- عاقرا.
كان زكريا فيما شهد من أفضال الله على «مريم» أمام معجزات خارقات لمألوف الحياة، وما يخضع له الناس من سننها، فاهتبلها فرصة يأخذ فيها بنصيبه من هواطل غيوث رحمة الله، فطلب هذا المطلب الجاري على غير المألوف! وقد استجاب الله لزكريا ما طلب، فوهب له «يحيى» مصدقا بكلمة من الله، وسيّدا، وحصورا، ونبيا، من الصالحين.
ومن هذا نعلم أنه يقدر ما يكون فى كيان الإنسان من إيمان بالله، وثقة به، وطمع فى رحمته، بقدر ما يكون حظه من القبول والاستجابة لما يدعو به ربه..
438
ومن هنا كان للحال الذي يشتمل على الإنسان الأثر الأول فى قبوله واستجابة دعائه.
وإن الذي يدعو وهو منقطع الصلة بالله، أو هو خامد الشعور بقدرة الله، أو متشكك فى سماع الله لما يدعو به، وإجابته له- إن مثل هذا قلّ أن يستجاب له.
أما من يدعو وهو على يقين من أن الله قريب منه، مطلع على سرّه ونجواه، وأن بيده الخير كله، وأنه على كل شىء قدير- إن من يدعو وهو على تلك الحال، فهو فى معرض القبول والإجابة لا محالة.. ولهذا يقول الرسول الكريم: «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة» قوله تعالى: «مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ» كلمة الله هنا هى المسيح عيسى ابن مريم، وبهذه الكلمة بشّر الله مريم، فقال تعالى: «يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ» وذلك فى الآيات التالية بعد هذه الآية.. وقد كان يحيى- عليه السّلام- هو الذي عمّد عيسى، وهو الذي بشّر به، وصدّق برسالته، كما تحدث بذلك الأناجيل.
قوله تعالى: «وَسَيِّداً» أي سيّدا على نفسه، متحكما فى شهواته غالبا لها..
وقوله تعالى «وَحَصُوراً» أي مجانبا الشهوات، حتى لكأنه عاجز عن إتيانها لضعف أو مرض، وما به ضعف أو مرض، ولكن قوة روحه قهرت نداء شهواته، ودعوة جسده.
وفى قوله تعالى: «وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ» ما يسأل عنه، وهو: هل فى الأنبياء صالح وغير صالح، أم أن الأنبياء جميعا من الصالحين؟
439
لا شك أن الأنبياء جميعا من الصالحين، لأنهم صفوة خلق الله، وقد اختارهم الله، واصطفاهم للسفارة بينه وبين عباده، وليس يختار لهذه المهمة الكريمة إلا أكرم الخلق، وأفضل الناس فى كل أمة يبعث فيها رسول..
فكلمة «نبىّ» تحمل معها كل معانى الحياة للصلاح والتقوى! فما الحكمة فى أن وصف النبىّ بالصلاح هنا؟
ونقول- والله أعلم- إن وصف النبوة الذي وصف به يحيى فيما وصف به من صفات، هو وصف شرفىّ، لشرف الوظيفة التي هى النبوة، وهى مع هذا لا نستغنى عن الأوصاف الشخصية التي تكون للنبىّ، قبل النبوة، ومع النبوة..
والصّلاح على إطلاقه هو أكمل صفة وأتمها يمكن أن يظفر بها إنسان حتى الأنبياء.. فهى الكمال الإنسانىّ فى أعلى مراتبه وأشرف منازله، ولهذا كان من دعوات الأنبياء عليهم السلام أن يكونوا من عباد الله الصالحين كما قال الله تعالى على لسان سليمان: «وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ». (١٩: النمل) وقال تعالى على لسان إبراهيم، وهو يطلب الولد الصالح: «رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ» (١٠٠: الصافات) وقال سبحانه فى وصف عيسى عليه السّلام: «وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ» (٤٦: آل عمران) ومعنى هذا أن الصلاح صفة ملازمة له، قبل النبوة ومع النبوّة، فلو لم يكن نبيّا من الأنبياء لكان صالحا من عباد الله الصالحين.
440
الآيتان: (٤٠، ٤١) [سورة آل عمران (٣) : الآيات ٤٠ الى ٤١]
قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (٤٠) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٤١)
التفسير: أمام الخوارق المذهلة التي تخرج عن مألوف الحياة، وتجىء على غير حساب الناس وتقديرهم- يقف العقل مشدوها مضطربا، إذ يفقد توازنه، ويفلت من بين يديه كل حساب وتقدير، ويضل عنه ما كان له من علم ومعرفة..
لقد رأى موسى عليه السّلام- العصا يلقى بها من بين يديه فتتحوّل إلى حيّة تسعى، فتأخذه الرهبة، ويستولى عليه الفزع، وينطلق مسرعا.. ولا يمسكه أنه بين يدى الله، يناجيه ويسمعه كلماته! وهذا زكريا- عليه السّلام- يسمع الحق- جلّ وعلا- يستجيب دعاءه، ويبشره بالولد الذي طلب، فتعتريه حال كتلك الحال التي اعترت موسى حين انقلبت العصا إلى حية تسعى! فلا يملك أن يسأل ربّه: أنّى يكون لى غلام وقد بلغني الكبر وامرأتى عاقر؟ إنها صدمة المفاجاة بهذا الأمر الخارق العجيب، ولو جاء هذا الأمر متلبسا بمقدمات تومىء إليه، وتكون إرهاصا به- لما كان من هذا النبي الكريم هذا الموقف المثير لعجبه ودهشته، لأنه على يقين من قدرة الله التي لا حدود لها، والتي لا يسأل أمام عجائبها ومبدعاتها.. بكيف؟ ولكنها- كما قلنا- صدمة المفاجأة، ودهشة المستقبل
441
لأمر غير متوقع! وقد أجاب الله زكريا بما لا يخفى عليه، ولا يعتقد فى الله غيره «قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ».. ويجوز أن يوقف على قوله تعالى «كذلك» فيكون اسم الإشارة والمحذوف الذي يكمله هو مقول القول، والتقدير: كذلك قضى ربك، أو نحو هذا، ويكون قوله تعالى «اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ» جملة تفسيرية لمقول القول.. وهذا هو الوجه الأظهر للآية الكريمة.
ويجوز أن يكون الوقف عند لفظ الجلالة: «قالَ كَذلِكَ اللَّهُ» ويكون المعنى كذلك هو الله سبحانه فى قدرته وحكمته، ثم يجىء بعدها قوله تعالى:
«يَفْعَلُ ما يَشاءُ» جملة مستأنفة، شارحة موضحة.
وقوله تعالى: «قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً» ليس عن شكّ فى تصديق زكريا بما أخبره به ربّه، وإنما هو استعجال لهذا الخير المنتظر، وائتناس بالبشريات التي تحدّث به، وتنتصب شاهدة عليه..
فالآية التي تعرض لزكريا فى هذا الوقت الذي لا زال فيه الولد فى عالم الغيب، لم تظهر له فى عالم الوجود إشارة أو علامة تنبىء عنه- الآية التي يراها زكريا فى هذا الوقت، هى فى الواقع شىء مجسّد يجده زكريا، ويجد ريح الولد فيه! وفى هذا ما فيه من تمام الفرحة وكمال المسرة! وكما استجاب الله لزكريا فيما طلب من ولد، استجاب له كذلك فيما طلب من آية على هذا الولد..
«قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً» هذه هى الآية التي تملأ قلب زكريا طمأنينة وأنسا بالولد المنتظر.. ألّا يكلّم النّاس ثلاثة أيام، بمعنى أن يجد لسانه عاجزا عن الكلام،
442
محبوسا عن النطق، فلا يكون بينه وبين الناس تفاهم إلا بالإشارة بيده، أو الإماءة برأسه، أو ببعض الحركات بعضو أو بأكثر من عضو من جسده..
وفى هذا صوم إجبارى عن الكلام، وهو ضرب من ضروب العبادة العالية، وقد أمر الله تعالى به مريم فى قوله سبحانه: «فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا».
ويصحّ أن يكون قوله تعالى لزكريا: «قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً» يصح أن يكون هذا أمرا لزكريا بالصّوم عن الكلام ثلاثة أيام بلياليها، كما قال تعالى لزكريا فى آية أخرى: «قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا» (١٠: مريم) وعلى هذا المعنى يكون صوم زكريا عن الكلام صوما إراديّا، استجابة لأمر الله.
والسؤال هنا: لم كانت الآية على هذا الوجه، وهو أن يصمت زكريا عن الكلام- إجباريا أو اختياريّا- ثلاثة أيام؟
يجيب أكثر المفسرين على هذا بأن ذلك كان عقابا لزكريا فى موقفه هذا القلق، الذي وقفه من الخبر الذي جاءه عن ربّه.. فقال أولا: «أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا؟» ثم قال ثانيا: «رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً» ! والذي نراه- والله أعلم- ن هذا الصمت الذي فرضه الله تعالى على زكريا مدة ثلاثة أيام، هو الدواء الذي تسكن به النفس المضطربة المهتاجة بهذا الخبر العجيب.. وهو طب بليغ، لا يغنى غيره غناءه فى مثل تلك الحال..
ذلك أنه ليس أحسن من الصمت علاجا لجمع النفس المشتتة، وتسكين القلب المهتاج!.
ولو كان ذلك الصمت عقوبة لكان تكديرا لتلك النعمة التي كانت فى
443
ذاتها آية من آيات الله.. وتعالت آيات الله أن تشاب بسوء، وجلّت نعمه أن تختلط بكدر! فالصوم عن الكلام هنا هو من تمام تلك النعمة، التي تستأهل عظيم الحمد، وجزيل الثناء، ولهذا جاء توجيه الله تعالى لزكريا بقوله: «وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ» بعد أن جعل الصوم عن الكلام آية له، شكرا على تلك العطية العظيمة، وعلى الآية المصاحبة لها.
هذا، ويمكن أن يعطى النظر فى الآية الكريمة معنى آخر، وهو أن قوله تعالى لزكريا: «آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً» هو إيحاء لزكريا بأنه- وهو مما خلق الله- يستطيع إذا تعطلت الأداة الطبيعية للتفاهم بينه وبين الناس، وهى الكلام، فإنه لا يعدم وسيلة أخرى يتفاهم بها، ويجد منها ما يعوضه عن بعض ما فقد، فيتخذ الرمز والإشارة عوضا عن الكلمة باللسان.. فإذا كان ذلك شأن الإنسان، حيث يستطيع أن يخرج عن الأسباب المألوفة، ويحقق بأسباب غيرها ما كان يحققه بها، فإن قدرة الله- التي هى فوق نطاق الأسباب أبدا- أحق وأولى بألا تحتجزها الأسباب التي نراها مصاحبة للمسببات! وأنه إذا كان من مألوف الحياة الواقعة تحت حواسنا ألا تلد العقيم، وألا يولد للشيخ الفاني، فإن قدرة الله- إذا قضت حكمته- تجعل العقيم ولودا، وتخلق من الشيخ الفاني بنين وبنات.. «وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ».
444
الآيتان: (٤٢، ٤٣) [سورة آل عمران (٣) : الآيات ٤٢ الى ٤٣]
وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (٤٢) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣)
التفسير: العطف هنا فى قوله تعالى: «وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ» هو عطف على قوله تعالى: «إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ»، فهو عطف حدث على حدث.
ولقد أصبحت «مريم» خادمة بيت الله أهلا لأن تتصل بالسماء، وأن تتلقى فيوض رحماتها وبركاتها، فنادتها الملائكة مبشرة لها بما فضل الله به عليها: «يا مَرْيَمُ.. إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ» بأن جعلك فى عباده المصطفين، القائمين على عبادته وطاعته.. «وَطَهَّرَكِ» من الشّرك به، أو التدنّس بالكبائر من الآثام.. «وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ» أي جعل منك الولد الذي لم يولد لإنسان من الناس على، صورة مثل صورته، وهو «المسيح» الذي سيولد من غير أب.. نفخة من روح الله، وكلمة من كلماته! إنها صورة فريدة لا مثيل لها فيما تلد الأمهات.. فلقد اصطفى الله- سبحانه- هذه الأنثى المباركة، لتكون معرضا من معارض قدرته، ومجلى من مجالى صنعته فيما يصنع، وشاهدا من شهود تلك القدرة التي إن أقامت هذا الوجود على سنن، وربطت بين المسببات والأسباب، فإنها فوق السنن، وفوق الأسباب،.. تخرج الحىّ من الميت، وتخرج الميت من الحىّ.. وتخلق أصل الإنسانية كلها ابتداء من غير ذكر أو أنثى- هو آدم- وتخلق أنثى- هى حواء- من ذكر، دون اتصال بأنثى، وتخلق ذكرا- هو المسيح- من أنثى دون اتصال بذكر! فهذا هو الاصطفاء الذي اصطفى به الله سبحانه وتعالى «مريم» على نساء
العالمين، إذ كانت منها هذه الآية العجيبة، وتلك المعجزة الفريدة بين المعجزات! ومن حقّ هذا الاصطفاء الذي أضفاه الله على «مريم» أن تتلقاه بالشكران والحمد لله ربّ العالمين، فكان أن وجهها الله سبحانه، إلى هذا بقوله:
«يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ» والقنوت هو الخضوع لله، والولاء المطلق لعزته وجلاله، والسّكن إلى نعمه وأفضاله..
والسجود والركوع عملان من عمل الجوارح لعبادة الله، والولاء له.
فالقنوت عبادة صامتة مكانها القلب.. والسجود والركوع عبادة ظاهرة، مظهرها الجوارح.. وبالقنوت، والسجود، والركوع، يصبح باطن الإنسان وظاهره جميعا مشتغلا بعبادة الله، متجها إليه، قائما على الولاء له.. وهذا هو أكمل العبادة وأتمها.
الآية: (٤٤) [سورة آل عمران (٣) : آية ٤٤]
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤)
التفسير: الإشارة هنا، إلى ما ذكره الله سبحانه وتعالى من أخبار امرأة عمران، وزكريا، ومريم ابنة عمران.. وهى مما غاب أمره عن الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- ولم يكن عنده من أخبارها شيئا.. فهى غيب بالنسبة الرسول، وإن كان عند أهل الكتاب شىء منها! وقوله تعالى: «وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ» تأكيد لما بين الرسول، وبين هذه الأحداث من بعد، ومن
غياب أمرها عنه، لأنه- أولا- لم يكن من أهل الكتاب، ولا من القارئين الدارسين لما فى أيدى أهل الكتاب من علم، ولأنه- ثانيا- لم يكن معاصرا لهذه الأحداث، ومشاهدا لها..
ومن جهة أخرى، فإن من هذه الأنباء ما لم يكن عند أهل الكتاب- وخاصة معاصرى النبوة- شىء منها، مثل ما أخبر به القرآن من اختصام المختصمين فى كفالة مريم، وأيّهم أحق بها، ثم التجاؤهم فى هذا الخلاف إلى أن يقترعوا عليها، وذلك بإلقاء أقلامهم فى الماء، فأيهم ثبت قلمه كفلها، وقد أصابت القرعة زكريا، فكفلها زكريا، كما أخبر القران الكريم بهذا.. فهذا كلّه لم يكن عند أهل الكتاب المعاصرين للنبيّ شىء منه، ولم يكن فيما بين أيديهم من كتب الله حديث عنه.
وفى هذه الأخبار التي يتلقاها محمد من السماء، على غير سابق علم بها، وفى مجيئها على تمامها وصحتها، غير محرفة، ولا مبتورة، كما هو الحال فيما بقي بين أيدى أهل الكتاب منها- فى هذه الأخبار دلالة قاطعة على أن ما يتلقاه محمد من أخبار، هو من مصدر عال، لا يرجع فيه إلى بشر، ولا يستند فيه إلى علم بشر، وإلا كان لزاما عليه ألا يخرج عن محتوى ما يرد إليه من علم العالمين!
الآيتان: (٤٥، ٤٦) [سورة آل عمران (٣) : الآيات ٤٥ الى ٤٦]
إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦)
التفسير: متعلق الظرف «إذ» هو قوله تعالى: «وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ
447
إِذْ يَخْتَصِمُونَ»
أي لم تكن يا محمد شاهدا لأمر مريم، وما وقع فيه من خصام فى الولد الذي جاءت به من غير أب، إذ جاء هذا الولد بنفخة من روح الله، وبكلمة منه.
وقوله تعالى: «اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ» هو الاسم الذي اختاره الله لهذا المولود «الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ» ! فالمسيح صفة هذا المولود، وقد ورد كلمة مسيح فى كثير من المواضع فى التوراة، وترجمها اليهود الذين كتبوا الترجمة اليونانية السبعينية للتوراة (حوالى (٣٨ ق. م) باللفظ اليوناني الذي معناه الشخص الذي مسح بالزيت المقدس، وهو زيت الزيتون.. وكلمة مسيح فى العبرية تنطق هكذا: (مسيح).
و «عيسى» هو اسمه.
و «ابن مريم» هو صفة تكشف عن نسبه إلى من ولده، وهى أمّه، على حين ينسب الأبناء إلى آبائهم، وإذا كان ولا أب له، فإن نسبته إلى أمّه أمر لازم، لا بد منه.
وقوله تعالى: «وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ» الوجاهة هنا الرفعة وعلوّ الشأن.. أما فى الدنيا، فيكاد المسيح- عليه السّلام- يكون واحدا من أفراد يعدّون على أصابع اليد، ملأ الدنيا ذكرهم، وعمرت قلوب الناس بحبّهم والولاء لهم..
وأما الآخرة فعند الله وفاء هذا الوعد الكريم الذي وعده به. «وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ، وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ».
قوله تعالى: «وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا»
448
كلام المسيح فى المهد
ذكر القرآن الكريم، فى أكثر من موضع، أن المسيح- عليه السلام- تكلم فى المهد، وذلك، ليكون آية على طهر أمه وعفافها، وبراءة عرضها من أن يعلق به شىء مما تلوكه الألسنة، وتوسوس به الظنون، فى حال كحال مولود يولد من غير زواج معترف به شرعا، أو عرفا! ففى البشارة الأولى التي تلقتها مريم من السماء، يكشف لها الوحى، عن وجه هذا الغلام، الذي ستلده العذراء هذا الميلاد العجيب، الذي لم تعهده فى الناس، ولم تعلمه فى واحدة من بنات جنسها، وفى هذا يقول الله تعالى:
«إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ» (٤٥- ٤٦: آل عمران).
والصفة البارزة التي لهذا الوليد هنا، هى نطقه وهو فى المهد، وحديثه إلى الناس حديثا واضحا مفهوما.. أما وجاهته فى الدنيا والآخرة، فهو أمر معنوى، لا ينكشف للناس انكشاف الكلام فى المهد، ولا يقع منهم موقع هذا الكلام الذي يثير العجب والدهش، ولا يدع لأحد سبيلا إلى الإنكار أو المكابرة ولكن هنا سؤال هو: ما وجه الإخبار عن كلام المسيح كهلا، إلى جانب الإخبار عن كلامه فى المهد.. مع أن كلامه كهلا أمر مفروغ منه، والإخبار به نافلة غير مطلوبة فى ظاهر الأمر؟
أكثر أقوال المفسرين لتعليل هذا، أنه إخبار عن رجعة المسيح- فى آخر الزمان- وذلك أنه مات فى سنّ الكهولة، وأنه سيعود إلى الدنيا مرة أخرى
449
فى سنّ الكهولة.. وهذا تعليل- إن صح- فإنه يقوم على اعتبار أن رجعة المسيح أمر سيقع، وأنه لا وجه لهذا التعليل إذا كانت تلك الرجعة مشكوكه فيها، أو مقطوعا بعدم وقوعها.
وإذا كان من رأينا أن رجعة السيد المسيح من الأمور غير المحققة، وأن الشك فى وقوعها- فى رأينا- يغلب أي احتمال ينبنى على روايات وآثار تقول بها- إذا كان هذا هو رأينا، فإننا نرى لتعليل هذا الأمر- وهو كلام المسيح كهلا- وجها آخر.
فنقول- والله أعلم-: إنه لمّا كان النطق فى المهد أمرا واقعا على غير المألوف، خارجا عن طبيعة البشر، فقد يقع فى حساب الناس وتقديرهم أن هذا الوليد الذي تكلم فى المهد، سيسلك فى الحياة مسلكا غير مسلكهم، ويسير فى طريق غير طريقهم، وأنه وقد بدأ حياته متكلما يوم مولده، فغير مستبعد أن يكون كلاما بعد أن يكبر ويشب واقعا على صورة أخرى مفارقة لكلامه فى المهد.. فالطفل يبدأ الكلام بأصوات أشبه بأصوات الحيوان.. ثم تستبين تلك الأصوات شيئا شيئا، حتى تصبح لغة واضحة، ذات دلالة محدودة مفهومة.. وقياسا على هذا.. قد يقع فى التقدير أن كلام المسيح سيتدرج كما يتدرج كلام الطفل.. وأنه وقد بدأ بالكلام واضحا فصيحا من أول يوم، فإنه فى تدرجه بعد هذا سينتهى إلى صورة أخرى من الكلام، يكون الفرق بين أولها وآخرها، كالفرق بين أصوات الطفل، وبين كلامه فى الكهولة والشباب! هذه بعض المفاهيم التي يمكن أن تقع فى الأفهام وتدور فى الخواطر، عن هذا الحدث العظيم.. وهذا ما يدفعه قوله تعالى: «وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا».. حيث تقرّر الآية أن كلام عيسى فى المهد وكلامه فى الكهولة على
450
سواء، لا اختلاف بينهما، وأن صلة التفاهم لا تنقطع بينه وبين الناس فى مراحل حياته، وأنه إذا كلّمهم فى مولده بلغة سليمة مفهومة، فإنه سيكلمهم بهذه اللغة أيضا فى أدوار حياته.. وبهذا تعلم مريم من أول الأمر أن وليدها الذي سيتكلم فى المهد، لا يخرج به ذلك عن طبيعة البشر، ولا يجعل منه مولودا شاذا، تشقى به أمه، وتعانى من شذوذه هذا، ما تعانى الأمهات من مواليدهن الذين يجيئون على غير مألوف الحياة.
وقد يكون لمعترض أن يلقانا بهذا السؤال: لم نصّ القرآن على دور الكهولة وحده، دون أدوار الحياة الأخرى.. من صبا وشباب وشيخوخة؟.
والجواب على هذا، هو: أن دور الكهولة هو الدور الذي يبلغ فيه الإنسان تمام نضجه الجسدى والعقلي.. فإذا كان كلام المسيح فى المهد وفى الكهولة على حال واحدة، كان ذلك هو المعيار الذي تنضبط عليه لغته، وطريقة حديثه إلى الناس، فى جميع أدوار حياته.
وندع هذا، لنصل ما انقطع من حديثنا عن كلام المسيح فى المهد- فنقول:
إن مريم- عليها السلام- إذ تلقت هذه البشرى من رسول ربها، قد لفتها منها أمران: أن يكون لها ولد من غير أن يمسسها بشر.. ثم أن يكون هذا المولود على صفات خاصة.. أهمها أنه يتكلم فى المهد، كلاما سليما واضحا، كما يتكلم الراشدون من الناس.
ولعلّ مريم لم تلتفت كثيرا إلى ما لهذا الوليد من صفات، إذ كان شغلها الشاغل إذاك، هو أن تلد مولودا من غير زوج يتصل بها.
ولهذا كان عجبها ودهشها، فى هذا الاستفهام الإنكارى الذي ذكره القرآن على لسانها: «أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ» ؟.. فهذه هى مشكلتها، وهذا هو موضع عجبها، ودهشها فى تلك الحال..
451
ثم إنه حين تم لها ما أراد الله، وجاءها المخاض، ووجدت نفسها أمام الأمر الواقع، وأنها فى وجه فضيحة لا دفع لها- كان عزاؤها الوحيد فى تلك الحال هو ما كان قد أبلغها إياه رسول ربّها، بأن وليدها سيتكلم فى المهد، وسينطق بالشهادة التي تدفع قالة السوء عنها.. وفى هذا يقول الله تعالى:
«فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا» (٢٧- ٣٣: مريم) ففى هذا الموقف المتأزّم جاءت المعجزة، لتواجه القوم، ولتخرس تلك الألسنة المتطاولة، ولتأخذ على المتقوّلين فيه وفى أمّه كل سبيل.. فهذا الوليد الذي ولد لغير أب، قد نطق فى المهد وتكلّم فى حال لا يتكلم فيها طفل غيره.. فمولده من غير أب، وكلامه فى المهد، على حدّ سواء، فى الغرابة والاستنكار.. وأنه إذا كان لأحد أن ينكر هذه المعجزة القاهرة، وهى معجزة كلام الوليد فى المهد، فلينكر ميلاد هذا الوليد غير أب!!.
وكلام السيد المسيح هنا صريح واضح، على شاكلة ما يتكلم به قومه، وباللغة التي يتعاملون بها، وقد فهموا عنه ما قال، ولم يكن ما نطق به محتاجا إلى تأويل أو تخمين.
وقد ذكر القرآن الكريم مرة ثالثة كلام المسيح فى المهد، فى معرض
452
الامتنان على المسيح نفسه، بما كان من نعم الله عليه، وألطافه به.. حيث يقول سبحانه وتعالى: «إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ، تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ».
(١١٠: المائدة) ويلاحظ هنا أيضا كلام المسيح فى المهد وكلامه كهلا، وذلك ليذكر المسيح- وهو المخاطب بهذا من ربّ العالمين- أن كلامه فى المهد كان على صورة هذا الكلام الذي يتكلم به فى كهولته.. فيه العقل والمنطق والحكمة، وليس أصواتا كأصوات الأطفال، ولا لغوا كلغو الصبيان!.
والسؤال هنا.. هو: هل كان كلام المسيح فى المهد حدثا وقع فى موقف الدفاع عن التهمة التي رميت بها أمه من قومها.. ثم أمسك المسيح بعدها عن الكلام، ليأخذ الحياة على مألوف المواليد من الناس، وليدرج فى مدارج الطفولة خطوة خطوة.. أم أنه استمر متكلّما مبينا إلى آخر أيامه؟.
ونقول: إن كلام المسيح فى المهد هو معجزة متحدّية، مثل معجزاته فى إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص.
والشأن فى تلك المعجزات المادية أن تظهر فى الحال الداعية لها، ثم تختفى، فلا يرى الناس لها وجها إلى آخر الأبد.
ومن الحكمة فى هذا ألا تعيش المعجزة المادية طويلا فى حياة الناس، حتى لا يألفوها، هذا الإلف الذي يذهب ببهائها وجلالها.
ثم إن المعجزة المادية القاهرة امتحان وابتلاء، وما كان هذا شأنه فإن من الحكمة أن يلمّ بالناس إلماما، وألا يقيم إقامة دائمة، تلحّ على الناس فيه
453
الآيات المنطلقة منه، إلحاحا ملازما، وبهذا يتمايز الناس ويتفاضلون فى الإفادة من الفرصة العابرة، المتاحة لهم..
والقرآن الكريم- وإن قطع بأن المسيح تكلم فى المهد، فإنه لم يذكر شيئا عن صمته أو كلامه، بعد هذه الواقعة التي دافع فيها عن شرف مولده، وطهر أمه وعفافها.. لأن ذلك لا يقدّم ولا يؤخر فى هذا الموقف.
ولكنا- مع ذلك، ومع احترامنا لصمت القرآن فى هذا الأمر- نستطيع أن نقول: إن المسيح لم يكن كلامه فى المهد، إلا تلك الكلمات التي نطق بها، فى مواجهة الاتهام المصوّب إلى أمه من قومها، وأنه بهذه الكلمات الواضحة المحدودة، قد أرى القوم معجزة منه، تناظر المعجزة التي ولد بها، والتي ينكرونها على أمه! ثم عاد بعد هذه الكلمات إلى الطفولة فى صمتها، وفى نطقها.. كما سيتضح ذلك فى حديثنا عن الأناجيل وإغفالها لذكر هذا الحدث العظيم، من حياة المسيح! الأناجيل وحديث المسيح فى مهده:
والذي يدعو إلى العجب حقّا، هو أن الأناجيل الأربعة التي يدين بها المسيحيون اليوم، لم تشر أية إشارة من بعيد أو قريب إلى كلام المسيح فى المهد، ولم تذكر دفاعه المفحم عن أمّه، فى وجه تلك التهمة التي انعقد دخانها عليها، يوم جاءت به تحمله إلى قومها..
ونسأل أولا:
لماذا ذكر القرآن هذا الحدث الذي لم يكن عند أهل الكتاب- من أتباع المسيح- المعاصرين للنبىّ علم به، أو كان لهم به علم ولكن لم يجرءوا على ذكره؟ لماذا يذكر القرآن هذا عن المسيح، ويعطى أتباع المسيح معجزة المسيح، هم ينكرونها؟
ونقول: إن القرآن الكريم إذ يقف هذا الموقف، وإذ يجبه إجماع
454
أتباع المسيح على إنكار هذه الواقعة- ليعلم عن يقين أنه يواجه بهذه الحقيقة عالما متربّصا به، متلهفا إلى اصطياد المعاثر والمزالق له، فكان من المتوقع- والأمر كذلك- أنه إذا جاء يحدّث أهل الكتاب عن أمر هو فى أيديهم، ومن خاصة أمورهم- كان حديثه معهم جاريا مع ما يعرفون منه، وما يروون عنه، فإن كان اختلاف فى شىء، ففى ترتيب الأحداث وتلوينها، فإن زاد الخلاف شيئا، ففى الأحداث العارضة، التي لا تدخل فى الصميم من ذاتية هذا الأمر.
أمّا إذا كان الحديث عن أمر له شأنه وخطره فى بناء العقيدة، ثم كان مما يقيم لأصحاب تلك العقيدة حجة دامغة ودليلا قاطعا لمقولاتهم التي ينكرها عليهم- فإن ذلك هو أعجب العجب.. حيث يجىء القرآن إلى هذه الدعوى التي ينكرها على أتباع المسيح، فى تأليههم له- يجىء فيضع بين يدى أصحابها حجة أقوى من حجتهم لها، ودليلا أوضح من دليلهم عليها.. إن ذلك لعجب عجيب!! ذلك أن أتباع المسيح يتخذون من معجزات المسيح الخارقة- كإحياء الموتى، وإبراء ذوى العاهات والزّمنى- يتخذون من ذلك دليلا على ألوهيته.
ولو كانوا يرون سبيلا إلى القول بأنه تكلم فى المهد لحرصوا على إظهار تلك المعجزة، وإضافتها إلى ماله من معجزات، ليقوى هذا من قولتهم فيه، وتأليههم له!.. فكيف يقدّم القرآن لخصومه فى تلك الدعوى التي يدّعونها، والتي ينكرها عليهم- كيف يقدّم لهم مستندا جديدا، يؤيد هذه الدعوى عندهم، ويؤكد هذا الزعم لديهم؟
ونقول: إن القرآن الكريم لا يلتفت إلى شىء من هذا، ولا يجعل له شأنا فى حسابه مع ما يدعيه المدعون.. وإنما الذي يلتفت إليه، ويحسب له
455
حسابا، هو الحق، والحق وحده.. سواء وافق هذا الحق واقع الناس، وجرى مع معارفهم ومعتقداتهم، أم جاء على طريق غير طريقهم، وبعلم غير علمهم! وهذا شاهد من شهود القرآن الكريم، بأنه ليس من عمل بشر، ولا من تدبير إنسان، وإلا كان عليه أن يتجنب هذا الصدام الصريح مع الواقع، الذي لا يعلم ما وراءه إلا علام الغيوب.. وإلا كان عليه أيضا- لو أنه من عمل بشر- أن يخفى ما بين يديه من حجج يستند إليها خصومه، ويتخذون منها سلاحا يحاربونه به، فى المعركة الدائرة بينه وبينهم.
وما كان لغير الحق السماوي أن يقف هذا الموقف، إزاء أمر يشتهيه أهله وهم به جاهلون، ويتمنّونه وهم منه وجلون.. خوفا من البهت والتكذيب.
لهذا، فإن القرآن الكريم، إذ يقول ما يقول فى عيسى وأمه مما تنكره اليهود، وتقول بخلافه فيهما، وإذ يقول ما يقول فى عيسى، وفى كلامه فى المهد مما ينكره النصارى، ولا يجدون عليه شاهدا مما فى أيديهم من أناجيل- إن القرآن، إذ يقول هذا، وذاك، إنما يقول الحق الذي غمّ على الناس أمره، وعميّت عليهم سبله، ثم لا عليه إذا هم صدقوه وآمنوا به، أو كذبوه وأعرضوا عنه.. فإن الحق الذي نزل به، سيظل هكذا قائما على الدهر، يتحدى المكابرين والمعاندين، ويواجه أبصار المتشككين والمنحرفين، «فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها» (٢٠٤ الأنعام)..
«وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ» (٢٩: الكهف) والعاقبة دائما للحق، فإنه وإن غامت عليه سحب الضلال، وانعقدت فى سمائه ظلمات الجهل- فإنها أمور عارضة، لا تلبث أن تزول، وإن طال مقامها..
456
لماذا لم تذكر الأناجيل كلام المسيح فى المهد؟
وإذا تركنا جانبا، النظر فيما وقع فى الأناجيل من تحريف وتبديل، وقلنا إنها والقرآن على سواء فى صحتها وسلامتها- كان ظاهر الحال يشهد بأن كفّتها هى الراجحة فى هذه القضية، وأن الكلمة كلمتها فيما تقول فيها، وأن عدم ذكرها لكلام المسيح فى المهد يقطع بأن المسيح لم يتكلم فى المهد! إذ لو كان قد تكلم فى المهد لما كان هناك من سبب يدعو كتّاب الأناجيل إلى إغفال هذه الحادثة، التي تعلى من شأن المسيح، وترفع قدره، وتكاد تخرج به عن حدود البشر، وترفعه إلى مقام الملأ الأعلى- الأمر الذي يقوّى من دعوى أتباعه، بأنه هو الله أو ابن الله!.. بل وأكثر من هذا، فإن عدم ذكرها لهذا الأمر العظيم لدليل على أنها كانت تلتزم جانب الحق فى كل ما تقول فى المسيح، وأنها لم تقل فيه قولا لم يكن له، أو منه!! ولكن إذا أعدنا النظر فى هذه المسألة على ضوء الظروف والملابسات التي كتبت فيها الأناجيل، والتي تبدو واضحة لأدنى نظرة ينظر بها إليها- إذ فعلنا ذلك، رأينا أنه ليس ببعيد أن ينخرم من الأناجيل هذا الخبر، وأن يسقطه الذين كتبوها، من حسابهم، لأمر قدروه ولحساب حسبوه! ويمكن أن يعلل لذلك يعلل كثيرة.. منها:
أولا: أن الأناجيل قد كتبت فى وقت كان اليهود يشنّعون فيه على المسيح، ويلاحقون أتباعه، ويأخذونهم بالبأساء والضراء حيث وجدوهم.
ثانيا: قدّر كتاب الأناجيل أن الجوّ الذي يحيط بهم مشحون بالأكاذيب التي يطلقها اليهود فى جنون، حول المسيح وأمه. ويبهتون كل ما كان له من معجزات، ويدخلونها فى باب الشعوذة والدجل.. فليس معقولا والأمر كذلك.
457
أن يفتح كتاب الأناجيل جبهة جديدة للحرب بينهم وبين اليهود، وأن يلقوا إلى النار المشبوبة وقودا جديدا، يزيدها اشتعالا، ويزيد اليهود سفاهة وتطاولا! ثالثا: لنا أن نجعل فى اعتبارنا أن كلام المسيح فى المهد، لم يكن حدثا قائما يعيش فى الناس، وإنما كان للحظة عابرة- كما قلنا من قبل- أريد به أن يطفىء ثورة ثائرة على أمه.. وأنه إذا كانت تلك المعجزة قد أحدثت هزّة عميقة، ودويا عاليا- فإن صمت المسيح بعدها إلى أن جاوز دور الطفولة، قد أطفأ جذوتها، وجعلها تتوه خلال تلك الأحداث المذهلة التي دارت حول المسيح، فى كل خطوة كان يخطوها، وسط صخب اليهود وجلبتهم.
رابعا: الذين شهدوا كلام المسيح فى المهد لم يكونوا يجاوزون بضعة من الناس، هم القرابة القريبة من أمّه، الذين استقبلوها وهى تحمل وليدها، فأنكروها وأنكروا ما تحمل!! ومثل هذا العدد، وإن وجدوا فى كلام المسيح ما يمسك ألسنتهم عن قول السوء فى العذراء البتول- لا يمكن أن يقف لهذه الأعداد الكثيرة التي تعيش خارج هذه الدائرة المحدودة، وتخفت صوتها، الذي إن بدأ خافتا، متهامسا، متقطعا، فإنه سيعلو ويعلو، ويصير صراخا، وعواء يملأ أرجاء اليهودية، حين يواجه المسيح اليهود بدعوته، ويواجهونه هم بالإنكار والتكذيب، ثم المطاردة، والمحاكمة!! والصورة التي تبدو لنا من هذا الموقف.. هى هكذا:
عدّة من الناس.. قد يكونون عشرة، أو ما دون العشرة أو أكثر، هم رهط مريم الأقربون، قد رأوا الوليد، وسمعوه يتكلم، ويدفع عن أمه العار الذي واجهوها به.. فلما صمتوا حين تكلّم، صمت هو إلى أن فارق طور الطفولة..
ثم هناك أعداد لا حصر لها من الناس، ترامى إلى سمعها هذا الخبر العجيب، فجاءت تطلب له الشاهد من فم هذا الطفل الذي نطق، فلم تجد إلا صمتا، ولم
458
تشهد فيه إلا ملامح الطفولة ومخايلها.. فرجعوا بين مصدّق ومكذب، وبين متشكك ومتهم!! ثم يمضى الزمن بهؤلاء وأولئك جميعا.. ويتقلب هؤلاء وهؤلاء، بين الشك واليقين، والتكذيب والاتهام.
أما أصحاب اليقين، الذين عاينوا المعجزة- وهم قلة- فتذهب بهم الأيام واحدا واحدا، حتى إذا بلغ المسيح أشدّه، وطلع على الناس بمعجزاته، لم يكن منهم فى الحياة إلا بضعة أفراد، أو مادونهم.
وأما المتشكّكون والمترددون، فقد أنساهم الزمن هذا الأمر، وما علق بنفوسهم منه.. من شك أو تردد.
فلما أن كان وقت كتابة الأناجيل، كانت تلك الحادثة- حادثة كلام المسيح فى المهد، قد ضاعت فى طوفان الأحداث التي اتصلت بحياة المسيح، والتي انتهت بهذا الحدث العظيم. فى قضية صلبه، وقيامه من الأموات.. ثم فى مطاردة تلاميذه وأتباعه، والتنكيل بهم. حيث وقعت عليهم عين، أو وقعت عليهم يد! لقد كانت حادثة كلام المسيح فى المهد، عند كتابة الأناجيل، شيئا باهتا، أشبه بأضغاث الأحلام، لم يمسك الناس منها إلا بذكريات غامضة مضطربة، فكان إعلانها وإذاعتها فى هذا الوقت مما يقوّى جبهة أولئك الذين يجدّفون على المسيح، ويرمونه وأمّه بالمنكرات والأباطيل والمفتريات! هذا، وليست حادثة كلام المسيح فى المهد، هى وحدها التي أغفلت الأناجيل ذكرها، من متعلقات المسيح وأخباره، بل لقد أغفلت الأناجيل- عن تدبير وتقدير- كثيرا مما كان للسيد المسيح.. تقيّة وخوفا، تحت ضغط الظروف القاسية التي كتبت فيها الأناجيل.
459
فمثلا: «ميلاد المسيح من عذراء».
هذا الحدث، لا يقلّ شأنا وإثارة، وتحديا عن كلام المسيح فى المهد! ومع هذا، فإن إنجيلى «مرقس» و «يوحنا» لم يشيرا أيّة إشارة إلى هذا الميلاد.. والقديس «بولس» مؤسس المسيحية، وداعيتها الأول، لم يتحدث عن هذا الميلاد، ولم يشر إليه فى رسائله، ولم يتخذ منه آية يغزو بها القلوب، لدعوته التي كان يدعو بها، ويجمع لها كل القوى المادية والمعنوية، لتأخذ طريقها إلى الناس! ثم إن إنجيلى «متى» و «لوقا» الذين تحدثا عن هذا الميلاد العذرى، لم يذكرا ذلك إلا ذكرا عابرا، وفى غير التفات إليه، أو احتفاء به، بل إنهما إذ يقولان بميلاد المسيح من عذراء، يعودان فيرجعان نسب المسيح إلى داود عن طريق «يوسف» الأب المسمّى للمسيح، وكأنما أرادا بذلك أن يسدّا هذه الفجوة، بنسبة المسيح إلى يوسف، زوج أمّه! فإذا وقع فى تقديرنا أنه كان من المكن إلغاء إنجيل «متى» و «لوقا» الذين ذكرا ميلاد المسيح من عذراء. كما ألغيت عشرات الأناجيل غيرهما، ثم أصبح اعتماد المسيحية على إنجيلى «مرقس» و «يوحنا» - لو وقع هذا- وكان من الممكن أن يقع- لما كان فى المسيحية أية إشارة إلى هذا الميلاد، ولذهب من تاريخ المسيح، كما ذهب كثير غيره من أقواله، وأعماله.
وحادثة مجىء المسيح إلى مصر، مع أمه، وزوج أمّه..
هذه الحادثة، لا تقلّ خطرا، عن كلام المسيح فى المهد، وعن ميلاده من عذراء، إذ كانت عن إرهاصات مزلزلة، لما سيكون لهذا الوليد من شأن.
ومع هذا فإن إنجيلا واحدا من الأناجيل الأربعة المعتمدة هو الذي ذكرها، ذلك هو إنجيل متى، الذي يروى هذه الحادثة على هذا النحو:
460
«ملاك الربّ»، ظهر ليوسف (زوج مريم) فى حلم، قائلا: خذ الصبى وأمّه واهرب إلى مصر، وكن هناك، حتى أقول لك، لأن «هيرودس» (ملك اليهوديّة) مزمع أن يطلب الصبىّ ليهلكه، فقام وأخذ الصبىّ وأمه ليلا وانصرف إلى مصر، وكان هناك إلى وفاة «هيرودس» (متى: ٢: ١٣- ١٥) وهذا الخبر لم تذكره الأناجيل الثلاثة، ولم تشر إليه أية إشارة! فكيف كان الحال، لو ألغى إنجيل متى كما ألغيت عشرات الأناجيل، وكتب عليها أن تختفى إلى الأبد؟
وننتهى من هذا إلى القول بأن ما ذكره القرآن من كلام المسيح فى «المهد» هو الحق الذي لا شك فيه، وأن خلوّ الأناجيل من ذكر هذا الحدث، لا يجعل لها حجة على القرآن فى هذا المقام، خاصة وقد أغفل معظمها أحداثا تتعلق بالمسيح، ولا تقل شأنا عما ذكره القرآن عن كلامه فى المهد! إن القرآن قد أخبر بأن المسيح تكلم فى المهد، وهذا الخبر، هو معجزة متحدّية، إذ ينكره من هم أشد الناس حرصا على وقوعه، ليكون لهم منه حجة تقوّى معتقدهم فى ألوهيته المسيح، وفى خروجه عن طبيعة البشر! إن ذلك عند المؤمنين بالقرآن معجزة متحدية، وهو عند غير المؤمنين، دعوى ينقصها الدليل والبرهان، أو فرية يردّدها أصحاب الأهواء والبدع! فهذه منازل ثلاث، فى القول بأن المسيح تكلم فى المهد.
والناس على منازلهم تلك.. إلى أن يأتى أمر الله، فيكشف وجه الحق، ويومئذ تبيضّ وجوه، وتسودّ وجوه!! بقيت كلمة لا بد منها..
وهى أنه قد يقع لفهم بعض الناس من قولنا إن فى الأناجيل اختلافا،
461
وتعارضا، وكتمانا لبعض الحقائق- قد يفهم من هذا أننا ننتقص من قدر الحواريين، ونسىء الظن بهم وبأمانتهم فيما نقلوا عن المسيح.. إذ أن الأناجيل الأربعة، ينسب ثلاثة منها إلى: متى، ومرقس، ويوحنا، وثلاثتهم من الحواريين..
ومعاذ الله أن نشكّ فى أمانة الحواريين، عليهم السلام، إنهم أجلّ من أن يكذبوا، أو يخونوا الأمانة، إذ كان الله سبحانه هو الذي اختارهم للمسيح أعوانا وأنصارا، كما يصرح بذلك القرآن الكريم، فى قوله تعالى:
«وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ» (١١١: المائدة) والذي يمكن أن يقال فيما وقع فى الأناجيل من اختلاف، وما جاء فيها من مقولات يقف العقل إزاءها موقف الشك أو الإنكار- هو أن الأناجيل إما أن تكون قد كتبت بأيدى هؤلاء الحواريين المعروفين، ثم دخل عليها ما ليس منها، مما هو موضع خلاف، أو شك، أو إنكار، وذلك عن طريق الناقلين والمترجمين..
وإما أن تكون قد كتبت بغير أيدى أصحابها، ثم أضيفت إليهم، وحسبت عليهم، لتكتسب ثقة وذيوعا.. وهنا يتسع المجال لوقوع ذلك الاختلاف بين الأناجيل، وما تحمل فى ثناياها من تلك المقولات المختلفة المتضاربة!
الآيات: (٤٧- ٥١) [سورة آل عمران (٣) : الآيات ٤٧ الى ٥١]
قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩) وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٥١)
462
التفسير: عجبت مريم لهذا الأمر العجيب، الذي تحدثها الملائكة به من عند ربها.. أن تلدا مولودا من غير أن تتصل بزوج! وكيف؟ وماذا تقول للناس؟ ومن يسمع لها أو يصدق قولها؟ وأنّى لها القوة التي نحتمل بها لذعات الألسنة، وغمزات العيون، وهمسات الشفاه؟ إنها تجربة فريدة فى عالمها، لم تكن لامرأة قبلها، فكيف لها باحتمالها، واحتمال تبعاتها؟
وفى وداعة العابدة المتبتلة، ولطف العذراء وحيائها.. نسأل ربها:
«رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ؟» ويجيبها رسول ربها:
«كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ».. لا حدود لقدرته، ولا ضوابط من نواميس الطبيعة التي نعلمها، بالتي تحول بين قدرة الله وبين أن تأتى بما لا نحسب ولا نقدر! وفى قوله تعالى هنا «اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ» وقوله فى إجابة زكريا:
«اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ» مراعاة تامة للمقام هنا وهناك.
ففى أمر مريم عملية خلق كاملة. فناسبها قوله تعالى: «اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ»
463
أما فى قصة زكريا فهى على خلاف هذا.. مولود من رجل وامرأة، وإن كان كلّ من الرجل والمرأة غير أهل لأن يولد له فناسبه أن يعبر عنه بالفعل «اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ» والخلق والفعل وإن كانا من باب واحد، فإن هناك فرقا دقيقا بينهما، وهذا الفرق الدقيق له وزنه وله اعتباره فى بناء الأسلوب البلاغي الرفيع، الذي لا يوجد على كماله وتمامه إلا فى القرآن الكريم.
فى قوله تعالى: «وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ» ما يسأل عنه وهو: الكتاب والحكمة.. ما هما؟ لقد منّ الله على عيسى بأن علمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل.. والتوراة والإنجيل معروف أمرهما، إذ كانت التوراة كتاب موسى وشريعته، وبالكتاب وبالشريعة دان عيسى، ثم كان له كتابه وهو الإنجيل.. يبشر به وبكتاب موسى وشريعته.. فما الكتاب والحكمة اللذان تعلمها من الله قبل أن يتعلم التوراة والإنجيل؟
فى القرآن الكريم جاء ذكر الكتاب مقترنا بالحكمة فى كثير من المواضع، مثل قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ» (١٦٤: آل عمران) وقوله سبحانه: «رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ» (١٢٩: البقرة) وقوله تعالى: «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ» (٨١: آل عمران) وقوله سبحانه: «فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً» (٥٤: النساء) وقوله تعالى: «وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ»
(١١٢: النساء)
464
وقد جاءت كلمة الحكمة مفردة فى قوله تعالى: «يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً» (٢٦٩: البقرة) وفى قوله سبحانه عن داود عليه السّلام: «وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ» (٢٠: ص) والحكمة هى إصابة مواقع الحق فى القول والعمل، فهى بهذا ضرب من الهداية والتوفيق، يرزقهما الله من يشاء من عباده.
والكتاب المقترنة به الحكمة هنا يسبق الحكمة، أي أن الحكمة ثمرة من ثمراته، إذ كان طريق الوصول إلى الكتاب هو معرفة القراءة والكتابة، حتى يمكن الإفادة مما كتب الكاتبون ودرس الدارسون.. وقد تعلّم المسيح القراءة والكتابة، وقرأ ما كتب من كتب، وفتح الله بصيرته وأنار قلبه بالعلم والحكمة، قبل أن يقيمه قيّما على شريعة التوراة والإنجيل.
قوله تعالى: «وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ» أي ويجعله رسولا إلى بنى إسرائيل.. فالمسيح أحد الرسل الذين أرسلهم الله إلى بنى إسرائيل، ورسالته خاصة بهم، مكملة لرسالة موسى عليه السّلام فيهم، كما جاء ذلك على لسان المسيح، فيما روت الأناجيل عنه..
ففى إنجيل «متى» :«ثم خرج يسوع من هناك وانصرف إلى نواحى صور وصيدا، وإذا امرأة كنعانية خارجة من تلك التخوم صرخت إليه قائلة:
ارحمني يا سيد يا ابن داود، ابنتي مجنونة جدا، فلم يجبها بكلمة، فتقدم تلاميذه وطلبوا إليه قائلين، اصرفها، لأنها تصيح وراءنا، فأجاب وقال: لم أرسل إلّا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة»
(متى: الإصحاح الخامس عشر).
وفى متى أيضا يوصى المسيح تلاميذه، وقد بعث بهم ليبشروا، قائلا:
«إلى طريق أمم لا تمضوا، ولا مدينة للسّامريين لا تدخلوا، بل اذهبوا بالحرىّ إلى خراف بيت إسرائيل الضالّة» (متى: الإصحاح العاشر).
465
قوله تعالى: «وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ» أي يتحدث إلى بنى إسرائيل ويخبرهم بما أرسله الله به إليهم» ويقول لهم: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ، تشهد لى بأنى رسول من عنده، وتلك الآية هى ميلاده على الصورة الفريدة، إذ ولد من عذراء لم يمسسها بشر. وإذ كان ميلاده وظهوره فى بنى إسرائيل آية، فإن تلك الآية تتولد منها آيات ومعجزات. ومن تلك الآيات ما ذكره القرآن على لسانه:
«أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ» فمادة الطين التي منها تخلّقت الكائنات الحية من إنسان وحيوان- هى التي ينشىء منها نماذج لكائنات حية من الطير، ثم ينفخ فيها فإذا هى فى عالم الطير ترفّ بأجنحتها، وتسبح فى السماء، شأنها فى ذلك شأن بنات جنسها من هذا العالم.
ونسأل: لم لم تكن معجزته أن يصوّر من الطين إنسانا، فينفخ فيه فيكون إنسانا من الناس، فإن الذي يبعث الحياة فى الطين بنفخة منه، لا يعجزه أن يكون الإنسان أحد مخلوقاته، كما يفعل ذلك فى عالم الطير؟ وإنه لو فعل ذلك لكان أظهر لآيته، وأبلغ فى معجزته وإعجازه؟
ولكن لو وقع هذا لكان فتنة للناس.. إذ كيف يعيش مثل هذا الإنسان فى الناس؟ وكيف تطيب له الحياة بينهم؟ وبأية صلة يتصل بهم ولا نسب له فيهم؟ ثم ما شأنه بعد أن تتحقق المعجزة فيه؟ أيظل هكذا معجزة متحركة بين الناس يدورون معه حيث دار، ويتحركون معه حيث يتحرك؟ إنها الفتنة الممسكة بالناس إذن؟
إن شأن المعجزات المادية أن تكون بنت ساعتها، ثم تختفى فلا يرى الناس لها وجها بعد هذا.. إنها أشبه بإشارة ضوئية، تلمع ثم تختفى ليكون للناس نظر فيها، وتقدير لها، وليخلف عليها نظرهم وتقديرهم، وبهذا
466
يكون البلاء والامتحان.. ولو أن تلك المعجزات المحسوسة ظلت هكذا قائمة تحت بصر الناس لما كان هناك مكان للابتلاء، ولما كان لأحد فضل على أحد فى الإيمان بها، أو الشك فيها، أو الإنكار لها، ولاستقام أمرهم فيها على طريق واحد.. هو طريق الإيمان والتسليم، وعندها لا يكون للإنسان اختيار، ولا يكون إيمانه محسوبا له، إذ كان عن قهر، تحت ضغط هذه المعجزة القاهرة، التي تأخذ عليه كل سبيل إلى الفرار والزيغ! وانظر فى هذا الطائر، الذي كان تحت أعين الناس صورة من الطين، ثم أصبح بتلك النفخة طائرا ينطلق فى سبحات الجوّ.. ثم لا يلبث حتى يتوارى عن الأنظار، كما يلمع البرق ثم يختفى!.. هنا معجزة، ولكنها تحمل فى ثناياها امتحانا وابتلاء، فيؤمن بها من يؤمن، ويشك فيها من يشك، وينكرها ويكفر بها من ينكر ويكفر..
«وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً» (٨٩: يونس) فهكذا تكون المعجزات، لمحة خاطفة، وإشارة عابرة.. فيها نظر لناظر، وعبرة لمعتبر.
ومن معجزات المسيح التي يلقى بها بنى إسرائيل، ما عرضه عليهم فى قول الله سبحانه على لسانه: «وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ».
والأكمه من ولد أعمى، وهذا النوع من العمى ليس للطب قديما وحديثا بصر به، ولا عمل فيه، بل هو العجز المطلق حياله.. ومن هنا كان شفاؤه لا يتم إلا بمعجزة متحدية! والبرص مرض خبيث يصيب الجلد، فيذهب بلونه، ويأكل أديمه، كما تأكل
467
الأرضة لحاء الشجر.. وشأنه شأن الكمه، لا علاج له، ولا شفاء منه..
إلا بمعجزة متحدية! فكان من معجزات السيد المسيح إبراء الكمه والبرص، وإحياء الموتى! وتلك معجزات قاهرة متحدّية، تقف أمامها قوى البشر عاجزة مستخزية.
ومن معجزاته التي أجراها الله على يديه أنه يخبر عما غاب من شئون الناس، فيخبرهم بما أكلوا فى يومهم أو أمسهم، وما ادخروا فى بيوتهم من مال ومتاع.
ولكنها مع ذلك معجزات، يمكن أن يكون فيها للسفهاء قول، وللمتمارين والمجادلين مما حكات وتعليلات.
ولما جاء المسيح إلى بنى إسرائيل بتلك المعجزات، ليفتح قلوبهم إلى الله، وإلى ما يدعوهم إليه من هدى وإيمان، جاءهم مصدقا بالتوراة، وداعيا بما فيها.
وهذا أدعى إلى أن يستجيبوا له، ويؤمنوا به، إذ لم يأتهم بجديد، وإنما الجديد فى رسالته، أن يقيمهم على التوراة التي خرجوا عنها، وتأولوا أحكامها تأويلا فاسدا: «وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ».
وأكثر من هذا، فإن المسيح جاء رحمة من رحمات الله بهم. جاء ليرفع عنهم بعض تلك الأحكام التأديبية التي أخذهم الله بها، عقابا لهم ونكالا، بما حرم عليهم من طيبات كانت أحلت لهم، كما يقول تعالى: «فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ» (١٦٠: النساء).
فكان من رسالة المسيح إليهم أن يخفف عنهم بعض هذه الأحكام:
«وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ» وقوله تعالى «وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ» الآية هنا هى المعجزة التي
468
ولد بها عيسى، وجاء إلى هذا العالم بها.. فميلاده على الأسلوب الذي ولد به هو آية من آيات الله، يراها أهل زمانه قائمة بينهم، فيضلّ بها كثيرون، ويهتدى بها كثيرون.. فهو إنما جاء إلى بنى إسرائيل وولد فيهم بآية من آيات الله.
وقد ضلّ بها بنو إسرائيل إلا قليلا منهم.. فشنعوا على المسيح وأمّه، ونسبوا البتول إلى الفاحشة، ونسبوا المسيح إلى غير أمه، وجعلوه ابنا غير شرعى ليوسف النجار! قوله تعالى: «فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ» أي اخشوا الله فيما تقولون من بهتان فىّ وفى والدتي، وأطيعون فيما أدعوكم إليه من أمر الله.
قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ» هو التعقيب الجامع على ما جرى على يد المسيح من معجزات.. إنى لست إلا عبدا من عباد الله، فأقرّوا لله بالعبودية، كما أقررت له بالعبودية، واعبدوه كما أعبده.. «هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ» من لم يستقم عليه فقد ضل وهلك، ومن استقام عليه اهتدى ونجا.. من كذب بتلك الآيات فهو فى الهالكين، ومن صدّق بها ثم بالغ فيها، فجعل من المسيح إلها فهو من الهالكين!
الآيتان: (٥٢- ٥٣) [سورة آل عمران (٣) : الآيات ٥٢ الى ٥٣]
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٥٢) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٥٣)
التفسير: قوله تعالى: «فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ». أي فلمّا
استبان له من عنادهم ولجاجهم، ومكرهم بآيات الله ومعجزاته، أنهم لن ينتفعوا بتلك الآيات، ولن يجدوا فيها طريقا يهديهم إلى الحق- لمّا تبين له ذلك من بنى إسرائيل ولمسه لمسا واقعيا، نقض يده منهم، واعتزلهم بمن آمن به، وأخلص الإيمان فى سره وعلنه.. فنادى فى القوم «مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ» فى الانجاء إليه، بنيّة صادقة وقلب سليم؟ فأجابه الحواريون، وهم تلاميذ المسيح وخلصاؤه الأولون، الذين سكنوا إليه، وتركوا كل ما فى أيديهم من أهل ومال: «قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ»
وكانت عدتهم اثنى عشر حواريّا، بعدد أسباط بنى إسرائيل الاثني عشر.
قوله تعالى: «رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ» هذا القول يمكن أن يكون لكل من يستمع آيات الله، وما أنزل على رسوله من كلماته، فيرى فيها نور الحق، ويستروح منها روح اليقين، فيؤمن بالله وبرسوله بالغيب، من غير أن يرى الرسول، أو يستمع إليه، ويقول مع المؤمنين: «رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ» أي اجعلنا فى عداد الذين شهدوا الرسول وآمنوا به، وهذا هو الوجه الأقرب إلى منطق الآية الكريمة.. كما يمكن أن يكون تتمة لمقول القول الذي نطق به الحواريون، إجابة لعيسى عليه السّلام.
الآيتان: (٥٤- ٥٥) [سورة آل عمران (٣) : الآيات ٥٤ الى ٥٥]
وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٥٤) إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥)
470
التفسير: قوله تعالى: «وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ» المكر الذي مكره اليهود هو ما بينوه من أمر المسيح، وتدبيرهم التّهم لمحاكمته، وصلبه، وإقامة شهود الزور عليه، بأنه مشعوذ، ومفتر على الله، ومدّع أنه المبعوث ملكا على اليهود.. وقد انتهى أمره معهم إلى أن قدموه للمحاكمة، وشهدوا عليه زورا أمام الحاكم الرومانى «بيلاطس» الذي كان حاكما عليهم، فحكم عليه- حسب شريعتهم- بالصّلب.
والصلب لا يحكم به فى شريعة اليهود إلا على من جدّف على الله، وكفر به، وبهذا يستحق اللعنة والطرد من رحمة الله، ومن الدخول فى ملكوته! والصلب هو العقاب الدنيوي المعجّل- عند اليهود- لمن كفر بالله، وهو رمز على تلك اللعنة التي حلّت بهذا الكافر بالله.. وفى التوراة: «ملعون من علّق على خشبة» (تثنية: ٢١) أي صلب.
فالصلب فى حقيقته تجريم دينىّ لمن يحكم عليه به، ولعنة تصحب المصلوب إلى العالم الأخروى، وتأخذ عليه السبيل إلى ملكوت الله! ذلك هو مكر اليهود بالمسيح.
كانوا فى شك من أمره.. إذ يرون معجزاته القاهرة تملأ عليهم الزمان والمكان اللذين يحتويانهما.. ولكنهما كانوا- من جهة أخرى- ينتظرون مسيحا مخلصا لهم- حسب تأويلهم لشريعتهم- وكان مسيحهم الذي ينتظرونه على صورة- فى وجدانهم- غير صورة المسيح عيسى، الذي جاءهم.. فمسيحهم الذي ينتظرونه هو ملك يخلصهم من الحكم الأجنبى، ويعيد
471
إليهم مملكة سليمان ومجده.. والمسيح عيسى بن مريم لم يجئهم إلّا بمملكة سماوية، وهذه المملكة لا يدخلونها إلا إذا خرجوا مما فى أيديهم من هذه الدنيا، من مال وأهل وولد! فما أبعد البون بين مسيحهم الذي يؤملون، وهذا المسيح الذي يكذّبون!! من أجل هذا كانت صدمتهم قاسية حين التقوا بالمسيح، وغلبت عليهم شقوتهم فأنكروه، وأنكروا ما جاء به، ورأوا فى المعجزات التي حملها بين يديه شعوذة وسحرا.
وأرادوا أن يقطعوا الشك باليقين فى موقفهم المتردد من المسيح.
فليدخلوا إذن فى تجربة مع المسيح.
فليصلبوه إذن، وليكن هذا الصلب هو فيصل الحكم فيما بينهم وبينه.
إنه يدّعى أنه المسيح، والمسيح الحقيقي لا يصلب ولا يقع تحت اللعنة! وتمضى الأيام بهم، فيزداد عنادهم وإصرارهم كلما زاد شكهم وقوى حدسهم فى أنهم لم يصلبوا المسيح، وإنما صلبوا شخصا يشبهه..
ويظل هذا الخاطر يزعج اليهود، ويبيتهم فى هم وقلق.. حتى يجىء القرآن الكريم، واليهود أعرف الناس به وبصدقه، فيكشف لهم عن وجه الحق سافرا ويقطع الشك باليقين.. فيقول الحق جلّ وعلا: «وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً» (١٥٧، ١٥٨: النساء).
472
وهنا يتجلّى لليهود سوء ما مكروا: «وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ».
لقد دبّروا هذا التدبير السيء، فأبطل الله تدبيرهم، وردّ كيدهم فى نحورهم، وإذا هم وقد أرادوا أن يخرجوا المسيح من ملكوت الله، قد أخرجهم الله من ملكوته، وصبّ عليهم لعنته، وحمّلهم دم نبىّ لم يقتلوه، وقد خيل إليهم أنهم قتلوه! «١» وفى قوله تعالى: «إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا» يتعلق الظرف «إذ» بقوله تعالى فى الآية قبلها:
«وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ» أي مكر الله وتدبيره هو خير من مكرهم وتدبيرهم ثم علل لذلك وبينه بقوله:
«إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى... الآية».
فقد أوحى الله سبحانه إلى عيسى عليه السّلام بما بيّت الله القوم، ووعده سبحانه بأنهم لن ينالوا منه الذي أرادوا فيه، إذ أنه سبحانه سيوفّيه أجله المقدور له، غير منقوص منه شىء، وأن موته بيد الله لا بأيديهم، وسيرفع الله منزلته عنده، ويجعله من عباده المقربين إليه، ويطهره من اليهود فلا يصلب، ولا تمسه اللعنة، التي أرادوا أن يلبسوه إياها بصلبه! وقوله تعالى: «وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ»
(١) سوف نعرض هذه القضية قضية صلب المسيح عند تفسير الآيتين ١٥٧، ١٥٨ من سورة النساء- ومن أراد دراسة هذه القضية من جميع جوانبها فلينظر فى كتابنا «المسيح فى القرآن»
.
473
أي أن المؤمنين من أتباع المسيح هم فوق الكافرين إلى يوم القيامة..
وهذا حكم عام فيما بين المؤمنين والكافرين.. فحيث كان مؤمنون وكافرون، فالمؤمنون فوق الكافرين أبدا.. فلا يتساوى المؤمن والكافر فى المركز الاجتماعى فى الدنيا، حيث لا يأكل المؤمن طعام الكافر، ولا يتزوج منه، ولا يزوّجه.
فالكافرون فى منزلة دون منزلة المؤمنين أبدا، وإن تساووا فى الآدمية والإنسانية، والله سبحانه وتعالى يقول: «وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا» (١٤١: النساء).
وقوله سبحانه: «ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ».
بيان لحكم الله فى الآخرة بين المؤمنين والكافرين، بعد أن بين الله هؤلاء وهؤلاء فيما اختلفوا فيه من الحق.. فالمؤمنون هم أهل الحق، ولهم يحكم الله، والكافرون أصحاب الباطل وعليهم يحكم الله..
وفى الآية وعيد للكافرين ونذير بالعذاب الذي ينتظرهم، وقد حملته الآية الكريمة تلميحا لا تصريحا، ولكنه تلميح يشير بأكثر من إشارة إلى الآيات الكثيرة التي حملت إلى الكافرين أهوال العذاب الذي توعدهم الله به.
الآيتان: (٥٦- ٥٧) [سورة آل عمران (٣) : الآيات ٥٦ الى ٥٧]
فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٥٦) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٥٧)
474
التفسير: فى هاتين الآيتين بيان لما تضمنه قوله تعالى فى الآية السابقة عليهما:
«ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ» وفى هذا الفصل ينكشف الكافرون، ويعرف المؤمنون، ويفرّق بينهما فى الموقف.. كل جماعة فى جهة.. ثم يكون الجزاء لكل من الفريقين حسب عمله.. فأما الذين كفروا فلهم عذاب شديد، ليس له من الله دافع، وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفون أجرهم كاملا، وتتلقاهم الملائكة تزفّهم إلى جنات النعيم.
وفى قوله تعالى: «فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ» ما يسأل عنه، وهو: كيف يعذبون عذابا شديدا فى الدنيا، وهم الآن فى الآخرة وفى موقف الحساب؟
والجواب عن هذا، هو أن هذا الوعيد من الله سبحانه وتعالى وعيد قديم، ولكنه يتجدد بتجدد الأزمان والأحداث، فيقع العلم به للمنذرين فى الوقت الذي ينذرون به، لا يوم القيامة والحساب..
وفى قوله تعالى: «وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ» ما يسأل عنه أيضا.. إذ كيف يتناسب هذا، بعد قوله تعالى: «فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ» ؟
والجواب عن هذا، هو أن المؤمنين قد بشّروا به فى قوله تعالى:
«فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ» وأنهم قد اطمأنوا إلى هذا الوعد الكريم، ونعموا به، وإن نعيمهم ليتضاعف حين ينظرون إلى أصحاب النّار وما يلاقون فيها من عذاب الهون، فيسبّحون بحمد الله إذ نجاهم من هذا البلاء، وغمرهم بفضله ونعمه- إن المؤمنين وهم فى تلك الحال ليسألون عن عذاب أهل العذاب،
475
وما الذي أوردهم هذا المورد الوبيل، فيقال لهم: «وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ» أي أن هؤلاء الذين يتقلبون فى النار، إنما هم من الذين ظلموا أنفسهم، بأن حجبوها عن الإيمان، وسبحوا بها فى ظلمات الكفر والضلال، فهم إذن ظالمون. «وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ». ولن ينال رضا الله، وينعم بنعيم جناته إلّا من رضى عنه وأحبّه! ومما يسأل عنه فى هاتين الآيتين: كيف جاء الوعيد للذين كفروا فى صيغة المتكلم فى قوله تعالى: «فَأُعَذِّبُهُمْ» على حين جاء الوعد للذين آمنوا فى صيغة الغائب فى قوله سبحانه: «فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ».
والجواب، هو أن الذين كفروا لم يؤمنوا بالله، بل ولم يعترفوا بوجوده، ومن هنا فإنهم لا يعرفونه، ولا يتصورون له وجودا.. فكان من المناسب لتلك الحال أن يسمعهم الله صوته، وأن يواجههم بالجريمة التي اقترفتها أيديهم، ويلقاهم بالعذاب الذي هم أهل له.. وهذا أبلغ فى إلفات الكافرين إلى ما هم فيه من غفلة وضلال، إذ يرون عذاب الله عيانا، فى هذا النذير الذي ينذرهم الله مواجهة به، «وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ» (٤٧: الزمر) أما المؤمنون فشأنهم مع الله على غير هذا.. إن الله معهم دائما يملأ قلوبهم، ويعمر حياتهم، ويرون قدرته وحكمته فى كل ما تتصل به حواسهم، أو يتصوره خيالهم.. ومن ثم فإن ما بينهم وبين الله من معرفة لا يحتاج إلى إعلان.. إنهم آمنوا بالله عن غيب، وصدّقوا ما جاءهم به الرّسل من عند الله، فكان من المناسب لحالهم تلك أن يخاطبوا من الله بصيغة الغيبة.. تلك الغيبة التي هى حضور جلىّ فى قلوبهم، وظهور باد فى كل ما أبدع الله وصوّر!
476
آية: (٥٨) [سورة آل عمران (٣) : آية ٥٨]
ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨)
التفسير: قوله تعالى: «ذلِكَ» إشارة إلى ما تقدم مما ذكر الله سبحانه من أخبار المسيح، وموقف اليهود منه، ومكرهم، ومكر الله بهم.. وما يلقى الكافرون بالله وبرسله من عذاب ونكال، وما يجزى به المؤمنون بالله من رضى ورضوان..
وقوله تعالى: «نَتْلُوهُ عَلَيْكَ» أي ذلك الذي ذكرناه لك هو متلوّ عليك من آيات الله ومن الذكر الحكيم، أي القرآن الذي هو مجمع آيات الله المتلوّة عليك.
والمعنى أن ما يتلى عليك هو آيات من آيات الله المسطورة فى القرآن الكريم، الذي ينزل عليك آية آية، أو آيات آيات، فيها عظة وذكرى، وعبرة وحكمة.
آية: (٥٩) [سورة آل عمران (٣) : آية ٥٩]
إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩)
التفسير: كثر الخلاف فى المسيح عليه السلام، لأن ميلاده كان على صورة فريدة، لم يولد بها أحد من قبله.. وكان الناس فى هذا الميلاد شيعا وفرقا، كل شيعه تقول فيه قولا، وكل فرقة تذهب فيه مذهبا!
477
أما اليهود، فقد ارتضوا الجريمة مركبا، فقتلوا أنفسهم، وقتلوا الحق معهم.. وقالوا فى المسيح إنه ولد كما يولد الناس، من ذكر وأنثى.. وإن كان ميلاده على فراش الإثم والفاحشة.. لأنه ابن زنا! وأما أتباع المسيح، فقد قصرت مداركهم عن إدراك قدرة الله، فلم تحتمل عقولهم تلك الحقيقة، وهى أن الله قادر على كل شىء، يخلق ما يشاء، مما يشاء، وكيف يشاء! فقالوا: إن المسيح هو الله تجسد بشرا فى جسد عذراء.. وإذن فهو ميلاد صورىّ، لأنه لم يولد إلا الله نفسه، الذي كان موجودا بكماله الإلهى قبل هذا الميلاد! وإذن فلا مسيح، وإنما هو الله تسمّى باسم بشرى، كما لبس صورة بشرية.. وإذن فهى عملية أشبه بعملية الحلول التي آمن بها كثير من قدماء المصريين، والبراهمة، وغيرهم من الأمم.. فكما كان يحلّ الله فى ثور، أو تمساح، أو شجرة، أو رجل.. حلّ فى جسد طفل، وخرج وليدا من بطن امرأة.
وأما المسلمون، فقد جاءهم القرآن بالخبر اليقين عن المسيح.. إنه خلق من خلق الله، وإنه إنسان من الناس، ولد بنفخة من روح الله، كما ولد هذا الوجود كله بفيض من فيض الله! وأقرب مثل لهذا. آدم- عليه السّلام- إنه خلق من غير أب أو أم..
خلق من تراب هامد، لا أثر للحياة فيه.. وعيسى- عليه السّلام- خلق مولودا من كائن حىّ، هى أمّه، فأيهما أشدّ غرابة فى الخلق؟ الذي خلق من تراب هامد، أم الذي تخلّق من جسد حىّ؟
وفى قوله تعالى: «ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» ما يسأل عنه.. وهو:
كيف يقول الله للشىء كن، ثم لا يكون واقعا فى الحال، كما يدل على ذلك قوله تعالى: «فَيَكُونُ» التي تدل على المستقبل المتراخى، ولو كان ما أمر الله به
478
واقعا فى الحال، لكانت صياغة الآية على غير هذا، ولكانت تلك الصياغة مثلا: «ثم قال له كن فكان».. فكيف يكون هذا؟ وهل أمام قدرة القادر العظيم حواجز وحوائل، تحول بين القدرة وبين إمضاء ما قدرت، على الفور، وفى الحال؟
والجواب على هذا.. هو أنّ قول الله للشىء «كن» لا يقتضى وقوع هذا الشيء فى الحال، إذ قد يكون الأمر موقوتا بوقت، أو متعلقا بأسباب، لا بد أن يقترن حدوثه بها، وهذه الأسباب لا متعلّق لها بقدرة الله، وإنما متعلّقها بالشيء ذاته، الذي دعته القدرة إلى الظهور، والذي قضت حكمة الله ألا يظهر إلا بعد أن يستكمل أسبابه المقترنة به.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (٨٢: يس).
فمثلا مما سبق علم الله به، واقتضته إرادته إيجاد، شىء ما، وليكن هذا الإنسان أو ذاك..
إن أمر الله قد صدر من قديم لهذا الإنسان أن يكون، على صورة كذا، وهيئة كذا، وأن تحمل به أمه فى يوم كذا، وأن يولد فى يوم كذا..
وهكذا..
بل وأكثر من هذا.. فإنه قبل ذلك بآلاف السنين، بل وآلاف الآلاف منها.. تنقّل هذا الإنسان فى أصلاب الآباء وترائب الأمهات إلى أن التقى أبوه بأمه، فى الزمن المحدد واليوم الموعود!.. وهكذا الشأن فى كل موجود.. إنه تنقل فى موجودات سبقته، وتقلّب فى أحوال وأطوار حتى صار إلى ما صار إليه.
479
وفى خلق آدم، وفى قول الله سبحانه وتعالى فيه: «خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ». ما يكشف عن وجه واضح من وجوه الإعجاز القرآنى، وذلك الإعجاز الذي يطالع الناس فى كل آية من آياته، الراصدة لأحداث الحياة، وتطور العقل البشرى، المتحدية للإنسانية فى كل جيل من أجيالها، وفى كل وجه من وجوهها.
وانظر فى وجه هذه المعجزة، على ضوء ما كشف العلم الحديث، من علم الأحياء، ونظرية النشوء والارتقاء- فإنك ترى عجبا من العجب. فى نظم القرآن الكريم، وما يحمل هذا النظم من أسرار وغيوب.
إن آدم- ونعنى به الإنسان- لم يخلق من تراب خلقا مباشرا، بمعنى أن الله سبحانه قبض قبضة من تراب، فقال لها كونى آدم- أي إنسانا- فكانت.. ولو شاء الله سبحانه هذا لكان كما شاء وأراد.. ولكنه- سبحانه- خلق آدم خلقا متطورا، كما يخلق الشجرة العظيمة- مثلا- من بذرة، وكما يخلق الرجل المكتمل من نطفة! لقد تنقّل آدم- ونقول الإنسان- فى أطوار كثيرة لا حصر لها، كما يقول سبحانه: «ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً» (١٤: نوح» وكما يقول سبحانه فى هذه السورة: «وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً» (١٧: نوح).
فآدم الذي هو أول إنسان ظهر على هذه الأرض- قد كان ترابا..
ثم تخلّق من هذا التراب أول جرثومة للحياة، هى أدنى مراتب النبات، فى عالم الطحالب.. ثم تدرجت الأحياء فى هذا العالم النباتي إلى مداها، فكان منها النخل الذي هو قمة هذا العالم النباتي، ثم بدأت جرثومة العالم الحيواني فى الإميبيا
480
والمحّار، والإسفنج.. وذلك فى أدنى مراتب هذا العالم الذي نما صعدا حتى بلغ مداه فى فضائل القردة، التي بدأت تطل من وجهها صورة باهتة للإنسان «آدم» ثم أخذت هذه الصورة تتضح قليلا قليلا، وتنضج فى بوتقة الزمن على مهل.. حتى كان اليوم الذي أطل منه وجه «آدم»، ممثلا فى إنسان الغاب. وكان هذا الآدم هو باكورة ثمار هذه الشجرة التي امتدت جذورها فى أعماق الأرض! واقرأ الآية الكريمة مرة أخرى: «كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ.. ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ.. فَيَكُونُ».
وقس أبعاد الزمن فى ذبذبات تلك الكلمة المعجزة.. «فيكون».
فإنه لو انكشف لك من العلم هذا المقياس الذي تقاس به ذبذبات الكلمات- لاهتديت إلى ذلك الزمن الذي تم فيه خلق آدم، وتنقله من طور إلى طور..
من التراب.. إلى النبات.. إلى الحيوان.. إلى الإنسان، ولوضعت يدك على العدد الصحيح من ملايين السنين التي قطعها «آدم» فى رحلته الطويلة عبر الزمن، حتى كان هذا «الآدم» !! إن «آدم» ليس غريبا عن هذا العالم الأرضىّ الذي يعيش فيه، والذي استولى عليه بسلطان العقل.. فهو ثمرة من ثمراته.. إنه من تراب هذه الأرض.
واقرأ مع هذا قول الله تعالى: «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ» (٤: البلد) قوله سبحانه: «وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ.. يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (٤٥: النور) وقف عند قوله
481
تعالى: «فَمِنْهُمْ.. وَمِنْهُمْ.. وَمِنْهُمْ» إنهم هم آدم، وأبناء آدم، ينتقلون فى أصلاب هذه الكائنات وأرحامها، فى ملايين السنين.
الآية: (٦٠) [سورة آل عمران (٣) : آية ٦٠]
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٦٠)
التفسير: قوله تعالى: «الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ» أي هو الحقّ من ربّك، ذلك الذي حدّثك به من أمر عيسى- عليه السّلام- وأنه خلق من خلق الله، وعبد من عباده، إنه كلمة الله ألقاها إلى مريم وروح منه.. فليس هو ابن زنا- كما يتخرص اليهود- وليس هو الإله ولا ابن الإله- كما يزعم النّصارى، وإنما هو من حدّثك الله به، في كلماته التي أنزلها عليك.. وهى الحق، نزل من عالم الحق.. فلا مرية فيه، ولا جدال معه.
والامتراء: هو الشك:
وفى هذه الآية تثبيت للنبيّ فى أمر المسيح، وفى حقيقته.. حيث لا التفات إلى أية مقولة أخرى تقال فيه، بعد قول الحق الذي قاله الله رب العالمين.
الآية: (٦١) [سورة آل عمران (٣) : آية ٦١]
فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (٦١)
التفسير: لقد عاشت أجيال النصارى نحو سبعة قرون قبل مبعث النبي الكريم، وهم على هذا المعتقد فى المسيح- عليه السّلام- وأنه هو الله، تجسد فى بطن عذراء!
482
وإنه لمن العسير أن يتخلّصوا من هذا المعتقد الذي دانوا به، وأقاموا له بناء ضخما من المنطق العاطفى، الذي امتزج بتفكيرهم، واختلط بمشاعرهم..
وهيهات- والأمر كذلك- أن يستمعوا إلى قول يخالف ما قالوا، وأن يتصوّروا المسيح على غير الصورة التي انطبعت فى كيانهم.
وإذن، فالحديث إليهم بمنطق العقل لا يجدى شيئا، وإقامة البراهين والحجج بين أيديهم لتفنيد ما زعموا، سيلقونها ببراهين وحجج، وإنه لا محصّل لهذا إلّا المماحكة والجدل، واتساع شقة الخلاف والخصام.
وإذ كان الأمر كذلك، فلا جدال مع أتباع المسيح فيما يقولون فيه..
فإن جاءوا إلى النبىّ الكريم يجادلونه ويحاجّونه، فلا يلقاهم النبي بجدال وحجاج، إذ خرج الأمر فيه عن العقل ومنطقه، عند أتباعه، وصار إلى الوجدان والعاطفة.. فليكن مقطع الحق فى هذا الموقف، أن يصار فيه إلى الأسلوب العملىّ الملموس الذي يجابه الحواس، ويؤثّر آثاره فيها، بحيث يعلق الأثر بمن وقع عليه، ويجد مذاقه.. الحلو أو المرّ، فى نفسه.
وجاء وفد من نصارى نجران، بعد أن أداروا الأمر فيما بينهم، وأعدوا له العدة- جاءوا يحاجّون النبىّ فى «المسيح» بما عندهم من مقولات فيه، وهم يريدون أن يسقطوا ما تلقّى النبىّ من كلمات الله فى المسيح وفى أمّه، وبذلك تسقط دعوى النبىّ كلها بأنه رسول من عند الله، وأن ما بين يديه من قرآن هو من عند الله.
وأخذ النبىّ- كما أمره الله- الطريق عليهم، فدعاهم إلى أن يدخلوا معه فى تجربة عملية، هى أبلغ من كل قول، وأقوى من كل حجة..
«تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا
483
وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ
لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ» ولقد خرج النبي الكريم بنفسه، وبابنته فاطمة، وولديها الحسن والحسين، وبنسائه جميعا.. وطلب إلى هذا الوفد أن يلقوه بأنفسهم، وبأبنائهم وبنسائهم، وأن يبتهلوا جميعا- هو ومن معه، وهم ومن معهم- إلى الله: أن يجعل لعنته على الكاذب من الفريقين، فيما يقول عن عيسى من مقولات! وتدبّر الوفد الأمر فيما بينهم، وأداروه على جميع وجوهه، ونظروا إلى أنفسهم، وإلى أبنائهم ونسائهم، فرأوا أن الأمر قد صار إلى الجدّ، وأنهم مبتلون فى أنفسهم وأهليهم، وهنا أعادوا النظر فيما بين أيديهم من أمر المسيح، فرأوا أن حجتهم واهية، وأن يقينهم الذي استيقنوه منه، مشوب بشك يكاد يغلب هذا اليقين، وبدا لهم أن مصرعهم وشيك هم وأهليهم إن هم باهلوا النبي، وأن دعوتهم على أنفسهم باللعنة إن أخطأتهم، فلن تخطئهم دعوة النبي، التي لا ترد.. فتركوا ما جاءوا له، وعادوا من حيث أتوا، وفى قلب كلّ منهم وسواس، وفى كيانه صراع عاصف، بين الحق الذي رآه، والباطل الذي يعيش فيه.
الآيتان: (٦٢، ٦٣) [سورة آل عمران (٣) : الآيات ٦٢ الى ٦٣]
إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٢) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (٦٣)
التفسير: إن الذي يقصّه القرآن الكريم من أحداث ومواقف، هو القصص الحق، لأنه منزل من الحق سبحانه وتعالى.. ومن الحق الذي تحدث به القرآن:
أنه لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأن القول بأن مع الله آلهة أخرى، أو أن
لله ولدا، أو زوجا- هو كذب مبين، وبهتان عظيم.. وإن من صفات الله إلى جانب تفرده بالألوهية، تفرده كذلك بالعزة والحكمة.. وإن عزته ليست عزة جبرية وتسلط، وإنما هى عزة قائمة بالحكمة والعدل.
هذا هو إيمان المؤمنين بالله، وذلك هو وصفهم له.. فإن آمن به أهل الكتاب على تلك الصفة، فقد اهتدوا ورشدوا، وإن تولوا فقد ضلوا وتعسوا.
وقوله تعالى: «فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ» وعيد لأولئك الذين أبوا أن يستمعوا إلى قوله الحق، وأن يستجيبوا لما يدعوهم الرسول إليه من الحق..
فوقوعهم تحت علم الله يكشف مستورهم، ويفضح أعمالهم، ويسجل جرائمهم التي سيجزون عليها.. ثم إن وصفهم بالمفسدين حكم بالإدانة عليهم، وبأنهم- بعد كفرهم- قد أصبحوا فاسدين ومفسدين، ومن كانت تلك صفته فالنار أولى به، وبئس المصير.
الآية: (٦٤) [سورة آل عمران (٣) : آية ٦٤]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٦٤)
التفسير: هذه دعوة عادلة إلى أهل الكتاب.. يدعوهم فيها رسول الله، إلى كلمة يجتمع عليها المسلمون وأهل الكتاب، تلك الكلمة هى: «أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ» فالتوحيد الخالص لله، توحيدا مصفّى من كل ضلالات الشرك وأوهامه- هو مضمون تلك الكلمة ومحتواها.
وقوله تعالى: «وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ» هو تعريض بأتباع المسيح الذين اتخذوا المسيح- وهو بعض الناس- اتخذوه إلها من دون الله.. فالمسيح هو إنسان من الناس، فكيف يتخذ الناس بعضهم أربابا وآلهة؟ إنه مهما بلغ تقديرنا وإعزازنا لبعض الناس منا، فإن ذلك لا يخرج بهم عن دائرة الإنسانية، ولا يخرج بنظرنا إليهم عن الحدود البشرية، وإن وضعناهم على الذروة منها.
وقوله تعالى: «فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ» إلفات للمسلمين إلى ما بين أيديهم من حقّ، فى تلك الكلمة التي دعوا أهل الكتاب إليها.. فإن أباها أهل الكتاب، وأعطوها ظهورهم، فإن على المسلمين أن يؤذّنوا بها فى أسماع العالمين، وأن يملئوا أفواههم وقلوبهم بها، وأن يقولوها صريحة مدوية، بمحضر من هؤلاء الذين صمّوا آذانهم عنها، وأمسكوا ألسنتهم عن النطق بها.. وإشهاد أهل الكتاب على إيمان المؤمنين، هو شهادة عليهم، وحجة قائمة على موقفهم العنادىّ من دعوة الحق.
الآيتان: (٦٥، ٦٦) [سورة آل عمران (٣) : الآيات ٦٥ الى ٦٦]
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٥) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٦٦)
التفسير: ينكر الله سبحانه وتعالى على أهل الكتاب- من اليهود والنصارى- دعواهم فى إبراهيم عليه السّلام، إذ تدّعى اليهود أنه على دين اليهودية، وأن اليهود على دينه، كما يدّعى النصارى أنه كان على النصرانية،
486
وأنهم على دين إبراهيم! وقد كثر جدلهم وحجاجهم فى هذا.. فكان أن أنكر الله على الفريقين دعواهم.. «لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ» فكيف يدين إبراهيم بالتوراة والإنجيل وقد سبقهما بزمن طويل؟ وليست التوراة إحالة على دين إبراهيم، حتى يكون ما عليه اليهود هو دين إبراهيم، وإنما جاءت التوراة بشريعة خاصة لليهود، وإن كانت الشرائع كلها مستمدة من مصدر واحد.. ولكن لكل دين شريعة خاصة بالجماعة المدعوة إلى هذا الدين، قال الله تعالى: «لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً» (٤٨: المائدة).
وكذلك الشأن فى الإنجيل، إذ ليس فيه شريعة، وإنما شريعة أتباع الإنجيل هى التوراة! وفى قوله تعالى: «أَفَلا تَعْقِلُونَ» تعريض بأهل الكتاب، وبغلبة التعصب الذي أعمى بصائرهم عن النظر فى البديهيات، فضلا عن المشكلات.
وقوله تعالى: «ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ» هو استدعاء لموقف أهل الكتاب وفيما يجادلون فيه، مما فى أيديهم من التوراة والإنجيل عن المسيح، وأمه، ومولده ومعجزاته، وصلبه.. فهذا الموقف على علّاته، وما فيه، من مقولات باطلة، هو أصح من موقفهم الجدلىّ فى إبراهيم عليه السّلام، وفى يهوديته ونصرانيته، إذ كان الموقف الأول يستند إلى شىء.. أي شىء، على حين أن الموقف الآخر لا يستند إلا على خواء!! وقوله تعالى: «وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» إفحام لهؤلاء الذين يتقوّلون بغير علم، وإخراس لألسنتهم التي تجادل بالزور والبهتان.. فليس لهم مع قول الله قول، وليس لهم مع علمه علم.. فالله يعلم علما مطلقا محيطا بكل شىء..
وهم لا يعلمون من علم الله شيئا!
487
الآية: (٦٧) [سورة آل عمران (٣) : آية ٦٧]
ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦٧)
التفسير: هذا هو إبراهيم- عليه السّلام- وذلك هو دينه..
«ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» وقوله تعالى: «وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً» تعريض بما عليه أهل الكتاب- اليهود والنصارى- من انحراف عن الدين القويم، الدّين الذي جاء به أنبياء الله إلى عباد الله! والحنيف هو المتعبد لله، الراكع الساجد لعزته وجلاله، المائل عن طرق الهوى والضلال.. والمسلم، هو من أسلم وجهه لله، وأقامه عليه وحده، دون أن يلتفت إلى سواء.
واليهود والنصارى، لم يسلموا وجههم لإله واحد، قائم على هذا الوجود، متفرد به.. إذ جعل اليهود إلههم إلها فرديّا، هو ربّهم، وقائد جنودهم، وقائم على تدبير شئونهم.. هم وحدهم.. أما الناس جميعا غيرهم، فلهم إلههم أو آلهتهم..! ولا شأن لهذا الإله أو تلك الآلهة باليهود، كما لا شأن لليهود بها..
هكذا يعتقدون..
أما النصارى فإلههم هو ثلاثة: أب، وابن، وروح قدس.. تجتمع وتتفرق..
فإذا اجتمعت كانت إلها واحدا، وإذا تفرقت كان كل منها إلها كاملا..
وهذا وذاك، على غير الحق، وعلى غير ما يدين به إبراهيم، الذي ينسبون دينهم إليه.. لأن ذلك شرك، والله تعالى يقول فى إبراهيم: «وَما كانَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ»
فكيف ينتسب إليه المشركون؟ وكيف تصحّ تلك النسبة، أو تستقيم على وجه؟
الآية: (٦٨) [سورة آل عمران (٣) : آية ٦٨]
إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (٦٨)
بعد أن أبطل الله سبحانه دعوى اليهود والنصارى بنسبتهم إلى إبراهيم، الذي يدينون بغير ما كان يدين به، من توحيد الله، توحيدا خالصا مطلقا- بيّن الله سبحانه- من هم أولى الناس بإبراهيم وبالانتساب إليه، وبوصل دينهم بدينه..
وإن أولى الناس بتلك النسبة لهو النبي صلّى الله عليه وسلّم والذين آمنوا.. إذ كان دين محمد هو الإسلام لله، والإقرار بوحدانيته، وكذلك إيمان المؤمنين بمحمد.. فكل من كان على إيمان بالله كهذا الإيمان فهو أحقّ الناس بإبراهيم، وأقربهم نسبا إليه.
وفى قوله تعالى: «وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ» مع ما فيه من فضل سابغ على المؤمنين بولاية الله لهم، وضمّهم إلى جناب رحمته، فيه زجر لأهل الكتاب وتشنيع عليهم، وطرد لهم من ولاية الله لهم، ومن قبولهم فى المقبولين من عباده المؤمنين: «اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» (٢٥٧: البقرة).
الآية: (٦٩) [سورة آل عمران (٣) : آية ٦٩]
وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٦٩)
التفسير: الشرّ يعمل دائما على أن يتحكّك بالخير، وأن يدير وجهه إليه، ليرصد كل حركاته وسكناته، وذلك ليطمئن على وجوده القائم على الباطل، وحتى يطفىء تلك الشعاعات المضيئة المسلطة عليه من الحق، والتي تهدده بفضح موقفه وسوء مصيره.
وهكذا أهل الباطل والضلال دائما، فى كل أمة، ومن كل جيل، يهاجمون الحق فى كل سانحة تسنح لهم، ويدبّرون له العدوان حيث وجدوا إلى ذلك سبيلا.. لأنهم يستشعرون أنهم مهددون بالضياع، وأن تلك الخيوط الواهية التي تشدّهم إلى الباطل، وتقيمهم على الضلال، هى فى معرض الانحلال والتفكك، لأدنى لمسة تلمسها بها يد الحق! فهم بهذه المحاولات التي يتهجمون بها على مواطن الحق إنما يريدون أن يدفعوا خطرا- متوهّما أو متحققا- يطلّ عليهم من آفاق الحق ومواطنه.
وقد كشف الله سبحانه وتعالى فى القرآن الكريم كثيرا من مكايد أهل الكتاب، وما يدبرون للمسلمين من شر، وما يبيّتون من عدوان.
والسلاح الأول الذي يعتمد عليه أهل الكتاب- وخاصة اليهود- فى المعركة التي يدبّرونها مع الإسلام، هو التشكيك فى رسالة الرسول، وفى الكتاب الذي نزل عليه.. ذلك أنهم لو كسبوا المعركة فى هذه الميدان، لأغناهم
490
ذلك عن لقاء الإسلام والمسلمين فى أي ميدان آخر.. حيث لا يكون إسلام ولا مسلمون، متى قام الدليل على بطلان دعوة «محمد» وبطلان ما نزل عليه من عند الله.
ذلك هو تقدير بعض أهل الكتاب، وهو فى ذاته تقدير سليم لو أنه صادف النبىّ والكتاب الذي نزل عليه، كما توهموا وقدروا.. ولكن، فى كل مرة ساق فيها أهل الكتاب كيدا إلى النبي وإلى القرآن، رجمتهم صواعق الحق، فولوا مدبرين، يجرّون ثوب الخزي والخسران.
وفى قوله تعالى: «وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ» ما يكشف عن بعض هذه النوايا الخبيثة، التي تنطوى عليها بعض النفوس الضالة من أهل الكتاب.. إنهم يريدون أن يفسدوا على المسلمين دينهم، وأن يقيموهم منه على الشك، بما يتأوّلون لهم من متشابه القرآن، وما يصدرون لهم من شبهات، يحيكونها من خيوط البهتان والضلال.. فبهذا إنما هم يضلّون أنفسهم، إذ اتخذوا الضلال مركبا، والزور طريقا، والجدل سلاحا، فى تلك المعركة التي اشتبكوا فيها مع الإسلام والمسلمين.. إنهم قد خسروا أنفسهم من أول الطريق، إذ كانوا على ضلال وفى ضلال.. فإن كسبوا المعركة واستطاعوا أن يضلوا غيرهم، فحسبهم من الغنيمة أنهم خسروا معها أنفسهم مرتين.. مرة قبل المعركة ومرة بعدها! وقوله تعالى: «وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ» قد قصر الضلال عليهم وحدهم فى سعيهم الذي سعوه لإضلال المؤمنين.. وهذا يدعونا إلى أن نسأل:
كيف يقصر الضلال عليهم وحدهم، مع أنه من الممكن أن يكونوا قد أضلّوا غيرهم، بما فعلوا حين احتكاكهم بضعاف الإيمان، ممن أسلموا ولمّا يدخل الإيمان فى قلوبهم، من الأعراب وغيرهم.. فكيف هذا؟
491
والجواب على هذا، هو أن هؤلاء الضالين من أهل الكتاب، إذ يسعون إلى إضلال غيرهم الذين استقام طريقهم على الهدى- هؤلاء إنما يضلون أنفسهم، أي يغرقونها فى الضلال، وأما هؤلاء الذين أغواهم هؤلاء الضالون، وأركبوهم معهم مركب الضلال، فإنهم عبء جديد يثقل هؤلاء الضلال، ويغلظ جريمتهم، ويضاعف إثمهم.! فالواقع- والأمر كذلك- أنهم لم يضلّوا إلا أنفسهم، فيما سعوا فيه، من إضلال غيرهم، وأنهم حملوا فوق ظهورهم أوزار هؤلاء الذين أضلوهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ» (٢٤، ٢٥: النحل).
الآيتان: (٧٠- ٧١) [سورة آل عمران (٣) : الآيات ٧٠ الى ٧١]
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١)
التفسير: بعد أن كشفت الآية السابقة عن بعض النوايا السيئة التي يعيش فيها فريق من أهل الكتاب، الذين يتربصون بالمؤمنين، ليضلّوهم، وليفسدوا عليهم دينهم الذي ارتضوا- بعد هذا التفت- سبحانه- إلى هؤلاء الضّالين المضلّين من أهل الكتاب، وخاطب فيهم أهل الكتاب جميعا، إذ كان هؤلاء هم علماؤهم وأهل الكلمة فيهم.. فقال سبحانه:
«يا أَهْلَ الْكِتابِ» أي يأمن منّ الله عليهم بكتاب من عنده،
فيه رحمة وهدى ونور، فكفروا هذه النعمة، وعموا عن هذا الهدى والنور اللذين يشعّان منها:
«لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ» أي وأنتم تشهدون ما فى آيات الله من عبر وعظات، وما فيها من دلائل على قدرة الله، وحكمته، وعلمه.. إنها تنطق بالحق لو وجدت من يسمع، وإنها لتشعّ بالنور لو وجدت من يبصر..
«يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ» ونداؤهم مرة أخرى ونسبتهم إلى الكتاب توكيد لهذه التذكرة، إن كانوا ممن يتذكرون..
وفى قوله تعالى: «لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ» عرض لبعض أفاعيلهم وفضح لما هم فيه من ضلال.. إنّهم يلبسون الحق بالباطل، أي يغطّون وجه الحق، ويسترونه بدخان الباطل والضلال، فيشتبه على الناس وجه الحق، وتتفرق بهم السبل إليه.. وإنهم ليكتمون الحقّ الذي يعرفونه من أمر محمد والقرآن الذي نزل عليه، وليس ذلك الكتمان عن جهل، وإلا لكان لهم ما يعذرون به، ولكن كتمانهم هذا عن علم ومعرفة، وتلك هى مصيبة المتكبرين، وآفة الحاسدين، الحاقدين. «وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» ؟
الآية: (٧٢) [سورة آل عمران (٣) : آية ٧٢]
وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢)
493
التفسير: من مكر بعض الطوائف من أهل الكتاب، وكيدهم للإسلام والمسلمين، تلك التجربة التي أرادوا أن يفسدوا بها على المسلمين دينهم، وأن يدخلوا الشك عليهم من جهته، وهذه الطائفة هى من جماعة اليهود، الذين يكيدون للإسلام ويتربصون به.
وانظر كيف سوّلت لهم أنفسهم، وإلى أين قادهم الحقد ودفع بهم الحسد؟
لقد ائتمروا فيما بينهم، وتخيروا جماعات منهم يدسونهم فى الإسلام، ويدخلونهم مع المسلمين، على حساب أنهم دخلوا فى الإسلام، وصاروا من المسلمين..
هذه هى المرحلة الأولى من مراحل التجربة..
وإذا دخلت هذه الجماعة فى الإسلام، وحسبت فى المسلمين، فإن لها أن تحدّث عن الإسلام، وأن تقول قولتها فيه، وفيما وجدت منه! وماذا لو أنّها قالت فى الإسلام قولة السوء؟ وماذا لو رمت الإسلام بكل نقيصة ومعيبة؟
أليست لسانا من ألسنة المسلمين؟ وأليس ما تقوله عن علم وتجربة؟ ومن ذاق عرف، كما يقولون؟ إن ذلك من شأنه أن يحدث اضطرابا وحلخلة فى المجتمع الإسلامى، وأن يثير شكوكا فى قلوب الضعفاء والجهلة، وعند من لم ترسخ أقدامهم بعد على طريق الإسلام.
ذلك ما قدره أصحاب هذه «اللعبة» لتجربتهم الصبيانية تلك..
وقد جاء أمرهم على غير ما قدروا ودبّروا! فبدلا من أن يثيروا البلبلة والاضطراب فى محيط الإسلام والمسلمين، وقع الاضطراب والبلبلة فى جماعتهم هم، وإذا كثير من هؤلاء الذين أرسلوهم ليكونوا كلاب صيد فى حمى الإسلام،
494
صادهم الإسلام، وعلقوا فى حباله.. فما أن عاش بعضهم فى الإسلام ساعات حتى استولت عليه روح الإسلام، وطردت من كيانه نوازع الزيغ والضلال، فدخل فى الإسلام عن يقين، بعد أن كان قد غشى حماه للكيد والإفساد..
ومن غلبت عليه شقوته من كلاب الصيد هذه، فلم يدخل الإسلام ولم يعتقده، عاد إلى جماعته مثخنا بالجراح، فلم يصبح مسلما، ولم يعد كافرا. ، بل تحوّل إلى منافق، يتردد أمره بين الإيمان والكفر..!
من أجل هذا كان من وصاة تلك الجماعة المتآمرة، لمن ترسلهم من كلاب الصيد هذه- كانت وصاتهم لهم: «وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ» يحذّرونهم من أن يلقوا أسماعهم إلى المسلمين، وأن يفتحوا قلوبهم إلى ما يحدّثونهم به من الإسلام، وإلا ساءت العاقبة، وفسد التدبير! وقد شاء الله أن تسيىء العاقبة، عاقبة تلك الجماعة المتامرة، وأن يفسد تدبيرها. ويسوء مصيرها. فتعلو كلمة الإسلام، ويموت الشانئون والكائدون، غيظا وكمدا!
الآيتان: (٧٣- ٧٤) [سورة آل عمران (٣) : الآيات ٧٣ الى ٧٤]
وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٧٣) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٧٤)
التفسير: فى قوله تعالى: «قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ» رد على أولئك الذين اعتقدوا أنهم على الحق، وهم الضالون المضلون. ولم يقع فى تصورهم أن
495
يكون لله سبحانه وتعالى فضل على غيرهم، أو أن يؤتى- سبحانه- أحدا غيرهم كتابا، كما أتاهم كتابا، فمكروا به وحرّفوه.
لهذا أمر الله نبيّه- عليه السّلام- أن يبطل هذا التصور الفاسد الذي تصوروه، وأن يقول لهم كلمة الحق التي ألقاها الله إليه: «إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ» أي إن الهدى هو ملك لله، لا ملك لأحد معه فيه، وأنه نعمة من نعمه، ورزق من أرزاقه، يضعه حيث يشاء، ويهدى به من يشاء، وأنه ليس محبوسا على اليهود وحدهم، مقصورا عليهم، لا ينال منه أحد غيرهم..
وفى قوله تعالى: «أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ» ما يكشف عن ظن اليهود بأنفسهم، وأنهم فوق العالمين، وأن الله هو ربّهم وحدهم، وأن رحمته ونعمته لا تنزلان إلا عليهم، وهم لهذا ينكرون كل نعمة تصيب غيرهم، وكل فضل يناله سواهم. كما يقول الله سبحانه وتعالى عنهم «وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً، حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ» (١٠٩ البقرة) ويقول سبحانه فيهم: «أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ» (٥٤: النساء) المصدر المؤول من أن وما بعدها فى قوله تعالى: «أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ» هو معمول للام التعليل المتعلق بفعل محذوف قبله، تقديره:
فلا تقتلوا أنفسكم حسدا لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، أو لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ركبتم الضلال وعميتم عن الحق، وفقدتم عقولكم فأهلكتم أنفسكم؟
وقوله تعالى: «أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ» معطوف على قوله تعالى «أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ».
496
والمعنى: ألأن أوتى المسلمون كتابا من عند الله فاهتدوا، كما أوتيتم أنتم كتابا من عند الله فلم تنتفعوا به، وقامت الحجة به عليكم، ولأن أصبح للمسلمين الحجة عليكم بهذا الكتاب الذي فى أيديهم، والذي يحدّث عنه كتابكم الذي فى أيديكم- ألهذا وذاك جحدتم الحق، وتنكرتم له، وحرّفتم كتابكم ليلتقى ما فيه مع أهوائكم، وليطفىء داء الحسد المتقد فى صدوركم؟
ولقد مكر اليهود بأنفسهم، وأفسدوا الكتاب الذي فى أيديهم، والذي يحدّث عن محمد، ويبشر به وبكتابه الذي أنزله الله عليه، حتى لا يكون للمسلمين حجة عليهم يلزمونهم بها، وما تنطق به التوراة من تصديق بمحمد وبكتاب الله الذي معه.. وفى هذا يقول الله تعالى عنهم: «أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ» (٧٥- ٧٦ البقرة) ذلك أن اليهود كانوا يعلمون ما فى التوراة عن «محمد» وعن رسالته، وأنّهم قد استقبلوا محمدا من أول الأمر بالتكذيب، وبادءوه بالعداوة والبغضاء، فلم يكن لهم- والشأن كذلك- إلّا يمضوا فى الشوط إلى نهايته، بل وأن يمعنوا فى التكذيب، وأن يتطاولوا فى العداوة والبغضاء.. وكان من أسلحتهم فى تلك الحرب أن يطمسوا ما فى التوراة من الحق الذي تتحدث به عن «محمد» ورسالته.
وقوله تعالى: «قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ» هو ردّ آخر على اليهود الذين أرادوا أن يحتجزوا فضل الله، وأن يجعلوه خالصا لهم.. شحّا وحسدا أن يصيب أحد خيرا غيرهم.. «وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ» يسع فضله النّاس جميعا، دون أن ينقص من فضل الله شىء.. ولكن
497
اليهود يرون الله وكأنه أحد أغنيائهم، وأنه بقدر ما ينفق، يكون النقص فيما بين يديه من مال، ولو استمر فى الإنفاق لنفد ما بين يديه.. وفيهم يقول الله تعالى: «قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً» (١٠٠: الإسراء).
وللإنسان أن يذهب مذهب التقتير، لأنه إنسان، ملكه محدود وإن بلغ ما بلغ من كثرة واتساع، وتعالى الله علوا كبيرا أن ينظر إليه وإلى فضله هذا النظر الذي يجعله والناس على سواء وقد كشف الله سبحانه وتعالى عن هذا الخلق اللئيم المندسّ فى طبيعة اليهود، وهو الحسد القاتل، الذي يأكل صدورهم، إذا نال أحد من الناس خيرا.. يقول الله تعالى: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ «١» يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ «٢» وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً» (٥١- ٥٢- ٥٣: النساء).. إنها كزازة نفس، وسوء خلق، وفساد ضمير، وأنانية فاتلة، وشحّ لئيم.
وقوله تعالى: «يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ» رد ثالث على اليهود بأن فضل يقع حيث يشاء، وينزل حيث أراد الله أن ينزل: «اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ» وفضل الله عظيم، ورحمته واسعة «فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً» (٧٨: النساء)
(١) وهم اليهود.
(٢) أي الضلال والبهتان. [.....]
498
الآية: (٧٥) [سورة آل عمران (٣) : آية ٧٥]
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥)
التفسير: الأحكام التي جاء بها القرآن فى شأن اليهود، والتي كشف بها ما فى نفوسهم من ضلال، وما فى قلوبهم من حسد وبغضاء للناس عامة، ولأهل الإيمان خاصة- هذه الأحكام وإن شملت غالبية اليهود، ودمغت أحبارهم وعلماءهم وأصحاب الكلمة فيهم، إلا أنها ليست على إطلاقها، فليس هناك شر محض، ولا خير خالص، فمهما استشرى الشر فإن فيه لمعا من الخير لا تكاد ترى، ومهما صفا الخير فإن فيه غشاوات من الشر لا تكاد تبين! واليهود وإن كانوا الشرّ كله، من الرأس إلى القدم- ففيهم الضالون، وفيهم المؤمنون.. كما يقول الله تعالى: «مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ» (١١٠: آل عمران).
وفى هذا المدخل الضيق إلى الإحسان والإيمان ما يسمح لأىّ من هذه الجماعة الضالة أن ينجو بنفسه، وأن يتحول إلى تلك القلة القليلة من المحسنين المؤمنين فيهم..
وفى قوله تعالى: «وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ» استثناء من الحكم العام الذي حكم به الله على اليهود.. وهذا باب رحمة لمن أراد الله له التوفيق والهداية منهم.
499
ففى تلك الجماعة الضالة المعربدة أفراد قليلون يخافون الله ويرعون الأمانة التي فى أيديهم، سواء أكانت من الله أم من الناس، فلم يخونوا أمانة الله، ولم يكتموا ما فى أيديهم من التوراة عن النبىّ «محمد» ورسالته، ولم يخونوا الناس فى الأمانات التي اؤتمنوا عليها، وإن كانت القناطير المقنطرة من الذهب والفضة..
وهؤلاء النفر القليل هم الذين ذكرهم الله سبحانه وتعالى فى قوله سبحانه «مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ» :
(١١٣- ١١٤: آل عمران) أما أكثر هذه الجماعة فهى على الضلال والعمى، وفى العداوة والبغضاء والحسد للناس جميعا، ولأهل الإيمان بخاصة.. فهذه الكثرة لا ترعى أمانة الله، ولا تحفظ أمانة الناس.. أما حسابهم مع الله فقائم على أنهم أبناؤه وأحباؤه، لهم أن يفعلوا معه ما يشاءون ويشاء لهم الهوى، دون أن ينالهم بشىء من عقابه وعذابه.. وأما حسابهم مع الناس، فالناس فى نظرهم وتقديرهم فى درجة دون درجتهم، وبينهم وبين الناس حجاز فى الفضائل وفى التكوين الجسدى والخلقي والروحي، كهذا الحجاز الذي بين الناس وفصائل القردة والحيوانات القريبة الشبه بالإنسان.
فالناس- فى تقدير اليهود- قطيع من الحيوان، وإن لهم- بهذا التقدير- أن يستغلّوا هذا القطيع الآدمي، كما يستغلّون الحيوان، وألا يرتبطوا معه بروابط العقود والوثائق، وإن ارتبطوا فلهم أن يتحلّلوا منها ما وسعهم
500
الحول والحيلة «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ» أي لا حرج علينا، ولا حائل من خلق أو دين يحول بيننا وبين أن نستغلّ الأميين، بشتى الصور ومختلف الأساليب! والأميون هم غير اليهود، وهم العرب خاصة، إذ كانوا ولا كتاب لهم.. وقد منّ الله على هؤلاء الأميين- أي العرب- إذ بعث فيهم رسولا منهم، فقال تعالى «لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» (١٦٤: آل عمران).
قوله تعالى: «وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ» تكذيب لا دعائهم بأن ليس عليهم حرج، فيما نقضوا من عهود، أو ضيّعوا من حقوق فيما بينهم وبين غيرهم، فقد أقاموا هذه الدعوى على أساس من دينهم وشريعتهم، إذ كانوا أهل دين وأصحاب شريعة، وليس فى دينهم الذي أنزله الله على أنبيائهم ولا فى الشريعة التي حملها هذا الدين- إباحة للبغى والعدوان، ولا دعوة للسلب والنهب والسرقة، ولا تفرقة بين الناس والناس فى الحقوق والواجبات! وإنما بدل اليهود فى التوراة وغيّروا، ودسوا فيها من الأحكام والشرائع ما يغذّى غرورهم الزائف، ويرضى شعورهم المريض، نحو الإنسانية كلها، وأهل الأديان خاصة.
الآية: (٧٦) [سورة آل عمران (٣) : آية ٧٦]
بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦)
التفسير: قوله تعالى: «بَلى» هو لفظ يجاب به على سؤال فى معرض النفي، فيجعل المنفىّ واقعا مثبتا.
وعلى هذا فإنّ قبل لفظة «بلى» سؤال منفى، وهذه اللفظة وما بعدها جواب عن هذا السؤال.
والسؤال محذوف.. وتقديره: ألم يكن هؤلاء الذين إذا ائتمنوا على قنطار أدوه.. ألم يكونوا من جماعة اليهود، تلك الجماعة الضالة التي حكم الله عليها باللعنة والطرد.. ؟
والجواب: بلى.. إنهم منهم، ولكن لكلّ حسابه وجزاؤه.. فمن أوفى بعهده فيهم، واتقى الله فى الأمانة التي أؤتمن عليها، فلن يأخذه الله بجناية قومه، بل هو ممن أحبهم الله ورضى عنهم «فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ» فكيف لا يتقبل عملهم؟ وكيف يجعلهم والمجرمين على سواء؟ «أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ؟ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟» (٣٥- ٣٦: القلم)
الآية: (٧٧) [سورة آل عمران (٣) : آية ٧٧]
إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٧)
التفسير: بعد أن عزل الله سبحانه المتقين من أهل الكتاب، وضمّهم إلى أهل رحمته ومرضاته- كشف سبحانه وتعالى عن المصير السيّء الذي ينتظر الجماعة الباغية الضالة من اليهود، وهم الكثرة الغالبة فيهم.. فوصفهم الله سبحانه وصفا كاشفا، ودمغهم بجرائمهم الشنيعة، التي يحملونها على ظهورهم إلى يوم
502
الحساب.. فقال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا».. فهم قد نقضوا عهد الله، وما عاهدهم عليه فى قوله سبحانه:
«وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ» وقد كذب أهل الكتاب هؤلاء على الله، وبدلوا آياته، وأنطقوا كتابه بما أملته أهواؤهم، وحلفوا على هذا البهتان، وأكّدوا هذا الزور بأيمان بالغة.
وهم بهذا الإثم الذي ارتكبوه قد باعوا آخرتهم، لقاء قليل من حطام الدنيا.
فإذا كانت الآخرة جىء بهم إليها وليس لهم نصيب من نعيمها، وإنما لهم ما ينتظرهم من نكال وعذاب.. «أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ» والخلاق الحظ والنصيب «وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ» فهم مطرودون من رحمة الله، مبعدون من مواطن رضاه ومغفرته.. لا يكلمهم الله، حين يكلم عباده الذين رضى عنهم، لأنهم ليسوا أهلا لأن يسمعوا كلام رب العالمين، إذ أصمّوا آذانهم عن سماع كلماته التي حملها إليهم رسله الكرام..
ولا ينظر إليهم، نظر رحمة ومودة.. لأنهم أغمضوا أعينهم عن النظر فى آيات الله وتدبر ما فيها من هدى ونور.. ولا يزكيهم- أي ولا يطهرهم من الآثام التي حملوها معهم، ولا ينالهم بمغفرته ورحمته، كما يتجاوز لأهل مودته عن سيئاتهم. «وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» فتلك هى عقبى الذين كذبوا على الله، وبدّلوا نعمة الله كفرا وأحلّوا قومهم دار البوار.
503
الآية: (٧٨) [سورة آل عمران (٣) : آية ٧٨]
وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٨)
التفسير: هذه الآية تكشف عن فريق آخر من أهل الكتاب، من جماعة اليهود، بعد أن كشفت الآيات السابقة عن جماعة من أهل العلم فيهم، يتّجرون بما عندهم من علم، ويبيعونه لمن يشترى.. أما هذا الفريق فهم. «يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ» أي يتلون آيات الكتاب تلاوة تلوكها ألسنتهم، وتلتوى بها شفاههم، فلا تخرج الكلمات إلا متآكلة متكسرة، يختلط بعضها ببعض، لا يدرى أحد ما مدلولها، ولا يهتدى أحد إلى وجه الحقّ فيها.. فهى أقرب إلى الرمز منها إلى الكلام.. «وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.. وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ» أنه الكذب.. أي أن كذبهم هذا على علم، وهو شرّ ما عرف من الكذب، وأبغض ما ظهر للناس من وجوهه.
الآيتان: (٧٩، ٨٠) [سورة آل عمران (٣) : الآيات ٧٩ الى ٨٠]
ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٨٠)
التفسير: فى هاتين الآيتين يكشف الله سبحانه عن تلك المفارقات البعيدة بين دعوات الأنبياء، وبين ما يدخله أتباعهم على تلك الدعوات من افتراء وبهتان.
504
فالنبىّ- وإن كان بشرا من البشر، وإنسانا من الناس- هو ممن اصطفاه الله، وتخيره من بين الناس، ليقوم بالسفارة بين الله وبين وعباده.
والله سبحانه وتعالى، إنما يتخير سفراءه من صفوة خلقه، ثم يكملهم ويحمّلهم بما يفيض عليهم من نفحات رحمته، وغيوث بركاته، فإذا هم بعد هذا الأدب الربانىّ أكمل الناس كمالا، وأصدقهم قولا، وأبعدهم عن مواطن الشبه والريب،.. بل هم الكمال كله، والصدق جميعه، والفضيلة فى تمامها وكمالها..
فإذا جاء أتباع رسول من رسل الله، وبأيديهم كتاب يضاف إليه هذا الرسول، وعلى ألسنتهم كلمات يحسبونها عليه، ثم كان فى هذا الكتاب ما ينقص من جلاله وكماله، وكان فى تلك الكلمات ما يجعل لله ما لا ينبغى لذلك الجلال والكمال- فآفة ذلك هم الأتباع، الذين غيروا فى الكتاب وبدّلوا، وتقوّلوا على الرسول، ونسبوا إليه ما نسبوا، زورا وبهتانا، ليجدوا لما تقوّلوا وزيّفوا طريقا إلى الآذان، حين ينسبونه إلى الرسول، ويضيفونه إلى ما تلقوا من كلماته التي هى كلمات الله.
وهذا الموقف يظهر على تمامه، فيما كان بين المسيح وأتباعه.. فقد جاء المسيح- عليه السّلام- إلى الناس مرسلا من عند الله، برسالة قائمة على سنن الأنبياء والمرسلين الذين سبقوه، كما ينقل ذلك عنه أتباعه فى كلمات صريحة واضحة إذ يقول: «ما جئت لأنقض الناموس والأنبياء بل لأكّمل».
ومع هذا الذي يقوله السيد المسيح، وينقله عنه أتباعه، ويؤمنون به- فإنهم يلتقون بالسيد المسيح فى آخر المطاف، فإذا هو الله رب العالمين، تجسد فى كائن بشرى، وعاش ما عاش بين الناس، ثم قدّم نفسه قربانا ليفتدى البشرية ويخلّصها من الخطيئة التي هى ميراث الناس جميعا من أبيهم آدم.. فكان أن عمل المسيح على إثارة ثائرة اليهود عليه، ليصلبوه، وليؤدّى بهذا الصلب الفداء
505
المطلوب لخلاص البشر.. وقد تم له ما أراد، وقدّم إلى الصلب، وصلب!! هكذا يقول أتباع المسيح عن المسيح وفيه! وهى مقولات تنقضها كلمات المسيح نفسه فى الإنجيل أو الأناجيل التي فى يد أتباعه، كما ينقضها تاريخ الرسل والأنبياء السابقين له، ونبى الإسلام الذي جاء من بعده، وينقضها قبل ذلك كله، وبعد ذلك كله، المنطق السليم، والعقل المطلق من قيد الهوى، المتحرر من عبودية التقليد والمحاكاة.
وفى قوله تعالى: «ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ»... وفى ذكر «بشر» بدل «نبىّ» ما يشير إلى أن النبىّ بشر من البشر، وأنه إذا جاز على البشر الكذب والافتراء على الله وعلى الناس، فإن النبي- وهو بشر- لا يكون منه أبدا الكذب والافتراء على الله أو على الناس.. وإلا كان ذلك اتهاما لله، ورميا لعلمه بالقصور، ولقدرته بالعجز، ولحكمته بالنقص، حيث اصطفى واختار من يحمل رسالته، ويودّى أمانته، ثم لم يكن من هذا المصطفى المختار إلا أن زيف الرسالة وخان الأمانة.. وبدلا من أن يكون داعيا لله، هاديا إليه، تحول إلى داعية لنفسه، قائدا الناس إلى الهلاك والضلال.. وتعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.. وإنه لن يرضى أسوأ الحكام وأجهل الأمراء أن ينسب إليه مثل هذا العجز وسوء التقدير فى اختيار أعوانه وسفرائه. فكيف بأحكم الحاكمين.. الله رب العالمين؟
وفى الآية حذف دل عليه سياق الكلام.. وتقديره: «ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ» ليدعو الناس إلى الله، وإلى الإقرار بوحدانيته.. «ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ» وقوله تعالى: «وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ» أي ولكنه يدعوكم إلى أن تكونوا ربانيين أي مؤمنين بالله، دعاة إلى الله، إذ كنتم علماء، وللناس
506
على العلماء حقّ هو أن يعلموهم ما علموا.
والالتفات هنا من الغيبة إلى الحضور، هو إمساك بمخانق علماء أهل الكتاب، وهم متلبسون بهذا الضلال الذي هم فيه، يطعمون منه ويطعمون أتباعهم من هذا الزاد الفاسد، الذي يهلك من يتناوله ويتزوّد منه.
وقوله تعالى: «وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً» معطوف على قوله تعالى: «ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ».. ويكون معنى القول هنا الأمر، أو يكون معنى الأمر فى قوله تعالى: «وَلا يَأْمُرَكُمْ» القول..
أي ولا يقول لكم أن اتخذوا الملائكة والنّبيّين أربابا.
وفى قوله تعالى: «أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ» ما يسأل عنه.. وهو: هل كانوا مسلمين قبل أن يجيئهم الرسول ويدعوهم إلى ما دعاهم إليه؟ وإذا كان كذلك فما داعية إرساله إليهم؟
والجواب على هذا، هو أن أتباع المسيح الذين التقوا به، وآمنوا بدعوته، كانوا على هدى وبصيرة من أمر تلك الرسالة الكريمة التي حملها عيسى عليه السلام، وهم بهذا كانوا مؤمنين، مسلمين، بل كان منهم الحواريون الذين أوحى الله إليهم! فهذه هى دعوة عيسى، وتلك هى رسالته، وهؤلاء هم أتباعه الذين آمنوا به وحقّ لهم الانتساب إليه، وإلى المسلمين! ومع الأيام، وانتقال الشريعة اليهودية المسيحية إلى مواطن غير موطنها دخل عليها كثير من الحذف والإضافة، والتأويل، والتخريج، حتى أصبح لها وجهان.. وجه بدأت به، ووجه آخر انتهت إليه، وبين الوجهين من الخلاف ما بين الأبيض والأسود من خلاف. وتضادّ.
507
بدأت المسيحية بالمسيح رسولا وانتهت به إلها يدعو إلى عبادته وعبادة أمّه.. كما يقول الله تعالى «وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟» (١١٦: المائدة).
بدأت المسيحية إسلاما يدين بها المسلمون، وانتهت إلحادا يدين بها من يعبدون المسيح، ويؤلهون أم المسيح! وعلى هذا يكون معنى قوله تعالى: «أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ». أي أيدعوكم المسيح أيها الذين آمنوا به إلها، إلى الكفر بالله، بعد أن دعا آباءكم الأولين إلى الإيمان به فكانوا من عباده المسلمين؟
أيدعوكم إلى هذا الذي تدّعون؟ ذلك محال! إن دعوة المسيح هى تلك الدعوة التي دعا إليها آباءكم الأولين، فآمنوا وأسلموا عليها، فكيف تكون تلك الدعوة نفسها هى التي بين أيديكم، والتي تدعوكم إلى الإيمان به إلها من دون الله؟ ما تأويل هذا وما منطقه؟
إنه لا تأويل لهذا إلا أن تحريفا دخل على دعوة المسيح فغيّر وجهها، وقلب حقيقتها، وإنه لا منطق لهذا إلا أن يكون هناك مسيحيان: مسيح عرفه المسيحيون الأولون.. المؤمنون المسلمون، ومسيح عرفتموه أنتم وعبدتموه من دون الله! وأما وليس إلا مسيح واحد، فالكلمة الآن لكم، لتقيموا لهذا التناقض وجها، ولتجعلوا له منطقا، إن كان للجمع بين المتناقضين وجه أو منطق!!.
508
الآيتان: (٨١- ٨٢) [سورة آل عمران (٣) : الآيات ٨١ الى ٨٢]
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٨١) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٨٢)
التفسير: النبيّون صلوات الله عليهم قائمون على أمر واحد، هو الدعوة إلى الله، وكشف معالم الطريق للناس إليه، ودعوة الناس بدعوة الحق والخير كما أمر الله.
ومن ثمّ كانت الجامعة بينهم، وكان النسب والقرابة! إذ كانوا جميعا يعملون فى ميدان واحد، وغاية واحدة.. ونجاح الدعوة لأىّ منهم هو نجاح ضمنى لهم جميعا، وهو انتصار فى موقع من مواقع الحق الذي يجاهدون فى سبيله.
وقوله تعالى: «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ» هو توكيد لهذه الجامعة التي تجمع بين النبيين، وتوثيق للأمر الذي شدّوا أيديهم عليه وعلى الجهاد فى سبيله.
فلقد أخذ الله العهد على النبيين واحدا واحدا، فيما ندبهم له، وفيما دعاهم إليه، وهو أن تتوحد فى مجال الجهاد رايتهم، وألا ينسخ بعضهم بعضا، أو ينعزل بعضهم عن بعض.. فإذا قام نبىّ منهم يدعو إلى الله، ثم جاء نبىّ آخر يدعو بتلك الدعوة، كان على كل منهما أن يصدّق الآخر، ويؤمن به، وينصره فيما يدعو إليه، لأن نصرة هذا النبىّ نصرة له، ونصرة لرسالتيهما معا.
وليس هذا شأن الأنبياء وحدهم، فى إيمان بعضهم ببعض، وتصديق بعضهم بعضا، ونصرة بعضهم لبعض.. بل هو شأن أتباع الأنبياء جميعا..
509
إذ هم المؤمنون بالله، وكتبه ورسله، فكل دعوة نبىّ هي دعوة جميع الأنبياء وأتباع الأنبياء، ومعاداة أي نبى وأتباع أي نبىّ هى محاربة لله ولرسوله وللمؤمنين: «إنما المؤمنون إخوة» وأتباع الأنبياء، المؤمنون برسالات الأنبياء، هم جميعا إخوة، يجمعهم التوحيد بالله، والعبودية لله! وفى قوله تعالى: «لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ» اللام موطئة للقسم الذي تضمنه العهد والميثاق الذي واثق الله به النبيين وعاهدهم عليه، والتقدير «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ» لئن آتيتكم النبوة وما معها من كتاب وحكمة «ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ».
وقوله تعالى: «مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ» وصف للرسول الذي يجب الإيمان به ونصرته، وهو أن يكون ما معه من كتاب، وما يدعو إليه من دين، قائما على السنن الذي دعا إليه أنبياء الله ورسله، من الإيمان بالله الواحد الأحد، المنزه عن الشريك والولد، فمن دعا إلى غير هذه الدعوة فليس نبيا وليس رسولا، فما أكثر أدعياء النبوة، ومدّعى الرسالة.
قوله تعالى: «قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي» الإصر العهد الموثّق.. وفى استحضار النبيّين، وأخذ الإقرار من أفواههم، وإشهادهم عليه، ثم شهادة الله على ما شهدوا عليه.. كل هذا يدل على ما لهذا الأمر الذي عاهدهم الله عليه من شأن وخطر عظيمين: «قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ».. وكفى بالله شهيدا.
وقوله تعالى «فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ» توكيد لهذا العهد، وتجريم لمن نقضه، ووقف من أنبياء الله ورسله موقف المشاق المنابذ..
510
وفى الآية الكريمة تعريض بأهل الكتاب، وخاصة اليهود، الذين نقضوا عهد الله، هذا الذي أخذه على أنبيائهم وعلى أتباع أنبيائهم، فكذّبوا بمحمد وبهتوه، وكتموا ما فى أيديهم من كتاب الله الذي لو استقاموا على ما فيه لكانوا أول المصدقين بمحمد، والمؤمنين به، إذ كانت التوراة تشهد لمحمد ولرسالته، وتبشّر به، كما يقول الله تعالى فى أهل الكتاب، وموقفهم من الرسول الكريم «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ» (١٤٦: البقرة) ويقول سبحانه أيضا: «وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ» (٨٩: البقرة).
وقد وصف الله سبحانه وتعالى أهل الكتاب هؤلاء الذين يكذبون رسل الله ويبهتونهم، بالفسق.. والفسق- فى اللغة- هو الخروج من حال إلى حال، ومن شأن إلى شأن، ثم كثر استعماله فى الخروج من خير إلى شر..
وأهل الكتاب هؤلاء كانوا على الإيمان قبل أن يمتحنوا بالدعوة التي حملها إليهم رسول الله، فلمّا زاغوا أزاغ الله قلوبهم، والله لا يهدى القوم الفاسقين.
الآية: (٨٣) [سورة آل عمران (٣) : آية ٨٣]
أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣)
التفسير: تكر هذه الآية على الكتاب الذين كفروا بمحمد،
511
وجحدوا ما عندهم من حقّ فيه- تنكر عليهم هذا الموقف الذي لا ينبغى لعاقل أن يقفه، لأنه يورد بذلك الموقف، موارد الهلاك.. فأى دين غير دين الله يبغون؟ وماذا ينكرون من أمر محمد وقد جاءهم بالحقّ الذي كان معهم مثله من كتاب الله الذي فى أيديهم؟ وهل جاءهم محمد بغير ما جاء به الأنبياء من قبله من دعوة إلى توحيد الله، والإيمان به إلها واحدا، قيّوما، له ملك السموات والأرض؟ إن ذلك هو الحق الذي قام عليه الوجود، وهو الدين الذي دان به لله كل مخلوق، فى ملكوت السموات والأرض.
فكيف يفسق أهل الكتاب هؤلاء، ويخرجون عن هذا الموكب الذي انتظم الوجود كلّه، فى أرضه وسمائه، وفى أحيائه وجماداته؟
وفى قوله تعالى: «وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً» الإسلام هنا الانقياد والخضوع.. وكل ما فى هذا الوجود منقاد لله، خاضع له، إن لم يكن عن ولاء ورضى، فهو عن قهر وسلطان! وماذا تملك المخلوقات من أمرها؟ وهل غير الاستسلام والخضوع؟ إنها جميعا فى يد القدرة القادرة المنصرفة وحدها من غير معترض أو معقب! فمن لم ينقد اختيارا انقاد اضطرارا، والله سبحانه وتعالى يقول «إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً» (٩٣: مريم) ويقول سبحانه: «يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ» (٣٣: الرحمن).. فهل لهؤلاء المحادّين لله، الكافرين به، ملجأ غير الله؟ وهل لهم أن يدفعوا عن أنفسهم ما يصبهم من ضرّ وأذى؟ «قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» (١٦٨: آل عمران)
512
(الآيتان: ٨٤- ٨٥) [سورة آل عمران (٣) : الآيات ٨٤ الى ٨٥]
قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٨٤) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٨٥)
التفسير: بعد أن كشفت الآيات السابقة موقف أهل الكتاب من رسل الله، وإيمانهم ببعض وكفرهم ببعض، ونقضهم فى هذا ما عاهد الله عليه أنبياءهم من الإيمان بكل رسول، ونصرته- بعد أن كشفت الآيات السابقة هذا، أمر الله نبيّه بأن يجهر بالحقّ الذي فسق عنه أهل الكتاب، وأن يقيم إيمانه على الدين الذي ارتضاه الله له، وللمؤمنين جميعا.. وهو الإيمان بالله، وما أنزل عليه من كتاب ربه، وما أنزل على الأنبياء قبله.. إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط، وما تلقى موسى وعيسى من آيات ربهما وكتبه، وما تلقى النبيون جميعا من ربهم، لا تفرقة فى هذا بين أحد منهم، فكلهم رسل كرام من رسل الله، سفراء بررة، بين الله وبين عباد الله! وفى قوله تعالى هنا: «قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا» وفى قوله سبحانه فى سورة البقرة: «قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا» (١٣٦) تفرقة بين النبىّ وأتباع النبىّ فى التلقّى عن الله سبحانه وتعالى، فالنبى هو الذي تلقى الكتاب عن الله، وأتباعه هم الذين تلقوا الكتاب عن النبي، ولهذا كان خطاب النبي: «قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا» وكان خطاب أتباعه:
«قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا». و «علينا» فيها الدنوّ والمباشرة، بخلاف «إلينا» وما فيها من بعد ومجاوزة.
513
وفى قوله تعالى: «وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ» وقوله: «وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ» - ما يسأل عنه.. وهو: لماذا كان الوصف المصاحب لما تلقّاه النبيون: محمد وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، هو «النزول»، على حين كان الوصف المصاحب لما تلقّاه موسى وعيسى هو «الإتيان» هكذا: «وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى» ؟
والجواب على هذا- والله أعلم- هو أن ما تلقاه النبىّ عليه الصلاة والسلام، وما تلقاه إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط عليهم السلام- كان وحيا من الله، على لسان ملك من ملائكته، هو جبريل عليه السّلام، فكان وصف هذا التلقي «بالنزول» هو الوصف المناسب لتلك الحال، أما ما تلقاه موسى وعيسى عليهما السلام، فكان تلقيا مباشرا من الله سبحانه وتعالى.. وفى موسى يقول الله تعالى: «وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً» (١٦٤: النساء) أما عيسى عليه السّلام، فقد أيده لله بروح القدس، لذى هو نفخة من روح الحق، فكان اتصاله بالله اتصالا مباشرا بهذا الروح الذي يملأ كيانه! وفى عيسى يقول الله سبحانه: «وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ» (٨٧: البقرة) وروح القدس، هو جبريل، أو روح من عند الله.. تلازمه، وتنطق بلسانه..!
قوله تعالى: «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ».. الإسلام هو دين الله الذي شرعه لعباده، والذي جاء به الأنبياء والمرسلون جميعا، ودعوا الناس إليه، فمن آمن منهم بما جاء به الرسل- من غير تحريف ولا تبديل- فهو مسلم من المسلمين..
فإبراهيم عليه السلام.. يسأل الله أن يوفقه وأهله وذريته إلى دين الإسلام،
514
فيقول كما ذكر القرآن ذلك على لسانه: «رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ» (١٢٨ البقرة) وفيه يقول الله تعالى: «إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ» (١٣١: البقرة).. وفيه يقول سبحانه: «ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» (٦٧: آل عمران) وإبراهيم هو أبو الأنبياء، وعلى دينه- وهو الإسلام- كان جميع الأنبياء من بعده! وعلى هذا، فليس المراد «بالإسلام» هو الشريعة الإسلامية التي جاء بها محمد عليه الصلاة والسلام، خاصة، إذ ليست هذه الشريعة بدعا من الشرائع السماوية التي سبقتها، بل هى وما قبلها من الشرائع- من يهودية ونصرانية وغيرهما- على سواء.. فجميعها شريعة الله، وكلها «الإسلام» الذي هو الدين عند الله، ولا دين غيره.
والخلاف الذي بين الإسلام، وبين اليهودية والنصرانية ليس اختلافا ناشئا عن حقيقة هاتين الديانتين، وإنما جاء الخلاف نتيجة لما حدث فيهما من تبديل وتحريف، ولو أنهما سلما من هذا التحريف والتبديل لالتقيا مع الإسلام. ولكان أتباعهما من المسلمين..
الآيات: (٨٦- ٨٩) [سورة آل عمران (٣) : الآيات ٨٦ الى ٨٩]
كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (٨٧) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٨) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٨٩)
515
التفسير: قوله تعالى: «كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ».
الاستفهام هنا ليس على حقيقته، وإنما هو استنكار واستبعاد لمن يطمع من هؤلاء الضالين أن يلبس ثوب المهتدين، وأن يرجو العون والتوفيق من الله، بعد أن أعطى الله ظهره، وكفر به وبآياته المضيئة بين يديه! وهؤلاء الضالون هم الذين كفروا من أهل الكتاب- وخاصة اليهود- الذين كفروا بعد إيمانهم.. فقد كانوا قبل بعثة محمد يؤمنون بأن نبيا عربيا سيبعث كما قال الله تعالى: «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ، يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ» (١٥٧: الأعراف)..
ثم جاءهم النبي المنتظر، ورأوا فيه وبين يديه دلائل الحق التي تشهد له أنه رسول الله، ووافقت صفته عندهم ما تحدثت به كتب الله التي بين أيديهم عنه.. ومع هذا أبوا إلا عنادا وكفرا.. فأنكروا كلمات الله، وجحدوا الحق الذي تحدثهم به، وبهذا تحولوا من الإيمان إلى الكفر.. كما يقول الله تعالى: «كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ».. وكما يقول سبحانه «فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ» (٨٩: البقرة).
والواو فى قوله تعالى: «وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ» وفى قوله:
«وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ» يمكن أن تكون للعطف على قوله تعالى: «كَفَرُوا» وهذا يعنى أنهم جمعوا المتناقضات التي لا تستقيم على عقل عاقل.. إذ جمعوا الكفر مع ما شهدوا من الحق الذي يطالعهم من وجه الرسول، ومع ما بين
516
يديه من آيات بينات.. وهذا أمر لا يكون إلا ممن سفه نفسه، وركب رأسه، وتعلق بأذيال شيطانه! كما يمكن أن تكون هذه الواو للحال، بمعنى أنهم كفروا فى تلك الحال التي يشهدون فيها دلائل النبوة، ويرون آياتها.. فهم والحال كذلك فى أمر مختلف.. الكفر عن علم وعمد! وفى قوله تعالى: «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» ما يكشف عن حقيقة الاستفهام الإنكارى الذي بدأت به الآية، وهو: «كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ».. فهؤلاء القوم قد اتخذوا الظلم مركبا، فاعتدوا اعتداء منكرا على الحقّ الذي بين أيديهم، حتى لقد اجترءوا على إفساد الكتاب السماوي الذي يؤمنون به، ويعيشون فيه.. «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» فكيف يهدى الله هؤلاء القوم الظالمين، الذين يشهدون الحق، ويستيقنونه، ثم يكفرون به؟ إنهم ليسوا أهلا لخير أبدا.
وكلمة «القوم» هنا تعنى أن هذا الظلم الذي ركبه هؤلاء السفهاء هو ظلم جماعى، تواطأ عليه القوم جميعا، ولم يقم فيهم رجل رشيد ينكر عليهم هذا المنكر، فكان ظلما غليظا، وداء قاتلا، لا يرجى له شفاء أبدا.. إنه أشبه بالوباء الذي ينزل بجماعة من الجماعات، فيأتى عليها بين يوم وليلة.
ولهذا كانت العقوبة الواردة على هؤلاء الظالمين عقوبة عامة قاصمة:
«أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ».. إنهم بمعزل من رحمة الله.. تحيط بهم لعنة الله ولعنة ملائكته، ولعنة الناس أجمعين: المؤمنين منهم وغير المؤمنين.. أما المؤمنون فلأنهم من حزب الله، يحاربون من حارب الله، ويلعنون من يلعنه الله.. وأما غير المؤمنين فإنهم على خلاف مع هؤلاء القوم الظالمين.. لهم ظلم غير ظلمهم، ودين غير دينهم..
517
فهم على عداوة- ظاهرة أو خفية- معهم.. ثم إنهم هم أنفسهم يتبرأ بعضهم من بعض، ويكفر بعضهم ببعض، ويلعن بعضهم بعضا، وذلك حين تقع بهم الواقعة، ويرون سوء المصير الذي هم صائرون إليه.. هكذا شأن جماعات الضالين والمفسدين، يجمعهم الضلال والفساد إلى حين.. ثم يفرّق بينهم الضلال والفساد يوم يقوم الناس لرب العالمين.. وفى هذا يقول الله تعالى:
«الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ» (٦٧: الزخرف) ويقول سبحانه: «وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ» (٢٥: العنكبوت).
والضمير فى قوله تعالى: «خالِدِينَ فِيها» يعود إلى اللعنة، أي هم خالدون فى هذه اللعنة الواقعة عليهم من الله والملائكة والناس، لا تزايلهم أبدا..
وقوله تعالى: «وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ» إشارة إلى أن هذه اللعنة واقعة عليهم فى هذه الدنيا، كما هى واقعة عليهم يوم القيامة.. إنهم يلقون جزاء هذا الظلم الغليظ معجلا ومؤجلا معا.
والاستثناء فى قوله تعالى: «إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» هو وارد على هذا الحكم الواقع على أولئك الظلمة وما رماهم الله به من لعنة عاجلة فى الدنيا وآجلة فى الآخرة.. بمعنى أن من تاب من هؤلاء الملعونين، ورجع إلى الله من قريب، وأصلح ما أفسد من دينه فإن مغفرة الله تسعه، ورحمة الله تعالى تناله، وترتفع عنه تلك اللعنة التي أحاطت به، وينزل منازل المؤمنين، الذين رضى الله عنهم، وتقبّل عنهم أحسن ما عملوا..
518
وفى هذا ما يفتح لهؤلاء المذنبين باب الرجاء فى رحمة الله، وينصب لهم معالم النجاة، إن هم أرادوا النجاة والخلاص.
الآية: (٩٠) [سورة آل عمران (٣) : آية ٩٠]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (٩٠)
التفسير: هذه الآية مكملة لما قبلها..
فبعد أن بيّن الله سبحانه وتعالى المصير المشئوم الذي سيقع على هؤلاء الكافرين من أهل الكتاب.. الذين كفروا بعد إيمانهم، وبعد أن شهدوا أن الرسول الذي ظهر فيهم هو رسول رب العالمين، يحمل آيات الهدى والنور من ربه.. وبعد أن ألبسهم الله ثوب اللعنة، ثم فتح باب الرحمة لمن نزع منهم عن غيّه وضلاله، وفاء إلى الحق، ورجع إلى الله تائبا، مصلحا ما أفسد من دينه وفى دينه- بعد هذا بيّن الله موقف المتعنتين من هؤلاء الضالين الظالمين، الذين دعاهم الله تعالى إلى جناب رحمته ومغفرته، فأبوا أن يستجيبوا، ولم يزدهم هذا الدعاء الكريم، من رب كريم، إلا إصرارا وعنادا، وإغراقا فى الإثم، واستغراقا فى الضلال- فهؤلاء لن تقبل توبتهم، ولن يلقاهم الله برحمته ومغفرته.. «وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ».
والسؤال هنا:
أهناك من يتوب، ويمدّ يده إلى الله بالصفح والمغفرة.. ثم يردّ، ولا صفح ولا مغفرة؟
والجواب، أن الله سبحانه وتعالى يدعو عباده إلى التوبة، ويفتح لهم باب
519
القبول والصفح، فيقول سبحانه: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ» (٢٢٢: البقرة) ويقول جل شأنه: «وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (٣١: النور) ثم يقول سبحانه: «وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ» (٧٥: الشورى).
فكيف لا يقبل الله توبة من جاء إليه ملبيّا نداءه، باسطا إليه يده بالتوبة والإنابة؟
والآية هنا تقول «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ» فهؤلاء الذين كفروا هم الذين أشارت إليهم الآية السابقة فى قوله تعالى:
«كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ» إنهم- والأمر كذلك- ليسوا مجرد كافرين، ولدوا فى الكفر، ونشأوا على الكفر، وإنما هم كفروا بعد إيمان، وضلّوا بعد هدى.. وليس هذا وحسب، بل إنهم تعمّدوا الخروج من الإيمان، وأطفئوا بأيديهم وبأفواههم النور الذي كان معهم.. وإنهم ليعرفون أنهم على ضلال، ولكن الحسد الذي يأكل قلوبهم جعلهم يلقون بأيديهم إلى التهلكة عن عمد وإصرار.
وإن إنسانا يستبدّ به العناد إلى هذا الحدّ، ويتسلط عليه الهوى إلى هذا المدى الذي يشوّه به معالم وجوده بيده- إن إنسانا كهذا الإنسان لن يرجع إلى الله أبدا، ولن تزيده الأيام إلا عمى وضلالا.. فقد استشرى به الداء، وهيهات أن يكون له دواء: «فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ» (١٠: البقرة)..
وفى قوله تعالى: «ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً» ما يكشف عن معدن هؤلاء
520
القوم، وأنهم كلّما امتد الزمن بهم كلما ازدادوا عتوّا وكفرا.. ومن كان هذا شأنه فإنه لا يرجى له صلاح ولن تكون منه إلى الله رجعة.
وفى قوله تعالى: «لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ» تيئيس لهم من التوبة التي إن أعلنوها بألسنتهم فى حال ماء أنكروها بقلوبهم، وشهد على إنكارهم سوء أعمالهم..
وفى قوله تعالى: «لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ» وجه آخر، هو أنهم- والله أعلم- قد لبسوا من الكفر غير ما يلبسه الكافرون.. إذا كانوا على الإيمان، فجعلوه، وارتدوا الكفر الذي لن يزايلهم أبدا، فإذا تاب تائبهم.. وهو على تلك الحال- فلن تقبل توبته، بمعنى أنه لن تمضى له هذه التوبة إلى آخر عمره، بل إنه راجع لا محالة إلى ما كان عليه من الكفر الغليظ الذي تلبّس به..
وبهذا تكون توبته تلك كلا توبة.. فقوله تعالى: «لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ» أي لن تقبل قبولا مثمرا، ينتهى بصاحبه إلى الهدى والإيمان.. إذ كانت التوبة غير خالصة لله وللحق! وقوله تعالى: «وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ» الإشارة هنا إلى هؤلاء القوم الذين كفروا بعد إيمانهم، ثم ازدادوا كفرا، ثم لم يكن الله ليقبل توبتهم..
«وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ» أي الذين استغرقهم الضلال، واشتمل عليهم..
فلا مخرج لهم منه إلى هدى.
آية: (٩١) [سورة آل عمران (٣) : آية ٩١]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٩١)
521
التفسير: هذا الحكم وإن كان عاما يلحق الكافرين الذين ماتوا وهم على كفرهم، إلا أنّه يتجه اتجاها مباشرا إلى اليهود، الذين أبعدهم الرحمن من رحمته، وتركهم مع كفرهم وضلالهم، وأغلق فى وجههم باب التوبة والقبول، وذلك لأنهم كفروا بعد إيمان، وضلّوا بعد علم، ثم اجترءوا على الله، فحرّفوا كلماته، وبدّلوا آياته..
وإنهم وقد أيأسهم الله من الرجوع إليه، سيمضون على ما هم فيه من كفر، وسيموتون كافرين..
ومن كان على تلك الصفة، فالويل له من عذاب يوم عظيم! وفى قوله تعالى: «فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً» أمور منها:
أولا: أن المال الذي هو دين اليهود، والذي من أجله استرخصوا الدّين، واستخفوا بآيات الله، ليحتفظوا بمراكزهم الاجتماعية فى مجتمعهم الفاسد- هذا المال الذي هم تاركوه وراءهم لن يدفع عنهم شيئا من العذاب الذي ينتظرهم فى الآخرة..
ثانيا: التعبير بالذهب عن المال، سواء كان ذهبا أو فضة، أو ضياعا أو دورا وقصورا ودوابّ- لأن الذهب هو المقياس الذي تعرف به قيمة كل مال، وهو الذي به ينال كل مال مطلب.
ثالثا: فى قوله تعالى: «أَحَدِهِمْ» ما يشعر بالاستخفاف بهذا المال، وبقلّة جدواه فى هذا الموقف، وأنه لو كان لأحدهم ملء الأرض ذهبا ما نفعه! فكيف وهو لا يملك من هذا المال ما يملأ حفرته من الذهب؟ فإن بلغ فى الغنى أقصى مدى فلن يملك مصرا من الأمصار! وأين هذا الذهب الذي يملأ هذا المصر الذي ملكه؟
522
رابعا: فى قوله تعالى: «وَلَوِ افْتَدى بِهِ» ما يكشف عن بعض البلاء النازل بهذا الذي كفر بالله، فى هذا اليوم، وأنه لو كان له ملء الأرض ذهبا لسمحت به نفسه فى غير تردد أو مساومة، ليدفع هذا البلاء، ويخلص بجلده.. وانظر كيف يسمح يهودى بهذا الذهب كلّه، ولا تنازعه نفسه إلى أن يحتجز بعضا، ويترك بعضا؟ ولقد كان مستعدا فى حياته الدنيا أن يبيع نفسه، لمن يشتريها- وقد باعها فعلا- لقاء حفنة من تراب هذا الذهب فكيف يلقى بهذا الذهب كله من يده؟ إنه العذاب الأليم الذي يجعله يذهل عن كل شىء حتى المال، وحتى الذهب.
الآية: (٩٢) [سورة آل عمران (٣) : آية ٩٢]
لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٩٢)
التفسير: فى الآية السابقة أهدرت قيمة الذهب، فكان لا ثمن له فى يد من يملكه، ولو كان ملء الأرض! إذ ماذا ينفع المال فى هذا اليوم، الذي لا بيع فيه ولا شراء؟
ومن هنا لم يكن لهذا المال الذي قدمه الكافر فدية له، وهو مال كثير، يملأ وجه الأرض كلها- لم يكن له أي أثر فى رفع شر أو جلب خير!.. إنه مال مزهود فيه، لا تلتفت إليه عين، ولا تمتد إليه يد، فهو والتراب سواء! وفى هذه الآية يبين الله تعالى أن المال الذي يبذل، وللأنظار مطمح فيه، وللقلوب علقة به، وللنفوس هوى إليه- هو المال الذي يدفع به الشر، ويجلب به الخير.
523
وإذ كان ذلك كذلك، فإن المال المبذول فى سبيل الله لا يبلغ بصاحبه منزلة الأبرار المقبولين عند الله، حتى يكون هذا المال أحبّ شىء عنده وآثره. إذ هنا يكون صاحب المال قد جاهد نفسه، وغلب هواه، وقهر دواعى الأثرة عنده، حتى نزل عن هذا الشيء المحبوب عنده، وأنفقه فى وجوه الخير، طمعا فى مرضاة الله، وابتغاء رضوانه.. وبهذا ينال ثواب المجاهدين، ويعطى أجر العاملين.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ» (٦٩: العنكبوت)
524
الآيتان: (٩٣- ٩٥) [سورة آل عمران (٣) : الآيات ٩٣ الى ٩٥]
كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٣) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩٤) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٩٥)
التفسير: عبث اليهود بآيات الله، وحرّفوا وبدّلوا فى كلماته، وأداروا دينهم على الوجه الذي يغذّى نزعاتهم، ويشبع أهواءهم، فأحلّوا وحرّموا، غير ما أحلّ الله، وغير ما حرم، وقد فضحهم القرآن الكريم فى أكثر من آية من آياته، فقال تعالى: «مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ، وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ، وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ، وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا» (٤٦: النساء) ولم يقف بهم الأمر فى تحريف كلمات الله وتبديلها عند حدّ، فتقوّلوا على أنبيائهم، ورموهم بالكبائر والمنكرات، وجحدوا رسالة محمد وما حدّثت به التوراة عنه، ثم تجاوزوا هذا إلى ما يتصل بشئونهم الخاصة التي رسمتها لهم شريعة موسى.. من القصاص فى القتلى، وحدود المحرمات، وما حرّم الله عليهم من طيبات كانت حلّا لهم من قبل أن تنزّل التوراة، نكالا لهم، جزاء كفرهم بآيات الله!
525
وفى كل هذا كانت تنزل آيات القرآن الكريم فاضحة لهم، ناشرة على الناس ضلالهم وافتراءهم على الله، وعدوانهم على حدوده.
فحين نزل فيهم قوله تعالى: «فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً» (١٦٠: النساء) وقوله تعالى: «وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ» (١٤٦، ١٤٧: الأنعام) - حين نزل فيهم هذا القرآن الذي يتهمهم بالبغي والعدوان، وأنهم عوقبوا ببغيهم وعدوانهم هذا العقاب الذي حرّم الله به عليهم ما كان حلّا لأسلافهم من قبل أن تنزل التوراة- حين قال فيهم القرآن هذا جعلوا يبدون العجب والدّهش، ويقول قائلهم: ما هذا القول الذي يحدّث به محمد عنّا؟ وكيف تبلغ به الجرأة على الحق أن يغيّر ويبدّل فى شريعتنا؟
وقد ردّ القرآن عليهم قبل أن ينطقوا بهذا الذي نطقوا به، ورصد لهم الجواب الذي يفحمهم ويخزيهم، قبل أن يتساءلوا ويعجبوا، فى خبث صبيانى مفضوح، فدعا الله تعالى نبيّه أن يلقاهم بهذا الردّ إن هم كذبوه فيما يتهمهم به القرآن من كذب على الله: «فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ» فمع سعة رحمة الله وشمولها، فإنها لا تنال هؤلاء المجرمين الذين رماهم الله ببأسه ونقمته، فحرم عليهم طيبات ما أحلّ.. وقد فضحهم الله فى قوله سبحانه: «وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ
526
أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ.. هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ.. لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ. إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ»
(١١٦: النحل) وفى قوله تعالى: «كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ» إشارة إلى أن الأصل فى الطعام أن يكون مطلق الحلّ، يتناول منه الإنسان ما ترضاه نفسه، وتطيب به.. إن ذلك شأن من شئون الناس.. فما استساغته النفوس وقبلته، فهو حلّ مباح لها، وما عافته واستقذرته لم يكن لأحد أن يحملها على تناوله.
فهذه أنواع الحيوان، وأجناس الطير.. لكل نوع طعام، ولكل جنس ما يغتذى به، ويقيم حياته عليه، إذ يعيش بعضها على النبات، وبعضها على الحبوب، وبعضها على الثمار، كما تعيش أصناف منها على اللحم، وأصناف أخرى على العشب! فإذا عرض على الحيوان آكل العشب بعض قطع اللحم لم يمدّ فمه إليها، والعكس بالعكس.. وهكذا كل صنف وكل نوع، يسعى وراء الطعام الذي ساغته نفسه وقبلته طبيعته! والإنسان شأنه شأن الحيوان فى هذا.. له أن يأكل مما تنبت الأرض، وما تحمل على ظهرها من حيوان، ما دام المأكول مستساغا عنده، مقبولا لديه! وطبيعى ألا يستسيغ الإنسان كل شىء أو يقبل كل شيء.. فقبل كثيرا، ورفض كثيرا، وهو حرّ فى القبول وفى الرفض.
ذلك شأن الإنسان، وهكذا ينبغى أن يكون شأنه.. الأمر متروك له، فيما يتخيّر من طعامه، وشرابه! ولكنّ العناية الإلهية كانت ولا تزال دائما أبدا تمدّ الإنسان بنصحها،
527
وإرشادها، حتى يستقيم على الطريق القويم. فأرسل الله رسله يحملون إلى الناس الهدى والرشاد، ويؤذّنون فيهم بكلمات الله، وما فيها من وعد ووعيد، إذ كان الإنسان أهلا لأن يخاطب من قبل الله، وأن تحمل إليه كلمات الله، وما فيها من نور وهدى! فكان الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وإباحة الحلال وحظر الحرام، مما بينته للناس شريعة السماء، وأمرت بالوقوف عند حدوده! وفى الطعام والشراب جاءت الشريعة السماوية بالإباحة المطلقة لكل ما هو طيب، كما يقول الله تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ» (١٧٢: البقرة) ويقول سبحانه: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا» (٨٧: المائدة).
وقد يكون من العجب أن تحرّم الشريعة السماوية على الناس بعض ما يشتهون، أو بعض ما يجدون له مساغا بوجه من الوجوه! ويقوم هذا العجب حين ننظر إلى الإنسان نظرتنا إلى الحيوان، ونقيسه عليه، ونسوّى بينهما فى القياس، وعندئذ يحوز لقائنا أن يقول: إذا كان الحيوان قد أطلق له الأمر فى اختيار طعامه وشرابه، والاستدلال بغريزته على ما يصلح له وما لا يصلح، أفلا يطلق للإنسان الأمر فى اختيار طعامه وشرابه، والتمييز بعقله وخبرته بين النافع منها والضار؟ أليس من باب أولى أن يكون الإنسان سيد نفسه، وصاحب أمره فى هذا الأمر فى هذا الأمر الذي يتهدّى إليه الحيوان بطبيعته؟
ولكن يردّ على هذا، بأن الإنسان أكرم على الله من الحيوان، بما حباه من عقل، وما جعل له بهذا العقل من سلطان الخلافة على هذه
528
الأرض.. ولهذا تولّى الله سبحانه هدايته، وخاطبه- كما قلنا- على لسان رسله بكلماته وآياته..
وقد جاءت آيات الله إلى الإنسان لتحرر إرادته من الهوى المتسلط عليه، وتجلى عن عقله غيوم الجهل والضلال التي تخيم عليه بين الحين والحين..
وكما جاءت آيات الله لتحرر إرادة الإنسان، وتصحح وجدانه، وتنير عقله، جاءت أيضا إلى الجانب المادىّ منه، لتغذّى جسمه بالغذاء الطيب، ولتحول بينه وبين أن يطعم الخبيث، حتى يسلم له كيانه كله، جسدا، وعقلا، وقلبا، وروحا! ومن هنا كان ما فرضته الشريعة السماوية من تحريم الخبيث من الأطعمة على المؤمنين- استعلاء بالإنسان، واستكمالا للكمال المنشود له، بل والمطلوب منه.
وهذا ما فعلته الشريعة الإسلامية مع أتباعها فيما حرمت عليهم من مطاعم، فيقول الله تعالى: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ.. ذلِكُمْ فِسْقٌ... » وهى جميعها مطاعم تأباها النّفوس الطيبة، وتعافها الطبائع السليمة، بل إن بعض الحيوانات آكلة اللحوم تأبى أن تأكل الميتة، ولو هلكت جوعا.. كالأسد مثلا، فإنه لا يقرب الميتة أبدا! فالميتة، والدم، ولحم الخنزير، والحيوانات التي تموت غير ميتة طبيعية، كالمنخنقة والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع منها.. كل هذه مطاعم لا تقبلها نفس طيبة، ولا تسوغها طبائع سليمة.
529
وهناك مطاعم حرّمها الإسلام لا لذاتها، ولكن لما أحاط بها من جوّ كريه، يفسدها، ويفسد طعمها على آكليها، كتلك التي تذبح قربانا للأوثان، ومثلها جميع مطاعم الوثنيين.. حيث تفوح منها ريح الشرك بالله، والكفر به.. فهى والحال كذلك طعام ملوّث بالشرك بالله، فمن طعمها طعم الشرك معها.
وكالخمر التي حرمتها الشريعة الإسلامية، إنها شراب مشوب بداء يغتال العقل، وتذهب به حميّا خمارها وسكرها.. وعندئذ ينزل الإنسان عن إنسانيته التي يحرص الإسلام على أن يستبقيها فى كيان المخلوق الذي كرمه الله.. ومن أجل هذا كان تحريمها..
فهذه المحرمات من المطعومات والمشروبات، هى حماية للإنسان من أن ينزل عن إنسانيته، واستعلاء به، واستكمال للكمال المنشود له.
وكما يكون تحريم بعض الأطعمة والأشربة لطفا من ألطاف الله بالإنسان، والاستعلاء به على الخبائث- يكون التحريم فى حال أخرى، ضربا من الهوان والإذلال للإنسان، وابتلاء وإعناتا له، حين يدفع عن الطيب، ويذاد عن الشهىّ، نكالا له بما كسب من ظلم، وما جنى من بغى.. فكان هذا العقاب له، من واردات الظلم والبغي، وإن لم يكن ظلما ولا بغيا، ولكن هكذا يجزى الظالمون البغاة.. «ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ» (١٤٦: الأنعام) فقد كانت المطاعم كلّها حلّا لبنى إسرائيل، لم يحرّم عليهم شىء منها إلا ما تعافه النفس، وتزهد فيه.. ومع هذا فإنه كان إذا ورد واردهم على الميتة أو الدم أو لحم الخنزير، أو الخمر، فإنه لا إثم عليه فيه، حيث لم يكن هناك حدّ شرعىّ، يفرق بين طعام وطعام.
530
ومع أن هذا الإطلاق يرفع الحرج عنهم فى أن يطعموا أي طعام يريدون- فإنه يحمل فى طياته الوقوف بهم عند مستوى من الإنسانية، دون هذا المستوي الكريم، الذي ندبت له الشريعة الإسلامية أتباعها، فحرمت عليهم ما حرمت من مطاعم، ولم تجعل ذلك إلى أتباعها، يطعمون منها ما شاءوا متى شاءوا، بل حرمت عليهم بعض الأطعمة تحريما قاطعا، وأثمت من ينال منها إلا عند الاضطرار، ودون مجاوزة حد الاضطرار.
لم تحرّم الشريعة على بنى إسرائيل شيئا مما يطعمون إلّا ما حرم إسرائيل- وهو يعقوب- على نفسه من أطعمة استقذرها، وعافتها نفسه، فجعل ذلك حراما ملزما نفسه إياه! فلما جاء موسى عليه السّلام، إلى بنى إسرائيل، وطلع عليهم بآيات الله، وملأ الحياة عليهم بالمعجزات.. ثم لم يكن منهم إلّا العناد، والإغراق فى الضلال، والمكر بآيات الله- فكان أن أخذهم الله بالبأساء والضراء، وضرب عليهم التّيه فى الصحراء، وابتلاهم بتحريم العمل فى يوم السبت، فلم يطيقوا، وعملوا فى هذا اليوم، فرماهم الله باللعنة، وجعل منهم القردة والخنازير! ثم ابتلاهم الله بما حرّم عليهم من طيبات الطعام، التي ذكرها الله سبحانه فى القرآن الكريم، والتي جاءهم بها موسى فى التوراة، وبيّن الله فيها أنها نقمة وابتلاء، وبلاء! كما يقول الله تعالى: «وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ» (١٤٦: الأنعام).
ونقرأ الآية الكريمة، التي تحدّث اليهود بما فى التوراة التي فى أيديهم، عن تلك المطاعم التي حرمها الله عليهم، نكالا وابتلاء..
531
«كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ.. قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ».
ففى التوراة مثل ما فى القرآن من هذا الأمر.. ولكن القوم يكابرون، وينكرون أن يكون فى التوراة شىء من هذا الذي يحدثهم به القرآن.
ويمضى القرآن دون أن يلتفت إليهم.. إنه الصدق المطلق الذي يجدونه بين أيديهم، وإن أنكروه بألسنتهم، فهو يتحدث إليهم بصوت صارخ من التوراة: أن كذبتم وافتريتم.. فألجموا ألسنتكم، ودعوا هذا الافتراء الذي أنتم فيه..
«فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ»
!.
ولكن هيهات أن يكفّ القوم عن الكذب والافتراء.. وتلك بلية أخرى، وداء يضاف إلى أدواء. ولا يقف القرآن ليسجل عليهم ما يثرثرون به، من كذب وافتراء، بعد كذب وافتراء، بل يمضى فى طريقه، يؤذّن بالحق، ويدعو إليه من شاء أن يكون من أهله..
«قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ»..
.. فإن ما ينطق به القرآن هو كلمات الله، التي هى الصدق المطلق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وفى قوله تعالى: «فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» تعريض باليهود، وبأنهم ليسوا على ملة إبراهيم التي يدّعون- زورا وبهتانا- أنهم عليها، فإن إبراهيم كان حنيفا مسلما، وهؤلاء ليسوا بالحنفاء ولا بالمسلمين، ولكنهم كفروا وأشركوا، وضلوا ضلالا بعيدا.
532
الآيتان: (٩٦، ٩٧) [سورة آل عمران (٣) : الآيات ٩٦ الى ٩٧]
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٩٧)
التفسير: فى هاتين الآيتين الكريمتين ما يكشف عن الأسس القويمة التي قام عليها دين الله، بدءا وختاما، فكان هو الإسلام فى مبدئه وختامه..
فاولا: إبراهيم عليه السّلام- هو أبو الأنبياء، ومن ذريته، وعلى دينه، داود، وسليمان، وأيوب، ويوسف، وموسى، وهرون، وزكريا، ويحيى، وعيسى، وإلياس، وإسماعيل، واليسع، ويونس، ولوطا، ومحمد.. عليهم صلوات الله وسلامه..
وثانيا: البيت الحرام الذي بمكة هو أول بيت وضع للناس، فى هذه الأرض، ليكون مصدر الخير والبركة، ومعلم الهدى والنور للناس أجمعين.
ثالثا: هذا البيت الحرام، كان مصلّى إبراهيم ومقامه، ساقته العناية الإلهية إليه، ليجدّد معالمه، ويرفع قواعده، ويعدّه لاستقبال الرسالة التي بدأها، حين يتمّ تمامها، وتبلغ غايتها على يد آخر المرسلين من أبنائه، وهو محمد عليه الصلاة والسلام.
وهذا البيت الذي اتخذه إبراهيم مصلّى له، هو بيت الله، وهو أول بيت على هذه الأرض اتصل فيه الإنسان بربّه، منذ طفولة الإنسانية الأولى..
فلما اصطفى الله إبراهيم لرسالته، دعاه إلى تجديد معالمه، ورفع قواعده، ولم يكن
533
إبراهيم هو الذي أنشأه وأقامه.. فهو أقدم من إبراهيم بأزمان بعيدة، وفى هذا يقول الله تعالى: «وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ» (١٢٥ البقرة)..
ففى قوله تعالى: «وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ» إشارة إلى أنه كان بيتا لله قبل أن يعهد الله إلى إبراهيم وإسماعيل بتطهيره من الأوثان التي عبدها العابدون فيه.. ثم يقول الله تعالى: «وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ..» (١٢٧: البقرة).
وفى هذا إشارة أخرى إلى أن البيت كان قائما على قواعد، وأنها كانت إلى عهد إبراهيم وإسماعيل قد تهدمت.. فكان عمل إبراهيم وإسماعيل فيها هو إقامتها على أصولها التي كانت عليها.
رابعا: فى اشتراك إسماعيل مع أبيه إبراهيم فى إقامة هذا البيت، وتطهيره من الأوثان.. إعداد- كما قلنا- للرسالة المحمدية، التي ستكون ميراثا خالصا له من أبويه الكريمين: إبراهيم وإسماعيل.
من هذا يبدو أن الرسالة الإسلامية المحمّدية كانت هى الفلك الذي تدور فيه رسالات الأنبياء والمرسلين، وأنها الجامعة التي تجتمع إليها جميع الرسالات، وتلتقى عندها، كما أنها كانت هى المنبع الذي فاضت منه عيونها، والكوكب الذي استمدت منه شعاعاتها.. فالرسالة الإسلامية المحمدية هى المبدأ والختام، بدأت كما يبدو الهلال، يكبر ليلة بعد ليلة، حتى يتم تمامه ويصير بدرا، ففى كل نبوّة، وبين يدى كل نبى، قبسة من أقباس الإسلام، وضوءة من أضوائه، حتى جاء صاحب الرسالة الإسلامية، محمد ابن عبد الله، فوضعها الله بين يديه، على أتم تمامها، وأكمل كمالها.
534
وقوله تعالى: «مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ» حالان لنائب الفاعل للفعل «وضع» أي وضع البيت مباركا وهدى للعالمين.
وقوله تعالى: «فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ» بيان للبركة التي شملت هذا البيت، وللهدى الذي يفيض على الناس منه.. وتلك الآيات كثيرة.. منها أنه كان أقدم بنيّة لله على هذه الأرض، ومع ذلك ظل محتفظا بوجوده، لم تذهب به الأحداث، ولم يأت عليه الزمن كما أتى على آثار الأولين، وعفّى على كل معلم من معالمها.. أما هذا البيت فهو أقدم معلم على هذه الأرض، ومع ذلك فهو لا يزداد مع الأزمان إلا وضوحا ورسوخا.. حتى فى عهود الضلال والوثنية..
كان له فى قلوب الوثنيين وفى عقولهم من الإجلال والتقديس ما له فى قلوب المؤمنين وعقولهم من إجلال وإكبار وتقديس! ومن الآيات القائمة فيه، أنه كان ولا يزال أبدا حرما آمنا، يجد عنده من يلوذ به من إنسان وحيوان وطير، الأمن والسلامة، فلا تمتد إليه يد بأذى ولا يناله أحد بمكروه، توقيرا لهذا البيت، وتكريما لمقامه الكريم.. حتى إن أشدّ الناس فتكا، وأقساهم قلبا، وأكثرهم إضرارا بالناس وأذى، لا يجد فى نفسه القدرة على انتهاك حرمة هذا الحرم.. بل إنه سرعان ما يستولى عليه شعور الأمن والسلام، وإذا هو أمن وسلام، مع المؤمنين السالمين، فى جوار الحرم الأمين.
ومن الآيات البينات فى هذا البيت أنه لا يزال أبدا مهوى الأفئدة، ومجتمع الحجيج من مختلف الأمصار والأجناس والألسنة، حتى إذا صارت إليه هذه الألوان المختلفة من الناس، أحالها لونا واحدا، وأوردها مشربا واحدا، وجمعها على أمر واحد!.
وقوله تعالى: «وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ» هو خبر يراد به الأمر،
535
أي أن الله سبحانه، قد فرض على الناس أن يحجوا إلى هذا البيت، وأن يذكروا الله فيه، لينالوا حظهم المقسوم لهم من نفحاته، وبركاته.
وكلمة «الناس» هنا تعنى النّاس جميعا، لا تخصّ أمة من الأمم، ولا تنحصر فى شعب من الشعوب، إنها دعوة الله إلى كل النّاس، أسودهم وأحمرهم، وأبيضهم، على السواء.. إنهم عباد الله، والبيت بيت الله.
وفى قوله تعالى: «مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا» قيد وارد على الأمر العام المطلق بالحج، فلا بد لنفاذ هذا الأمر، من الاستطاعة، فإذا فقد الإنسان الاستطاعة فلا حجّ عليه! والاستطاعة هنا استطاعة عامة، تشمل القدرة المالية، والقدرة الجسدية، كما تشمل أمن الطريق، وكما تشمل قبل ذلك كلّه، الإيمان بالله.. فغير المؤمن بالله، لا يتجه إلى بيته، ولا يسعى إليه.. فهو فى حكم غير المستطيع، إذ قام الكفر حجازا بينه وبين هذا البيت.
وفى قوله تعالى: «وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ» إشارة إلى أن الكافر صادّ عن بيت الله، لا يستجيب لهذا الأمر الذي دعا الله فيه الناس جميعا، أن يحجوا إلى بيته.. فكأنه جنس آخر غير جنس الناس المدعوين إلى بيت الله!
الآيتان: (٩٨- ٩٩) [سورة آل عمران (٣) : الآيات ٩٨ الى ٩٩]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (٩٨) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٩)
536
التفسير: دعا الله النّاس إلى أن يحجّوا إلى بيته، ولكن الذين كفروا بالله محجوزون بكفرهم عن إجابة هذا النداء.. فالله غنىّ عن العالمين! وأهل الكتاب- وخاصة اليهود- من الذين كفروا بآيات الله، فلم يدخلوا فى هذه الدعوة، ولم يستجيبوا لها، وقد أمر الله النبىّ الكريم أن يلقاهم بهذا السؤال الذي ينكر عليهم هذا الموقف الذي وقفوه من الدعوة الإسلامية وآياتها البينات، خاصة وأنهم أهل الكتاب، تلتقى دعوته مع دعوة الإسلام، لو أنهم آمنوا بما فى كتابهم، ولم يحرّفوا الكلم عن مواضعه..
«يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ؟».
وفى قوله تعالى: «وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ» تهديد لهم، ووعيد بسوء المصير، جزاء أعمالهم المنكرة، وكفرهم العنادىّ.. وذلك كلّه واقع فى علم الله، الذي لا تخفى عليه خافية..
ولو وقف أهل الكتاب بكفرهم عند حدّ، وقصّروا هذا الكفر على ذات أنفسهم، لكانت مصيبتهم مصيبة، ولكنهم تجاوزوا هذا الموقف القاتل، إلى إضلال غيرهم، وإلى التشويش على المؤمنين، وإفساد دينهم عليهم، إذ يصدّون المؤمنين عن سبيل الله، بما يلقون إليهم من أباطيل، وما يسوقون إليهم من فتن.. إنهم لا يريدون لأحد أن يستقيم على سبيل الله، لأنهم يعلمون أنهم على طريق الضلال، وأنهم هالكون، وإنه لعزيز عليهم أن يسلم الناس.. وإذن فليضلّ الناس كما ضلوا، وليهلك الناس كما هلكوا.. وذلك شأن المفسدين، إخوان الشياطين، يغوون الناس، ويزينون لهم سبل الفساد، ليكون معهم من يصاب بما أصيبوا به، وفى ذلك عزاء لهم، وإنه لبلاء إلى بلاء!.. وفى هذا يقول الله تعالى: «وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ» (٦٩: آل عمران)
537
ويقول سبحانه: «وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً..»
(٨٩: النساء)
الآيتان: (١٠٠- ١٠١) [سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٠٠ الى ١٠١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (١٠٠) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٠١)
التفسير: بعد أن كشف الله- سبحانه- أولئك الذين كفروا من أهل الكتاب، وما يبيّتون للمؤمنين من مكايد وفتن، ليفسدوا عليهم دينهم- دعا الله المؤمنين إلى أن يأخذوا حذرهم من هؤلاء الضالين المضلّين من أهل الكتاب: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ».. والفريق المعنىّ هنا من أهل الكتاب، هم العلماء منهم، والذين يحسنون وسائل التضليل والخداع، بما لهم من علم، وفى قوله تعالى: «وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ»، تنبيه للمؤمنين وتحذير لهم، وتسفيه لمن تسوّل له نفسه منهم أن يستجيب لدعوة هؤلاء الضالّين، ويعطيهم منه أذنا واعية..
إذ كيف ينفذ هذا الضلال إلى قلب مؤمن، وهو يستمع إلى آيات الله تتلى عليه، ويرى بعينيه رسول الله قائما على رسالة السّماء، يتلقى آياتها، ويفيض على الناس منها؟ كيف- والأمر كذلك- يتحول عاقل من الناس من النور إلى الظلام، ومن الهدى إلى الضلال؟ إن ذلك لن يكون إلا من أحمق، أو سفيه، أو مجنون!
وفي قوله تعالى: «وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» توجيه إلى الطريق الذي ينبغى أن يستقيم عليه العاقل، ويلتزمه، وهو الإيمان بالله، والاعتصام به من وسوسة الضالين، وكيد المبطلين، فذلك هو الذي يعصم المؤمن من الزلل، ويحميه من الضلال، وفى هذا نجاته وسلامته.
الآيتان: (١٠٢- ١٠٣) [سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٠٢ الى ١٠٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠٣)
التفسير: بعد أن حذّر الله- سبحانه- المؤمنين، فى الآيتين السابقتين (١٠٠، ١٠١) من أن يأمنوا جانب تلك الجماعة المنحرفة من أهل الكتاب، التي تدبّر لهم الشر، وتحيك لهم الضلال، لتفسد عليهم دينهم، ولتفتنهم فيه- بعد هذا توجّه سبحانه بهذا النداء الكريم إلى المؤمنين فى خاصة أنفسهم، ليحذرهم من العدو الخفي، بعد أن حذّرهم من العدو الظاهر.
وهذا العدو الخفي، هو النفس، ونزعاتها، وأهواؤها، تلك الأهواء والنزعات التي إن تسلطت على الإنسان أفسدته وأهلكته، وكانت أشدّ وبالا عليه من أعدى أعدائه الذين يراهم رأى العين! وفى هذا النداء الكريم، يدعو الله المؤمنين أن يتقوه حق تقواه، وأن يأتمروا بما أمرهم الله به، وأن ينتهوا عما نهاهم عنه، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا!
539
وقد فسّر بعض المفسّرين تقوى الله حق تقاته، بالتقوى التي تتناسب مع جلال الله، وكماله، وعظمته.. وهذا مقام لا يستطيعه بشر من البشر، ولا خلق من خلق الله.
ولهذا رأى هؤلاء المفسرون أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» (١٦: التغابن) والواقع أنه لا تعارض بين الآيتين، وإذن فلا تناسخ بينهما! ذلك أن معنى قوله تعالى «اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ» الاجتهاد فى عبادته، وفى طاعته، على قدر ما تسع نفس الإنسان وتحتمل، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» (٢٣٣: البقرة). وهو ما تشير إليه الآية الكريمة: «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ».. فالتقوى على قدر الاستطاعة هى التقوى حقّ التقوى، وهى المناسبة لقدر الإنسان ولحظّه من الكمال المقدور له.. وعلى هذا، فالناس على منازلهم من تقوى الله، كل حسب وثاقة إيمانه وقوة عزيمته، لا على حسب مالله من كمال وجلال، فذلك مالا يبلغه إنسان.. أما ما ينبغى لله من قدر وكمال فلن يبلغ أحد ذرة منه! وحسب الإنسان لكى يكون من عباد الله، أن يؤمن بالله أولا، وأن يجتهد فى عبادته وطاعته ما استطاع، وإن فاته شىء من التقوى والعبادة- وهذا ما لا بد أن يكون- فلن يفوته سلامة معتقده فى الله، وإخلاصه فى الإيمان بوحدانيته، ثم الموت على هذا المعتقد- فإن فاته ذلك فقد حبط عمله، وضلّ سعيه، وأورد نفسه موارد الهالكين.
وبعد أن ثبت الله قلوب المؤمنين على الإيمان، دعاهم دعوة أخرى، وهى أن يكونوا جبهة واحدة فى وجه الأعداء المتربصين بهم.. فقد عرف المسلمون آثار الفرقة فيما كانوا عليه هم وآباؤهم فى الجاهلية، من عداوة وبغضاء، ومن خلاف وشقاق، الأمر الذي ملأ قلوبهم خوفا، وغمر ديارهم فقرا وحزنا!.
540
«وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً، وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها..»
هكذا كان المؤمنون، ثم هكذا أصبحوا.. كانوا أعداء فألّف الله بين قلوبهم، فأصبحوا بنعمته إخوانا. وكانوا عبدة أوثان وأصنام، وفى شرك وضلال يهويان بالمشركين الضالين إلى مهاوى السعير.. وكان هؤلاء الذين أدركهم الإسلام من مشركى الجاهلية على حافة الهاوية، فأنقذهم الله، إذ دخلوا فى الإسلام، وكانوا من المسلمين! فليذكر المسلمون هذا الذي كانوا فيه.. فإن لم يذكروه فى أنفسهم ذكروه فى آبائهم وأجدادهم.. ثم ليذكروا هذه النعمة السابغة التي أضفاها الله عليهم بالإسلام، ثم ليحفظوا هذه النعمة، وليحرصوا عليها، وليحرسوها من الآفات التي تطلع عليها من آفاق شتى.. وبهذا يسلم لهم دينهم، وتسلم لهم أنفسهم.
الآيات: (١٠٤- ١٠٧) [سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٠٤ الى ١٠٧]
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٥) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٠٧)
541
التفسير: علماء أهل الكتاب هم الذين أفسدوا على الناس دينهم، فغيروا، وبدلوا، وحرفوا.. وهذه خيانة لله، وخيانة للعلم، إذ كان العلماء هم ورثة الأنبياء، وهم المؤتمنون على دعوة السماء، بعد الرسل، يعلّمون الجاهلين، ويهدون الضالين، ويقيمون المنحرفين، فإذا تحول العلماء أنفسهم إلى أدوات هدم وتدمير فى المجتمع، كانت المصيبة قاصمة مهلكة! من أجل هذا، كانت دعوة الله سبحانه وتعالى إلى الأمة الإسلامية، أن تندّب منها أمة، أي جماعة، يتولون قيادة الناس، وهدايتهم إلى سبل الرشاد..
فيأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.. وبهذا يقومون فى المجتمع مقام الأطباء، الذين يرصدن الآفات والأمراض التي تعرض للناس، فيعملون على دفعها، والقضاء عليها.. ويمكن أن يكون قوله تعالى: «وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ» دعوة للأمة الإسلامية كلها أن تكون على تلك الصفة.. أمة تدعو إلى الخير، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر. ويكون معنى «من» فى «منكم» للبيان لا للتبعيض، وهذا ما يناسب قول الله تعالى بعد هذه الآية: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ.»
(١١٠: آل عمران) وسواء أكان الأمر موجها إلى الأمة الإسلامية كلها، أو إلى جماعة العلماء المتخيّرة فيها، فإنّ معطيات هذا الأمر واحدة، حيث تكون الأمة كلها منقادة للقيادة الرشيدة فيها، وهى جماعة العلماء العاملين بعلمهم، الداعين إلى الخير، الآمرين بالمعروف، والناهين عن المنكر، وبهذا تصبح الأمة كلها على هذا الطريق المستقيم.
وإذ يأمر الله تعالى الجماعة الإسلامية بهذا، فإنه يحذّرها من أن تذهب مذاهب
542
الجماعات المنحرفة من أهل الكتاب الذين تفرقوا واختلفوا، ولم يقم من بينهم راشدون، يقومون فى وجه تلك الانحرافات، وهذه الاختلافات، فكان أن ضلّوا جميعا، وهلكوا جميعا!! وهكذا شأن الجماعات التي تفقد القيادة الرشيدة.. لا يستقيم لها طريق، ولا تستقر لها حال.. إنها أشبه بالغنم ليس لها راع يوردها موارد العشب والماء، ويدفع عنها عادية الذئاب والسباع..
وقوله تعالى: «يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ» الظرف هنا متعلق بقوله تعالى: «وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ..» أي أنهم يعذبون عذابا أليما فى هذا اليوم، يوم الحساب والجزاء.. يوم تبيضّ وجوه وتسودّ وجوه..
وابيضاض الوجوه واسودادها، كناية عن البهجة والنعيم الذي يعلو وجوه المؤمنين، والخزي والسوء الذي يحيط بالكافرين، فى ذلك اليوم العظيم.
وفى قوله تعالى: «فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ» بيان لما أجمل فى قوله تعالى: «يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ».
ولم يجىء هذا التفصيل مرتبا على حسب ما جاء فى المجمل قبله، إذ كان الترتيب يقضى بأن يبدأ بالذين ابيضت وجوههم، حيث بدئ بهم أولا.
والذي جاء عليه النظم القرآنى، هو البيان المبين، الذي هو سمة الإعجاز من كلام ربّ العالمين، فقدّم أولا الذين ابيضت وجوههم وهم المؤمنون، لأن ذلك كان تعقيبا على ذكر الأمة الإسلامية، وما ينبغى لها أن تصون نفسها عنه، مما وقع فيه أهل الكتاب من فرقة وخلاف، كان لعلمائهم فيه الدور الأول.. ثم ذكر إزاء هذه الصورة صورة أهل الكتاب، وما يكون عليهم حالهم يوم القيامة: «يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ» المؤمنين «وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ» الكافرين من أهل الكتاب!.. وفى هذا ما فيه من تطمين للأمة الإسلامية، وترسيخ لأقدامها على الإيمان، والوحدة والألفة.
543
فإذا جاء تفصيل هذا الإجمال، ووقع تأويله، وسيق الناس إلى الحساب والجزاء قدّم أولئك الكافرون، ليقفوا موقف المذنبين للمحاكمة، ولم يمهلوا، وذلك إشعار لفظاعة جرمهم، وشناعة ذنبهم، الذي يقتضى تعجيل الجزاء السيّء الذي ينتظرهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ» (٨٧، ٨٨: آل عمران).
وفى التعجيل بعرض هؤلاء الكافرين من أهل الكتاب ما يدخل الطمأنينة على المؤمنين، الذين ينتظرون دورهم فى ساحة الحكم.. فهذا الحكم الذي يقضى به على هؤلاء الكافرين فيه براءة ضمنية لغيرهم من المؤمنين، ولكنها براءة مشوبة بالخوف، محفوفة بالخشية.. فإذا جاء بعدها هذا الرضوان الذي يفتح لهم أبواب الجنات، وما يلقون فيها من نعيم- زادهم ذلك نعيما إلى نعيم، ورضوانا إلى رضوان..
«فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ».
وانظر كيف كانت مساءلة الكافرين، وكيف كان خزيهم وعيّهم عن ردّ الجواب «أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ؟».. ثم انظر كيف كان الجواب على هذا السؤال: «فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ» وفى قوله تعالى: «أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ» إشارة إلى أن هؤلاء الكافرين هم أهل الكتاب الذين تحولوا من الإيمان إلى الكفر، وهم الذين أشار إليهم الله سبحانه وتعالى فى قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ» (٩١: آل عمران)
544
وفى قوله تعالى: «فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ» إشارة ثانية إلى هؤلاء الكافرين من أهل الكتاب الذين كذّبوا بمحمد، وكفروا بآيات الله التي بين أيديهم، فيما تحدّث به عنه.
والمعنى: فذوقوا العذاب بسبب هذا الذي كنتم تكفرون به، وهو «محمد» وما تحدثكم به التوراة عنه.
ثم انظر بعد هذا، وفى الجانب الآخر من الصورة، تجد المؤمنين وقد انتقلوا من هذا الموقف، موقف المحاكمة، فى لحظة خاطفة، دون أن يسألوا..
فإذا هم فى رحمة الله هم فيها خالدون.. «وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ».
الآيتان: (١٠٨، ١٠٩) [سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٠٨ الى ١٠٩]
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (١٠٨) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (١٠٩)
التفسير: يبين الله سبحانه لنبيه الكريم فى هاتين الآيتين الكريمتين لطفه به وبعباده، وأنه سبحانه يخاطبه بلسان الحق، وينزّل عليه آياته بالحق، ليهتدى بها الضالون، ويعلم منها الجاهلون، وبذلك لا يكون للنّاس على الله حجة بعد هذا البلاغ المبين، ولا يكون لقائل منهم أن يقول ما حكاه الله عنهم فى قوله تعالى:
«رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» (٤٧: القصص).. فإذا أخذ الله بعد ذلك مذنبا بذنبه كان ذلك هو الحكم الذي ينبغى أن يدين به العاقل نفسه.. «وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ» لأنه لو شاء سبحانه أن يعذب الناس جميعا- محسنهم ومسيئهم- لما كان لأحد
أن يجاحّ الله فى هذا، أو يدفع عن نفسه ما يريد الله به.. ولكنّ رحمة الله سبحانه بعباده، اقتضت أن يرسل إليهم رسله، يحملون إليهم آياته واضحة بيّنة، تهدى إلى الحق وإلى طريق مستقيم «فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ، وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها» (١٠٤: الأنعام) وقوله تعالى: «وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ» هو بيان لما لله على النّاس من سلطان، وأنه يحكم فيهم ولا معقّب لحكمه، وأنه آخذ بنواصيهم جميعا، فإليه مرجعهم، وبين يديه حسابهم: «إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ» (٢٥- ٢٦: الغاشية).
[مبحث: الخير.. فى خير أمة أخرجت للناس]
الآية: (١١٠) [سورة آل عمران (٣) : آية ١١٠]
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (١١٠)
التفسير: مما يكبت الضّالين من أهل الكتاب- وخاصّة اليهود- أن يروا نعمة من نعم الله تلبس أهل الإسلام، وخاصة إذا كانت تلك النعمة بين أطواء آية من آيات الله، المنزلة على رسول الله، لأنهم يعلمون أن ذلك حق لا ريب فيه، وأن تلك النعمة إن لم تكن قد أتت فهى آتية لا ريب فيها، وهذا مما يضاعف حسرتهم، ويملأ قلوبهم غيظا وكمدا..
وإذ تلقّى المسلمون قوله تعالى: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ» بالتهليل والتكبير، وبالثناء المستطاب على الله أنّ منّ عليهم بهذا الفضل، فرفع قدرهم بين الأمم، وأعلى شأنهم فى العالمين- فإن أهل الكتاب-
546
وخاصة اليهود- قد صعقوا لهذه الآية، ودارت رءوسهم بها، وزلزلت أقدامهم منها، وأيقنوا أنهم لن يلحقوا بالمسلمين، ولن يقوموا لهم أبد الدهر! وفى قوله تعالى: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ» وفى التعبير بلفظ الماضي «كنتم» ما يشير إلى أن هذا الحكم الذي حكم به الله على هذه الأمة، بأنها خير أمة أخرجت للناس- ليس محدودا بزمن من أزمانها، ولا مخصوصا بحال من أحوالها.. وإنما هو حكم عام مطلق، يشمل الأمة الإسلامية كلها، فى كل أزمانها، وفى جميع أحوالها، من عهد النبوة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.. إنه حكم للأمة الإسلامية فى ماضيها وحاضرها، ومستقبلها. وإن تلقته فى أول وجودها، وفى ساعة مولدها.. «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ» ! هذا هو حكم الله فيما أحاط به علمه، وفيما قدّره لكل أمة من أجل، ومن رزق!.
وفى قوله تعالى: «أُخْرِجَتْ» تنويه آخر بشأن هذه الأمة، وأنها هى المولود الكامل، الذي تمخضت عنه الإنسانية كلها.. ولن تلد مثله أبد الدهر!.
وفى قوله سبحانه: «أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ» تنويه ثالث بتلك الأمة، فإنها لم تخرج من الناس، ولكنها «أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ» وكأنها بهذا من معدن غير معدن الناس، ومن عالم غير عالم الناس، جاءتهم هكذا من عالم الغيب، وأخرجت لهم من حيث لا يتوقعون.. من صحراء مجدبة قفر، ومن مجتمع أمّى غارق فى الجهالة!، فقادت ركب الإنسانية، وحررتها من قيود العبودية والظلم.
هذا هو مكاننا- أمة الإسلام- الذي ندبنا الله له، وأحلّنا فيه، وأقامنا عليه..
وإنه لن يزحزحنا عن هذا المقام زمان، ولن يحتله مكاننا أحد..
547
وإننا- أمة الإسلام- على أي حال كنّا، وفى أسوأ وجود لنا- خير أمة أخرجت للناس!.
وإن ميزاننا مهما خفّ فى هذه الحياة فهو أثقل من ميزان أية أمة، وإن بدا فى ظاهرها أنها أقوى قوة، أو أكثر مالا، وأعزّ نفرا!.
ذلك ما ينبغى أن نؤمن به إيمانا راسخا كإيماننا بالله.. وإلا كنا مكذبين بآياته، منكرين، أو منتكرين لكتابه! إننا- أمة الإسلام- أشبه بالذهب، بين المعادن الأخرى.. قيمته دائما فيه، حتى ولو علا بريقه التراب، وغبّر وجهه دخان الزمن.. إنه الذهب على أي حال.
فليكن ذلك شعورنا بأنفسنا، وإيماننا بمكانتنا فى هذه الحياة.. ثم ليكن منّا ما يقابل هذا الشعور، وذلك الإيمان، من جدّ، ومن تحصيل لكل معانى الإنسانية الكريمة، ومثلها الرفيعة، فذلك هو الذي يحقق كل معانى الخيرية فينا، ويعرض للناس وللحياة أكمل الكمال منّا..
ومع هذا، فإنه لن ينزع عنا هذا الفضل الذي فضل الله به على هذه الأمة ما يلمّ بنا من ضعف أو يعرض لنا من فتور، أو يقع فى محيطنا من انحراف.. فتلك كلها عوارض لا تمسّ الصميم منا، ولا تنقض حكم الله لنا.. فنحن- على أية حال نكون عليها- «خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ».
ولسنا بهذا ندعى ما يدّعيه اليهود لأنفسهم من أنهم «شعب الله المختار».
فنحن شىء، واليهود شىء.
نحن تلقّينا كرامة الله وفضله.. واليهود رموا بغضب الله ولعنته!!
548
ذلك أن الله سبحانه، أفاض على اليهود من أفضاله، ومنحهم من نعمه ما لم يمنحه أحدا من العالمين.. امتحانا وابتلاء. فلما مكروا بآيات الله، وعصوا رسله، وقتلوا من قتلوا من أنبيائه، وأعنتوا من أعنتوا منهم- أخذهم الله بالبأساء والضرّاء، وساق إليهم نقمه، وشملهم بسخطه، وصبّ عليهم لعنته- وفى هذا يقول الله تعالى فيهم: «فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ» (١٣: المائدة).
أما نحن- أمة الإسلام- فقد فضل علينا بهذا الفضل، وجعله حكما قائما فينا أبدا: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ» ولن ينقض أبدا هذا الحكم الذي حملته كلمات الله.
وقوله تعالى: «تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ» بيان للصفات التي استحق بها المسلمون أن يكونوا «خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ» فمن رسالة هذه الأمة ألا تحتجز الخير لنفسها، ولا تستأثر به حين يقع ليدها، بل تجعل منه نصيبا تبرّ به الإنسانية كلها، وتشرك الناس جميعا معها، فيه.
ذلك شأنها فى كل خير تصيبه.. فإذا أصاب المسلم مالا، جعل فيه للفقراء والمساكين نصيبا، وآتى منه ذوى القربى واليتامى، وأنفق منه فى سبيل الله، وفى إعلاء كلمة الحقّ.. وإذا أصاب هدى من الله، وعرف طريقا إلى الحق، لم يجد لذلك مساغا إلا إذا وجّه الناس إليه، ودلّهم عليه، ولو احتمل فى سبيل ذلك الضرّ والأذى، وعرض نفسه للتلف والهلاك، شأن الطبيب
549
الذي يرى وباء يفتك بالناس، ويذروهم كما تذرو الرياح الهشيم.. إنه- والحال كذلك- ينسى نفسه، ويدخل فى معركة مع هذا الوباء، غير حاسب حسابا لما قد يقع له من سوء، ولو كان فى ذلك ذهاب نفسه! هكذا هو موقف الأمة الإسلامية من الخير الذي ساقه الله إليها، على يد الرسول الكريم، مما تلقّى من بركات السماء، ورحماتها. «تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ» كما جاءكم رسول الله يأمركم بالمعروف وينهاكم عن المنكر.. وفى هذا يقول الله تعالى «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ».
وفى قوله تعالى: «تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ» قدّم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر على الإيمان بالله، الذي هو مقدّم على كل عمل طيب، حيث لا يطيب العمل، ولا يقبل، إلا مع الإيمان..
فكيف يؤخر الإيمان هنا، عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر؟
والجواب عن هذا من وجهين:
أولا: أن الله سبحانه وتعالى إذ وصف هذه الأمة هذا الوصف الكريم، وحكم لها هذا الحكم القاطع اللازم، لم يصفها هذا الوصف ولم يعطها هذا الحكم إلا وهى على الإيمان، مجتمعة هى عليه ومشتملا هو عليها.. فهى ليست مطلق أمة، وإنما هى أمة مسلمة، تلك الأمة التي كانت استجابة من الله لدعوة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، إذ يقولان كما حكاه القرآن عنهما:
«رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ» (١٣٨: البقرة).
ثانيا: ذكر الإيمان بالله هنا لم تكن داعيته وصف هذه الأمة بأنها مؤمنة بالله- إذ كان إيمانها بالله، معروفا مقدرا من قبل، وإنما داعية
550
ذكره فى القرآن أنه إيمان على صفة غير ما عليه إيمان المؤمنين من أهل الكتاب!.
والإيمان بالله الذي عليه الأمة الإسلامية، هو إيمان برىء من كل شائبة من شوائب الشرك، وخلص من كل نزغة من نزغات الشك.. إنه إيمان مصفّى، يرى فيه المؤمن وجه الحق واضحا مشرقا، إذ لا يتكلف له المؤمن جهدا فى الوصول إليه، ولا تنقطع أنفاسه فى الدوران حوله، لأنه قريب، قريب، يراه العامة والفلاسفة على السواء.. إنه: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيى ويميت، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ذلكم الله ربّ العالمين، وهو ما يقوم به وعليه إيمان المسلمين.. بلا فلسفه، ولا كهنة، ولا أحبار، ولا رهبان.. إيمان يطمئن إليه قلب الرّاعى بين غنمه، والزارع وراء محراثه، كما يطمئن إليه قلب العالم فى معمله، والفيلسوف فى محراب فلسفته! إيمان بديهة.. لا تكدّ ذهنا، ولا تشتت خاطرا، ولا تزعج وجدانا.
وليس كذلك إيمان المؤمنين من أهل الكتاب.. إنه إيمان مرهق معقّد، مركّب على قضايا من المقولات الفلسفية والمنطقية، المبنية على معطيات مما وراء الطبيعة، التي تدور بها رءوس العامة، وتضطرب لها عقول العلماء.. فإذا آمن مؤمنهم بالله كان بينه وبين الله حجب كثيفة من هذه المقولات، التي لا يستطيع أن يرى الله من خلالها إلّا محاطا بضباب كثير من الشك والارتياب!! فإيمان المسلمين بالله، إيمان.. وإيمان أهل الكتاب بالله إيمان.. وبين الإيمانين بعد بعيد، وبون شاسع.. ومن هنا كان ذكر إيمان المسلمين فى هذا المقام تنويها بهذا الإيمان، وعزلا له عن إيمان المؤمنين من أهل الكتاب،
551
ذلك الإيمان المشوب غير الخالص من العلل والآفات، ولهذا جاء قوله تعالى:
«وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ» جاء بعد «قوله تعالى:
وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ»
داعيا أهل الكتاب أن يؤمنوا إيمانا مصححا مجددا، كإيمان المسلمين.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ».
وقد كشف القرآن الكريم عن حقيقة الإيمان الذي عليه أهل الكتاب.. فقال تعالى: «وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ» (١٣: البقرة) أي أنهم إذا دعوا إلى الإيمان بالله إيمانا بعيدا عن المماحكات والسفسطات، وعن الألغاز والطلاسم، التي تعمّى على الناس السبيل إلى الطريق المستقيم- إذا دعوا أن آمنوا كما آمن الناس، إيمانا سمحا سهلا واضحا- أبوا وقالوا أنؤمن كما آمن السفهاء من الجهلة والعامّة؟
وقالوا فى أنفسهم: كيف يهتدى أحد إلى الله من هذا الطريق القريب؟
إنّ الله بعبد بعيد، متستر فى حجب جلاله وبهائه، فلا تناله الأبصار، ولا تدركه العقول، وإنه لا بد- والأمر كذلك- من دراسات وفلسفات، وبحوث مضنية مرهقة، حتى يمسك الدارسون، والفلاسفة والباحثون بأذيال هذه الحقيقة الكبرى! هكذا زيّن لهم سوء عملهم فرأوه حسنا.
وقال تعالى أيضا مشيرا إلى أهل الكتاب وإلى إيمانهم: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ» (٨: البقرة) إنه إيمان مشوب بالشك، ومختلط بالضلال.. فلا يعدّ، ولا يحسب فى الإيمان الصحيح بحال أبدا.
وفى قوله تعالى: «مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ» إشارة إلى أن قلّة قليلة من هؤلاء المؤمنين من أهل الكتاب قام إيمانهم على التسليم،
552
ولم يقم على الوساوس والهواجس، والضرب فى متاهات لا يهتدى السالك فيها إلى سواء السبيل أبدا.. أما الكثرة الكثيرة من أهل الكتاب فهم كما قال الله: «وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ» أي هم مؤمنون ولكنهم فى الوقت نفسه «فاسقون» أي خارجون على الإيمان.
الآيتان: (١١١- ١١٢) [سورة آل عمران (٣) : الآيات ١١١ الى ١١٢]
لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١١١) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (١١٢)
التفسير: إنهم هم اليهود.. وإنّ آيات الله لتكشف المستور من أمرهم، وتفضح المتوقع من خزيهم فى خط مسيرتهم مع المسلمين فى الحياة.
إنهم يكيدون دائما للإسلام والمسلمين، لأن داء الحسد الذي يغلى فى صدورهم لا يسكن أبدا.
وكيف يسكن وهم يعلمون عن يقين أن المسلمين قد ظفروا من الكتاب الذي فى أيديهم بخير الدنيا والآخرة.. وأن هذا الكتاب كان ينبغى أن يكون لهم، كما كانت كتب الله من قبل كلها فيهم؟ وأما وقد سبقهم العرب إلى هذا الكتاب فليفسدوه عليهم، وليعزلوا المسلمين عنه! وفى قوله تعالى مخاطبا المسلمين: «لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً».
أولا: إلفات للمسلمين أن يأخذوا حذرهم من اليهود، الذين لا يكفّون أبدا
553
عن السعى فى تدبير الكيد للمسلمين، وتوجيه الضّرّ إليهم، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
ثانيا: تطمين المسلمين- حالا ومستقبلا- مما يدبر اليهود لهم من كيد خبيث، ومكر خسيس، وأن غاية ما يبلغه اليهود من كل ما يكيدون وما يمكرون، لا يتجاوز «الأذى» الذي مهما بلغ لا يبلغ حدّ الخطر والتلف.. وسيظل المسلمون- رغم كل شىء- على الصحة والسلامة أبدا، وإن أصابهم الضرّ ومسّهم الأذى، فإن كيانهم سيظل سليما معافى، لا ينال منه هذا الضرّ، ولا يؤثر فيه هذا الأذى.
هذا فى معركة الكيد، والدسّ، التي هى الميدان الذي يحسن فيه اليهود العمل.. فإذا انتقل اليهود إلى ميدان آخر، وهو ميدان القتال، واشتبكوا مع المسلمين فى حرب، فإنّهم لا يلقون إلا الخزي والخذلان.. «يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ».. هذا حكم الله فيما يقع بينهم وبين المسلمين من قتال.. النصر دائما للمسلمين، والهزيمة دائما لليهود.. وإنه لا بد من وقفة هنا..
فإن وجه الأحداث المطل علينا فى هذه الآية، قد يطالع منه بعض الناس شيئا آخر غير الذي تطالعنا الآية الكريمة به، والذي نتأولها نحن عليه.
يشتبك المسلمون مع اليهود اليوم فى معركة (يونيه ١٩٦٧- محرم ١٣٨٧) قد جمع لها اليهود كل كيدهم ومكرهم، وجلبوا لها كل ما استطاعوا من عتاد، وحشدوا فيها كل من على شاكلتهم فى العداوة للإسلام، والكراهية للمسلمين..
وقد أخذوا جيوش المسلمين على غرّة، فكان لهم من هذا نصر معجّل، تخلى فيه المسلمون عن مواقع كثيرة من أوطانهم، فى سيناء، وسوريا، والأردن..
وتوقف القتال.. استعدادا لمعركة قادمة فاصلة..
ونكتب هذا، ونحن فى شهر (أكتوبر ١٩٦٧- رجب ١٣٨٧)
554
وما زال الموقف جامدا فى الظاهر.. ولكنه يتحرك فى خفاء لالتحام قريب! ولا ندرى متى يكون هذا اليوم الذي نلتحم فيه مع اليهود.. ولكن الذي نؤمن به ولا نشك فيه، هو ما وعدنا الله به، من النصر على اليهود دائما..
«وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ».. فالنصر آت لا ريب فيه، وإنه لنصر يلبس اليهود ثوبا جديدا من أثواب الذلة التي ضربهم الله بها! وقد يبدو لبعض الناظرين إلى هذا الحدث، من خلال المدافع، وبين دخانه وضبابه- أن يتأول الآية الكريمة، وأن يرفع حكمها العام المطلق، ويرتفع به إلى الماضي البعيد، وإلى ما كان بين اليهود والنبىّ من قتال، أخزى الله فيه اليهود، وكبتهم، وأنزلهم من صياصيهم، وقذف فى قلوبهم الرعب، فاستسلموا للهزيمة، ونزلوا على حكم النبىّ فيهم، فقتل من قتل، وسبى من سبى، وأجلى من أجلى.. حتى إذا كانت خلافة عمر بن الخطاب لم يكن اليهود إلا جماعات متفرقة فى الجزيرة العربية، لا تملك غير الكيد والدس، ولا تعيش إلا على الكذب والنفاق، فأجلاهم عن الجزيرة العربية جميعا!! قد يبدو لبعض المتأولين أن يتأول الآية الكريمة على هذا الوجه، ويقف بها عند حدود الزمن الذي نزلت فيه، ويجعل أسباب نزولها مقيدا بهذا الوقت.. وذلك ليحمى كلام الله من المجازفات التي تنجم عن تعميم هذا الحكم الذي تحمله، والذي قد لا تجىء الأيام بتصديقه، خاصة وأن محامل الآية الكريمة تقبل هذا الوجه من التأويل ولا تردّه! فمالنا إذن لا نقبل هذا التأويل؟ ولم نغامر تلك المغامرة الخطرة بآية من آيات الله، ونحمّلها مالا تحتمل، لنتخذ منها أملا يدفىء صدورنا، ويطمئن قلوبنا، ويخفف آلام جراحنا التي نعانيها من هذا الحدث الذي نعيش فيه، فى مرارة، وألم، وقلق؟
555
أو من أجل هذا تبلغ بنا الجرأة على كتاب الله، فنبيعه بهذا الثمن البخس؟
وماذا تركنا لليهود إذن؟ وماذا يحول بيننا وبين أن نتعرض لما تعرضوا له من سخط الله وقد اشتروا بآياته ثمنا قليلا؟. «فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ» (٧٩: البقرة).
وإنه ليس ثمة فرق بعد أن يفترى مفتر على الله، آية.. فيقول: هذا من عند الله، وبين أن يحمل آية من آيات الله على هواه، فيغير وجهها، ويحرّم حلالها، ويحلّل حرامها! والله سبحانه وتعالى يقول متوعدا اليهود:
«وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ () مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» (١١٦- ١١٧: النحل).
أفمن أحل هذا المتاع القليل الذي نجد فيه من ريح الآية الكريمة أنسا لوحشتنا، وأملا فى محنتنا.. أفمن أجل هذا، نرد هذا المورد، ونجازف تلك المجازفة المهلكة؟
وكلّا، فإنا أحرص على أنفسنا من أن تلمّ بما يعرّضها لموقع من مواقع سخط الله، خاصة ونحن نسعى بين يدى كتابه الكريم، ابتغاء مرضاته، وطلبا للمزيد من إحسانه وفضله! أفنرجع إذن عن هذا الذي ذهبنا إليه، فى حمل الآية الكريمة على عمومها، من أن النصر الذي وعد الله به المسلمين على اليهود هو وعد دائم مستمر، غير موقوت بوقت، أو موقوف على واقعة بعينها- أفنرجع إذن ونعود بالسلامة والعافية.. من قريب؟
وكلّا.. مرة أخرى..
556
فإنا مطمئنون إلى فهمنا للآية الكريمة، واثقون من معطياتها التي لا تتخلف أبدا..
بل وأكثر من هذا.. إننا ندعو إلى أن يفهمها المسلمون جميعا هذا الفهم الذي فهمناها عليه، وأن ينتظروا تأويلها فى الأيام المقبلة كما ننتظره.. فإن أخلفهم من الآية هذا الوعد، وإن وجدوا لهذا الإخلاف غمزة فى دينهم، أو حرجا منه فى صدورهم، أو خلخلة له فى قلوبهم- فالحكم الله بينى وبينهم! ولن يخزينا الله أبدا.. ولن يخلفنا وعده الذي وعد! وكيف؟
والله سبحانه وتعالى يقول فى اليهود، بعد هذه الآية الكريمة، مؤكدا وعده الذي وعدنا..
«ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ».
فهذا الحكم عام شامل غير محصور بمكان، أو مقيد بزمان! «ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ» والتعبير بضرب الذلة عليهم فيه إحكام لهذا الحكم الواقع بهم، وأن الذلّة التي رماهم الله بها، ذلة متمكنة، مختلطة بوجوهم، كما يختلط لون الجلد بالجلد.. لا يتغير ولا يتبدّل أبدا! وفى قوله تعالى: «أَيْنَما ثُقِفُوا» حكم قاطع بمصاحبة الذلة لهم، أينما وجدوا، وأينما كانوا، فى كل موطن، وفى كل زمن! هكذا هم فى ذلة وهوان، أبد الدّهر.. ذلة فى أنفسهم، وذلة بأيدى من يذلّونهم من عباد الله المسلطين عليهم. فإن نجوا من هذه الذلة التي يسوقها الناس إليهم، لم يخرجوا من تلك الذلة المستولية على طبيعتهم! وقوله تعالى: «إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ».. الحبل العهد والعقد.. والمعنى: ضربت عليهم الذلة أبدا، إلّا أن يدخلوا مع المسلمين
557
فى عهد الله، وذمة المسلمين، فيكونوا بذلك من أهل الذمّة، وتفرض عليهم الجزية، فيعطونها عن يد وهم صاغرون.. وهنا يرفع عنهم المسلمون الأذى والذلة التي أخذوهم بها. ولكن مع هذا لا يتخلّى عنهم روح الذلة المتسلط عليهم من داخل أنفسهم، لأن ذلك طبيعة فيهم، ولعنة من لعنات الله صبّها عليهم..
وقوله تعالى: «وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ» بيان للحال التي يكونون عليها، بعد أن يدخلوا فى ذمة المسلمين بعهد الله وعهد المسلمين.
فهم وإن رفعت عنهم يد المسلمين بعد هذا العهد الذي دخلوا به فى ذمتهم، وإن رجعوا وقد أمنوا بطش المسلمين بهم بعد هذا العقد، فإنهم يرجعون ومعهم غضب الله الذي رماهم به، ومعهم المسكنة التي فرضها عليهم وابتلاهم بها..
وهكذا يعيش اليهود أبدا فى كل زمان ومكان فى ذلة وفى مسكنة، ذلة ومسكنة تلبسهم ظاهرا وباطنا.. إن سلم لهم ظاهرهم فى حال، فلن يسلم لهم باطنهم فى أي حال.. إنها لعنة الله «وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً».
وفى قوله تعالى: «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ» تعليل لهذا العقاب الأليم الذي أخذهم الله به، والذي أجراه فيهم مجرى الدم فى عروقهم، فكان ميراثا خبيثا، ينتقل فى الخلف بعد الخلف إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين! من هذا كله نستطيع أن نقرر فى إيمان وثيق، ثقتنا فى صدق الكتاب الذي فى أيدينا، وفى صدق كل كلمة، وكل حرف، من كلمات رب العالمين، وحروفها- أن ما بيننا وبين اليهود سينتهى بما حكم الله به عليهم، وهو أنهم «لا يُنْصَرُونَ» وأن الذلة والمسكنة مضروبة عليهم إلى يوم الدين، وأن
558
هذه الصحوة التي تبدو على ظاهرهم فى هذه الأيام ليست إلا صحوة الموت، يرتدون بعدها ثوبا جديدا من أثواب الذلة والمسكنة، وذلك بلاء إلى بلاء، وعذاب فوق عذاب.. فإنه ليس أشق على نفس المكروب من أن تهبّ عليه نسمة من نسمات العافية، ثم تعصف به بعدها عاصفة عاتية، وتلقى به بعيدا إلى أسوأ مما كان، ثم يتنفس نفس الحياة.. ثم تضربه موجة عاتية من موجات البلاء.. وهكذا يتردد بين الحياة والموت.. فلا يجد الحياة، ولا يستريح بالموت.. وذلك هو العذاب الذي يعذّب الله به أصحاب النار..
«كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ» (٥٦: النساء).
فهذا الذي تعيش فيه إسرائيل اليوم هو فترة ما بين استبدال جلد بجلد، وذلة بذلة.. ليذوقوا العذاب، وليطعموه ألوانا فى الدنيا.. ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون! وبعد، فإننا على موعد، مع نصر الله، ولن يخلف الله وعده..
«وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ» ويومئذ يعلم الذين لا يعلمون، أن دين الله حق، وأن رسول الله حق، وأن ما نزل على الرسول حق.. ويومها يتجلّى وجه الإسلام مشرقا، وتطلع شمسه غير محجبة بضباب أو سحاب، فتعمر بالإسلام القلوب، وتشرق بنوره الآفاق «وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ» (٨: الصف) وهكذا يصنع الله للإسلام، فيجعل له من الضيق فرجا، ومن البلاء عافية، ومن الشر خيرا ونعمة!
559
الآيات: (١١٣- ١١٥) [سورة آل عمران (٣) : الآيات ١١٣ الى ١١٥]
لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (١١٣) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٤) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (١١٥)
التفسير: ذكر القرآن الكريم «أَهْلِ الْكِتابِ» فى كثير من المواقف، وأدانهم فى كثير منها، وكشف موقفهم من رسالة الإسلام، ومن رسول الإسلام، هذا الموقف العنادىّ القائم على الكيد، والتربص! وإذ كان أهل الكتاب، هم اليهود والنصارى، فقد فرق القرآن بين الفريقين، إذ كان موقفهم من الإسلام والمسلمين مختلفا..
كان اليهود فى وجه عداوة ظاهرة وخفيّة لدعوة الإسلام ولرسول الإسلام، كما كانوا على كلمة سواء فى الكيد لها والمكر بها.. على حين كان النصارى على درجات متفاوتة فى موقفهم من تلك الدعوة.. تلقّاها بعضهم فآمن بها، ودخل فيها، وصار من أهلها.. وتلقاها بعض آخر متوقفا مترفقا، ومباعدا مقاربا.. أما أكثرهم عنادا وأشدهم مجافاة، فقد أنكر الدعوة، ونأى بنفسه عنها.. لا ينالها بسوء، ولا تناله هى بخير! ولهذا جاء قوله تعالى: «لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ» (٨٢- ٨٣ المائدة)..
جاء قول الله هنا محددا موقف كلّ من الفريقين من الإسلام.
560
فاليهود أشد الناس عداوة للذين آمنوا، وهم والمشركون على سواء فى هذه العداوة، مع أنهم أهل كتاب، يلتقى كتابهم ونبيهم مع كتاب الإسلام ونبىّ المسلمين، بنسب قريب، قريب.
والنصارى- لأنهم أهل كتاب- هم أقرب الناس مودة للذين آمنوا، إذ خلت نفوسهم من الحقد والحسد للناس، ولأنهم لا يرون احتجاز الخير السماوي عليهم وحدهم، حيث سمحت النصرانية لأن يدخل فيها الناس جميعا من جميع الأجناس والشعوب، على حين احتجزت اليهودية ما نزل من خير سماوى على اليهود.. لا يسمحون لأحد من غير اليهود أن يدين بدينهم أو أن يصبح فى المؤمنين به.
وفى قوله تعالى: «لَيْسُوا سَواءً».. تفرقة بين هاتين الفرقتين من أهل الكتاب.. اليهود والنصارى، وأنهم ليسوا على وضع واحد فى موقفهم من الإسلام والمسلمين.
وإذا كانت الآية الكريمة قد فرقت بين الفرقتين، فإنها لم تحدد أي الفرقتين من أهل الكتاب هو المتّجه إليه الحكم فى قوله تعالى «مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ».
وفى إطلاق الحكم هكذا بحيث يدخل فيه الفريقان معا، حكمة، نتبين منها:
أولا: أنّ فى كلا الفريقين من أهل الكتاب- اليهود والنصارى- جماعات قائمة على الحق، مؤمنة بالله وباليوم الآخر، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر..
561
ثانيا: كثرة كثيرة من النصارى يتجه إليهم هذا الحكم.. وقلة قليلة جدا من اليهود يدخلون فى هذا الحكم أيضا.. كما يعلم ذلك من حال الفريقين الذي كشفه القرآن فى الموقف الذي أشارت إليه الآيات التي ذكرناها من سورة المائدة.
ثالثا: من صدق القرآن، ودقة أحكامه، أنه لم يجعل الحكم مطلقا فى النصارى، ولم يخرج منه اليهود جميعا بلا استثناء.. إذ لا تخلو فرقة من الفرقتين من أخيار وأشرار، وإن غلب الأخيار فى النصارى، وغلب الأشرار فى اليهود.. بمعنى أنه ليس كل النصارى على إطلاقهم يقفون من الإسلام هذا الموقف المترفّق المسالم، وليس كل اليهود- بلا استثناء فرد أو عدة أفراد- يكيدون للإسلام هذا الكيد، ويمكرون به هذا المكر الذي يعيش فيه اليهود مع الدعوة الإسلامية.
وفى قوله تعالى: «وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ» وصف كاشف للنصارى، إذ كان دينهم يدعوهم إلى التبشير به وإذاعته فى الناس، وليس كذلك اليهود، وما يفهمون من دينهم- كما أشرنا إلى ذلك فى أكثر من موضع.
وقوله تعالى: «وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ» تتمّة لهذا الحكم الذي حكم به الله لهم، وهو أنهم إذ عدّوا فى المؤمنين بالله فإن كل عمل خير يعملونه يتقبله الله، ويجزيهم عليه، وليس كذلك أعمال المشركين.. إن الشرك أحبطها، وحرم أهلها ثمرة قبولها عند الله.. «إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ» (٢٧: المائدة) وملاك التقوى، الإيمان بالله وباليوم الآخر.
562
الآيتان: (١١٦- ١١٧) [سورة آل عمران (٣) : الآيات ١١٦ الى ١١٧]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١٦) مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٧)
التفسير: الحكم الواقع على الذين كفروا هنا عام، يشمل الكافرين جميعا، وإن كان يتجه أول ما يتجه إلى الكافرين من أهل الكتاب، الذين تحدثت عنهم الآيات السابقة، لأنهم كفروا مع ما فى أيديهم من هدى، وطرحوا ما معهم من إيمان: بخلاف الكافرين أصلا.. وإن كان الكفر هو الكفر، إلا أن بعضه أشدّ من بعض سوءا، وأبغض وجها.
فهؤلاء الكافرون من أهل الكتاب، ومن غير أهل الكتاب، سيلقون جزاء كفرهم يوم القيامة، حيث يلقون فى نار جهنم خالدين فيها أبدا، وحيث لا يدفع عنهم هذا العذاب ما كان لهم فى الدنيا من مال وولد، وإن ملأ وجه الأرض كثرة وعددا! أما هذه الأعمال التي عملوها فى هذه الدنيا، واحتسبوها فيما هو للخير، فلن يجدوا لها أثرا يوم القيامة.. إن كفرهم بالله قد أحبطها، وأبطل آثارها..
فهى أشبه بزرع تعب فيه زارعوه، وبذلوا له ما بذلوا من جهد، وفيما هم فى انتظار جنى ثمره، جاءته ريح عاصف فأتت عليه، وأصارته هشيما، لا ينتفع بشىء منه.
وقوله تعالى: ِيحٍ فِيها صِرٌّ»
أي ريح تحمل فى كيانها قوى التدمير
والإتلاف.. والصّرّ هو البرد الشديد الذي يبلغ من شدته أن يحرق الزرع كما تحرق النار.
وفى قوله تعالى: َصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ»
، إشارة إلى أن الظلم يحيط بأهله فى الدنيا وفى الآخرة جميعا.. وأن للظالمين عند الله عقابا معجلا، وآخر مؤجلا، ليكون فى ذلك عبرة ماثلة للناس، يرون فيها نقم الله لمن حادّ الله وحاربه!
الآيات: (١١٨- ١٢٠) [سورة آل عمران (٣) : الآيات ١١٨ الى ١٢٠]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (١١٨) ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١١٩) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (١٢٠)
التفسير: فى هذه الآيات يحذّر الله المؤمنين أن يأمنوا جانب هؤلاء الذين يكيدون لهم ولدينهم، ويبيّتون السوء للرسالة الإسلامية، ويصدون الناس عنها.
564
والبطانة هم الذين يدنيهم الإنسان منه، ويتخذهم موضع سرّه، فيطلعهم على ما يخفيه ويبطنه عن غيرهم.
وقوله تعالى: «لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ» أي لا تركنوا إلى أحد من غير دينكم، ولا تقاربوه هذه المقاربة التي يمكن أن يطلع منها على مواطن الضعف فيكم، فيكيد لكم.
وفى قوله تعالى: «لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا» إشارة إلى السبب الداعي إلى الحذر من مخالطة هؤلاء الذين يعادون الإسلام ويكيدون له.. إنهم يجهدون كل جهدهم فى النيل من المسلمين.. لا يقصّرون فى أمر فيه نكاية بالمسلمين، وخبال لهم، وإضعاف لشأنهم.
وفى قوله تعالى: «وَدُّوا ما عَنِتُّمْ» إشارة ثانية إلى ما فى قلوب هؤلاء القوم من كراهية للمسلمين.. يتمنون لهم ما يعنتهم ويثقل كاهلهم من هموم وآلام.
وفى قوله تعالى: «قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ» بيان شارح لتلك الأسباب التي تجعل المسلمين على حذر من هؤلاء القوم، وأمارة دالة على حقيقة تلك الأسباب.. فعلى ألسنة القوم ومن أفواههم تتساقط الكلمات المسمومة، التي يصوبونها فى خبث ودهاء إلى الإسلام والمسلمين، وليس هذا الذي يتساقط من أفواههم إلا شيئا قليلا مما تنطوى عليه قلوبهم من حسد وغيظ، وما تفيض به مشاعرهم من عداوة وبغضاء.
وفى قوله تعالى: «ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ» يضبط الله سبحانه وتعالى أولئك المسلمين الذين ظلوا على ولائهم وصداقتهم لهؤلاء الأعداء، ويقدمهم للمسلمين متلبسين بفعلتهم تلك المنكرة، ويريهم بأعينهم مدى الغبن الذي
565
أصابهم من تلك الصحبة.. إنهم يحبون من لا يحبهم، بل ومن يبيّت لهم الشر، ويدبر العدوان! وقوله تعالى: «وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ» إشارة ثانية إلى تلك الصحبة غير المتكافئة، فالمسلمون الذين يوادّون هؤلاء القوم، يؤمنون بالكتاب كله، أي بكتب الله المنزلة على رسله، وهى فى مجموعها كتاب واحد، هو كتاب الله- وهؤلاء القوم لا يوادّون المؤمنين، ولا يؤمنون إلا بالكتاب الذي فى أيديهم، ويكفرون بجميع الكتب السماوية، ومنها القرآن.
وقوله: «وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ» سبب ثالث للمباعدة التي ينبغى أن تكون بين المسلمين وبين هذه الجماعة.. إنها تعيش مع المسلمين على نفاق.. يعطونهم بألسنتهم ما ليس فى قلوبهم.. يظهرون لهم أنهم على دينهم، وأنهم على وفاق معهم.. فإذا خلا بعضهم إلى بعض لبسوا الثوب الذي أخفوه فى طيات نفاقهم وملّقهم، وأخذوا يدبّرون المكايد والمعاثر للإسلام وللمسلمين.
وفى قوله تعالى: «قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ» ما يملأ قلوب هذه الجماعة المنافقة اللئيمة كمدا وحسرة.. إنها لن تنال من الإسلام والمسلمين منالا، كما أن فى هذا تطمينا للمؤمنين، بهذه البشرى السماوية التي كتب الله بها النصر للإسلام وأهله، والخزي والسوء على أعدائه ومناوئيه.
وفى قوله تعالى: «إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً» إرهاص بما سيصيب المسلمين فى جهادهم فى سبيل الله، من نصر وهزيمة.. وأنهم فى حال انتصارهم على أعدائهم تفيض نفوس هذه الجماعة المنافقة حسرة وألما، وفى حال هزيمتهم تطير قلوبهم فرحا وطربا..
566
وفى التعبير عن الإصابة بالخير بلفظ المسّ، والتعبير عن الإصابة بالشر بلفظ الإصابة، ما يكشف عن مدى السقوط والتدلّى من مشارف الإنسانية العالية إلى الحضيض والوحل! فالمسّ بالخير، مجرّد المسّ، وهو الشيء القليل يصيب المسلمين، يفزع له اليهود ويضطربون، وتغلى مراجل نفوسهم غيظا وكمدا.. فكيف لو أصاب المسلمون من الخير شيئا كثيرا مما وعدهم الله به؟ إن ذلك مما يذهب بنفوس القوم مذاهب التّلف! وإصابة المسلمين بالشر، ينزل بهم، ويعمّهم بالبأساء والضراء.. ينظر إليه هؤلاء القوم نظرا يملأ نفوسهم بهجة، ويغمر قلوبهم رضى.. ولو كانوا على شىء من الإنسانية والمروءة لخفّوا لنجدة المكروبين، وبادروا إلى إغاثة المصابين، فإن لم يكن هذا ولا ذاك فلا أقل من نظرة عطف وإشفاق، أو حسرة وألم، فإن لم يكن هذا ولا هذا أيضا فليكن موقف جمود وخمود.. أما أن يجد الإنسان فى هذا الموقف مشاعر تتحرك فرحا وبهجة، وتتناغى شماتة وغبطة، فذلك هو الذي لا يعرف فى إنسان غير إنسان اليهود! الخير القليل.. القليل جدا، يمسّ المسلمين مسّا، يحسدونهم عليه، وتختنق صدورهم به، حتى لتقتلهم الحسرة ويميتهم الكمد! والشر يصيب المسلمين إصابات قاتلة، ويرميهم بالمهلكات.. يجد فيه هؤلاء القوم سعادة ورضى، ولذة وسرورا.
ألا ما أخسّ الإنسان وأحقره، حين يتعرّى من مشاعر الإنسانية، وتشتمل عليه طباع حيّة خبيثة، أو نفس شيطان رجيم! بل ما أخسّ الإنسان وأحقره، حين يعيش فى مسلاخ إنسان من هؤلاء الناس!
567
والموقف الحكيم الذي ينبغى أن يقفه المسلمون إزاء هذه الجماعة، هو ألا يشغلوا أنفسهم بها، ففى ذلك تعويق لهم، وتفويت لخير كثير كان يمكن أن يحصلوا عليه بهذا الجهد الذي يبذلونه فى شغل أنفسهم بها..
وخير من هذا وأكثر عائدة على المسلمين هو أن ينظروا إلى أنفسهم، وأن يقيموها على ما أمرهم الله، فذلك هو الذي يحصل لهم الصبر والتقوى، وهى القوة التي لا تغلب أبدا.. من ظفر بهما فقد ظفر بنصر الله وتأييده..
أما هؤلاء المنافقون فأمرهم إلى الله.. «إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ».
هذا، ولم تشر الآيات إلى تلك الجماعة التي كشفت عن مساوئها وحذرت المسلمين أن يوادّوهم ويأمنوا جانبهم.. ذلك أن هذه الصفات هى علامات مميزة، وسمات معينة لجماعة معروفة من الناس، هم اليهود، لا يشاركهم غيرهم فى هذه الصفات.. ومن هنا كان فى ذكرها غنى عن ذكرهم، كما فيه تشهير بهم، وتشنيع عليهم، بوضعهم هذا الموضع، الذي إذا ذكرت فيه سيئة علقت بهم، وأشارت إليهم.
الآيتان: (١٢١، ١٢٢) [سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٢١ الى ١٢٢]
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٢١) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٢٢)
التفسير: القتال الذي تشير إليه الآية هو القتال الذي حدث فى معركة أحد، وقد أصيب فيها المؤمنون بعدد غير قليل من الشهداء والجرحى، كما ستشير الآيات التالية إلى هذا الحدث، وما وقع فيه.
568
ومناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن اليهود الذين يكيدون للإسلام ويتربصون به، قد وجدوا فيما أصاب المسلمين يوم «أحد» مقالا يقولونه فيهم وفى أمداد السماء التي أمدهم الله بها يوم بدر، والتي عدّها اليهود مزاعم وأباطيل.. فلما كان ما أصيب به المسلمون فى يوم أحد، أظهر اليهود الشماتة، وأخذوا يلقون إلى أسماع المنافقين ومن فى قلوبهم مرض بالشكوك والريب فى أمر محمد ودعوته..
وهذا ما حدّث القرآن الكريم عنه فى الآية (١٢٠) قبل هذه الآية:
«إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها..»..
وقوله تعالى: «وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ» تذكير للنبىّ والمسلمين بغزوة أحد، وما كان فيها من أحداث، حيث أصيب المسلمون، وابتلوا فى أنفسهم، وكان فى هذا ما أشمت اليهود والمنافقين، وأطلق ألسنتهم بقالة السوء فى الإسلام، ونبى الإسلام، وهو ما حدّث عنه قوله تعالى:
«وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها».
وفى غزوة أحد خرج النبي من أهله غدوة، أي مبكرا، ليلقى قريشا وجموعها التي أقبلت حتى أشرفت على المدينة، عند جبل «أحد».. وهناك بوّأ النبيّ المؤمنين مقاعد للقتال، ووضع كل جماعة فى مكانها من المعركة.
وفى قوله تعالى: «وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» تذكير للمسلمين، وتحذير لغيرهم من المشركين والمنافقين، من قدرة الله على كشف ما فى الصدور، حتى لتصير الخواطر كأنها أصوات تسمع، أو كأنها مسطورات ترى وتقرأ.. فلا تخفى على الله خافية، مما يدور فى الصدور من خير أو شر.
وقوله تعالى: «إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا» هو من أنباء ما فى الصدور التي كشف عنها علم الله.
569
ففى جيش المسلمين وقع فى بعض النفوس شىء من التردد والخوف، وكاد ذلك يكون واقعا يدفع صاحبه إلى الفرار من المعركة قبل وقوعها.
وفى قوله تعالى: «وَاللَّهُ وَلِيُّهُما» بيان لرحمة الله ولطفه بهاتين الطائفتين من المؤمنين، إذ ربط على قلوبهم، وجلى عنهم خواطر الشك والريب، وثبّت أقدامهم على طريق الجهاد، فسلم لهم دينهم، وكان للمسلمين منهم قوة وعونا فى مواجهة العدو.
والهمّ بالشيء تحديث النفس به، ومراودة صاحبها عليه، دون أن يتخذ مظهرا عمليّا.
ولم يذكر القرآن الكريم اسم هاتين الجماعتين اللتين همّتا هذا الهمّ السيء. لأن رحمة الله تداركتهما، فلم يقع منهما ما يسوء، وكان من تمام رحمة الله ولطفه بهما أن ستر عليهما هذا الهمّ الذي همّتا به! ثم انظر فى قوله تعالى: «وَاللَّهُ وَلِيُّهُما» وكيف ترى أن ولاية الله لهما قد ألقت عليهما سترا من بهاء وجلال، فكانا من أولياء الله وأنصار الله.
«اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ» (٢٥٧: البقرة) فهل مع لطف اللطيف ورحمة الرحيم يبقى على الإنسان ذنب أوحوب؟ وكلا، ثم كلا! وكعادة المفسّرين، فى مثل هذه الأمور التي يذكر فيها القرآن الأحداث مطلقة، من غير تحديد أزمانها أو أمكنتها، أو أشخاصها، حيث لا تؤثر الأزمان ولا الأمكنة ولا الأشخاص فى العبر والعظات المستخلصة من الحدث- نراهم يجهدون الجهد كله فى البحث عن متعلقات الحدث، من زمان ومكان وأشخاص، يجلبونها من كل واد، ويلتقطونها من كل فم، ثم يلقونها بين يدى الحدث جثثا هامدة، مستجدية مستخزية!
570
وهنا ذكر المفسرون مقولات كثيرة فى هاتين الطائفتين، ولو أخذ بتلك المقولات جميعها لشملت المسلمين كلهم، من مهاجرين وأنصار! ونحن نحترم صمت القرآن هنا، ولا نقول من هما هاتان الطائفتان- لأنا لا ندرى على وجه اليقين من هما، ولو درينا لم نر داعية للقول- وحسبنا أن نعلم من هذا الحدث أمورا.. منها.
أولا: أن المؤمن لا يخلو فى حال من أن تطرقه وساوس سوء، أو تدور فى نفسه نزعات شر.
وثانيا: أن صدق الإيمان، وإخلاص النية يصلان الإنسان بربه، فيجد من أمداد لطفه ورحمته، ما يأخذ بيده إذا عثر، ويشد من عزمه إذا ضعف، وفى هذا يقول الله فى يوسف- عليه السّلام- وقد جاءته أمداد السماء، فصرفت عنه السوء الذي كاد يلمّ به: «وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ» (٢٤: يوسف).
ثالثا: أن ما يهمّ به المؤمن من سوء، وما تحدثه به نفسه من وساوس الشر، لا يؤاخذ عليه، حتى يتحول هذا الهمّ وتلك الوساوس إلى عمل، يؤثّر أثره فى الناس، وفى الحياة.
على أن الاستسلام لهواجس الشر، والاستماع الطويل لوساوس السوء، قد يمكّن لها فى كيان الإنسان، ويعطى لها سلطانا عليه، بحيث تصبح يوما فإذا هى مالكة زمام الإنسان، موجهة له..
وإذا كان الإنسان لا يستطيع أن يخلى نفسه من تلك الوساوس، فإنه يستطيع أن يصرفها عنه كلما طرقته، وألا يعطيها شيئا من قلبه أو غقله، بل يشغلهما بما هو أجدى وأولى.
571
الآيات: (١٢٣- ١٢٦) [سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٢٣ الى ١٢٦]
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (١٢٥) وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١٢٦)
التفسير: بعد أن استحضرت الآيتان (١٢١، ١٢٢) المقدمات الأولى لمعركة أحد، إذ غدا النبىّ خارجا منزله إلى حيث يلقى العدو، الذي وقف عند مشارف المدينة، يفكر فى دخولها ولقاء المسلمين فيها، أو محاصرتهم داخلها إلى أن يخرجوا للقائه.. ولكن رأى النبي وأصحابه كان قد انتهى- بعد مشاورات كثيرة كادت تؤدى إلى فرقة وانقسام فى صفوف المسلمين- انتهى إلى لقاء العدو- خارج المدينة عند «أحد».
نقول- بعد أن استحضرت الآيتان السابقتان، هذه المقدمات الأولى للمعركة، جاءت آيات القرآن الكريم بعد هذا مباشرة، تحدّث المسلمين بمعركة بدر التي كانوا قد خاضوها منذ عام، مع هذا العدو الذي جاء إليهم بعدد عديد، وعتاد كثير، على حين كانوا هم فى أعداد قليلة، وعدة هزيلة، ولكن الله أيدهم بنصره، وكيب الهزيمة والخزي والخذلان على عدوهم.
وفى إثارة هذه الأحداث من معركة بدر فى خواطر المسلمين، وهم على
572
مشارف معركة جديدة توشك أن تبدأ بينهم وبين هذا العدو، الذي عرفوه، وذاقوا طعم النصر عليه، ورأوا رأى العين أمداد السماء لهم يومئذ- فى إثارة هذه الأحداث، فى هذه اللحظة الحاسمة، ما يطمئن الخواطر المضطربة، وما يقطع على المسلمين هذا الجدل المحتدم بينهم- فى لقاء العدو، داخل المدينة أو خارجها.
ذلك ليعرفوا أن مكان لقاء العدو ليس هو العامل الأول فى المعركة، وليس العدد ولا العتاد هو كل شىء فى كسب النصر، وإنما السلاح العامل أولا وقبل كلّ شىء فى بلوغ النصر، هو الإيمان بالله، وتوجيه القلوب إليه، وإخلاص النية فى الجهاد فى سبيله، فذلك هو الذي يجعل ميزان المؤمن يرجح عشرة من غير المؤمنين فى ميدان الحرب.
وليس ذلك بالذي يعفى المؤمنين من النظر فى إعداد العدة للقاء العدو، واتخاذ الحيطة والحذر منه، وسدّ المنافذ والثغرات التي ينفذ منها إليهم، فهذا كلّه وكثير غيره، هو من عدد النصر وأسلحته، التي يجد منها المؤمن قوة، إلى قوة إيمانه وتوكله على الله.
وقوله تعالى: «وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ» صورة قوية نابضة بالحياة، تجمع فى كلماتها القليلة تلك، كل مشاهد المعركة، وتستحضر كل أشخاصها، ومشخصاتها، من بدئها إلى خاتمتها.
وأول ما يذكر المسلمون عن هذا اليوم، وأهمّ ما يجدونه فى خواطرهم منه، أنهم انتصروا نصرا حاسما، من حيث كان لا يرجى لمثلهم نصر فى هذه الموقعة، لقلة عددهم، وضالة عدّتهم، مع كثرة عدوّهم، وقوة عدده! وهنا أمر لا يدع لأحد شكّا حتى عند من لا يؤمنون بالله، هو أن يدا قوية غير منظورة لأحد، هى التي أدارت تلك المعركة، وقلبت أوضاعها، وبدّلت موازينها!
573
والذلّة التي وصف القرآن بها المسلمين هنا ليست ذلّة نفسيّة، ولا ضعفا قلبيا، وإنما هى ذلّة حاجة وعوز، وقلة فى المال والرجال، بحيث يخفّ ميزان أصحابها فى أعين الناس، حين ينظرون إلى ظاهرهم هذا..
فوصف المؤمنين بالذلّة هنا، إنما هو وصف للحال الظاهر منهم للناس.. أما فى حقيقة أنفسهم، فهم من إيمانهم بالله، وثقتهم فيه، وتوكلهم عليهم واستعلائهم على حاجات الجسد، ومتاع الحياة- هم فى عزّة عزيزة، تستخف بكل قوى المادة وعتوّها.
وقوله تعالى: «فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» تعقيب على هذه النعمة التي أنعم الله بها على النبىّ وأصحابه، يوم بدر، فمكّن لهم من رقاب أعدائهم، ومنحهم النصر عليهم، ذلك النصر الذي لم يتوقعه أحد..
فحقّ على المؤمنين أن يزداد إيمانهم بالله، وإقبالهم عليه، حتى يبلغ بهم هذا الإيمان وذلك الإقبال منازل المتقين، وعن هذه التقوى يكون الشكران لله على ما أنعم عليهم.. بل إن هذه التقوى فى صميمها هى شكران لله أعظم الشكران وأكمله، فما شكر الله، ولا حمده، ولا عرف فضله وقدره من لم يتّقه حق تقواه، فيأتى ما استطاع من أوامره، ويجتنب ما استطاع من نواهيه.
فإنه بغير التقوى تكون العبادات والطاعات مجرّد مظاهر جوفاء، لا ثمرة لها، ولا جزاء عليها.. والله سبحانه وتعالى يقول: «إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ» (٢٧: المائدة).
وقوله سبحانه: «إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ» هو عرض وتذكير لما كان فى يوم بدر من أمداد السماء للمسلمين، حين بشرهم الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- بأن الله ممدّهم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين من عالمهم العلوىّ، ليشاركوا فى
574
معركة الحق، ولينصروا أنصار الله، المجاهدين فى سبيله.
وقوله تعالى: «بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ» هو تأكيد لهذا الوعد الكريم من الله تعالى الذي تحقق يوم بدر بهذا المدد السماوي، والذي شهد المسلمون آياته يوم بدر.. ثم هو عرض لوعد آخر معلّق على ما يكون عند المؤمنين من صبر وتقوى، فإن كان منهم هذا لم يكن المدد السماوي ثلاثة آلاف ملك وحسب، بل إن الله سبحانه وتعالى سيمدهم بخمسة آلاف فى هذه المعركة التي توشك أن تنشب بينهم وبين المشركين، فى أحد.
والملائكة المسوّمون: هم المعلّمون، أي لهم شارات يعرفون بها.
وهنا سؤال:
ما هذا المدد السماوىّ؟ وما هى صورته؟ وكيف يكون عمله فى المعركة؟
وهل يكون على هيئة الرجال، أو الفرسان.. أو بين الرجال والفرسان؟
أم ماذا؟
والجواب على هذا من وجوه:
أولا: أنه يجب التصديق تصديقا مطلقا بما أخبر به القرآن، وأن الملائكة قد كانوا بالأعداد التي ذكرها لله، وأنهم كانوا جندا مع جنود الله فى تلك المعركة.
ثانيا: أن هذا المدد السماوىّ كان روحا من عند الله، لبست المؤمنين، وأحاطت بهم، فكانت قوة راسخة فى قلوبهم، ودروعا حصينة على صدورهم، وسيوفا قاطعة فى أيديهم! وما كان لهذه القوى أن تظهر عيانا للناس، وإلا كانت فتنة لهم.. ولكن يجد المؤمنون أثرها فى أنفسهم، كما يجد المشركون مسّها الرعب لقلوبهم!
575
ثالثا: تجسيد هذه القوى السماوية للمسلمين فى الخبر الذي أخبروا به، وتحديد أعدادها، هو لتطمين قلوب المؤمنين، وتثبيت أقدامهم.
رابعا: أن هذه القوى السماوية لو جسّدت لكانت رجالا وفرسانا، ولو عدّت لكان حسابها فى الرجال والفرسان بثلاثة آلاف من المقاتلين.
خامسا: فى قوله تعالى: «وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ» إشارة إلى أن هذا التجسيد، وتحديد العدد لتلك القوى السماوية التي تعمل معهم، إنما هو لتطمين قلوبهم، وليكون لهم من فرحة هذه البشرى قوة يرون منها خاتمة هذه المعركة قبل بدئها، وأنهم هم المنتصرون.
سادسا: كانت أعداد المسلمين يوم بدر نحو ثلاثمئة، وكان حساب المسلم فى قتاله للمشركين يومئذ بعشرة منهم كما يقول الله تعالى: «إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ» (٦٥: الأنفال)..
فالمسلمون الذين قاتلوا يوم بدر وإن كانوا ثلاثمائة، هم فى قوتهم، وفى حسابهم فى المقاتلين ثلاثة آلاف..!
وعلى هذا، فإن لنا أن نفهم أن هذه الثلاثة آلاف التي كانت مددا من السماء يوم بدر، قد كانت قوى سماوية، وأرواحا علوية لبست المسلمين، فإذا كل رجل منهم عشرة رجال! بل عشرة أرواح علوية سماوية، بل عشرة ملائكة.. «وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ» (٣١: المدثر).
هذا، وقد جاء فى سورة الأنفال فى غزوة بدر قوله تعالى: «إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ وَما جَعَلَهُ اللَّهُ
576
إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ»
(٩- ١٠: الأنفال).
وهنا نجد المدد السماوىّ ألفا من الملائكة لا ثلاثة آلاف، ولكن فى قوله تعالى: «بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ» وفى وصف الملائكة بالمردفين- ما يشعر بأن وراءهم أمدادا أخرى، تجىء مرادفة لهم، وفى أعقابهم، ويؤيد هذا قراءة السّدّى: «أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ».
كذلك يجيء التعقيب على هذا المدد السماوي، بأنه لم يكن إلا بشرى للمؤمنين وتطمينا لقلوبهم، كما جاء ذلك فى آية آل عمران التي نحن بين يديها الآن! وقوله تعالى: «وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ» وقوله فى سورة الأنفال:
«وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى» بزيادة «لكم» هناك، لاختلاف المقامين.. حيث أن الخطاب فى آية الأنفال كان والمسلمون يواجهون الحدث مواجهة واقعية، ويتلقون بشريات السماء وهم مشتبكون مع العدو، فلا حاجة إلى تعيينهم بقوله سبحانه «لكم» على خلاف ما جاء فى آية آل عمران، إذ كان نزولها والمسلمون مقدمون على حرب المشركين، فى أحد، فجاءت هذه الآية مع أخواتها لتذكرهم بفضل الله عليهم فى يوم بدر، فكان التعيين بقوله «لكم» هنا لازما. إذ كان كثير من المسلمين الذين يشهدون أحدا اليوم لم يشهدوا بدرا بالأمس! كذلك ما جاء فى قوله تعالى فى آل عمران: «وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ» وفى الأنفال: «وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ» فلاختلاف المقامين اختلف الأداء للمعنى المراد.. فالمسلمون الذين خوطبوا فى سورة الأنفال كانوا فى مواجهة المعركة فى بدر، وقلوبهم مضطربة واجفة تنظر إلى ما يطلع عليها من فضل الله ورحمته،
577
فقدم ما بشّروا به من أمداد السماء، وهو المشار إليه بالضمير فى «به» على القلوب لأنه هو المطلوب لها.. أما فى آية آل عمران، فهو تذكير بهذا الحدث، فجاء ذكره على الأسلوب الذي يقتضيه النظم المعتاد فى لغة العرب.. الفعل، فالفاعل، فالمتعلقات: «وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ».
ويشبه هذا ما جاء فى قوله تعالى هنا فى آل عمران: «وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ» وما جاء فى سورة الأنفال: «وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ».
وأحسبك لا يخفى عليك الحال الداعي لاختلاف الأداء اللفظي فى الآيتين..
ولكن لا بأس من أن نشير إليه، كما أشرنا إلى سابقيه من قبل! ففى آية الأنفال تقرير وتوكيد لعزة الله وحكمته: «إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ»..
وهذا التقرير والتوكيد لازمان فى هذا الموقف، الذي كان يقفه المسلمون فى قلّتهم، وضالة شأنهم إزاء الجيش القوى الزاحف عليهم، فإذا جاءتهم البشرى بنصر الله، محمولة بما وعدهم على لسان نبيّه، ثم أتبعت هذه البشرى بالتذكير بعزة الله وحكمته فى هذا الأسلوب المؤكد «أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» كان لذلك وقعه فى القلوب وأثره فى النفوس! أما فى آية آل عمران، فالشأن مختلف.. إنها حديث عن أمر وقع، رأى منه المسلمون رأى العين كيف كانت عزة الله وكيف كانت حكمته.. فيكفى هنا أن يذكر الله وعزته وحكمته.. «الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ» دون توكيد، إذ كان يعيش المسلمون مع الحدث الواقع، الذي هو أثر من آثار عزة الله وحكمته.
وطبيعى أن مثل هذه الفروق الدقيقة فى الصور اللفظية التي تعرض لموضوع واحد، فيقع فى النظم تقديم وتأخير، أو زيادة وحذف- لا يلتفت إليها، ولا يقام لها وزن فى معايير البلاغة، إلا أن يكون ذلك فى نظم القرآن الكريم،
578
حيث كل شىء بحساب وتقدير، ولكل حرف وزنه، الذي يرجح موازين الدنيا جميعا.. وذلك وجه مشرق من وجوه الإعجاز القرآنى.. «تنزيل من عزيز حكيم».. فسبحان من هذا كلامه.
الآيات: (١٢٧- ١٢٩) [سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٢٧ الى ١٢٩]
لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (١٢٧) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (١٢٨) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢٩)
التفسير: قوله تعالى: «لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ» هو تعليل لما جاء فى ختام الآية السابقة على هذه الآية، وهو قوله تعالى: «وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ» حيث اقتضت عزّة الله وحكمته أن ينصر المؤمنين فى معركة بدر، هذا النصر الذي كان منحة من الله كتبها بأيدى المؤمنين، ولولا فضل العزيز الحكيم لما نال المسلمون ما نالوا من أعدائهم.. ولكن قضى الله بذلك «لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا» أي ليقضى على جانب من الذين كفروا بالقتل، وبذلك ينهدّ ركن من هذا البناء الأسود، الذي يصدّ عباد الله عن دين الله..
«أَوْ يَكْبِتَهُمْ» أي يملأ قلوبهم حسرة وألما، وذلك حين ينقلب الأحياء من جيش البغي هذا، بالهزيمة، وبما خلّفوا وراءهم فى ميدان المعركة من جثث وأشلاء، لأبطالهم، وفلذات أكبادهم..
فهذا الجيش الآثم الباغي: فريقان: فريق حصدته سيوف المسلمين فى
579
المعركة، وفريق فرّ مثخنا بالجراح، محملا بخزي الهزيمة وعارها مثقلا بالحزن والألم، لما فقد من أهل وأحباب.
وتغلى مراجل الضغينة والحقد فى رءوس المشركين، وتتحول مكة كلها إلى ذئاب عاوية، تتردد فى بيوتها، وفى أنديتها، وطرقاتها أصداء هذا العواء المسعور، تسبّ وتتوعد، «محمدا» ومن اجتمع إليه من مهاجرين وأنصار..
ثم هاهى ذى تجىء إليه محملة بحقدها، مشحونة ببغضائها، لتلقاه فى يوم كيوم بدر، تراق فيه الدماء، وتتناثر الأشلاء، ويتقطع فيه ما بقي بينه وبين قومه من أواصر الرحم والقرابة.. فما أمرّ هذا وما أقساه!! ويأسى النبىّ الكريم لهذا ويحزن، وكان يودّ ألا يبلغ الأمر بينه وبين أهله إلى هذا الحدّ، وهو الذي جاءهم بالهدى والرحمة، ودعاهم إلى البر والتقوى.
ولكن القوم أبوا إلّا إعناتا له، وخلافا عليه، وإمعانا فى توجيه الأذى والضرّ إليه وإلى من اتبعه، حتى لقد حملوه على أن يهاجر من موطنه، ليخلص بدينه، وليجد له طريقا غير هذا الطريق المسدود! فكان قول الله تعالى: «لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ» عزاء للنبيّ، وتخفيفا لما وجد فى نفسه من تلك الحال التي وقعت بينه وبين أهله وذوى قرابته.. كما كان فيه إلفات لهؤلاء المشركين إلى الجهة التي نالتهم بهذا السوء الذي حلّ بهم، جزاء كفرهم وعنادهم، وأنها جهة لا تنال.. إنها يد الله القوى العزيز، لا يد محمد، ولا أصحاب محمد، وفى هذا تيئيس لهم من أن يأخذوا بثأرهم الذي احتسبوه على محمد وأصحاب محمد، فما كان لمحمد وأصحابه من هذا الأمر شىء! وقوله تعالى: «أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ» فتح لصفحة جديدة، ولحساب جديد مع هؤلاء المشركين، بعد وقعة بدر.. فهم بين أمرين: إما أن يرجع راجعهم إلى الله ويستجيب لدعوة الحق الذي يدعى إليه، فيجد المغفرة والرحمة،
580
وإما أن يزداد إثمه إثما، فيمضى فى طريق العناد والكفر، والمحادّة لله ولرسوله، فيلقى الجزاء الذي هو أهله، ولا جزاء له غير العذاب الأليم..
«فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ».
فما محمد إلا رسول، يبلّغ ما أنزل إليه من ربّه.. والله سبحانه هو الذي يرجع إليه الأمر كلّه، له ما فى السموات والأرض، لا يملك أحد معه شيئا..
«يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ» لا معقب لحكمه ولا ناقض لأمره! وفى قوله تعالى تعقيبا على هذا الحكم: «وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» ما يكشف فضل الله على عباده، ورحمته بهم، وأنها رحمة عامة شاملة، تنال الخلق جميعا، حتى أولئك العصاة المتمردين، وحتى وهم يتقلبون فى العذاب الأليم! فهو عذاب فيه رحمة لهم، وتطهير لما تلطغوا به من أدران الإثم والشرك!
الآيات: (١٣٠- ١٣٦) [سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٣٠ الى ١٣٦]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٣٠) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (١٣١) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٣٢) وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣٤)
وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٣٥) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (١٣٦)
581
التفسير: هذه الآيات والآيتان اللتان بعدها، تجىء هكذا بين تلك الأحداث التي يعرضها القرآن عن الصراع الدائر بين المسلمين والمشركين، فى معارك بدر وأحد..
والحديث عن الربا هنا، يبدو وكأنه شىء غريب فى هذا الجوّ، الذي لا نسمع فيه إلا قعقعة السلاح، ولا يرى فيه إلا الدماء والأشلاء! فما شأن الرّبا هنا؟ وما داعيته فى هذا المقام؟
عرفنا فى وقوفنا بين يدى آيات الرّبا فى سورة البقرة، أن الربا كبيرة الكبائر، وأنه لفداحة جرمه لم يدخله الإسلام فى دائرة الجرائم التي يطهّر مقترفوها بإقامة الحدّ عليهم فيها..
ولهذا فإن الذي يبدو لنا- والله أعلم- من وضع الرّبا هنا، وسط المعارك الدائرة بين الإسلام والكفر، أنه خطر كهذا الخطر الذي يتهدد المسلمين من الشرك والمشركين، وأنه إذا كان المسلمون مشتبكين فى معركة ضارية مع المشركين، ليقتلعوا بذور الشرك والضلال من المجتمع الإنسانى، فإن ذلك ينبغى ألا يشغلهم عن معركة أخرى يجب أن يشتبكوا فيها مع عدوّ لا يقل خطرا فى إفساد الكيان الإنسانى، وتدمير معالم الإنسانية فى الإنسان- عن الشرك.. ألا، وهو الربا! وخطاب المؤمنين فى قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً» يتضمن أمرين:
أولهما: نهى المسلمين مقارفة هذا الإثم، والعمل على محاربته فى أنفسهم، حتى يجلوه عنها، كما أجلوا الشرك من قبل منها.
وثانيهما: محاربة هذا الإثم، وجهاده حيث أطلّ برأسه فى أي مكان تناله
582
أيديهم، وتصل إليه قوتهم، كما يحاربون الشرك ويجاهدونه.. فإنه- أي الربا- ربيب الشرك، وثمرته البكر فى شجرته الخبيثة! فحيث كان شرك، كان ظلم، والربا هو أشأم وجوه الظلم. وعلى هذا، فإنه كما لا يجتمع إيمان وشرك فى قلب مؤمن، كذلك لا يجتمع إيمان وربا فى حياة المؤمن! وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ... (٢٧٨- ٢٧٩:
البقرة)..
فانظر إلى قوله تعالى: «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ»
وما فيها من تشكيك فى إيمان المؤمنين، ونزع تلك الصفة عنهم، والتي خوطبوا بها فى أول الآية، فى قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا..» وذلك إذا لم ينزعوا عن الرّبا، ويخلّصوا أنفسهم منه. ثم انظر بعد هذا فى قوله تعالى: «فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ» تجد أنها حرب معلنة من الله ورسوله.. فيا للهول، ويا للبلاء!! وعلى من؟
على المؤمنين الذين آمنوا بالله ولكن بقي معهم الربا! إنهم إذن والمشركون سواء! يحاربهم الله ورسوله.. ويجاهدهم المؤمنون كما يجاهدون المشركين.
فالمعركة مع الربا والمرابين معركة فى صميمها مع الشرك والمشركين! ولهذا فقد أضيف الربا هنا إلى الشرك، ودخل فى حسابه.. وبهذا صارت معركته وجهاده جزءا من معركة الشرك، وجهاد المشركين.
وفى قوله تعالى: «لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً» قد يبدو أن النهى فى تحريم الربا، وفى درجه مع الشرك فى قرن واحد- إنما هو الربا الفاحش،
583
الذي يتضاعف فيه رأس المال بمضاعفة المدة التي يبقى فيها المال فى يد المقترض بالربا، ويكون- بمفهوم المخالفة- أن هذا النهى لا يرد على الربا إذا لم يكن على تلك الصورة الفاحشة! ولكن- مع قليل من النظر فى وجه الآية الكريمة- نجد أن قوله تعالى «أَضْعافاً مُضاعَفَةً» وإن يكن حالا من أحوال الربا، مقيدا للربا فى عمومه وإطلاقه.. إلا أن هذا الحال يكاد يكون الحال الشامل لجميع أحوال الربا، الذي كان معروفا شائعا فى هذا الوقت، وهو ربا النسيئة، الذي يتضاعف فيه رأس المال على امتداد الزمن..
وإذن فهذا الوصف بالأضعاف المضاعفة للربا هو تقرير لحقيقة الربا، وكشف لوجهه الكريه، الذي يغتال أموال الناس على تلك الصورة البشعة التي لم تكن تتخلف أبدا عن المعاملات الربوية يومئذ! ويكون معنى الآية: نهى المؤمنين عن أكل الربا، الذي يأكل بدوره أموال الناس، حتى ينتفخ ويتورم، ويصبح أضعاف ما كان عليه، بتلك الأورام الخبيثة التي التصقت به.. فهو زاد تخمر وتعفن، تصدّ عنه النفوس الطيبة، ولو هلكت.. لأن فى تناوله الهلاك المحقق.
وقوله تعالى: «وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» تأكيد لاجتناب الربا، وتحذير من أكله.. لأن آكله لا يفلح أبدا.. لأنه لم يكن على تقوى من الله ومن حرم التقوى والخشية من الله فقد حرم الفلاح، وفى قوله تعالى: «وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ» ما يكشف عن جريمة الربا، وأنها باب من أبواب الكفر، ومدخل من مداخله- كما أشرنا إلى ذلك من قبل- فالنار
584
المعدّة للكافرين، هى معدة أيضا لآكلى الربا.. فمن لم يتق الله وينتهى عما نهى الله عنه من أكل الربا فهو مع الكافرين فى نار جهنم، يلقى ما يلقى الكافرون، من عذاب ونكال.. وهذا يلتقى مع قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» (٢٧٨: البقرة) فمن لم يتق الله، ويتجنب الربا فليس بالمؤمن، ولا هو فى المؤمنين! وقوله تعالى: «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» التفات إلى المؤمنين، ودعوة لهم إلى الطاعة العامة لله ورسوله، بعد أن أطاعوه فى ترك الربا..
وفى قوله تعالى «لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» تذكير لهم بالرحمة التي يجب أن تملأ قلوبهم عطفا وبرّا بالنّاس، فلا يغتالوا أموالهم بالرّبا، ولا يأكلوها ظلما وعدوانا، فإنهم إن رحموا الناس، رحمهم ربّ الناس، وفى الأثر: «الراحمون يرحمهم الرحمن».
قوله تعالى: «وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ». إثارة وإغراء بالمبادرة إلى طلب المغفرة من الله، باجتناب المحرمات، وعلى رأسها الكفر والربا.. فمن بادر بالتوبة، ورجع إلىّ الله من قريب، مستغفرا ربه، وجد ربّا غفورا رحيما يفتح له مع خزائن رحمته أبواب جنته وما فيها من نعيم مقيم.
وهذه الجنة التي وعد بها المتقون تسع النّاس، وأضعاف أضعاف الناس..
عرضها السموات والأرض.. يجد فيها المؤمنون والتائبون- مهما كثر عددهم- مكانا فسيحا، لا حدّ له، حيث يسرحون ويمرحون ما شاءوا..
فليخرس إذن أولئك المتنطعون والمتزمّتون، الذين يضيّقون من رحمة،
585
أو يضيقون بها، حتى لكأنهم يرون أن ما يبسطه الله من رحمة ورضوان لعباده إنما هو مقتطع مما يمنّون أنفسهم به عند الله.. وأنّه كلما كثرت أعداد المقبولين عند الله، والداخلين فى رحمته- تحيّف ذلك من نصيبهم، وأخذ الكثير من حظهم.. وهذا- لا شك- سوء ظن بالله، وعدوان على مشيئته، شأنهم فى هذا شأن بنى إسرائيل، الذين أكل الحسد قلوبهم أن ينال أحد من من الله خيرا غيرهم، كما قال تعالى فيهم: «أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ» (٥٤: النساء) وكما قال فيهم أيضا: «قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ» (١٠٠: الإسراء).
وقوله تعالى: «الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ» صفة من صفات المتقين..
فمن شان التقوى أن تقيم فى كيان الإنسان عواطف الرحمة والإحسان، فلا يمسك صاحبها خيرا لنفسه خاصة، بل إن كل ما فى يده هو له وللناس.. فهو ينفق منه فى كل حال.. فى يسره وعسره، فى سرّائه وضرّائه، وفى سرّاء الناس وضرائهم، لا يمنع فضله عن طالبه أبدا! وقوله تعالى: «وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ»
بيان للصفات المكملة للتقوى، المجمّلة للمتقين، فمن اتقى الله، كان رحيما بالناس، حدبا عليهم، يلقى إساءتهم بالصفح والمغفرة، فلا يصل إليهم منه أذى، بيد أو لسان..
والكاظمون الغيظ والعافون عن الناس، هم وإن كانوا فى المتقين المحسنين، إلا أنهما درجتان فى الإحسان والتقوى.. فالكظم درجة، والعفو درجة أعلى من تلك الدرجة.. فالذى تلقّى الإساءة وهو قادر على مقابلتها بمثلها ثم أمسك عن الردّ، وكظم فى نفسه ما أثارته الإساءة فى مشاعره من غيظ ونقمة، هو على درجة من التقوى والإحسان.. أما إذا ذهب إلى أكثر من
586
هذا، فمسح ما بصدره من غيظ ونقمة. وأظهر العفو والمغفرة، فهو على حظ أكبر من الإحسان والتقوى.. وأرفع من هذا درجة، وأعلى مقاما فى التقوى والإحسان، من دفع السيئة، لا يكظم الغيظ المتولد منها، ولا بالعفو عن المسيء، بل دفعها بالإحسان إليه.. وفى هذا يقول الله تعالى: «وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ» (٢٢: الرعد).
ويقول سبحانه أيضا: «أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» (٥٤: القصص).
ودفع السيئة بالحسنة إنما هو من باب الإنفاق، ولكنه إنفاق من أطيب وأعزّ ما يملك الناس: إنه إنفاق من سعة صدر، ومن كرم خلق، مما لا يرزقه إلا أهل الصبر والتقوى.. وفى هذا يقول الحق جلّ وعلا: «وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ».
(٣٤: ٣٥ السجدة).
فيما يروى عن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه.. أن جارية له كانت تقوم على وضوئه وفى يدها إبريق، فسقط الإبريق من يدها وانكسر.. ونظر إليها الإمام- كرم الله وجهه- فقالت: «وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ» فقال: كظمت غيظى.. ثم قالت: «وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ» فقال: «ولقد عفوت عنك» قالت: «والله يحب المحسنين» فقال: «أنت حرة لوجه الله» !! قوله تعالى: «وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ».
الفاحشة: المنكر الغليظ من العمل والقول.. وأكثر ما تكون
587
فى الأعمال السيئة.. وظلم النفس: يقع على كل مكروه ينالها من قبل صاحبها فيما يمسّ خاصة الإنسان من أذى، أو يتجاوزه إلى غيره من الناس.. فالزنا، فاحشة، والكفر ظلم! وكلّ من الأمرين ظلم وفاحشة معا..
فهذا الصنف من الناس إذا أصاب فاحشة أو ارتكب إثما، ذكر الله، وذكر عظمة الله وجلاله، وعلمه به، وفضله عليه، وذكر لقاء ربّه، ومحاسبته بين يديه.. فرجع إلى الله من قريب، تائبا مستغفرا- هذا الصنف من الناس معدود فى المتقين من عباد الله، إذ غسل الحوبة بالتوبة، وبعد عن الله ثم عاد إليه، واقترب منه.
وفى قوله تعالى: «وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ» إغراء للعصاة والمذنبين، بالتوبة والقبول إذا هم مدّوا أيديهم إليه، وطلبوا الصفح والمغفرة منه! وقوله تعالى: «وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ» إشارة إلى ما تصحّ عليه توبة التائبين، وهو أنّهم إذا فعلوا المعصية لم يصرّوا على معاودتها، بل أخذتهم خشية الله، واستولى عليهم الندم.. وأقبلوا على الله تائبين مستغفرين..
وقوله تعالى: «وَهُمْ يَعْلَمُونَ» يفسح العذر للذين يأتون الفاحشة عن جهل، أو خطأ، كمن يشرب خمرا وهو يظنها غير الخمر.
وقوله تعالى «أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ» الإشارة هنا إلى جميع من ذكروا فى قوله تعالى: «وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ.. إلى قوله سبحانه: «وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ» فهؤلاء الذين جاء ذكرهم فى هذه الآيات الثلاث، هم من المتقين، وهم من الذين يتلقّون هذا الجزاء الحسن من الله..
جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها..
وفى قوله تعالى: «وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ» مدح وتمجيد لهذا الجزاء العظيم،
588
الذي ناله هؤلاء الذين أنعم الله عليهم، فاتقوه، وأنفقوا فى السّرّاء والضراء، وكظموا الغيظ وعفوا عن الناس.. ومثلهم أولئك الذين إذا فعلوا فاحشة، أو واقعوا المعصية ذكروا جلال الله وعظمته، فرجعوا إليه من قريب، باسطين يد التوبة والمغفرة..
فالجزاء الذي ناله هؤلاء المحسنون المتقون، شىء عظيم رائع.. وهل شىء أعظم من الجنة وأروع؟.. ثم إن هذا الجزاء- وإن يكن فضلا من الله وإحسانا- هو عن إحسان كان من هؤلاء العاملين، وعن عمل من هؤلاء المحسنين: أجراه الله على أيديهم، ووفقهم إليه..
وفى هذا يقول الحق سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» (١٣- ١٤: الأحقاف).
الآيات: (١٣٧- ١٣٨) [سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٣٧ الى ١٣٨]
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١٣٧) هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٨)
التفسير: كانت موقعة بدر، ثم موقعة أحد بعدها، تجربتين مثيرين فى مسيرة الدعوة الإسلامية، وفى كشف معالم الطريق الذي يسير فيه المسلمون
589
تجاه تلك القوى المتربصة بهم، وبالدّين الذي آمنوا به.
بدأت دعوة الإسلام هامسة، متخافتة. تمشى على خفوت وخشية بين ظلام الشرك، ووسط معاقل المشركين.. فلما أخذ صوتها يعلو ويبلغ الأسماع.
أجلب عليها المشركون بجبروتهم وعتوّهم يلاحقون الجماعة القليلة المستضعفة، حتى كادت تختنق الدعوة فى مهدها، لولا أن ثبت الله أقدام المؤمنين، وربط على قلوبهم، فصبروا على ما أوذوا، وخرجوا عن أموالهم وديارهم وأهليهم، فارّين بدينهم فى وجوه الأرض.. حتى كانت هجرة النبي الكريم إلى المدينة.
فتحدّد بذلك خط سير الدعوة، كما تحدد الأفق الذي ستشرق منه شمسها، وتنتشر أضواؤها.
وفى المدينة قامت الخمائر الأولى لدولة الإسلام.. فكان المهاجرون والأنصار الكتيبة الأولى التي أمسكت راية الحق لتلقى بها الشرك كلّه، والكفر كلّه، والنفاق كلّه.
وفى موقعة بدر كان أول صدام بين الإسلام، والكفر.. الإسلام كله، والشرك كلّه.. ولو أن هذه المعركة انتهت بالقضاء على هذه الجماعة القليلة المسلمة، لما قامت للإسلام بعدها قائمة، ولما كان إسلام ولا مسلمون بعدها..
ولكن الله بالغ أمره.
فلقد قضت إرادته سبحانه أن تغلب تلك الفئة القليلة دولة الشرك، وأن تنالها بيد قوية قاهرة، فتقتل وتأسر، كما تشاء! وتشهد الدنيا كلها من تلك المعركة «معجزة، قاهرة متحدية، وأن الإسلام ليس أمرا من أمور هذه الدنيا التي يقتتل الناس عليها، وإنما هو نور من نور الله، لا تطفئه الأفواه، ولا تحجبه الأيدى، وأنه بالغ الذي الذي
590
أراد الله أن يبلغه: «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ» (٩: الصف).. (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ» (٣٢: التوبة) وتفعل المعجزة فعلها فيمن شهد المعركة، وفيمن سمع أخبارها من المسلمين، والمشركين، والكافرين.. فكثير من المشركين والكافرين، الذين شهدوا المعركة، أو سمعوا أخبارها، قد دارت رءوسهم بها، وأخذوا يراجعون حسابهم مع الإسلام، ويحددون موقفهم من النبىّ، وفى كل يوم يزداد العقلاء قربا من الإسلام، على حين يزداد الحمقى والسفهاء، حمقا وسفاهة وبعدا!! أما المسلمون فقد امتلأت قلوبهم طمأنينة بالدين الذي آمنوا به، وبالنبيّ الذي استجابوا له، واتبعوا سبيله.. ثم نظر ناظرهم إلى آفاق بعيدة، فرأى يد الإسلام تنال ما تشاء.. وتبلغ ما تريد فى كل أفق تتجه إليه.. لا يمتنع عليها شىء، ولا يحول دونها حائل.. إنها تقاتل تحت راية الله، وتضرب أعداءها بيد الله.. فمن يقف لها، أو يردّ ضربتها؟ ألم تشارك ملائكة السماء فى القتال مع المسلمين؟ وهل تهزم جبهة تقاتل معها الملائكة، ولو كانت عدد أصابع اليد أو اليدين؟
لقد كان هذا الشعور مستوليا على المسلمين، بعد أن فرغوا من معركة بدر، وبعد أن عادوا وقد امتلأت أيديهم من الغنائم والأسرى، وبعد أن ملئوا أرض المعركة من أعدائهم، جثثا وأشلاء!! ولكن. ما هكذا تدبير الله وتقديره فيما بين الناس، وفيما بين الحق والباطل!! إنه لا بد من بذل وتضحية، ومن معاناة وابتلاء! وإلا فأين المحقّون وأين المبطلون؟ وأين إحسان المحسنين وإفساد المفسدين؟
591
وأين ما أعطى صاحب الحق من نفسه وماله، للحق الذي فى يده؟ وكيف تكون إثابة المحسن وجزاء العامل، إن لم يكن عمل وإحسان؟
إن العدل الإلهى يقضى بأن يجازى المحسن، ويعاقب المسيء..!
وفى مجال الصراع بين الحق والباطل، وبين الخير والشر، يمتاز المحقّون من البطلين، وينعزل الأخيار عن الأشرار..
وإذا كانت معركة بدر قد دارت على تلك الصورة الفريدة بين المعارك، ليثبّت الله بها الراية التي ركزها للإسلام، فإن ما يستقبل المسلمون بعد ذلك من معارك لن يكون على تلك الصورة التي شهدوها يوم بدر، وأن عليهم أن يبلوا بلاءهم مع عدوّهم، وأن يستعينوا عليه بالصبر والتقوى. فذلك هو السلاح الذي وضعه الله فى أيديهم، والذي إن حاربوا به عدوّهم كتب الله لهم النصر، وإن قلّ عددهم، وتضاعفت أعداد قوى الشرّ المتصدية لهم!! هكذا ينبغى أن يعرف المسلمون ما يجب أن يكون عليهم أمرهم، وهم مقدمون على لقاء العدو، الذي جاءهم بكل غيظه وحنقه، ليثأر للهزيمة التي نقيها فى معركة بدر!! وها هم أولاء المسلمون يتأهبون للقاء المشركين، الذين جمعوا جموعهم، يريدون أن يقتحموا بها المدينة، ويدمروها على من فيها من المهاجرين والأنصار! ويستشير النبي أصحابه.. ويكثر القول، ويختلف الرأى، ثم يعلو الصوت القائل بلقاء العدو خارج المدينة، ويرى النبي الكريم أن يستجيب للأغلبية، وإن كان يرى خلاف ذلك، فيلبس لباس الحرب، ويضع لامته على رأسه، ويؤذن أصحابه بأنه خارج معهم إلى لقاء المشركين..
592
وهنا يستشعر المسلمون الندم، ويرون أنّهم على أمر لم يكن يريده النبىّ..
فأقبلوا عليه يسألونه أن يكون عند رأيه الذي رآه.. فأبى عليهم ذلك، وقال:
«ما ينبغى لنبىّ إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل».. وذلك أنه أقام أمره على عزيمة، وبهذه العزيمة لبس لبوس الحرب.. وما كان له أن يرجع بعد ما عزم.. فإن هذا الرجوع يعنى انحلال العزيمة، إذ ليس ثمّة ما يمنع بعد هذا أن يعزم عزما آخر، ويعود فليبس عدّة الحرب.. وهكذا تستولى عليه حال من التردد بين الإقدام والإحجام.. وليس بعد هذا اجتماع لعزيمة، أو استقامة على رأى.. وفى هذا ما فيه من ضياع وخذلان، لأى أمر، وفى كل عمل، يدخل عليه التردد من أي باب! ولهذا كان أمر الله لنبيّه الكريم: «وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ» (١٥٩: آل عمران) قاطعا الطريق إلى التردد بعد العزيمة، التي تجىء عن مناصحة ومشاورة! نقول: خرج النبىّ بأصحابه للقاء العدوّ، ومع المسلمين هذا الشعور الذي وقع فى نفوسهم من حملهم النبىّ على هذا الخروج- الشعور بالندم والحسرة- الأمر الذي لو صحبهم إلى المعركة لأفسد عليهم موقفهم من عدوهم، ولاغتال الكثير من عزمهم وقوّتهم! وهنا يتلقّى الرسول الكريم من ربّه، ما يذهب بمرارة هذا الأسى الذي وجده، ووجده معه أصحابه، فى مجلس الشورى، وما انتهى إليه.
فجاء قوله تعالى: «وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ» - جاء قوله تعالى فى هذه الآيات. ليذكّر النبي والمسلمين بما كان لله عليهم
593
من فضل، فى هذا النّصر العظيم، الذي امتلأت به أيديهم يوم بدر.. وفى هذه الصورة التي ترتفع للمسلمين من معركة بدر، تهبّ عليهم ريح الطمأنينة، وتدخل على قلوبهم السكينة والأمن، فيلقون عدوّهم بعزم جميع، وإرادة مصممة على النصر، واثقة من عون الله وتأييده.
وفى تلك الحال التي تمتد فيها أبصار المسلمين إلى معركة بدر، وتتعلق عيونهم بالمشاهد الواردة عليهم من ذكرياتها- تمتلىء أسماعهم بما يتلو عليهم الرسول الكريم، مما يتلقى من آيات ربه: «بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ».. ويستشعر المسلمون من كلمات الله هذه أنهم من الله على حال غير الحال التي كانوا عليها يوم بدر.. إذ قد جاء وعد الله بإمدادهم بالملائكة يوم بدر غير مشروط بشرط، بل هو وعد مطلق، لا بد من تحقيقه.. وقد تحقق.
أمّا هذا الوعد الكريم الذي يتلقونه من الله فى هذا اليوم- يوم أحد- فهو مشروط بشرطين: أن يصبروا، وأن يتقوا.. وتحقيق هذين الشرطين، شرط لتحقيق ما وعدوا به من النصر.
إذن فهم مطالبون بشىء جديد، من الصبر والتقوى، غير ما كانوا عليه يوم بدر، وغير ما هم عليه اليوم، من صبر وتقوى..
وإنهم لو أعطوا المطلوب من الصبر والتقوى، لوجدوا فى أنفسهم من روح الله، قوة تعدل خمسة آلاف من تلك القوى التي ساندتهم، وقاتلت معهم يوم بدر! ثم يستمع المسلمون بعد هذا إلى قوله تعالى: «وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ» فيستشعرون أن تلك الأمداد العلويّة، لا تجىء إليهم من بعيد، وإنما هى شرارات
594
من الإيمان والصبر، تنطلق من داخل أنفسهم، فتشتعل بنور الله، فإذا هى قوى يبلغ بها الإنسان فى ميدان القتال، ما لا يبلغ خمسة من الرجال، لا يملكون تلك القوى فى هذا الميدان! وهنا يلتفت المسلمون إلى أنفسهم التفاتا قويّا، يفتشون عن مواطن القوة والضعف فى إيمانهم وصبرهم، حتى يكونوا على الشرط الذي اشترطه الله عليهم، ليمدّهم بالقوة، وليمكّن لهم من عدوهم.
وتجىء آيات القرآن الكريم، لتلتقى مع هذا الشعور، الذي يفتش فيه المسلمون عن أنفسهم، ولتكون فى مجال البصر وهم يرتادون مواقع الخير الذي يدنيهم من التقوى، ويمكن لهم من الصبر.. وإذا فى الآيات التي يتلوها الرسول عليهم بعد أن تلقاها من ربّه لساعته- إذا فى هذه الآيات الدواء والشفاء، إذ يقول الله تعالى:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ» فعلى ضوء هذه الآيات الكريمة، يعرض المسلم نفسه، ويطّلع على ما تكون
595
قد انطوت عليه مما نهى الله، مما لم يكن يراه، وهو فى زحمة الأحداث المتلاحقة، التي كانت تمرّ بالمسلمين فى تلك الفترة الحرجة من حياة الإسلام- فيعمل على تنقيتها، والخلاص منها.. وقد أشرنا من قبل إلى ما فى هذه الآيات الكريمة من معانى الإحسان، وما تحمل من دواء عتيد لسقام النفوس، ومرضى القلوب! ثم يجىء قوله تعالى بعد ذلك:
«قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ» فيذكر المسلمون من الآية الكريمة أن لله سبحانه وتعالى سننا فى خلقه، لن تتخلف أبدا، وأن من هذه السنن وتلك الأحكام والقوانين التي أخذ الله بها النّاس، ما تضمّنه قوله سبحانه «وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى» (٣٩- ٤١: النجم)..
وما جاء به قوله سبحانه: «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» (٧- ٨ الزلزلة).
وبهذا يرى المسلمون أنهم مطالبون بأن يعملوا وأن يحسنوا ما وسعهم العمل، وما أمكنهم الإحسان، وأن يلقوا عدوّهم بالصّبر وتوطين النفس على الجهاد والتضحية والبذل فى سبيل الله، وأن يشروا أنفسهم ابتغاء مرضاة الله.. وهنا يأذن الله لهم بالنصر، ويريهم فى عدوّهم ما يحبّون، وإلّا فقد رضوا لأنفسهم بالهزيمة، التي اكتسبوها بالقعود عن البذل والتضحية.
وينظر المسلمون فى سنن الله التي خلت فى عباده، وما لهذه السنن من آثار فى تقدير مصائر الأمم والأفراد على السواء، وإذا الّذين كذّبوا بآيات الله، وآذوا رسل الله، قد أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر.. قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم إبراهيم، وقوم لوط، وأصحاب مدين.. هؤلاء جميعا هم ممن كذبوا
596
الرّسل، فأخذهم الله بذنوبهم، وأوردهم موارد الهلاك فى الدنيا، ولهم فى الآخرة عذاب النار.. وفى هذا بقول الله تعالى: «فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» (٤٠: العنكبوت).. فهذا هو مصير الذين كفروا بآيات الله وكذّبوا رسله، وإلى مثل هذا المصير يصير أولئك الذين كذّبوا رسول الله وآذوه، ووقفوا منه ومن دعوته هذا الموقف العنادىّ المغرق فى العناد والضلال..
وفى هذا تطمين للمسلمين، وتثبيت لأقدامهم، وأنهم على طريق النصر، إذا هم صبروا واتقوا، وأن أعداءهم إلى البوار والهلاك إن أصرّوا على ما هم عليه من شرك وضلال.. والله سبحانه وتعالى يقول: «إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ» (٥١: غافر).. ويقول سبحانه: «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ» (٣١: المجادلة) ثم تمتلىء أسماع المسلمين وقلوبهم بعد هذا بقوله تعالى: «هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ».. فيرجعون إلى هذا البيان الذي استقبلتهم به تلك الآيات، وهم على مشارف المعركة والالتحام بعدوّهم، ويرتلون هذا البيان مرة بعد مرة، فيخلص إليهم منه فى كل مرة ما يزيد إيمانهم إيمانا ويقينهم يقينا، وإذا هم يمضون إلى المعركة فى ثقة وطمأنينة، وفى إصرار على كسب المعركة وبلوغ النصر! وتدور المعركة، وتهبّ ريح النصر على المسلمين، وفى لحظة خاطفة يرون أنهم كسبوا المعركة، فألقى كثير منهم السلاح، وأقبل على الغنائم ينتزعها من بين يدى العدو قبل أن يفرّ بها! ولكن سرعان ما تتبدل الأمور، وتسكن ريح النصر، ويقع المسلمون ليد
597
أعدائهم، فيقتلون منهم نحو سبعين قتيلا.. وينكشف الرسول، إذ تتناثر الكتيبة التي حوله، بين قتيل، وجريح، ومهزوم.. ويثبت الرسول الكريم مع فئة قليلة من أصحابه، ويخلص إليه من سهام العدوّ أذى كثير، حتى لتشجّ رأسه، وتنكسر ثنيّته، وينادى منادى المشركين: أن محمدا قتل!! وهنا يستبدّ الهول والفزع بالمسلمين، وتكاد تنتهى المعركة بالهزيمة القاصمة، لولا أن نادى منادى الرسول: أن رسول الله هنا فى المعركة، يقاتل المشركين.. فتثوب إلى المسلمين ألبابهم الشاردة، ويجتمعون إلى رسول الله، ويصمدون معه فى ردّ عدوان المعتدين..
وتكتفى قريش بما نالت، وتقف بالمعركة عند هذا الحدّ، خوفا من أن تدور الدائرة عليها، لو أنها مضت بالحرب إلى آخر الشوط! ويعود النبىّ وأصحابه من المعركة، وقد أصيبوا فى أنفسهم، وفى أصحابهم..
وفى القلوب حزن وأسى، وفى النفوس ضيق واختناق، ويهبّ على المدينة إعصار محموم، يلفّ الناس فى جوّ كئيب، ملفف بالسواد، لا يرى فيه الرائي موقع قدميه! وأين بدر ويومها؟ وأين الوجه الذي استقبلت به المدينة أصحاب بدر، من هذا الوجه الذي تستقبل به أصحاب أحد؟
وتدور فى الرءوس، وعلى الشفاه، خواطر، وهمسات، وغمغمات، تكاد لكثرتها أن تكون هديرا كهدير البحر الهائج، أو عواء كعواء الريح العاصف! وتعلو أصوات المنافقين والكافرين، فتقرع أسماع المسلمين، بالتجديف على الإسلام، والتكذيب لرسول الله، والسخرية بالملائكة التي قيل إنها قاتلت مع المسلمين يوم بدر! فأين رب محمد؟ وأين الملائكة التي يقول إن ربّه يمدّه بها؟ لقد قتل أصحابه، وكاد أن يقتل هو.. فما لربّه لا يدفع عنه
598
وعن أصحابه ما أصابهم؟ وما للملائكة لا تخفّ لنجدته؟ أم ترى هل تفرّ الملائكة كما يفرّ الناس؟ وهل تهزم كما يهزم المحاربون؟ وكم من الملائكة من قتيل وجريح على أرض المعركة؟.. إن ذلك ليس إلّا ضلالا فى ضلال، وغرورا فى غرور.. لقد «غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ» (٤٩: الأنفال) فأوردهم موارد الهلاك وسوء المصير!! هكذا كان المشركون والمنافقون يرددون تلك المقولات المنكرة، ويلقون بها- فى شماتة وسخرية- إلى أسماع المسلمين، فتزيد من آلام جراحهم، وتثقل من هموم أنفسهم! والمسلمون فى صمت ووحوم، يمسكون أنفسهم على هموم، ويطوون صدورهم على حسرات وغمرات.. لا يدرون ما يقولون، ولا ما يفعلون!! تلك هى بعض المشاهد التي يمكن أن يرصدها الراصد لهذا اليوم، فيما كان يجرى فى المدينة، وما يدور فى محيط الجماعات التي تأوى إليها، من مسلمين، ومنافقين، ومشركين.. إنها مشاهد أرضية، تسبح صورها وخيالها فى غبار المعركة ودخانها، الذي انعقد فوق المدينة، وخيّم فى سمائها لأيام وأيام! ويتطلع الرسول والمؤمنون إلى السّماء، يرقبون ماذا يجىء من جهتها عن هذا الحدث العظيم.. وماذا كان حسابهم عند الله فيما كان منهم، ولما أخذوا أو تركوا فى هذا اليوم؟
وتقول السماء كلماتها، وتتنزل آيات الله بالحق، يقشع ظلام الباطل، ويفضح ضلال المبطلين، وتتلى كلمات الله فتلتئم بها جراحات المؤمنين، ، وتمتلىء بها قلوبهم سكينة ورضى، وإيمانا:! وفى هذه الآيات المنزّلة، عزاء ورحمة وشفاء:
599
الآيات: (١٣٩- ١٤٣) [سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٣٩ الى ١٤٣]
وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (١٤٠) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (١٤١) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (١٤٢) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (١٤٣)
التفسير: ولا تحتاج هذه الآيات الكريمة إلى شرح أو بيان، لمن يعيش هذه المعركة بمشاعره، ويشارك فيها بوجدانه، ويزن فيها الأحداث بالميزان الذي أقامه الله بين عباده، وأجرى أمورهم عليه! فأولا: لقد اختلف أمر المسلمين فى هذه المعركة.. قبل أن يخرجوا إليها.. وهذا الخلاف- أيّا كان- هو عامل ضعف، وداعية فتور ووهن..
وكان من أولى وصايا الإسلام للمسلمين، أن يحذروا هذا الداء، وأن يجتنبوه فى كل ما يأخذون وما يدعون من أمور: «وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ» (٤٦: الأنفال).
وثانيا: لم يقم أمر المسلمين جميعا فى هذه المعركة على ما وصّاهم الله به، ولفتهم إليه، قبل أن يدخلوا المعركة، وذلك فى قوله تعالى: «بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ» (١٢٥: آل عمران). فثبتت قلة وصبرت.. وتواكلت كثرة منهم، فانهزمت وولت
600
وثالثا: أضاف كثير من المسلمين يومئذ معركة أحد إلى معركة بدر، وحسبوها بحسابها.. فما أن رأوا ريح النصر تهبّ عليهم، وتكاد تسلم أعداءهم لأيديهم، حتّى أعفوا أنفسهم من مئونة القتال، وتركوا المعركة للملائكة تتمها كما بدأتها!! وذلك تقدير فيه كثير من البعد عن الطريق الذي أقامهم الله عليه فى تلك المعركة، وهو أن يكسبوها بأيديهم، وبصبرهم وتقواهم.
وإنه لو جرت الأمور على هذا التقدير الذي قدّروه، لما كان بلاء ولا اختبار.. ومن ثمّ فلا ثواب ولا جزاء.. إذ بم يثابون؟ وعلى أي شىء يجزون؟ وما فضل المجاهدين على القاعدين؟ بل ما فضل المؤمنين على الكافرين؟ «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ» ؟
إن بلاء المؤمنين وجهادهم، هو الذي يكشف عن إيمانهم، ويعطى الدليل العملي لهم وللنّاس، أنّهم مؤمنون حقّا، وأنهم أدوا حقّ هذا الإيمان، بلاء وجهادا.
وفى قوله تعالى: «وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ» لا يتعلق علم الله بجهادهم وصبرهم. فعلم الله واقع على ما كان منهم وما سيكون قبل أن يكون، ولكن المراد بالعلم هنا، علم المعلوم فى حال وقوعه، أي علمه على الصفة التي وقع عليها.. وهذا وإن كان واقعا فى علم الله، إلا أنه علم غيب لما سيقع، والمراد بالعلم هنا علم الشهادة لما وقع.
والذي تضمنته هذه الآيات الكريمة، تعقيبا على هذا الحدث- هو عزاء جميل من الله سبحانه وتعالى للنبىّ وللمؤمنين..
601
ففى قوله تعالى: «وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ» نفحة من الله، تنزل على النبىّ وعلى المؤمنين معه، بما يهوّن عليهم كل مصاب، ويجلو عن صدورهم كل همّ وحزن! وهل مع قول العزيز الرحيم: «وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا» يكون ما يوهن ويضعف، أو يبقى ما يسوء ويحزن؟
وسبحانك ربى! ما أوسع رحمتك، وما أعظم فضلك، وما أكثر برّك بالمؤمنين، ورعايتك للمجاهدين!! تبتليهم فى أموالهم وأنفسهم، لتضاعف لهم الأجر، وتعظم لهم المثوبة، ثم تعود بفضلك ورحمتك فتعافيهم مما ابتليتهم به، وتملأ قلوبهم سكينة ورضى ومسرة، بما تسوق إليهم من رحمات وبشريات! وفى قوله تعالى: «وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ» حكم من لدن حكيم عليم، حكم به للمؤمنين أن يكونوا دائما فى المنزلة العليا فى هذه الحياة.. لهم العزة والغلب على أعدائهم أبدا، مصداقا لقوله تعالى: «وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا» (١٤١: النساء) وفى قوله تعالى: «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» تثبيت للمؤمنين على الإيمان..
وأنهم إذا ثبتوا على إيمانهم، وأعطوا هذا الإيمان حقّه من الصبر والتقوى، فإنهم لن يهنوا ولن يحزنوا أبدا، وأنهم الأعلون أبدا..
وقوله تعالى: «إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ» هو عزاء آخر للمؤمنين لما أصيبوا به فى أنفسهم، ولما أصيبوا به فى أهليهم.. وأنهم إن يكونوا قد أصيبوا اليوم بما يؤلم ويوجع، فقد أصابوا هم أعداءهم بما يؤلم ويوجع! ثم ليعلم المؤمنون من هذا أن طريقهم فى مسيرتهم مع الإسلام ليست كلها يوما واحدا كيوم بدر، بل إنهم سيغلبون
602
ويغلبون، ويقتلون ويقتلون، ويصيبون ويصابون.. وهكذا الدنيا.. وتلك سنّة الحياة فيها.. لا تدوم على وجه واحد، بل هى وجوه متقلبة متغيرة! تقبل وتدبر، وتضحك وتبكى..
وذلك هو الذي يعطى الحياة حيوية، وهو الذي يغرى الناس بالسعي والعمل، لينتقلوا من حال إلى حال، ومن وضع إلى وضع.. ولو أخذ الناس بوضع ثابت مستقر- ولو كان ذلك فى أحسن حال، وأمكن وضع- لماتت فى أنفسهم نوازع التطلعات إلى المستقبل، ولخمدت فيهم جذوة الحماس للكفاح والنضال.
وقوله تعالى: «وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ» بيان لحكمة الله من هذا الابتلاء.. ففى هذا الابتلاء، وتحت وطأة القتال، ينكشف إيمان المؤمنين، ويعرف ما عندهم من صدق وبلاء.. فيكتب لهم ما كان فى علم الله، وما وقع منهم، وهو أنهم مؤمنون مجاهدون! وفى قوله تعالى: «وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ» إشارة إلى أن جماعة المؤمنين الذين كانوا مع النبىّ فى أحد- كانوا جميعا على درجة عالية من الإيمان، وأنّ أنزلهم درجة فى هذا الإيمان كان مؤهلا لأن يكون فى عداد الشهداء، ولهذا جاء قوله تعالى: «وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ» خطابا لهم جميعا، وكان نسق النظم أن يجىء هكذا: «وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ»، ولكنّ هذا يعزل بعض المجاهدين عن أن يكونوا فى المؤمنين، الصالحين لأن يتخذ الله منهم شهداء..
وفى قوله تعالى: «وَيَتَّخِذَ» إشارة كريمة إلى هذا المقام الكريم الذي يرتفع إليه الشهداء، وأنهم خيار المؤمنين، والمصطفين منهم، ولهذا اتخذهم الله شهداء.. إذ الاتخاذ أخذ عن اختبار واختيار..
603
وفى قوله تعالى: «وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ» تحريض للمسلمين على قتال المشركين، واحتمال المكروه فى سبيل إضعافهم أو القضاء عليهم، لأنهم ظالمون لأنفسهم، بصرفها عن الهدى إلى الضلال، وظالمون للإنسانية إذ هم قوى شريرة عاملة على طمس معالم الهدى وصدّ الناس عن الخير.. «وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ» ومن لا يحبّه الله فهو عدو لله، يجب على أولياء الله أن يعادوه، ويخلّصوه من الذي فى يديه، يرمى به نفسه، ويصيب به الناس.
وقوله تعالى: «وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ» أي من تمام حكمة هذا الابتلاء فيما بين المؤمنين والكافرين أن يمحّص الله المؤمنين بهذا الابتلاء، وينقيهم من دخائل الضعف والوهن، بملاقاة الشدائد والصبر عليها، كما أن فى هذا الابتلاء إضعافا لشوكة الكافرين وتوهينا لقوى البغي والعدوان، المتربصة بالإيمان وبالمؤمنين.
وقوله تعالى: «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ» بيان آخر للحكمة من هذا الابتلاء الذي ابتلى الله به المؤمنين، فى قتال الكافرين، وهو أن هذا الابتلاء هو الذي يكشف عن إيمان المؤمنين، وصبرهم على المكروه، واحتمالهم الأذى فى سبيل الله، وذلك هو الذي يميز الخبيث من الطيب، ويجعل لكلّ مكانه عند الله.. فالجنة للمجاهدين الصابرين.. والنار للمشركين المعاندين.
وقوله تعالى: «وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ».
هو عتاب رقيق للمؤمنين الذين شهدوا القتال فى أحد، ثم تحوّل بعضهم عن موقف الموت، إلى حيث السلامة وجمع الغنائم، بعد أن لاحت بوارق النصر للمؤمنين: كما أن كثيرا منهم ترك القتال بعد أن بانت الهزيمة فى جانب المسلمين
604
فلقد كان كثير من المسلمين الذين شهدوا أحدا، ولم يكونوا قد شهدوا بدرا- كانوا يأسفون على أن فاتهم حظّهم من الجهاد فى معركة بدر، وتعرضهم للاستشهاد فى سبيل الله.. فخرجوا إلى أحد على نية الاستشهاد.. فلما كان من هؤلاء وهؤلاء، ما كان فى أحد، من إقبال على الغنائم، أو فرار من المعركة- كان هذا العتاب الرقيق من الله سبحانه وتعالى لهم، ليذكّرهم بأنهم قالوا ولم يفعلوا، وهذا موقف لا يرضاه الله لهم، إذ يقول سبحانه: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ» (٢- ٣: الصف) وفى قوله تعالى: «فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ» تأسيف وتنديم، لأولئك الذين فاتهم الاستشهاد فى «أحد» وأنهم قد ضنوا بأنفسهم عن هذا المقام الكريم، حتى لقد اكتفوا بأن يروا الموت فى غيرهم وهم ينظرون إليه من بعيد!
الآيتان: (١٤٤- ١٤٥) [سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٤٤ الى ١٤٥]
وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (١٤٤) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (١٤٥)
التفسير: حين مال المشركون على المسلمين يوم أحد، وأخذوهم بسيوفهم وسهامهم، وسقط شهداؤهم الذين كانوا إلى جوار رسول الله- تنادى المشركون أن محمدا قتل!!
605
وكان لهذا الخبر الكاذب وقعه على المسلمين، فاضطربت لذلك صفوفهم، ووقع كثير منهم تحت وطأة الحزن والكمد، فهام على وجهه يطلب الفرار من وجه هذا الهول الصاعق.. إذ كانوا- وهم يعلمون أن محمدا ميت وأنهم ميتون- غير مستعدّين، نفسيا، وهم فى معمعة المعركة، ووجودهم كله مستغرق فيها- كانوا غير مستعدين أن يتلقوا هذه الصدمة المزلزلة، وأن يصدقوها، وإن كانت حقّا، لا يمترون فيه ولا يشكّون! فكان عتاب الله لهم على ما كان منهم فى هذا الموقف، عتابا رقيقا، يحمل فى طياته الرحمة والمغفرة.. فما لقيهم الله بالعتاب إلا بعد أن ردّهم إلى الحق الذي عرفوه وآمنوا به، وإن كان قد غاب عنهم، أو ذهلوا عنه فى هذا الموقف الرهيب! «وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ».. وما الرّسل إلا ناس من الناس، وبشر من البشر.. يموتون كما يموت سائر الناس، وقد مات الرسل جميعا، ولا بد أن يموت محمّد.
«أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ»..
فكيف إذا مات محمد أو قتل تتحولون عن مواقفكم، وتنقلبون على أعقابكم تاركين ما دعاكم إليه، وأقامكم عليه من الجهاد فى سبيل الله؟ إن ذلك غير مستقيم مع منطق أبدا!! «وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً» فهذا حكم الله.. إن من ينقلب على عقبيه فيكفر بالله بعد إيمانه، أو ينكص عن الجهاد بعد موت النبي، فلن يضر الله شيئا.. إن الله غنى عن العالمين.
والعدول بالخطاب من الحضور إلى الغيبة، وصرفه عن الماضي إلى المستقبل- فيه ما فيه من لطف الله، ورحمته وإحسانه، بل ورضاه عن المسلمين الذين شهدوا أحدا، وشمولهم جميعا بهذا الصفح الجميل، والرضوان العظيم..
606
وفى قوله تعالى: «وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ» لطف فوق هذا اللطف، ورحمة فوق هذه الرحمة، وإحسان فوق هذا الإحسان!! فالمسلمون الذين شهدوا أحدا، قد تلقوا ألطاف الله هذه، بالشكر العظيم، وهم إذ يشكرون الله على رحمته بهم وفضله عليهم مجزئّون جزاء الشاكرين.
«فالشاكرون» هنا- وإن صح إطلاقها على كل شاكر- متجهة أولا وقبل كلّ شىء إلى هؤلاء الذين انتظمهم جيش رسول الله، فى معركة أحد! ثم كان قوله تعالى: «وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا» عزءا جميلا للمسلمين، وتسرية عنهم لما أصيبوا به فى أحد.
فهؤلاء الذين استشهدوا فى سبيل الله قد ظفروا بالشهادة، دون أن ينقص ذلك من أجلهم ساعة واحدة.. فما تموت نفس على أي وجه من وجوه الموت، دون أن تستوفى أجلها المقدور لها «لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ» (٣٨: الرعد)..
«لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ» (٤٩: النحل) فمن أراد ثواب الدنيا واستيفاء حظه منها، ففرّ بنفسه عن مواطن الابتلاء، فله ما أراد، دون أن يزيد ذلك من عمره شيئا.. ومن أراد ثواب الآخرة، مجاهدا فى سبيل الله، يستقبل الموت ولا يستدبره، فله ما أراد، ولن ينقص ذلك من أجله شيئا!! وفى قوله تعالى: «وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ» إشارة إلى المؤمنين الذين عرفوا هذه الحقيقة واستيقنوها، فشكروا الله على ما أقامهم به على طريق الجهاد، ونظمهم فى صفوف الشهداء، ووفاهم أجرهم، دون أن يستقضيهم ذلك ساعة واحدة من آجالهم التي حرص عليها غيرهم، ممن نكص عن الجهاد، وارتدّ على عقبه، فرارا من الموت، الذي هو طالبه حين يستوفى أجله.
607
الآيات: (١٤٦- ١٤٨) [سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٤٦ الى ١٤٨]
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (١٤٦) وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (١٤٧) فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٤٨)
التفسير: فى الآيات السابقة كان من الله، هذا العتاب الرفيق، الذي يحمل الإعتاب والرضا، ويسوق الإحسان والرحمة، ويبعث فى صدور المسلمين دفء الأمل بالنصر للإسلام، والإعزاز للمسلمين، فيجدون فى هذا كلّه العزاء الجميل لما أصابهم من جراح، فى أجسامهم، ولما وقع فى نفوسهم من مرارة الهزيمة، وعلوّ يد الكافرين عليهم فى هذه المعركة، معركة أحد..
وهنا، فى قوله تعالى «وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ» صورة اخرى من صور العزاء والتّسرية عن المسلمين، بما تحمل إليهم كلمات الله من مواقف الإيمان والصّبر، للمؤمنين فى الأمم التي خلت، ممن صدّق الرسل وجاهد فى سبيل الله.
والربّيون: جمع ربّىّ، وهو من آمن بالله، وأضاف نفسه إلى ربّه، متوكلا عليه، مستقيما على صراطه.
فكثير من هؤلاء المؤمنين من أتباع الرسل، كانوا مع الأنبياء مجاهدين فى سبيل الله، لم يهنوا ولم يضعفوا، مهما نزل بهم من شدائد أو وقع عليهم
608
من بلاء. وهؤلاء هم ممّن يحبّهم الله ويوسع لهم فى منازل رضوانه ورحمته:
«وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ» وفى قوله تعالى: «وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ» إشارة إلى ما ينبغى أن يكون عليه موقف المجاهدين الصابرين، حين يكربهم الكرب، ويشتدّ بهم البلاء.. لا يذكرون غير الله، ولا يلتفتون إلا إليه، طالبين عفوه ومغفرته، وتثبيت أقدامهم فى موطن الجهاد، حتى لا تنزع بهم نفوسهم إلى أن يولوا الأدبار، وأن يطلبوا السلامة والنجاة.
وفى طلبهم أن يغفر الله لهم ذنوبهم، وإسرافهم فى أمرهم- أي خروجهم عن سواء السبيل فى بعض أحوالهم- فى طلبهم هذا، وفى جعله مفتتح دعائهم، اعتراف ضمنىّ بأن شيئا ما دخل على إيمانهم، فأدخل الوهن والضعف عليهم- وإن لم يهنوا ولم يضعفوا- وباعد بينهم وبين النصر المرجوّ على عدوهم.. فهم فى هذا الدعاء يضرعون إلى الله أن يغفر لهم ذنوبهم، وأن يتجاوز عن سيئاتهم، فإذا استجاب الله لهم ذلك، طهرت نفوسهم، واستقامت طريقهم إلى الله، واشتد قربهم منه، وكان لهم أن يطلبوا إلى الله أن يثبت أقدامهم، وأن يمسك بهم على هذا الطريق الذي استقاموا عليه..
وهذه الحال التي تنكشف عن موقف المؤمنين من أتباع الرسل تلقى على المؤمنين الذين شهدوا أحدا ظلالا من الاتهام، واللّوم، والعتاب، لما وقع فى نفوس بعضهم، وما جرى على ألسنة بعض آخر.. من وساوس الشك والريبة..
فقال قائل: «أَنَّى هذا؟» (١٦٥: آل عمران) وقال آخرون: «لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا» (١٥٤: آل عمران).. لقد نظر هؤلاء وأولئك إلى غير ما كان ينبغى أن ينظروا إليه.. لقد نظروا إلى غيرهم، وألقوا باللائمة
609
عليه.. ولم ينظروا إلى أنفسهم ليبحثوا عما وقع فيها من خلل، كما كان يفعل المؤمنين قبلهم من أتباع الرسل، حين تنزل بهم الشدائد، وتتوالى عليهم المحن.
وفى قوله تعالى: «فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» مشهد كريم، يعرض على أنظار المسلمين، لمن آمن بالله واستقام على طريقة، حتى إذا استشعر أن يد الله قد تراخت عنه، اتّهم نفسه، وأيقن أن خللا وقع فى صلته بالله، فبادر فأصلحه، وصالح الله، فوجد العفو والمغفرة، ثم أصاب النصر والظفر..
وهؤلاء المؤمنون الذين جاهدوا مع رسل الله، وكان شأنهم عند اشتداد المحن، وقسوة البلاء، العودة إلى الله بإصلاح أنفسهم- هؤلاء قد أعزّهم الله فى الدنيا، فكتب لهم النصر على عدوهم، وأجزل لهم المثوبة والرضوان فى الآخرة، لما كان منهم من صبر على البلاء، وثبات فى وجه الموت.
الآيات: (١٤٩- ١٥٠- ١٥١) [سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٤٩ الى ١٥١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (١٤٩) بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (١٥٠) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (١٥١)
التفسير: وفى هذه الآيات يرى لله المؤمنين موقفهم من الكافرين، فيحذّرهم من أن يستمعوا إلى ما يتخرّصون به، وما يلقون إلى أسماع الناس من تعليقات خبيثة على معركة أحد، وما أصاب المسلمين فيها.. فإن الاستماع إلى هذه المقولات، والاطمئنان إلى قائليها يوهن إيمان المؤمنين، ويفسد عليهم
610
أمرهم، فلا يلقون إلا الخذلان والخسران! ثم إذا استجاب المسلمون إلى ما دعاهم الله إليه من تجنب الكافرين والحذر منهم.. لفثهم الله سبحانه إليه، ودعاهم إلى الاعتصام به، والاعتزاز بالاعتماد عليه والثقة فى نصره: «بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ».
وفى قوله تعالى: «بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ» دعوة من الله إلى المؤمنين أن يلوذوا به، فإنه سبحانه لم يؤاخذهم بما كسبوا، ولم يبعدهم عن حظيرة محبّته ورضوانه، فهو مولاهم، وهو الذي يثبّت أقدامهم، ويمنحهم النصر على عدوهم «وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ».
أما هؤلاء المشركون، الذين خيل إليهم أنهم كسبوا المعركة، وفرغوا من أمر الإسلام والمسلمين- فإن لهم يوما تتنكس فيه راية الشرك إلى الأبد، فيذلّ المشركون فى هذه الدنيا، والنار مثوى لهم يوم يقوم الناس لرب العالمين..
فهؤلاء المشركون، سيملأ الله قلوبهم رعبا، بما حملوا من شرك، وبما عبدوا من ضلالات.. إذ أن الشرك بقتل فى صاحبه كل معانى الإنسانية، ويقيمه فى هذه الدنيا مقاما قلقا مضطربا، لا يجد ما يستند إليه عند الشدائد والمحن.
وما ظنّك بإنسان- إذا كربه الكرب، ونزلت به النوازل- فزع الى حجر يعبده؟ أو إلى حيوان يسجد بين يديه؟
وأين هذا ممن يمدّ يده إلى مالك الملك، ويفزع إلى من بيده ملكوت السموات والأرض؟
وشتّان بين هذا وذاك.. فالمشرك يدعو من لا يملك ضرّا ولا نفعا،
611
ويهتف بمن لا يستجيب له إلى يوم القيامة.. أما المؤمن فيدعو ربّ الأرباب، ومدبّر الأكوان، والآخذ بناصية كل كائن، والقائم على كل موجود.
الآية: (١٥٢) [سورة آل عمران (٣) : آية ١٥٢]
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (١٥٢)
التفسير: فى أولى الآيات التي استفتح الله بها ذكر تلك المعركة- معركة أحد- جاء قوله تعالى: «بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ».. وكان هذا وعدا من الله المؤمنين بالمدد العلوىّ، الذي يحمل معه النصر لهم. وقد جاء هذا الوعد مشروطا وأنه لن يحققه الله لهم إلا إذا وفوا بهذا الشرط، وهو أن يصبروا ويتقوا..
وقد صبر المسلمون فى أول القتال، وأعطوا أنفسهم كلها للمعركة..
فصدقهم الله وعده، وأراهم بشائر النصر.. فإنه منذ الساعات الأولى من القتال استولى المسلمون على زمام المعركة، وبدأت طلائع بدر تطل عليهم، فقتلوا مقتلة عظيمة فى المشركين، وأدخلوا فى صفوفهم الخلل والاضطراب، حتى همّوا بالهزيمة والفرار، وأخلوا أيديهم مما معهم من متاع.. وإذ ذاك امتدت أبصار كثير من المسلمين إلى هذا المتاع الذي تخلّى عنه أهله، وكان الأولى بهم أن يلتفتوا إلى رءوس المشركين أولا، فيزيلوها عن مكانها، فهذا هو الأمر الذي ندبهم الله له، وانتظموا فى سبيل المجاهدين من أجله!!
612
وإذن فقد تخلّى المسلمون عن الشرط الذي اشترطه الله عليهم ليمنحهم نصره.. فكان أن تخلّى عنهم النصر، واستقبلتهم الهزيمة..!!
وفى قوله تعالى: «إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ» إشارة إلى ما فعل المسلمون بالمشركين أول الأمر، وأنهم حصدوهم حصدا.. فالحسّ معناه: القتل الذّريع الكثير..
وقوله تعالى: «حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ» يشير إلى ما كان من جماعة الرّماة التي جعلها الرسول الكريم من وراء جيش المسلمين، تحمى ظهورهم من أن يأخذهم كمين من العدو على غرّة، وقد وصّى النبىّ هؤلاء الرماة أن يلزموا أماكنهم، وألا يتحولوا عنها بحال أبدا، سواء انتصر المسلمون أو انهزموا.
ولكن الذي كان من الرماة غير هذا.. فإنهم ما كادوا يرون الهزيمة فى المشركين، ويرون الأسلاب والغنائم وقد تخلّى عنها أصحابها، حتى قال قائل منهم: ما موقفنا هنا، وقد ولّى المشركون وانهزموا؟ وقال آخرون: إن الرسول لم يلزمنا أن نكون حيث نحن إلا لنحمى ظهر المسلمين من العدو.. فأين هذا العدوّ؟ وقال رئيس الجماعة، وهو عبد الله بن جبير: «يا قوم.. الزموا أماكنكم كما أمرنا رسول الله، ولا تتحولوا عنها..» فأبى عليه كثيرون، وتركوه فى نفر من أصحابه.. وما هى إلا لحظات حتى رأى خالد بن الوليد، - وكان على فرسان المشركين- رأى موقف الرماة يكاد يكون خلوا فاستدار إليهم بمن معه من فرسان، فاستقبله عبد الله بن جبير، ومن معه، مقاتلين، حتى استشهدوا جميعا، رحمهم الله.
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ».
613
وفى قوله تعالى: «ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ» إشارة إلى أن تحوّل المعركة من جانب المسلمين إلى المشركين كان عن حكمة أرادها الله، وهى أن يبتلى المؤمنين بهذا البلاء، وأن يضعهم أمام تجربة يواجهون فيها الشدائد والمحن، ليروا ما عندهم من صبر واحتمال، وليسدّوا الخلل الذي يجدونه فى أنفسهم، استعدادا للمعارك المقبلة بينهم وبين المشركين.
وفى قوله تعالى: «وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ» إشارة أخرى إلى أن ما كان من المسلمين من تحول عن القتال، وانصراف إلى الغنائم، وإن كان مما كسبته أيديهم- قد عفا الله عنه، وتجاوز عن مقترفيه، لأنهم كانوا مقهورين تحت إرادة غالبة لله، فى هذا الذي كان منهم، ليكون لهم فيه درس نافع فى لقاء المشركين بعد هذا.. وفى توكيد فعل العفو باللام الموطئة للقسم، وبحرف التحقيق قد- «ولقد» - إظهار لسعة رحمة الله، وتمام فضله على عباده، المجاهدين فى سبيله «وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ» يغفر لهم، ويتجاوز عن سيئاتهم، ويعيدهم إليه إذا بعدت الطريق بهم عنه.
الآيتان: (١٥٣- ١٥٤) [سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٥٣ الى ١٥٤]
إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٥٣) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٥٤)
614
التفسير: فى قوله تعالى: «إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ» تذكير للمسلمين بما كان منهم فى هذه المعركة- معركة أحد- وغمزة عتاب لهم على أن فرّوا صاعدين الجبل، لا يلوون على أحد، أي غير ملتفتين إلى من وراءهم.. وإن وراءهم إخوانا لهم صمدوا للمشركين، واستقبلوا الموت راضين.. بل وراءهم، نبيّهم يواجه العدوّ وحده فى بضعة رجال من أصحابه.. فكيف يفرّون؟ ثم إذا كانت منهم فرّة أفلا كانت منهم لفتة إلى النبىّ وقد أحاط العدوّ به؟ ثم ألا كانت منهم كرّة إلى العدوّ، يدفعون يده الضاغطة على رسول الله ومن معه؟ وهل شىء أحبّ إلى المسلم وأعزّ عنده من النبىّ.. ولو كانت نفسه التي بين جنبيه؟ إن ذلك خيانة للنفس ذاتها، وتضييع لها، بسلبها هذا الشرف العظيم، شرف الدفاع عن رسول الله، والموت فى موطن الدفاع عنه! وفى قوله تعالى: «وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ» مواجهة صريحة للمسلمين الذين فرّوا صاعدين فى الجبل، وأنهم أمعنوا فى الفرار، وبعدوا عن ميدان المعركة.. حتى لا يكاد صوت الرسول يبلغ مؤخرتهم وهو يهتف بهم:
إلىّ عباد الله!! وقوله تعالى: «فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ».
الإثابة من الثواب، وهو الجزاء على عمل الإحسان بالإحسان! وفى التعبير بالإثابة عن الغمّ بالغمّ، إثارة لمشاعر الندم عند هؤلاء المسلمين
615
الذين فرّوا، لما فاتهم من الثواب العظيم الذي كان لهم أن يحصلوا عليه فى هذا الموطن، لو أنهم صبروا، وثبتوا.
ونعم إنهم أثيبوا.. ولكن لا يكادون يمدون أيديهم إلى هذا الثواب حتى يجدوه غمّا!! فأى ثواب هذا؟ إن ذلك هو ما يمكن أن يجازوا عليه إن كان لهم أن يطلبوا مثوبة على ما كان منهم!! والغم الذي جوزوا عليه بغم.. هو ما كان فى فرارهم الذي رآه النبىّ فاغتمّ له..
وأما الغم الذي كان جزاء لهم.. فهو ما وقع فى نفوسهم من حسرة وألم، حين انكشف لهم موقفهم، وعاينوا الآثار السيئة التي نجمت عن فعلتهم تلك، والتي نفذ منها المشركون إلى المسلمين، وأوقعوا الهزيمة بهم.
وهذه الحسرة التي ملأت قلوبهم، وذلك الألم الذي استولى على كيانهم، قد غطّيا على كلّ ما أصيبوا به فى هذا الموطن.. فلم يبالوا بعد هذا بالغنائم التي أفلتت من أيديهم، ولم يهتمّوا لما أصيبوا به فى أنفسهم، وفى إخوانهم، بعد أن استجابوا الرسول، وأقبلوا إليه، يقاتلون معه، ويتلقون عنه، سهام المشركين، وسيوفهم.
ولقد كان هذا الغمّ الّذى وجدوه فى أنفسهم حاجزا تتحطم عنده كل واردات الهمّ والحزن لما فاتهم، ولما أصابهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ».. وفى هذا رحمة بهم، وفضل من الله عليهم.. بل هو ثواب فى مقام العقاب، وجزاء حسن فى معرض الحساب والمؤاخذة!
616
وهكذا يلقى الله عباده وأولياءه فى كل موطن.. يلقاهم بالخير دائما، وبالفضل والإحسان فى كل متّجه، حتى ولو كانوا على غير ما يحبّ الله منهم..
فإنه إذّاك يعاقبهم، ولكنه عقاب كلّه رحمة، وكلّه خير، إذ يعالج هموما، ويدفع آلاما.
وأكثر من هذا..
فإن هذا الغمّ الذي «أثاب» الله به أولئك المؤمنين يومئذ، لم يكن إلا دواء، وفى الدواء مرارة.. شأن كل دواء..
ومع هذا، فإن رحمة الله بهم لم تدع هذه المرارة تسكن فى نفوسهم، وتستقر فى كيانهم.. فما هى إلا أن يفعل الدواء فعله فى تسكين الداء، وفى الذهاب به، حتى تجىء رحمة الله فتنتزع تلك المرارة وتذهب بها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ» فقد ألقى الله على المسلمين وهم فى ذروة المعركة خفقة من نعاس، مرّت بهم مرور النسمة العليلة، فملأت قلوبهم سكينة وأمنا، ومسحت على أجسامهم بيد السلامة والعافية!! وعجب أن يطوف النعاس بجفن المحارب، والرّماح تنوشه، والسّهام والسيوف تتعاوره.. ولكنه القلب حين يستخفّ بالموت، والإيمان حين يرتفع بالإنسان فوق هذا التراب الذي تدبّ فوقه قدماه، فإذا هو محلّق فى السماء، يعلو فوق كل خطر، ويسمو فوق كل شدّة!! والطائفة التي تشير إليها الآية الكريمة، والتي أفرغ الله فى قلوبها هذا الأمن، وساق إليها تلك الخفقة من النعاس، هى الطائفة التي ثبتت مع النبي،
617
سواء من كان منها الذي ثبت طوال المعركة كلّها، أو من انهزم أو فرّ، ثم عاد إلى مكانه من القتال..
وهناك طائفة أخرى، ممن كانوا مع المسلمين أول الأمر، وعلى رأسهم عبد الله بن أبىّ بن سلول، فإنهم حين أوشك القتال أن يلتحم بين المسلمين وبين المشركين، انحاز بهم صاحبهم جانبا، متذرّعين بتلك الكلمة المنافقة، التي حكاها القرآن الكريم عنهم. فى قوله تعالى: «لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ» (١٦٦: آل عمران) وهم يعلمون يقينا أن القتال وشيك بين المسلمين وبين المشركين. ولكنهم لكى يجدوا لأنفسهم عذرا فى النكوص على أعقابهم قالوا تلك القولة الكاذبة التي حكاها القرآن عنهم..
هذه الطائفة لم يكن لها من هذا الأمن الذي سكبه الله فى قلوب المؤمنين، نصيب، وهى التي أشار الله سبحانه وتعالى إليها بقوله:
«وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا».
فهذه الطائفة، طائفة ابن سلول، قد أهمتهم أنفسهم، ولم يكن همّهم الإسلام، ولا الدفاع عنه.. بل طلبوا السلامة لأنفسهم أولا، فتجنبوا المعركة، ووقفوا بعيدا ينتظرون من تدور الدائرة عليه، من الفئتين المقاتلتين.
وفى قوله تعالى: «يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ» اتهام لهؤلاء الذين أهمّتهم أنفسهم، ومواجهة لهم بالجرم الذي ارتكبوه.. إنهم يظنون بالله ظنّ السّوء، فيكذّبون بما وعدهم الله به، وينظرون إلى الله تلك النظرة الباردة التي كانوا ينظرون بها إلى آلهتهم من الأصنام التي كانوا يعبدونها، فيجعلون حساب الله عندهم كحساب هذه الأصنام، حتى لكأن الإسلام لم
618
يغيّر من حالهم فى جاهليتهم شيئا..
وفى قوله تعالى: «يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ» كشف لبعض ظنونهم السيئة بالله.. فهم يسألون فى استبعاد واتهام «هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ؟»..
والأمر الذي يسألون أو يتساءلون عنه هو أمر النصر والغلب الذي وعد الله به النبىّ والمؤمنين.. وقد أمر الله الرسول أن يجيبهم بقوله تعالى: «قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ».. فلو كانوا مؤمنين بالله حقّا لما سألوا هذا السؤال، ولعلموا أن كل شىء بيد الله، وليد الله.. ولكان عليهم أن يستقيموا على ما دعاهم الله إليه من الجهاد، معتصمين بالصبر والتقوى.. ثم ليستقبلوا ما يكون بعد ذلك من نصر أو هزيمة، فإن كان النصر، حمدوا الله وشكروا له، وإن كانت الهزيمة أسلموا أمرهم لله، وصبروا على ما أصابهم.. وقالوا قولة المؤمنين عند لقاء الأمور على وجوهها المختلفة: «كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» (٧٨: النساء) وقوله تعالى: «يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ» يكشف للنبىّ عن دخيلة هؤلاء الضعاف الإيمان، وأنهم يقولون فى أنفسهم، أي فيما بين المرء ونفسه، أو فيما بين بعضهم وبعض- يقولون شيئا غير هذا الذي واجهوا به النبي والمسلمين فى قولهم: «هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ؟» فهذا السؤال على ما فيه خبث، وضعف إيمان، يمكن أن يقبل منهم، ويحمل على الجهل وسوء الظن بالله..
ولكن الذي يدور فى أنفسهم، ويجرى فيما بينهم، هو اتهام صريح لله، وتجديف عليه، يكاد يكون ردّة عن الإسلام.. وهذا ما فضحه الله منهم وأعلنه على العالمين، فى قوله سبحانه:
«يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا».
إنهم- هنا- يقولونها صريحة، بأن ما وعدهم الله لم يكن إلا غرورا.
619
وأنه لو كان هذا الوعد حقّا، لما كانت هذه الدائرة التي دارت على المسلمين، وذهبت بكثير من النفوس.
وفى قولهم: «ما قُتِلْنا هاهُنا» بإضافة القتل إليهم، مع أنهم لم يقتلوا، بل ولم يقاتلوا- فى هذا القول ما يكشف عن مدى إيمانهم بهذا القول المنكر، وأنه هو القول الذي كان ينبغى أن يكون لسان حال المسلمين جميعا، حسب تصويرهم وتقديرهم.
وقد ردّ الله عليهم بقوله: «قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ» أي أن هذا القتل الذي وقع فى المسلمين لم يكن يعصمهم منه عاصم، فما هو إلا أجل قد انقضى، وموت أنهى هذا الأجل عند انقضائه، على الصورة التي قضى الله أن ينتهى به عليها..
فهؤلاء الذين استشهدوا فى أحد، قد كتب الله عليهم أن يقتلوا فى هذا الوقت، وفى هذا المكان، وأن يكرموا بالشهادة.. وليس فى الوجود قوة تمنع قضاء الله أن ينفذ على الوجه الذي أراده، وقضى به..
وقوله تعالى: «وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ» معطوف على مفهوم من قوله تعالى: «لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ»
.. أي لو لزمتم بيوتكم، وأصررتم على التزامها، لدعا قضاء الله الذي قضاه على هؤلاء الذين قتلوا، أن يخرجوا إلى حيث التقوا بالعدوّ، وإلى حيث دارت المعركة، وسقط القتلى، فذلك أمر قضى الله به فيمن أراد قتله، وليبتلى ما فى قلوبكم أيها المجدفون على الله، من ضعف، وليخرج ما فى صدوركم من نفاق.. فلولا هذه المحنة وما كان فيها، لما ظهر ضعف إيمانكم، ولما استعان نفاقكم للمؤمنين.. وهذا بعض حكمة الابتلاء الذي يبتلى الله به المؤمنين، فيما فرضه عليهم من جهاد الكافرين والمنافقين!
620
وفى قوله تعالى. «وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» بيان لسعة علم الله، ونفوذه إلى كل خفىّ.. فعلم- سبحانه- لا يقف عند ظواهر الأشياء، ولكنه ينفذ إلى كل ذرة من ذراتها، وإلى كل دقيقة من دقائقها.
وذات الشيء: حقيقته. وكنهه، وما اشتمل عليه من أسرار وخفايا، وذات الصدور، حقيقتها، وما تلبّس بها من خفايا وأسرار.. فالصدور وما تكنّ، والضمائر وما تجنّ، يعلم منها الله ما لا يعلم صاحبها.. فسبحانه، سبحانه، وسع كل شىء علما!!
الآيات: (١٥٥- ١٥٨) [سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٥٥ الى ١٥٨]
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٥٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (١٥٧) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (١٥٨)
التفسير: هنا يلتفت الله سبحانه إلى المؤمنين، بعد أن كشف لهم عن موقف المنافقين، الذين يعيشون معهم بهذا الثوب الرقيق الذي يلبسونه من نسيج الإسلام! وفى هذه اللفتة يرى الله المسلمين جماعة منهم ضعفوا عند لقاء العدو، فتحول بعضهم عن مكانه إلى حيث السّلب والغنائم، وانهزم بعضهم وفرّ
621
مصعّدا فى الجبل.. فهؤلاء جميعا كانوا موضع لوم وعتب بين جماعة المسلمين الذين ثبتوا للعدو، وصمدوا لضرباته.. وقد كثر القول فيهم، وتضاربت الآراء فى إيمانهم! وتلك حال جدير بها أن تمزّق وحدة المسلمين، وأن تفتّ فى عضدهم، بل وأن تذهب ببعض نفوسهم همّا وكمدا.
وتجىء رحمة الله، فتهب هؤلاء الملومين عفوا ومغفرة. وتنقلهم من هذه العزلة الباردة القاتلة، إلى حيث دفء الطمأنينة، وروح السلامة والعافية..
وهذا ما يشير إليه قوله سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ».
فهؤلاء الذين تولوا يوم القتال، إنما كان ذلك منهم لما مكّنوا للشيطان من أنفسهم، ببعض ما كسبوا من سيئات! وهذا يعنى أن المؤمن الحريص على إيمانه، الحارس له من نزعات الهوى، هو فى حصن حصين من أن ينفذ الشيطان إليه، ويوسوس له، ويستولى على زمام أمره.. ، إن المعاصي التي يرتكبها المؤمن، هى قذائف مدمرة، تدك حصون إيمانه، فيجد الشيطان طريقه إليه، ثم يرميه الرمية القاتلة.
وفى قوله تعالى: «وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ» إعلان كريم، من رب كريم، بالصلح الجميل، والمغفرة الواسعة، التي تصحح إيمان المؤمن، وتعيد بناءه أقوى قوة، وأشدّ صلاية! وفى قوله سبحانه: «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ» إعلان آخر عن سعة رحمة الله ومغفرته، وأنها تسع العصاة كما تسع الطائعين.. فحلمه يستدعى مغفرته أن تغفر للمذنبين، ولا تأخذهم بما اقترفوا، حتى يعذروا بهذا الصفح وتلك المغفرة، مرة، ومرات..
ونجد فيما كان من رحمة الله ومغفرته لهؤلاء الذين استزلّهم الشيطان-
622
نجد فى هذا، كيف كان علم الله بما فى الإنسان من ضعف، وأنه فى معرض الخطأ والزلل، وذلك مما يقيم له عذره عند الله، فيمنحه عفوه ومغفرته، فإن هفا هفوة، أو زلّ زلة، أقال الله عثرته، وأنهضه من كبوته، وأعاده إلى حظيرة الإسلام، ولو تركه لشرد وضلّ، وهلك..
وقوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا».
دعوة للمؤمنين أن يتجنبوا وساوس الكافرين الذين لا يؤمنون بقضاء الله، ولا يستسلمون لقدره.. فإذا مات لهم ميت أو قتل لهم قتيل، وهو يجاهد فى سبيل الله- قالوا هذا القول المنكر، الذي حكاه القرآن عنهم:
«لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا».. وهذا ضلال فى الرأى، وكفر بالله، ودفع لقضائه.. فقد مات من مات وقتل من قتل، حين استوفى كل أجله..
وهذا الضلال فى الرأى، إنما هو- فوق أنه كفر بالله- هو مبعث حسرة وندم، تمتلىء بهما قلوب الكافرين كمدا وألما أن ذهب إخوانهم فى هذا الوجه، فكان ذلك سبب موتهم أو قتلهم، ولو أقاموا معهم ما ماتوا وما قتلوا:
«لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ» ولو أنهم عقلوا وآمنوا، لعلموا أن الموت والحياة بيد الله، ليس لأحد شأن أو تدبير فيهما: «وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» قد أحاط علمه بكل شىء، ونفذ حكمه فى كل شىء! وهذا من شأنه أن يدعو الإنسان إلى التسليم والرضا بالشر والخير، والضرّ والنفع.
والسؤال هنا: كيف يكون منهم قول لأولئك الذين قتلوا أو ماتوا؟
وكيف يسمّون بإخوانهم، وهؤلاء كافرون وأولئك مؤمنون؟
623
وللإجابة عن الشقّ الثاني من السؤال يتكلف النحاة القول بأن اللام فى «لإخوانهم» بمعنى «عن» والتقدير على هذا: أنهم قالوا عن إخوانهم الذين قتلوا أو ماتوا هذا القول: «لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا» وبهذا التخريج أخذ المفسرون.
ونحن لا نقبل أن تخضع كلمات الله لمثل هذا التمحّك الذي يمكن أن يحمل عليه كل كلام..
وننظر فنجد القرآن الكريم يعيد هذا القول مرة أخرى، على لسان هؤلاء القوم.. فيقول تعالى: «الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا» (٦٨: آل عمران) فالتزام القرآن للام التعدية بعد القول فى الموضعين، فيه دلالة على إجراء القول على حقيقته، وهو أن يتعدى إلى مفعوله باللام، تقول: قلت له، وقال لى.
وعلى هذا تكون «اللام» فى قوله تعالى: «الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ» - فى الموضعين- هى لام التعدية، وأنهم فعلا قالوا لإخوانهم وتحدّثوا إليهم!! ولكن كيف هذا؟ وهؤلاء أحياء وأولئك أموات؟
والجواب- والله أعلم- أن هؤلاء المنافقين أو الكافرين، حين لم يؤمنوا بالله، ولم يستسلموا لحكمه، ويرضوا بقضائه- قد تلقوا مصرع من مات منهم فى ميدان القتال، أو فى طريقه إليه، قد تلقوه جزعين مذهولين، كأنهم يستقبلون أمرا لم يكن فى حسابهم أن يقع، لأنهم ينكرون الموت الذي يكون فى غير البيت، أو على غير فراش المرض، ويعدّون مثل هذا الموت خيانة لهم ممن مات منهم به، فتشتد حسرتهم، ويتضاعف ألمهم، ويخرج بهم ذلك إلى شىء من الهلوسة والخبل، فيندبون موتاهم هؤلاء، وينادونهم من
624
قريب نداءآت منكرة محمومة: ألم أقل لك يا فلان لا تذهب إلى القتال؟ إنك لو أطعتنى لما أصابك سوء.. ألم أحذرك يا فلان عاقبة الأمر الذي انطلقت إليه؟ إنك لو استمعت إلى نصحى لما قطعت حبل حياتك وأنت فى ريعان الصّبا، وفتاء الشباب؟؟
وهكذا يظلون أياما وليالى ينادون، ويناجون، ويندبون موتاهم، ويستحضرونهم فى تصوراتهم المريضة، ويرونهم فى مصارعهم تنهشهم السباع وتتخطفهم الطير، فيزداد حزنهم، وتشتد حسرتهم: «لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ» ! أما الجواب عن الشق الثاني من السؤال، وهو: كيف يسمّون إخوانهم، وهؤلاء كافرون وأولئك مؤمنون- فنقول- والله أعلم:
أولا: أن هؤلاء الكافرين كانوا فى جماعة المؤمنين أولا، فلما كانت وقعة أحد، ورأوا ما رأوا مما أصاب المسلمين، ساء ظنّهم بالله الذي آمنوا به، ثم بلغ بهم سوء الظن إلى الارتداد عن الإسلام- فتسميتهم إخوانا لهؤلاء المؤمنين تذكير لهم بالدين الذي كانوا عليه، ودعوة مجدّدة من الله إليهم ليدخلوا فيه، بعد أن خرجوا منه.
وثانيا: فى هذه التسمية للكافرين بأنهم إخوان لأولئك المؤمنين الذين قتلوا فى سبيل الله- فضح لهم، ومواجهة صريحة بالحكم الذي حكم الله به عليهم وهو أنهم كافرون، وفى هذا ما يجعلهم يتعرفون إلى أنفسهم، ويرون الهاوية التي سقطوا فيها، وهم يقولون هذه المقولات المنكرة- وأنهم إذا كان عند أحدهم شك فى أن هذه المقولات التي يقولها لا تدخل به إلى مداخل الكفر، فليعلم أنه يخدع نفسه، ويضلّلها.. فما هو بعد هذا من المؤمنين..
فإما أن يتوب ويرجع إلى الله، وإما أن يمضى فى طريقه، مع ضلاله وكفره..
625
وانظر فى قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا».
تجد أن الله سبحانه، قد حكم عليهم أولا بأنهم كافرون، ثم أكّد كفرهم هذا بأنهم كانوا إخوانا لأولئك المؤمنين.. وأنهم منذ قالوا هذا القول ليسوا من الإيمان ولا المؤمنين فى شىء.
وقوله تعالى:
«وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ» التفات إلى المؤمنين الذين سيقتلون أو سيموتون فى سبيل الله، وأنهم سيلقون مغفرة من الله ورحمة، وأن هذا الذي يلقونه من مغفرة ورحمة خير مما يجمع هؤلاء الكافرون من مال ومتاع..
قوله تعالى:
«وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ».. هو خطاب عام للناس جميعا.. مؤمنين وكافرين- من قتل منهم ومن مات بغير قتل- بأنهم سيحشرون إلى الله، ويقفون بين يديه للحساب، وسيوفّى كل منهم حسابه عند الله.. إن خيرا فخير، وإن شرا فشرّ..
الآية: (١٥٩) [سورة آل عمران (٣) : آية ١٥٩]
فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩)
626
التفسير: هذه لتتة خاصة من الله سبحانه إلى رسوله الكريم، وأن الله سبحانه وتعالى قد أودع قلب نبيّه الرّحمة بالمؤمنين، ليكون فيهم الأب الودود الرحيم، يرعى أبناءه، ويسدّد خطاهم، ويتقبل من محسنهم، ويعفو عن مسيئهم.. هكذا النبىّ فى مجتمع المسلمين.. إنه أب لهذه الأسرة الكبيرة، يسعها قلبه الكبير، بعطفه، وحلمه، ومودته..
«لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ».. على هذا الخلق الكريم صنعه الله وطبعه، وبهذه الرحمة أرسله رحمة وهدى للعالمين.
«فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ» الباء هنا للسببية، أي بسبب ما أودع الله فيك من رحمة، كان منك هذا اللّين، وذلك العطف على المؤمنين..
«وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ» وفى هذا كشف للطبيعة البشرية، وأن الناس إنما يألفون من يتألفهم، ويحسن إليهم، ويلقاهم بالصفح الجميل.. وعلى غير هذا من كان حادّ الطبع، شرس الخلق، غليظ القلب، لا يقيل عثرة، ولا يغفر زلة.. إنه لن يجد من الناس إلّا المقت والنفور..
وأنه إذا صح لإنسان- وهو غير صحيح- أن يسوّى حسابه مع الناس على هذا الوجه، القائم على الغلظة والشدة، والمنتهى به إلى القطيعة والعزلة- فإنه لا يصح أبدا، ولا يستقيم بحال، لمن كان بمكان الرياسة والقيادة لأية جماعة من الجماعات، كثر عددهم أو قلّ.. فإن الخيط الذي يمسك به كيان الجماعة ويشدّها إليه، هو ما يفيض عليها من قلبه، من رحمة، وحدب، ولين، ولطف، وإلّا تقطعت بينه وبينها الأسباب، ولو كانوا أبناءه وخاصة أهله!
627
وفى قوله تعالى:
«فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ» بيان لبعض الأسس التي يقوم عليها منهج التربية، التي يأخذ بها النبىّ جماعة المؤمنين..
وأول هذه الأسس: العفو عن المسيء.. وفى هذا ما يفتح منافذ قلبه ويصفيه من دواعى الحسرة والألم، وينزع منه وساوس السوء والشر..
وثانى هذه الأسس: الاستغفار لهذا المسيء، وطلب الرحمة والمغفرة له من الله.. وهذا إحسان بعد إحسان.. يزيد قلبه صفاء، ونفسه إشراقا، وولاء.
فإذا استوت جماعة المسلمين على تلك الصورة الكريمة، فلم يكن فيها مذموم أو مطرود، ولم ينتظم فى عقدها النظيم معطوب أو مقهور- كانت جميعها قلبا واحدا، ومشاعر واحدة، تتحرّى خير الجماعة، وتنشد أمنها وسلامتها، وهنا يجىء ثالث الأسس فى مكانه الصحيح: «وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ» فتعطى المشورة ثمرتها الطيبة، التي هى خلاصة ما فى القلوب من خير، ومنخول ما فى العقول من رأى.. وهنا يتضح الأمر المنظور إليه، ولم يبق إلا انعقاد العزم عليه، وإمضائه على الوجه المرسوم.. وهذا ما أمر الله به فى قوله تعالى:
«فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ» الذين يعتمدون عليه، ويفوضون أمرهم إليه، بعد أن يعطوا هذا الأمر كل ما عندهم من رأى وعزم.
الآية: (١٦٠) [سورة آل عمران (٣) : آية ١٦٠]
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠)
التفسير: هذا تعقيب على قوله تعالى فى الآية السابقة: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ»، فالذين يفوّضون أمرهم إلى الله، ويشدّون عزائمهم إليه، ويعلّقون آمالهم به، هم الذين يحبّهم الله ويتولاهم، لأنهم أحبّوا الله وانتظموا فى مجتمع أوليائه.. وإنهم إذ يلوذون بحمى الله فإنما يستمسكون بالعروة الوثقى، ويعتصمون بأقوى معتصم، وهم بهذا فى ضمان النصر، وعلى طريقه، ولن يغلبهم أحد.. فإن تخلوا عن الله، ووكلوا أمرهم إلى حولهم وحيلتهم، فقد آذنوا الله أن يتخلّى عنهم، وأن يدعهم إلى أنفسهم، وهذا خذلان مبين، ومن خذله الله فلا ناصر له..
وفى قوله تعالى. «وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» إشارة مشرقة يرى منها المؤمنون طريقهم فى كل أمورهم، وهى طريق التوكل عليه. «وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ» (٣: الطلاق).
الآية: (١٦١) [سورة آل عمران (٣) : آية ١٦١]
وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦١)
التفسير: الغلّ: أخذ الشيء خفية.. يقال: غلّ الشيء إغلالا: إذا أخذه خلسة، ويقال: أغلّ الجازر إذا سرق من اللحم شيئا مع الجلد، والغلّ: الحقد الكامن فى الصدور، والغلّ: الخيانة، ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من بعثناه على عمل فغلّ شيئا جاء يوم القيامة يحمله على عنقه».. وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «هدايا الولاة غلول».
629
والذي عليه المفسرون فى هذه الآية أنها نزلت فى قطيفة حمراء اختفت من الغنائم يوم بدر، فقال بعض المنافقين لعل النبىّ أخذها! وقيل إنها نزلت فى أحداث أحد، حيث ترك جماعة الرماة مكانهم الذي أقامهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيه، وذلك حين رأوا الهزيمة فى المشركين، وقد امتدت أيدى بعض المسلمين إلى ما تركوا من متاع وسلاح، فقال الرماة:
لعلّ رسول الله لا يقسم الغنائم بيننا كما فعل فى غنائم بدر، ويقول كما قال يومها: «من أخذ شيئا فهو له» فيذهب إخواننا بالغنائم، وليس لنا منها شىء.. فتركوا مكانهم، واندفعوا نحو الغنائم، يأخذون نصيبهم منها، فكان الذي كان! والرأى الأول بعيد.. إذا كان قد مضى عام على معركة بدر، ولو كان لقولة المشركين يومئذ أثر لما تركت هذه الفرية تعيش فى الناس عاما دون أن ينزل قرآن فى تفنيدها، وتكذيب مفتريها.
والخبر الثاني ضعيف، ووجه ضعفه أن المسلمين كانوا يعلمون فى أحد حكم الله فيما يقع لأيديهم من مغانم، حيث كانت سورة الأنفال قد نزلت فى أعقاب بدر، وفيها قوله تعالى: «وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ..» (٤١: الأنفال)..
والرأى عندنا- والله أعلم- أن الغلّ هذا من الحقد، واشتمال النفس على البغضاء للناس.. وهذا ما لا يكون من نبىّ أبدا، إذ كانت مهمة الأنبياء نزع ما فى الصدور من عداوات وأحقاد، وغسل ما فى النفوس مما تنطوى عليه بغضاء وضغينة.. إنهم أساة الإنسانية من هذا الداء- داء الحقد الدفين- الذي إن شاع فى جماعة أكلها كما تأكل النار الحطب، أو فشا فى أمة قضى عليها، وحصدها، كما يحصد الوباء النفوس!
630
والمناسبة هنا قريبة، والموقف داع إلى إلفات النبىّ الكريم إلى هذا الداء، وتحذيره منه.
ففى أحداث أحد، وفى أعقابها، فرغ النّاس من المعركة، وشغلوا بالحديث عنها، والتعليق على مواقف الناس منها..!
وفى المسلمين من خالف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتخلّف عن القتال فى معركة أحد.
وفى المسلمين من تحوّل عن موقفه الذي أمره الرسول بالوقوف عنده، سواء كان للمسلمين النصر، أو كانت عليهم الهزيمة! وفى المسلمين من قاتل، وأبلى فى القتال.. ثم حين استشعر الهزيمة انهزم، وأعطى العدوّ ظهره..
وفى جوانب المعركة، وعلى حواشيها.. كلام يدور، تحرّكه أفواه المنافقين، وتلتوى به ألسنتهم، وتتغامز معه عيونهم..
هذا، والنبىّ الكريم يسمع، ويرى كلّ هذا، ويسوؤه أن يكون فى أصحابه هذا الذي يسمعه ويراه.. فيحزن لذلك ويأسى.
وقد صفح الله عن المؤمنين وعفا عنهم، وشملهم جميعا برحمته وغفرانه..
وكان على النبىّ أيضا أن يصفح ويغفر.. فجاء أمر الله سبحانه وتعالى، يدعوه إلى الصفح ويغريه به، بعد أن يرى النبىّ الصورة الكريمة التي له عنده الله، والتي ينبغى أن يكون عليها، وأن يحتفظ بها على هذا الوضع العلوىّ الوضيء..
«فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ»...
631
ولقد عفا الرسول عنهم، واستغفر لهم، وشاورهم فى كل أمر ذى بال يعرض له.
ولكن النبىّ- وهو بشر- قد تطلع عليه صور من أحداث أحد، فتحرك أشجانا، وتثير أسى..
فجاء قوله تعالى: «وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ» - ليشنّع على الحقد، وليستبعد وقوعه من أي نبىّ من أنبياء الله، وليجعله جرما من أغلظ الجرائم، حتى ليلتزم صاحبه، ويصحبه إلى يوم القيامة، كما التزمه وصحبه فى صدره، وبين جنبيه! وما أروع هذا العطف الإلهى الذي يفاض على النبىّ الكريم، وهو فى مقام التأديب، والتحذير من أن يحمل قلبه غلا، وحقدا.. فلا يواجهه المولى سبحانه وتعالى بهذا الخطاب، ولا يلقاه به وحده- لطفا وكرما- بل يتجه الأمر إلى الأنبياء جميعا.. «وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ» فما أعظم هذا المقام، وما أكرم تلك المنزلة، التي نزلها محمد من منازل الرضوان والإحسان عند ربّه.
الآية: (١٦٢) [سورة آل عمران (٣) : آية ١٦٢]
أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦٢)
التفسير: هنا مقابلة بين من استجاب لله، وانقاد لما يرضيه، فرجع مزوّدا برحمة الله ورضوانه، وبين من مكر بالله، وكفر بآياته، فانقلب موقرا بسخط الله وغضبه..
وبين الطرفين المتقابلين بعد بعيد، واختلاف شديد..
فالطرف الأول يمثّله الرسول ومن كان معه من المؤمنين..
والطرف الآخر يمثله عبد الله بن أبىّ بن سلول ومن اتبع سبيله من المنافقين..
والطرف الأول من رضى الله، فى رحمة ومغفرة فى الدنيا، وإلى جنات ونعيم فى الآخرة.
والطرف الآخر، من سخط الله وغضبه فى غيظ وكمد فى الدنيا، وإلى جهنم وعذاب السعير فى الآخرة..
وفى قوله تعالى: «أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ» إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى قد تقبل من النبىّ ما كان منه من استجابته لأمر ربّه، وتلبيته ما دعاه إليه، من الصفح الجميل عن أصحاب الهفوات من أصحابه، وإخلاء نفسه من كل عوارض الغيظ أو الكظم مما كان منهم.. وفى هذا اتباع لما يرضى الله، ويزيد فى مرضاته، وهو ما عبرّ عنه هنا بالرضوان.
الآية: (١٦٣) [سورة آل عمران (٣) : آية ١٦٣]
هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٦٣)
التفسير: إنه لا يستوى من اتبع رضوان الله ومن باء بسخطه.. فهم درجات ومنازل عند الله..
فالذين اتبعوا رضوان الله فى رحمة ونعيم.. وهم فى تلك الرحمة، وهذا النعيم درجات، بعضها فوق بعض.
والذين مكروا بالله وباءوا بسخطه فى بلاء، وهمّ وجحيم، وهم فى هذا البلاء وذلك الجحيم، درجات، بعضها دون بعض.
الآية: (١٦٤) [سورة آل عمران (٣) : آية ١٦٤]
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١٦٤)
التفسير: فى هذه الآية الكريمة ما يزكّى الرأى الذي ذهبنا إليه فى تفسير قوله تعالى: «وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ» وهو أن الغلّ من الحقد، لا من الغلول بمعنى الخيانة..
ففى هذه الآية:
أولا: تذكير النبىّ الكريم بأنه رحمة أرسلها الله للناس، ومنّة منّ الله بها عليهم، بما يتلو عليهم من آيات الله، وبما يفتح لهم من طاقات النور، وبما يفيض عليهم من مواطر الهدى، فيطهرهم من أرجاس الكفر والضلال، ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويفتح قلوبهم المظلمة إلى حيث مطالع الهدى والنور، ويوقظ عقولهم النائمة الغافية لتتصل بهذا الكون وتطالع فى صفحات الوجود وعلى قسمات الموجودات، بعض ما أبدعت قدرة الخالق العظيم، وما وسع علمه.
وهنا يرى الرسول- مع عظم المسئولية التي يحملها- مدى الخير الذي يسوقه الله على يديه إلى الناس، الذين هو منهم وهم منه، فيحمله ذلك على أن يبالغ فى تحرّى الدقة البالغة فى ألا يشوب هذه النعمة العظيمة كدر، أو يعلق
بها أذى، حتى تصل إلى مكانها من الناس صافية، مشرقة، طيبة..
وهذا ما يجعل الرسول الكريم مستعدا لتحمّل الأذى فى سبيل رسالته، متجاوزا عن كل ما يعرض له فى طريقه، من حماقات الحمقى وسفاهات السفهاء، فإذا دعى من ربّه إلى أن يكظم غيظه، ويعفو الناس، ويلين لهم، ويستغفر للمسيئين منهم، وجدت تلك الدعوة الكريمة من قلب الرسول مكانا، ووجد منها الرسول الكريم ما تهفو إليه نفسه، ويناجيه به وجدانه..
وثانيا: فى الآية الكريمة أيضا، يرى المؤمنون ما آتاهم الله من فضله، وما أوسع لهم فى برّه وكرمه، إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم، يعرفون وجهه، ويأنسون إليه، ويتلقون من بين يديه ما يتلّقى هو من ربّه من نفحات ورحمات، يسوقها إليهم، فيعيدهم خلقا جديدا، فإذاهم ناس غير الناس، وقوم غير القوم.. قد أشرقت قلوبهم بنور الحق، واستنارت عقولهم بأضواء المعرفة..
«وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ».. وتلك نعم من الله سابغة، وأفضال غامرة، ينبغى أن يذكروها، ويؤدوا شكرها، إيمانا بالله، وجهادا فى سبيل الله، وطاعة وولاء لرسول الله، الذي حمل إليهم هذا الخير، وغرسه فى مغارسه، ورواه من خفقات قلبه، ومسارب وجدانه.
الآيات: (١٦٥- ١٦٨) [سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٦٥ الى ١٦٨]
أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٦٥) وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (١٦٧) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٦٨)
635
التفسير: هذه مواجهة أخرى للمؤمنين الذين شهدوا أحدا، ورأوا ما أصيبوا به فى أنفسهم وفى إخوانهم هناك، ثم ما وقع فى نفوسهم من وساوس وظنون، كلّما خبت جذوتها، وبردت نارها، نفخ فيها المنافقون، والكافرون، فازداد ضرامها، وتسعّرت نارها..
وفى هذه المواجهة يجد المؤمنون عتابا رقيقا من الله، وعودا باللائمة عليهم فيما وقع لهم.. كما يجدون فيما بين العتاب واللوم عزاء وتسرية.
فإذا كان المسلمون قد أصيبوا يوم أحد، فقد كان لهم فى عدوهم الذي رماهم بما أصيبوا به، نكاية وجراحات فى يوم بدر ضعف ما أصابهم به فى يوم أحد.. «وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ».
وإذن فلا يصح للمسلمين أن يقفوا بنظرهم عند ما أصيبوا به، دون أن يمتد هذا النظر إلى ما كان لهم فى عدوّهم، وهنا يستقيم النظر على الواقع كله، فيرون أنهم أرجح كفّة، وأربح صفقة.. وإذن فما ينبغى لهم أن يعجبوا، وأن ينكروا هذا الذي حدث لهم، ويقولوا: «أنّى هذا؟» تلك القولة التي يكادون يهلكون بها أنفسهم وما اشتملت عليه من إيمان.
ثم إنه إذا صح للمسلمين أن يعجبوا ويستنكروا هذا الحدث، فليكن ذلك مقصورا على ذات أنفسهم وحدها، بمعزل عن الدّين الذي آمنوا به وأضيفوا إليه! فإنه إذا كان ثمة خلل فى جماعة المسلمين مكّن لعدوّهم أن ينال منهم ما نال،
636
فذلك الخلل إنما هو فى ذات أنفسهم، لا فى الدين الذي يجاهدون فى سبيله:
«قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ» أي بما أحدثتم فى هذا اليوم من أمور، عزلت كثيرا منكم عن موقف الجهاد، وباعدت بينهم وبين الله! لقد تغيّرتم أنتم أيها المسلمون، وتغيّر ما بأنفسكم، فغيّر الله مكانكم من النصر الذي كان دانيا لكم، قريبا من أيديكم.
أمّا الله- سبحانه وتعالى- فحاشا أن يتغيّر أو يتبدّل، فترونه قويّا عزيزا يوم بدر، ولا ترونه على تلك الصفة يوم أحد.. ذلك مما ينزّه الله عنه:
«إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» قدرة مطلقة دائمة، لا تحول ولا تزول أبدا.
وقوله تعالى:
«وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ».
هو عزاء ومواساة للمسلمين، لما أصابهم فى تلك المعركة.. وأن يد المشركين ما كانت لتعلوهم إلا بإذن الله، ولأمور قدّرها الله وأرادها.
وقوله سبحانه:
«وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ» هو كشف لبعض ما أراد الله من هذا المصاب الذي وقع فى المسلمين..
فهو امتحان وبلاء لهم، ليعرفوا ما فى أنفسهم من إيمان وصبر، وليتعاملوا مع الله على قدر ما انكشف من إيمانهم وصبرهم..
وقوله تعالى:
«وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ».
هو وجه آخر من وجوه الحكمة التي تنكشف من وراء هذا الذي حدث فى أحد، وهو أن تنكشف وجوه المنافقين للمؤمنين، فيأخذوا حذرهم
637
منهم، ويعزلوهم عنهم، فإنهم- حيث كانوا- مرض خبيث، يغتال قوى الجماعة التي يندس فيها، ويختلط بها.
وقولة المنافقين هنا، والتي حكاها القرآن الكريم عنهم فى قوله تعالى:
«لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ» قولة منافقة خبيثة، تحمل وجوها من الكيد والتوهين لقوى المسلمين، وهم فى مواجهة العدو.
فقد تحمل هذه القولة على أن هذه الجماعة المنافقة لا تعلم أن قتالا سيكون بين المسلمين والمشركين، وأن قريشا، إنما جاءت لتعرض قوّتها، ولتلقى فى قلوب المسلمين الرعب منها، حتى لا يعترضوا تجارتها فى طريقها إلى الشام..
ثم تنصرف بلا قتال..
وقد تحمل هذه القولة أيضا- وهو الوجه الواضح منها- على أن ما بين المسلمين وبين قريش لن يكون حربا بالمعنى المفهوم.. لأن الحرب بهذا المعنى تكون بين قوتين متكافئتين، الأمر الذي لا يراه المنافقون بين المسلمين وبين قريش.. فالمسلمون- كما يرى المنافقون- فى عدد قليل وضعف ظاهر، وقريش فى جموع كثيرة، وأعداد وفيرة، وسلاح وعتاد يملأ السهل والوعر..
فكيف يكون بين هؤلاء وأولئك حرب؟ إنها ليست إلا ضربة واحدة بيد قريش حتى ينتهى كل شىء. فكيف ندعى إلى حرب ولا حرب؟
إنها عملية انتحار أقرب منها إلى الحرب.. هكذا يقول المنافقون..
وقوله تعالى:
«هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ»..
إدانة لهم، وحكم عليهم، بهذه الكلمة المنافقة، التي باعدت بينهم وبين الإيمان الذي ينسبون أنفسهم إليه، والتي خطت بهم خطوات سريعة إلى الكفر، فكادوا يكونون كفرا خالصا..
638
وفى قوله تعالى:
«يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ» ما يفضح نفاقهم، ويكشف حقيقة أمرهم.. إنهم لا يريدون أن يكونوا فى المجاهدين، ولا يودّون للمسلمين نصرا، ولا يرجون للدّين انتصارا.. وإنما هم يعذرون لأنفسهم بهذه الكلمات المنافقة ليعيشوا بها فى المؤمنين ولا ينقطعوا بها عن الكافرين والمشركين.
وقوله تعالى:
«الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» هو عرض لمقولة أخرى من مقولاتهم المنكرة، وقد ذكرها الله عنهم من قبل فى قوله سبحانه: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا» (١٥٦: آل عمران) كما ذكرها القرآن فى قوله تعالى: «وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا» (١٥٤: آل عمران).
وقد شرحنا ما أرانا الله فى هاتين الآيتين فى موضعيهما..
الآيات: (١٦٩- ١٧٠- ١٧١- ١٧٢) [سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٦٩ الى ١٧٥]
وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١) الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣)
فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (١٧٤) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٥)
639
التفسير: قوله تعالى:
«وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ».. هو تطمين للمؤمنين، وكبت وحسرة للكافرين والمنافقين..
فهؤلاء الذين قتلوا فى سبيل الله، قد استوفوا آجالهم فى الدنيا، ولم يذهب القتل بساعة من أعمارهم، فما قتل منهم قتيل إلا بعد أن انتهى أجله المقدور له عند الله..
ثم إن هؤلاء القتلى «شهداء» أي حضور، لم يغيبوا، ولم يصيروا إلى عالم الفناء والعدم، وإنما هم أحياء حياة باقية خالدة، لا يذوقون فيها الموت..
وهذا هو الذي يصير إليه كل من يموت من الناس. من مؤمنين وكافرين..
وهذا هو الذي يؤمن به المؤمنون بالله، فلا يرون فى الموت خاتمة الإنسان وانتهاء دوره فى الوجود، وإنما يرون الموت رحلة من عالم إلى عالم، ونقلة من
640
دار إلى دار.. من دار الفناء والزوال إلى دار البقاء والخلود، ومن عالم التكليف والابتلاء، إلى عالم الحساب والجزاء..
ومن أجل هذا يستخفّ المؤمنون بالموت، ولا يكبر عليهم خطبه، لأنهم ينظرون إلى الحياة الخالدة بعده، ويعملون لها، ليسعدوا فيها، ولينعموا بنعيمها المعدّ لعباده الله الصالحين.
أما غير المؤمنين بالله، فإنهم لا يؤمنون باليوم الآخر، ولا يعتقدون أن وراء الحياة الدنيا حياة، وأنهم إذا ماتوا صاروا إلى تراب وعدم..
ولهذا يشتد حرصهم على الحياة، ويعظم جزعهم من الموت، إذ كان العدم- كما يتصورن- هو الذي ينتظرهم بعده.. فتتضاعف حسرتهم على من مات منهم، ويشتد حزنهم عليه، لأنهم- حسب معتقدهم- لا يلتقون به أبدا!! هذه هى الحقيقة.. الأموات جميعا، ليسوا بأموات على الحقيقة، وإنما هم أحياء فى العالم الآخر..
ولكن القرآن الكريم لم يكشف هذه الحقيقة كلها، ولم يظهر منها إلا ما يملأ قلوب الكافرين والمنافقين حسرة وألما، وإلّا ما يبعث فى قلوب المؤمنين العزاء والرضا، إذ ينظر هؤلاء وأولئك جميعا إلى قوله تعالى:
«وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً، بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ» فيجدون هؤلاء القتلى أحياء فى العالم العلوي، يرزقون من نعيمه، ويطعمون من طيباته: «فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ».
فهؤلاء القتلى الذين ينظر إليهم المشركون والمنافقون نظر شماتة وتشفّ، على حين ينظر إليهم إخوانهم وأحبابهم نظرة حزن وأسى لهذه الميتة التي ماتوا عليها- هؤلاء القتلى قد أشرفوا على الدنيا من عليائهم، ينعمون بما أتاهم الله
641
من فضله- وإنه لفضل عميم، يملأ القلوب بهجة ومسرة.. فيحزن لذلك المشركون والمنافقون، ويتعزّى به، ويستبشر المؤمنون.
قوله تعالى:
«وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ».
بيان لكمال هذا النعيم الذين ينعم به هؤلاء الشهداء، وأنهم ليسوا مجرد أحياء حياة باهتة، بل هم فى حياة قوية كاملة، بحيث تشمل عالمهم العلوىّ الذي نقلوا إليه، وعالمهم الأرضى الذي انتقلوا منه.. فهم فى هذا العالم العلوىّ.
إذ ينظرون إلى أنفسهم فيجدون أنهم فى فضل من الله ونعمة، وأنهم إنما نالوا هذا الفضل وتلك النعمة بجهادهم فى سبيل الله، وباستشهادهم فى هذه السبيل- يعودون فينظرون إلى إخوانهم المؤمنين الذين لم يلحقوا بهم بعد، وأنهم على طريق الجهاد والاستشهاد، فيستبشرون لذلك، وتتضاعف فرحتهم إذ سيلقى إخوانهم هذا الجزاء الذي جوزوا هم به، وينعمون بهذا النعيم الذي هم فيه، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ»..
فكما وفّى الله هؤلاء الذين استشهدوا فى سبيل الله، سيوفّى الذين لم يستشهدوا بعد أجرهم، فالله سبحانه وتعالى لا يضيع أجر المؤمنين، ولا يبخس ثواب المجاهدين.
وقوله سبحانه:
«الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ».
المراد بهؤلاء الذين الذين استجابوا لله ورسوله، هم المسلمون الذين خرجوا مع النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- بعد عودتهم من أحد، وقد بلغ النبىّ أن
642
قريشا بعد انصرافها من أحد، ندمت على أنها أنهت القتال من قبل أن تستأصل المسلمين، وقد أمكنتها الفرصة فيهم، فبدا لها أن تعود فتدخل عليهم المدينة وتبيدهم جميعا.. وهنا أمر النبي أصحابه أن يخرجوا للقاء العدو، دون أن يكون فيهم أحد ممن لم يشهد معهم القتال.. فخرج المسلمون الذين شهدوا أحد، جميعا، وهم مثخنون بالجراح، لا يكاد أحدهم يمسك نفسه.. فلما علمت قريش أن النبىّ خرج فى أصحابه ظنوا أن النبىّ يطلبهم، ليأخذ للمسلمين بقتلاهم فى أحد.. فرجعوا إلى مكة، ورجع النبىّ وأصحابه إلى المدينة، دون أن يقع قتال.
فهؤلاء الذين هم استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح. وقد عدّهم الله جميعا فى الشهداء، من استشهد منهم فيما بعد من ولم يستشهد، لأنهم كانوا فى مواجهة القتل المحقق..
وقوله تعالى: «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ» هو شرط لنيل درجة الاستشهاد، إذ لا بد أن يستمسك هؤلاء المؤمنون بما هم عليه يومئذ من إحسان وتقوى، أمّا من انحلّ عزمه، وفتر إيمانه بعد ذلك، فليس أهلا لأن ينال هذه الدرجة العليا، وذلك الأجر العظيم.
وفى هذا تحذير للمسلمين الذين ذكرهم الله، ومجّد عملهم، وأعلى منزلتهم- من أن يستنيموا فى ظل هذا الوعد الكريم، دون أن يعملوا ليكونوا أهلا له، وليظلوا محتفظين بهذه المنزلة التي أنزلهم الله أياها، فليتقوا وليحسنوا، وليزدادوا إحسانا وتقوى، فعند الله منازل كثيرة للمتقين المحسنين.
وقوله تعالى: «الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ».
643
هو بيان لهؤلاء الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح، ولموقفهم يومئذ من عدوهم.. فقد ترامت إليهم الأنباء التي أرجف بها المرجفون فيهم، من المشركين والمنافقين، ليزيدوا فى آلامهم، وليدخلوا اليأس عليهم.
ولكن ما إن دعاهم الرسول إلى ملاقاة العدو، حتى خفّوا مسرعين، متحاملين على أنفسهم، غير ملتفين إلى جراحهم التي تتفجر دما..
وقيل إن المراد بالذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم، هم المؤمنون الذين استجابوا للنبى، وخرجوا معه للقاء قريش فى بدر الثانية.
وذلك أن أبا سفيان كان قد أنذر النبىّ والمسلمين بعد معركة أحد بأنه سيلقاهم فى مثل هذا اليوم، فى بدر.. ذلك أنه فى نشوة هذا النصر الذي ناله كان يرى أن أحدا لم تثأر الثأر الذي ينشده، لما أصاب قريشا فى بدر، فأراد أن يعيد معركة بدر من جديد، ليطلع عليها فى قريش بصورة غير الصورة التي وجدتهم عليها يومئذ.
وكان أبو سفيان حين جاء الموعد الذي واعد النبىّ، على غير استعداد لملاقاة النبي والمسلمين فى بدر، إذ كان العام عام جدب.. فأظهر أنه يستعدّ للحرب، ويجمع لها، وبعث إلى النبىّ من يلقى إليه- كذبا- أن قريشا تجمع له أعدادا لا قبل له بها..
أما النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فقد دعا أصحابه إليه، ونديهم للقاء القوم على الموعد الذي تواعدوا له.. فاستجاب له أصحابه، وتقاعس المنافقون، وأرجفوا بالناس، وأذاعوا الفزع فى المسلمين، وقالوا فيما قالوا لهم: إن قريشا قد فعلت بكم فى أحد ما فعلت وأنتم فى كنف دوركم وبين أهليكم، فكيف يكون حالكم معها وأنتم تلقونها فى بدر؟ وأين المفرّ إذا انتصرت عليكم؟..
فنزل قوله تعالى: «إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ
644
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ»
فسكنت لذلك أفئدة المؤمنين واطمأنت، وسار النبي بأصحابه حتى نزل بدرا.. وخرج أبو سفيان فيمن اجتمع له، فلما علم أن النبىّ ينتظره بالمسلمين فى بدر، قفل راجعا..
وانتظر النبىّ هناك بالمسلمين أياما، حتى انفضّت السوق التي كانت تقام هناك كل عام، وباع المسلمون واشتروا، وعادوا سالمين غانمين، وفى هذا يقول الله تعالى: «فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ».
وفى قوله: «الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ» نجد فى التعبير عن المرجفين بهذا القول، والمهوّلين له، بكلمة «الناس» تحقيرا لهم، وبألّا صفة لهم فى الناس إلا أنهم على صورة الآدميين، وأنهم والمشركين من قريش على مستوى واحد من الكفر والشرك، إذ عبّر عنهم القرآن بلفظ «الناس» أيضا.. «إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ»..
وفى قوله تعالى: «إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ» إشارة عامة تشمل هؤلاء الناس، الذين أذاعوا هذا القول وأرجفوا به، فقالوا: «إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ» كما تشمل المشركين من قريش، وهم: الناس الذين جمعوا لاستئصال المسلمين.
فهؤلاء وهؤلاء حزب واحد.. هو حزب الشيطان، أو هم الشيطان ذاته، فى إضلاله وإغوائه: «إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ».
والضمير فى «أوليائه» يعود إلى الشيطان، وأولياؤه هم المنافقون، الذين يتولاهم الشيطان، ويتخذ منهم أعوانا على الشر والفساد.. وهو الذي خوفهم الجهاد فى سبيل الله، وأراهم الموت فى صورة بشعة مخيفة، فانعزلوا عن المسلمين، ونكصوا على أعقابهم..
645
ويجوز أن يكون المفعول به التخويف هم جماعة المؤمنين، ويكون حينئذ لمفعول به الثاني محذوفا، وتقديره: «إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ»..
بمعنى أن هذه الأصوات المتنادية بأن الناس قد جمعوا لكم، هى من فعل الشيطان على ألسنة المنافقين وغيرهم، وهو يريد بهذا أن يخوّفكم أولياءه الكفار والمشركين، ولهذا جاء قوله تعالى: «فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» ردّا على كيد الشيطان، وإفسادا لتدبيره السيء.. ولهذا لم يقع هذا القول من نفوس المسلمين موقعا، بل تلقوه بالعزم والتصميم، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ».
الآيات: (١٧٦، ١٧٨) [سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٧٦ الى ١٧٨]
وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٧٦) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٧) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٧٨)
التفسير: قوله تعالى:
«وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ» عزاء ومواساة للنبى الكريم، لما كان يجد فى نفسه من الحزن والألم، حين يرى بعض من دخلوا فى الإيمان، وحسبوا فى المؤمنين، وظنّ بهم أن خرجوا من ظلام الكفر وضلال الجاهلية إلى نور الإيمان وهدى الإسلام- فإذا بهم وقد عادوا إلى المنحدر، وأزلهم الشيطان عن هذا المقام الكريم..
646
والرسول الكريم يعلم أن ليس عليه إلا البلاغ، ولكنّ حرصه على هداية الناس، ورغبته الشديدة فى استنقاذهم من الضلال فى الدنيا، والنار فى فى الآخرة، يجعله يفرض على نفسه أن يبالغ فى النصح لقومه، وتعهدهم بتوجيهه وإرشاده، كما يتعهد الأب صغاره.. ولهذا كان صلوات الله وسلامه عليه، يأسى أشد الأسى، إذ يرى هذا العناد الذي يملأ الرءوس من قومه، ويمسكهم على شفير الهاوية، التي تهوى بهم إلى عذاب السعير.. ولهذا أيضا كانت كلمات الله تتنزل عليه حينا بعد حين، تدعوه إلى الرفق بنفسه، وألا يحمله حبّه للخير الذي يريد غرسه فى قلوب الناس إلى ما هو فيه همّ وحسرة وقلق.. «إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ» (٥٦: القصص) (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ» (٨: فاطر).
فهؤلاء الذين يسارعون فى الكفر هم الخاسرون، قد ألقوا بأيديهم إلى التهلكة، ولن يضرّوا الله شيئا.
وفى التعبير بالظرف «فى» فى قوله تعالى: «يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ» بدلا من «يسارعون إلى الكفر» ما يشير إلى أنهم قد دخلوا فى حوزة الكفر فعلا، حتى لقد صار الكفر ظرفا يحتويهم ويشتمل عليهم، وهم يتحركون فى داخله، ليبلغوا الغاية فى الكفر والضلال.
وفى قوله تعالى: «إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً» تهوين لشأنهم وأنه لم يكن لينتفع بهم المسلمون لو كانوا معهم، لما فى قلوبهم من مرض، وما فى كيانهم من فساد، كما أنهم وقد تحوّلوا إلى الجبهة المعادية للمسلمين فإنّهم لن يكون لهم أثر فى مسيرة الدعوة الإسلامية، وفى انطلاقها إلى المدى الذي أراده الله لها، والخسران فى هذه الصفقة واقع عليهم وحدهم.. «ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ» (٣٣: المائدة).
647
وقوله تعالى:
«يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» فى نسبة الإرادة إلى الله هنا إغاظة لهم، بسلب إرادتهم، وسوقهم سوقا إلى الكفر الذي هم أهل له وأنه لا مصير لهم إلا هذا المصير المشئوم..
فتعطيل إرادتهم هنا يحرمهم هذا السلطان الذي يجده المرء فى نفسه، ويعتزّ به، حتى وهو يركب مراكب الهلاك.. إذ أنه هنا يجد كلمة «أنا حرّ» التي يجد فيها وجوده، ويردّ بها على من ينصح أو يلوم..
وهؤلاء الذين دخلوا فى الكفر، دخلوه وكأنهم مكرهون، بلا إرادة، ولا حرية، ولا اختيار.. إنهم ليسوا آدميين، حتى تكون لهم إرادة، وتكون لهم حرية واختيار.
وفى قوله تعالى: «يُرِيدُ اللَّهُ» وفى تعليق الفعل بالمستقبل، وقد أراده الله ووقع فعلا- فى هذا ما يقيمهم أبدا بهذا الوضع الذي هم، بلا إرادة ولا اختيار، لأن إرادة فوق إرادتهم قائمة عليهم أبدا.. فليس لهم- والأمر كذلك- أن ينتظروا يوما تعود إليهم فيه حريتهم وإرادتهم، أو أن يكونوا يوما فى وضع الإنسان الحر المريد! قوله تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» تأكيد لضالة شأن هؤلاء الذين باعوا أنفسهم للشيطان، واستحبّوا العمى على الهدى.. وقد توعّدهم الله- سبحانه- فى الآية السابقة بالعذاب العظيم، وتوعدهم فى هذه الآية بالعذاب الأليم، كما توعدهم فى الآية التالية بالعذاب المهين، فجمع لهم أشنع صور العذاب.. العذاب العظيم.. الأليم..
648
المهين.. العظيم فى صورته، الأليم فى آثاره الحسيّة، المهين فى آلامه النفسية..
وقوله تعالى:
«وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ».
فيه تكدير لهؤلاء الكافرين، وقطع لتلك اللذات التي يجدونها فيما بين أيديهم من مال وبنين. وأن هذا الذي هم فيه إنما هو أشبه بما يقدّم للحيوان من طعام، كى يكبر، ويكثر لحمه، ثم يذبح!، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى:
«وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ» (١٢، محمد).
فالله سبحانه إنما يملى لأعدائه من الكافرين، والمشركين، والمنافقين، ويمدهم بنعمة وأفضاله، ليقيم الحجة عليهم، ولتحسب عليهم هذه النعم، التي كان من حقها أن يشكروا للمنعم بها، فاتخذوها أدوات لحرب الله، وحرب أولياء الله، فكانت عليهم بلاءا ووبالا.. «أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ؟ بَلْ لا يَشْعُرُونَ» (٥٥- ٥٦:
المؤمنون).
هذا، والعرض الذي يعرض فيه الكافرون، وتكشف فيه أحوالهم، إنما يراد به أولا وقبل كل شىء، العبرة والعظة للمؤمنين، وتنفيرهم من هذه الصورة المنكرة التي يرون الكافرين عليها.. وفى هذا ما يثبت إيمانهم، ويقوّى صلتهم بالله، ويزيد فى حمدهم له، أن هداهم إلى الإيمان، وسلك بهم مسالك المؤمنين..
649
أما الكافرون فقد يستمع مستمعهم إلى آيات الله تلك، التي تعرض الكفر وأهله فى هذا العرض المخيف، ويرى منه المصير الذي ينتظره، فيرجع إلى نفسه، ويعدل عن موقفه، ويصالح ربّه بالإيمان به، والموالاة لأوليائه..
الآية: (١٧٩) [سورة آل عمران (٣) : آية ١٧٩]
ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٩)
التفسير: قضت حكمة الله أن يجعل هذه الدنيا دار ابتلاء واختبار للناس، يذوق فيها بعضهم بأس بعض، وفى هذا الاحتكاك الواقع بينهم، تظهر أحوالهم وتنكشف أمورهم، وتعرف معادنهم، ولولا ذلك لكانوا شيئا واحدا..
لا مؤمن ولا كافر، ولا طيب ولا خبيث، ولا محسن ولا مسيىء وقوله تعالى: «ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ» هو من مقتضيات هذه الحكمة التي كان من آثارها هذا الاحتكاك الذي يدور بين المسلمين والكافرين، والذي ابتلى فيه المؤمنون بما أصيبوا فى أنفسهم وأهليهم.. فليس الإسلام هو كلمة يقولها الإنسان ليكون مسلما، وإنما هو كلمة وراءها عمل، ووراء العمل تبعات كثيرة، وأعباء ثقال، ولولا ذلك لكان مدخل الإيمان سهلا، لا ثمن له، يستوى فيه من يعمل ومن لا يعمل.. بل إنه لا يجد أحد ما يدفعه إلى العمل وبذل الجهد، إذ كان الأمر على تلك الصفة.
650
وفى قوله تعالى: «عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ» التفات للمؤمنين واستحضار لهم، ليكونوا فى مواجهة هذا الحكم، وليؤخذ إقرارهم به، وما عليه المؤمنون هو العافية التي كانوا فيها قبل أن يبتلوا بلقاء الكافرين وجهادهم.
وقوله تعالى: «حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ» أي حتى يقع هذا الصدام بين المؤمنين والكافرين، وحتى تنكشف أحوالهم، ويعرف الصابرون وغير الصابرين، ومن كان إيمانهم بالله خالصا صادقا، ومن كان إيمانهم على نفاق ودخل.. وعلم الله سبحانه- علم شامل، محيط بما وقع وما لم يقع، فى جميع صوره وأحواله.. وعلمه هنا، الذي يميز به الخبيث من الطيب ليس علما مستحدثا، وإنما هو علم قديم يندرج تحته هذا الحال الذي يكون عليه المؤمنون وهم فى هذا الامتحان الذي يؤدونه بين يدى الله..
وعلى هذا ينبغى أن يفسّر ويفهم ما ورد فى القرآن من علم الله الذي يبدو وكأنه معلق بوقوع الأحداث.. مثل قوله تعالى: «وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا» (٦٥- ٦٦: آل عمران) ومثل قوله سبحانه: «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ» (١٤٢: آل عمران).. ونحو هذا..
فعلم الله محيط بكل شىء. وكل ما هو فى علم واقع تحت هذا العلم، فى جميع أحواله المتلبس بها.. فالله سبحانه يعلم أزلا أن هذا الإنسان- مثلا- سيولد من أبوين، هما فلان وفلان.. فى بلد كذا، فى زمن كذا.. وقبل أن يولد هذا الإنسان هو فى علم الله، وبعد أن ولد هو فى علم الله.. ولكن علم الله به قبل أن تحمل به أمه، وقبل أن يولد فى المكان والزمان الواقعين فى علم الله- يكون المعلوم فيه على صور خاصة وصفات خاصة، فإذا ولد، كان المعلوم فى علم الله على صورة غير الصورة السابقة، وعلى صفات غير تلك الصفات التي
651
كان عليها قبل أن يولد!.. وهكذا تتغير ذوات المعلومات وصفاتها، وعلم الله محيط بها فى جميع أشكالها وأحوالها، فلا يتغيّر ولا يتبدّل.
قوله تعالى:
«وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ» معطوف على قوله تعالى: «ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ»..
والربط بين الحكمين لازم، لأن عدم اطلاع المؤمنين على الغيب، وما أراد الله لهم وكتب عليهم، يقتضى أن يؤمروا وأن ينهوا وأن يدعوا إلى الامتحان والابتلاء والجهاد فى سبيل الله..
ولو كان الغيب مكشوفا للناس لما كان ثمّة داعية إلى أمر أو نهى، فكلّ يعرف مصيره الذي هو صائر إليه.. ولو عرف الناس مصائرهم مقدما، وانكشف لهم مستقبلهم خطوة خطوة، لما احتملت طبيعتهم البشرية هذا الموقف الذي يرى فيه الإنسان وجوده كله من مبدئه إلى نهايته، ولكانت فتنة فى الأرض وفساد كبير..
ففى حجب المستقبل عنّا رحمة بنا، وإحسان إلينا، واستدعاء لوجودنا كلّه لمواجهة المجهول، ومحاولة كشفه واستخراج ما فى أطوائه، من خير وشر، وحلو ومرّ.. فهو على أي حال ثمرة مجهود، وحصاد معركة!! وانظر.. لو أن إنسانا ما عرف عن يقين من سجّل القدر أنه فى يوم كذا، فى ساعة كذا، ستصدمه سيارة تقضى عليه، أو تشبّ فيه نار فتلتهمه، أو أن أحد أبنائه سيحدث له حادث أليم.. ماذا تكون حالة هذا الإنسان، منذ أن يطلع على هذا الغيب إلى أن يقع؟ هل يهنؤه طعام، أو يسوغ له شراب، أو يهدأ له قلب أو يستريح له بال؟ إنه فى همّ دائم، وكرب كارب، وعذاب أليم؟!
652
وأكثر من هذا.. لو أن هذا الإنسان اطلع الغيب فرأى- وهو الفقير المعدم- أنه بعد كذا من السنين سينال الغنى الواسع والثراء العريض، وأنه سيشبع من جوع، ويكتسى من عرى، وينال ما يشتهى من متع الدنيا، بعد هذا الحرمان الطويل.. ماذا تراه فى يومه هذا، وهو ينتظر ذلك اليوم الموعود؟
إنه يعيش تلك السنين الفاصلة بينه وبين هذا اليوم، فى عذاب، دونه كل عذاب.. إنه يعدّ الأيام لحظة لحظة، ويدفع مسيرة، الزمن بكل ما فى كيانه من قوى ظاهرة وباطنه.. والزمن قائم فى وجهه، جاثم على صدره، كأنه جبال الدنيا كلها مجتمعة عليه.. إنه يودّ أن ينام نومة أهل الكهف فلا يستيقظ إلا على يومه الموعود.. ولكن أنّى له ذلك، وهو مشدود إلى الحياة، مقيد بقيود الزمن الثقيلة العاتية؟
من رحمة الله علينا إذن كان هذا الذي صنعه الله بنا، فحجب عنّا ما أراده لنا، وما قضاه علينا، فنعمل بإرادة، ونمضى بعزم، ونعيش مع أمل..
فقوله تعالى: «وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ» دعوة للمؤمنين إلى العمل حسب ما يأمرهم الله به، وبين تلك الأوامر الجهاد فى سبيل الله، والثبات فى وجه العدوّ، والعمل على انتزاع النصر منه.. ذلك هو المطلوب من المؤمنين فى مثل هذا الموقف.. أما ما يؤول إليه الأمر، وما يسفر عنه القتال، فذلك علمه عند الله.. وعلى المؤمنين أن يرضوا بما يقع، أيّا كان، بعد أن امتثلوا أمر الله، وأعطوه كل جهدهم.
يقول جعفر الصادق رضى الله عنه لزرارة: «يا زرارة.. أعطيك جملة فى القضاء والقدر؟ قال: نعم، جعلت فداك، قال: «إذا كان يوم القيامة وجمع الله الخلائق، سألهم عما عهد إليهم، ولم يسألهم عما قضى عليهم»..
وهذه كلمة فيها مقطع القول فى القضاء والقدر، وعلى من يحتجون بالقضاء والقدر.. إنهم مطالبون بما كلّفوا به، وغير مطالبين بما قدّره الله عليهم..
653
وقوله تعالى:
«وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ» استدراك فيه معنى الاستثناء من الحكم الذي تضمنه قوله تعالى:
«وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ».. إذ أن رسل الله الذين يصطفيهم الله لحمل رسالاته إلى عباده، هم ممن أظهرهم الله على بعض ما فى الغيب، وأطلعهم على لمحات منه، ليروا على ضوئها طريقهم الذين يقودون فيه عباد الله إلى الهدى والخير.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً» (٢٦- ٢٧: الجن) ومن جهة أخرى.. فإن الرّسول- وإن لم يطلع على شىء من الغيب.
فإنه أشبه بمن اطلع على الغيب فيما يتعلق بالدعوة التي يحملها، والرسالة التي يقوم بتبليغها.. إنها دعوة خير، ورسالة نور وهدى.. وإن السعادة فى الدنيا والآخرة لمن استجاب لدعوته وعمل بها، وإن النّصر والتأييد من الله لمن آمن بالله وجاهد فى سبيله.. هذه حقائق لا تقبل الشك، ووعود محققة كأنها واقعة وإن لم تكن قد وقعت، فهى فى مضمونها من أبناء الغيب، يراها رسل الله والمؤمنون بالله، رأى العين، ويستيقنونها يقين الواقع فى أيديهم..
ففى قوله تعالى: «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ» (٢١: المجادلة) وفى قوله: َ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ»
(٤٧: الروم) وفى قوله سبحانه: «إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ» (٥١: غافر)
654
وفى قوله سبحانه: (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ» (١٢٤: آل عمران).
وفى قوله جل شأنه: «قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ» (١٥: التوبة) فى هذه الآيات وكثير غيرها يرى رسول الله ويرى المؤمنون معه واقع هذه الوعود ماثلا بين أيديهم، وكأنهم قد اطلعوا الغيب وعاينوا ما سيكون قبل أن يكون! لما نزل قوله تعالى «سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ» (٤٥: القمر) استيقن المسلمون أن جمع الكافرين سيهزم بأيديهم وسيولّى الدبر.. هذا ما لم يكن يشكّ فيه مؤمن، حتى لكأنه يراه رأى العين، ولكن الرؤية لم تكن كاملة، حيث لم ينكشف للمسلمين هذا اليوم الذي سيتحقق فيه هذا الوعد الذي وعدهم الله إياه.. فلما كان يوم بدر انكشف ما كان مستورا، ورأى المسلمون الجمع المنهزم، وفى هذا كان يقول عمر بن الخطاب: «ما كنت أدرى أي جمع هذا الذي سيهزم حتى رأيت جمع قريش يوم بدر، وهم منهزمون يولّون الأدبار».
وقوله تعالى: «فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ» دعوة يستجيب لها كل ذى عقل ووعى، حيث كانت تلك الدعوة من عند الله، وكان حاملوها رسلا من عند الله، وكانت مضامينها حقّا مطلقا، ووعودها واقعا محققا، لأنها من أبناء الغيب وقد أطلع الله عليها رسله والمؤمنين به، فيما حملت آياته إليهم من أمر ونهى، ومن خبر او وعد!
655
وليس الإيمان وحده مجردا من العمل هو الذي يعطى الثمرة المرجوة من الإيمان.. إذ لا بد من أن يصحب الإيمان عمل يدعو إليه الإيمان، ويرسم حدوده، وثمرة هذا العمل هى التقوى، التي يحقق بها المؤمن حقيقة الإيمان..
وبهذا يدرج فى سلك المؤمنين، ويحظى من الله بالجزاء الأوفى، والأجر العظيم.
الآية: (١٨٠) [سورة آل عمران (٣) : آية ١٨٠]
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٨٠)
التفسير: الجهاد فى سبيل الله امتحان وابتلاء، فيه تضحية وبذل.. تضحية بالنفس، إذا دعت دواعيها، وبذل للمال حين يطلب المال! وقد أعطى المجاهدون الصادقون ما يطلب الجهاد من نفس ومال، على حين ضنّ أناس بأرواحهم، أن يبيعوها لله فى سبيل الله، وبخلو بأموالهم أن يقرضوها الله فى سبيل الله.. ثم مع هذا منّتهم أنفسهم أن يكونوا فى المؤمنين، ثم أطالوا حبل الأمانىّ فظنوا أنهم فى عداد المتقين المجاهدين.. والله سبحانه وتعالى يقول: «لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ» (٩٢: آل عمران).
وفى هذه الآية يكشف الله سبحانه عن هذه الأمانىّ الخادعة، التي يعيش فيها أولئك الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله، من قوة أو مال، فلا ينفقون منها فى وجوه الحقّ الداعية لها.. وإنّهم لهم الخاسرون فى هذا الموقف الذي اتخذوه حيال الحقوق الواجبة عليهم، فى أموالهم وأنفسهم.. حياة قصيرة فى
هذه الدنيا، لأجل محدود، ومتاع قليل بهذا المال الذي استبقوه لاستيفاء حظوظهم من الشهوات واللذات.. ثم ما هى إلا لمحة كلمح البصر، وإذا هم فى موقف الحساب والجزاء.. وإذا هم وأنفسهم التي ضنّوا بها، وأموالهم التي أمسكوا عن الإنفاق منها، خصمان يقتتلان، وإذا هذا المال يتحول إلى أداة عذاب ونكال، يطوّق أعناقهم بأطواق ثقال، ثقل ما جمعوا وكنزوا:
«سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ».
الآيتان: (١٨١- ١٨٢) [سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٨١ الى ١٨٢]
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (١٨١) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٨٢)
التفسير: فى معرض البخل بالمال والحرص عليه، يمثّل اليهود أسوأ صورة، وأقبح مثل لما يبلغه إنسان فى هذا الباب..
فالمال عند اليهود- كل يهودى- هو كل شىء، فاليهودى إذا سلم ماله فلا عليه إذا تلف كل شىء، وضاع منه أي شىء.. من دين أو خلق.
لهذا، جاءت الآية الكريمة- بعد أن كشفت الآية السابقة عن جريمة البخل، والعقوبة التي أعدها الله لمرتكبيها- جاءت لتكشف عن درجة من البخل لم يعرفها الناس إلا فى هذا الصنف المحسوب من الناس.. إنهم لم يجمعوا المال من وجوه الحرام والسحت وحسب، ولم يضنوا عن الإنفاق منه فى سبيل الحق والخير وحسب، بل بلغ بهم السّفه والفجر إلى تحدّى الله به، وإعلان الحرب الوقاح عليه، فكانت قولتهم الآثمة تلك، التي حكاها القرآن
657
عنهم: «إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ» - كانت تلك القولة المنكرة لسان حالهم، فى كل مشهد يشهدونه للمسلمين وهم يدعون للبذل الإنفاق فى سبيل الله، وينادون فى الناس بقول الله سبحانه: «مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ».
(٢٤٥: البقرة).. ولا يقع إلى آذان اليهود من كلمات الله تلك إلا «القرض» الذي يعرفونه، ويتعاملون به ربا فاحشا، يغتال أموال الناس، ويمتصّ ثمرة جهدهم.. والقرض لا يكون إلا من غنىّ إلى فقير، وإذ كان الله يطلب قرضا فهو فقير، وإذ كان اليهود هم أقدر الناس على الإقراض الربوىّ فهم أغنياء..
هكذا منطق المال عند اليهود.. حتى مع الله.
وقوله تعالى: «لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ» وعيد لليهود، ونذير بالعذاب الشديد لهم.. إذ كان ما قالوه تجديفا على الله، ومحاربة له.. والله سبحانه وتعالى قد سمع هذا القول المنكر منهم.. والمراد أنه سبحانه وتعالى قد علم ما قالوا.. والتعبير عن العلم بالسّمع أبلغ وأقوى فى حسابنا وتقديرنا نحن.. أما علم الله وسمع الله، وما لله من صفات، فهى جميعا على الكمال المطلق الذي لا يقبل زيادة أو نقصا.
وقوله سبحانه: «سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ». هو مبالغة فى تغليظ هذا الجرم وتهويله، فقد كتبه الله عليهم ووثّقه، كما يكتبون هم ما يستدينه الدائنون منهم ويوثّقونه، فلا سبيل إلى الضياع أو الإنكار..
ولم يسجّل سبحانه عليهم هذا القول الشنيع وحده، بل قرنه إلى جرم آخر لا يقلّ عنه شناعة وإثما، وهو قتلهم الأنبياء بغير حقّ، وهنا تبدو قولتهم المنكرة تلك موازية لقتل الأنبياء بغير حق، ومعادلة لها فى جرمها وإثمها.
658
وهنا سؤال:
إن هؤلاء اليهود الذين يخاطبهم القرآن الكريم لم يقتلوا الأنبياء، ولكنّ القتلة هم آباؤهم.. فكيف يكتب القتل عليهم، ويضاف إلى جرائمهم التي أجرموها؟.
والجواب على هذا- والله أعلم- أن اليهود طبيعة واحدة، لا يختلف خلفهم عن سلفهم فى شىء مما هم عليه من عناد، وكفر بآيات الله، ومكر بآلائه ونعمه.. فهؤلاء الأبناء الذين يخاطبهم القرآن الكريم، هم اليهود الذين خاطبهم داود، وأيوب، ويوسف، وموسى، ويحيى، وعيسى، وغيرهم من أنبياء الله ورسله، وفيهم كل ما فى آبائهم من عناد وكفر، وأنه لو جاءهم نبىّ لهمّوا بقتله، ولو أمكنتهم الفرصة فيه لقتلوه..
فإضافة هذا الجرم إليهم- وهو قتل الأنبياء- هو إضافة لهم إلى آبائهم القتلة، فما مات هؤلاء الآباء، ولا انقطعت من الأرض جرثومة الشرّ التي كانت فيهم، بموتهم، بل هم أحياء فى هؤلاء الأبناء، بكل ما عرف عنهم من سوء وفساد.
وقوله وتعالى: «وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ» هو الجزاء المقابل لقولهم «إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ». فهم قالوا «إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ» ونحن- أي الله- «نَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ» فهو قول يقابل قولا.. وشتان بين قول الله وقولهم.. هم قالوا زورا وبهتانا، والله يقول حقّا وعدلا.. هم قالوا أصواتا ضائعة فى الهواء، والله يقول نارا تلظّى، وعذابا سعيرا، يأخذهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم.
وقوله تعالى: «ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ» ردّ عليهم، وردع لهم إن هم أنكروا هذا العذاب الذي يساق إليهم، أو استفظعوه.. فهذا العذاب
659
قد صنعوه هم بأنفسهم لأنفسهم.. إنه صنعة أيديهم، فكيف ينكرونه، أو يردّونه؟.
وفى قوله تعالى: «وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ» يجىء التعبير بظلام، فى صيغة المبالغة هذه، للتشنيع عليهم، والتعريض بظلمهم الذي جاوز الحدود، فى أكلهم أموال الناس بالباطل، وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم إن الله فقير ونحن أغنياء، فهم- والأمر كذلك- ليسوا ظلمة وحسب، بل هم ظالمون لعباد الله ولأنفسهم، ولو جازاهم الله حسب ما يعاملون به الناس من ظلم غليظ لضاعف عقابهم، ولظلمهم كما يظلمون الناس، فكال لهم الكيل بأضعافه، ولكن الله لا يظلم الناس، وإنما يحزبهم السيئة بالسيئة، أو يعفو عنها إن شاء، ويجزيهم الحسنة بعشرة أمثالها، ويضاعف ذلك لمن يشاء!.
الآية: (١٨٣) [سورة آل عمران (٣) : آية ١٨٣]
الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٨٣)
التفسير: الّذين قالوا إن الله عهد إلينا ألّا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار، هم اليهود، الذين تحدث القرآن عنهم فى الآيات السابقة، وأنهم هم «الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ».
«فالذين» هنا، هم «الذين» هم هناك. ، وقد سمع الله قولهم هذا، وذاك، وسجّله عليهم ليحاسبهم به، ويجزيهم عليه.
وقولهم هنا، هو افتراء من افتراءاتهم، يدفعون به دعوة النبىّ لهم إلى الإيمان
660
به، والتصديق برسالته، على الصفة التي يجدونها فى التوراة عنه.. فهم ينكرون هذا الذي فى التوراة، ويجيئون بمفتريات من عندهم، ويلقون النبىّ الكريم بقولهم: «إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ» أي إن آية النبىّ التي يريدون أن يعرضها عليهم- كدليل على صدقه- هو أن يقدّم لله قربانا، كبقرة، أو شاة، أو نحوها، ثم يدعوهم إلى أن يشهدوا آية لله فى هذا القربان، وأن نارا من السّماء ستنزل وتأكل هذا القربان، وهم يشهدون.. فإذا جاءهم النبىّ على تلك الصفة آمنوا به، وصدقوه.
وإذ كان ما جاء به «محمد» هو على غير تلك الصفة، فهو ليس بنبىّ، أو ليس- على الأقل- هو النبىّ وعدوا به..
وقد جنّب الله النبىّ الكريم أن يلقى هؤلاء القوم بالمراء والجدل، وأن يردّ فريتهم هذه التي افتروها على الله، وأن يدخل معهم فى أخذ وردّ، فذلك طريق يحبّ أن يسلكه اليهود مع النبىّ، ويودّون أن يستجيب للسير معهم فيه، حيث ينتهى الطريق، ولا محصّل له إلّا ضياع الوقت فى المهاترات والسفسطات. الأمر الذي يريد الله أن يجنّبه النبىّ، ليسلك بدعوته الطريق القويم إلى من يتقبّل الخير، ويعطى أذنه وقلبه لدعوة الحق، وكلمة الحق..
لقد نأى الله بالنبيّ الكريم عن هذا الطريق، ودعاء إلى أن يلقى اليهود بما يقطع حجتهم ويخرس ألسنتهم..
فهم يريدون نبيّا يأتيهم بقربان تأكله النّار، ليصدقوه ويؤمنوا به..
وقد جاءهم أنبياء الله بالآيات البينات، كإحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، وكفرق البحر بالعصا، وتفجير الماء من الحجر الصّلد بها.. فهل آمنوا بهؤلاء الأنبياء واستجابوا لهم؟ وأكثر من هذا.. فقد جاءهم أنبياء بهذا
661
المقترح الذي اقترحوه على النبىّ، وتحدّوه به.. جاءهم من كان يقدّم لله قربانا فتأكله النار.. فهل آمنوا به وصدّقوه؟
وكلّا، فإنه لم يكن منهم إيمان وتصديق.. بل كان التكذيب والكفران، بل والعدوان. فقتلوا من أنبياء الله من جاءوهم بالآيات التي اقترحوها على النبىّ، وبأكثر منها قوة ووضوحا فى مجابهة الحسّ.
ولو جاءهم النبىّ بهذا الذي طلبوه.. فهل يصدقونه ويؤمنون به؟؟
ذلك ما لا يكون. فقد كذّبوا رسل الله، وقد جاءوهم بهذه الآيات التي كانت مما اقترحوه على الرسل، وتحدّوهم به.. ولكنه التعلل، والتهرب من مواجهة الحق، بهذا المراء الطفولىّ.. والله سبحانه وتعالى يقول فيهم:
«إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ» (٩٦- ٩٧: يونس) ويقول سبحانه: «وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها، وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ» (١٤٦: الأعراف)
الآية: (١٨٤) [سورة آل عمران (٣) : آية ١٨٤]
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (١٨٤)
التفسير: فى هذه الآية الكريمة عزاء كريم من ربّ كريم، لنبىّ كريم..
فهذا شأن أصحاب الرسالات وحملة الهدى. مع السفهاء، أصحاب الطبائع النكدة، والضمائر الفاسدة.. لا يلقون منهم إلا التطاول الأحمق، والسّفه اللئيم..
662
وخاصة هذا الصنف من الناس (اليهود) الذين انتظم تاريخهم الأسود، سلسلة مترابطة الحلقات من مواقف الفساد والشر، فى مواجهة كل خير! فإنه ليست أمة من الأمم بعث الله إليها مثل ما بعث فى نبى إسرائيل، من أنبياء ومرسلين، وليس رسول من الرسل حمل إلى قومه ما حمل رسل بنى إسرائيل إليهم من آيات تنطق البكم، وتسمع الصمّ.. فلم ينتفعوا بتلك الآيات، ولم يجدوا فيها شفاء لدائهم الخبيث.
وليست كثرة هذه الرسل، ولا توارد هؤلاء الأنبياء، ولا إشراق هذه الآيات التي يحملونها بين أيديهم، إلى هؤلاء القوم- ليست هذه كلها إلّا لأن الداء الذي يكمن فيهم، والمرض المتمكن من عقولهم وقلوبهم، قد استشرى حتى أصبح وباء، فكانت نجدة السماء لهم بهؤلاء الأطباء الأساة، يطلعون عليهم من كل أفق، ويغادونهم ويراوحونهم فى كل وقت.. ولكن الداء لا يزداد على الزمن إلا استيلاء عليهم، وفتكا بهم.. «فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ» (١٠: البقرة).
«والبيّنات» هى الآيات التي جاءهم بها عيسى عليه السّلام، والتي يشير إليها الله سبحانه وتعالى بقوله: «وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ» (٧٧: البقرة) «والزّبر» جمع زبور، وهو القطعة من الشيء.. و «الزّبور» هنا ما أعطى داود عليه السّلام من كلمات الله، التي هى بعض من كتاب الله، الذي نزل على الرّسل، كلّ حسب حظه منه، ثم جاء القرآن الكريم، جامعا للكتاب كلّه، وفى هذا يقول الله تعالى مخاطبا المؤمنين فى مواجهة الذين كفروا من أهل الكتاب: «ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ» (١١٩: آل عمران) وهو القرآن وما سبقه من كتب.
والكتاب المنير هنا. هو القرآن الكريم.. وفيه إشارة إلى موقف
663
اليهود منه، وأنهم كذّبوا بالأنبياء الذين جاءوهم بالبينات- أي عيسى- وبالزبر- أي مجموعات الأنبياء الذين حمل كل منهم بعض كلمات الله إليهم، وبالكتاب المنير، وهو القرآن الذي جاء به «محمد» صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين.
الآية: (١٨٥) [سورة آل عمران (٣) : آية ١٨٥]
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (١٨٥)
التفسير: وهذه الآية الكريمة تحمل أيضا عزاء كريما إلى النبىّ الكريم، بما تهوّن عليه من أمر الدنيا، وما يلقى فى تبليغ رسالة ربّه، من عناد وعنت، وما يعرض له نفسه وأصحابه المجاهدين معه من جهد وبلاء، فى ملاقاة الموت، والاستشهاد فى سبيل الله..
فهذا كلّه هيّن فى لقاء الجزاء الحسن، الذي أعدّه الله لرسوله وللمؤمنين، من رضى ونعيم..
أما أمر الموت، فهو حكم واقع على كل حىّ، ونازل بكل نفس..
«كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ» وإذا كان ذلك هو الشأن، فالحرص على الحياة، والفرار من مواقف الحق والخير، طلبا للأمن والسلامة- أمر لا يكتب الخلود لأحد، فضلا عن أنه لا يمدّ له لحظة واحدة فى أجله المقدور له.
وأما الذي ينبغى الحرص عليه، والبذل من أجله، فهو الآخرة، التي هى دار البقاء والخلود.. وإذا كان هذا شأنها وذلك وزنها وقدرها، فإن العقل يقضى بطلب العمل لها، والسلامة فيها.. «فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ».
الآية: (١٨٦) [سورة آل عمران (٣) : آية ١٨٦]
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٨٦)
التفسير: وإذ كانت الحياة الدنيا إلى زوال، وكان متاعها لعبا ولهوا وغرورا، وإذ كان متّجه العقلاء فيها إلى دار خير منها، وإلى متاع أكرم وأهنأ من متاعها- وهى الدار الآخرة- إذ كان ذلك كذلك، فإن للدار الآخرة عملا، وللجزاء الحسن فيها ثمنا.. إنها ليست أمانىّ يتمنّاها النّاس، ولكنها جهد، وبلاء، ومعاناة، فإذا أرادها المريدون وطلبها الطالبون، فليعملوا لها، وليؤدّوا الثمن المطلوب للحصول على نعيمها، ورضوان الله فيها! وقد أرادها المؤمنون، وطلبوا ما عند الله للمؤمنين فيها.. وإذن فليعملوا لها، وليؤدّوا مطلوبها منهم! إنه ابتلاء فى الأموال والأنفس.. الأموال، يبذلونها فى سبيل الله، والأنفس، يبيعونها ابتغاء مرضاة الله..
وإنه تعرّض للأذى فى المشاعر والعواطف، بسماع الكلمات المنافقة، والأكاذيب الملفقة، من الذين كفروا ونافقوا من أهل الكتاب، ومن الذين أشركوا وضلوا من قريش وأحلافها..
إنه أذى مادىّ فى الأموال وفى الأنفس، وأذى روحىّ فى الشعور والوجدان.. أذى يشتمل على المؤمن كلّه، فى مادياته ومعنوياته جميعا.
ونعم.. هو أذى بالغ، وألم شديد، وامتحان قاس مرير!
ولكنّ الجزء الحسن أعظم وأشمل، وإنه لأكثر قدرا، وأثقل وزنا..
فى جانب الإحسان والرضوان..
والصبر والتقوى، هما الزاد العتيد الذي يتزود به المؤمنون لاجتياز هذا الامتحان القاسي، واحتمال آلامه وشدائده.. «وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ».. فإن الأمر جدّ ليس بالهزل.
الآية: (١٨٧) [سورة آل عمران (٣) : آية ١٨٧]
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (١٨٧)
التفسير: الذين أوتوا الكتاب هنا، هم اليهود..
وهؤلاء اليهود كان جديرا بهم أن يكونوا فى عداد المؤمنين، بما فى أيديهم من كلمات الله، الداعية إلى الحق، الهادية إلى صراط مستقيم..
ولكنهم لم يصبروا ولم يتّقوا.. الأمر الذي لا يستمسك بدونه إيمان، ولا يبقى بغيره المؤمن فى المؤمنين! لقد نقضوا الميثاق الذي واثقهم الله به، بأن يبيّنوا للنّاس ما فى الكتاب الذي معهم من حق وخير، وألا يكتموا من هذا الحقّ والخير شيئا..
وليتهم إذ أمسكوا هذا الذي معهم من حق وخير، ومنعوه النّاس، وحجبوه عنهم- ليتهم وقفوا عند هذا، فكان لهم فى أنفسهم منه خير.
ولكنهم أفسدوا هذا الخير على أنفسهم وعلى الناس، فغيّروا وبدلوا، وقلبوا وجه الحق باطلا، وأحالوا عذبه ملحا أجاجا، فضلّوا وأضلوا..
إنهم- والأمر كذلك- أشبه بمن كان فى صحراء، لا شىء فيها من ماء أو طعام، وفى يديه شىء من ماء وطعام، ومعه رفقة مسافرة، لا شىء معها، وكان فى هذا ما يبلغ به وبها الغاية إلى حيث الماء والطعام، لو أنّه أظهره لها، وأشاعه فيها.. ولكن كزازة طبعه، وشحّ نفسه، وخبث طويته- كل أولئك سوّل له أن يخفى هذا الزاد بل، وأن يفسده، حتى لا ينتفع به أحد..
فهلك، وأهلك الرفقة المسافرة معه! هكذا كان شأن اليهود مع كتاب الله الذي فى أيديهم.. كتموا الحق الذي فيه، وأفسدوا الخير الذي ينطوى عليه، وقالوا للكافرين والمشركين الكذب على رسول الله، وعلى الكتاب الذي بين يديه، لقاء عرض زائل يعيشون فيه، ودنيا فانية يمسكون بها.. فهلكوا وأهلكوا، وضلّوا وأضلّوا..
وفيهم يقول الله تعالى: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً» (٥١- ٥٢: النساء)
الآية: (١٨٨) [سورة آل عمران (٣) : آية ١٨٨]
لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨٨)
667
التفسير: هذه الآية أيضا تعريض باليهود، وفضح لمساويهم، ووعيد بالخزي وسوء المصير لهم.
فقد ذكر فى الآيات السابقة قولهم: «إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ» وأنهم بهذا يمسكون المال، ويحادّون الله به..
وهنا- فى هذه الآية- يعرضون فى معرض الفرحين بما أتوا، وهذا الذي أتوه، ليس مما يحمد ويقبل، حتى يفرحوا به.. ولكن الذي فعلوه هو المنكر كلّه، وهو الشرّ كلّه.. إنهم إنما فعلوا الافتراء على الله، ونقض الميثاق الذي واثقهم به، أن يبينوا للناس ما معهم من كلمات الله، وما فيها من هدى ونور، ولم يقفوا عند هذا الحدّ من البخل والشح، فبدّلوا فى كلمات الله وغيروا، لتستجيب لمطالبهم الخسيسة، ودواعيهم الخبيثة..
هذا هو الذي فعلوه، وفرحوا به، وحسبوا أنهم بهذه المنكرات التي أفسدوا بها دينهم وأضلوا بها غيرهم- قد استطاعوا أن يفسدوا على «محمد» دعوته، وأن يغروا المشركين به، ويصرفوهم عنه! «وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ» (٢٦: الأنعام) ولم يقف أمرهم عند هذا المنكر، من تحريفهم لكلمات الله، بل لقد لبسوا النفاق، وظهروا به فى الناس، يظهرون لهم المودة والحب، ويضمرون العداوة والبغضاء، ويرجون لهم النصر بألسنتهم، ويتمنون لهم الهزيمة من قلوبهم..
إنهم يريدون أن ينالوا الحمد والثناء، بما لم يفعلوا مما يستحق الحمد، ويستوجب الثناء.. إنها مجرد كلمات معسولة خادعة، إن انطوت على شىء، فإنما تنطوى على الشر والسوء والفساد..
وقوله تعالى «فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ» هو بدل من قوله سبحانه:
668
لتوكيد الحكم الواقع عليهم وتقريره، وإلصاقه بهم، بعد أن طال الفصل بالمفعول الأول ومتعلقاته، بين الفعل حسب ومفعوله الثاني، حيث كان مقتضى النظم أن يجىء هكذا: «ولا تحسبنّ الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا بمفازة من العذاب». فالذين يفرحون هو المفعول الأول، وبمفازة من العذاب هو المفعول الثاني..
ولكن النظم القرآنى وحده هو الذي يحقّق المعنى الذي أشرنا إليه من قبل، وهو توكيد الحكم الواقع على اليهود وتقريره وإلصاقه بهم..
«فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ» الأمر الذي لا تجده متمكنا على تلك الصورة فى النظم الذي تمثلناه وطرحناه بين يدى النظم القرآنى.
وفى قوله تعالى: «وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» توكيد للحكم الذي أشار إليه قوله تعالى: «فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ».. إذ أن الفعل حسب فيه معنى الظنّ، الذي يقع من جهة من ينظر إلى اليهود، فيرى أنهم أصحاب دين وأهل كتاب، وأنهم فى الوقت نفسه منحرفون فى دينهم وكتابهم، وهم من أجل هذا أقرب إلى العطب منهم إلى السلامة، وأدنى إلى النار منهم إلى الجنة..
هذا هو الحكم الذي يقع فى ظن من يراهم ويطلع على أحوالهم، وهو ظنّ أقرب إلى اليقين.. ولكنّه مع هذا حكم غير قاطع، إذ لا يملك هذا الحكم القاطع فى مصائر الناس إلا مالك الملك، وصاحب الأمر.. الله ربّ العالمين.. وقد جاء حكم الله فيهم، لتصدق ظنون الناس بهم.. «وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» وليس العذاب وحده هو المصير الذي يصيرون إليه، ولكنه العذاب الأليم..
الآيات: (١٨٩- ١٩٥) [سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٨٩ الى ١٩٥]
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٩) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (١٩٠) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٩١) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (١٩٢) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (١٩٣)
رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (١٩٤) فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (١٩٥)
669
التفسير: فى الآيات السابقة التي بدأت بالحديث عن أحد، والأحداث التي جرت فيها، وما تكشّف فى تلك الأحداث من وجوه المنافقين، وصبر المؤمنين، وكيد الكافرين- فى هذه الآيات طال وقوف المسلمين فى دخان هذه المعركة.. وفى التطلع إلى جوه شهدائهم الذين مثّلت بهم قريش بعد قتلهم، تشفّيا وانتقاما لقتلاهم فى «بدر»، كما طال الوقوف أيضا فى مواجهة الكافرين والمشركين والمنافقين، الذين عرضهم القرآن الكريم وفضحهم..
وفى هذا الجوّ كانت تهبّ من الله نفحة رحمة وعزاء للمسلمين، فتلقاهم بين الفينة والفينة، وهم فى هذه المسيرة الطويلة مع أحد وأحداثها- فتهدأ أنفسهم
670
وتطيب خواطرهم، وتتجه قلوبهم، وتشخص أبصارهم إلى الله، بالحمد والشكران، لما منّ الله عليهم به من الإيمان، وهداهم إليه، ولكن سرعان ما تنقلهم الآيات القرآنية إلى المعركة وجوّها، فتهتز مشاعرهم تلك المتجهة إلى الله، ثم يعودون إليها بعد أن تلقاهم آية رحمة وعزاء.. وهكذا تظل أنظار المسلمين تتقلب بين الأرض والسماء.. بين معركة أحد وأرضها، وبين رحمة الله ورضوانه..
فكان من تمام رحمة الله بالمسلمين، ورضوانه عليهم، أن ختم هذا الموقف، وأنهى تلك الأحداث، بهذه الآيات التي تتيح للمسلمين لقاء خالصا مع الله، فى آفاق سماوية عالية، بعيدة عن تراب هذه الأرض ودخانها..
ولقاء هنا مع الله، والنفوس مهتاجة، والقلوب مضطربة، من شأنه أن يحدث أثرا مضاعفا فى الاتصال بالله، وملء القلب، والنفس، ولاء وخشية لجلاله وعظمته.. وبهذا يزداد المؤمنون إيمانا بالله، ويقينا بحكمته، ورضى بحكمه، وولاء لأمره ونهيه..
وفى هذه الآيات الكريمة يتحقق هذا اللقاء، الذي يخلص منه إلى نفوس المسلمين وقلوبهم ما أراد الله بهم من خير، أشرنا إلى بعضه، الذي هو قليل من كثير!!.
ففى قوله تعالى:
«وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً» مواجهة مشرقة بين المسلمين، وبين ملكوت السموات والأرض.. هذا الملكوت الذي هو بعض ما خلق الله، وإشارة إلى بعض مما أبدع وصور!.
وفى هذه المواجهة المطلقة، تنطلق مشاعر المؤمنين، وتتفتح قلوبهم وعقولهم، لترتوى من موارد هذا الملكوت الرحيب، وتنغب من رحيقه العذب الكريم!.
671
وفى قوله تعالى: «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ» - نداء رفيق، ينبعث من الأفق الأعلى، ليقود المؤمنين الذين شخصت قلوبهم وعقولهم إلى ما لله فى السموات والأرض، لترتاد مواقع الحق والخير، فتجد فى هذا النداء الرفيق هاديا يهديها، ورفيقا يؤنسها، ويكشف لها معالم الطريق.. ففى خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار، آيات مبصرة لمن كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد.. وإنه لكى يكون للعقل أثره وثمرته فى هذا المجال، ينبغى أن ينصرف بكل وجوده إلى هذا الملكوت، وأن يعيش فيه وله. فذلك هو الذي يفتح له مغالق الخير فيه، ويطلعه على مطالع الحق منه.. وهذا ما يتفق لأولئك «الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» حيث يكون ذكر الله، واستحضار عظمته وجلاله. هو دأبهم، وحيث يكون النظر فى ملكوت السموات والأرض، ومطالعة آيات الخالق، واستجلاء روائع حكمته، هو شغلهم.. فى قيامهم وقعودهم، وفى حركتهم وسكونهم، وفى كل لمحة أو نظرة، وفى كل غدوة أو روحة.. حيث هم أبدا فى ملك الله، وحيثما كانوا أو اتجهوا فهم بين يدى ملكوت الله.. وعندئذ يطلع عليهم من آفاق الوجود هذا اللحن الموسيقى الشجىّ الذي يردّده كل موجود. «رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا..»
فيتناغمون معه، بنبضات قلوبهم، وزغردة أرواحهم «رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا..» «سبحانك» ما أعظم عظمتك، وما أقدر قدرتك، وما أحكم حكمتك، وما أسعد من ينعم بنعيمك، وما أهنأ من يحظى برضاك «فَقِنا عَذابَ النَّارِ» حتى لا تنزعج قلوبنا عن موارد ملكوتك ولا تطيش ألبابنا من النظر فى آيات قدرتك، وروائع حكمتك!
672
وإنه حين يشهد المؤمنون ما يشهدون من جلال ملك الله، وكمال قدرته، وسعة علمه، وروعة حكمته، يتمنّون على الله أن يقيمهم على هذا المورد، لا يتحولون عنه أبدا، فهذا هو النعيم الخالد، الذي ينعم به المؤمنون فى الدنيا والآخرة.
ولجهنم أهلها، الذين يحرمون هذا النعيم، ويلقون بدله عذابا ونكالا وشقاء.. وهذا خاطر إذا خطر بقلوب المؤمنين أزعجهم وأكربهم، وزحزح عنهم هذه اللحظات المسعدة التي يعيشون فيها مع الله، ويهنئوون بالنظر فيها إلى ملكوته.. وهنا يتجسد لهم هذا المشهد الكئيب، الذي ينتظم أهل النّار فى النار، فيناجون الله، ويطلبون غوثه: «رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ» فإنه ليس خزى بعد هذا الخزي، ولا خذلان فوق هذا الخذلان.. حيث موارد النعيم دانية، ومنازل الرضوان مفتّحة، ثم هم يذادون عن هذا النعيم، وذلك الرضوان، ثم يساقون إلى جهنّم وعذاب السعير.
وفى قلوب واجفة، وأنفاس مبهورة مختنقة، يفرّ المؤمنون من هذه المواجهة لجهنم وأهلها، إلى حيث يلقون الله برحمته ورضوانه: «رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا.. رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ».. فهذا كل ما بين أيديهم أن يقدموه بين يدى رحمة الله ومغفرته، لينالوا الخلاص من هذا الهول الذي يطبق على المنافقين والكافرين، وليكونوا فى أصحاب الجنّة التي وعد المتقون.. إنهم حين سمعوا منادى الله ينادى بالإيمان ويدعوهم إليه، استجابوا لله، وآمنوا به، وبرسوله.. وهم بهذا الإيمان يطمعون فى رحمته، ويرجون أن تغفر ذنوبهم، وأن تكفّر عنهم سيئاتهم، وأن يموتوا حين يموتون
673
على البر والتقوى، وأن يحشروا مع الأبرار والأتقياء.. فهم على وعد من الله، وعدوا به على لسان رسله: «مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» (٩٧: النحل).. وهم يحيون أنفسهم وينعشونها بالحديث عن هذا الموعد الكريم: «رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ.. إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ».. ومعاذ الله.. إن الله لا يخلف وعده..
«فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ» وفى قوله تعالى: «بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ» إشارة صريحة إلى أن المرأة والرجل على سواء عند الله، فى الجزاء، ثوابا أو عقابا، وأنها ليست فى منزلة دون منزلة الرجل، بل هما على درجة واحدة من الأهلية واحتمال التّبعة، وحمل الأمانة.. وكيف لا يكون هذا وهما- المرأة والرجل- من خلق واحد..
فالمرأة تلد الذكر والأنثى.. والرجل يولد له الذكر والأنثى.. والذكر ولد الأنثى، والأنثى بنت الرجل.. فكيف يكون لأحدهما فضل على الآخر قائما على أصل الخلقة؟ فإن كان ثمة فضل فهو فيما يتفاضل فيه الناس، بالعمل فى مجال الخير والإحسان.
وفى قوله تعالى: «ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» إشارة إلى أن هذا الجزاء الذي يجزونه، هو فضل عليهم من الله سبحانه وتعالى، إذ هداهم إلى الإيمان، ووفقهم للعمل الصالح، الذي أنزلهم منازل الرضا والقبول عند الله.
674
الآيتان: (١٩٦- ١٩٧) [سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٩٦ الى ١٩٧]
لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (١٩٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٩٧)
التفسير: فى هذه المناجاة التي كانت تسبح فيها أرواح المؤمنين فى رحاب الله، وترفّ بها على مشارف الملأ الأعلى، يؤذّن فيهم بالعودة إلى عالمهم الذي يعيشون فيه، العالم الأرضى، إذ كان لا بدّ من العودة بعد هذه الرحلة المسعدة فى عالم الروح، والحق، والنور، لأن الحياة تدعوهم إليها، ليكونوا مع النّاس، وليعيشوا فى الناس! ومع ما معهم من زاد طيب تزوّدوا به فى تلك الرحلة المسعدة، فإن ما على الأرض من مفاسد وشرور، وما فى النّاس من مفسدين وأشرار، جدير به أن يغتال هذا الزاد الطيب، وأن يحرم أصحابه منه إذا لم يحذروا.
ولهذا فقد تلقّاهم الله سبحانه وتعالى بتلك اللفتة الكريمة- تلقاهم وهم يهبطون إلى هذا العالم الأرضى، ليأخذوا حذرهم من العدوّ الراصد لهم بما فى يديه من مفاتن ومفاسد، وليظلوا هكذا محتفظين بما وقع لأيديهم من خير، فى تطوافهم بالعالم العلوي، وسبحهم فيه..
وكان قوله تعالى مخاطبا نبيّه الكريم: «لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ» هو اليد القويّة الرّحيمة، التي تمسك على المؤمنين إيمانهم، وتثبت على طريق الحق والخير خطوهم، فلا يغريهم ما يغدو فيه الكافرون وما يروحون، من متاع الحياة وزخرفها، وما يحصّلون فيها من مال، وما يقع لأيديهم من جاه وسلطان، فذلك كله «مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ».
وفى خطاب النبىّ الكريم بهذا النهى ومواجهته بالتحذير مما فيه..
ما يلقى إلى المؤمنين أن يكونوا على حذر دائم، وإشفاق متصل.. إذ كان النبىّ الكريم، وهو ما هو فى صلته بربه وخشيته منه، وفى رعاية الله له، وعصمته من الزلل- يواجه بهذا التحذير، ويلفت إلى مراقبة نفسه، وحراستها، فإن غير النبىّ من المؤمنين أولى بأن يحذر ويخشى العدوّ المتربص به، إن أراد النجاة والسلامة.
الآية: (١٩٨) [سورة آل عمران (٣) : آية ١٩٨]
لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (١٩٨)
التفسير: انظر إلى ألطاف الله ورحمته بالمؤمنين..
فإن الله سبحانه وتعالى إذ يواجههم بهذا التحذير الذي لو انفرد بهم وحده لأقام نظرهم على طريق الخوف والمراقبة أبدا، إن هم أرادوا الوفاء به، أو كان فى استطاعتهم أن يفوا به! - إن الله سبحانه إذ يواجههم بهذا التحذير من جهة، يلقاهم من جهة أخرى بما يشرح صدورهم، ويدفىء قلوبهم بالأمل والرجاء، فى حياة طيبة ونعيم مقيم..
وبهذا تتوازن النظرتان: نظرتهم إلى العدوّ المتربص بهم، الذي يدعوهم إلى التفلت من طريق الحق ومجانبته، إلى طريق الضلال والغواية- ثم نظرتهم إلى ربّهم، وما يدعوهم إليه من رضوانه، ونعيم جناته.. وهنا يكون لهم بين النظرتين موقف، وإلى أي الطريقين منزع! «لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ».
فمن محصّل النظرتين، يجد المؤمنون أن ما يدعوهم إليه ربهم هو الخير، وأن ما أعد الله لهم هو الجدير بأن يحرص عليه، ويعمل العاملون له، وأن ما يسوس لهم به الشيطان، هو الضلال المهلك، والخسران المبين.
الآية: (١٩٩) [سورة آل عمران (٣) : آية ١٩٩]
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩٩)
التفسير: دعوة الحق والخير، دعوة تقوم على الفلاح والرشد، تستجيب لها النفوس الطيبة، وتتفتح لها القلوب السليمة، وتتقبلها العقول المتحررة من تلقيات الغواة والمفسدين. وإذ كان ذلك شأنها، فإنها ميراث الإنسانية كلها، وحظ مشاع فى الأمم والشعوب جميعا.
ودعوة الإسلام دعوة خالصة للحق والخير، استقبلتها النفوس الطيبة، وتداعت إليها القلوب السليمة، وعلقت بها العقول المتحررة، وسرعان ما كثر جند الله حولها، وتزاحم عباد الله على مواردها، ودخل الناس فى دين الله أفواجا.
ولكن فى حسد قاتل، وفى عداوة عمياء، وقف اليهود من هذه الدعوة موقف الخصام والكيد.. فبهتوا رسول الله وكذّبوه، وافتروا على الله، فبدلوا وغيّروا فى آياته التي بين أيديهم من كتب الله..
ومع هذا، فإن قلّة قليلة منهم، وكثير غيرهم من النصارى قد خرجوا
عن موكب هذا الركب الضالّ، فآمنوا بالله، وصدّقوا رسوله، كما كانوا مؤمنين بالله من قبل، ومصدقين برسل الله الذين دعوهم إلى الإيمان.
وفى إيمان هؤلاء الذين آمنوا من أهل الكتاب، ما يؤنس الذين آمنوا من المشركين، ويجىء إليهم بشاهد جديد على صحة دينهم وسلامته، إن كان فيهم من يحتاج إلى هذه الشهادة أو يلتفّت إليها، بعد أن شهد ما شهد من آيات الكتاب المبين، ومعجزات كلماته.
ثم إن فى هذا الإيمان تسفيها لمن وقف من الإسلام هذا الموقف المعادى له من أهل الكتاب، إذ كان فيهم تلك الطلائع الراشدة التي عرفت الحق فيه، ووجدت الخير معه، فآمنت واهتدت، على حين ظلوا هم فى ضلالهم يعمهون.
وفى قوله تعالى: «وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ» إشارة إلى الصلة الوثيقة التي تجمع بين رسالات الرسل ودعوات الأنبياء، وأنها كلها على طريق الحق، والخير.
وفى قوله سبحانه: «لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا» تعريض بعلماء اليهود وأحبارهم، وما افتروا على الله، وغيروا وبدلوا فى آياته، لقاء ثمن قليل، ومتاع زهيد!
الآية: (٢٠٠) [سورة آل عمران (٣) : آية ٢٠٠]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠)
التفسير: بهذه الآية الكريمة تختم سورة «آل عمران» التي كان أبرز ألوانها هذا اللون المصبوغ بدم المجاهدين فى سبيل الله، فى أولى معارك الإسلام، وعلى امتداد الطريق الذي ساروا فيه، من أول يومهم معه، إلى يوم أحد!!
678
فالمسلمون كانوا إلى يوم أحد فى مواجهة عواصف عاتية، تهبّ عليهم من كل جهة، وتطلع عليهم من كل أفق.
كانوا فى مكة قلّة مستضعفين، أخذتهم قريش بالبأساء والضرّاء، ففرّوا بدينهم وانخلعوا عن ديارهم وأهليهم فى غربة موحشة، لا يؤنسهم فيها غير دينهم، ولا يملأ عليهم حياتهم إلا آيات الله يرتلونها، ويسعدون بما تفيض عليهم من رحمة ورضوان.. وكانوا فى المدينة أعدادا قليلة، تتربص بهم قريش، وتعدّ العدة للقضاء عليهم، على حين يمكر بهم اليهود ويؤلّبون الناس على حربهم.
ثم إذا كان يوم بدر استروح المسلمون ريح النّصر، وتنفسوا أنفاس الرضا.. فلما جاءت موقعة أحد ألقت على المسلمين هموما ثقالا، وأطمعت فيهم أعداءهم، فأظهروا لهم ما كانوا يخفون من عداوة، وما كانوا يبيتون من عدوان..
وقد رأينا كيف كانت رحمة الله بالمسلمين ومواساته لهم، فيما نزل من آيات، بعد أحداث أحد.
والصبر هو زاد المؤمنين وعتادهم فى مسيرتهم إلى الله، وبلوغ مرضاته..
وبغير الصبر، وتوطين النفس على ما تكره، لا يستقيم خطو الإنسان أبدا على طريق الحق والخير، إذ كان ذلك الطريق دائما، موحشا، تعترض سالكه الحواجز والمزالق والعثرات! لهذا كانت تلك الآية الكريمة دعوة خالصة للصبر، تغرى المسلمين به، وتحرضهم عليه، وتفتح لهم طريق النجاح والفلاح بيده! «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا.. اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ».
679
فالصبر، والمصابرة، والمرابطة، وتقوى الله، هنّ اللائي يمكّنّ للمؤمن من أن يضع قدميه على طريق النجاح والفلاح، وأن يقطع هذا الطريق إلى غايته، فيظفر برضا الله، ويفوز برضوانه.
والصبر، هو القوة التي يلقى بها المرء المكاره والشدائد، فيحتملها فى إصرار وعزم، وفى غير وهن أو ضعف.. فذلك هو الصبر الذي يدعو إليه الإسلام، ويزكيّه، كما تدعو إليه رسالات السماء، وحكمة الحكماء.. وفى هذا يقول لقمان لابنه فيما يقول القرآن الكريم عنه: «وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ». (١٧: لقمان) والمصابرة، هى التجربة الحيّة للصبر، والمحكّ الذي يظهر به معدن الصبر عند الصابرين.. فليس الصبر درجة واحدة.. بل هو- شأنه شأن كل فضيله- درجات متفاوتة، تختلف حظوظ الناس منه، كلّ حسب وثاقة إيمانه، وقوة عزيمته.
وفى المصابرة مغالبة ومصاولة، بين الإنسان وبين الشدائد والمحن، التي يريد قهرها والغلب عليها، سواء كانت تلك الشدائد والمحن ممّا يعتمل فى نفسه من أهواء ونزعات، أو مما تسوق إليه الحياة من بلاء وامتحان! والمرابطة هى الثمرة المباركة من ثمار الصبر والمصابرة.. فإذا صبر الإنسان على المكروه، ثم صابر هذا المكروه على ثقله وامتداد الزمن به، فلم يضعف ولم يضجر، أسلمه ذلك إلى «المرابطة» التي يذلّ فيها المكروه ويصبح شيئا مألوفا.. وهكذا تتحول المكاره مع الصبر والمصابرة إلى أشياء أقرب إلى نفس الإنسان، وأشكل بطبيعته، وهكذا يصبح معتادا لها، مرتبطا بها..
وبهذا يحصل على الثمرة الكبرى، وهى التقوى، التي لا تكون إلا بقهر شهوات النفس وأهوائها، وذلك هو الفلاح المبين والفوز العظيم.
680
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
«لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا » وإعادة الفعل «تحسبن» هنا