تفسير سورة النساء

التفسير الوسيط لطنطاوي
تفسير سورة سورة النساء من كتاب التفسير الوسيط المعروف بـالتفسير الوسيط لطنطاوي .
لمؤلفه محمد سيد طنطاوي . المتوفي سنة 1431 هـ
المجلد الثالث

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.
وبعد : فإن خير ما اشتغل به العقلاء، هو خدمة كتاب الله –تعالى-، الذي أنزله –سبحانه- على قلب محمد –صلى الله عليه وسلم- لكي يخرج الناس من الظلمات إلى النور.
ولقد عني المسلمون منذ فجر الإسلام عناية كبرى بشأن القرآن الكريم. وقد شملت هذه العناية جميع نواحيه، وأحاطت بكل ما يتصل به، وكان لها آثارها المباركة النافعة التي استفاد منها كل مظهر من مظاهر النشاط الفكري والعملي عرفه الناس في حياتهم الروحية والمادية.
وكان من أبرز مظاهر هذه العناية بشأن القرآن الكريم، الاشتغال بتفسيره وتأويله على قدر الطاقة البشرية.
ولقد سبق لي أن كتبت تفسيراً وسيطا لسور : الفاتحة، والبقرة، وآل عمران.
ويسعدني أن أتبع ذلك بتفسير لسورة النساء، حاولت فيه أن أكتب عما اشتملت عليه هذه السورة الكريمة من هدايات جامعة، وتشريعات حكيمة وتوجيهات رشيدة، وآداب سامية، من شأنها أن توصل المتمسكين بها إلى طريق السعادة في دنياهم وآخرتهم.
وقبل أن أبدأ في تفسير آيات هذه السورة الكريمة بالتفصيل والتحليل. رأيت من الخير أن أسوق بين يديها تعريفاً بها، يتناول زمان نزولها، وعدد آياتها، وسبب تسميتها بهذا الاسم، ومناسبتها لما قبلها، والمقاصد الإجمالية التي اشتملت عليها.
والله نسأل أن يوفقنا لخدمة كتابه، وأن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه، ونافعا لعباده، إنه أكرم مسئول وأعظم مأمول.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
محمد سيد طنطاوي
شيخ الأزهر
تمهيد بين يدي السورة
١- سورة النساء هي الرابعة في ترتيب المصحف. فقد سبقتها سورة الفاتحة، والبقرة، وآل عمران.
ويبلغ عدد آياتها خمسا وسبعين ومائة آية عند علماء الحجاز والبصريين، ويرى الكوفيون أن عدد آياتها ست وسبعون ومائة آية، لأنهم عدوا قوله –تعالى- [ أن تضلوا السبيل ] آية.
ويرى الشاميون أن عدد آياتها سبع وسبعون ومائة آية، لأنهم عدوا قوله –تعالى- [ وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذاباً أليما ] آية.
كما أنهم وافقوا الكوفيين في أن قوله –تعالى- [ أن تضلوا السبيل ] آية.
أما علماء الحجاز والبصريين فيرون أن ما ذكره الكوفيون والشاميون إنما هو جزء من آية وليس آية كاملة.
٢- وسورة النساء من السور المدنية. وكان نزولها بعد سورة الممتحنة ويؤيد أنها مدنية ما رواه البخاري عن عائشة –رضي الله عنها- قالت : " ما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
ومن المتفق عليه عند العلماء أن دخوله صلى الله عليه وسلم على عائشة كان بعد الهجرة. وروى العوفي عن ابن عباس أنه قال : نزلت سورة النساء بالمدينة. وكذا روى ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير وزيد بن ثابت.
قال الألوسي : " وزعم بعض الناس أنها مكية. مستندا إلى أن قوله –تعالى- :[ إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها... ] نزلت بمكة في شأن مفتاح الكعبة. وتعقبه السيوطي بأن ذلك مستند واه، لأنه لا يلزم من نزول آية أوآيات بمكة، من سورة طويلة، نزل معظمها بالمدينة، أن تكون مكية. خصوصا أن الأرجح أن ما نزل بعد الهجرة فهو مدني. ومن راجع أسباب نزولها عرف الرد عليه " ( ١ ).
والحق، أن الذي يقرأ سورة النساء من أولها إلى آخرها بتدبر وإمعان، يرى في أسلوبها وموضوعاتها سمات القرآن المدني. فهي زاخرة بالحديث عن الأحكام الشرعية : من عبادات ومعاملات وحدود. وعن علاقة المسلمين ببعضهم وبغيرهم. وعن أحوال أهل الكتاب والمنافقين، وعن الجهاد في سبيل الله. إلى غير ذلك من الموضوعات التي يكثر ورودها في القرآن المدني.
ومن هنا قال القرطبي : " ومن تبين أحكامها علم أنها مدنية لا شك فيها " ( ٢ ).
٣- وسورة النساء سميت بهذا الاسم ؛ لأن ما نزل منها في أحكام النساء أكثر مما نزل في غيرها.
وكثيراً ما يطلق عليها اسم " سورة النساء الكبرى " تمييزا لها عن سورة أخرى عرضت لبعض شئون النساء وهي " سورة الطلاق " التي كثيرا ما يطلق عليها اسم " سورة النساء الصغرى ".
٤- ومن وجوه المناسبة بين هذه السورة وبين سورة آل عمران التي قبلها : أن سورة آل عمران اختتمت بالأمر بالتقوى في قوله –تعالى- :[ يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون ] وسورة النساء افتتحت بالأمر بالتقوى. قال –تعالى- :[ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ].
قال الآلوسي : " وذلك من آكد وجوه المناسبات في ترتيب السور. وهو نوع من أنواع البديع يسمى في الشعر : تشابه الأطراف. وقوم يسمونه بالتسبيغ. وذلك كقول ليلى الأخيلية :
إذا نزل الحجاج أرضا مريضة تتبع أقصى دائها فشفاها
شفاها من الداء العضال الذي بها غلام إذا هز القناة رواها
رواها فأرواها بشرب سجالها دماء رجال حيث نال حشاها( ٣ ).
ومنها أن في سورة آل عمران تفصيلا لغزوة أحد. وفي سورة النساء حديث موجز عنها في قوله –تعالى- :[ فمالكم في المنافقين فئتين والله أرسكهم بما كسبوا ].
وكما في قوله –تعالى- :[ ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون ].
ومنها : أن في كلتا السورتين محاجة لأهل الكتاب، وبيانا لأحوال المنافقين، وتفصيلا لأحكام القتال.
ومن أمعن نظره –كما يقول الألوسي- وجد كثيرا مما ذكر في هذه السورة مفصلا لما ذكر فيما قبلها. فحينئذ يظهر مزيد الارتباط وغاية الاحتباك ".
٥- ومن الآثار التي وردت في فضل سورة النساء، ما رواه قتادة عن ابن عباس أنه قال : ثماني آيات نزلت في سورة النساء خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت.
أولهن :[ يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم ].
والثانية :[ والله يريد أن يتوب عليكم. ويريد اللذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما ].
والثالثة :[ يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا ].
والرابعة :[ إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ].
والخامسة :[ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيائتكم ].
والسادسة :[ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ].
والسابعة :[ ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله ].
والثامنة :[ ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيما ]( ٤ ).
وكأن ابن عباس –رضي الله عنهما- قد نظر إلى ما تدل عليه هذه الآيات الكريمة من فضل الله على عباده. ورحمة بهم، وفتح لباب التوبة والمغفرة في وجوههم، وإلا فإن القرآن كله بكل سوره وآياته خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت.
٦- هذا، وسورة النساء تعتبر أطول سورة مدنية بعد سورة البقرة، وإنك لتقرؤها بتدبر وتفهم فتراها قد اشتملت على مقاصد عالية، وآداب سامية. وتوجيهات حكيمة، وتشريعات جليلة.
تراها تنظم المجتمع الإسلامي تنظيمة دقيقاً قويما، يؤدي اتباعه إلى سعادة المجتمع واستقراره داخليا وخارجيا.
فأنت تراها في مطلعها تحض الناس على تقوى الله والخشية منه، وتبين الارتباط الإنساني الجامع الذي تلتقي عنده البشرية جميعاً.
قال –تعالى- [ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيراً ونساء ].
وإذا كان الناس جميعا ينتهون إلى أصل واحد، فإن هذا الاتحاد يقتضي منهم أن يكونوا متراحمين متعاطفين، ومن أبرز مظاهر التراحم، الأخذ بيد الضعفاء ومعاونتهم في كل ما يحتاجون إليه.
لذا نجد السورة الكريمة بعد أن تفتتح بأمرالناس بتقوى الله، تتبع ذلك بالأمر بالإحسان إلى اليتامى –الذين هم أوضح الضعفاء مظهرا- في خمس آيات في الربع الأول منها.
وهذه الآيات هي قوله –تعالى- :[ وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ].
وقوله –تعالى- :[ وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ].
وقوله –تعالى- :[ وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ].
وقوله –تعالى- :[ وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه ].
وقوله –تعالى- :[ إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا ].
ولم تكتف السورة الكريمة في أوائلها بالحض على الإحسان إلى اليتامى، بل حضت –أيضا- على الإحسان إلى النساء، وإعطائهن حقوقهن كاملة.
ثم تراها بعد ذلك في الربع الثاني منها تتحدث عن التوزيع المالي للأسرة عندما يموت واحد منها، وتضع لهذا التوزيع أحكم الأسس وأعدلها وأضبطها وتبين أن هذا التوزيع حد من حدود الله التي يجب التزامها وعدم مخالفتها.
قال –تعالى- :[ تلك حدود الله، ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم، ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين ].
ثم تحدثت السورة الكريمة عن حكم النسوة اللاتي يأتين الفاحشة، وعن التوبة التي يقبلها الله –تعالى-، والتوبة التي لا يقبلها. ووجهت نداء إلى المؤمنين نهتهم فيه عن أخذ شيء من حقوق النساء، وأمرتهم بحسن معاشرتهن، كما نهتهم عن نكاح أنواع معينة منهن، لأن نكاحهن يتنافى مع شريعة الإسلام وآدابه.
قال –تعالى- :[ ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف، إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا ].
ثم تراها في الربع الثالث منها تتحدث عن المحصنات من النساء وعن حقوقهن، وبينت للناس أن الله –تعالى- ما شرع هذه الأحكام القويمة إلا لمصلحتهم ومنفعتهم.
استمع إلى السورة الكريمة وهي تحكي هذا المعنى فتقول :[ يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم. والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما. يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا ].
ثم صرحت السورة الكريمة بأن للرجال القوامة على النساء، وذكرت ضروب التأديب التي يملكها الرجل على زوجته، وكلها من غير قسوة ولا شذوذ ولا طغيان، ودعت أهل الخير إلى الإصلاح بين الزوجين إذا ما نشب بينهما نزاع أو شقاق.
قال –تعالى- :[ وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها، إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما، إن الله كان عليما خبيرا ].
وبعد أن فصلت السورة الكريمة الحديث عما يجب أن تكون عليه العلاقة بين الزوجين، وبين أفراد الأسرة، انتقلت في الربع الرابع منها إلى بيان العلاقة بين العبد وخالقه، وأنها يجب أن تقوم على إخلاص العبادة له –سبحانه- كما يجب على المسلم أن يجعل علاقته مع والديه ومع أقاربه ومع اليتامى والمساكين. وغيرهم، قائمة على الإحسان وعلى التعاطف والتراحم.
ثم توعدت السورة الكريمة من يشرك بالله، ويخالف أوامره بالعذاب الأليم. وبينت أن الكافرين سيندمون أشد الندم على كفرهم يوم القيامة ولكن ندمهم لن ينفعهم، لأنه جاء بعد فوات الأوان.
قال –تعالى- [ يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول، لو تسوى
١ - تفسير الألوسي ج٤ ص١٧٨ طبعة منير الدمشقي..
٢ - تفسير القرطبي ج٥ ص١. طبعة دار الكتب المصرية سنة ١٣٥٦هـ سنة ١٩٣٧م..
٣ - تفسير الألوسي ج٤ ص١٧٨..
٤ - تفسير ابن كثير ج١ ص٤٤٨، طبعة عيسى الحلبي..

التفسير قال تعالى:
[سورة النساء (٤) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (١)
افتتحت السورة الكريمة بهذا النداء الشامل لجميع المكلفين من وقت نزولها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وذلك لأن لفظ الناس لا يختص بقبيل دون قبيل، ولا بقوم دون قوم، وقد دخلته الألف واللام المفيدة للاستغراق ولأن ما في مضمون هذا النداء من إنذار وتبشير وأمر بمراقبة الله وخشيته، يتناول جميع المكلفين لا أهل مكة وحدهم كما ذكره بعضهم لأن تخصيص قوله- تعالى- يا أَيُّهَا النَّاسُ بأهل مكة تخصيص بغير مخصص.
والمراد بالنفس الواحدة هنا: آدم- عليه السلام-. وقد جاء الوصف وهو واحدة بالتأنيث باعتبار لفظ النفس فإنها مؤنثة.
ومن في قوله مِنْها للتبعيض. والضمير المؤنث «ها» يعود إلى النفس الواحدة.
والمراد بقوله- تعالى-: زَوْجَها حواء فإنها أخرجت من آدم كما يقتضيه ظاهر قوله- تعالى- مِنْها.
قال الفخر الرازي ما ملخصه: «المراد من هذا الزوج هو حواء. وفي كون حواء مخلوقة من آدم قولان:
الأول: وهو الذي عليه الأكثرون: أنه لما خلق الله- تعالى- آدم ألقى عليه النوم؟ ثم خلق حواء من ضلع من أضلاعه، فلما استيقظ رآها ومال إليها وألفها، لأنها كانت مخلوقة من
19
جزء من أجزائه. واحتجوا عليه بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن المرأة خلقت من ضلع أعوج فإن ذهبت تقيمها كسرتها وإن تركتها وفيها عوج استمتعت بها».
والقول الثاني: وهو اختيار أبى مسلم الأصفهاني: أن المراد من قوله وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها أى من جنسها. وهو كقوله- تعالى- وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً.
وكقوله إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ وقوله لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ.
قال القاضي: والقول الأول أقوى، لكي يصح قوله: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ، إذ لو كانت حواء مخلوقة ابتداء لكان الناس مخلوقين من نفسين لا من نفس واحدة «١».
وقد تضمن هذا النداء لجميع المكلفين تنبيهم إلى أمرين:
أولهما: وحدة الاعتقاد بأن ربهم جميعا واحد لا شريك له. فهو الذي خلقهم وهو الذي رزقهم، وهو الذي يميتهم وهو الذي يحييهم، وهو الذي أوجد أبيضهم وأسودهم، وعربيهم وأعجميهم.
وثانيهما: وحدة النوع والتكوين، إذ الناس جميعا على اختلاف ألسنتهم وألوانهم وأجناسهم قد انحدروا عن أصل واحد وهو آدم- عليه السلام-.
فيجب أن يشعر الجميع بفضل الله عليهم. وأن يخلصوا له العبادة والطاعة، وأن يتعاونوا على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان، وأن يوقنوا بأنه لا فضل لجنس على جنس، ولا للون على لون إلا بمقدار حسن صلتهم بربهم ومالكهم ومدبر أمورهم.
والمعنى: يا أيها الناس اتقوا ربكم بأن تطيعوه فلا تعصوه، وبأن تشكروه فلا تكفروه، فهو وحده الذي أوجدكم من نفس واحدة هي نفس أبيكم آدم، وذلك من أظهر الأدلة على كمال قدرته- سبحانه، ومن أقوى الدواعي إلى اتقاء موجبات نقمته، ومن أشد المقتضيات التي تحملكم على التعاطف والتراحم والتعاون فيما بينكم، إذ أنتم جميعا قد أوجدكم- سبحانه- من نفس واحدة.
وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله: «فإن قلت: الذي يقتضيه سداد نظم الكلام وجزالته، أن يجاء عقيب الأمر بالتقوى بما يوجبها أو يدعو إليها ويحث عليها فكيف كان خلقه إياهم من نفس واحدة على التفصيل الذي ذكره موجبا للتقوى وداعيا إليها؟
قلت: لأن ذلك مما يدل على القدرة العظيمة. ومن قدر على نحوه كان قادرا على كل شيء،
(١) تفسير الفخر الرازي ج ٩ ص ١٦١ طبعة عبد الرحمن محمد- الطبعة الأولى سنة ١٣٥٧ هـ سنة ١٩٣٨ م.
20
ولأنه يدل على النعمة السابغة عليهم، فحقهم أن يتقوه في كفرانها والتفريط فيما يلزمهم من القيام بشكرها. أو أراد بالتقوى تقوى خاصة، وهي أن يتقوه فيما يتصل بحفظ الحقوق بينهم، فلا يقطعوا ما يجب عليهم وصله فقيل: اتقوا ربكم الذي وصل بينكم حيث جعلكم صنوانا مفرعة من أرومة واحدة فيما يجب على بعضكم لبعض، فحافظوا عليه ولا تغفلوا عنه، وهذا المعنى مطابق لمعانى السورة» «١».
وقوله: وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها معطوف على قوله خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ. أو معطوف على محذوف والتقدير: خلقكم من نفس واحدة ابتدأها وخلق منها زوجها.
ثم بين- سبحانه- ما ترتب على هذا الازدواج من تناسل فقال: وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً.
والبث معناه: النشر والتفريق. يقال: بث الخيل في الغارة، أى فرقها ونشرها. ويقال:
بثثت البسط إذا نشرتها. قال- تعالى- وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ أى منشورة.
والمعنى: ونشر وفرق من تلك النفس الواحدة وزوجها على وجه التوالد والتناسل، رجالا كثيرا ونساء كثيرة.
والتعبير بالبث يفيد أن هؤلاء الذين توالدوا وتناسلوا عن تلك النفس وزوجها، قد تكاثروا وانتشروا في أقطار الأرض على اختلاف ألوانهم ولغاتهم، وأن من الواجب عليهم مهما تباعدت ديارهم، واختلفت ألسنتهم وأشكالهم أن يدركوا أنهم جميعا ينتمون إلى أصل واحد، وهذا يقتضى تراحمهم وتعاطفهم فيما بينهم. وقوله كَثِيراً صفة لقوله رِجالًا وهو صفة مؤكدة لما أفاده التنكير من معنى الكثرة. وجاء الوصف بصيغة الإفراد، لأن كَثِيراً وإن كان مفردا لفظا إلا أنه دال على معنى الجمع. واستغنى عن وصف النساء بالكثرة، اكتفاء بوصف الرجال بذلك، ولأن الفعل بَثَّ يقتضى الكثرة والانتشار.
وقال الفخر الرازي: خصص وصف الكثرة بالرجال دون النساء، لأن شهرة الرجال أتم، فكانت كثرتهم أظهر، فلا جرم خصوا بوصف الكثرة. وهذا كالتنبيه على أن اللائق بحال الرجال الاشتهار والخروج والبروز. واللائق بحال النساء الاختفاء والخمول» «٢».
وقوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ تكرير للأمر بالتقوى لتربية المهابة في النفس وتذكير ببعض آخر من الأمور الموجبة لخشية الله وامتثال أوامره. وقوله تَسائَلُونَ أصلها تتساءلون فطرحت إحدى التاءين تخفيفا. وهي قراءة عاصم وحمزة الكسائي.
(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٤٦٣.
(٢) تفسير الفخر الرازي ج ٩ ص ١٦٢.
21
وقرأ الباقون «تساءلون» بالتشديد بإدغام تاء التفاعل في السين لتقاربهما في الهمس.
والأرحام: جمع رحم وهي القرابة. مشتقة من الرحمة، لأن ذوى القرابة من شأنهم أن يتراحموا ويعطف بعضهم على بعض.
وكلمة الْأَرْحامَ قرأها الجمهور بالنصب عطفا على اسم الله تعالى.
والمعنى واتقوا الله الذي يسأل بعضكم بعضا به، بأن يقول له على سبيل الاستعطاف:
أسألك بالله أن تفعل كذا، أو أن تترك كذا. واتقوا الأرحام أن تقطعوها فلا تصلوها بالبر والإحسان، فإن قطيعتها وعدم صلتها مما يجب أن يتقى ويبتعد عنه، وإنما الذي يجب أن يفعل هو صلتها وبرها.
وقرأها حمزة بالجر عطفا على الضمير المجرور في (به). أى: اتقوا الله الذي تساءلون به وبالأرحام بأن يقول بعضكم لبعض مستعطفا أسألك بالله وبالرحم أن تفعل كذا.
وقد كان من عادة العرب أن يقرنوا الأرحام بالله تعالى- في المناشدة والسؤال فيقولون:
اسألك بالله وبالرحم.
ولم يرتض كثير من النحويين هذه القراءة من حمزة، وقالوا: إنها تخالف القواعد النحوية التي تقول: إن عطف الاسم الظاهر على الضمير المجرور المتصل بدون إعادة الجار لا يصح، لأن الضمير المجرور المتصل بمنزلة الحرف، والحرف لا يصح عطف الاسم الظاهر عليه، ولأن الضمير المجرور كبعض الكلمة لشدة اتصاله بها، وكما أنه لا يجوز أن يعطف على بعض الكلمة فكذلك لا يجوز أن يعطف عليه. إلى غير ذلك مما قالوه في تضعيف هذه القراءة. وقد دافع كثير من المفسرين عن هذه القراءة التي قرأها حمزة. وأنكروا على النحويين تشنيعهم عليه.
ومما قاله القرطبي في دفاعه عن صحة هذه القراءة: ومثل هذا الكلام- أى من النحويين- مردود عند أئمة الدين، لأن القراءات التي قرأ بها أئمة القراء ثبتت عن النبي ﷺ تواترا يعرفه أهل الصنعة، وإذا ثبت شيء عن النبي ﷺ فمن رد ذلك فقد رد على النبي ﷺ واستقبح ما قرأ به.
وهذا مقام محذور، ولا يقلد فيه أئمة اللغة والنحو، فإن العربية تتلقى من النبي ﷺ ولا يشك أحد في فصاحته.
ثم قال: والكوفي يجيز عطف الظاهر على الضمير المجرور ولا يمنع منه، ومنه قولهم:
فاذهب فما بك والأيام من عجب «١»
(١) تفسير القرطبي ج ١ ص ٣ وما بعدها- بتصرف وتلخيص. [.....]
22
ومما قاله الفخر الرازي في ذلك: واعلم أن هذه الوجوه- أى التي احتج بها النحويون في تضعيف قراءة حمزة- ليست وجوها قوية في رفع الروايات الواردة في اللغات وذلك لأن حمزة أحد القراء السبعة، ولم يأت بهذه القراءة من عند نفسه، بل رواها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك يوجب القطع بصحة هذه اللغة، والقياس يتضاءل عند السماع لا سيما بمثل هذه الأقيسة التي هي أوهن من بيت العنكبوت.
وأيضا فلهذه القراءة وجهان:
أحدهما: أنها على تقدير تكرير الجار. كأنه قيل: تساءلون به وبالأرحام.
وثانيهما: أنه ورد ذلك في الشعر ومنه:
نعلق في مثل السواري سيوفنا وما بينها والكعب غوط نفانف
ثم قال: والعجب من هؤلاء النحاة أنهم يستحسنون إثبات هذه اللغة بمثل هذه الأبيات المجهولة، ولا يستحسنون إثباتها بقراءة حمزة ومجاهد، مع أنهما كانا من أكابر علماء السلف في علم القرآن» «١».
هذا، وهناك قراءة بالرفع. قال الآلوسى: وقرأ ابن زيد وَالْأَرْحامَ بالرفع على أنه مبتدأ محذوف الخبر. أى والأرحام كذلك أى مما يتقى لقرينة اتَّقُوا. أو مما يتساءل به لقرينة تَسائَلُونَ «٢».
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بما يحمل العقلاء على المبالغة في تقوى الله، وفي صلة الرحم فقال- تعالى: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً. أى حافظا يحصى عليكم كل شيء. من رقبه إذا حفظه.
أو مطلعا على جميع أحوالكم وأعمالكم، ومنه المرقب للمكان العالي الذي يشرف منه الرقيب ليطلع على ما دونه.
وقد أكد- سبحانه- رقابته على خلقه، واطلاعه على جميع أحوالهم بأوثق المؤكدات. فقد أكد- سبحانه- الجملة الكريمة بإن، وبتكرار لفظ الجلالة الذي يبعث في النفوس كل معاني الخشية والعبودية له، وبالتعبير بكان الدالة على الدوام والاستمرار، وبذكر الفوقية التي يدل عليها لفظ عَلَيْكُمْ إذ هو يفيد معنى الاطلاع الدائم مع السيطرة والقهر، وبالإتيان بصيغة المبالغة وهي قوله: رَقِيباً أى شديد المراقبة لجميع أقوالكم وأعمالكم فهو يراها ويعلمها
(١) تفسير الفخر الرازي ج ٩ ص ١٦٣- بتصرف وتلخيص.
(٢) تفسير الآلوسي ج ٤ ص ١٨٥.
23
وسيحاسبكم عليها يوم القيامة.
وقد أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة: وجوب مراقبته- سبحانه- وخشيته وإخلاص العبادة له، لأنه هو الذي أوجدهم من نفس واحدة، وهو الذي أوجد من هذه النفس الموحدة زوجها، وهو الذي أوجد منها عن طريق التناسل الذكور والإناث الذين يملؤون أقطار الأرض على اختلاف صفاتهم وألوانهم ولغاتهم، وهو الذي لا تخفى عليه خافية من أحوالهم، بل هو مطلع عليهم وسيحاسبهم على أعمالهم يوم الدين، ومن كان كذلك فمن حقه أن يتقى ويخشى ويطاع ولا يعصى.
كما أخذوا منها جواز المسألة بالله- تعالى- لأنه- سبحانه- قد أقرهم على هذا التساؤل لكونهم يعتقدون عظمته وقدرته.
وقد ورد في هذا الباب أحاديث متعددة منها ما أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من استعاذ بالله فأعيذوه، ومن سألكم بالله فأعطوه، ومن دعاكم فأجيبوه. ومن أسدى إليكم معروفا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئون به فادعوا له حتى تعلموا أن قد كافأتموه».
نعم من أداه التساؤل باسمه- تعالى- إلى التساهل في شأنه، وجعله عرضة لعدم إجلاله، فإنه يكون محظورا قطعا. وعليه يحمل ما ورد من أحاديث تصرح بلعن من سأل بوجه الله.
ومنها ما رواه الطبراني عن أبى موسى الأشعرى مرفوعا: ملعون من سأل بوجه الله. وملعون من سئل بوجه الله ثم منع سائله ما لم يسأل هجرا. أى ما لم يسأل أمرا قبيحا لا يليق.
كما أخذوا منها أيضا وجوب صلة الرحم، فقد جعل- سبحانه- الإحسان طلى الآباء وإلى الأقارب في المنزلتين الثانية والثالثة بعد الأمر بعبادته فقال: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً، وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ «١».
ومن الأحاديث التي وردت في وجوب صلة الرحم ما رواه البخاري عن أبى هريرة قال:
«سمعت رسول الله ﷺ يقول: من سره أن يبسط له في رزقه، وأن ينسأ له في أجله، فليصل رحمه.
وأخرج الإمام مسلم في صحيحه عن عائشة- رضي الله عنها- عن النبي ﷺ قال: الرحم معلقة بالعرش. تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله.
وأخرج البخاري عن عبد الله بن عمرو عن النبي ﷺ أنه قال: ليس الواصل بالمكافئ.
(١) سورة النساء الآية ٣٦.
24
ولكن الواصل من إذا قطعت رحمه وصلها.
إلى غير ذلك من الأحاديث التي وردت في الترغيب في صلة الرحم والترهيب من قطيعتها.
ثم شرع- سبحانه- في تفصيل موارد الاتقاء ومظانه، فابتدأ بأحق الناس بالرحمة والمودة، وهم اليتامى فقال- تعالى-:
[سورة النساء (٤) : الآيات ٢ الى ٣]
وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (٢) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (٣)
والأمر في قوله وَآتُوا يتناول كل من له ولاية أو وصاية أو صلة باليتيم، كما يتناول الجماعة الإسلامية بصفة عامة، لكي تتكاتف وتتعاون على تمكين اليتيم من وصول حقه إليه بدون بخس أو مماطلة.
والْيَتامى جمع يتيم وهو الصغير الذي مات أبوه، مأخوذ من اليتم بمعنى الانفراد. ومنه الدرة اليتيمة.
قال صاحب الكشاف وحق هذا الاسم أن يقع على الصغار والكبار لبقاء معنى الانفراد عن الآباء، إلا أنه قد غلب أن يسموا به قبل أن يبلغوا مبلغ الرجال، فإذا استغنوا بأنفسهم عن كافل وقائم عليهم، وانتصبوا كفاة يكفلون غيرهم ويقومون عليهم، زال عنهم هذا الاسم.
وكانت قريش تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يتيم أبى طالب إما على القياس، وإما حكاية للحال التي كان عليها صغيرا في حجر عمه. وأما قوله ﷺ «لا يتم بعد الحلم» فهو تعليم شريعة لا لغة.
أى أنه إذا احتلم لم تجر عليه أحكام الصغار» «١».
والمراد باليتامى هنا الصغار، والمراد بإيتائهم أموالهم حفظها لهم وعدم الطمع في شيء منها
(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٤٦٣.
25
لا من قبل الورثة ولا من قبل الأوصياء ولا من قبل غيرهم وعلى هذا المعنى يكون لفظ الإيتاء قد أول بلازم معناه وهو الحفظ والرعاية لمال اليتامى، لا تسليم المال إليهم لأنه من المعروف شرعا ألا يسلم المال إليهم إلا بعد البلوغ، إذ هم في حال الصغر لا يصلحون للتصرف.
ويكون هذا التعبير من باب الكناية بإطلاق اللازم- وهو الإيتاء، وإرادة الملزوم وهو الحفظ، أو من باب المجاز بالمآل إذ الحفظ يؤول إلى الإيتاء.
ويرى بعضهم أن المراد باليتامى هنا الكبار الذين أونس منهم الرشد وأن المراد بالإيتاء دفع أموالهم إليهم على سبيل الحقيقة.
ويكون التعبير عنهم باليتامى- مع أنهم كبار- باعتبار أن اسم اليتيم يتناول لغة كل من فقد أباه، أو باعتبار قرب عهدهم بالصغر، أو باعتبار ما كان أى الذين كانوا يتامى. قالوا: وفي التعبير عنهم باليتامى مع أنهم كبار، إشارة إلى وجوب المسارعة في تسليم أموالهم إليهم متى أونس منهم الرشد، حتى لكأن اسم اليتيم ما زال باقيا عليهم، غير منفصل عنهم:
ويبدو لنا أن الرأى الأول أولى، لأن الأمر بدفع أموال اليتامى إليهم. بعد بلوغهم قد جاء صريحا في قوله- تعالى- بعد ذلك: وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ.
فكان حمل الآية التي معنا على أن المراد باليتامى: الصغار، وبإيتاء أموالهم حفظها لهم، أولى وأقرب إلى المنطق، لأنه على الرأى الأول يكون الأمر وما يذكر به تأسيسات أحكام، وعلى الرأى الثاني يكون ما في الآية الثانية مؤكدا لما في الآية التي معنا. والتأسيس أولى من التأكيد.
ولأن قوله- تعالى- بعد ذلك في الآية التي معنا وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ- إنما هو تحذير للأوصياء والأولياء من الطمع في مال اليتيم أو إضاعته ما دام المال في أيديهم واليتيم في حجرهم، وهذا يؤيد هذا الرأى الأول القائل بأن المراد باليتامى: الصغار، وبإيتاء أموالهم: حفظها ورعايتها حتى تسلم إليهم عند بلوغهم كاملة غير منقوصة.
وقوله وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ معناه: لا تجعلوا رديء المال لهم بدل الجيد، بأن تأخذوا لأنفسكم كرائم الأموال ونفائسها، وتتركوا لهم الخسيس منها.
قال القرطبي: وكانوا في الجاهلية لعدم الدين لا يتحرجون عن أموال اليتامى فكانوا يأخذون الطيب من أموال اليتامى ويبدلونه بالرديء من أموالهم ويقولون اسم باسم، ورأس برأس، فنهاهم الله عن ذلك. وهذا قول سعيد بن المسيب والزهري والسدى والضحاك وهو
26
ظاهر الآية، إذ التبديل جعل شيء بدل شيء» «١».
ويرى صاحب الكشاف أن المراد بالخبيث: الحرام، وبالطيب: الحلال فقد قالوا:
وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ أى: ولا تستبدلوا الحرام وهو مال اليتامى بالحلال وهو مالكم وما أبيح لكم من المكاسب ورزق الله المبثوث في الأرض فتأكلوه مكانه، أو لا تستبدلوا الأمر الخبيث وهو اختزال أموال اليتامى بالأمر الطيب وهو حفظها والتورع عنها» «٢».
وقوله- تعالى- وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ نهى آخر عن الاعتداء على أموال اليتامى عن طريق خلط أموال اليتامى بأموال الأوصياء، والمراد من الأكل: مطلق الانتفاع والتصرف وخص الأكل بالذكر، لأنه معظم ما يقع لأجله التصرف.
والمعنى: ولا تضموا أيها الأوصياء أموال اليتامى إلى أموالكم في الإنفاق فتأكلوها مع أموالكم، وتسووا بينهما في الانتفاع، لأن أموالكم أحل الله لكم أكلها، أما أموال اليتامى فقد حرم الله عليكم أكلها.
فالآية الكريمة صريحة في النهى عن خلط مال اليتيم القاصر بمال الوصي عليه بقصد أكله، لأن هذا لون من ألوان الاستيلاء المحرم على أموال اليتامى، كما أنها تتضمن النهى عن خلط مال اليتيم بمال الوصي عليه ولو لم يقصد أكله، لأن هذا الخلط قد يؤدى إلى ضياعه وعدم تميزه فقد يموت الوصي فلا يعرف مال اليتيم من ماله، فيؤدى الأمر إلى أكله وإن لم يكن مقصودا، ولذا قال الفقهاء: إذا مات الوصي على اليتيم مجهلا مال اليتيم اعتبر مستهلكا له.
والخلاصة أن الآية الكريمة تحرم على الأولياء والأوصياء وغيرهم أن يتصرفوا في أموال اليتامى أى تصرف يؤدى إلى الإضرار بها، بل عليهم أن يحفظوها لهم حتى يدفعوها إليهم سالمة عند البلوغ.
هذا، وليس قيد «إلى أموالكم» محط النهى، بل النهى واقع على أكل أموال اليتامى مطلقا، سواء أكان للآكل مال يضم إليه مال اليتيم أم لم يكن. ولكن لما كان الغالب وجود أموال للأوصياء، وأنهم يريدون من أكل أموال اليتامى التكثر أو توفير أموالهم، جيء بهذا القيد رعاية لهذا الغالب، وليكون ذمهم على جشعهم وضعف دينهم أشد وأشنع حيث أكلوا حقوق اليتامى مع أنهم في غنى عنها بما رزقهم الله من أموال.
وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله: فإن قلت: قد حرم عليهم أكل مال اليتامى
(١) تفسير القرطبي ج ٥ ص ٨.
(٢) تفسير الكشاف ج ١ ص ١٦٥.
27
وحده ومع أموالهم فلم ورد النهى عن أكله معها؟ قلت: لأنهم إذا كانوا مستغنين عن أموال اليتامى بما رزقهم الله من مال حلال- وهم مع ذلك يطمعون فيها- كان القبح أبلغ والذم أحق، ولأنهم كانوا يفعلون ذلك فنعى عليهم فعلهم وسمع بهم ليكون أزجر لهم» «١».
ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله: إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً.
والحوب: اسم مصدر من حاب يحوب حوبا: إذا اكتسب إثما. يقال: فلان يتحوب أى يتأثم. والحوباء: النفس المرتكبة للإثم. ويقال في الدعاء: اللهم اغفر حوبتي، أى إثمى.
وأصله الزجر للإبل، فسمى الإثم حوبا لأنه يزجر عنه وبه.
والضمير في قوله إِنَّهُ يعود إلى أكل مال اليتيم بأى طريق محرم.
والمعنى: إن أكل مال اليتيم بأى طريقة من الطرق المحرمة كان إثما كبيرا، وذنبا عظيما، لأن هذا الأكل اعتداء على نفس ضعيفة فقدت من يعولها ومن يدافع عنها، ومن اعتدى على نفس ضعيفة، وضيع حقها، وخان الأمانة كان مرتكبا لذنب عظيم يؤدى به إلى العقوبة والعذاب الأليم.
والجملة بمنزلة التعليل للنهى عن أكل مال اليتيم، وعن الطمع بدون وجه حق فيها.
ثم شرع- سبحانه- في نهيهم عن منكر آخر كانوا يباشرونه فقال- تعالى-:
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ.
وقوله وَإِنْ خِفْتُمْ شرط، وجوابه قوله فَانْكِحُوا.
والمراد من الخوف: العلم، وعبر عنه بذلك للأشعار بكون المعلوم مخوفا محذورا. ويقوم الظن الغالب مقام العلم.
وقوله تُقْسِطُوا من الإقساط وهو العدل. يقال: أقسط الرجل إذا عدل. قال- تعالى-: وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ويقال: قسط الرجل إذا جار وظلم صاحبه.
قال- تعالى- أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً.
والمراد «باليتامى» : يتامى النساء. قال الزمخشري: ويقال للإناث اليتامى كما يقال للذكور وهو جمع يتيمة.
ومعنى ما طابَ لَكُمْ ما مالت إليه نفوسكم واستطابته من النساء اللائي أحل الله لكم نكاحهن.
(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٤٦٥.
28
هذا، وللعلماء أقوال في تفسير هذه الآية الكريمة منها: ما رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وغيرهم عن عروة بن الزبير أنه سأل عائشة- رضى الله عنها- عن هذه الآية فقالت: يا ابن أختى هي اليتيمة تكون في حجر وليها تشركه في ماله ويعجبه مالها وجمالها.
فيريد وليها أن يتزوجها من غير أن يقسط في صداقها، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره.
قال عروة: قالت عائشة: وإن الناس استفتوا رسول الله ﷺ بعد هذه الآية، فأنزل الله- تعالى-: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ.
قالت عائشة: وقول الله- تعالى- وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ رغبة أحدكم عن يتيمته حين تكون قليلة المال والجمال. قالت: فنهوا عن أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط، من أجل رغبتهم عنهن إذا كن قليلات المال والجمال «١» ».
وعلى هذه الرواية التي ساقها أئمة المحدثين عن عائشة في المراد من الآية الكريمة يكون المعنى: وإن علمتم أيها الأولياء على النساء اليتامى أنكم لن تعدلوا فيهن إذا تزوجتم بهن- بأن تسيئوا إليهن في العشرة، أو بأن تمتنعوا عن إعطائهن الصداق المناسب لهن- إذا علمتم ذلك فانكحوا غيرهن من النساء الحلائل اللائي تميل إليهن نفوسكم ولا تظلموا هؤلاء اليتامى بنكاحهن دون أن تعطوهن حقوقهن فإن الله- تعالى- قد وسع عليكم في نكاح غيرهن.
فالمقصود من الآية الكريمة على هذا المعنى: نهى الأولياء عن نكاح النساء اليتامى اللائي يلونهن عند خوف عدم العدل فيهن، إلا أنه أوثر التعبير عن ذلك بالأمر بنكاح النساء الأجنبيات، كراهة للنهى الصريح عن نكاح اليتيمات، وتلطفا في صرف المخاطبين عن نكاح اليتامى حال العلم بعدم العدل فيهن.
فكأنه- سبحانه- يقول: إن علمتم أيها الأولياء الجور والظلم في نكاح اليتامى اللائي في ولايتكم فلا تنكحوهن، وانكحوا غيرهن مما طاب لكم من النساء.
وعلى هذا القول الذي أورده المحدثون عن عائشة- رضى الله عنها- سار كثير من المفسرين في تفسير الآية الكريمة. وبعضهم اقتصر عليه ولم يذكر سواه.
قال بعض العلماء: وكلامها هذا أحسن تفسير لهذه الآية. وهي وإن لم تسند ما قالته إلى رسول الله، إلا أن سياق كلامها يؤذن بأنه عن توقيف ولذلك أخرجه البخاري في باب تفسير سورة النساء بسياق الأحاديث المرفوعة، اعتدادا بأنها ما قالت ذلك إلا عن معاينة حال النزول.
(١) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٤٥٠.
29
لا سيما وقد قالت: ثم إن الناس استفتوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وعليه فيكون إيجاز لفظ الآية اعتدادا بما فهمه الناس مما يعلمون من أحوالهم، وتكون قد جمعت إلى جانب حفظ حقوق اليتامى في أموالهم الموروثة، حفظ حقوقهم في الأموال التي يستحقها النساء اليتامى كمهور لهن عند الزواج بهن..» «١».
أما الرأى الثاني فيرى أصحابه أن الآية مسوقة للنهى عن نكاح ما فوق الأربع خوفا على أموال اليتامى أن يتلفها أولياؤهم.
وقد حكى هذا القول الإمام ابن جرير فقال: وقال آخرون بل معنى ذلك: النهى عن نكاح ما فوق الأربع، حذرا على أموال اليتامى أن يتلفها أولياؤهم وذلك أن قريشا كان الرجل منهم يتزوج العشر من النساء والأكثر والأقل، فإذا صار معدما مال على مال اليتيمة التي في حجره فأنفقه، أو تزوج به، فنهوا عن ذلك. وقيل لهم: إن أنتم خفتم على أموال أيتامكم أن تنفقوها فلا تعدلوا فيها من أجل حاجتكم إليها لما يلزمكم من مؤن نسائكم، - إن خفتم ذلك. فلا تجاوزوا فيما تنكحون من عدد النساء على أربع. وإن خفتم أيضا من الأربع ألا تعدلوا في أموالهم- أى أموال اليتامى-، فاقتصروا على الواحدة أو على ما ملكت أيمانكم «٢» - أى إن كان زواجكم بالأربع يؤدى إلى الجور في أموال اليتامى فاقتصروا على الزواج بامرأة واحدة-».
وقد انتصر ابن جرير لهذا القول وعده أرجح الأقوال، فقال ما ملخصه وإنما قلنا: إن ذلك أولى بتأويل الآية لأن الله- تعالى- افتتح الآية التي قبلها بالنهى عن أكل أموال اليتامى بغير حقها. ثم أعلمهم- هنا- المخلص من الجور في أموال اليتامى فقال: انكحوا إن أمنتم الجور في النساء على أنفسكم ما أبحت لكم منهن وحللته: مثنى وثلاث ورباع. فإن خفتم أيضا الجور على أنفسكم في أمر الواحدة فلا تنكحوها، ولكن تسروا من المماليك، فإنكم أحرى ألا تجوروا عليهن، لأنهن أملاككم وأموالكم، ولا يلزمكم لهن من الحقوق كالذي يلزمكم للحرائر، فيكون ذلك أقرب لكم إلى السلامة من الإثم والجور» «٣».
وينسب هذا الرأى إلى ابن عباس وسعيد بن جبير، والسدى، وقتادة، وعكرمة.
وقال مجاهد: إن الآية الكريمة مسوقة للنهى عن الزنا. وقد حكى هذا الرأى صاحب الكشاف فقال: كانوا لا يتحرجون من الزنا. ويتحرجون من ولاية اليتامى. فقيل لهم: إن
(١) تفسير التحرير والتنوير ج ٤ ص ٢٢ للشيخ محمد الطاهر بن عاشور.
(٢) تفسير ابن جرير ج ٤ ص ٢٢٣، طبعة الحلبي سنة ١٣٧٢ سنة ١٩٥٤ م.
(٣) تفسير ابن جرير ج ٤ ص ٢٣٥- بتصرف وتلخيص-.
30
خفتم الجور في حق اليتامى، فخافوا الزنا، فانكحوا ما حل لكم من النساء، ولا تحوموا حول المحرمات» «١».
هذه أشهر الأقوال في معنى الآية الكريمة، ويبدو لنا أن أرجحها أولها، لأنه هو الظاهر من معنى الآية، ولأن الغالب أن السيدة عائشة- رضى الله عنها- ما فسرت الآية بهذا التفسير الذي قالته لابن أختها عروة إلا عن توقيف ومعاينة لحال النزول، ولأن الملازمة بين الشرط والجزاء في الآية على هذا الوجه تكون ظاهرة. إذ التقدير وإن خفتم أيها الأولياء الجور والظلم في نكاح اليتامى اللاتي في ولايتكم فانكحوا من غيرهن ما طاب لكم من النساء.
أما على القول الثاني فمحل الملازمة بين الشرط والجزاء إنما هو فيما تفرع عن الجزاء وهو قوله فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ.
وعلى قول مجاهد تضعف الملازمة بين الشرط والجزاء.
هذا، والأمر في قوله فَانْكِحُوا- على التفسير الأول- للإباحة كما في قوله- تعالى- كُلُوا وَاشْرَبُوا خلافا للظاهرية الذين يرون أنه للوجوب. وما في قوله- تعالى- ما طابَ لَكُمْ
موصولة أو موصوفة. وما بعدها صلتها أو صفتها. وأوثرت على من: لأنها أريد بها الصفة وهو الطيب من النساء بدون تحديد لذات معينة، ولو قال فانكحوا من طاب لكم لتبادر إلى الذهن أن المراد نسوة طيبات معروفات بينهم.
وقوله- تعالى- مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ حال من فاعل طابَ المستتر أو من مرجعه- وهو ما-، أو بدل منه.
وهذه الكلمات الثلاث من ألفاظ العدد. وتدل كل واحدة منها على المكرر من نوعها. فمثنى تدل على اثنين اثنين. وثلاث تدل على ثلاثة ثلاثة. ورباع تدل على أربعة أربعة.
والمراد منها هنا: الإذن لكل من يريد الجمع أن ينكح ما شاء من العدد المذكور متفقين فيه ومختلفين.
والمعنى: فانكحوا ما طاب لكم من النساء معدودات هذا العدد: ثنتين ثنتين. وثلاثا ثلاثا.
وأربعا أربعا. حسبما تريدون وتستطيعون.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: الذي أطلق للناكح في الجمع أن يجمع بين ثنتين أو ثلاث أو أربع. فما معنى التكرير في مثنى وثلاث ورباع.
(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٤٦١.
31
قلت: الخطاب للجميع. فوجب التكرير ليصيب كل ناكح يريد الجمع ما أراد من العدد الذي أطلق له. كما تقول للجماعة: اقتسموا هذا المال- وهو ألف درهم-: درهمين درهمين، وثلاثة ثلاثة. وأربعة أربعة. ولو أفردت لم يكن له معنى.
فإن قلت: فلم جاء العطف بالواو دون أو؟
قلت: كما جاء بالواو في المثال الذي حذوته لك. ولو ذهبت تقول: اقتسموا هذا المال درهمين درهمين أو ثلاثة ثلاثة أو أربعة أربعة علمت أنه لا يسوغ لهم أن يقتسموه إلا على أحد أنواع هذه القسمة. وليس لهم أن يجمعوا بينها. فيجعلوا بعض القسم على تثنية، وبعضا على تثليث، وبعضا على تربيع، وذهب معنى تجويز الجمع بين أنواع القسمة الذي دلت عليه الواو.
وتحريره: أن الواو دلت على إطلاق أن يأخذ الناكحون من أرادوا نكاحهن من النساء على طريق الجمع: إن شاءوا مختلفين في تلك الأعداد، وإن شاءوا متفقين فيها، محظورا عليهم ما وراء ذلك» «١».
ثم بين- سبحانه- لعباده ما ينبغي عليهم فعله في حال توقعهم عدم العدل بين الزوجات فقال- تعالى- فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ.
فالمراد بالعدل هنا: العدل بين الزوجات المتعددات.
أى: فإن علمتم أنكم لا تعدلون بين الأكثر من الزوجة الواحدة في القسم والنفقة وحقوق الزوجية بحسب طاقتكم، كما علمتم في حق اليتامى أنكم لا تعدلون- إذا علمتم ذلك فالزموا زوجة واحدة، أو أى عدد شئتم من السراري بالغة ما بلغت.
فكأنه- سبحانه- لما وسع عليهم بأن أباح لهم الزواج بالمثنى والثلاث والرباع من النساء، أنبأهم بأنه قد يلزم من هذه التوسعة خوف الميل وعدم العدل. فمن الواجب عليهم حينئذ أن يحترزوا بالتقليل من عدد النساء فيقتصروا على الزوجة الواحدة.
ومفهومه: إباحة الزيادة على الواحدة إذا أمن الجور بين الزوجات المتعددات.
وقوله فَواحِدَةً منصوب بفعل مضمر والتقدير: فالزموا واحدة أو فاختاروا واحدة فإن الأمر كله يدور مع العدل، فأينما وجدتم العدل فعليكم به.
وقرئ بالرفع أى فحسبكم واحدة. أَوْ للتسوية أى سوى- سبحانه- في السهولة واليسر بين نكاح الحرة الواحدة وبين السراري من غير تقييد بعدد، لقلة تبعتهن، ولخفة مؤنتهن، وعدم وجوب القسم فيهن.
(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٤٦٨.
32
وقوله ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا جملة مستأنفة بمنزلة لتعليل لما قبلها.
واسم الإشارة «ذلك» يعود إلى اختيار الواحدة أو التسرى.
وقوله أَدْنى هنا بمعنى أقرب. وهو قرب مجازى. أى أحق وأعون على أن لا تعولوا.
وقوله تَعُولُوا مأخوذ من العول وهو في الأصل الميل المحسوس.
يقال. عال الميزان عولا إذا مال. ثم نقل إلى الميل المعنوي وهو الجور والظلم ومنه عال الحاكم إذا جار، والمراد هنا الميل المحظور المقابل للعدل.
والمعنى: أن ما ذكر من اختيار الزوجة الواحدة والتسرى، أقرب بالنسبة إلى ما عداهما إلى العدل وإلى عدم الميل المحظور، لأن من اختار زوجة واحدة فقد انتفى عنه الميل والجور رأسا لانتفاء محله ومن تسرى فقد انتفى عنه خطر الجور والميل. أما من اختار عددا من الحرائر فالميل المحظور متوقع منه لتحقق المحل والخطر.
ولأن التعدد في الزوجات يعرض المكلف غالبا للجور وإن بذل جهده في العدل.
وهذا المعنى على تفسير (تعولوا) بمعنى تجوروا وتميلوا عن الحق. وهو اختيار أكثر المفسرين.
وقيل: إن معنى أَلَّا تَعُولُوا ألا تكثر عيالكم. يقال: عال يعول، إذا كثرت عياله. وقد حكى صاحب الكشاف هذا المعنى عن الإمام الشافعى فقال:
«والذي يحكى عن الشافعى- رحمه الله- أن فسر أَلَّا تَعُولُوا بأن لا تكثر عيالكم.
فوجهه أن يجعل من قولك: عال الرجل عياله يعولهم كقولهم: ما نهم يمونهم إذا أنفق عليهم. لأن من كثر عياله لزمه أن يعولهم، وفي ذلك ما يصعب عليه المحافظة على حدود الكسب وحدود الورع وكسب الحلال والرزق الطيب.
ثم قال: وكلام مثله من أعلام العلم، وأئمة الشرع، ورءوس المجتهدين، حقيق بالحمل على الصحة والسداد.
وقرأ طاوس: أن لا تعيلوا من أعال الرجل إذا كثر عياله. وهذه القراءة تعضد تفسير الشافعى من حيث المعنى الذي قصده»
«١».
هذا، وقد أخذ العلماء من هذه الآية أحكاما منها: جواز تعدد الزوجات إلى أربع بحيث لا يجوز الزيادة عليهن مجتمعات، لأن هذا العدد قد ذكر في مقام التوسعة على المخاطبين، ولو كانت تجوز الزيادة على هذا العدد لذكرها الله- تعالى-.
(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٤٦٨. [.....]
33
وقد أجمع الفقهاء على أنه لا تجوز الزيادة على الأربع، ولا يقدح في هذا الإجماع ما ذهب إليه بعض المبتدعة من جواز الجمع بين ما هو أكثر من الأربع الحرائر، لأن ما ذهب إليه هؤلاء المبتدعة لا يعتد به. إذ الإجماع قد وقع وانقضى عصر المجمعين قبل ظهور هؤلاء المبتدعين المخالفين.
وقد رد العلماء على هؤلاء المخالفين بما يهدم أقوالهم، ومن العلماء الذين تولوا الرد عليهم الإمام القرطبي فقد قال- ما ملخصه-:
«اعلم أن هذا العدد مثنى وثلاث ورباع لا يدل على إباحة تسع. كما قاله من بعد فهمه عن الكتاب والسنة، وأعرض عما كان عليه سلف هذه الأمة، وزعم أن الواو جامعة، وعضد ذلك بأن النبي ﷺ نكح تسعا، وجمع بينهن في عصمته. والذي صار إلى هذه الجهالة وقال هذه المقالة الرافضة وبعض أهل الظاهر، جعلوا مثنى مثل اثنين، وكذلك ثلاث ورباع.
وهذا كله جهل باللسان والسنة ومخالفة لإجماع الأمة، إذ لا يسمع عن أحد من الصحابة ولا التابعين أنه جمع في عصمته أكثر من أربع.
وأخرج مالك في الموطأ والنسائي والدارقطني في سننهما أن النبي ﷺ قال لغيلان بن أمية الثقفي وقد أسلم وتحته عشر نسوة «اختر منهن أربعا وفارق سائرهن»
.
وأما ما أبيح من ذلك للنبي ﷺ فذلك من خصوصياته.
وأما قولهم إن الواو جامعة. فقد قيل ذلك، ولكن الله- تعالى- خاطب العرب بأفصح اللغات. والعرب لا تدع أن تقول تسعة وتقول اثنين وثلاثة وأربعة. وكذلك تستقبح ممن يقول، أعط فلانا أربعة، ستة، ثمانية، ولا يقول: ثمانية عشر.
وإنما الواو في هذا الموضع بدل، أى انكحوا ثلاث بدلا من مثنى، ورباع بدلا من ثلاث، ولذلك عطف بالواو ولم يعطف بأو. ولو جاء بأو لجاز ألا يكون لصاحب المثنى ثلاث، ولا لصاحب الثلاث رباع.
وقد قال مالك والشافعى في الذي يتزوج خامسة وعنده أربع: عليه الحد إن كان عالما.
وقال الزهري: يرجم إن كان عالما، وإن كان جاهلا فعليه أدنى الحدين الذي هو الجلد، ولها مهرها، ويفرق بينهما ولا يجتمعان أبدا» «١».
كذلك من الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية الكريمة أن الله تعالى وإن كان قد أباح التعدد وحدد غايته بأربع بحيث لا يجوز الزيادة عليهن، إلا أنه- سبحانه- قد قيد هذه الإباحة
(١) تفسير القرطبي ج ٥ ص ١٧.
34
بالعدل بينهم فيما يستطيع الإنسان العدل فيه بحسب طاقته البشرية، بأن يعدل بينهن في النفقة والكسوة والمعاشرة الزوجية. فإن عجز عن ذلك لم يبح له التعدد.
وللإمام الشيخ محمد عبده كلام حسن في المعنى، فقد قال- رحمه الله- «قد أباحت الشريعة الإسلامية للرجل الاقتران بأربع من النسوة إن علم من نفسه القدرة على العدل بينهن، وإلا فلا يجوز الاقتران بغير واحدة. قال- تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً فإن الرجل إذا لم يستطع إعطاء كل منهن حقها اختل نظام المنزل، وساءت معيشة العائلة إذ العماد القويم لتدبير المنزل هو بقاء الاتحاد والتآلف بين أفراد العائلة.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدون، والعلماء الصالحون من كل قرن إلى هذا العهد يجمعون بين النسوة مع المحافظة على حدود الله في العدل بينهن. فكان ﷺ وأصحابه والصالحون من أمته لا يأتون حجرة إحدى الزوجات في نوبة الأخرى إلا بإذنها.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من كان له امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه مائل»
.
وكان ﷺ يعتذر عن ميله القلبي بقوله: «اللهم هذا- أى العدل في البيات والعطاء- جهدي فيما أملك، ولا طاقة لي فيما تملك ولا أملك- يعنى الميل القلبي». وكان يقرع بينهن إذا أراد سفرا.
ثم قال في نهاية حديثه: فعلى العقلاء أن يتبصروا قبل طلب التعدد في الزوجات فيما يجب عليهم شرعا من العدل وحفظ الألفة بين الأولاد، وحفظ النساء من الغوائل التي تؤدى بهن إلى الأعمال التي لا تليق بمسلمة «١».
هذا، وقد ذكر العلماء حكما كثيرة لمشروعية تعدد الزوجات، ومن هذه الحكم أن في هذا التعدد وسيلة إلى تكثير عدد الأمة بازدياد عدد المواليد فيها. ولا شك أن كثيرا من الأمم الإسلامية التي اتسعت أرضها، وتعددت موارد الثروة فيها، في حاجة إلى تكثير عدد أفرادها حتى تنتفع بما حباها الله من خيرات، وتستطيع الدفاع عن نفسها إذا ما طمع فيها الطامعون، واعتدى عليها المعتدون.
ومنها أن التعدد يعين على كفالة النساء وحفظهن وصيانتهن من الوقوع في الفاحشة، لا سيما في أعقاب الحروب التي- عادة- تقضى على الكثيرين من الرجال، ويصبح عدد النساء أكبر بكثير من عدد الرجال.
ومنها أن الشريعة الإسلامية قد حرمت الزنا تحريما قاطعا، وعاقبت مرتكبه بأقسى أنواع
(١) تفسير المنار ج ٤ ص ٣٦٤ وما بعدها- بتصرف وتلخيص-.
35
العقوبات وأزجرها، بسبب ما يجر إليه من فساد في الأخلاق والأنساب ونظام الأسر، فناسب أن توسع على الناس في تعدد النساء لمن كان من الرجال ميالا للتعدد، مستطيعا لتكاليفه ومطالبه.
ومنها قصد الابتعاد عن الطلاق، فإن المرأة قد لا تكون قادرة على القيام بالمطالب الزوجية التي تحتمها حياتها مع زوجها بسبب مرضها أو عجزها أو عقمها أو غير ذلك من الأسباب، فيلجأ زوجها إلى الزواج بأخرى غيرها مع بقاء الزوجة الأولى في عصمته بدل أن يطلقها فتفقد حياتها الزوجية، وقد تكون هي في حاجة إلى هذا الزوج الذي يقوم برعايتها وحمايتها والقيام بشأنها.
والخلاصة أن الله- تعالى- قد علم أن مصلحة الرجال والنساء قد تستدعى تعدد الزوجات، - بل قد توجبه في بعض الحالات- فأباح لهم هذا التعدد، وحدد غايته بأربع بحيث لا يجوز الزيادة عليهن، وقيد- سبحانه- هذه الإباحة بالعدل بينهن فيما يستطيع الإنسان العدل فيه بحسب طاقته البشرية، فإن علم الإنسان من نفسه عدم القدرة على العدل بينهن لم يبح له التعدد.
ولو أن المسلمين ساروا على حسب ما شرع الله لهم لسعدوا في دنياهم وفي آخرتهم لأن الله- تعالى- ما شرع لهم إلا ما فيه منفعتهم وسعادتهم.
ثم أمر الله تعالى الرجال أن يعطوا النساء مهورهن كاملة عن رضا وسماحة نفس، وألا يطمعوا في شيء مما أعطاه الله لهن فقال- تعالى-:
[سورة النساء (٤) : آية ٤]
وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (٤)
وقوله صَدُقاتِهِنَّ جمع صدقة- بضم الدال- وهي ما يعطى للزوجة من المهر.
وقوله نِحْلَةً أى عطية واجبة وفريضة لازمة. إذ النحلة في الأصل: العطية على سبيل التبرع. يقال: نحله كذا ونحلا، إذا أعطاه إياه عن طيب نفس بلا مقابلة عوض.
والمعنى: وأعطوا النساء مهورهن عطية عن طيب نفس منكم، لأن هذه المهور قد فرضها الله لهن، فلا يجوز أن يطمع فيها طامع، أو يغتالها مغتال، والخطاب للأزواج. قالوا: لأن
36
الرجل كان يتزوج المرأة بلا مهر ويقول لها: أرثك وترثيننى؟ فتقول: نعم. فأمروا أن يسرعوا إلى إعطاء المهور «١».
وقيل: الخطاب لأولياء النساء، وذلك لأن العرب في الجاهلية كانت لا تعطى النساء من مهورهن شيئا، ولذلك كانوا يقولون لمن ولدت له بنت: هنيئا لك النافجة. أى هنيئا لك هذه البنت التي تأخذ مهرها إبلا فتضمها إلى إبلك فتنفج مالك أى تزيده وتكثره.
وقد رجح ابن جرير كون الخطاب للأزواج فقال: «وذلك لأن الله- تعالى- ابتدأ ذكر هذه الآية بخطاب الناكحين للنساء، ونهاهم عن ظلمهن. ولا دلالة في الآية على أن الخطاب قد صرف عنهم إلى غيرهم. فإذا كان ذلك كذلك فمعلوم أن الذين قيل لهم: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ هم الذين قيل لهم: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ وأن معناه: وآتوا من نكحتم من النساء صدقاتهن نحلة، لأنه قال في الأول: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ.. ولم يقل «فأنكحوا» حتى يكون قوله: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ مصروفا إلى أنه معنى به أولياء النساء دون أزواجهن. وهذا أمر من الله لأزواج النساء المسمى لهن الصداق أن يؤتوهن صدقاتهن» «٢» والذي نراه أن الخطاب في الآية الكريمة يتناول كل من له علاقة بالنساء من الأزواج أو الأولياء وغيرهم من الحكام الذين إليهم المرجع في رد الحقوق إلى ذويها، والضرب على أيدى المعتدين والطامعين في حقوق النساء، وذلك لأن الخطاب من أول السورة موجه إلى الأولياء والأزواج فناسب أن يكون الخطاب هنا شاملا لكليهما فإن أعطوهن عن رضا كان حسنا وإلا أجبرهم الحكام على ذلك.
وقوله نِحْلَةً منصوب على الحالية من قوله صَدُقاتِهِنَّ أى: منحولة معطاة عن طيب نفس. أو منصوب على الحالية من المخاطبين. أى آتوهن صدقاتهن ناحلين طيبي النفوس بالإعطاء.
وفي التعبير عن إيتاء المهور بالنحلة مع كونها واجبة الأداء. لإفادة معنى الإيتاء عن كمال الرضا وطيب الخاطر دون أن يكون لهذه النحلة مقابل.
وقوله- تعالى- فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً بيان للحكم فيما إذا تنازل النساء عن شيء مما أعطوا عن طيب خاطر منهن أى عليكم أيها الرجال أن تدفعوا للنساء مهورهن مناولة أو التزاما، فإن حدث وتنازل لكم النساء عن شيء من هذه المهور بسماحة
(١) تفسير الآلوسي ج ٤ ص ١٩٨.
(٢) تفسير ابن جرير ج ٤ ص ٢٤٢ بتصرف يسير.
37
ورضا نفس، فكلوه أكلا سائغا، حميد المغبة، حلال الطعمة، خاليا من شائبة الحرام والشبهات:
والضمير المجرور في قوله مِنْهُ يعود إلى الصدقات أى المهور.
وجيء به مفردا مذكرا، لجريانه مجرى اسم الإشارة كأنه قيل: فإن طابت أنفسهن لكم عن شيء من ذلك المذكور وهو الصدقات فكلوه.
قال صاحب الكشاف: وفي الآية دليل على ضيق المسلك في ذلك ووجوب الاحتياط حيث بنى الشرط على طيب النفس فقيل: فإن طبن ولم يقل فإن وهبن أو سمحن، إعلاما بأن المراعى هو تجافى نفسها عن الموهوب عن طيب خاطر.
والمعنى: فإن وهبن لكم شيئا من الصداق، وتجافت عنه نفوسهن طيبات لا لحياء عرض لهن منكم أو من غيركم، ولا لاضطرارهن إلى البذل من شكاسة أخلاقكم، وسوء معاشرتكم فكلوه هنيئا مريئا» «١».
وقوله نَفْساً منصوب على التمييز من الضمير وهو نون النسوة في قوله طِبْنَ.. وهو محول عن الفاعل والأصل فان طابت أنفسهن عن شيء منه فكلوه.
وجيء به مفردا لأن الغرض بيان الجنس والواحد يدل عليه كقولك: عندي عشرون درهما.
والمراد بالأكل في قوله فَكُلُوهُ مطلق التصرف والانتفاع.
وإنما خص الأكل بالذكر، لأنه معظم وجوه التصرفات المالية.
وقوله هَنِيئاً مَرِيئاً حالان من الضمير المنصوب في قوله فَكُلُوهُ أو منصوبان على أنهما نعت لمصدر محذوف. أى فكلوه أكلا هنيئا مريئا. وهما صفتان من هنؤ الطعام ومرؤ. يقال:
هنؤ الطعام وهنيء هناءة. إذا كان سائغا لا تنغيص فيه. وقيل الهنيء ما أناك بلا مشقة ولا تبعة.
ويقال مرأ الطعام- بتثليث الراء- مراءة فهو مريء، إذا كان حميد المغبة والمراد المبالغة في تحليل ما يأتيهم من نسائهم عن طيب خاطر منهن، فقد كانوا يتأثمون من أخذ شيء من مهور نسائهم، فقال الله- تعالى- لهم: إن طابت نفوسهن بالتنازل عن شيء من مهورهن لكم فكلوه هنيئا مريئا، لأنه حلال خالص من الشوائب.
هذا، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية الكريمة: أنه لا بد في النكاح من صداق يعطى للمرأة سواء أسمى ذلك في العقد أم لم يسم. قال القرطبي: وهو مجمع عليه ولا خلاف عليه «٢»
(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٤٧١ بتصرف يسير.
(٢) تفسير القرطبي ج ٥ ص ٢٤.
38
ومنها: أن هذا الصداق ملك لها، ومن حقها أن تتصرف فيه بما شاءت. ولم تفصل الآية بين أن تقبضه أولا. ولذا قال بعض الفقهاء. لها أن تبيع مهرها قبل أن تقبضه لأنه ملك بلا عوض وقال آخرون: ليس لها أن تبيعه حتى تقبضه لنهيه ﷺ عن بيع ما لم يقبض.
ومنها: أنه يجوز للمرأة أن تعطى زوجها- برضاها واختيارها- مهرها أو جزءا منه سواء أكان مقبوضا معينا أم كان في الذمة. فشمل ذلك الهبة والإبراء. وأنه ليس من حقها الرجوع فيما أعطت لأنها قد طابت نفسها بذلك. وهذا رأى جمهور العلماء. ويرى بعض العلماء أن من حقها الرجوع فيما أعطت.
قال الفخر الرازي: قال بعض العلماء: إن وهبت ثم طلبت بعد الهبة علم أنها لم تطب عنه نفسا. وعن الشعبي: أن امرأة جاءت مع زوجها إلى شريح القاضي في عطية أعطتها إياه.
وهي تطلب الرجوع. فقال شريح: رد عليها عطيتها. فقال الرجل: أليس قد قال الله- تعالى-: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ؟ فقال شريح: لو طابت نفسها لما رجعت فيه.
وعن عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- أنه كتب إلى قضاته. أن النساء يعطين رغبة ورهبة. فأيما امرأة اعطت ثم أرادت أن ترجع فذلك لها» «١».
ثم نهى- سبحانه- عن إيتاء الأموال للسفهاء، لدفع توهم إيجاب أن يؤتى كل مال لمالكه ولو كان سفيها فقال تعالى:
[سورة النساء (٤) : آية ٥]
وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٥)
والسفهاء جمع سفيه. والسفه- كما يقول الراغب-: خفة في البدن، ومنه قيل: زمام سفيه أى كثير الاضطراب، وثوب سفيه رديء النسج، واستعمل في خفة النفس لنقصان العقل، ويكون في الأمور الدنيوية والأخروية، قال- تعالى- في السفه الدنيوي: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ وقال في السفه الأخروى وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً «٢».
(١) تفسير الفخر الرازي ج ٩ ص ١٨٣.
(٢) المفردات في غريب القرآن ص ٣٥ للراغب الأصفهاني.
39
والمراد من السفهاء هنا: ضعاف العقول والأفكار الذين لا يحسنون التصرف.
والمراد من قوله قِياماً ما به القيام والتعيش. يقال فلان قيام أهله: أى يقيم شأنهم ويصلهم. وهو المفعول الثاني لجعل. أما المفعول الأول لجعل فمحذوف ويرجع إلى ضمير الأموال.
وقرأ نافع وابن عامر الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً على أنه مصدر مثل الحول والعوض.
وقرأ ابن عمر قَواماً- بكسر القاف وبواو وألف- قال الآلوسى: وفيه وجهان:
الأول: أنه مصدر قاومت قواما مثل لاوذت لواذا فصحت الواو في المصدر كما صحت في الفعل.
والثاني: أنه اسم لما يقوم به الأمر وليس بمصدر» «١».
هذا، وقد اختلف المفسرون في تعيين المخاطبين بقوله- تعالى- وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ كما اختلفوا في المراد من السفهاء على أقوال أشهرها:
أن المخاطبين بهذه الآية هم أولياء اليتامى، وأن المراد من السفهاء هم اليتامى الذين لم يحسنوا التصرف في أموالهم لصغرهم أو لضعف عقولهم، واضطراب أفكارهم. وأن المراد بالأموال في قوله أَمْوالَكُمُ هي أموال هؤلاء اليتامى لا أموال الأولياء.
فيكون المقصود من الآية الكريمة نهى الأولياء عن إيتاء السفهاء من اليتامى أموالهم التي جعلها الله مناط تعيشهم، خشية إساءة التصرف فيها لخفة أحلامهم.
وإنما أضيفت الأموال في الآية الكريمة إلى ضمير المخاطبين وهم الأولياء، مع أن هذه الأموال في الحقيقة لليتامى:
للتنبيه إلى أن أموال اليتامى كأنها عين أموالهم، مبالغة في حملهم على وجوب حفظها وصيانتها من أى إتلاف أو إضرار بها.
قال الفخر الرازي ما ملخصه: والدليل على أن الخطاب في الآية الكريمة للأولياء قوله- تعالى- بعد ذلك وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وأيضا فعلى هذا القول يحسن تعليق هذه الآية بما قبلها فكأنه- تعالى- يقول: إنى وإن كنت أمرتكم بإيتاء اليتامى أموالهم. فإنما قلت ذلك إذا كانوا عاقلين بالغين متمكنين من حفظ أموالهم، فأما إذا كانوا غير بالغين أو غير عقلاء، أو إن كانوا بالغين عقلاء إلا أنهم كانوا سفهاء مسرفين، فلا تدفعوا إليهم أموالهم وأمسكوها
(١) تفسير الآلوسى ج ٤ ص ١٠٢.
40
لأجلهم إلى أن يزول عنهم السفه. والمقصود من كل ذلك الاحتياط في حفظ أموال الضعفاء والعاجزين» «١».
وقيل: إن الخطاب في الآية الكريمة للآباء، والمراد من السفهاء الأولاد الذين لا يستقلون بحفظ المال وإصلاحه، بل إذا أعطى لهم أفسدوه وأتلفوه.
وعلى هذا الرأى تكون إضافة الأموال إلى المخاطبين على سبيل الحقيقة.
ويكون المعنى: لا تؤتوا أيها الآباء أموالكم لأولادكم السفهاء لأن في إعطائكم إياها لهم إفسادا لهم مع أن فيها قوام حياتكم وصلاح أحوالكم.
والذي نراه أن الخطاب في الآية الكريمة لجميع المكلفين حاكمين ومحكومين ليأخذ كل من يصلح لهذا الحكم حظه من الامتثال. وأن المراد بالسفهاء كل من لا يحسن المحافظة على ماله لصغره، أو لضعف عقله، أو لسوء تصرفاته سواء أكان من اليتامى أم من غيرهم لأن التعميم في الخطاب وفي الألفاظ- عند عدم وجود المخصص- أولى، لأنه أوفر معنى، وأوسع تشريعا.
وفي إضافة الأموال إلى جميع المخاطبين المكلفين من المسلمين إشارة بديعة إلى أن المال المتداول بينهم هو حق لمالكيه المختصين به في ظاهر الأمر، ولكنه عند التأمل تلوح فيه حقوق الأمة جمعاء لأن وضعه في المواضع التي أمر الله بها منفعة للأمة كلها، وفي وضعه في المواضع التي نهى الله عنها مضرة بالأمة كلها، وتعاليم الإسلام التي تجعل المسلمين جميعا أمة واحدة متكافلة متراحمة تعتبر مصلحة كل فرد من أفرادها عين مصلحة الآخرين.
وبعد أن نهى- سبحانه- عن إيتاء المال للسفهاء، أمر بثلاثة أشياء، أولها وثانيها قوله- تعالى- وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ.
أى اجعلوا هذه الأموال مكانا لرزقهم وكسوتهم، بأن تتجروا فيها حتى تكون نفقاتهم من الأرباح لا من أصل المال لئلا يفنيه الإنفاق منه.
وإنما قال: وَارْزُقُوهُمْ فِيها ولم يقل «منها» لئلا يكون ذلك أمرا بأن يجعلوا بعض أموالهم رزقا لهم، بل أمرهم أن يجعلوا أموالهم مكانا لرزقهم بأن يتجروا فيها ويستثمروها فيجعلوا أرزاقهم من الأرباح لا من أصول الأموال.
أما الأمر الثالث فهو قوله- تعالى-: وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً.
والقول المعروف هو كل ما تسكن إليه النفس لموافقته للشرع وللعقول السليمة، كأن يكلموهم كلاما لينا تطيب به نفوسهم، وكأن يعدوهم عدة حسنة بأن يقولوا لهم: إذا صلحتم
(١) تفسير الفخر الرازي ج ٩ ص ١٣.
41
ورشدتم سلمنا إليكم أموالكم. وكأن ينصحوهم بما يصلحهم ويبعدهم عن السفه وسوء التصرف.
وفي أمره- سبحانه- للمخاطبين بأن يقولوا لهؤلاء السفهاء قولا معروفا، بعد أمره لهم برزقهم وكسوتهم، إشعار بأن من الواجب عليهم أن يقدموا إليهم الرزق والكسوة مصحوبين بوجه طلق، وبقول جميل بعيد عن المن والأذى، فقد جرت عادة من تحت يده المال أن يستثقل إخراجه لمن سأله إياه.
هذا، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية الكريمة: وجوب المحافظة على الأموال وعدم تضييعها.
قال صاحب الكشاف: وكان السلف يقولون: المال سلاح المؤمن. ولأن أترك ما لا يحاسبني الله عليه، خير من أن أحتاج إلى الناس. وعن سفيان- وكانت له بضاعة يقلبها-: لولاها لتمندل بي بنو العباس- أى لولاها لاتخذونى كالمنديل يسخروننى لمصالحهم-. وقيل لأبى الزناد: لم تحب الدراهم وهي تدنيك من الدنيا؟ فقال: لئن أدنتنى من الدنيا فقد صانتنى عنها.
وكانوا يقولون: اتجروا واكتسبوا فإنكم في زمان إذا احتاج أحدكم كان أول ما يأكل دينه. وربما رأوا رجلا في جنازة، فقالوا له: اذهب إلى دكانك» «١».
وقال بعض العلماء: ولنقف عند قوله- تعالى- وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً لنعلم ما يوحى به من تكافل الأمة ومسئولية بعضها عن بعض. ومن أن المال الذي في يد بعض الأفراد «قوام للجميع» ينتفعون به في المشروعات العامة، ويفرجون به أزماتهم وضائقاتهم الخاصة عن طريق الزكاة، وعن طريق التعاون وتبادل المنافع. وهذا هو الوضع المالى في نظر الشريعة الإسلامية، فليس لأحد أن يقول: مالي مالي. هو مالي وحدي لا ينتفع به سواي، ليس لأحد أن يقول هذا أو ذاك. فالمال مال الجميع، والمال مال الله، ينتفع به الجميع عن الطريق الذي شرعه الله في سد الحاجات ودفع الملمات. وهو ملك لصاحبه يتصرف فيه لا كما يشاء ويهوى بل كما رسم الله وبين في كتابه، حتى إذا ما أخل بذلك فأسرف وبذر أو ضن وقتر حجر عليه» «٢».
كذلك من الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية الكريمة: وجوب الحجر على السفهاء، لأن الله- تعالى- قد أمر بذلك. ووجوب إقامة الوصي والولي والكفيل على الأيتام الصغار ومن في حكمهم ممن لا يحسنون التصرف.
(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٤٧٢.
(٢) تفسير القرآن الكريم ص ١٩٠ لفضيلة الأستاذ الشيخ محمود شلتوت.
42
ثم بين- سبحانه- الوقت الذي يتم فيه تسليم أموال اليتامى إليهم، وكيف تجب حياطتهم والعناية بهم وبأموالهم فقال- تعالى-:
[سورة النساء (٤) : آية ٦]
وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (٦)
وقوله- تعالى- وَابْتَلُوا من الابتلاء بمعنى الاختبار والامتحان.
والخطاب للأولياء والأوصياء وكل من له صلة باليتامى.
والمراد ببلوغ النكاح هنا: بلوغ الحلم المذكور في قوله- تعالى-: وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا وقوله آنَسْتُمْ أى تبينتم وشاهدتم وأحسستم.
قال القرطبي: آنَسْتُمْ أى أبصرتم ورأيتم ومنه قوله- تعالى-: فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً أى أبصر ورأى. وتقول العرب: اذهب فاستأنس هل ترى أحدا. معناه: تبصر. وقيل: آنست وأحسست ووجدت بمعنى واحد «١».
والمعنى: عليكم أيها الأولياء والأوصياء أن تختبروا اليتامى، وذلك بتتبع أحوالهم في الاهتداء إلى ضبط الأمور، وحسن التصرف في الأموال وبتمرينهم على ما يليق بأحوالهم حتى لا يجيء وقت بلوغهم إلا وقد صار في قدرتهم أن يصرفوا أموالهم تصريفا حسنا. فإن شاهدتم وأحسستم منهم رُشْداً أى صلاحا في عقولهم، وحفظا لأموالهم، فادفعوها إليهم من غير تأخير أو مماطلة.
وحَتَّى هنا للغاية، وهي داخلة على الجملة، فهي تبين نهاية الصغر، والجملة التي دخلت عليها ظرفية في معنى الشرط.
(١) تفسير القرطبي ج ٥ ص ٣٦.
43
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: كيف نظم الكلام؟ قلت: ما بعد حَتَّى إلى قوله:
فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ جعل غاية للابتلاء، وهي حَتَّى التي تقع بعدها الجمل. والجملة الواقعة بعدها جملة شرطية، لأن إذا متضمنة معنى الشرط. وفعل الشرط بَلَغُوا النِّكاحَ وقوله فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ جملة من شرط وجزاء واقعة جوابا للشرط الأول الذي هو إذا بلغوا النكاح. فكأنه قيل: وابتلوا اليتامى إلى وقت بلوغهم، فاستحقاقهم دفع أموالهم إليهم بشرط إيناس الرشد منهم.
فإن قلت: فما معنى تنكير الرشد؟ قلت: معناه نوعا من الرشد وهو الرشد في التصرف والتجارة. أو طرفا من الرشد ومخيلة من مخايله حتى لا ينتظر به تمام الرشد» «١».
ثم نهى- سبحانه- الأوصياء وغيرهم عن الطمع في شيء من مال اليتامى فقال- تعالى-:
وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا.
أى: ادفعوا أيها الأولياء والأوصياء إلى اليتامى أموالهم من غير تأخير عن حد البلوغ، ولا تأكلوها مسرفين في الأكل ومبادرين بالأخذ خشية أن يكبروا، بأن تفرطوا في إنفاقها وتقولوا: ننفقها كما تريد قبل أن يكبر اليتامى فينتزعوها من أيدينا.
والإسراف في الأصل- كما يقول الآلوسى- تجاوز الحد المباح إلى ما لم يبح. وربما كان ذلك في الإفراط وربما كان في التقصير. غير أنه إذا كان في الإفراط منه يقال: أسرف يسرف إسرافا.
وإذا كان في التقصير يقال: سرف يسرف سرفا» «٢».
وقوله بِداراً مفاعلة من البدر وهو العجلة إلى الشيء والمسارعة إليه. وهما- أى قوله إِسْرافاً وَبِداراً منصوبان على الحال من الفاعل في قوله تَأْكُلُوها أى: ولا تأكلوها مسرفين ومبادرين كبرهم. أو منصوبان على أنهما مفعول لأجله، أى ولا تأكلوها لإسرافكم ومبادرتكم كبرهم.
والمراد من هذه الجملة الكريمة بيان أشنع الأحوال التي تقع من الأوصياء أو الأولياء وهي أن يأكلوا أموال اليتامى بإسراف وتعجل مخافة أن يبلغ الأيتام رشدهم، فتؤخذ من أولئك الأوصياء تلك الأموال لترد إلى أصحابها وهم اليتامى بعد أن يبلغوا سن الرشد.
ثم بين- سبحانه- ما ينبغي على الوصي إن كان غنيا وما ينبغي له إن كان فقيرا فقال:
(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٤٧٣ بتصرف وتلخيص. [.....]
(٢) تفسير الآلوسى ج ٤ ص ٧٠١.
44
وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ.
والاستعفاف عن الشيء تركه. يقال: عف الرجل عن الشيء واستعف إذا أمسك عنه.
والعفة: الامتناع عما لا يحل.
أى: ومن كان من الأولياء أو الأوصياء على أموال اليتامى غنيا فليستعفف أى فليتنزه عن أكل مال اليتيم، وليقنع بما أعطاه الله من رزق وفير إشفاقا على مال اليتيم. ومن كان فقيرا من هؤلاء الأوصياء فليأكل بالمعروف، بأن يأخذ من مال اليتيم على قدر حاجته الضرورية وأجر سعيه وخدمته له. فقد روى أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا أتى النبي ﷺ فقال: إنى فقير ليس لي شيء ولي يتيم. قال فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبادر ولا متأثل» «١». أى غير مسرف في الأخذ، ولا مبادر أى متعجل، ولا جامع منه ما يتجاوز حاجتك.
ثم بين- سبحانه- ما ينبغي على الأوصياء عند انتهاء وصايتهم على اليتامى وعند دفع أموالهم إليهم فقال: فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً.
أى: فإذا أردتم أيها الأولياء أن تدفعوا إلى اليتامى أموالهم التي تحت أيديكم بعد البلوغ والرشد، فأشهدوا عليهم عند الدفع بأنهم قبضوها وبرئت عنها ذممكم، لأن هذا الإشهاد أبعد عن التهمة، وأنفى للخصومة، وأدخل في الأمانة وبراءة الساحة.
وقوله- تعالى- وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً أى كفى بالله محاسبا لكم على أعمالكم وشاهدا عليكم في أقوالكم وأفعالكم، ومجازيا إياكم بما تستحقون من خير أو شر، لأنه- سبحانه- لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء. وإنكم إن أفلتم من حساب الناس في الدنيا فلن تفلتوا من حساب الله الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، فعليكم أن تتحروا الحلال في كل تصرفاتكم. ففي هذا التذييل وعيد شديد لكل جاحد لحق غيره، ولكل معتد على أموال الناس وحقوقهم، ولا سيما اليتامى الذين فقدوا الناصر والمعين.
هذا، وقد أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة جملة من الأحكام منها:
١- أن على الأوصياء أن يختبروا اليتامى بتتبع أحوالهم في الاهتداء إلى ضبط الأموال وحسن التصرف فيها، وأن يمرونهم على ذلك بحسب ما يليق بأحوالهم.
ويرى جمهور العلماء أن هذا الاختبار يكون قبل البلوغ. ويرى بعضهم أن هذا الاختبار يكون بعد البلوغ.
(١) تفسير القرطبي ج ٥ ص ٤١.
45
وقد قال القرطبي في بيان كيفية هذا الاختبار ما ملخصه: لا بأس في أن يدفع الولي إلى اليتيم شيئا من ماله يبيح له التصرف فيه، فإن نماه وحسن النظر فيه فقد وقع الاختبار، ووجب على الوصي تسليم جميع ماله إليه- أى بعد بلوغه- وإن أساء النظر وجب عليه إمساك المال عنه..
وقال جماعة من الفقهاء: الصغير لا يخلو من أن يكون غلاما أو جارية، فإن كان غلاما رد النظر إليه في نفقة الدار شهرا، وأعطاه شيئا نزرا ليتصرف فيه ليعرف كيف تدبيره وتصرفه، وهو مع ذلك يراعيه لئلا يتلفه، فإذا رآه متوخيا الإصلاح سلم إليه ماله عند البلوغ وأشهد عليه.
وإن كان جارية رد إليها ما يرد إلى ربة البيت من تدبير بيتها والنظر فيه فإن رآها رشيدة سلم إليها مالها وأشهد عليها وإلا بقيا تحت الحجر» «١».
وقد بنى الإمام أبو حنيفة على هذا الاختبار أن تصرفات الصبى العاقل المميز بإذن الولي صحيحة، لأن ذلك الاختبار إنما يحصل إذا أذن له الولي في البيع والشراء- مثلا- وهذا يقتضى صحة تصرفاته.
ويرى الإمام الشافعى أن الاختبار لا يقتضى الإذن في التصرف ولا يتوقف عليه، بل يكون الاختبار بدون التصرف على حسب ما يليق بحال الصبى فابن التاجر- مثلا- يختبر في البيع والشراء إلى حيث يتوقف الأمر على العقد وحينئذ يعقد الولي إن أراد.
٢- كذلك أخذ العلماء من هذه الآية أن الأوصياء لا يدفعون أموال اليتامى إليهم إلا بتحقيق أمرين:
أحدهما: بلوغ النكاح.
والثاني: إيناس الرشد.
والمراد ببلوغ النكاح بلوغ وقته وهو التزوج، وهو كناية عن الخروج من حالة الصبا للذكر والأنثى، بأن توجد المظاهر التي تدل على الرجولة في الغلام، والتي تدل على مبلغ بلوغ النساء في الفتاة، وذلك يكون بالاحتلام أو بالحيض بالنسبة للفتاة أو ببلوغ سن معينة قدرها بعضهم بخمس عشرة سنة بالنسبة للذكر والأنثى على السواء.
وقدرها أبو حنيفة بسبع عشرة سنة بالنسبة للفتاة، وبثماني عشرة سنة بالنسبة للفتى.
ومن بلاغة القرآن الكريم أنه عبر عن حالة البلوغ بقوله: حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ لأن
(١) تفسير القرطبي ج ١ ص ٣٤.
46
هذا الوقت يختلف باختلاف البلاد في الحرارة والبرودة، وباختلاف أمزجة أهل البلد الواحد في القوة والضعف، والصحة والمرض.
والمراد بإيناس الرشد: أن يتبين الأولياء من اليتامى الصلاح في العقل والخلق والتصرف في الأموال.
ويرى جمهور العلماء أن اليتيم لا يدفع إليه ماله مهما بلغت سنه ما لم يؤنس منه الرشد لأن الله- تعالى- يقول: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً.
ويقول: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ ومعنى ذلك أنه إذا لم يؤنس منهم الرشد لا تدفع إليهم أموالهم، بل يستمرون تحت ولاية الأولياء عليهم لأنهم لا يزالون سفهاء لم يتبين رشدهم.
وقد خالف الإمام أبو حنيفة جمهور الفقهاء فقال. لا يدفع إلى اليتيم ماله إذا بلغ ولم يؤنس منه الرشد حتى يبلغ خمسا وعشرين سنة، فإذا بلغها عاقلا ولو غير رشيد فليس لأحد عليه سبيل، ويجب أن يدفع الوصي إليه ماله ولو كان فاسقا أو مبذرا.
قالوا: وإنما اختار أبو حنيفة هذه السن لأن مدة بلوغ الذكر عنده ثماني عشرة سنة، فإذا زيد عليها سبع سنين- وهي مدة معتبرة في تغير أحوال الإنسان- فعند ذلك يدفع إليه ماله أونس منه الرشد أو لم يؤنس، لأن اسم الرشد واقع على العقل في الجملة، والله- تعالى- شرط رشدا منكرا ولم يشترط سائر ضروب الرشد، فاقتضى ظاهر الآية أنه لما حصل العقل فقد حصل ما هو الشرط المذكور في هذه الآية «١».
٣- كذلك أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة أن الوصي على اليتيم إذا كان غنيا فعليه أن يتحرى العفاف. وألا يأخذ شيئا من مال اليتيم، لأن أخذه مع غناه يتنافى مع العفاف الذي يجب أن يتحلى به الأوصياء، ويعتبر من باب الطمع في مال اليتيم.
أما إذا كان الوصي فقيرا فقد أذن الله له أن يأكل من مال اليتيم بالمعروف أى بالقدر الذي تقتضيه حاجته الضرورية، ولا يستنكره الشرع ولا العقل.
وقد بسط الإمام الرازي القول في هذه المسألة فقال ما ملخصه: اختلف العلماء في أن الوصي هل له أن ينتفع بمال اليتيم أولا؟
فمنهم من يرى أن للوصي أن يأخذ من مال اليتيم بقدر أجر عمله لأن قوله- تعالى- وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً مشعر بأن له أن يأكل بقدر الحاجة. ولأن قوله- تعالى-
(١) تفسير الفخر الرازي ج ٩ ص ١٨٩- بتصرف وتلخيص.
47
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً يدل على أن مال اليتيم قد يؤكل ظلما وغير ظلم، ولو لم يكن ذلك لم يكن لقوله إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً فائدة. فهذا يدل على أن للوصي المحتاج أن يأكل من ماله بالمعروف. ولأن الوصي لما تكفل بإصلاح مهمات الصبى وجب أن يتمكن من أن يأكل من ماله بقدر عمله قياسا على الساعى في أخذ الصدقات وجمعها فإنه يضرب له في تلك الصدقات بسهم فكذا هاهنا.
ومنهم من يرى أن له أن يأخذ بقدر ما يحتاج إليه من مال اليتيم قرضا، ثم إذا أيسر قضاه، وإن مات ولم يقدر على القضاء بأن كان معسرا فلا شيء عليه» «١».
ويشهد لهذا الرأى قول عمر بن الخطاب- رضى الله عنه-: إنى أنزلت نفسي من هذا المال منزلة والى اليتيم. إن استغنيت استعففت. وإن احتجت استقرضت. فإذا أيسرت قضيت» «٢».
٤- كذلك من الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية أن على الأوصياء عند ما يدفعون أموال اليتامى إليهم أن يشهدوا على دفعها، منعا للخصومات والمنازعات، وإبراء لذمة الأوصياء، ولكي يكون اليتامى على بينة من أمرهم.
وقد اختلف العلماء في أن الوصي إذا ادعى بعد بلوغ اليتيم أنه قد دفع إليه ماله هل يصدق؟ وكذلك إذا قال: أنفقت عليه في صغره هل يصدق؟
أما الشافعية والمالكية والحنابلة فيرون أنه لا يصدق لأن الآية الكريمة تقول: فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وقوله فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ أمر. وظاهر الأمر أنه للوجوب.
وليس معنى الوجوب هنا أنه يأثم إذا لم يشهد. بل معناه أن الاشهاد لا بد منه في براءة ذمته بأن يدفع له ماله أمام رجلين أو رجل وامرأتين حتى إذا دفع المال ولم يشهد ثم طالبه اليتيم فحينئذ يكون القول ما قاله اليتيم بعد أن يقسم على أن الوصي لم يدفع إليه ماله.
ويرى الإمام أبو حنيفة أن الأمر في قوله- قوله- فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ للندب. وأن الوصي إذا ادعى ذلك يصدق ويكتفى في تصديقه بيمينه لأنه أمين لم تعرف خيانته، إذ لو عرفت خيانته لعزل. والأمين يصدق باليمين إذا كان هناك خلاف بينه وبين من ائتمنه. ولأن قوله- تعالى- بعد ذلك وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً يؤيد أن البينة ليست لازمة إذ معناه أنه لا شاهد أفضل من الله- تعالى- فيما بينكم وبينهم.
(١) تفسير الفخر الرازي ج ٩ ص ١٩٠.
(٢) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٤٥٤.
48
ثم شرع- سبحانه- في بيان أحكام المواريث بعد أن بين الأحكام التي تتعلق بأموال اليتامى فساق- سبحانه- قاعدة عامة لأصل التوريث في الإسلام هي أن الرجال لا يختصون بالميراث، بل للنساء معهم حظ مقسوم، ونصيب مفروض، سواء أكان الشيء الموروث قليلا أم كثيرا فقال تعالى:
[سورة النساء (٤) : آية ٧]
لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (٧)
قال القرطبي ما ملخصه: نزلت هذه الآية في أوس بن ثابت الأنصارى. توفى وترك امرأة يقال لها: أم كجّة وثلاث بنات له منها فقام رجلان هما أبنا عم الميت ووصياه يقال لهما: سويد وعرفجة فأخذا ماله ولم يعطيا امرأته وبناته شيئا. وكانوا في الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصغير وإن كان ذكرا ويقولون: لا يعطى إلا من قاتل على ظهور الخيل، وطاعن بالرمح، وضارب بالسيف، وحاز الغنيمة. فذكرت أم كجة ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم: فدعاهما فقالا: يا رسول الله، ولدها لا يركب فرسا، ولا يحمل كلا، ولا ينكأ عدوا. فقال صلى الله عليه وسلم: «انصرفا حتى أنظر ما يحدث الله لي فيهن، فأنزل الله هذه الآية.
ثم قال: قال علماؤنا: في هذه الآية فوائد ثلاث:
إحداها: بيان علة الميراث وهي القرابة.
الثانية: عموم القرابة كيفما تصرفت من قريب أو بعيد.
الثالثة: إجمال النصيب المفروض. وذلك مبين في آية المواريث فكأن هذه الآية توطئة للحكم، وإبطال لذلك الرأى الفاسد حتى وقع البيان الشافي»
«١».
هذا، ومن العلماء من أبقى هذه الآية الكريمة على ظاهرها، فجعل المراد من الرجال:
الذكور البالغين. والمراد من الوالدين: الأب والأم بلا واسطة والمراد من الأقربين: الأقارب الأموات الذين يرثهم أقاربهم المستحقون لذلك والمراد من النساء الإناث البالغات.
والمعنى على هذا الرأى: للذكور البالغين نصيب أى حظ مما ترك آباؤهم وأمهاتهم وأقاربهم
(١) تفسير القرطبي ج ٥ ص ٤٦.
49
كإخوتهم وأخواتهم وأعمامهم وعماتهم وللإناث البالغات كذلك نصيب مما ترك آباؤهن وأمهاتهن وأقاربهن... ألخ.
وبهذا تكون الآية الكريمة قد اقتصرت على بيان أن الإرث غير مختص بالرجال كما كان الجاهليون يفعلون، بل هو أمر مشترك بين الرجال والنساء، ثم جاءت آيات المواريث بعد ذلك فبينت نصيب كل وارث.
قال الإمام الرازي: ذكر الله- تعالى- في هذه الآية هذا القدر، وهو أن الإرث مشترك بين الرجال والنساء- ثم ذكر التفصيل بعد ذلك- في آيات المواريث-، لأنه- سبحانه- أراد أن ينقلهم عن تلك العادة وهي توريث الرجال دون النساء- قليلا قليلا على التدريج، لأن الانتقال عن العادة شاق ثقيل على الطبع. فإذا كان دفعة عظم وقعه على القلب، وإذا كان على التدريج سهل. فلهذا المعنى ذكر الله- تعالى- هذا المجمل أولا ثم أردفه بالتفصيل» «١» ومن العلماء من يرى أن المراد بالرجال الصغار من الذكور ومن النساء الصغار من الإناث، وعلل مراده هذا بأن فيه عناية بشأن اليتامى، وفيه رد صريح على ما تعوده أهل الجاهلية من توريث الكبار من الرجال دون الصغار سواء أكانوا ذكورا أم إناثا. ومنهم من عمهم في الرجال والنساء فجعل المراد من الرجال الذكور مطلقا سواء أكانوا كبارا أم صغارا. وجعل المراد من النساء الإناث مطلقا سواء أكن كبارا أم صغارا.
ويكون المعنى: للذكور نصيب مما تركه الوالدان والأقربون من متاع، وللإناث كذلك نصيب مما تركه الوالدان والأقربون.
وعليه يكون المقصود من الآية الكريمة التسوية بين الذكور والإناث في أن لكل منهما حقا فيما ترك الوالدان والأقربون.
ويبدو لنا أن هذا الرأى الثالث أولى، لأنه أعم من غيره، وأشمل في الرد على ما كان يفعله أهل الجاهلية من عدم توريثهم للنساء مطلقا ولا للصغار وإن كانوا ذكورا، ولأنه يشمل سبب نزول الآية نصا، فقد ذكرنا في سبب النزول أنها نزلت في شأن بنات أوس بن ثابت وزوجته.
وقد أكد- سبحانه- حق النساء في الميراث بأن اختار هذا الأسلوب التفصيلي فقال:
لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مع أنه كان يكفى أن يقول:
للرجال والنساء نصيب، مما ترك الوالدان والأقربون، وذلك للإيذان بأصالتهن في استحقاق الإرث، وللإشعار بأنه حق مستقل عن حق الرجال، وأن هذا الحق قد ثبت لهن استقلالا
(١) تفسير الفخر الرازي ج ٩ ص ١٩٥- بتصرف وتلخيص.
50
بالقرابة كما ثبت للرجال، حتى لا يتوهم أحد أن حقهن تابع لحقهم بأى نوع من أنواع التبعية.
ثم أكد- سبحانه- هذا الحق مرة أخرى بقوله مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ أى أن حق النساء ثابت فيما تركه المتوفى من مال سواء أكان هذا المتروك قليلا أم كثيرا، لأن الذكور والإناث يتساويان في أن لكل منهما حقا فيما ترك الوالدان والأقربون حتى ولو كان هذا المتروك شيئا قليلا.
فقوله مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ عطف بيان من قوله مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ لقصد التعميم والتنصيص على أن حق النساء متعلق بكل جزء من المال الذي تركه الوالدان والأقربون ثم أكد- سبحانه- حق النساء في الميراث مرة ثالثة بقوله نَصِيباً مَفْرُوضاً لأن قوله نَصِيباً منصوب على الاختصاص والاختصاص يفيد العناية.
أى أن لكل من الرجال والنساء نصيبا فيما تركه الوالدان والأقربون، وهذا النصيب قد فرضه الله- تعالى- فلا سبيل إلى التهاون فيه، بل لا بد من إعطائه لمن يستحقه كاملا غير منقوص لأن الله هو الذي شرعه، ومن خالف شرع الله كان أهلا للعقوبة منه- سبحانه-.
قال صاحب الكشاف: وقوله: نَصِيباً مَفْرُوضاً نصب على الاختصاص بمعنى: أعنى نصيبا مفروضا مقطوعا واجبا لا بد لهم من أن يحوزوه ولا يستأثر به بعضهم دون بعض، ويجوز أن ينتصب انتصاب المصدر المؤكد كقوله: فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ كأنه قيل: قسمة مفروضة» «١».
هذا، وقد استدل الأحناف بهذه الآية على توريث ذوى الأرحام لأن العمات والخالات وأولاد البنات ونحوهن من الأقربين، فوجب دخولهم تحت قوله تعالى: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ، وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ. الآية» وثبت كونهم مستحقين لأصل النصيب بهذه الآية، وأما المقدار فمستفاد من آيات أخرى كما هو الشأن في غيرهم.
أما المخالفون للأحناف فيما ذهبوا إليه فيرون أن المراد من الأقربين الوالدان والأولاد ونحوهم وحينئذ لا يدخل فيهم ذوو الأرحام. وعلى رأى هؤلاء المخالفين يكون عطف الأقربين على الوالدين من باب عطف العام على الخاص.
كذلك استدل الأحناف بهذه الآية على أن الوارث لو أعرض عن نصيبه- قبل استحقاقه- لم يسقط حقه «٢».
(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٤٧٦.
(٢) تفسير الآلوسى ج ٤ ص ١١٢.
51
ثم أمر الله تعالى عباده بالتعاطف والتراحم، ولا سيما عند تقسيم الميراث، وإعطاء كل ذي حق حقه فقال تعالى:
[سورة النساء (٤) : آية ٨]
وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٨)
والمراد بالقسمة: التركة التي تقسم بين الورثة.
والمراد بذوي القربى هنا- عند جمهور المفسرين-: الأقارب الذين لا ميراث لهم في التركة.
والمراد باليتامى والمساكين: الأجانب الذين لا قرابة بينهم وبين الورثة.
والمعنى: وإذا حضر قسمة التركة ذوو القربى ممن لا نصيب لهم في الميراث، واليتامى الذين فقدوا العائل والنصير، والمساكين الذين أسكنتهم الحاجة وأذلتهم وصاروا في حاجة إلى العون والمساعدة فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ أى فأعطوهم من الميراث الذي تقتسمونه شيئا يعينهم على سد حاجتهم، وتفريج ضائقتهم وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً أى قولوا لهم قولا جميلا يرضاه الشرع، ويستحسنه العقل، بأن تقولوا لهم- مثلا-: خذوا هذا الشيء بارك الله لكم فيه، أو بأن تعتذروا لمن لم تعطوه شيئا. والآية الكريمة معطوفة على الآية السابقة عليها وهي قوله- تعالى- لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ.. إلخ.
وليس المراد من حضور ذوى القربى واليتامى والمساكين أن يكونوا مشاهدين للقسمة، جالسين مع الورثة، لأن قسمة الأموال لا تكون عادة في حضرة هؤلاء الضعفاء، وإنما المراد من حضورهم العلم بهم من جانب الذين يقتسمون التركة، والدراية بأحوالهم، وأنهم في حاجة إلى العون والمساعدة.
وقدم ذوى القربى على اليتامى والمساكين، لأنهم أولى بالصدقة لقرابتهم، ولأن إعطاءهم بجانب أنه صدقة، فهو صلة للرحم التي أمر الله تعالى بصلتها. وقدم اليتامى على المساكين لأن ضعف اليتامى أكثر، وحاجتهم أشد.
والضمير المجرور في قوله فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ يعود إلى ما ترك الوالدان والأقربون. أو إلى القسمة بمعنى المقسوم باعتبار معناها لا باعتبار لفظها. أى ارزقوهم من هذا الميراث أو المال المقسوم.
والأمر في قوله: فَارْزُقُوهُمْ يرى بعض العلماء أنه للوجوب، لأنه هو المستفاد من ظاهر
52
الأمر، وعليه فمن الواجب على الوارث الكبير وعلى ولى الصغير أن يعطيا لذوي القربى واليتامى والمساكين شيئا من المال تطيب به نفوسهم.
ومن أصحاب هذا الرأى من قال: إن من الواجب على الوارث الكبير أن يعطى هؤلاء المحتاجين شيئا من المال المقسوم. أما إذا كان الورثة صغارا فعلى الولي أن يعتذر لهؤلاء المحتاجين، بأن يقول لهم: إنى لا أملك هذا المال المقسوم، لأنه لهؤلاء الصغار وعند ما يكبرون فسيعرفون لكم حقكم وهذا هو القول المعروف.
ويرى كثير من العلماء أن هذا الأمر بالإعطاء للندب لا للوجوب، وأن هذا الندب إنما يحصل إذا كان الورثة كبارا، أما إذا كانوا صغارا فليس على أوليائهم إلا القول المعروف.
ومن حجج هؤلاء القائلين بأن هذا الأمر للندب والاستحباب: أنه لو كان لأولئك المحتاجين من ذوى القربى واليتامى والمساكين حق معين لبينه الله- تعالى- كما بين سائر الحقوق، وحيث لم يبين علمنا أنه غير واجب. وأيضا لو كان واجبا لتوفرت الدواعي على نقله لشدة حرص الفقراء والمساكين على تقديره، ولو كان الأمر كذلك لثبت نقله إلينا، ولما لم يكن الأمر كذلك علمنا أنه غير واجب.
وقد رجح القرطبي كون الأمر للندب لا للوجوب فقال: والصحيح أن هذا على الندب لأنه لو كان فرضا لكان استحقاقا في التركة ومشاركة في الميراث، لأحد الجهتين معلوم، وللآخر مجهول. وذلك مناقض للحكمة، وسبب للتنازع والتقاطع.
ثم قال: وذهبت فرقة إلى أن المخاطب والمراد في الآية المحتضرون الذين يقسمون أموالهم بالوصية لا الورثة. فإذا أراد المريض أن يفرق ماله بالوصايا وحضره من لا يرث ينبغي له ألا يحرمه. وهذا- والله أعلم- يتنزل حيث كانت الوصية واجبة، ولم تنزل آية الميراث.
والصحيح الأول- وهو أن الآية في قسمة التركة وأن المخاطبين بها هم المقتسمون للتركة- وعليه المعول» «١».
هذا، ومن العلماء من قال: إن هذه الآية قد نسخت بآية المواريث التي بعدها وهي قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ.. إلخ.
وقد حكى هذا القول- أيضا- ورد عليه الإمام القرطبي فقال ما ملخصه: بين الله- تعالى- في هذه الآية أن من لم يستحق شيئا وحضر القسمة وكان من الأقارب أو اليتامى والفقراء الذين لا يرثون أن يكرموا ولا يحرموا إن كان المال كثيرا والاعتذار إليهم إن كان عقارا
(١) تفسير القرطبي ج ٥ ص ٤٩.
53
أو قليلا لا يقبل الرضخ- أى العطاء القليل- فالآية على هذا القول محكمة. قاله ابن عباس.
وامتثل ذلك جماعة من التابعين: عروة بن الزبير وغيره. وأمر به أبو موسى الأشعرى.
وروى عن ابن عباس انها منسوخة نسخها قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ.
وممن قال إنها منسوخة: أبو مالك وعكرمة والضحاك.
والأول أصح فإنها مبينة استحقاق الورثة لنصيبهم، واستحباب المشاركة لمن لا نصيب له ممن حضرهم.
وفي البخاري عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية: هي محكمة وليست بمنسوخة.
وفي رواية قال: إن ناسا يزعمون أن هذه الآية نسخت، لا والله ما نسخت، ولكنها مما تهاون به الناس» «١».
وقال عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج أن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبى بكر الصديق قسم ميراث أبيه عبد الرحمن، وعائشة حية. فلم يدع في الدار مسكينا ولا ذا قرابة إلا أعطاه من ميراث أبيه وتلا هذه الآية: وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى.. إلخ. «٢»
والخلاصة، أن الذي تطمئن إليه النفس هو قول من قال: إن الآية محكمة وليست بمنسوخة، لأنه أثر عن بعض الصحابة والتابعين أنهم كانوا يفعلون ذلك ويأمرون به. ولأن الروايات القائلة بأنها منسوخة روايات مضطربة، بخلاف الروايات القائلة بأنها محكمة فهي ثابتة في صحيح البخاري ولأن الآية الكريمة لا تتعارض مع آية المواريث لأنها إنما تأمر بما يؤدى إلى التعاطف والتراحم بين الناس، وهذا أمر لا ينسخ، بل هو ثابت في كل زمان ومكان.
ونرى كذلك أن الأمر في قوله فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ على سبيل الندب والاستحباب، لا على سبيل الفرض والإيجاب- كما سبق أن بينا-.
ثم أمر الله- تعالى- عباده بتقواه، وبالتمسك بالأقوال السديدة فقال تعالى:
[سورة النساء (٤) : آية ٩]
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٩)
(١) تفسير القرطبي ج ٥ ص ٤٩.
(٢) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٤٥٥.
54
وللمفسرين في تفسير هذه الآية الكريمة أقوال:
أولها: أن الآية الكريمة أمر للأوصياء بأن يخشوا الله تعالى ويتقوه في أمر اليتامى، فيفعلوا بهم مثل ما يحبون أن يفعل بذريتهم الضعاف بعد وفاتهم.
فقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا..
إلخ.
يعنى بذلك الرجل يموت وله أولاد صغار ضعاف يخاف عليهم العيلة والضيعة، ويخاف بعده ألا يحسن إليهم من يليهم يقول: فإن ولى مثل ذريته ضعافا يتامى، فليحسن إليهم ولا يأكل أموالهم إسرافا وبدارا خشية أن يكبروا.. «١».
قال الآلوسى: «والآية الكريمة على هذا الوجه تكون مرتبطة بما قبلها، لأن قوله تعالى:
لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ.. إلخ. في معنى الأمر للورثة. أى أعطوهم حقهم دفعا لأمر الجاهلية، وليحفظ الأوصياء ما أعطوه ويخافوا عليهم كما يخافون على أولادهم «٢»
.
وعلى هذا الوجه يكون المقصود من الآية الكريمة حض الأوصياء على المحافظة على أموال اليتامى بأبلغ تعبير، لأنه سبحانه قد نبههم بحال أنفسهم وذرياتهم من بعدهم ليتصوروها ويعرفوا مكان العبرة فيها، ولا شك أن ذلك من أقوى الدواعي والبواعث في هذا المقصود لأنه سبحانه كأنه يقول لهم: افعلوا باليتامى الفعل الذي تحبون أن يفعل مع ذرياتكم الضعاف من بعدكم، فجعل- سبحانه- من شعورهم بالحنان على ذرياتهم باعثا لهم على الحنان على أيتامهم.
هذا، ومن المفسرين الذين استحسنوا هذا القول الإمام ابن كثير، فقد قال بعد أن حكى هذا القول: وهو قول حسن يتأيد بما بعده من التهديد في أكل أموال اليتامى ظلما «٣».
أما القول الثاني: فيرى أصحابه أن الآية الكريمة أمر لمن حضر المريض من العواد عند الإيصاء بأن يخشوا ربهم فيوصوا المريض في أولاده خيرا ويشفقوا عليهم كما يشفقون على أولادهم.
وقد وضح هذا القول الإمام الرازي فقال: إن هذا خطاب مع الذين يجلسون عند المريض فيقولون له: إن ذريتك لا يغنون عنك من الله شيئا، فأوص بمالك لفلان وفلان. ولا يزالون
(١) تفسير ابن جرير ج ٤ ص ٢٧٢. [.....]
(٢) تفسير الآلوسى ج ٤ ص ٢١٣.
(٣) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٤٥٦.
55
يأمرونه بالوصية إلى الأجانب إلى أن لا يبقى من ماله للورثة شيء أصلا. فقيل لهم: كما أنكم تكرهون بقاء أولادكم في الضعف والجوع من غير مال، فاخشوا الله ولا تحملوا المريض على أن يحرم أولاده الضعفاء من ماله.
وحاصل الكلام أنك لا ترضى مثل هذا الفعل لنفسك، فلا ترضه لأخيك المسلم. فعن أنس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن العبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» «١».
وقد رجح هذا الوجه الإمام ابن جرير فقال: وأولى التأويلات بالآية قول من قال: تأويل ذلك: وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم العيلة لو كانوا فرقوا أموالهم في حياتهم، أو قسموها وصية منهم لأولى قرابتهم، وأهل اليتم والمسكنة فأبقوا أموالهم لولدهم خشية العيلة عليهم من بعدهم، فليأمروا من حضروه- وهو يوصى لذوي قرابته وفي اليتامى والمساكين وفي غير ذلك- بما له بالعدل، وليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا، وهو أن يعرفوه ما أباحه الله له من الوصية، وما اختاره المؤمنون من أهل الإيمان بالله وبكتابه وسنته» «٢».
والقول الثالث: يرى أصحابه أن الخطاب في الآية للموصين، وأن الآية تأمرهم بأن يشفقوا على ورثتهم، فلا يسرفوا في الوصية لغيرهم لأن الإسراف في ذلك يؤدى إلى ترك الورثة فقراء.
ولقد قال النبي ﷺ لسعد بن أبى وقاص: «إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس».
والذي نراه أن الأمر بالخشية من الله يتناول جميع الأصناف المتقدمة: من الأوصياء، وعواد المريض، والموصين وغيرهم ممن هو أهل لهذا الخطاب لأن هؤلاء جميعا داخلون تحت الأمر بالخشية من الله- تعالى-، وبالقول السديد الذي يحبه سبحانه ويرضاه.
وقوله تعالى وَلْيَخْشَ فعل مضارع مجزوم بلام الأمر. ومفعوله محذوف لتذهب نفس السامع في تقديره كل مذهب، فينظر كل سامع بحسب الأهم عنده مما يخشى أن يصيب ذريته.
والجملة الشرطية وهي قوله تعالى لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ صلة للموصول وهو قوله الَّذِينَ وجملة خافُوا عَلَيْهِمْ جواب لَوْ.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: ما معنى وقوع لَوْ تَرَكُوا وجوابه صلة للذين؟.
قلت: معناه: وليخش الذين صفتهم وحالهم أنهم لو شارفوا أن يتركوا من خلفهم ذرية ضعافا- وذلك عند احتضارهم- خافوا عليهم الضياع بعدهم لذهاب كافلهم وكاسبهم» «٣».
(١) تفسير الفخر الرازي ج ٩ ص ١٩٨.
(٢) تفسير ابن جرير ج ٤ ص ٢٧٢.
(٣) تفسير الكشاف ج ١ ص ٤٧٨.
56
قال صاحب الانتصاف: وإنما لجأ الزمخشري إلى تقدير تَرَكُوا بقوله شارفوا أن يتركوا لأن جوابه قوله خافُوا عَلَيْهِمْ والخوف عليهم إنما يكون قبل تركهم إياهم. وذلك في دار الدنيا. فقد دل على أن المراد بالترك الإشراف عليه ضرورة، وإلا لزم وقوع الجواب قبل الشرط وهو باطل. ونظيره فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أى.
شارفن بلوغ الأجل.
ثم قال: ولهذا المجاز في التعبير عن المشارفة على الترك بالترك سر بديع. وهو التخويف بالحالة التي لا يبقى معها مطمع في الحياة، ولا في الذب عن الذرية الضعاف. وهي الحالة التي وإن كانت من الدنيا، إلا أنها لقربها من الآخرة، ولصوقها بالمفارقة، صارت من حيزها، ومعبرا عنها بما يعبر به عن الحالة الكائنة بعد المفارقة من الترك «١».
وقوله ضِعافاً صفة لذرية. وفي وصف الذرية بذلك بعث على الترحم وحض على امتثال ما أمر الله به.
والفاء في قوله فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً لترتيب ما بعدها على ما قبلها. فقد رتب الأمر بالتقوى على الأمر بالخشية وإن كانا أمرين متقاربين لأن الأمر الأول لما عضد بالحجة- وهي الخوف على ذريتهم- اعتبر كالحاصل فصح التفريع عليه.
والمعنى: فليتقوا الله في كل شأن من شئونهم وفي أموال اليتامى فلا يعتدوا عليها. وليقولوا لغيرهم قولا عادلا قويما مصيبا للحق وبعيدا عن الباطل.
قال الآلوسى وقوله وَلْيَقُولُوا أى لليتامى أو للمريض أو لحاضري القسمة، أو ليقولوا في الوصية قَوْلًا سَدِيداً فيقول الوصي لليتيم ما يقول لولده من القول الجميل الهادي له إلى حسن الآداب ومحاسن الأفعال. ويقول عائد المريض للمريض: ما يذكره بالتوبة وحسن الظن بالله، وما يصده عن الإسراف في الوصية وتضييع الورثة. ويقول الوارث لحاضر القسمة:
ما يزيل وحشته أو يزيد مسرته. ويقول الموصى في إيصائه: ما لا يؤدى إلى تجاوز الثلث.
ثم قال، والسديد: المصيب العدل الموافق للشرع. يقال: سد قوله يسد- بالكسر- إذا صار سديدا والسداد- بالفتح- الاستقامة والصواب. وأما السداد- بالكسر- فهو ما يسد به الشيء» «٢».
قال بعض العلماء: وفي الآية الكريمة ما يبعث الناس كلهم على أن يغضبوا للحق من
(١) هامش تفسير الكشاف ج ١ ص ٤٧٨.
(٢) تفسير الآلوسى ج ٤ ص ٢١٤. - بتصرف وتلخيص-.
57
الظلم، وأن يأخذوا على أيدى أولياء السوء، وأن يحرسوا أموال اليتامى، ويبلغوا حقوق الضعفاء إليه، لأنهم إن أضاعوا ذلك يوشك أن يلحق أبناءهم وأموالهم مثل ذلك. وأن يأكل قويهم ضعيفهم فإن اعتياد السوء ينسى الناس شناعته، ويكسب النفوس ضراوة على عمله» «١».
ثم توعد سبحانه الذين يعتدون على حقوق اليتامى بأشد أنواع الوعيد فقال تعالى:
[سورة النساء (٤) : آية ١٠]
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (١٠)
وقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً استئناف مسوق لتقرير ما فصل من الأوامر والنواهي السابقة التي تتعلق بحقوق اليتامى.
قال الفخر الرازي: أعلم أنه- تعالى- أكد الوعد في أكل مال اليتيم ظلما، وقد كثر الوعيد في هذه الآيات مرة بعد أخرى على من يفعل ذلك كقوله وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وكقوله: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً.
ثم ذكر بعدها هذه الآية مفردة في وعيد من يأكل أموالهم، وذلك كله رحمة من الله تعالى باليتامى لأنهم لكمال ضعفهم وعجزهم استحقوا من الله مزيد العناية والكرامة. وما أشد دلالة هذا الوعيد على سعة رحمته وكثرة عفوه وفضله لأن اليتامى لما بلغوا في الضعف إلى الغاية القصوى، بلغت عناية الله بهم إلى الغاية القصوى» «٢».
وقوله ظُلْماً أى يأكلونها على وجه الظلم سواء أكان الآكل من الورثة أم من أولياء السوء من غيرهم.
وقال سبحانه ظُلْماً لكمال التشنيع على الآكلين لأنهم يظلمون اليتامى الضعفاء الذين ليس في قدرتهم الدفاع عن أنفسهم.
أو أنه سبحانه قيد الأكل بحالة الظلم، للدلالة على أن مال اليتيم قد يؤكل ولكن لا على وجه الظلم بل على وجه الاستحقاق كما في حالة أخذ الولي الفقير أجرته من مال اليتيم
(١) تفسير التحرير والتنوير ج ٤ ص ٢٥٣ للشيخ محمد الطاهر ابن عاشور.
(٢) تفسير الفخر الرازي ج ٩ ص ١٠٠.
58
أو الاستقراض منه فإن ذلك لا يكون ظلما ولا يسمى الآكل ظالما. قال تعالى: وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ.
وقوله ظُلْماً حال من الضمير في يَأْكُلُونَ أى يأكلونها ظالمين. أو مفعول لأجله. أى يأكلونها لأجل الظلم.
قال القرطبي: روى أن هذه الآية نزلت في رجل من غطفان يقال له: مرثد بن زيد، ولى مال ابن أخيه وهو يتيم صغير فأكله فأنزل الله تعالى فيه هذه الآية. ولهذا قال الجمهور: إن المراد الأوصياء الذين يأكلون ما لم يبح لهم من مال اليتيم» «١».
وقوله: إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً بيان لسوء مصيرهم، وتصوير لإضرار الأكل عليهم.
وللمفسرين في تفسير قوله- تعالى- إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً اتجاهان.
أولهما: أن الآية على ظاهرها، وأن الآكلين لمال اليتامى ظلما سيأكلون النار يوم القيامة حقيقة.
وقد استدل أصحاب هذا الاتجاه على صحة ما ذهبوا إليه بآثار منها ما رواه ابن حبان في صحيحه وابن مردويه وابن أبى حاتم عن أبى برزة أن رسول الله ﷺ قال: يبعث يوم القيامة قوم من قبورهم تأجج أفواههم نارا. قيل يا رسول الله من هم؟ قال صلى الله عليه وسلم: ألم تر أن الله قال:
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً الآية» «٢».
وروى ابن أبى حاتم عن أبى سعيد الخدري قال: قلنا يا رسول الله ما رأيت ليلة أسرى بك؟
قال: انطلق بي إلى خلق من خلق الله كثير. رجال كل رجل منهم له مشفر كمشفر البعير، وهم موكل بهم رجال يفكون لحاء أحدهم، ثم يجاء بصخرة من نار فتقذف في أفواههم حتى تخرج من أسفلهم ولهم جؤار وصراخ. قلت: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا» «٣».
ثانيهما: يرى أصحابه أن الكلام على المجاز لا على الحقيقة وأن المراد إنما يأكلون في بطونهم المال الحرام الذي يفضى بهم إلى النار.
وعليه فكلمة ناراً مجاز مرسل من باب ذكر المسبب وإرادة السبب.
والمراد بالأكل في قوله إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ مطلق الأخذ على سبيل الظلم والتعدي.
(١) تفسير القرطبي ج ٥ ص ٥٣.
(٢، ٣) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٤٥٦.
59
وإنما ذكر الأكل وأراد به مطلق الإتلاف على سبيل الظلم لأن الأكل عن طريقه تكون معظم تصرفات الإنسان، ولأن عامة مال اليتامى في ذلك الوقت هو الأنعام التي تؤكل لحومها وتشرب ألبانها فخرج الكلام على عادتهم، ولأن في ذكر الأكل تشنيعا على الآكل لمال اليتيم ظلما، إذ هو أبشع الأحوال التي يتناول مال اليتيم فيها ولأن في ذكر الأكل مناسبة للجزاء المذكور في قوله إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً حيث يكون الجزاء من جنس العمل.
قال فِي بُطُونِهِمْ مع أن الأكل لا يكون إلا في البطن، إما لأنه قد شاع في استعمالهم أن يقولوا: أكل فلان في بطنه يريدون ملء بطنه فكأنه قيل: إنما يأكلون ملء بطونهم نارا حتى يبشموا بها. ومثله قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ أى شرقوا بها وقالوها بملء أفواههم، ويكون المراد بذكر البطون تصوير الأكل للسامع حتى تتأكد عنده بشاعة هذا الجرم بمزيد تصوير.
وإما أن يكون المراد بذكر البطون التأكيد والمبالغة كما في قوله تعالى وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ والطيران لا يكون إلا بالجناح. والغرض من كل ذلك التأكيد والمبالغة.
وقوله تعالى وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً تأكيد لسوء عاقبتهم يوم القيامة.
وسَيَصْلَوْنَ مضارع صلى كرضى إذا قاسى حر النار بشدة.
وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وَسَيَصْلَوْنَ بضم ياء المضارعة والباقون بفتحها.
والسعير: هو النار المستعرة. يقال: سعرت النار أسعرها سعرا فهي مسعورة إذا أوقدتها وألهبتها.
وإنما قال سَعِيراً بالتنكير لأن المراد نار من النيران مبهمة لا يعرف غاية شدتها إلا الله تعالى: أى وسيدخلون نارا هائلة لا يعلم مقدار شدتها إلا الله عز وجل.
أخرج أبو داود والنسائي والحاكم وغيرهم أنه لما نزلت هذه الآية انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه. فجعل يفضل له الشيء من طعامه، فيحبس له حتى يأكله أو يفسد فاشتد عليهم ذلك. فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ الآية. فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم «١».
قال الفخر الرازي: ومن الجهال من قال: صارت هذه الآية منسوخة بتلك. وهو بعيد، لأن هذه الآية في المنع من الظلم. وهذا لا يصير منسوخا. بل المقصود أن مخالطة أموال اليتامى
(١) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٤٥٧.
60
إن كانت على سبيل الظلم فهي من أعظم أبواب الإثم كما في هذه الآية. وإن كانت على سبيل التربية والإحسان فهي من أعظم أبواب البر كما في قوله.. تعالى- وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ «١».
وبعد: فهذه عشر آيات من سورة النساء، تقرؤها فتراها تكرر الأمر صراحة برعاية اليتيم وبالمحافظة على ماله في خمس آيات منها.
فأنت تراها في الآية الثانية تأمر الأولياء والأوصياء وغيرهم بالمحافظة على أموال اليتامى، وأن يسلموها إليهم عند بلوغهم كاملة غير منقوصة، وتحذرهم من الاحتيال على أكل هذه الأموال عن طريق الخلط فتقول:
وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ، وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ، إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً.
وتراها في الآية الثالثة تبيح لأولياء النساء اليتامى أن يتزوجوا بغيرهن إذا لم يأمنوا على أنفسهم العدل في أموال اليتيمات، وحسن معاشرتهن، وتسليمهن حقوقهن كاملة إذا تزوجوهن فتقول:
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ الآية. وتراها في الآية السادسة تأمر الأولياء بأن يختبروا تصرفات اليتامى وأن يسلموا إليهم أموالهم عند بلوغهم وإيناس الرشد منهم فتقول:
وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ، فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا الآية.
وتراها في الآية الثامنة تأمر المتقاسمين للتركة أن يجعلوا شيئا منها للمحتاجين من الأقارب واليتامى والمساكين فتقول:
وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ الآية.
ثم تراها في الآية العاشرة تتوعد الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما بأشد ألوان الوعيد فتقول: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً، وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً.
وقد أمر القرآن أتباعه في كثير من آياته بالعطف على اليتيم، وبحسن معاملته، وبالمحافظة على حقوقه، ومن ذلك قوله- تعالى-:
(١) تفسير الفخر الرازي ج ٩ ص ٢٠٢.
61
وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ، وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا «١».
وقوله- تعالى- ممتنا على نبيه محمد ﷺ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى. وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى. وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى. فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ.
وقوله- تعالى- وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ «٢».
وعند ما نقرأ أحاديث النبي ﷺ نراه في كثير منها يأمرنا برعاية اليتيم، وبالعطف عليه، وبإكرامه وعدم قهره وإذلاله، ويبشر الذين يكرمون اليتيم بأفضل البشارات، فقد روى البخاري وغيره عن سهل بن سعد عن النبي ﷺ أنه قال: أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا.
وقال بإصبعيه السبابة والوسطى» - أى: وأشار وفرج بين إصبعيه السبابة والوسطى-.
وإنما اعتنى الإسلام برعاية اليتيم لصغره وعجزه عن القيام بمصالحه، ولأن عدم رعايته سيؤدي إلى شيوع الفاحشة في الأمة ذلك لأن اليتيم إنسان فقد العائل والنصير منذ صغره، فإذا نشأ في بيئة ترعاه وتكرمه وتعوضه عما فقده من عطف أبيه، شب محبا لمن حوله وللمجتمع الذي يعيش فيه. وإذا نشأ في بيئة تقهره وتذله وتظلمه نظر إلى من حوله وإلى المجتمع كله نظرة العدو إلى عدوه، وصار من الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون لأنه سيقول لنفسه: إذا كان الناس لم يحسنوا إلى فلماذا أحسن إليهم؟ وإذا كانوا قد حرموني حقي الذي منحه الله لي، فلماذا أعطيهم شيئا من خيرى وبرى؟
لهذه الأسباب وغيرها أمر الإسلام أتباعه برعاية اليتيم وإكرامه وصيانة حقوقه من أى اعتداء أو ظلم.
وبعد أن يبين- سبحانه- ما يجب على الرجال نحو النساء من إعطائهن حقوقهن، وما يجب على الجميع نحو اليتامى من إكرامهم والمحافظة على أموالهم.... بعد أن بين- سبحانه- ذلك، شرع في بيان حقوق أكثر الوارثين، بعد أن أجملها في قوله- تعالى- لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ فقال- تعالى:
(١) سورة الإسراء الآية ٣٤. [.....]
(٢) سورة البقرة الآية: ٢٢.
62

[سورة النساء (٤) : الآيات ١١ الى ١٤]

يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١١) وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (١٢) تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٣) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (١٤)
63
قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لقوله- تعالى- يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ الآية:
«هذه الآية الكريمة والتي بعدها والآية التي هي خاتمة هذه السورة هن آيات علم الفرائض.
وهو مستنبط من هذه الآيات الثلاث، ومن الأحاديث الواردة في ذلك مما هو كالتفسير لذلك.
وقد ورد الترغيب في تعلم الفرائض فقد روى أبو داود عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله ﷺ قال: العلم ثلاثة وما سوى ذلك فهو فضل: آية محكمة- أى غير منسوخة- أو سنة قائمة- أى ثابتة- أو فريضة عادلة- أى عادلة في قسمتها بين أصحابها-»
.
وعن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تعلموا الفرائض وعلموه الناس فإنه نصف العلم. وهو أول شيء ينسى.. وهو أول شيء ينزع من أمتى».
ثم قال ابن كثير: وقال البخاري عند تفسير هذه الآية: عن جابر بن عبد الله قال: عادني رسول الله ﷺ وأبو بكر في بنى سلمة ماشيين فوجدني النبي ﷺ لا أعقل شيئا. فدعا بماء فتوضأ منه ثم رش على فأفقت. فقلت: يا رسول الله ما تأمرنى أن أصنع في مالي؟ فنزلت يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ الآية.
وفي حديث آخر رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة عن جابر قال: جاءت امرأة سعد بن الربيع بابنتيها من سعد إلى رسول الله ﷺ فقالت: يا رسول الله!! هاتان ابنتا سعد بن الربيع. قتل أبوهما معك يوم أحد شهيدا. وان عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالا. ولا تنكحان إلا ولهما مال. فقال صلى الله عليه وسلم: «يقضى الله في ذلك» فنزلت آية الميراث. فبعث رسول الله ﷺ إلى عمهما فقال صلى الله عليه وسلم: أعط ابنتي سعد الثلثين، وأمهما الثمن، وما بقي فهو لك».
ثم قال ابن كثير: والظاهر أن حديث جابر الأول إنما نزل بسببه الآية الأخيرة من هذه
64
السورة كما سيأتى، فإنه إنما كان له إذ ذاك أخوات ولم يكن له بنات، وإنما كان يورث كلالة.
والحديث الثاني عن جابر أشبه بنزول هذه الآية «١». هذا، وقوله- تعالى- يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ بيان لما إذا مات الميت وترك أولادا من الذكور والإناث.
وقوله يُوصِيكُمُ من الوصية، وهي- كما يقول الراغب-: التقدم إلى الغير بما يعمل به مقترنا بوعظ من قولهم: أرض واصية أى متصلة النبات ويقال: أوصاه ووصاه... ويقال:
تواصى القوم إذا أوصى بعضهم بعضا... » «٢» والمراد بقوله يُوصِيكُمُ: أى يأمركم أمرا مؤكدا.
والأولاد: جمع ولد- بوزن فعل مثل أسد- والولد: اسم للمولود ذكرا كان أو أنثى والحظ: النصيب المقدر.
والمعنى: يعهد الله إليكم ويأمركم أمرا مؤكدا في شأن ميراث أولادكم من بعد موتكم أن يكون نصيب الذكر منهم في الميراث نصيب الأنثيين.
وصدر- سبحانه- هذه الأحكام بقوله يُوصِيكُمُ اهتماما بشأنها، وإيذانا بوجوب سرعة الامتثال لمضمونها، إذ الوصية من الله- تعالى- إيجاب مؤكد، بدليل قوله- تعالى- وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ أى أوجب عليكم الانقياد لهذا الحكم إيجابا مؤكدا.
وحرف في هنا للظرفية المجازية، ومجرورها محذوف قام المضاف إليه مقامه، لأن ذوات الأولاد لا تصلح ظرفا للوصية، والتقدير: يوصيكم الله في توريث أولادكم أو في شأنهم.
وبدأ- سبحانه- ببيان ميراث الأولاد، لأنهم أقرب الناس إلى الإنسان، ولأن تعلق الإنسان بأولاده أشد من تعلقه بأى إنسان آخر.
وقوله لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ جملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب لأنها في موضع التفصيل والبيان لجملة يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ.
وقد جعل- سبحانه- نصيب الذكر ضعف نصيب الأنثى، لأن التكليفات المالية على الأنثى تقل كثيرا عن التكليفات المالية على الذكر، إذ الرجل مكلف بالنفقة على نفسه وعلى أولاده وعلى زوجته وعلى كل من يعولهم بينما المرأة نصيبها من الميراث لها خاصة لا يشاركها فيه مشارك.
(١) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٤٥٧
(٢) المفردات في غريب القرآن ص ٥٢٥ للراغب الأصفهاني.
65
وبهذا يتبين أن الإسلام قد أكرم المرأة غاية الإكرام حيث أعطاها هذا النصيب الخاص بها من الميراث بعد أن كانت في الجاهلية لا ترث شيئا.
ولم يقل- سبحانه- للذكر ضعف نصيب الأنثى، لأن الضعف قد يصدق على المثلين فصاعدا، فلا يكون نصا.
ولم يقل للأنثيين مثل حظ الذكر ولا للأنثى نصف حظ الذكر، لأن المقصود تقديم الذكر لبيان فضله ومزيته على الأنثى.
وعبر بالذكر والأنثى دون الرجال والنساء، للتنصيص على استواء الكبار والصغار من الفريقين في الاستحقاق من غير دخل للبلوغ والكبر في ذلك أصلا، كما هو زعم أهل الجاهلية حيث كانوا لا يورثون الأطفال ولا النساء.
وبعد أن بين- سبحانه- كيفية قسمة التركة إذا كان الورثة أولادا ذكورا وإناثا، عقب ذلك ببيان كيفية تقسيم التركة إذا كان الورثة من الأولاد الإناث فقط فقال- تعالى-: فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك.
قال الآلوسى: الضمير للأولاد مطلقا، ولزوم تغليب الإناث على الذكور لا يضر، لأن ذلك مما صرحوا بجوازه مراعاة للخبر ومشاكلة له. ويجوز أن يعود إلى المولودات أو البنات اللاتي في ضمن مطلق الأولاد.. والمراد من الفوقية زيادة العدد لا الفوقية الحقيقية «١».
والمعنى: فإن كانت المولودات أو البنات نساء خلصا زائدات على اثنتين بالغات ما بلغن فلهن ثلثا ما ترك المتوفى.
وهذه الجملة الكريمة قد بينت بالقول الصريح نصيب الأكثر من البنتين وهو الثلثان إلا أنها لم تبين نصيب البنتين بالقول الصريح.
وقد روى عن ابن عباس أنه قال: الثلثان فرض الثلاث من البنات فصاعدا وأما فرض البنتين فهو النصف. ودليله صريح منطوق الآية، فقد اشترطت أن أخذ ثلثى التركة للنساء يكون إذا كن فوق اثنتين أى ثلاثا فصاعدا، وذلك ينفى حصول الثلثين للبنتين.
وقال جمهور العلماء: البنتان لاحقتان بالبنات، فلهما الثلثان إذا انفردتا عن البنين كما أن البنات لهن الثلثان كذلك.
وقد بسط الفخر الرازي أدلة الجمهور على أن للبنتين الثلثين كالبنات فقال ما ملخصه:
وأما سائر الأمة فقد أجمعوا على أن فرض البنتين الثلثان. قالوا: وإنما عرفنا ذلك بوجوه:
(١) تفسير الآلوسى ج ٤ ص ٢١١- بتصرف وتلخيص.
66
أولها: من قوله- تعالى- لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وذلك لأن من مات وترك ابنا وبنتا فههنا يجب أن يكون نصيب الابن الثلثين لقوله- تعالى- لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، فإذا كان نصيب الذكر مثل نصيب الأنثيين. ونصيب الذكر هاهنا هو الثلثان، وجب لا محالة أن يكون نصيب الابنتين الثلثين.
الثاني: إذا مات وترك ابنا وبنتا فههنا يكون نصيب البنت الثلث بدليل لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فإذا كان نصيب البنت مع الولد الذكر هو الثلث فبأن يكون نصيبها مع ولد آخر أنثى هو الثلث أولى، لأن الذكر أقوى من الأنثى وإذا كان للبنت الثلث مع أختها وللأخرى كذلك فقد صار لهما الثلثان.
الثالث: أن قوله- تعالى- لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يفيد أن حظ الأنثيين أزيد من حظ الأنثى الواحدة، وإلا لزم أن يكون حظ الذكر مثل حظ الأنثى الواحدة وذلك خلاف النص.
وإذا ثبت أن حظ الأنثيين أزيد من حظ الواحدة فتقول: وجب أن يكون ذلك هو الثلثان، لأنه لا قائل بالفرق والرابع: أنا ذكرنا في سبب نزول الآية أنه ﷺ أعطى بنتي سعد بن الربيع الثلثين، وذلك يدل على ما قلناه.
الخامس: أنه- سبحانه- ذكر في هذه الآية حكم الواحدة من البنات وحكم الثلاث فما فوقهن ولم يذكر حكم الثنتين وذكر في شرح ميراث الأخوات- في آخر السورة إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ... فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ فهنا ذكر ميراث الأخت الواحدة والأختين دون الأخوات، فصارت كل واحدة من هاتين الآيتين مجملة من وجه ومبينة من وجه فنقول: لما كان نصيب الأختين الثلثين كانت البنتان أولى بذلك، لأنهما أقرب إلى الميت من الأختين.
والوجوه الثلاثة الأول مستنبطة من الآية. والرابع مأخوذ من السنة. والخامس من القياس الجلى» «١».
هذا وقد صح عن ابن عباس أنه رجع إلى قول الجمهور فانعقد الإجماع على أن للبنتين الثلثين.
ثم بين- سبحانه- الحكم فيما إذا ترك الشخص بنتا واحدة فقال: وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ.
أى وإن كانت المولودة أنثى واحدة ليس معها أخ ولا أخت فلها النصف أى نصف ما تركه المتوفى.
(١) تفسير الفخر الرازي ج ٩ ص ٢٠٦.
67
وإلى هنا تكون الآية قد ذكرت ثلاث حالات للأولاد في الميراث:
الأولى: أن يترك الميت ذكورا وإناثا. وفي هذه الحالة يكون الميراث بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين.
الثانية: أن يترك الميت بنتين فأكثر وليس معهما أخ ذكر: وفي هذه الحالة يكون لهما أو لهن الثلثان خلافا لابن عباس في البنتين- كما سبق أن بينا.
الثالثة: أن يترك الميت بنتا واحدة وليس معها أخ ذكر. وفي هذه الحالة يكون لها النصف.
قال بعض العلماء: هذا توريث الأولاد. ويلاحظ ما يأتى:
أولا: أن نصيب الأولاد إذا كانوا ذكورا وإناثا إنما يكون بعد أن يأخذ الأبوان والأجداد والجدات وأحد الزوجين أنصبتهم. فإذا كان للمتوفى أب وزوجة وأبناء وبنات، فان القسمة للذكر مثل حظ الأنثيين تكون بعد أخذ الأب والزوجة نصيبيهما.
ثانيا: أن الأولاد يطلقون على كل فروع الشخص من صلبه: أى أبناؤه وأبناء أبنائه وبناته وبنات أبنائه. أما أولاد بناته فليسوا من أولاده. وقد خالف في ذلك الشيعة فلم يفرقوا في نسبة الأولاد بين من يكون من أولاد الظهور ومن يكون من أولاد البطون. أى: لا يفرقون بين من تتوسط بينه وبين المتوفى أنثى ومن لا تتوسط.
ثالثا: أن أبناء المتوفى وبناته يقدمن على أبناء أبنائه وبنات ابنه. أى: أن الطبقة الأولى تمنع من يليها:
رابعا: أن بنات الابن يأخذن حكم البنات تماما إذا لم يكن للشخص أولاد قط لا ذكور ولا إناث» «١».
وبعد أن بين- سبحانه- ميراث الأولاد أعقبه ببيان ميراث الأبوين فقال: وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ. فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ.
وقد ذكر- سبحانه- هنا ثلاث حالات للأبوين.
أما الحالة الأولى: فيشترك فيها الأب والأم بأن يأخذ كل واحد منهما السدس إذا كان للميت ولد. وقد عبر- سبحانه- عن هذه الحالة بقوله: وَلِأَبَوَيْهِ أى لأبوى الميت ذكرا كان أو أنثى: والضمير في لِأَبَوَيْهِ كناية عن غير مذكور. وجاز ذلك لدلالة الكلام عليه.
(١) تفسير الآية الكريمة لفضيلة الأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة: مجلة لواء الإسلام السنة الثالثة عشرة ص ٧١٥
68
والمراد بالأبوين: الأب والأم. والتثنية على لفظ الأب للتغليب.
وقوله لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا بدل من قوله وَلِأَبَوَيْهِ بتكرير العامل وهو اللام في قوله لِكُلِّ. وفائدة هذا البدل أنه لو قيل: ولأبويه السدس لكان ظاهره اشتراكهما فيه.
وقوله السُّدُسُ بيان للنصيب الذي يستحقه كل واحد من الأبوين.
أى: أن لكل واحد من أبوى الميت السدس مما ترك من المال إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ أى: إن كان لهذا الميت ولد ذكرا كان أو أنثى واحدا كان أو أكثر قال القرطبي: فرض الله- تعالى- لكل واحد من الأبوين مع الولد السدس، وأبهم الولد فكان الذكر والأنثى فيه سواء. فإن مات رجل وترك ابنا وأبوين فلابويه لكل واحد منهما السدس وما بقي فللابن. فإن ترك ابنة وأبوين فللابنة النصف وللأبوين السدسان وما بقي فلأقرب عصبة وهو الأب لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر، فاجتمع للأب الاستحقاق بجهتين التعصيب والفرض» «١».
والحالة الثانية: وهي ما إذا مات وورثه أبواه، وقد بين- سبحانه- حكمها بقوله: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ.
أى فإن لم يكن للميت ولد ولا ولد ابن وورثه أبواه فقط، ففي هذه الحالة يكون لأم الميت ثلث التركة، ولأبيه الباقي من التركة وهو الثلثان، إذ لا وارث له سواهما. فإذا كان معهما أحد الزوجين كان للأم ثلث الباقي بعد نصيب الزوج أو الزوجة وثلثاه للأب وهذا رأى جمهور الصحابة وهو الذي اختاره الأئمة الأربعة وأكثر فقهاء الأمصار.
أما الحالة الثالثة: وهي ما إذا مات الميت وترك الأبوين ومعهما إخوة أو أخوات فقد بين- سبحانه- حكمها بقوله: «فإن كان له إخوة فلأمه السدس أى: فإن كان للميت إخوة من الأب والأم. أو من الأب فقط، أو من الأم فقط ذكورا كانوا أو إناثا أو مختلطين ففي هذه الحالة يكون لأم الميت سدس التركة والباقي للأب ولا ميراث للإخوة لحجبهم بالأب وبهذا نرى أن إخوة الميت ينقصون الأم من الثلث إلى السدس وإن كانوا محجوبين بالأب.
وإذ شرط الله في إنقاص نصيبها من الثلث إلى السدس الجماعة من الإخوة علم أن الأخ الواحد لا يحجبها عن الثلث بل يبقى لها الثلث.
أما الأخوان فيرى جمهور الصحابة والعلماء المجتهدين أنهما ينقصانها من الثلث إلى السدس.
لأنه قد ورد في اللغة إطلاق الجمع على الاثنين كما في قوله- تعالى- إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما.
(١) تفسير القرطبي ج ٥ ص ٧١
69
ولأن الشارع قد جعل الأختين كالثلاث في الميراث. وكذلك جعل البنتين كالثلاث. ولا فرق بين الذكور والإناث.
ويروى عن ابن عباس أن الأخوين لا ينقصان الأم من الثلث إلى السدس فشأنهما شأن الأخ الواحد لأن الله- تعالى- قال فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ بصيغة الجمع، والجمع أقله ثلاثة بخلاف التثنية. والعمل على ما ذهب إليه الجمهور.
وإلى هنا تكون الآية الكريمة قد بينت ميراث الأولاد والأبوين. ثم عقبت ذلك ببيان الوقت الذي تدفع فيه هذه الأموال إلى مستحقيها من الورثة فقالت: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ.
أى هذه الفروض المذكورة إنما تقسم للورثة من بعد إنفاذ وصية يوصى بها الميت إلى الثلث.
ومن بعد قضاء دين على الميت.
فالجملة الكريمة متعلقة بما تقدم قبلها من قسمة المواريث فكأنه قال: قسمة هذه الأنصبة من بعد وصية يوصى بها لميت ومن بعد قضاء دين عليه.
ثم بين- سبحانه- حكمة هذا التقسيم، وأكد وجوب تنفيذه فقال: آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً.
قال الآلوسى: الخطاب للورثة. وقوله آباؤُكُمْ مبتدأ، وقوله وَأَبْناؤُكُمْ معطوف عليه.
وقوله لا تَدْرُونَ مع ما في حيزه خبر له. وأىّ إما استفهامية مبتدأ. وقوله أَقْرَبُ خبره والفعل معلق عنها فهي سادة مسد المفعولين. واما موصولة، وقوله أَقْرَبُ خبر مبتدأ محذوف والجملة صلة الموصول. وأيهم مفعول أول مبنى على الضم لإضافته وحذف صدر صلته.
والمفعول الثاني محذوف. وقوله نَفْعاً نصب على التمييز وهو منقول من الفاعلية. وجملة آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً اعتراضية مؤكدة لوجوب تنفيذ الوصية «١».
والمعنى أن الله- تعالى- قد فرض لكم هذه الفرائض وقسم بينكم الميراث هذا التقسيم العادل فعليكم أن تلتزموا بتنفيذ قسمة الله التي قسمها لكم، ولا يصح لكم أن تحكموا أهواءكم في أموالكم، فإنكم لا تعلمون من أنفع لكم من أصولكم وفروعكم في دنياكم وآخرتكم.
وقد صدر- سبحانه- الجملة الكريمة بذكر الآباء والأبناء لقوة قرابتهم واتحاد اتصالهم،
(١) تفسير الآلوسى ج ٤ ص ٢٢٧
70
ومع ذلك لا يدرون النافع منهم، لأن الله- تعالى- وحده هو العليم بأحوال عباده، وبما تسره وتعلنه نفوسهم.
ثم أكد الله- تعالى- وجوب الانقياد لما شرعه لهم في شأن المواريث بتأكيدين:
أولهما: قوله- تعالى- فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ.
أى: فرض الله ذلك التقسيم للميراث فريضة، وقدره تقديرا فلا يجوز لكم أن تخالفوه، لأنه تقدير الله وقسمته، وليس لأحد أن يخالف قسمة الله وشرعه.
وقوله فَرِيضَةً منصوب على أنه مصدر مؤكد لنفسه، على حد قولهم هذا ابني حقا، لأنه واقع بعد جملة لا محتمل لها غيره، فيكون فعله الناصب له محذوفا وجوبا. أى فرض ذلك فريضة من الله.
وأما التأكيد الثاني: فهو قوله- تعالى-: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً أى إن الله- تعالى- كان عليما بما يصلح أمر العباد في دنياهم وآخرتهم، حكيما فيما قضى وقدر من شئون وتشريعات، فعليكم أن تقفوا عند ما قضى وشرع لتفوزوا بمثوبته ورعايته ورضاه.
قال الفخر الرازي ما ملخصه: ومناسبة هذا الكلام هنا أنه- تعالى- لما ذكر أنصباء الأولاد والأبوين، وكانت تلك الأنصباء مختلفة.. والإنسان ربما خطر بباله أن القسمة لو وقعت على غير هذا الوجه لكانت أنفع له وأصلح، لا سيما وقد كانت قسمة العرب للمواريث مخالفة لما جاء به الإسلام. لما كان الأمر كذلك أزال الله هذه الشبهة بأن قال: إنكم تعلمون أن عقولكم لا تحيط بمصالحكم، فربما اعتقدتم في شيء أنه صالح لكم وهو عين المضرة، وربما اعتقدتم فيه أنه عين المضرة وهو عين المصلحة، وأما الإله الحكيم الرحيم فهو عالم بمغيبات الأمور وعواقبها، فاتركوا تقدير المواريث بالمقادير التي تستحسنها عقولكم، وكونوا مطيعين لأمر الله في هذه التقديرات التي قدرها لكم، فقوله آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً إشارة إلى ترك ما يميل إليه الطبع من قسمة المواريث على الورثة. وقوله: فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إشارة إلى وجوب الانقياد لهذه القسمة التي قدرها الشرع وقضى بها» «١».
وبعد أن بين- سبحانه- ميراث الأولاد والأبوين شرع في بيان ميراث الأزواج فقال- تعالى-: وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ. فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ.
أى: ولكم أيها الرجال نصف ما ترك أزواجكم من المال إن لم يكن لهؤلاء الزوجات
(١) تفسير الفخر الرازي ج ٩ ص ٢١٨
71
الموروثات ولد ذكرا كان أو أنثى، واحدا كان أو متعددا، منكم كان أو من غيركم فإن كان لهن ولد فلكم أيها الأزواج الربع مما تركن من المال.
وبهذا نرى أن للزوج في الميراث حالتين:
حالة يأخذ فيها نصف ما تركته زوجته المتوفاة من مال إن لم تترك خلفها ولدا من بطنها أو من صلب بنيها أو بنى بنيها إلخ، فإن تركت ولدا على التفصيل السابق كان لزوجها ربع ما تركت من مال وتلك هي الحالة الثانية للزوج، ويكون الباقي في الصورتين لبقية الورثة.
وقوله مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ متعلق بكلتا الصورتين.
أى لكم ذلك أيها الرجال من بعد استخراج وصيتهن وقضاء ما عليهن من ديون.
ثم بين- سبحانه- نصيب الزوجة فقال وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ، فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ.
أى أن للزوجات ربع المال الذي تركه أزواجهن إذا لم يكن لهؤلاء الأزواج الأموات ولد من ظهورهم أو من ظهور بنيهم أو بنى بنيهم.. إلخ فإن ترك الأزواج من خلفهم ولدا فللزوجات ثمن المال الذي تركه أزواجهن ويكون المال الباقي في الصورتين لبقية الورثة.
ونرى من هذا أن الزوجة على النصف في التقدير من الزوج، وهو قاعدة عامة في قسمة الميراث بالنسبة للذكر والأنثى، ولم يستثن إلا الإخوة لأم، والأبوين في بعض الأحوال.
وقوله مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ متعلق بما قبله.
أى لكن ذلك أيتها الزوجات من بعد استخراج وصيتهم وقضاء ما عليهم من ديون.
ثم بين- سبحانه، ميراث الإخوة والأخوات لأم فقال- تعالى-: وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ. فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ.
والكلالة هم القرابة من غير الأصول والفروع.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت ما الكلالة؟ قلت: تطلق على واحد من ثلاثة: على من لم يخلف ولدا ولا والدا «وعلى من ليس بولد ولا والد من المخلفين وعلى القرابة من غير جهة الولد والوالد، ومنه قولهم ما ورث المجد عن كلالة. كما تقول: ما صمت عن عي، وما كف عن جبن.
والكلالة في الأصل مصدر بمعنى الكلال وهو ذهاب القوة من الإعياء، قال الأعشى:
فآليت لا أرثى لها من كلالة
72
فاستعيرت للقرابة من غير جهة الولد والوالد لأنها بالإضافة إلى قرابتهما كالّة ضعيفة. وعن أبى بكر الصديق- رضى الله عنه- أنه سئل عن الكلالة فقال: الكلالة: من لا ولد له ولا والد» «١».
والظاهر أن كلمة «كلالة هنا وصف للميت الموروث، لأنها حال من نائب فاعل قوله:
يُورَثُ وهو ضمير الميت الموروث. والتقدير: وإن كان رجل موروثا حال كونه كلالة. أى لم يترك ولدا ولا والدا. ويرى بعضهم أن كلمة كلالة هنا: وصف للوارث الذي ليس بولد ولا والد للميت. لأن هؤلاء الوارثين يتكللون الميت من جوانبه، وليسوا في عمود نسبه، كالإكليل يحيط بالرأس، ووسط الرأس منه خال. من تكلله الشيء إذا أحاط به. فسمى هؤلاء الأقارب الذين ليسوا من أصول الميت أو من فروعه كلالة، لأنهم أطافوا به من جوانبه لا من عمود نسبه. وعلى هذا الرأى يكون المعنى وإن كان رجل يورث حال كونه ذا وارث هو كلالة.
أى أن وارثه ليس بولد ولا والد له.
والمراد بالإخوة والأخوات هنا: الإخوة والأخوات لأم، بدليل قراءة سعد بن أبى وقاص:
«وله أخ أو أخت من أم»
. ويدل عليه- أيضا- أن الله- تعالى- ذكر ميراث الإخوة مرتين:
هنا مرة، ومرة أخرى في آخر آية من هذه السورة وهي قوله: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ.
وقد جعل- سبحانه- في الآية التي معنا للواحد السدس وللأكثر الثلث شركة، وجعل في الآية التي في آخر السورة للأخت الواحدة النصف، وللاثنتين الثلثين، فوجب أن يكون الإخوة هنا وهناك مختلفين دفعا للتعارض. ولأنه لما كان الإخوة لأب وأم أو لأب فحسب أقرب من الإخوة لأم، وقد أعطى- سبحانه- الأخت والأختين والإخوة في آخر السورة نصيبا أوفر، فقد وجب حمل الإخوة في آخر السورة على الأشقاء أو الإخوة لأب. كما وجب حمل الإخوة والأخوات هنا على الإخوة لأم.
والمعنى: وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أى: يورث من غير أصوله أو فروعه أَوِ امْرَأَةٌ أى: تورث كذلك من غير أصولها أو فروعها.
والضمير في قوله وَلَهُ يعود لذلك الشخص الميت المفهوم من المقام. أو لواحد منهما- أى الرجل والمرأة- والتذكير للتغليب. أو يعود للرجل واكتفى بحكمه عن حكم المرأة لدلالة العطف على تشاركهما في هذا الحكم.
(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٤٨٦- بتصرف وتلخيص-
73
وقوله: أَخٌ أَوْ أُخْتٌ أى: من الأم فقط فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا أى: الأخ والأخت السُّدُسُ مما ترك ذلك المتوفى من غير تفضيل للذكر على الأنثى، لأنهما يتساويان في الإدلاء إلى الميت بمحض الأنوثة. فَإِنْ كانُوا أى: الإخوة والأخوات لأم، أكثر من واحد فهم شركاء في الثلث، يقتسمونه فيما بينهم بالسوية بين ذكورهم وإناثهم، والباقي من المال الموروث يقسم بين أصحاب الفروض والعصبات من الورثة.
وبذلك نرى أن الإخوة والأخوات من الأم لهم حالتان:
إحداهما: أن يأخذ الواحد أو الواحدة السدس إذا انفردا.
والثانية: أن يتعدد الأخ لأم أو الأخت لأم وفي هذه الحالة يكون نصيبهم الثلث يشتركون فيه بالسوية بلا فرق بين الذكر والأنثى.
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ.
أى: هذه القسمة التي قسمها الله- تعالى- لكم بالنسبة للإخوة للأم إنما تتم بعد تنفيذ وصية الميت وقضاء ما عليه من ديون، من غير ضرار الورثة بوصيته أو دينه. وفي قوله يُوصى قراءتان سبعيتان:
إحداهما بالبناء للمفعول أى يُوصى - بفتح الصاد- فيكون قوله غَيْرَ مُضَارٍّ حال من فاعل فعل مضمر يدل عليه المذكور. أى من بعد وصية يوصى بها أو دين حالة كون الموصى به أو الدين غير مضار، أى غير متسبب في ضرر الورثة.
والقراءة الثانية بالبناء للفاعل أى يُوصى - بكسر الصاد- فيكون قوله غَيْرَ مُضَارٍّ حال من فاعل الفعل المذكور وهو ضمير يُوصى.
أى: يوصى بما ذكر من الوصية والدين حال كونه «غير مضار» أى غير مدخل الضرر على الورثة. وبهذا نرى أن مرتبة الورثة في التقسيم تأتى بعد سداد الديون وبعد تنفيذ الوصايا ولذا ذكر سبحانه هذين الأمرين أربع مرات في هاتين الآيتين تأكيدا لحق الدائنين والموصى لهم وتبرئة لذمة المتوفى فقد قال بعد بيان ميراث الأولاد والأبوين مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ وقال بعد بيان ميراث الزوج مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وقال بعد ميراث الزوجة: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وقال بعد بيان ميراث الإخوة والأخوات لأم: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ.
وقد قدم- سبحانه- الوصية على الدين في اللفظ مع أنها مؤخرة عن الدين في السداد،
74
وذلك للتشديد في تنفيذها، إذ هي مظنه الإهمال، أو مظنة الإخفاء، ولأنها مال يعطى بغير عوض فكان إخراجها شاقا على النفس، فكان من الأسلوب البليغ الحكيم العناية بتنفيذها، وكان من مظاهر هذه العناية تقديمها في الذكر.
وقد وضح هذا المعنى صاحب الكشاف فقال: فإن قلت: لم قدمت الوصية على الدين والدين مقدم عليها في الشريعة؟ قلت: لما كانت الوصية مشبهة للميراث في كونها مأخوذة من غير عوض، كان إخراجها مما يشق على الورثة ويتعاظمهم ولا تطيب أنفسهم بها، فكان أداؤها مظنة للتفريط، بخلاف الدين فإن نفوسهم مطمئنة إلى أدائه، فلذلك قدمت على الدين بعثا على وجوبها والمسارعة إلى إخراجها مع الدين.
فإن قلت: ما معنى أَوْ؟ قلت معناها الإباحة، وأنه إذا كان أحدهما أو كلاهما، قدم على قسمة الميراث كقولك: جالس الحسن أو ابن سيرين. فأو هنا جيء بها للتسوية بينهما في الوجوب» «١».
وقوله- تعالى- غَيْرَ مُضَارٍّ يفيد النهى للمورث عن إلحاق الضرر بورثته عن طريق الوصية أو بسبب الديون.
والضرر بالورثة عن طريق الوصية يتأتى بأن يوصى المورث بأكثر من الثلث، أو به فأقل مع قصده الإضرار بالورثة فقد روى النسائي في سننه عن ابن عباس أنه قال: الضرار في الوصية من الكبائر». وقال قتادة: كره الله الضرار في الحياة وعند الممات ونهى عنه.
والضرر بالورثة بسبب الدين يتأتى بأن يقر بدين لشخص ليس له عليه دين دفعا للميراث عن الورثة، أو يقر بأن الدين الذي كان له على غيره قد استوفاه ووصل إليه، مع أنه لم يحصل شيء من ذلك.
وقد ذكر- سبحانه- هذه الجملة وهي قوله غَيْرَ مُضَارٍّ بعد حديثه عن ميراث الإخوة والأخوات من الأم، تأكيدا لحقوقهم، وتحريضا على أدائها، لأن حقوقهم مظنة الضياع والإهمال. ولا يزال الناس إلى الآن يكادون يهملون نصيب الإخوة لأم.
وقوله وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ نصبت كلمة وَصِيَّةٍ فيه على أنها مصدر مؤكد أى: يوصيكم الله بذلك وصية. والتنوين فيها للتفخيم والتعظيم. والجار والمجرور وهو مِنَ اللَّهِ متعلق بمحذوف وقع صفة لوصية: أى وصية كائنة من الله فمن خالفها كان مستحقا لعقابه.
وقوله وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ تذييل قصد به تربية المهابة في القلوب من خالقها العليم
(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٤٨.
75
بأحوالها. أى والله عليم بما تسرون وما تعلنون، وبما يصلح أحوالكم وبمن يستحق الميراث ومن لا يستحقه وبمن يطيع أوامره ومن يخالفها حليم لا يعجل بالعقوبة على من عصاه، فهو- سبحانه- يمهل ولا يهمل. فعليكم أن تستجيبوا لأحكامه، حتى تكونوا أهلا لمثوبته ورضاه.
ثم أكد- سبحانه- وجوب الانقياد لأحكامه، وبشر المطيعين بحسن الثواب. وأنذر العصاة بسوء العقاب فقال: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.
واسم الإشارة تِلْكَ يعود إلى الأحكام المذكورة في شأن المواريث وغيرها. والمعنى: تلك الأحكام التي ذكرها- سبحانه- عن المواريث وغيرها حُدُودُ اللَّهِ أى شرائعه وتكاليفه التي شرعها لعباده.
والحدود جمع حد. وحد الشيء طرفه الذي يمتاز به عن غيره. ومنه حدود البيت أى أطرافه التي تميزه عن بقية البيوت.
والمراد بحدود الله هنا الشرائع التي شرعها- سبحانه- لعباده بحيث لا يجوز لهم تجاوزها ومخالفتها.
وقد أطلق- سبحانه- على هذه الشرائع كلمة الحدود على سبيل المجاز لشبهها بها من حيث إن المكلف لا يجوز له أن يتجاوزها إلى غيرها.
ثم قال- تعالى- وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أى فيما أمر به من الأحكام، وفيما شرعه من شرائع تتعلق بالمواريث وغيرها.
يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أى تجرى من تحت أشجارها ومساكنها الأنهار خالِدِينَ فِيها أى باقين فيها لا يموتون ولا يفنون ولا يخرجون منها وقوله وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أى وذلك المذكور من دخول الجنة الخالدة الباقية بمن فيها هو الفوز العظيم، والفلاح الذي ليس بعده فلاح.
ثم قال- تعالى- وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أى فيما أمر به من أوامر وفيما نهى عنه من منهيات وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ التي تتعلق بالمواريث وغيرها بأن يتجاوزها ويخالف حكم الله فيها.
يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها أى. يدخله نارا هائلة عظيمة خالدا فيها خلودا أبديا إن كان من أهل الكفر والضلال. وخالدا فيها لمدة لا يعلمها إلا الله إن كان من عصاة المؤمنين.
وقال هنا خالِداً فِيها بالإفراد، وقال في شأن المؤمنين خالِدِينَ فِيها بالجمع، للإيذان
76
بأن أهل الطاعة جديرون بالشفاعة. فإذا شفع أحدهم لغيره وقبل الله شفاعته. دخل ذلك الغير معه في رضوان الله.
أما أهل الكفر والمعاصي فليسوا أهلا للشفاعة، بل يبقون فرادى، تحيط بهم الذلة والمهانة من كل جانب.
أو للإشعار بأن الخلود في دار الثواب يكون على هيئة الاجتماع الذي هو أجلب للأنس والبهجة.
وبأن الخلود في دار العقاب يكون على هيئة الانفراد الذي هو أشد في استجلاب الوحشة والهم.
وقوله وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ أى لهذا العاصي لله ولرسوله، والمتعدى للحدود التي رسمها الله، عذاب عظيم من شأنه أن يخزى من ينزل به ويذله وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ.
وإلى هنا تكون الآيات الكريمة قد وضحت أحكام المواريث بأبلغ بيان، وأحكم تشريع، وبشرت المستجيبين لشرع الله بجزيل الثواب، وأنذرت المعرضين عن ذلك بسوء المصير.
هذا، ومن الأحكام والفوائد التي يمكن أن نستخلصها من هذه الآيات ما يأتى:
أولا: أن ترتيب الورثة قد جاء في الآيتين الكريمتين على أحسن وجه، وأتم بيان، وأبلغ أسلوب وذلك لأن الوارث- كما يقول الإمام الرازي- إما أن يكون متصلا بالميت بغير واسطة أو بواسطة. فإن اتصل به بغير واسطة فسبب الاتصال إما أن يكون هو النسب أو الزوجية، فحصل هنا أقسام ثلاثة:
أولها: أشرفها وأعلاها الاتصال الحاصل ابتداء من جهة النسب، وذلك هو قرابة الولاد ويدخل فيها الأولاد والوالدان، فالله- تعالى- قدم حكم هذا القسم.
وثانيها: الاتصال الحاصل ابتداء من جهة الزوجية. وهذا القسم متأخر في الشرف عن القسم الأول! لأن الأول ذاتى وهذا الثاني عرض، والذاتي أشرف من العرض.
وثالثها: الاتصال الحاصل بواسطة الغير وهو المسمى بالكلالة. وهو متأخر في الشرف عن القسمين الأولين، لأنهما لا يعرض لهم السقوط بالكلية وأما الكلالة فقد يعرض لهم السقوط بالكلية، ولأنهما يتصلان بالميت بغير واسطة بخلاف الكلالة.
فما أحسن هذا الترتيب، وما أشد انطباقه على قوانين المعقولات» «١»
(١) تفسير الفخر الرازي ج ٩ ص ٢٢٠.
77
ثانيا: أن الآيتين الكريمتين قد بينتا الوارثين والوارثات ونصيب كل وارث بالأوصاف التي جعلها الله- تعالى- سببا في استحقاق الإرث كالبنوة والأبوة والزوجية والأخوة. وقد ألغتا بالنسبة إلى أصل الاستحقاق الذكورة والأنوثة والصغر والكبر وجعلتا للكل حقا معينا في الميراث. وبهذا أبطلتا ما كان عليه الجاهليون من جعل الإرث بالنسب مقصورا على الرجال دون النساء والأطفال، وكانوا يقولون: «لا يرث إلا من طاعن بالرماح، وذاد عن الحوزة، وحاز الغنيمة».
ثالثا: أن قوله- تعالى-: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ إلخ يعم أولاد المسلمين والكافرين والأحرار والأرقاء والقاتلين عمدا وغير القاتلين إلا أن السنة النبوية الشريفة قد خصصت بعض هذا العموم، حيث أخرجت الكافر من هذا العموم لحديث:
«لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم» وعلى هذا سار جمهور العلماء فلم يورثوا مسلما من كافر ولا كافرا من مسلم.
وذهب بعضهم إلى أن الكافر لا يرث المسلم ولكن المسلم يرث الكافر.
كذلك نص العلماء على أن الحر والعبد لا يتوارثان لأن العبد لا يملك، وعلى أن القاتل عمدا لا يرث من قتله معاملة نفسه بمقصوده.
رابعا: أن نصيب الأولاد إذا كانوا ذكورا وإناثا يكون بعد أن يأخذ الأبوان والأجداد والجدات وأحد الزوجين أنصبتهم.
وأن الأولاد يطلقون على فروع الشخص من صلبه. أى أبنائه وأبناء أبنائه، وبنات أبنائه.
وأن أبناء الشخص وبناته يقدمن على أبناء أبنائه وبنات أبنائه. أى أن الطبقة الأولى تستوفى حقها في الميراث قبل من يليها.
وأن الأبناء والأبوين والزوجين لا يسقطون من أصل الاستحقاق للميراث بحال، إلا أنهم قد يؤثر عليهم وجود غيرهم في المقدار المستحق.
وأنه متى اجتمع في المستحقين للميراث ذكور وإناث من درجة واحدة، أخذ الذكر مثل حظ الأنثيين إلا ما سبق لنا استثناؤه.
خامسا: لا يجوز للمورث أن يسيء إلى ورثته لا عن طريق الوصية ولا عن طريق الدين ولا عن أى طريق آخر، لأن الله- تعالى- قد نهى عن المضارة فقال: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ.
وإن بدء الآيتين الكريمتين بقوله: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ.
78
وختم أولاهما بقوله: فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وختم ثانيتهما بقوله وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ هذا البدء والختام لجديران بأن يغرسا الخشية من الله في قلوب المؤمنين الذين يخافون مقام ربهم، وينهون أنفسهم عن السير في طريق الهوى والشيطان.
سادسا: أنه يجب تقديم حقوق الميت على تقسيم التركة، فقد كرر الله- تعالى- قوله:
مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ كما سبق أن بينا.
قال القرطبي: ولا ميراث إلا بعد أداء الدين والوصية فإذا مات المتوفى أخرج من تركته الحقوق المعينات، ثم ما يلزم من تكفينه وتقبيره، ثم الديون على مراتبها، ثم يخرج من الثلث الوصايا، وما كان في معناها على مراتبها أيضا. ويكون الباقي ميراثا بين الورثة.
وجملتهم سبعة عشر. عشرة من الرجال وهم: الابن وابن الابن وإن سفل والأب وأب الأب وهو الجد وإن علا. والأخ وابن الأخ. والعم وابن العم. والزوج ومولى النعمة.
ويرث من النساء سبع وهن: البنت وبنت الابن وإن سفلت، والأم والجدة وإن علت.
والأخت والزوجة. ومولاة النعمة وهي المعتقة... » «١».
وبعد أن أمر- سبحانه- بالإحسان إلى النساء. وبمعاشرتهن معاشرة كريمة، وبين حقوقهن في الميراث، أتبع ذلك ببيان حكمه- سبحانه- في الرجال والنساء إذا ما ارتكبوا فاحشة الزنا فقال- تعالى-:
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٥ الى ١٦]
وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (١٥) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (١٦)
وقوله: وَاللَّاتِي جمع التي. وهي تستعمل في جمع من يعقل. أما إذا أريد جمع ما لا يعقل
(١) تفسير القرطبي ج ٥ ص ٦١.
79
من المؤنث فإنه يقال: التي. تقول: أكرمت النسوة اللاتي حضرن. وتقول: نزعت الأثواب التي كنت ألبسها. وهذا هو الرأى المختار.
وبعضهم يسوى بينهما فيقول في الجمع المؤنث لغير العاقل: اللاتي.
وقوله يَأْتِينَ من الإتيان ويطلق في الأصل على المجيء إلى شيء. والمراد به هنا الفعل.
أى واللاتي يفعلن الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ.
والفاحشة: هي الفعلة القبيحة. وهي مصدر كالعافية. يقال فحش الرجل يفحش فحشا.
وأفحش: إذا جاء بالقبح من القول أو الفعل.
والمراد بها هنا: الزنا.
وقوله: مِنْ نِسائِكُمْ متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل يَأْتِينَ أى: يأتين الفاحشة حال كونهن من نسائكم.
والمراد بالنساء في قوله مِنْ نِسائِكُمْ: النساء اللاتي قد أحصن بالزواج سواء أكن ما زلن في عصمة أزواجهن أم لا. وهذا رأى جمهور الفقهاء.
وبعضهم يرى أن المراد بالنساء هنا مطلق النساء سواء أكن متزوجات أم أبكارا.
والمعنى: أن الله- تعالى- يبين لعباده بعض الأحكام المتعلقة بالنساء فيقول:
أخبركم- أيها المؤمنون- بأن اللاتي يأتين فاحشة الزنا من نسائكم، بأن فعلن هذه الفاحشة المنكرة وهن متزوجات أو سبق لهن الزواج.
فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ أى: فاطلبوا أن يشهد عليهن بأنهن أتين هذه الفاحشة المنكرة أربعة منكم أى من الرجال المسلمين الأحرار.
وقوله: فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أى فإن شهد هؤلاء الأربعة بأن هؤلاء النسوة قد أتين هذه الفاحشة، فعليكم في هذه الحالة أن تحبسوا هؤلاء النسوة في البيوت ولا تمكنوهن من الخروج عقوبة لهن، وصيانة لهن عن تكرار الوقوع في هذه الفاحشة المنكرة، وليستمر الأمر على ذلك «حتى يتوفاهن الموت» أى حتى يقبض أرواحهن الموت. أو حتى يتوفاهن ملك الموت.
وقوله: أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا أى: أو يجعل الله لهن مخرجا من هذا الإمساك في البيوت، بأن يشرع لهن حكما آخر.
وقوله: وَاللَّاتِي في محل رفع مبتدأ. وجملة فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ خبره.
80
وجاز دخول الفاء الزائدة في الخبر. لأن المبتدأ أشبه الشرط في كونه موصولا عاما صلته فعل مستقبل.
وعبر- سبحانه- عن ارتكاب فاحشة الزنا بقوله: يَأْتِينَ لمزيد التقبيح والتشنيع على فاعلها: لأن مرتكبها كأنه ذهب إليها عن قصد حتى وصل إليها وباشرها.
واشترط- سبحانه- شهادة أربعة من الرجال المسلمين الأحرار لأن الرمي بالزنا من أفحش ما ترمى به المرأة والرجل، فكان من رحمة الله وعدله أن شدد في إثبات هذه الفاحشة أبلغ ما يكون التشديد، فقرر عدم ثبوت هذه الجريمة إلا بشهادة أربعة من الرجال بحيث لا تقبل في ذلك شهادة النساء.
قال: الزهري: مضت السنة من لدن رسول الله ﷺ والخليفتين من بعده أن لا تقبل شهادة النساء في الحدود.
وقرر أن تكون الشهادة بالمعاينة لا بالسماع، ولذا قال فَإِنْ شَهِدُوا أى إن ذكروا أنهم عاينوا ارتكاب هذه الجريمة من مرتكبيها. وشهدوا على ما عاينوه وأبصروه فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ.
وحتى في قوله. حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ بمعنى إلى. والفعل بعدها منصوب بإضمار أن.
وهي متعلقة بقوله فَأَمْسِكُوهُنَّ غاية له.
والمراد بالتوفي أصل معناه أى الاستيفاء وهو القبض تقول: توفيت مالي الذي على فلان واستوفيته إذا قبضته. وإسناده إلى الموت باعتبار تشبيهه بشخص يفعل ذلك. والكلام على حذف مضاف أى: حتى يقبض أرواحهن الموت. أو حتى يتوفاهن ملائكة الموت و «أو» في قوله أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا، للعطف، فقد عطفت قوله يَجْعَلَ على قوله:
يَتَوَفَّاهُنَّ فيكون الجعل غاية لإمساكهن أيضا.
فيكون المعنى. أمسكوهن في البيوت إلى أن يتوفاهن الموت، أو إلى أن يجعل الله لهن سبيلا أى مخرجا من هذه العقوبة.
وقد جعل الله- تعالى- هذا المخرج بما شرعه بعد ذلك من حدود بأن جعل عقوبة الزاني البكر: الجلد. وجعل عقوبة الزاني الثيب: الرجم وقد رجم النبي ﷺ ماعز بن مالك الأسلمى، ورجم الغامدية، وكانا محصنين.
قال الإمام ابن كثير ما ملخصه: كان الحكم في ابتداء الإسلام أن المرأة إذا ثبت زناها بالبينة العادلة حبست في بيت فلا تمكن من الخروج منه إلى أن تموت، ولهذا قال- تعالى-:
81
وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ الآية. فالسبيل الذي جعله الله هو الناسخ لذلك- أى لإمساكهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت-.
قال ابن عباس: كان الحكم كذلك حتى أنزل الله سورة النور فنسخه بالجلد أو الرجم.
وكذلك روى عن عكرمة وسعيد بن جبير والحسن وعطاء وقتادة وزيد بن أسلم والضحاك أنها منسوخة. وهو أمر متفق عليه.
روى الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت قال: «كان النبي ﷺ إذا نزل عليه الوحى أثر عليه وكرب لذلك وتغير وجهه فأنزل الله عليه ذات يوم فلما سرى عنه قال: خذوا عنى خذوا عنى قد جعل الله لهن سبيلا، الثيب بالثيب. والبكر بالبكر. الثيب جلد مائة ورجم بالحجارة. والبكر جلد مائة ونفى سنة».
وقد رواه مسلم وأصحاب السنن من طرق عبادة بن الصامت» «١».
هذا وما ذكره ابن كثير من أن هذا الحكم كان في ابتداء الإسلام، ثم نسخ بما جاء في سورة النور وبما جاء في حديث عبادة بن الصامت، هو مذهب جمهور العلماء.
وقال صاحب الكشاف: ويجوز أن تكون غير منسوخة بأن يترك ذكر الحد لكونه معلوما بالكتاب والسنة، ويوصى بإمساكهن في البيوت بعد أن يحددن صيانة لهن عن مثل ما جرى عليهن بسبب الخروج من البيوت والتعرض للرجال. أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا هو النكاح الذي يستغنين به عن السفاح وقيل السبيل: الحد، لأنه لم يكن مشروعا في ذلك الوقت» «٢».
وقال أبو سليمان الخطابي: هذه الآية ليست منسوخة، لأن قوله فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ ألخ، يدل على أن إمساكهن في البيوت ممتد إلى غاية أن يجعل الله لهن سبيلا، وذلك السبيل كان مجملا، فلما قال النبي ﷺ خذوا عنى. ألخ، صار هذا الحديث بيانا لتلك الآية لا ناسخا لها» «٣».
ثم بين- سبحانه- حكما آخر فقال: وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما.
أى واللذان يأتيان فاحشة الزنا من رجالكم ونسائكم فآذوهما بالشتم والتوبيخ والزجر الشديد ليندما على ما فعلا، وليرتدع سواهما بهما.
وقد اختلف العلماء في المراد بقوله وَالَّذانِ.
(١) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٤٦٢. [.....]
(٢) تفسير الكشاف ج ١ ص ٤٨٧
(٣) حاشية الجمل على الجلالين ج ١ ص ٣٦٥.
82
فمنهم من قال المراد بهما الرجل والمرأة البكران اللذان لم يحصنا.
ومنهم من قال المراد بهما الرجلان يفعلان اللواط.
ومنهم من قال المراد بهما الرجل والمرأة لا فرق بين بكر وثيب.
والمختار عند كثير من العلماء هو الرأى الأول، قالوا: لأن الله- تعالى- ذكر في هاتين الآيتين حكمين:
أحدهما: الحبس في البيوت.
والثاني: الإيذاء. ولا شك أن من حكم عليه بالأول خلاف من حكم عليه بالثاني، والشرع يخفف في البكر ويشدد على الثيب، ولذلك لما نسخ هذا الحكم جعل للثيب الرجم وللبكر الجلد، فجعلنا الحكم الشديد وهو الحبس على الثيب، والحكم الأخف وهو الإيذاء على البكر.
قالوا: وقد نسخ حكم هذه الآية بآية النور، حيث جعل حكم الزانيين اللذين لم يحصنا جلد مائة.
فقد أخرجه ابن جرير عن الحسن البصري وعكرمة قالا في قوله- تعالى- وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما الآية، نسخ ذلك بآية الجلد وهي قوله- تعالى- في سورة النور: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ الآية «١».
ومن العلماء من قال بأن هذه الآية غير منسوخة بآية النور، فإن العقوبة ذكرت هنا مجملة غير واضحة المقدار لأنها مجرد الإيذاء، وذكرت بعد ذلك مفصلة بينة المقدار في سورة النور. أى أن ما ذكر هنا من قبيل المجمل، وما ذكر في سورة النور من قبيل المفصل، وأنه لا نسخ بين الآيتين.
هذا، ولأبى مسلم الأصفهاني رأى آخر في تفسير هاتين الآيتين، فهو يرى أن المراد باللاتى في قوله وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ النساء السحاقات اللاتي يستمتع بعضهن ببعض وحدهن الحبس، والمراد بقوله وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ اللائطون من الرجال وحدهم الإيذاء.
وأما حكم الزناة فسيأتى في سورة النور.
قال الآلوسى: وقد زيف هذا القول بأنه لم يقل به أحد، وبأن الصحابة قد اختلفوا في حكم اللوطي ولم يتمسك أحد منهم بهذه الآية، وعدم تمسكهم بها مع شدة احتياجهم إلى نص يدل على الحكم دليل على أن الآية ليست في ذلك. وأيضا جعل الحبس في البيت عقوبة السحاق
(١) تفسير ابن جرير ج ٤ ص ٢٩٧.
83
لا معنى له. لأنه مما لا يتوقف على الخروج كالزنا. فلو كان المراد السحاقات لكانت العقوبة لهن عدم اختلاط بعضهن ببعض لا الحبس والمنع من الخروج. وحيث جعل هو عقوبة دل ذلك على أن المراد باللاتى يأتين الفاحشة الزانيات... » «١».
والذي نراه أن هذا الحكم المذكور في الآيتين منسوخ، بعضه بالكتاب وبعضه بالسنة.
أما الكتاب فهو قوله- تعالى- في سورة النور الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ الآية.
وأما السنة فحديث عباده بن الصامت الذي سبق ذكره.
وإنما قلنا ذلك لأن ظاهر الآيتين يدل على أن ما ذكر فيهما من الحبس والإيذاء هو تمام العقوبة، مع أنه لم يثبت عن النبي ﷺ أنه عاقب أحدا من الزناة بالحبس أو بالإيذاء بعد نزول آية سورة النور. بل الثابت عنه أنه كان يجلد البكر من الرجال والنساء، ويرجم المحصن منهما، ولم يضم إلى إحدى هاتين العقوبتين حبسا أو إيذاء، فثبت أن هذا الحكم المذكور في الآيتين قد نسخ.
ثم بين- سبحانه- الحكم فيما إذا أقلع الزاني والزانية عن جريمتهما فقال: فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً.
أى فإن تابا عما فعلا من الفاحشة، وأصلحا أعمالهما فَأَعْرِضُوا عَنْهُما أى فاصفحوا عنهما وكفوا عن أذاهما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً أى مبالغا في قبول التوبة ممن تاب توبة صادقة نصوحا رَحِيماً أى واسع الرحمة بعباده الذين لا يصرون على معصية بل يتوبون إليه منها توبة صادقة.
وبعد أن وصف- سبحانه- ذاته بأنه هو التواب الرحيم عقب ذلك ببيان من تقبل منهم التوبة، ومن لا تقبل منهم فقال:
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٧ الى ١٨]
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٨)
(١) راجع تفسير الآلوسى ج ٥ ص ١٣٦- طبعة منير الدمشقي.
84
والتوبة: هي الرجوع إلى الله- تعالى- وإلى تعاليم دينه بعد التقصير فيها مع الندم على هذا التقصير والعزم على عدم العودة إليه.
والمراد بها قبولها من العبد. فهي مصدر تاب عليه إذا قبل توبته.
والمراد من الجهالة في قوله «يعملون السوء بجهالة» : الجهل والسفه بارتكاب ما لا يليق بالعاقل، لا عدم العلم، لأن من لا يعلم لا يحتاج إلى التوبة.
قال مجاهد: كل من عصى الله عمدا أو خطأ فهو جاهل حتى ينزع عن معصيته.
وقال قتادة: اجتمع أصحاب النبي ﷺ فرأوا أن كل شيء عصى الله به فهو جهالة عمدا كان أو غيره». «١»
قال- تعالى- حكاية عن يوسف- عليه السلام-: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ.
وقال حكاية عن موسى- عليه السلام- أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ.
وقال- سبحانه- مخاطبا نوحا- عليه السلام- فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ.
ووجه تسمية العاصي جاهلا- وإن عصى عن علم- أنه لو استعمل ما معه من العلم بالثواب والعقاب لما عصى ربه، فلما لم يستعمل هذا العلم صار كأنه لا علم له، فسمى العاصي جاهلا لذلك، سواء ارتكب المعصية مع العلم بكونها معصية أم لا.
والمعنى: إنما قبول التوبة كائن أو مستقر على الله- تعالى- لعباده الذين يعملون السوء، ويقعون في المعاصي بجهالة أى يعملون السوء جاهلين سفهاء، لأن ارتكاب القبيح مما يدعو إليه السفه والشهوة، لا مما تدعو إليه الحكمة والعقل.
وصدر- سبحانه- الآية الكريمة بإنما الدالة على الحصر، للإشعار بأن هؤلاء الذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب، هم الذين يقبل الله توبتهم، ويقيل عثرتهم.
(١) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٤٦٣.
85
وعبر- سبحانه- بلفظ على فقال: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ للدلالة على تحقق الثبوت، حتى لكأن قبول التوبة من هؤلاء الذين يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ من الواجبات عليه، لأنه- سبحانه- قد وعد بقبول التوبة وإذا وعد بشيء أنجزه، إذ الخلف ليس من صفاته- تعالى- بل هو محال في حقه- عز وجل-.
ولفظ التَّوْبَةُ مبتدأ. وقوله لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ متعلق بمحذوف خبر. وقوله عَلَى اللَّهِ متعلق بمحذوف صفة للتوبة.
أى: إنما التوبة الكائنة على الله للذين يعملون السوء بجهالة...
وقوله بِجَهالَةٍ متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل يَعْمَلُونَ أى: يعملون السوء جاهلين سفهاء. أو متعلق بقوله يَعْمَلُونَ فتكون الباء للسببية أى: يعملون السوء بسبب الجهالة.
وقوله ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ أى ثم يتوبون في زمن قريب من وقت عمل السوء، ولا يسترسلون في الشر استرسالا ويستمرئونه ويتعودون عليه بدون مبالاة بارتكابه.
ولا شك أنه متى جدد الإنسان توبته الصادقة في أعقاب ارتكابه للمعصية كان ذلك أرجى لقبولها عند الله- تعالى- وهذا ما يفيده ظاهر الآية. ومنهم من فسر قوله مِنْ قَرِيبٍ بما قبل حضور الموت. وإلى هذا المعنى ذهب صاحب الكشاف فقال: قوله: مِنْ قَرِيبٍ أى: من زمان قريب. والزمان القريب: ما قبل حضرة الموت ألا ترى إلى قوله حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ. فبين أن وقت الاحتضار هو الوقت الذي لا تقبل فيه التوبة، فبقى ما وراء ذلك في حكم القريب. وعن ابن عباس: قبل أن ينزل به سلطان الموت. وعن الضحاك: كل توبة قبل الموت فهي قريب» وفي الحديث الشريف: «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» - أى ما لم تتردد الروح في الحلق «١».
والذي نراه أن ما ذكره صاحب الكشاف وغيره من أن قوله مِنْ قَرِيبٍ معناه: من قبل حضور الموت، لا يتعارض مع الرأى القائل بأن قوله مِنْ قَرِيبٍ معناه: تم يتوبون في وقت قريب من وقت عمل السوء، لأن ما ذكره صاحب الكشاف وغيره بيان للوقت الذي تجوز التوبة فيه ولا تنفع بعده، أما الرأى الثاني فهو بيان للزمن الذي يكون أرجى قبولا لها عند الله.
والعاقل من الناس هو الذي يبادر بالتوبة الصادقة عقب المعصية بلا تراخ، لأنه لا يدرى متى
(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٤٨٩.
86
يفاجئه الموت، ولأن تأخيرها يؤدى إلى قسوة القلب، وضعف النفس، واستسلامها للأهواء والشهوات.
وقوله: فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً بيان للوعد الحسن الذي وعد الله به عباده الذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من قريب.
أى: فأولئك المتصفون بما ذكر، يقبل الله توبتهم، ويأخذ بيدهم إلى الهداية والتوفيق، ويطهر نفوسهم من أرجاس الذنوب، وكان الله عليما بأحوال عباده وبما هم عليه من ضعف، حكيما يضع الأمور في مواضعها حسبما تقتضيه مشيئته ورحمته بهم.
وقوله فَأُولئِكَ مبتدأ. وقوله يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ خبره.
وأشار إليهم بلفظ فَأُولئِكَ للإيذان بسمو مرتبتهم، وعلو مكانتهم، وللتنبيه على استحضارهم باعتبار أوصافهم المتقدمة الدالة على خوفهم من خالقهم عز وجل- وقوله وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً جملة معترضة مقررة لمضمون ما قبلها ثم بين- سبحانه- من لا تقبل توبتهم بعد بيانه لمن تقبل توبتهم فقال: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ، وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ.
أى: وليست التوبة مقبولة عند الله بالنسبة للذين يعملون السيئات، ويقترفون المعاصي، ويستمرون على ذلك حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ. بأن شاهد الأحوال التي لا يمكن معها الرجوع إلى الدنيا، وانقطع منه حبل الرجاء في الحياة قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ أى قال في هذا الوقت الذي لا فائدة من التوبة فيه: إنى تبت الآن.
وقوله: وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أى وليست التوبة مقبولة أيضا من الذين يموتون وهم على غير دين الإسلام.
فالآية الكريمة قد نفت قبول التوبة من فريقين من الناس.
أولهما: الذين يرتكبون السيئات صغيرها وكبيرها، ويستمرون على ذلك بدون توبة أو ندم حتى إذا حضرهم الموت، ورأوا أهواله، قال قائلهم: إنى تبت الآن وقد كرر القرآن هذا المعنى في كثير من آياته، ومن ذلك قوله- تعالى-: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا «١».
وقوله- تعالى- حكاية عن فرعون،
(١) سورة غافر الآية: ص ٨٥.
87
حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً «١».
وعدم قبول توبة هؤلاء في هذا الوقت سببه أنهم نطقوا بها في حالة الاضطرار لا في حالة الاختيار، ولأنهم نطقوا بها في غير وقت التكليف.
وثانيهما: الذين يموتون وهم على غير دين الإسلام. فقد أخرج الامام أحمد عن أبى ذر الغفاري أن رسول الله ﷺ قال: إن الله يقبل توبة عبده ما لم يقع الحجاب. قيل: وما الحجاب؟
قال أن تموت النفس وهي مشركة.
وكثير من العلماء يرى أن المراد بالفريق الثاني: الكفار، لأن العطف يقتضى المغايرة.
ومنهم من يرى أن الفريق الأول شامل للكفار ولعصاة المؤمنين فيكون عطف قوله وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ من باب عطف الخاص على العام لإفادة التأكيد.
وحَتَّى في قوله: حَتَّى إِذا حَضَرَ. حرف ابتداء.. والجملة الشرطية بعدها غاية لما قبلها. أى ليست التوبة لقوم يعملون السيئات ويستمرون على ذلك فإذا حضر أحدهم الموت قال كيت وكيت.
وقوله وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ معطوف على الموصول قبله. أى ليس قبول التوبة لهؤلاء الذين يعملون السيئات... ولا لهؤلاء الذين يموتون وهم كفار.
ثم بين- سبحانه- سوء عاقبتهم فقال- تعالى-: أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً أى أولئك الذين تابوا في غير وقت قبول التوبة هيأنا لهم عذابا مؤلما موجعا بسبب ارتكاسهم في المعاصي وابتعادهم عن الصراط المستقيم الذي يرضاه- سبحانه- لعباده.
ثم وجه القرآن نداء عاما إلى المؤمنين نهاهم فيه عما كان شائعا في الجاهلية من ظلم للنساء وإهدار لكرامتهن، وأمرهم بحسن معاشرتهن، وبعدم أخذ شيء من حقوقهن فقال- تعالى: -
(١) سورة يونس الآيات: ٩١، ٩٢، ٩٣.
88

[سورة النساء (٤) : الآيات ١٩ الى ٢١]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (١٩) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٢٠) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٢١)
قال القرطبي عند تفسيره للآية الأولى: اختلفت الروايات وأقوال المفسرين في سبب نزولها فروى البخاري عن ابن عباس قال: كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته، إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاءوا زوجوها، وإن شاءوا لم يزوجوها، فهم أحق بها من أهلها فنزلت هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً.
وقال الزهري وأبو مجلز: كان من عادتهم إذا مات الرجل يلقى ابنه من غيرها أو أقرب عصبة ثوبه على المرأة فيصير أحق بها من نفسها ومن أوليائها، فإن شاء تزوجها بغير صداق إلا الصداق الذي أصدقها الميت. وإن شاء زوجها من غيره وأخذ صداقها ولم يعطها شيئا، وإن شاء عضلها لتفتدى منه بما ورثته من الميت أو تموت فيرثها. فأنزل الله هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً. الآية.
وقيل: كان يكون عند الرجل عجوز ونفسه تتوق إلى الشابة فيكره فراق العجوز لما لها فيمسكها ولا يقربها حتى تفتدى منه بمالها أو تموت فيرث مالها فنزلت هذه الآية.
ثم قال القرطبي: والمقصود من الآية إذهاب ما كانوا عليه في جاهليتهم، وألا تجعل النساء كالمال يورثن عن الرجال كما يورث المال.. «١».
(١) تفسير القرطبي ج ٥ ص ٩٤.
89
وهناك روايات أخرى في سبب نزول هذه الآية ساقها ابن جرير وابن كثير وغيرهما، وهي قريبة في معناها، مما أورده القرطبي، لذا اكتفينا بما ساقه القرطبي.
وكلمة كَرْهاً قرأها حمزة والكسائي بضم الكاف. وقرأها الباقون بفتحها قال الكسائي:
وهما لغتان بمعنى واحد. وقال الفراء: الكره- بفتح الكاف- بمعنى الإكراه. وبالضم بمعنى المشقة. فما أكره عليه الإنسان فهو كره- بالفتح- وما كان من جهة نفسه فهو كره- بالضم-.
والمعنى: يا أيها الذين آمنوا وصدقوا بالحق الذي جاءهم من عند الله، لا يحل لكم أن تأخذوا نساء موتاكم بطريق الإرث وهن كارهات لذلك أو مكروهات عليه، لأن هذا الفعل من أفعال الجاهلية التي حرمها الإسلام لما فيها من ظلم للمرأة وإهانة لكرامتها.
وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله: «كانوا يبلون النساء بضروب من البلايا، ويظلمونهن بأنواع من الظلم، فزجروا عن ذلك. فقيل: لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً أى: أن تأخذوهن على سبيل الإرث كما تحاز المواريث وهن كارهات لذلك أو مكرهات» «١».
وقد وجه- سبحانه- النداء إلى المؤمنين فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ليعم الخطاب جميع الأمة، فيأخذ كل مكلف فيها بحظه منه سواء أكان هذا المكلف من أولياء المرأة أم من الأزواج أم من الحكام أم من غيرهم.
وفي مخاطبتهم بصفة الإيمان تحريك لحرارة العقيدة في قلوبهم، وتحريض لهم على الاستجابة إلى ما يقتضيه الإيمان من طاعة لشريعة الله- تعالى-.
وصيغة لا يَحِلُّ لَكُمْ صيغة تحريم صريح لأن الحل هو الإباحة في لسان العرب ولسان الشريعة. فنفيه يرادف معنى التحريم.
وليس النهى في قوله: لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً منصبا على إرث أموالهن كما هو المعتاد، وإنما النهى منصب على إرث المرأة ذاتها كما كانوا يفعلون في الجاهلية إذ كانوا يجعلون ذات المرأة كالمال فيرثونها من قريبهم كما يرثون ماله.
وقوله كَرْهاً مصدر منصوب على أنه حال من النساء. أى حال كونهن كارهات لذلك أو مكرهات عليه.
والتقييد بالكره لا يدل على الجواز عند عدمه، لأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفى ما عداه، كما في قوله- تعالى-: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ.
(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٤٩٠.
90
وقوله: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ نهى آخر عن بعض الأعمال السيئة التي كان أهل الجاهلية يعاملون بها المرأة. وهو معطوف على قوله:
أَنْ تَرِثُوا.... وأعيد حرف «لا» للتوكيد.
أى: لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها، ولا يحل لكم أن تعضلوهن.
وأصل العضل: التضييق والحبس والمنع. يقال: عضلت الناقة بولدها، إذا نشب في بطنها وتعسر عليه الخروج. وأعضل به الأمر، إذا اشتد وتعسر.
والمراد به هنا: منع المرأة من الزواج والتضييق عليها في ذلك، سواء أكان هذا المنع والتضييق من الزوج أم من غيره.
أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: قوله- تعالى-: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ.
يقول: ولا تقهروهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن، يعنى الرجل تكون له المرأة وهو كاره لصحبتها ولها عليه مهر فيؤذيها لتفتدى- أى: لتفتدى نفسها منه بأن تترك له مالها عليه من مهر أو مال- «١».
وقيل: كان أولياء الميت يمنعون زوجته من التزوج بمن شاءت، ويتركونها على ذلك حتى تدفع لهم ما أخذت من ميراث الميت، أو حتى تموت فيرثوها.
والمعنى: لا يحل لكم- أيها المؤمنون- أن ترثوا النساء كرها، ولا أن تمنعوهن من الزواج لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ من الصداق أو غيره، بأن يدفعن إليكم بعضه اضطرارا فتأخذوه منهن، فإن هذا الفعل يبغضه الله- تعالى-.
ويبدو لنا من سياق الآية أن النهى عن عضل المرأة هنا- وإن كان يتناول جميع المكلفين-، إلا أن المعنى به الأزواج ابتداء، لأنهم- في الغالب- هم الذين كانوا يفعلون ذلك.
ولذا قال ابن جرير- بعد أن ذكر الأقوال في المعنى بالخطاب في قوله: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ.
«وأولى الأقوال التي ذكرناها بالصحة في تأويل قوله: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ قول من قال:
«نهى الله زوج المرأة عن التضييق عليها، والإضرار بها، وهو لصحبتها كاره ولفراقها محب، لتفتدى منه ببعض ما آتاها من الصداق.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصحة، لأنه لا سبيل لأحد إلى عضل المرأة إلا لأحد رجلين: إما لزوجها بالتضييق عليها... ليأخذ منها ما آتاها... أو لوليها الذي إليه إنكاحها. ولما كان
(١) تفسير ابن جرير ج ٤ ص ٣٠٨.
91
الولي معلوما أنه ليس ممن آتاها شيئا. كان معلوما أن الذي عنى الله- تعالى- بنهيه عن عضلها هو زوجها الذي له السبيل إلى عضلها ضرارا لتفتدى منه» «١».
والاستثناء في قوله إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ متصل من أعم العلل والأسباب، أى لا تعضلوهن لعلة من العلل أو لسبب من الأسباب إلا أن يأتين بفاحشة مبينة. لسوء أخلاقهن، وكاشفة عن أحوالهن. كالزنا والنشوز، وسوء الخلق، وإيذاء الزوج وأهله بالبذاء وفحش القول ونحوه، فلكم العذر في هذه الأحوال في طلب الخلع منهن، وأخذ ما آتيتموهن من المهر لوجود السبب من جهتهن لا من جهتكم.
والأصل في هذا الحكم قوله- تعالى- وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ، تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها.
ويرى بعضهم أن الاستثناء هنا منقطع فيكون المعنى: ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن لكن إن يأتين بفاحشة مبينة يحل لكم أخذ المهر الذي آتيتموهن إياه أو أخذ بعضه.
ثم أمر الله- تعالى- الرجال- وخصوصا الأزواج- بحسن معاشرة النساء فقال:
وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ.
والمعاشرة: مفاعلة من العشرة وهي المخالطة والمصاحبة.
أى: وصاحبوهن وعاملوهن بالمعروف، أى بما حض عليه الشرع وارتضاه العقل من الأفعال الحميدة، والأقوال الحسنة.
قال ابن كثير: قوله- تعالى- وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ أى: طيبوا أقوالكم لهن، وحسنوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم. كما تحب ذلك منها، فافعل أنت مثله. كما قال- تعالى- وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلى». وكان من أخلاقه ﷺ أنه جميل العشرة، دائم البشر، يداعب أهله، ويتلطف بهم، ويضاحك نساءه. حتى أنه كان يسابق عائشة أم المؤمنين- رضى الله عنها- يتودد إليها بذلك.
قالت: سابقنى رسول الله ﷺ فسبقته. وذلك قبل أن أحمل اللحم. ثم سابقته بعد ما حملت اللحم فسبقني. فقال: هذه بتلك. وكان ﷺ يجمع نساءه كل ليلة في بيت التي يبيت عندها فيأكل معهن العشاء في بعض الأحيان، ثم تنصرف كل واحدة إلى منزلها. وكان ينام مع المرأة من نسائه في شعار واحد. يضع عن كتفيه الرداء وينام بالإزار.
(١) تفسير ابن جرير ج ٤. ص ٣٠٩- بتصرف وتلخيص.
92
وكان إذا صلى العشاء يدخل منزله يسمر مع أهله قليلا قبل أن ينام. يؤانسهن بذلك صلى الله عليه وسلم.
وقد قال- تعالى- لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ «١».
هذا، وللإمام الغزالي كلام حسن في كتابه الإحياء عند حديثه عن آداب معاشرة النساء، فقد قال ما ملخصه: ومن آداب المعاشرة حسن الخلق معهن، واحتمال الأذى منهن، ترحما عليهن، لقصور عقلهن. قال- تعالى-: وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ. وقال في تعظيم حقهن:
وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً.
ثم قال: واعلم أنه ليس حسن الخلق معها كف الأذى عنها، بل احتمال الأذى منها، والحلم عن طيشها وغضبها، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد كانت أزواجه تراجعنه الكلام. ومن آداب المعاشرة- أيضا- أن يزيد على احتمال الأذى منها بالمداعبة والمزح والملاعبة، فهي التي تطيب قلوب النساء. وقد كان رسول الله ﷺ يمزح معهن وينزل إلى درجات عقولهن في الأعمال.
وقال عمر- رضى الله عنه- ينبغي للرجل أن يكون في أهله مثل الصبى. فإذا التمسوا ما عنده وجدوه رجلا.
وكان ابن عباس- رضى الله عنه- يقول: «إنى- لأتزين لامرأتى كما تتزين لي» «٢».
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة ببيان أنه لا يصح للرجال أن يسترسلوا في كراهية النساء إن عرضت لهم أسباب الكراهية، بل عليهم أن يغلبوا النظر إلى المحاسن، ويتغاضوا عن المكاره فقال- تعالى-: فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً.
أى: فإن كرهتم صحبتهن وإمساكهن فلا تتعجلوا في مفارقتهن، فإنه عسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله لكم في الصبر عليه وعدم إنفاذه خيرا كثيرا في الدنيا والآخرة.
فالآية الكريمة ترشد إلى حكم عظيمة منها أن على العاقل أن ينظر إلى الحياة الزوجية من جميع نواحيها، لا من ناحية واحدة منها وهي ناحية البغض والحب.. وأن ينظر في العلاقة التي بينه وبين زوجه بعين العقل والمصلحة المشتركة، لا بعين الهوى.. وأن يحكم دينه وضميره قبل أن يحكم عاطفته ووجدانه. فربما كرهت النفس ما هو أصلح في الدين وأحمد وأدنى إلى الخير، وأحبت ما هو بضد ذلك، وربما يكون الشيء الذي كرهته اليوم ولكنها لم تسترسل في كراهيته سيجعل الله فيه خيرا كثيرا في المستقبل. قال- تعالى- وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ.
(١) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٤٦٦.
(٢) من كتاب «إحياء علوم الدين» للغزالى ج ٢ ص ٣٩. [.....]
93
قال القرطبي: روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقا رضى منها آخر» أى: لا يبغضها بغضا كليا يحمله على فراقها. أى لا ينبغي له ذلك، بل يغفر سيئتها لحسنتها، ويتغاضى عما يكره لما يحب. - والفرك البغض الكلى الذي تنسى معه كل المحاسن-.
وقال مكحول: سمعت ابن عمر رضى الله عنهما- يقول: إن الرجل ليستخير الله- تعالى- فيخار له، فيسخط على ربه- عز وجل- فلا يلبث أن ينظر في العاقبة فإذا هو قد خير له» «١».
وبعد أن بين- سبحانه- أنه يجوز للرجل أن يأخذ من المرأة بعض ما أعطاها من صداق إذا أتت بفاحشة مبينة.. عقب ذلك ببيان الحكم فيما إذا كان الفراق من جانب الزوج دون أن تكون المرأة قد أتت بفاحشة فقال- تعالى- وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً والاستبدال: طلب البدل، بأن يطلق الرجل امرأة ويتزوج بأخرى.
والقنطار: أصله من قنطرت الشيء إذا رفعته. ومنه القنطرة، لأنها بناء مرتفع مشيد. والمراد به هنا المال الكثير الذي هو أقصى ما يتصور من مهر يدفعه الرجل للمرأة.
والمعنى: وإن أردتم أيها الأزواج اسْتِبْدالَ زَوْجٍ أى تزوج امرأة ترغبون فيها «مكان زوج» أى مكان امرأة لا ترغبون فيها، بل ترغبون في طلاقها وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً أى أعطى أحدكم إحدى الزوجات التي تريدون طلاقها مالا كثيرا على سبيل الصداق لها فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أى فلا نأخذوا من المال الكثير الذي أعطيتموه لهن شيئا أيا كان هذا الشيء، لأن فراقهن كان بسبب من جانبكم لا من جانبهن.
وعبر- سبحانه- ب إِنْ التي تفيد الشك في وقوع الفعل للتنبيه على أن الإرادة قد تكون غير سليمة، وغير مبنية على أسباب قوية، فعلى الزوج أن يتريث ويتثبت ويحسن التدبر في عواقب الأمور.
والمراد بالزوج في قوله اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ الجنس الذي يصدق على جميع الأزواج.
والمراد من الإيتاء في قوله وَآتَيْتُمْ الالتزام والضمان. أى: التزمتم وضمنتم أن تؤتوا إحداهن هذا المال الكثير.
(١) تفسير القرطبي ج ٥ ص ٩٨.
94
والجملة حالية بتقدير قد. أى: وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج والحال أنكم قد آتيتم التي تريدون أن تطلقوها قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا.
والاستفهام في قوله أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً للإنكار والتوبيخ، والبهتان: هو الكذب الذي يدهش ويحير لفظاعته. ويطلق على كل أمر كاذب يتحير العقل في إدراك سببه أو لا يعرف مبررا لوقوعه، كمن يعتدى على الناس ويتقول عليهم الأقاويل، مع أنه ليست هناك عداوة سابقة بينه وبينهم.
قال صاحب الكشاف: والبهتان: أن تستقبل الرجل بأمر قبيح تقذفه به وهو برىء منه ولأنه يبهت عند ذلك. أى يتحير.
والإثم: هو الذنب العظيم الذي يبعد صاحبه عن رضا الله- تعالى- والمبين هو الشيء الواضح الذي يعلن عن نفسه بدون لبس أو خفاء.
وقوله بُهْتاناً وَإِثْماً مصدران منصوبان على الحالية بتأويل الوصف، أى: أتأخذون ما تريدون أخذه منهن باهتين، أى فاعلين فعلا تتحير العقول في سببه، وآثمين بفعله إثما واضحا لا لبس فيه ولا خفاء؟! ويصح أن يكون المصدران مفعولين لأجله، ويكون ذلك أشد في التوبيخ والإنكار، إذ يكون المعنى عليه: أتأخذونه لأجل البهتان والإثم المبين الذي يؤدى إلى غضب الله عليكم؟! إن إيمانكم يمنعكم من ارتكاب هذا الفعل الشنيع في قبحه.
قالوا: كان الرجل في الجاهلية إذا أراد التزويج بامرأة أخرى، بهت التي تحته- أى رماها بالفاحشة التي هي بريئة منها- حتى يلجئها إلى أن تطلب طلاقها منه في نظير أن تترك له ما لها عليه من صداق أو غيره، فنهوا عن ذلك.
ثم كرر- سبحانه- توبيخه لمن يحاول أخذ شيء من صداق زوجته التي خالطته في حياته مدة طويلة فقال: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً.
وأصل أفضى- كما يقول الفخر الرازي- من الفضاء الذي هو السعة يقال: فضا يفضو فضوا وفضاء إذا اتسع. ويقال: أفضى فلان إلى فلان أى: وصل إليه وأصله أنه صار في فرجته وفضائه.
والمراد بالإفضاء هنا: الوصول والمخالطة: لأن الوصول إلى الشيء قطع للفضاء الذي بين المتواصلين.
95
والاستفهام في قوله وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ للتعجب من حال من يأخذ شيئا مما أعطاه لزوجته بعد إنكار ذات الأخذ.
والمراد بالميثاق الغليظ في قوله «وأخذن منكم ميثاقا غليظا» هو ما أخذه الله للنساء على الرجال من حسن المعاشرة أو المفارقة بإحسان كما في قوله- تعالى-: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ. وليس أخذ شيء مما أعطاه الرجال للنساء من التسريح بإحسان، بل يكون من التسريح الذي صاحبه الظلم والإساءة.
والمراد بالميثاق الغليظ الذي أخذ: كلمة النكاح المعقودة على الصداق، والتي بها تستحل فروج النساء، ففي صحيح مسلم عن جابر أن رسول الله ﷺ قال في خطبة حجة الوداع:
«استوصوا بالنساء خيرا فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله» «١».
والمعنى: بأى وجه من الوجوه تستحلون يا معشر الرجال ان تأخذوا شيئا من الصداق الذي أعطيتموه لنسائكم عند مفارقتهن والحال أنكم قد اختلط بعضكم ببعض، وصار كل واحد منكم لباسا لصاحبه، وأخذن منكم عهدا وثيقا مؤكدا مزيد تأكيد لا يحل لكم أن تنقضوه أو تخالفوه!!؟
فأنت ترى أن الله- تعالى- قد منع الرجال من أخذ شيء من الصداق الذي أعطوه لنسائهم لسببين:
أحدهما: الإفضاء وخلوص كل زوج لنفس صاحبه حتى صارا كأنهما نفس واحدة.
وثانيهما: الميثاق الغليظ الذي أخذ على الرجال بأن يعاملوا النساء معاملة كريمة.
والضمير في قوله وَأَخَذْنَ للنساء. والآخذ في الحقيقة إنما هو الله- تعالى- إلا أنه سبحانه- نسبه إليهن للمبالغة في المحافظة على حقوقهن، حتى جعلهن كأنهن الآخذات له.
قال بعضهم: وهذا الإسناد مجاز عقلي، لأن الآخذ للعهد هو الله. أى: وقد أخذ الله عليكم العهد لأجلهن وبسببهن. فهو مجاز عقلي من الإسناد إلى السبب» «٢».
ووصف- سبحانه- الميثاق بالغلظة لقوته وشدته. فقد قالوا: صحبة عشرين يوما قرابة.
فكيف بما جرى بين الزوجين من الاتحاد والامتزاج؟! هذا، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآيات الكريمة ما يأتى:
١- تكريم الإسلام للمرأة، فقد كانت في الجاهلية مهضومة الحق، يعتدى عليها بأنواع من
(١) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٤٦٧.
(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ١ ص ٣٦٩.
96
الاعتداء، فرفعها الله- تعالى- بما شرعه من تعاليم إسلامية من تلك الهوة التي كانت فيها، وقرر لها حقوقها، ونهى عن الاعتداء عليها.
ومن مظاهر ذلك أنه حرم أن تكون موروثة كما يورث المال. وكذلك حرم عضلها وأخذ شيء من صداقها إلا إذا أتت بفاحشة مبينة. وأمر الرجال بأن يعاشروا النساء بالمعروف، وأن يصبروا على أخطائهن رحمة بهن.
٢- جواز الإصداق بالمال الكثير: لأن الله- تعالى- قال: وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً.
والقنطار: المال الكثير الذي هو أقصى ما يتصور من مهور.
قال القرطبي ما ملخصه: قوله- تعالى- وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً دليل على جواز المغالاة في المهور، لأن الله- تعالى- لا يمثل إلا بمباح.
وخطب عمر- رضى الله عنه- فقال: ألا لا تغالوا في صدقات النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله، لكان أولاكم بها رسول الله ﷺ ولكن رسول الله ﷺ ما أصدق قط امرأة من نسائه ولا من بناته فوق اثنتي عشرة أوقية. فقامت إليه امرأة فقالت:
يا عمر. يعطينا الله وتحرمنا!! أليس الله تعالى- يقول: وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً؟ فقال عمر: أصابت امرأة وأخطأ عمر..
وفي رواية أنه أطرق ثم قال: امرأة أصابت ورجل أخطأ وترك الإنكار.
ثم قال القرطبي: وقال قوم: لا تعطى الآية جواز المغالاة في المهور، لأن التمثيل بالقنطار إنما هو على جهة المبالغة: كأنه قال: وآتيتم هذا القدر العظيم الذي لا يؤتيه أحد..
ولقد قال النبي ﷺ لابن أبى حدرد- وقد جاءه يستعين في مهره فسأله عنه فقال: مائتين، فغضب ﷺ وقال: كأنكم تقطعون الذهب والفضة من عرض الحرة» أى من ذلك المكان الذي به حجارة نخرة سود- فاستنتج بعض الناس من هذا منع المغالاة في المهور» «١».
والذي نراه ان الآية الكريمة وإن كانت تفيد جواز الإصداق بالمال الجزيل، إلا ان الأفضل عدم المغالاة في ذلك، مع مراعاة أحوال الناس من حيث الغنى والفقر وغيرهما.
ولقد ورد ما يفيد الندب إلى التيسير في المهور. فقد أخرج أبو داود والحاكم من حديث عقبة بن عامر قال: قال رسول الله ﷺ «خير الصداق أيسره» «٢».
٣- أن الرجل إذا أراد فراق امرأته. فلا يحل له أن يأخذ منها شيئا مادام الفراق بسببه ومن
(١) تفسير القرطبي ج ٥ ص ٩٩ بتصرف وتلخيص.
(٢) أخرجه أبو داود في باب «من تزوج ولم يسم صداقا حتى مات «من كتاب النكاح ج ٢ ص ٢٣١.
97
جانبه: كما أنه لا ينبغي له أن يأخذ منها أكثر مما أعطاه إياها إذا كان الفراق بسببها ومن جانبها.
٤- اتفق العلماء على أن المهر يستقر بالوطء. واختلفوا في استقراره بالخلوة المجردة.
قال القرطبي والصحيح استقراره بالخلوة مطلقا. وبه قال أبو حنيفة وأصحابه. قالوا: إذا خلا بها خلوة صحيحة يجب كمال المهر والعدة. دخل بها أو لم يدخل بها. لما رواه الدارقطني عن ثوبان قال: قال رسول الله ﷺ «من كشف خمار امرأة ونظر إليها وجب الصداق». وقال مالك: إذا طال مكثه معها السنة ونحوها. واتفقا على ألا مسيس. وطلبت المهر كله كان لها» «١».
وبعد أن نهى- سبحانه- عن ظلم المرأة في حال الزوجية. وعن ظلمها بعد وفاة زوجها.
وعن ظلمها في حالة فراقها. وأمر بمعاشرتها بالمعروف بعد كل ذلك بين- سبحانه- من لا يحل الزواج بهن من النساء ومن يحل الزواج بهن حتى تبقى للأسرة قوتها ومودتها فقال- تعالى-:
[سورة النساء (٤) : الآيات ٢٢ الى ٢٤]
وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (٢٢) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٣) وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٢٤)
(١) تفسير القرطبي ج ٥ ص ١٠٢.
98
أورد المفسرون روايات في سبب نزول قوله- تعالى- وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ الآية.
ومن هذه الروايات ما رواه ابن أبى حاتم- بسنده- عن رجل من الأنصار قال: لما توفى أبو قيس- يعنى ابن الأسلت- وكان من صالحي الأنصار، فخطب ابنه قيس امرأته فقالت:
إنما أعدك ولدا لي وأنت من صالحي قومك، ولكني آتى رسول الله ﷺ واستأمره.
فأتت رسول الله ﷺ فقالت: يا رسول الله إن أبا قيس توفى. فقال: «خيرا». ثم قالت إن ابنه قيسا خطبنى وهو من صالحي قومه، وإنما كنت أعده ولدا لي فماذا ترى؟ فقال لها:
«ارجعي إلى بيتك» فنزلت: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ «١».
وقال القرطبي: قوله- تعالى-: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ يقال: كان الناس يتزوجون امرأة الأب برضاها بعد نزول قوله- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً حتى نزلت هذه الآية وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ فصار حراما في الأحوال كلها، لأن النكاح يقع على الجماع والتزوج، فإن كان الأب تزوج امرأة أو وطئها يغير نكاح حرمت على ابنه.
(١) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٤٦٨.
99
ثم قال: وقد كان في العرب قبائل قد اعتادت أن يخلف ابن الرجل على امرأة أبيه. وكانت هذه السيرة في الأنصار لازمة، وكانت في قريش مباحة على التراضي، فنهى الله المؤمنين عما كان عليه آباؤهم من هذه السيرة» «١».
وقوله وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ إلخ. معطوف على قوله: لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وما في قوله ما نَكَحَ آباؤُكُمْ موصول اسمى مراد به الجنس. أى لا تنكحوا التي نكح آباؤكم. وقوله مِنَ النِّساءِ بيان ل ما الموصولة.
ويرى بعضهم أن «ما» هنا مصدرية فيكون المعنى. ولا تنكحوا نكاحا مثل نكاح آبائكم الفاسد الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية.
قال الآلوسى. وإنما خص هذا النكاح بالنهى، ولم ينظم في سلك نكاح المحرمات الآتية «مبالغة في الزجر عنه. حيث كان ذلك ديدنا لهم في الجاهلية» «٢».
فالآية الكريمة تحرم على الأبناء أن يتزوجوا من النساء اللائي كن أزواجا لآبائهم.
وكلمة آباؤُكُمْ في قوله وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ تشمل كل الأصول من الرجال.
أى: تشمل الأجداد جميعا سواء أكانوا من جهة الأب أم من جهة الأم والاستثناء في قوله إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ استثناء منقطع.
والمعنى: لا تنكحوا أيها المؤمنون ما نكح آباؤكم من النساء. لأنه من أفعال الجاهلية القبيحة، أما ما قد سلف ومضى منه قبل نزول هذه الآية فلا تؤاخذون عليه، فمن كان متزوجا من امرأة كانت زوجة لأبيه من النسب أو من الرضاع، فإنها تصير حراما عليه من وقت نزول هذه الآية الكريمة، ويجب عليه أن يفارقها أما ما مضى من هذا النكاح القبيح فلا تثريب عليكم فيه، وتثبت به أحكام النكاح من النسب وغيره من الأحكام.
ويرى بعضهم أن الاستثناء هنا متصل مما يستلزمه النهى، ويستوجبه مباشرة المنهي عنه من العقاب. فكأنه قيل: ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء فإنه قبيح ومعاقب عليه من الله- تعالى-، إلا ما قد سلف ومضى، فإنه معفو عنه.
وقد وجه صاحب الكشاف الاستثناء بوجه آخر فقال: فإن قلت: كيف استثنى ما قد سلف مما نكح آباؤهم؟ قلت: كما استثنى «غير أن سيوفهم» من قول الشاعر:
«ولا عيب فيهم» غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
(١) تفسير القرطبي ج ٥ ص ١٠٣ بتصرف وتلخيص.
(٢) تفسير الآلوسي ج ٤ ص ٢٤٤.
100
يعنى: إن أمكنكم أن تنكحوا ما قد سلف فانكحوه، فإنه لا يحل لكم غيره، وذلك غير ممكن والغرض المبالغة في تحريمه، وسد الطريق إلى إباحته كما يعلق بالمحال في التأبيد نحو قولهم: حتى يبيض الفأر. وحتى يلج الجمل في سم الخياط «١».
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة ببيان أن هذا النوع من النكاح في نهاية السوء والقبح فقال: إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلًا.
أى: إن هذا النوع من النكاح كان أمرا زائدا في القبح شرعا وخلقا، لأنه يشبه نكاح الأمهات، ويتنافى مع ما للآباء من وقار واحترام، وما يجب من حسن الصحبة وكان «مقتا» والمقت مصدر بمعنى البغض والكراهية.
أى: إن هذا النوع من النكاح كان خصلة بالغة الحد في القبح والفحش، وكان ممقوتا مبغوضا عند الله، وعند ذوى المروءات والعقول السليمة من الناس.
قال صاحب الكشاف: كانوا ينكحون روابهم- أى زوجات آبائهم جمع رابة وهي امرأة الأب- وكان ناس منهم من ذوى مروءاتهم يمقتونه- لفظاعته وبشاعته- ويسمونه نكاح المقت. وكان المولود عليه يقال له المقتى- أى المبغوض- ومن ثم قيل وَمَقْتاً كأنه قيل: هو فاحشة في دين الله بالغة في القبح. قبيح ممقوت في المروءة. ولا مزيد على ما يجمع القبحين «٢».
وقوله وَساءَ سَبِيلًا أى بئس طريقا طريق ذلك النكاح، إذ فيه هتك حرمة الأب. وتقطيع للرحم التي أمر الله بوصلها.
وقوله «وساء» هنا بمعنى بئس، وفيه ضمير يفسره ما بعده. والمخصوص بالذم محذوف تقديره ذلك أى ساء سبيلا سبيل ذلك النكاح.
قال الفخر الرازي: اعلم أنه- سبحانه- قد وصف هذا النكاح بأمور ثلاثة:
أولها: أنه فاحشة لأن زوجة الأب تشبه الأم فمباشرتها من أفحش الفواحش.
وثانيها: المقت: وهو عبارة عن بغض مقرون باستحقار.
وثالثها: قوله وَساءَ سَبِيلًا.
واعلم أن مراتب القبح ثلاثة: القبح في العقول وفي الشرائع وفي العادات.
فقوله- تعالى- إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً إشارة إلى القبح العقلي. وقوله وَمَقْتاً إشارة إلى
(١) تفسير الآلوسى ج ٤ ص ٢٤٤.
(٢) الكشاف ج ١ ص ٤٩٣.
101
القبح الشرعي. وقوله وَساءَ سَبِيلًا إشارة إلى القبح في العرف والعادة. ومتى اجتمعت فيه هذه الوجوه فقد بلغ الغاية في القبح» «١».
وقال الإمام ابن كثير، فمن تعاطى هذا النكاح بعد ذلك- أى استباح تعاطيه- فقد ارتد عن دينه فيقتل ويصير ماله فيئا لبيت المال. لما رواه الإمام أحمد وأهل السنن من طرق عن البراء بن عازب أنه بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم- إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده، فأمره أن يقتله ويأخذ ماله.
وفي رواية عن البراء قال، مرّ بي عمى الحارث بن عمير ومعه لواء قد عقده له النبي ﷺ فقلت له، أى عم، أين بعثك النبي ﷺ فقال، بعثني إلى رجل تزوج امرأة أبيه فأمرنى أن أضرب عنقه» «٢».
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك من يحرم نكاحهن من الأقارب فقال تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وليس المراد بقوله حُرِّمَتْ تحريم ذاتهن، لأن الحرمة لا تتعلق بالذوات وإنما تتعلق بأفعال المكلفين. فالكلام على حذف مضاف أى حرم عليكم نكاح أمهاتكم وبناتكم.. إلخ وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله، معنى حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ تحريم نكاحهن لقوله.
وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ ولأن تحريم نكاحهن هو الذي يفهم من تحريمهن، كما يفهم من تحريم الخمر تحريم شربها. ومن تحريم لحم الخنزير تحريم أكله» «٣».
وقد ذكر- سبحانه- في هذه الجملة الكريمة أربع طوائف من الأقارب يحرم نكاحهن.
أما الطائفة الأولى: طائفة الأمهات من النسب. أى حرم الله عليكم نكاح أمهاتكم من النسب، ويعم هذا التحريم أيضا الجدات سواء أكن من جهة الأب أم من جهة الأم، لأنه إذا كان يحرم نكاح العمة أو الخالة فمن الأولى أن يكون نكاح الجدة محرما، إذ الأم هي طريق الوصول في القرابة إلى هؤلاء. وقد أجمع المسلمون على تحريم نكاح الجدات.
والطائفة الثانية: هي طائفة الفروع من النساء، وقد عبر القرآن عن ذلك بقوله وَبَناتُكُمْ بالعطف على أمهاتكم.
أى حرم الله عليكم نكاح أمهاتكم ونكاح بناتكم.
(١) تفسير الفخر الرازي ج ٩ ص ٢٤.
(٢) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٤٦٨.
(٣) تفسير الكشاف ج ١ ص ٤٩٤. [.....]
102
والبنت هي كل امرأة لك عليها ولادة سواء أكانت بنتا مباشرة أم بواسطة فتشمل حرمة النكاح البنات وبنات الأبناء وبنات البنات وإن نزلن.
وقد انعقد الإجماع على تحريم الفروع من النساء مهما تكن طبقتهن.
والطائفة الثالثة: هي طائفة فروع الأبوين. وقد عبر القرآن عن ذلك بقوله وَأَخَواتُكُمْ ثم بقوله، وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ بالعطف على أُمَّهاتُكُمْ.
أى وحرم الله عليكم نكاح أخواتكم سواء أكن شقيقات أم غير شقيقات حرم عليكم أيضا نكاح بنات إخوانكم وبنات أخواتكم من أى وجه يكن.
والطائفة الرابعة: هي طائفة العمات والخالات. وقد ثبت تحريم نكاحهن بقوله- تعالى- وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ بالعطف على أُمَّهاتُكُمْ.
أى حرم الله عليكم نكاح عماتكم وخالاتكم كما حرم عليكم نكاح أمهاتكم وبناتكم.
والعمة: هي كل امرأة شاركت أباك مهما علا في أصليه أو في أحدهما.
والخالة: هي كل امرأة شاركت أمك مهما علت في أصليها أو في أحدهما.
وإذن فالعمات والخالات يشملن عمات الأب والأم، وخالات الأب والأم، وعمات الجد والجدة، وخالات الجد والجدة. لأن هؤلاء يطلق عليهن عرفا اسم العمة والخالة.
تلك هي الطوائف الأربع اللاتي يحرم نكاحهن من الأقارب، وإن هذا التحريم يتناسب مع الفطرة التي فطر الله الناس عليها، ويتفق مع العقول السليمة التي تحب مكارم الأخلاق، وذلك لأن شريعة الإسلام قد نوهت بمنزلة القرابة القريبة للإنسان، وأضفت عليها الكثير من ألوان الوقار والاحترام والزواج وما يصاحبه من شهوات ومداعبات ورضا واختلاف يتنافى مع ما أسبغه الله- تعالى- على هذه القرابة القريبة من وقار ومن عواطف شريفه.
ولأن التجارب العلمية قد أثبتت أن التلاقح بين سلائل متباعدة الأصول غالبا ما ينتج نسلا قويا، أما التلاقح بين السلائل المتحدة في أصولها القريبة فإنه غالبا ما ينتج نسلا ضعيفا.
ثم بين- سبحانه- النساء اللائي يحرم الزواج بهن لأسباب أخرى سوى القرابة فقال- تعالى- وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ.
أى: وحرم الله- عليكم نكاح أمهاتكم اللاتي أرضعنكم، وحرم عليكم- أيضا- نكاح أخواتكم من الرضاعة.
والأم من الرضاع: هي كل امرأة أرضعتك وكذلك كل امرأة انتسبت إلى تلك المرضعة بالأمومة من جهة النسب أو من جهة الرضاع.
103
والأخت من الرضاع: هي التي التقيت أنت وهي على ثدي واحد.
قال القرطبي: وهي الأخت لأب وأم. وهي التي أرضعتها أمك بلبان أبيك، سواء أرضعتها معك أو رضعت قبلك أو بعدك والأخت من الأب دون الأم، وهي التي أرضعتها زوجة أبيك. والأخت من الأم دون الأب وهي التي أرضعتها أمك بلبان رجل آخر» «١».
هذا، وظاهر قوله- تعالى- وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ يقتضى أن مطلق الرضاع محرم للنكاح. وبذلك قال المالكية والأحناف:
ويرى الشافعية والحنابلة أن الرضاع المحرم هو الذي يبلغ خمس رضعات. واستدلوا بما رواه مسلم وغيره عن عائشة- رضى الله عنها- أن رسول الله ﷺ قال: «لا تحرم المصة ولا المصتان» وفي رواية عنها أنه قال: «لا تحرم الرضعة والرضعتان، والمصة والمصتان» «٢».
كذلك ظاهر هذه الجملة الكريمة يقتضى أن الرضاع يحرم النكاح ولو في سن الكبر، إلا أن جمهور العلماء يرون أن الرضاع المحرم هو ما كان قبل بلوغ الحولين أما ما كان بعد بلوغ الحولين فلا يحرم ولا يكون الرضيع ابنا من الرضاعة وذلك لقوله- تعالى- وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ.
وأخرج الترمذي عن أم سلمة قالت: قال رسول الله ﷺ «لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء، وكان قبل الفطام».
قال ابن كثير عند تفسيره لقوله- تعالى- وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ.
أى: كما يحرم عليك نكاح أمك التي ولدتك كذلك يحرم عليك نكاح أمك التي أرضعتك.
ولهذا ثبت في الصحيحين عن عائشة أن رسول الله ﷺ قال: «إن الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة» وفي لفظ لمسلم: «يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب» «٣».
ومن الحكم التي ذكرها العلماء من وراء تحريم النكاح بسبب الرضاعة: أن المولود يتكون جسمه من جسم المرأة التي أرضعته فيكون جزءا منها، كما أنه جزء من أمه التي حملته. وإذا كانت هذه قد غذته بدمها وهو في بطنها فإن تلك قد غذته بلبانها وهو في حجرها، فكان من التكريم لهذه الأم من الرضاع أن تعامل معاملة الأم الحقيقية، وأن يعامل كل من التقيا على ثدي امرأة واحدة معاملة الإخوة من حيث التكريم وحرمة النكاح بينهم.
(١) تفسير القرطبي ج ٥ ص ١١١.
(٢، ٣) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٤٦٩.
104
هذا، ومن أراد المزيد من المعرفة لأحكام الرضاع فليرجع إلى كتب الفقه ثم ذكر- سبحانه- نوعا ثالثا من المحرمات لغير سبب القرابة فقال: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ.
أى: وكذلك حرم الله عليكم نكاح أمهات زوجاتكم سواء أكن أمهات مباشرات أم جدات، لأن كلمة الأم تشمل الجدات، ولإجماع الفقهاء على ذلك.
قال الآلوسى: والمراد بالنساء المعقود عليهن على الإطلاق، سواء أكن مدخولا بهن أم لا.
وهو مجمع عليه عند الأئمة الأربعة، لكن يشترط أن يكون النكاح صحيحا. أما إذا كان فاسدا فلا تحرم الأم إلا إذا وطئ ابنتها. فقد أخرج البيهقي في سننه وغيره من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا نكح الرجل المرأة فلا يحل له أن يتزوج أمها دخل بالابنة أو لم يدخل. وإذا تزوج الأم ولم يدخل بها ثم طلقها فإن شاء تزوج الابنة «١» ».
ثم بين- سبحانه- نوعا رابعا من المحرمات لغير سبب القرابة فقال تعالى- وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ.
وقوله وَرَبائِبُكُمُ جمع ربيبة. وهي بنت امرأة الرجل من غيره. وسميت بذلك لأن الزوج في أغلب الأحوال يربها أى يربيها في حجره ويعطف عليها.
والحجور: جمع حجر- بالفتح والكسر مع سكون الجيم- وهو ما يحويه مجتمع الرجلين للجالس المتربع. والمراد به هنا معنى مجازى وهو الحضانة والكفالة والعطف. يقال: فلان في حجر فلان أى في كنفه ومنعته ورعايته.
ومقتضى ظاهر الجملة الكريمة أن الربيبة لا يحرم نكاحها على زوج أمها إلا بشرطين:
أولهما: كونها في حجره.
وثانيهما: أن يكون الزوج قد دخل بأمها.
أما عن الشرط الأول فلم يأخذ به جمهور العلماء، وقالوا: إن هذا الشرط خرج مخرج الغالب والعادة، إذ الغالب كون البنت مع الأم عند الزوج، لا أنه شرط في التحريم فهم يرون أن نكاح الربيبة حرام على زوج أمها سواء أكانت في حجره أم لم تكن قالوا: وفائدة هذا القيد
(١) تفسير الآلوسى ج ٤ ص ٢٥٧
105
تقوية علة الحرمة أو أنه ذكر للتشنيع عليهم، إذ أن نكاحها محرم عليهم في جميع الصور إلا أنه يكون أشد قبحا في حالة وجودها في حجره هذا رأى عامة الصحابة والفقهاء.
ولكن هناك رواية عن مالك بن أوس عن على بن أبى طالب أنه قال: الربيبة لا يحرم نكاحها على زوج الأم إلا إذا كانت في حجره أخذا بظاهر الآية الكريمة. وقد أخذ بذلك داود الظاهري وأشياعه.
وأصحاب الرأى الأول لم يعتدوا بهذه الرواية المروية عن على- رضى الله عنه- وأما عن الشرط الثاني- وهو أن يكون الزوج قد دخل بأم الربيبة- فقد أخذ به العلماء إلا أنهم اختلفوا في معنى الدخول فقال بعضهم: معناه الوطء والجماع. وقال بعضهم: معناه التمتع كاللمس والقبلة، فلو حصل منه مع الأم ما يشبه ذلك حرم عليه نكاح ابنتها من غيره.
قال القرطبي ما ملخصه: اتفق الفقهاء على أن الربيبة تحرم على زوج أمها إذا دخل بالأم، وإن لم تكن الربيبة في حجره. وشذ بعض المتقدمين وأهل الظاهر فقالوا: لا تحرم عليه الربيبة إلا أن تكون في حجر المتزوج بأمها. ثم قال وقوله- تعالى- فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ يعنى الأمهات فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ يعنى في نكاح بناتهن إذا طلقتموهن أو متن عنكم.
وأجمع العلماء على أن الرجل إذا تزوج المرأة ثم طلقها أو ماتت قبل أن يدخل بها حل له نكاح ابنتها. واختلفوا في معنى الدخول بالأمهات الذي يقع به التحريم للربائب. فروى عن ابن عباس أنه قال: الدخول: الجماع. واتفق مالك والثوري وأبو حنيفة على أنه إذا مسها بشهوة حرمت عليه أمها وابنتها وحرمت على الأب والابن، وهو أحد قولي الشافعى... ) «١».
والحكمة في تحريم الربائب على أزواج أمهاتهن أنهن حينئذ يشبهن البنات الصلبيات بالنسبة لهؤلاء الأزواج، بسبب ما يجدنه منهم من رعاية وتربية في العادة، ولأنه لو أبيح للرجل أن يتزوج ببنت امرأته التي دخل بها، لأدى ذلك إلى تقطيع الأرحام بين الأم وابنتها. ولأدى ذلك أيضا إلى الانصراف عن رعاية هؤلاء الربائب خشية الرغبة في الزواج بواحدة منهن.
ثم بين- سبحانه- نوعا خامسا من المحارم فقال. تعالى-: وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ.
والحلائل: جمع حليلة وهي الزوجة. وسميت بذلك لحلها للزوج وحل الزوج لها، فكلاهما حلال لصاحبه. ويقال للزوج حليل.
(١) تفسير القرطبي ج ٥ ص ١١٢
106
أى: وحرم الله- تعالى- عليكم نكاح زوجات أبنائكم الذين هم من أصلابكم. أى: من ظهوركم.
وقال- سبحانه- وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ بدون تقييد بالدخول. للاشارة إلى أن حليلة الابن تحرم على الأب بمجرد عقد الابن عليها.
قال القرطبي: أجمع العلماء على تحريم ما عقد عليه الآباء على الأبناء. وما عقد عليه الأبناء على الآباء سواء أكان مع العقد وطء أم لم يكن: لقوله- تعالى-: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ وقوله- تعالى-: وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ. وقيد الله الأبناء بالذين هم من الأصلاب، ليخرج الابن المتبنى. فهذا تحل زوجته للرجل الذي تبناه.
وقد كان العرب يعتبرون الابن بالتبني كأولادهم من ظهورهم، ويحرمون زوجة الابن بالتبني على من تبناه. وقد سمى القرآن الأبناء بالتبني أدعياء فقال- تعالى-:
وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ، ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ. ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ، فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ.
ثم أبطل القرآن ما كان عليه أهل الجاهلية في شأن الابن المتبنى، فأباح للرجل أن يتزوج من زوجة الابن الذي تبناه بعد فراقه عنها.
وقد أمر الله- تعالى- نبيه- صلى الله عليه وسلم- أن يتزوج بزينب بنت جحش بعد أن طلقها زوجها زيد بن حارثة، وكان زيد قد تبناه النبي ﷺ فقال المشركون: تزوج محمد امرأة ابنه فأنزل الله- تعالى- فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا.
فإن قيل: إن قيد «من أصلابكم». يخرج الابن من الرضاع كما أخرج الابن بالتبني؟
فالجواب على ذلك: أن الابن بالرضاع حرمت حليلته على أبيه من الرضاع بقول النبي صلى الله عليه وسلم:
يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب».
ثم بين- سبحانه- نوعا سادسا من المحرمات فقال- تعالى-: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً.
قال ابن كثير والمعنى: وحرم عليكم الجمع بين الأختين معا في التزويج إلا ما كان منكم في جاهليتكم فقد عفونا عنه وغفرناه. فدل على أنه لا مثنوية فيما يستقبل لأنه استثنى مما سلف وقد أجمع العلماء من الصحابة والتابعين والأئمة قديما وحديثا على أنه يحرم الجمع بين الأختين في النكاح. ومن أسلم وتحته أختان خير فيمسك إحداهما ويطلق الأخرى لا محالة، فقد روى
107
الإمام أحمد عن الضحاك بن فيروز عن أبيه قال: أسلمت وعندي امرأتان أختان فأمرنى النبي ﷺ أن أطلق إحداهما» «١».
وكما أنه يحرم الجمع بين الأختين في عصمة رجل واحد، فكذلك يحرم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها أو ابنة أخيها أو ابنة أختها لنهى النبي- صلى الله عليه وسلم- عن ذلك فقد جاء في صحيح مسلم وفي سنن أبى داود والترمذي والنسائي عن أبى هريرة أن رسول الله ﷺ قال: «لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها، ولا على ابنة أخيها ولا على ابنة أختها».
وفي رواية الطبراني أنه قال: «فإنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم» «٢» والسر في تحريم هذا النوع من النكاح أنه يؤدى إلى تقطيع الأرحام- كما جاء في الحديث الشريف- إذ من شأن الضرائر أن يكون بينهن من الكراهية وتبادل الأذى ما هو مشاهد ومعلوم. فكان من رحمة الله بعباده أن حرم عليهم هذه الأنواع من الأنكحة السابقة صيانة للأسرة من التمزق والتشتت، وحماية لها من الضعف والوهن، وسموا بها عن مواطن الريبة والغيرة والفساد وقد عفا- سبحانه- عما حدث من هذه الأنكحة الفاسدة في الجاهلية أو قبل نزول هذه الآية الكريمة بتحريمها، لأنه- سبحانه- كان وما زال غفارا للذنوب، ستارا للعيوب، رحيما بعباده، ومن رحمته بهم أنه لا يعذبهم من غير نذير، ولا يؤاخذهم على ما اكتسبوا إلا بعد بيان واضح.
ثم بين- سبحانه- نوعا سابعا من المحرمات فقال: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ.
وقوله وَالْمُحْصَناتُ من الإحصان وهو في اللغة بمعنى المنع. يقال: هذه درع حصينة، أى مانعة صاحبها من الجراحة. ويقال: هذا موضع حصين، أى مانع من يريده بسوء. ويقال امرأة حصينة أى مانعة نفسها من كل فاحشة بسبب عفتها أو حريتها أو زواجها.
قال الراغب: ويقال حصان للمرأة العفيفة ولذات الحرمة. قال- تعالى-: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها وقال- تعالى- فَإِذا أُحْصِنَّ أى تزوجن. وأحصن زوجن.
والحصان في الجملة: المرأة المحصنة إما بعفتها أو بتزوجها أو بمانع من شرفها وحريتها» «٣» والمراد بالمحصنات هنا: ذوات الأزواج من النساء.
(١) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٤٧٢.
(٢) تفسير الآلوسى ج ٤ ص ٤٦١.
(٣) المفردات في غريب القرآن ص ١٢١ للراغب الأصفهاني.
108
وقوله وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ معطوف على قوله وَأُمَّهاتُكُمُ في قوله- تعالى-: في آية المحرمات السابقة حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ إلخ.
والمعنى: وكما حرم عليكم نكاح أمهاتكم وبناتكم إلخ، فقد حرم عليكم- أيضا- نكاح ذوات الأزواج من النساء قبل مفارقة أزواجهن لهن، لكي لا تختلط المياه فتضيع الأنساب.
وقوله إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ استثناء من تحريم نكاح ذوات الأزواج والمراد به: النساء المسبيات اللاتي أصابهن السبي ولهن أزواج في دار الحرب، فانه يحل لمالكهن وطؤهن بعد الاستبراء، لارتفاع النكاح بينهن وبين أزواجهن بمجرد السبي. أو بسبيهن وحدهن دون أزواجهن.
أى: وحرم الله- تعالى- عليكم نكاح ذوات الأزواج من النساء، إلا ما ملكتموهن بسبى فسباؤكم لهن هادم لنكاحهن السابق في دار الكفر، ومبيح لكم نكاحهن بعد استبرائهن.
قال القرطبي ما ملخصه: فالمراد بالمحصنات هاهنا ذوات الأزواج. أى هن محرمات إلا ما ملكت اليمين بالسبي من أرض الحرب، فإن تلك حلال للذي تقع في سهمه وإن كان لها زوج، وهو قول الشافعى في أن السباء يقطع العصمة. وقاله ابن وهب وابن عبد الحكم وروياه عن مالك، وقال به أشهب يدل عليه ما رواه مسلم في صحيحه عن أبى سعيد الخدري أن رسول الله ﷺ بعث جيشا يوم حنين إلى أوطاس فلقوا العدو فقاتلوهم وظهروا عليهم وأصابوا لهم سبايا. فكان ناس من أصحاب النبي ﷺ قد تحرجوا من غشيانهن من أجل أزواجهن من المشركين. فأنزل الله- عز وجل- في ذلك وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أى فهن لكم حلال إذا انقضت عدتهن، وهذا نص صحيح صريح في أن الآية نزلت بسبب تحرج أصحاب النبي ﷺ عن وطء المسبيات ذوات الأزواج فأنزل الله في جوابهم إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ. وبه قال مالك وأبو حنيفة وأصحابه والشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور، وهو الصحيح- إن شاء الله تعالى-» «١».
وقيل إن المراد بالمحصنات هنا: ذوات الأزواج- كما تقدم-، وبما ملكت أيمانكم: مطلق ملك اليمين. فكل من انتقل إليه ملك أمة ببيع أو هبة أو سباء أو غير ذلك وكانت متزوجة كان ذلك الانتقال مقتضيا لطلاقها وحلها لمن انتقلت إليه.
وهذا القول ضعيف، لأن عائشة- رضى الله عنها- اشترت بريرة وأعتقتها وكانت ذات زوج، ثم خيرها النبي ﷺ بين فسخ نكاحها من زوجها وبين بقائها على هذا النكاح، فدل ذلك على أن بيع الأمة ليس هادما للعصمة، لأنه لو كان هادما لها ما خير النبي ﷺ بريرة.
(١) تفسير القرطبي ج ٥ ص ١٢١
109
أخرج البخاري عن عائشة- رضى الله عنها- قالت: اشتريت بريرة. فاشترط أهلها ولاءها. فذكرت ذلك للنبي ﷺ فقال: (أعتقيها فإن الولاء لمن أعطى الورق).
قالت: فأعتقتها. قالت: فدعاها رسول الله ﷺ فخيرها في زوجها، فقالت: لو أعطانى كذا وكذا ما بت عنده. فاختارت نفسها)...
وقوله- تعالى- كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ساقه- سبحانه- لتأكيده تحريم نكاح الأنواع التي سبق ذكرها.
وقوله كِتابَ مصدر كتب، وهو مصدر مؤكد لعامله أى: كتب الله عليكم تحريم هذه الأنواع التي سبق ذكرها كتابا وفرضه فرضا، فليس لكم أن تفعلوا شيئا مما حرمه الله عليكم، وإنما الواجب عليكم أن تقفوا عند حدوده وشرعه.
وقيل: إن قوله كِتابَ منصوب على الإغراء. أى: الزموا كتاب الله الذي هو حجة عليكم إلى يوم القيامة ولا تخالفوا شيئا من أوامره أو نواهيه.
وعليه فيكون المراد بالكتاب هنا القرآن الكريم الذي شرع الله فيه ما شرع من الأحكام.
وإلى هنا تكون هذه الآيات الثلاث قد بينت خمسة عشر نوعا من الأنكحة المحرمة.
أما الآية الأولى وهي قوله- تعالى-: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ إلخ فقد بينت نوعا واحدا.
وأما الآية الثانية وهي قوله- تعالى-: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ إلخ فقد بينت ثلاثة عشر نوعا.
وأما الآية الثالثة وهي قوله- تعالى-: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ. إلخ فقد بينت نوعا واحدا.
قال الفخر الرازي عند تفسيره لقوله- تعالى- حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ... الآية:
اعلم أنه- تعالى- نص على تحريم أربعة عشر صنفا من النساء: سبعة منهن من جهة النسب وهن: الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت.
وسبعة أخرى لا من جهة النسب وهن: الأمهات من الرضاعة والأخوات من الرضاعة، وأمهات النساء والربائب بنات النساء بشرط أن يكون قد دخل بالنساء، وأزواج الأبناء والآباء إلا أن أزواج الأبناء مذكورة ها هنا، وأزواج الآباء مذكورة في الآية المتقدمة، - وهي قوله وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ والجمع بين الأختين «١».
(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٠ ص ٢٤.
110
هذا، وبعد أن بين- سبحانه- المحرمات من النساء، عقب ذلك بإيراد جملة كريمة بين فيها ما يحل نكاحه من النساء فقال- تعالى-: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ.
وما هنا المراد بها عموم النساء.
وكلمة وَراءَ هنا بمعنى غير أو دون كما في قول بعضهم: (وليس وراء الله للمرء مذهب).
واسم الإشارة ذلِكُمْ يعود إلى ما تقدم من المحرمات.
والجملة الكريمة معطوفة على قوله «حرمت عليكم أمهاتكم» إلخ.
ومن قرأ أُحِلَّ لَكُمْ... ببناء الفعل للفاعل جعلها معطوفة على كتب المقدر في قوله كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ....
والمعنى: حرمت عليكم هؤلاء المذكورات، وأحل لكم نكاح ما سواهن من النساء.
قال القرطبي: قوله- تعالى وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص وَأُحِلَّ لَكُمْ ردا على حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ وقرأ الباقون بالفتح ردا على قوله- تعالى- كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ. وهذا يقتضى ألا يحرم من النساء إلا من ذكر، وليس كذلك فإن الله- تعالى- قد حرم على لسان نبيه ﷺ من لم يذكر في الآية فيضم إليها. قال- تعالى-: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا.
روى مسلم عن أبى هريرة أن رسول الله ﷺ قال: «لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها». وقد قيل: إن تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها متلقى من الآية نفسها لأن الله- تعالى- حرم الجمع بين الأختين، والجمع بين المرأة وعمتها- أو خالتها- في معنى الجمع بين الأختين أو لأن الخالة في معنى الوالدة والعمة في معنى الوالد والصحيح الأول: لأن الكتاب والسنة كالشىء الواحد فكأنه قال: «أحللت لكم ما وراء من ذكرنا في الكتاب وما وراء ما أكملت به البيان على لسان محمد صلى الله عليه وسلم» «١».
ثم رفع- سبحانه- من شأن المرأة وكرمها بأن جعل إيتاءها المهر شرطا لاستحلال نكاحها إعزازا لها فقال- تعالى- أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ.
وقوله: تَبْتَغُوا من الابتغاء بمعنى الطلب الشديد.
وقوله: مُحْصِنِينَ من الإحصان وهو هنا بمعنى العفة وتحصين النفس ومنعها عن الوقوع فيما يغضب الله- تعالى-.
(١) تفسير القرطبي ج ٥ ص ١٢٤.
111
وقوله: مُسافِحِينَ من السفاح بمعنى الزنا والمسافح: هو الزاني. ولفظ السفاح مأخوذ من السفح وهو صب الماء وسيلانه. وسمى به الزنا لأن الزاني لا غرض له إلا صب النطفة فقط دون نظر إلى الأهداف الشريفة التي شرعها الله وراء النكاح.
وقوله أَنْ تَبْتَغُوا في محل نصب بنزع الخافض على أنه مفعول له لما دل عليه الكلام ومُحْصِنِينَ وغَيْرَ مُسافِحِينَ حالان من فاعل تَبْتَغُوا.
والمعنى: بين لكم- سبحانه- ما حرم عليكم من النساء، وأحل لكم ما وراء ذلكم، من أجل أن تطلبوا الزواج من النساء اللائي أحلهن الله لكم أشد الطلب، عن طريق ما تقدمونه لهن من أموالكم كمهور، وبذلك تكونون قد أحصنتم أنفسكم ومنعتموها عن السفاح والفجور والزنا.
قال بعضهم: وكان أهل الجاهلية إذا خطب الرجل منهم المرأة قال: انكحينى. فإذا أراد الزنا قال: سافحينى. والمسافحة أن تقيم امرأة مع رجل على الفجور من غير تزويج صحيح.
قال الآلوسى: وظاهر الآية حجة لمن ذهب إلى أن المهر لا بد وأن يكون مالا وبه قال الأحناف. وقال بعض الشافعية: لا حجة في ذلك، لأن تخصيص المال لكونه الأغلب المتعارف، فيجوز النكاح على ما ليس بمال. ويؤيد ذلك ما رواه الشيخان وغيرهما عن سهل بن سعد «أن رسول الله ﷺ سأل رجلا خطب الواهبة نفسها للنبي ﷺ ماذا معك من القرآن؟
قال: معى سورة كذا وكذا وعددهن. قال: تقرءوهن على ظهر قلبك؟ قال: نعم قال: اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن»
.
ووجه التأييد أنه لو كان في الآية حجة لما خالفها رسول الله ﷺ وأجيب بأن كون القرآن معه لا يوجب كونه بدلا، والتعليم ليس له ذكر في الخبر، فيجوز أن يكون مراده صلى الله عليه وسلم: زوجتك تعظيما للقرآن ولأجل ما معك منه» «١».
ثم قال- تعالى-: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً.
والاستمتاع: طلب المتعة والتلذذ بما فيه منفعة ولذة.
والمراد بقوله أُجُورَهُنَّ أى مهورهن لأنها في مقابلة الاستمتاع فسميت أجرا.
وما: في قوله فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ واقعة على الاستمتاع. والعائد في الخبر محذوف أى فآتوهن أجورهن عليه.
(١) تفسير الآلوسى ج ٥ ص ٥.
112
والمعنى: فما انتفعتم وتلذذتم به من النساء عن طريق النكاح الصحيح فآتوهن أجورهن عليه.
ويصح أن تكون ما واقعة على النساء باعتبار الجنس أو الوصف. وأعاد الضمير عليها مفردا في قوله بِهِ باعتبار لفظها، وأعاده عليها جمعا في قوله مِنْهُنَّ باعتبار معناها.
ومن في قوله مِنْهُنَّ للتبعيض أو للبيان. والجار والمجرور في موضع النصب على الحال من ضمير بِهِ:
والمعنى: فأى فرد أو الفرد الذي تمتعتم به حال كونه من جنس النساء أو بعضهن فأعطوهن أجورهن على ذلك. والمراد من الأجور: المهور. وسمى المهر أجرا لأنه بدل عن المنفعة لا عن العين.
وقوله فَرِيضَةً مصدر مؤكد لفعل محذوف أى: فرض الله عليكم ذلك فريضة. أو حال من الأجور بمعنى مفروضة. أى: فآتوهن أجورهن حالة كونها مفروضة عليكم.
ثم بين- سبحانه- أنه لا حرج في أن يتنازل أحد الزوجين لصاحبه عن حقه أو عن جزء منه ما دام ذلك حاصلا بالتراضي فقال- تعالى-: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً.
أى: لا إثم ولا حرج عليكم فيما تراضيتم به أنتم وهن من إسقاط شيء من المهر أو الإبراء منه أو الزيادة عليه ما دام ذلك بالتراضي بينكم ومن بعد اتفاقكم على مقدار المهر الذي سميتموه وفرضتموه على أنفسكم.
وقد ذيل- سبحانه- الآية الكريمة بقوله إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً لبيان أن ما شرعه هو بمقتضى علمه الذي أحاط بكل شيء، وبمقتضى حكمته التي تضع كل شيء في موضعه.
فأنت ترى أن الآية الكريمة مسوقة لبيان بعض الأنواع من النساء اللاتي حرم الله نكاحهن، ولبيان ما أحله الله منهن بعبارة جامعة، ثم لبيان أن الله- تعالى- قد فرض على الأزواج الذين يبتغون الزوجات عن طريق النكاح الصحيح الشريف أن يعطوهن مهورهن عوضا عن انتفاعهم بهن، وأنه لا حرج في أن يتنازل أحد الزوجين لصاحبه عن حقه أو عن شيء منه ما دام ذلك بسماحة نفس، ومن بعد تسمية المهر المقدر.
هذا، وقد حمل بعض الناس هذه الآية على أنها واردة في نكاح المتعة وهو عبارة عن أن يستأجر الرجل المرأة بمال معلوم إلى أجل معين لكي يستمتع بها.
قالوا: لأن معنى قوله- تعالى-: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ: فمن
113
جامعتموهن ممن نكحتموهن نكاح المتعة فآتوهن أجورهن.
ولا شك أن هذا القول بعيد عن الصواب، لأنه من المعلوم أن النكاح الذي يحقق الإحصان والذي لا يكون الزوج به مسافحا. هو النكاح الصحيح الدائم المستوفى شرائطه، والذي وصفه الله بقوله وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً.
وإذا فقد بطل حمل الآية على أنها في نكاح المتعة لأنها تتحدث عن النكاح الصحيح الذي يتحقق معه الإحصان، وليس النكاح الذي لا يقصد به إلا سفح الماء وقضاء الشهوة.
قال ابن كثير: وقد استدل بعموم هذه الآية على نكاح المتعة، ولا شك أنه كان مشروعا في ابتداء الإسلام ثم نسخ بعد ذلك. وقد روى عن ابن عباس وطائفة من الصحابة القول بإباحتها للضرورة. ولكن الجمهور على خلاف ذلك، والعمدة ما ثبت في الصحيحين عن أمير المؤمنين على بن أبى طالب قال: نهى رسول الله ﷺ عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر، وفي صحيح مسلم عن الربيع بن سبرة الجهني عن أبيه أنه كان مع رسول الله ﷺ فقال:
«يا أيها الناس إنى كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة. فمن كانت عنده منهن شيء فليخل سبيله، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا» «١».
وقال الآلوسى: وقيل الآية في المتعة، وهي النكاح إلى أجل معلوم من يوم أو أكثر.
والمراد، وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ من استئناف عقد آخر بعد انقضاء الأجل المضروب في عقد المتعة، بأن يزيد الرجل في الأجر وتزيد المرأة في المدة، وإلى ذلك ذهبت الإمامية- من طائفة الشيعة- ثم قال: ولا نزاع عندنا في أنها أحلت ثم حرمت، والصواب المختار أن التحريم والإباحة كانا مرتين. فقد كانت حلالا قبل يوم خيبر ثم حرمت يوم خيبر، ثم أبيحت يوم فتح مكة وهو يوم أوطاس لاتصالهما، ثم حرمت يومئذ بعد ثلاث تحريما مؤبدا إلى يوم القيامة... » «٢».
وقال بعض العلماء: وهذا النص وهو قوله- تعالى- فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً قد تعلق به بعض المفسدين الذين لم يفهموا معنى العلاقات المحرمة بين الرجل والمرأة، فادعوا أنه يبيح المتعة... والنص بعيد عن هذا المعنى الفاسد بعد ما قالوه عن الهداية لأن الكلام كله في عقد الزواج فسابقه ولا حقه في عقد الزواج، والمتعة حتى على كلامهم لا يسمى عقد نكاح أبدا.
(١) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٤٧٤
(٢) تفسير الآلوسى ج ٥ ص ٧- بتصرف وتلخيص-.
114
وقد تعلقوا مع هذا بعبارات رووها عن النبي ﷺ أنه أباح المتعة في غزوات ثم نسخها، وبأن ابن عباس كان يبيحها في الغزوات وهذا الاستدلال باطل، لأن النبي ﷺ نسخها، فكان عليهم عند تعلقهم برواية مسلم أن يأخذوا بها جملة أو يتركوها، وجملتها تؤدى إلى النسخ لا إلى البقاء.
وإذا قالوا إننا نتفق معكم على الإباحة ونخالفكم في النسخ فنأخذ المجمع عليه ونترك غيره قلنا لهم: إن النصوص التي أثبتت الإباحة هي التي أثبتت النسخ، وما اتفقنا معكم على الإباحة لأننا نقرر نسخ الإباحة.
على أننا نقول: إن ترك النبي ﷺ المتعة لهم قبل الأمر الجازم بالمنع، ليس من قبيل الإباحة، بل هو من قبيل الترك حتى تستأنس القلوب بالإيمان وتترك عادات الجاهلية، وقد كان شائعا بينهم اتخاذ الأخدان وهو ما نسميه اتخاذ الخلائل. وهذه هي متعتهم، فنهى القرآن الكريم والنبي ﷺ عنها. وإن الترك مدة لا يسمى إباحة وإنما يسمى عفوا حتى تخرج النفوس من جاهليتها، والذين يستبيحونها باقون على الجاهلية الأولى.
وابن عباس- رضى الله عنه- قد رجع عن فتواه بعد أن قال له إمام الهدى على بن أبى طالب: إنك امرؤ تائه، لقد نسخها النبي ﷺ والله لا أوتى بمستمتعين إلا رجمتهما» «١».
وبذلك نرى أن الآية الكريمة واردة في شأن النكاح الصحيح الذي يحقق الإحصان ولا يكون الزوج به مسافحا. وأن القول بأنها تدل على نكاح المتعة قول بعيد عن الحق والصواب للأسباب التي سبق ذكرها.
وبعد أن بين- سبحانه- المحرمات من النساء، وبين من يحل نكاحه منهن، عقب ذلك ببيان ما ينبغي أن يفعله من لا يستطيع نكاح المحصنات المؤمنات فقال- تعالى-:
(١) تفسير الآية الكريمة لفضيلة الأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة. مجلة لواء الإسلام العدد الرابع من السنة الرابعة عشرة. [.....]
115

[سورة النساء (٤) : آية ٢٥]

وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٥)
وقوله طَوْلًا أى سعة وقدرة وغنى في المال.
قال صاحب الكشاف: الطول: الفضل. يقال: لفلان على فلان طول أى: زيادة وفضل.
وقد طاله طولا فهو طائل. قال الشاعر:
لقد زادني حبا لنفسي أننى بغيض إلى كل امرئ غير طائل
ومنه قولهم: ما خلا منه بطائل. أى بشيء يعتد به مما له فضل وخطر. ومنه الطول في الجسم لأنه زيادة فيه» «١».
والمراد بالمحصنات هنا الحرائر بدليل مقابلتهن بالمملوكات، وعبر عنهن بذلك، لأن حريتهن أحصنتهن عن النقص الذي في الإماء.
والمراد بقوله مِنْ فَتَياتِكُمُ أى من إمائكم وأرقائكم.
والمعنى: ومن لم يستطع منكم يا معشر المؤمنين الأحرار أن يحصل زيادة في المال تمكنه من أن ينكح الحرائر المؤمنات، فله في هذه الحالة أن ينكح بعض الإماء المؤمنات اللائي هن مملوكات لغيركم.
ومَنْ في قوله وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ شرطية، وجوابها قوله، فمما ملكت أيمانكم، ويصح أن تكون موصولة ويكون قوله «فمما ملكت أيمانكم» هو الخبر.
وقوله مِنْكُمْ حال من الضمير في يَسْتَطِعْ وقوله طَوْلًا مفعول به ليستطع.
هذا، والآية الكريمة تفيد بمضمونها أنه لا يحل الزواج من الإماء إلا إذا كان المسلم الحر ليس في قدرته أن يتزوج امرأة حرة.
(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٤٩٩.
116
ولذا قال بعضهم: إن الله- تعالى- شرط في نكاح الإماء شرائط ثلاثة: اثنان منها في الناكح، والثالث في المنكوحة.
أما اللذان في الناكح فأحدهما أن يكون غير واجد لما يتزوج به الحرة المؤمنة من الصداق.
والثاني هو المذكور في آخر الآية وهو قوله: ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ.
وأما الشرط الثالث المعتبر في المنكوحة فهو أن تكون الأمة مؤمنة لا كافرة... » «١».
وقد خالف الإمام أبو حنيفة هذا الشرط الثالث فأباح للمسلم الزواج من الأمة الكتابية إن لم يكن عنده زوجة حرة فإن كان متزوجا بحرة فإنه لا يجوز له أن يتزوج أمة مطلقا لا مسلمة ولا كتابية، وإن عقد عليها كان عقده باطلا وقد بنى حكمه هذا على أساس تفسيره للطول بأنه الزواج بحرة.
أما المالكية والشافعية فقد قالوا: الطول: السعة والقدرة على المهر والنفقة فمن عجز عن مهر الحرة ونفقتها وهو قادر على الزواج من أمة فإنه يجوز له الزواج بها ولو كانت عنده زوجة حرة.
وفي التعبير عن الإماء بقوله فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ تكريم لهؤلاء الأرقاء، وإعزاز لإنسانيتهن، وتعليم للمسلمين أن يلتزموا الأدب في مخاطبتهم لأرقائهم ولذا ورد في الحديث الشريف أن رسول الله ﷺ قال: «لا يقولن أحدكم عبدى وأمتى، ولكن ليقل فتاي وفتأتي».
وقوله- تعالى- وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ جملة معترضة سيقت بين إباحة النكاح من الإماء المؤمنات وبين صورة العقد عليهن تأنيسا للقلوب، وإزالة للنفرة عن نكاح الإماء ببيان أن مناط التفاخر إنما هو الإيمان لا التباهي بالأحساب والأنساب.
والمعنى: أنه- تعالى- أعلم منكم بمراتب إيمانكم الذي هو مناط التفضيل وأنتم وفتياتكم من أصل واحد فلا ينبغي أن يستعلى حر على عبد، ولا حرة على أمة، فرب إنسان غير حر أفضل عند الله بسبب إيمانه وعمله الصالح من إنسان حر.
فالمقصود من هذه الجملة الكريمة إزالة ما كانت تستهجنه العرب من الزواج بالإماء، ونهيهم عما كان متداولا بينهم من احتقارهم لولد الأمة وتسميتهم إياه بالهجين- أى الذي أبوه عربي وأمه أمة.
وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله: فإن قلت: فما معنى قوله وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ؟
(١) تفسير الفخر الرازي ج ١ ص ٥٦ بتصرف وتلخيص.
117
قلت: معناه: أن الله أعلم بتفاضل ما بينكم وبين أرقائكم في الإيمان ورجحانه ونقصانه فيهم وفيكم. وربما كان إيمان الأمة أرجح من إيمان الحرة وربما كانت المرأة أرجح في الإيمان من الرجل. وحق المؤمنين أن لا يعيروا إلا فضل الايمان لا فضل الأحساب والأنساب. وهذا تأنيس بنكاح الإماء وترك الاستنكاف منه. وقوله بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ أى: أنتم وأرقاؤكم متناسبون متواصلون لاشتراككم في الإيمان لا يفضل حر عبدا إلا برجحان فيه «١».
ثم بين- سبحانه- كيفية الزواج بهن فقال: فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ والمراد بأهلهن: مواليهن الذين يملكونهن: وعبر عن المالكين لهن بالأهل، حملا للناس على الأدب في التعبير، ولأنه يجب أن تكون العلاقة بين العبد ومالكه علاقة أهل لا علاقة استعلاء.
والمراد بالأجور هنا: المهور التي تدفع لهن في مقابل نكاحهن.
والمراد بالمحصنات هنا: العفائف البعيدات عن الفاحشة والريبة. والمرأة المسافحة هي التي تؤاجر نفسها لكل رجل أرادها. والتي تتخذ الخدن هي التي تتخذ لها صاحبا معينا. وكان أهل الجاهلية يفصلون بين القسمين فيستقبحون الزنا العلنى ويستحلون السرى، فجاءت شريعة الإسلام بتحريم القسمين. قال- تعالى وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ. وقال- تعالى قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ.
وقوله فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ مترتب ومتفرع على ما قبله من أحكام.
والمعنى: إذا عرفتم حكم الله في شأن فتياتكم المؤمنات فانكحوهن بعد أن يأذن لكم في ذلك مواليهن ويرضون عن هذا النكاح، وأدوا إليهن مهورهن بالقدر المتعارف عليه شرعا وعادة عن طيب نفس منكم، وبدون مطل أو بخس. فإنه لا يصح أن تتخذوا من كون المنكوحة أمة سبيلا لغمط حقها، وتصغير شأنها.
وقد اتفق العلماء على أن نكاح الأمة بغير إذن سيدها غير جائز، عملا بظاهر هذه الآية الكريمة، فان قوله- تعالى-: فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ يقتضى كون الإذن شرطا في جواز النكاح، ولأن منافع الأمّة لسيدها وهي ملك له فلا يجوز نكاحها إلا بإذنه.
قال القرطبي: قوله- تعالى- فَانْكِحُوهُنَّ أى بولاية أربابهن المالكين وإذنهم. وكذلك العبد لا ينكح إلا بإذن سيده، لأن العبد مملوك لا أمر له، وبدنه كله مستغرق، لكن الفرق بينهما أن العبد إذا تزوج بغير إذن سيده فإن أجازه السيد جاز، هذا مذهب مالك وأصحاب الرأى، والأمة إذا تزوجت بغير إذن أهلها فسخ ولم يجز ولو بإجازة السيد «٢».
(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٥٠٠
(٢) تفسير القرطبي ج ٥ ص ١٤١
118
وقوله وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ صريح في وجوب دفع مهر في مقابل نكاح الأمة ولكن من الذي يتسلم هذا المهر؟
يرى كثير من العلماء أن الذي يتسلم المهر هو السيد المالك للأمة. لأن المهر قد وجب عوضا عن منافع بضع المملوكة للسيد، وهو الذي أباحها للزوج فوجب أن يكون هو المستحق لتسلم المهر ولأن العبد وما ملكت يداه لسيده أى آتوا أهلهن أجورهن فالكلام على حذف مضاف.
ويرى الإمام مالك أن الآية على ظاهرها، وأن المهر إنما يدفع للأمة لأنها أحق به من سيدها، وأنه ليس للسيد أن يأخذ من أمته ويدعها بلا جهاز فالعقد يتولاه السيد أما المهر فيعطى للأمة لتتولى إعداد نفسها للزواج منه.
وقوله مُحْصَناتٍ حال من المفعول في قوله فَانْكِحُوهُنَّ أى: فانكحوهن حال كونهن عفائف عن الفاحشة.
وقوله غَيْرَ مُسافِحاتٍ تأكيد له أى غير مجاهرات بالزنا.
وقوله وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ تأكيد آخر لبعدهن عن الريبة. والأخدان جمع خدن وهو الصاحب والصديق.
والمراد به هنا: من تتخذه المرأة صاحبا لها لارتكاب الفاحشة معه سرا وقد وصف الله- تعالى- الزوجات الإماء بذلك، لتحريضهن على التمسك بأهداب الفضيلة والشرف، إذ الرق مظنة الانزلاق والوقوع في الفاحشة لما يصاحبه من هوان وضعف، ولا شيء كالهوان يفتح الباب أمام الرذيلة والفاحشة ومن هنا قالت هند بنت عتبة- باستغراب واستنكار- لرسول الله ﷺ عند ما أخذ العهد عليها وعلى المؤمنات بقوله وَلا يَزْنِينَ قالت يا رسول الله: أو تزنى الحرة؟!! ثم بين- سبحانه- عقوبة الإماء إذا ما ارتكبن الفاحشة فقال- تعالى- فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ومعنى الإحصان هنا: الزواج. والمراد بالفاحشة: الزنا. والمراد بالعذاب: الحد الشرعي أى: فإذا أحصن أى بالتزويج، فإن أتين بفاحشة الزنا وثبت ذلك عليهن، ففي هذه الحالة حدهن نصف حد الحرائر من النساء أى أن الأمة إذا زنت فحدها أن تجلد خمسين جلدة ولا رجم عليها لأنه لا يتنصف فلا يكون مرادا هنا.
وظاهر الجملة الكريمة يفيد أن الأمة لا تحد إذا زنت متى كانت غير متزوجة وقد أخذ بهذا
119
الظاهر بعض العلماء. ولكن جمهور العلماء يرون أن الأمه يقام عليها الحد إذا زنت سواء أكانت متزوجة أم غير متزوجة.
فالآية الكريمة صرحت بأن الأمة إذا ارتكبت الفحشاء تكون عقوبتها نصف عقوبة الحرة، لأن الجريمة يضعف أثرها بضعف مرتكبها، ويقوى أثرها بقوة مرتكبها، فكان من العدل أن يعاقب الأرقاء لضعفهم بنصف عقوبة الأحرار الأقوياء.
فأين هذا السمو والرحمة والعدالة في التشريع من مظالم القوانين الوضعية ففي القانون الرومانى كان العبد إذا زنى بحرة قتل، وإذا زنى الشريف حكم عليه بغرامة. ولقد حذر النبي ﷺ من ذلك بقوله: «إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا: إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد... ».
ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله: ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ:
واسم الإشارة «ذلك» يعود إلى نكاح الإماء.
والعنت: المشقة الشديدة التي يخشى معها التلف أو الوقوع في الفاحشة التي نهى الله- تعالى- عنها. ولذا قال بعضهم المراد به هنا: الزنا.
أى: ذلك الذي شرعناه لكم من إباحة الزواج بالإماء عند الضرورة يكون بالنسبة لمن خشي على نفسه العزبة التي قد تفضى به إلى الوقوع في الفاحشة والآثام. وَأَنْ تَصْبِرُوا على تحمل المشقة متعففين عن نكاحهن حتى يرزقكم الله الزواج بالحرة، فصبركم هذا خير لكم من نكاح الإماء وإن رخص لكم فيه.
وقوله وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أى واسع المغفرة كثيرها، فيغفر لمن لم يصبر عن نكاحهن- وفي ذلك تنفير عنه حتى لكأنه ذنب-، وهو- سبحانه- واسع الرحمة بعباده حيث شرع لهم ما فيه تيسير عليهم ورأفة بهم.
قالوا: وإنما كان الصبر عن نكاح الإماء خيرا من نكاحهن، لأن الولد الذي يأتى عن طريقهن يكون معرضا للرق، ولأن الأمة في الغالب لا تستطيع أن تهيء البيت الصالح للزوجية من كل الوجوه لانشغالها بخدمة سيدها.
وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذا المعنى بقوله: فإن قلت: لم كان نكاح الأمة منحطا عن نكاح الحرة؟ قلت: لما فيه من اتباع الولد الأم في الرق. ولثبوت حق المولى فيها وفي استخدامها. ولأنها ممتهنة مبتذلة خراجة ولاجة، وذلك كله نقصان راجع إلى الناكح ومهانة.
120
والعزة من صفات المؤمنين «١».
وبذلك نرى أن الآية الكريمة وإن كانت قد رخصت في زواج الإماء عند الضرورة الشديدة إلا أنها حضت المؤمنين على الصبر عن نكاحهن لما في نكاحهن من أضرار يأباها الشخص العزيز النفس، الكريم الخلق. والسبيل الأمثل للزواج بهن يكون بعد شرائهن وإعتاقهن، وبذلك يقل الرقيق ويكثر الأحرار ولذا لو جامعها مولاها كان ابنه حرا وكان طريقا لحريتها ومنع بيعها.
وبعد أن بين- سبحانه- فيما سبق من آيات كثيرا من الأوامر والنواهي والمحرمات والمباحات.. عقب ذلك ببيان جانب من مظاهر فضله على عباده ورحمته بهم فقال- تعالى-:
[سورة النساء (٤) : الآيات ٢٦ الى ٢٨]
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٦) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (٢٧) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (٢٨)
وقوله- تعالى-: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ استئناف مقرر لما سبق من الأحكام، وقد ساقه- سبحانه- لإيناس قلوب المؤمنين حتى يمتثلوا عن اقتناع وتسليم لما شرعه الله لهم من أحكام.
قال الآلوسى: ومثل هذا التركيب- قوله يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ. وقع في كلام العرب قديما وخرجه النحاة على مذاهب:
فقيل مفعول يُرِيدُ محذوف أى: يريد الله تحليل ما أحل وتحريم ما حرم ونحوه. واللام للتعليل.... ونسب هذا إلى سيبويه وجمهور البصريين.
فتعلق الإرادة غير التبيين، وإنما فعلوه لئلا يتعدى الفعل إلى مفعوله المتأخر عنه باللام وهو ممتنع أو ضعيف.
وذهب بعض البصريين إلى أن الفعل مؤول بالمصدر من غير سابك، كما قيل به في قولهم:
«تسمع بالمعيدي خير من أن تراه» أى إرادتى كائنة للتبيين. وفيه تكلف.
(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٥٠٠
121
وذهب الكوفيون إلى أن اللام هي الناصبة للفعل من غير إضمار أن، وهي وما بعدها مفعول للفعل المقدم أى: يريد الله البيان لكم «١».
والمعنى: يريد الله- تعالى- بما شرع لكم من أحكام، وبما ذكر من محرمات ومباحات أن يبين لكم ما فيه خيركم وصلاحكم وسعادتكم، وأن يميز لكم بين الحلال والحرام والحسن والقبيح.
وقوله: وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ معطوف على ما قبله.
والسنن: جمع سنة وهي الطريقة وفي أكثر استعمالها تكون للطريقة المثلى الهادية إلى الحق.
أى: ويهديكم مناهج وطرائق من تقدمكم من الأنبياء والصالحين، لتقتفوا آثارهم وتسلكوا سبيلهم.
وليس المراد أن جميع ما شرعه الله من حلال أو من حرام كان مشروعا بعينه للأمم السابقة.
بل المراد أن الله كما قد شرع للأمم السابقة من الأحكام ما هم في حاجة إليه وما اقتضته مصالحهم، فكذلك قد شرع لنا ما نحن في حاجة إليه وما يحقق مصالحنا، فإن الشرائع والتكاليف وإن كانت مختلفة في ذاتها إلا أنها متفقة في باب المصالح.
وقوله: وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ معطوف على ما قبله.
والتوبة معناها: ترك الذنب مع الندم عليه والعزم على عدم العود، وذلك مستحيل في حقه- سبحانه- لذا قالوا: المراد بها هنا المغفرة لتسببها عنها. أو المراد بها قبول التوبة.
أى: ويقبل توبتكم متى رجعتم إليه بصدق وإخلاص، فقد تكفل- سبحانه- لعباده أن يغفر لهم خطاياهم متى تابوا إليه توبة صادقة نصوحا وفي التعبير عن قبول التوبة بقوله:
وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ إشارة إلى ما يتضمنه معنى قبول التوبة من ستر للذنوب، ومنع لكشفها، فهي غطاء على المعاصي يمنعها من الظهور حتى يذهب تأثيرها في النفس:
فالآية الكريمة تحريض على التوبة، لأن الوعد بقبولها متى كانت صادقة يغرى الناس. بطرق بابها وبالإكثار منها..
وقوله: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أى والله- تعالى- ذو علم شامل لجميع الأشياء، فيعلم أن ما شرع لكم من أحكام مناسب لكم، وما سلكه المهتدون من الأمم قبلكم، ومتى تكون توبة أحدكم صادقة ومتى لا تكون كذلك حَكِيمٌ يضع الأمور في مواضعها. فيبين لمن يشاء، ويهدى من يشاء، ويتوب على من يشاء.
(١) تفسير الآلوسى ج ٥ ص ١٣
122
فأنت ترى أن هذه الآية قد بينت جانبا من مظاهر فضل الله ورحمته بعباده، حيث كشفت للناس أن الله- تعالى- يريد بإنزاله لهذا القرآن أن يبين لهم التكاليف التي كلفهم بها ليعرفوا الخير من الشر، وأن يرشدهم إلى سبيل من تقدمهم من أهل الحق، وأن يغفر لهم ذنوبهم متى أخلصوا له التوبة.
ثم أخبر- سبحانه- عما يريده لعباده من خير وصلاح وما يريده لهم الفاسقون من شر وفساد فقال- تعالى-: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً.
أى: والله- تعالى- يريد منكم أن تفعلوا ما يجعلكم أهلا لمغفرته ورضوانه وما يفضى بكم إلى قبول توبتكم، وارتفاع منزلتكم عنده، بينما يريد الذين يتبعون الشهوات من أهل الكفر والفسوق والعصيان أن تبتعدوا عن الحق والخير ابتعادا عظيما. والميل: أصله الانحراف من الوسط إلى جانب من الجوانب: ولما كان الاعتدال عبارة عن العدل والتوسط، أطلق الميل على الجور والابتعاد عن الحق.
ووصف الميل بالعظم للإشعار بأن الذين يتبعون الشهوات لا يكتفون من غيرهم بالميل اليسير عن الحق، وإنما يريدون منهم انحرافا مطلقا عن الطريق المستقيم الذي أمر الله بسلوكه والسير فيه.
وهؤلاء الذين وصفهم الله بما وصف موجودون في كل زمان، وتراهم دائما يحملون لواء الرذيلة والفجور تارة باسم الحرية وتارة باسم المدنية. وقد حذر الله- تعالى- عباده منهم حتى لا يتأثروا بهم، وحتى يقاوموهم ويكشفوا عن زيفهم وضلالهم «ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون».
ثم بين- سبحانه- لونا آخر من ألوان رحمته ورأفته بعباده فقال: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً.
أى: يريد الله بما شرعه لكم من أحكام، وبما كلفكم به من تكاليف هي في قدرتكم واستطاعتكم أن يخفف عنكم في شرائعه وأوامره ونواهيه، لكي تزدادوا له في الطاعة والاستجابة والشكر.
وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً أى لا يصبر على مشاق الطاعات، فكان من رحمة الله- تعالى- به أن خفف عنه في التكاليف.
وهذا اليسر والتخفيف في التكاليف من أبرز مميزات الشريعة الإسلامية، وقد بين القرآن
123
الكريم ذلك في كثير من آياته، ومن ذلك قوله- تعالى-: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ. وقوله- تعالى- ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ. وقوله- تعالى- وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ.
ولقد كان من هدى النبي ﷺ التخفيف والتيسير، ففي الحديث الشريف: «إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه».
وكان من وصاياه لمعاذ بن جبل وأبى موسى الأشعرى عند ما أرسلهما إلى اليمن «يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا».
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد بينت لنا ألوانا من مظاهر فضل الله على عباده ورحمته بهم، لكي يزدادوا له شكرا وطاعة وخضوعا.
ثم وجه القرآن نداء إلى المؤمنين بين لهم فيه بعض المحرمات المتعلقة بالأنفس والأموال، بعد أن بين لهم قبل ذلك المحرمات من النساء والمحللات منهن ومظاهر فضله- سبحانه- بعباده ورحمته بهم فقال- تعالى-:
[سورة النساء (٤) : الآيات ٢٩ الى ٣١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٢٩) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (٣٠) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (٣١)
124
والمراد بالأكل في قوله لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ مطلق الأخذ الذي يشمل سائر التصرفات التي نهى الله عنها.
وخص الأكل بالذكر لأن المقصود الأعظم من الأموال هو التصرف فيها بالأكل.
والباطل: اسم لكل تصرف لا يبيحه الشرع كالربا والقمار والرشوة والغصب والسرقة والخيانة والظلم إلى غير ذلك من التصرفات المحرمة.
والمعنى. يا أيها المؤمنون لا يحل لكم أن يأكل بعضكم مال غيره بطريقة باطلة لا يقرها الشرع، ولا يرتضيها الدين، كما أنه لا يحل لكم أن تتصرفوا في الأموال التي تملكونها تصرفا منهيا عنه بأن تنفقوها في وجوه المعاصي التي نهى الله عنها فإن ذلك يتنافى مع طبيعة هذا الدين الذي آمنتم به.
وناداهم- سبحانه- بصفة الإيمان، لتحريك حرارة العقيدة في قلوبهم وإغرائهم بالاستجابة لما أمروا به أو نهوا عنه.
وفي قوله أَمْوالَكُمْ إشارة إلى أن هذه الأموال هي نعمة من الله لنا، وأن على الأمة جميعها أن تصون هذه الأموال عن التصرفات الباطلة التي لا تبيحها شريعة الله.
وفي قوله بَيْنَكُمْ إشارة إلى أن تبادل الأموال بين الأفراد والجماعات يجب أن يكون على أساس من الحق والعدل ولا يكون بالباطل أو بالظلم.
والاستثناء في قوله إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ استثناء منقطع لأن التجارة ليست من جنس الأموال المأكولة بالباطل.
والمعنى: لا يحل لكم- أيها المؤمنون- أن تتصرفوا في أموالكم بالطرق المحرمة، لكن يباح لكم أن تتصرفوا فيها بالتجارة الناشئة عن تراض فيما بينكم لأنه لا يحل لمسلم أن يقتطع مال أخيه المسلم إلا عن طيب نفس منه.
والتجارة: اسم يقع على عقود المعاوضات التي يقصد بها طلب الربح. وخصت بالذكر من بين سائر أسباب الملك لكونها أغلب وقوعا ولأن أسباب الرزق أكثرها متعلق بها.
أخرج الأصبهانى عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله ﷺ أطيب الكسب كسب التجار الذين إذا حدثوا لم يكذبوا، وإذا وعدوا لم يخلفوا، وإذا ائتمنوا لم يخونوا، وإذا اشتروا لم يذموا، وإذا باعوا لم يمدحوا، وإذا كان عليهم لم يمطلوا، وإذا كان لهم لم يعسروا).
وكلمة تِجارَةً قرأها عاصم وحمزة والكسائي بالنصب على أنها خبر لكان الناقصة، واسم كان ضمير يعود على الأموال أى إلا أن تكون الأموال المتداولة بينكم تجارة صادرة عن تراض
125
منكم. وقرأها الباقون بالرفع على أنها فاعل لكان التامة أى: إلا أن تقع تجارة بينكم عن تراض منكم.
وقوله عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ صفة لقوله تِجارَةً ولفظ عَنْ للمجاوزة أى: إلا أن تكون تجارة صادرة عن تراض كائن منكم.
والتراضي: هو الرضا من الجانبين بما يدل عليه من لفظ أو عرف، وهو أساس العقود بصفة عامة، وأساس المبادلات المالية بصفة خاصة، فلا بيع ولا شراء ولا إجارة ولا شركة ولا غيرها من عقود التجارة ما لم يتحقق الرضا.
قال بعضهم: وحقيقة التراضي لا يعلمها إلا الله- تعالى- والمراد ها هنا أمارته. كالإيجاب والقبول وكالتعاطى عند القائل به. وقد قال- تعالى- إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ فدل ذلك على أن مجرد التراضي هو المناط. ولا بد من الدلالة عليه بلفظ أو إشارة أو كتابة، بأى لفظ وقع وعلى أى صفة كان، وبأى إشارة مفيدة حصل» «١».
وقال الآلوسى: والمراد بالتراضي مراضاة المتبايعين بما تعاقدوا عليه في حال المبايعة وقت الإيجاب والقبول عندنا. وعند المالكية والشافعية حالة الافتراق عن مجلس العقد وقيل التراضي: التخيير بعد البيع... » «٢».
هذا، وظاهر قوله- تعالى- إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ يفيد إباحة جميع أنواع التجارات ما دام قد حصل التراضي بين المتعاقدين، ولكن هذا الظاهر غير مراد لأن الشارع قد حرم المتاجرة في أشياء معينة حتى ولو تم التراضي بين المتعاقدين فيها، وذلك مثل المتاجرة في الخمر والميتة ولحم الخنزير، ومثل بيع الغرر والعبد الآبق ونحو ذلك مما نهى عنه الشارع من العقود والمعاملات.
وقوله وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ معطوف على ما قبله.
وللعلماء في تأويله اتجاهات: فمنهم من يرى أن معناه: ولا يقتل بعضكم بعضا، فإن قتل بعضكم لبعض قتل لأنفسكم. والتعبير عن قتل بعضهم لبعض بقتل أنفسهم للمبالغة في الزجر عن هذا الفعل، وبتصويره بصورة مالا يكاد يفعله عاقل.
وإلى هذا المعنى اتجه الفخر الرازي فقد قال: اتفقوا على أن هذا نهى عن أن يقتل بعضهم بعضا. وإنما قال: أَنْفُسَكُمْ لقوله ﷺ «المؤمنون كنفس واحدة». ولأن العرب يقولون:
(١) تفسير القاسمى ج ٥ ص ١٢٠٣.
(٢) تفسير الآلوسى ج ٥ ص ١٦.
126
قتلنا ورب الكعبة إذا قتل بعضهم لأن قتل بعضهم يحرى مجرى قتلهم» «١».
ومنهم من يرى أن معناه النهى عن قتل الإنسان لنفسه. ومن ذلك ما أخرجه الشيخان عن أبى هريرة أن رسول الله ﷺ قال: من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا. ومن تحسى سما فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا.
ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ- أى يطعن- بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا» «٢».
وروى مسلم عن جابر بن سمرة قال: أتى النبي ﷺ برجل قتل نفسه بمشاقص- أى سهام عراض واحدها مشقص- فلم يصل عليه «٣».
ومنهم من يرى أن معناه: لا تقتلوا أنفسكم بأكل بعضكم أموال بعض وبارتكابكم للمعاصي التي نهى الله عنها، فإن ذلك يؤدى إلى إفساد أمركم، وذهاب ريحكم، وتمزق وحدتكم، ولا قتل للأمم والجماعات أشد من فساد أمرها، وذهاب ريحها.
وقد ذهب إلى هذا المعنى الإمام ابن كثير فقد قال: وقوله: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أى بارتكاب محارم الله- وتعاطى معاصيه، وأكل أموالكم بينكم بالباطل» «٤».
والذي نراه أن الجملة الكريمة تتناول كل هذه الاتجاهات، فهي تنهى المسلم عن أن يقتل نفسه، كما أنها تنهاه عن أن يقتل غيره، وهي أيضا تنهاه عن ارتكاب المعاصي التي تؤدى إلى هلاكه.
وقدم- سبحانه- النهى عن أكل الأموال بالباطل على النهى عن قتل الأنفس مع أن الثاني أخطر، للإشعار بالتدرج في النهى من الشديد إلى الأشد ولأن وقوعهم في أكل الأموال بالباطل كان أكثر منهم وأسهل عليهم من وقوعهم في القتل.
وقد ختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله: إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً لبيان أن ما نهى الله عنه من محرمات، وما أباحه من مباحات، إنما هو من باب الرحمة بالناس، وعدم المشقة عليهم. فالله- تعالى- رءوف بعباده ومن مظاهر ذلك أنه لم يكلفهم إلا بما هو في قدرتهم واستطاعتهم.
(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٠ ص ٧٢.
(٢) أخرجه البخاري في باب شرب السم من كتاب الطب ج ١ ص ١٨١، وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان ج ١ ص ١٨١.
(٣) أخرجه مسلم في كتاب الجنائز ج ٣ ص ٦٦
(٤) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٤٨٠
127
وهذه الآية الكريمة أصل عظيم في حرمة الأموال والأنفس. ولقد أكد النبي ﷺ هذا المعنى في خطبته في حجة الوداع حيث قال: «إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا».
ثم بين- سبحانه- سوء عاقبة من يفعل ما نهى الله عنه فقال: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً، وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً.
واسم الإشارة في قوله «ومن يفعل ذلك» يعود إلى المذكور من أكل الأموال بالباطل ومن القتل. وقيل الإشارة إلى القتل لأنه أقرب مذكور.
والعدوان: مجاوزة الحد المشروع عن قصد وتعمد.
والظلم: وضع الشيء في غير موضعه.
والمعنى: أن من يفعل ذلك المحرم حال كونه ذا عدوان وظلم عاقبه الله على ذلك عقابا شديدا في الآخرة، بإدخاله نارا هائلة محرقة، وكان عقابه بهذا العذاب الهائل الشديد يسيرا على الله، لأنه- سبحانه- لا يعجزه شيء.
وجمع- سبحانه- بين العدوان والظلم ليشمل العذاب كل أحوال الارتكاب لمحارم الله، وليخرج ما كان غير مقصود من الجرائم، كمن يتلف مال غيره بدون قصد، وكمن يقتل غيره بدون تعمد، فإنه يكون ظالما وعليه دفع عوض معين للمستحق لذلك، إلا أنه لا يكون مستحقا لهذا العذاب الشديد الذي توعد الله به من يرتكب هذه الجنايات عن عدوان وظلم.
وبعد هذا الوعيد الشديد لكل معتد وظالم، فتح القرآن الكريم باب الرحمة للناس حتى لا يقنطوا من رحمة الله فقال- تعالى- إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً.
واجتناب الشيء معناه: المباعدة عنه وتركه جانبا بحيث تكون أنت في جانب وهو في جانب آخر ولا تلاقى بينكما.
وكبائر الذنوب: ما عظم منها، وعظمت العقوبة عليه. كالشرك، وقتل النفس بغير حق، وأكل مال اليتيم ونحو ذلك من المحرمات.
والسيئات: جمع سيئة وهي الفعلة القبيحة، وسميت بذلك لأنها تسوء صاحبها عاجلا أو آجلا.
والمراد بالسيئات هنا: صغائر الذنوب بدليل مقابلتها بالكبائر.
والمعنى: إن تتركوا- يا معشر المؤمنين- كبائر الذنوب التي نهاكم الشرع عن اقترافها،
128
نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ أى نسترها عليكم، ونمحها عنكم حتى تصير بمنزلة ما لم يعمل فضلا من الله عليكم، ورحمة بكم.
وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً أى وندخلكم في الآخرة مدخلا حسنا وهو الجنة التي وعد الله بها عباده الصالحين. فهي مكان طيب يجد من يحل فيه الكثير من كرم الله ورضاه.
والمدخل- بضم الميم- كما قرأه الجمهور مصدر بمعنى الإدخال، ومفعول ندخلكم محذوف أى نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم إدخالا كريما.
ويصح أن يكون اسم مكان منصوبا على الظرفية عند سيبويه، وعلى المفعولية عند الأخفش.
وقرأ نافع مُدْخَلًا- بفتح الميم- على أنه اسم مكان للدخول، ويجوز أن يكون مصدرا ميميا. أى ندخلكم مكانا كريما أو ندخلكم دخولا كريما.
هذا، وقد استدل العلماء بهذه الآية على أن صغائر الذنوب يغفرها الله- تعالى- لعباده رحمة منه وكرما متى اجتنبوا كبائر الذنوب، وصدقوا في توبتهم إليه.
كما استدلوا بها على أن الذنوب منها الكبائر ومنها الصغائر لأن هذه الآية قد فصلت بين كبائر الذنوب وبين ما يكفر باجتنابها وهو صغار الذنوب المعبر عنها بقوله- تعالى-: نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ. ولأن الله- تعالى- يقول في موضع آخر وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا، وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى. الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ «١».
قال الآلوسى ما ملخصه: واختلفوا في حد الكبيرة على أقوال منها: أنها كل معصية أوجبت الحد. ومنها: أنها كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين وبضعف ديانته.
وقال الواحدي: الصحيح أن الكبيرة ليس لها حد يعرفها العباد به، وإلا لاقتحم الناس الصغائر واستباحوها. ولكن الله- تعالى- أخفى ذلك عن العباد ليجتهدوا في اجتناب المنهي عنه رجاء أن تجتنب الكبائر. ونظير ذلك إخفاء الصلاة الوسطى، وليلة القدر. وساعة الإجابة.
وذهب جماعة إلى ضبطها بالعد من غير ضبط بحد. فعن ابن عباس وغيره أنها ما ذكره الله- تعالى- من أول هذه السورة إلى هنا. وقيل هي سبع بدليل ما جاء في الصحيحين عن رسول الله ﷺ أنه قال: اجتنبوا السبع الموبقات قالوا: وما هن يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله- تعالى- والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولي
(١) سورة النجم: الآيتان ٣١، ٣٢.
129
يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات».
فإن قيل: جاء في روايات أخرى أن من الكبائر «اليمين الغموس» و «قول الزور» و «عقوق الوالدين» ؟ قلنا في الجواب: إن ذلك محمول على أنه ﷺ ذكر ما ذكر منها قصدا لبيان المحتاج منها وقت الذكر وليس لحصره الكبائر فيه- فإن النص على هذه السيع بأنهن كبائر لا ينفى ما عداهن» «١».
والذي نراه أن الذنوب منها الكبائر ومنها الصغائر، وأن الصغائر يغفرها الله لعباده متى اجتنبوا الكبائر وأخلصوا دينهم لله، وأن الكبائر هي ما حذر الشرع من ارتكابها تحذيرا شديدا، وتوعد مرتكبها بسوء المصير، كالإشراك بالله، وقتل النفس بغير حق وغير ذلك من الفواحش التي يؤدى ارتكابها إلى إفساد شأن الأفراد والجماعات والتي ورد النهى عنها في كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية. وأن الصغائر، هي الذنوب اليسيرة التي يرتكبها الشخص من غير إصرار عليها ولا استهانة بها أو مداومة عليها، بل يعقبها بالتوبة الصادقة والعمل الصالح وصدق الله إذ يقول: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ، ولقد فتح الله- تعالى- لعباده باب التوبة من الذنوب صغيرها وكبيرها حتى لا ييأسوا من رحمته فقال- سبحانه-: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ، وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ، وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً. يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً. إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ، وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً «٢» ثم نهى- سبحانه- عن التحاسد وعن تمنى ما فضل الله به بعض الناس على بعض من المال ونحوه مما يجرى فيه التنافس، وبين- سبحانه- أنه قد جعل لكل إنسان حقا معينا فيما تركه الوالدان والأقربون فقال- تعالى-:
(١) تفسير الآلوسى ج ٥ ص ١٧. [.....]
(٢) سورة الفرقان: الآيات ٦٨، ٦٩، ٧٠.
130

[سورة النساء (٤) : الآيات ٣٢ الى ٣٣]

وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٣٢) وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٣٣)
روى المفسرون في سبب نزول الآية الأولى روايات منها ما رواه الإمام أحمد والترمذي عن مجاهد قال: قالت أم سلمة: يا رسول الله يغزو الرجال ولا نغزو، ولنا نصف الميراث فأنزل الله- تعالى- وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ.
وقال قتادة: كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصبيان، فلما ورثوا وجعل للذكر مثل حظ الأنثيين تمنى النساء أن لو جعل أنصباؤهن كأنصباء الرجال. وقال الرجال: إنا لنرجو أن نفضل على النساء بحسناتنا في الآخرة كما فضلنا عليهن في الميراث فنزلت وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ.
والتمني المنهي عنه هنا: هو الذي يتضمن معنى الطمع فيما في يد الغير، والحسد له على ما أعطاه الله من مال أو جاه أو غير ذلك مما يجرى فيه التنافس بين الناس وذلك لأن التمني بهذه الصورة يؤدى إلى شقاء النفس، وفساد الخلق والدين، ولأنه أشبه ما يكون بالاعتراض على قسمة الخالق العليم الخبير بأحوال خلقه وبشئون عباده.
ولا يدخل في التمني المنهي عنه ما يسميه العلماء بالغبطة، وهي أن يتمنى الرجل أن يكون له مثل ما عند غيره من خير دون أن ينقص شيء مما عند ذلك الغير.
قال صاحب الكشاف: قوله وَلا تَتَمَنَّوْا نهوا عن التحاسد وعن تمنى ما فضل الله به بعض الناس على بعض من الجاه والمال، لأن ذلك التفضيل قسمة من الله صادرة عن حكمة وتدبير وعلم بأحوال العباد، وبما يصلح المقسوم له من بسط في الرزق أو قبض وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ. فعلى كل أحد أن يرضى بما قسم الله له، علما بأن ما قسم له هو مصلحته، ولو كان خلافه لكان مفسدة له، ولا يحسد أخاه على حظه» «١».
وقوله- تعالى- لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ تعليل للنهى السابق. أى لكل من فريقى الرجال والنساء حظ مقدر مما اكتسبوه من أعمال، ونصيب معين
(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٥٠٤.
131
فيما ورثوه أو أصابوه من أموال، وإذا كان الأمر كذلك فلا يليق بعاقل أن يتمنى خلاف ما قسم الله له من رزق، بل عليه أن يرضى بما قسم الله له. فالله- تعالى- هو الذي قدر أرزاق الرجال والنساء على حسب ما تقتضيه حكمته وعلمه، وهو الذي كلف كل فريق منهم بواجبات وأعمال تليق باستعداده وتكوينه.
وقوله وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ عطف على النهى. فكأنه قيل: لا تتمنوا ولا تتطلعوا إلى ما في أيدى غيركم، ولا تحسدوه على ما رزقه الله، بل اجعلوا اتجاهكم إلى الله وحده، والتمسوا منه ما تشاءون من نعمه الجليلة، ومن حظوظ الدنيا والآخرة، فهو القائل ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
وحذف المفعول من الجملة الكريمة لإفادة العموم. أى: واسألوا الله ما شئتم من إحسانه الزائد، وإنعامه المتكاثر حتى تطمئن نفوسكم، ويبتعد عنها الطمع والقلق والألم.
قال ابن كثير: قوله وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ أى لا تتمنوا ما فضلنا به بعضكم على بعض فإن التمني لا يجدي شيئا، ولكن سلوني من فضلي أعطكم فإنى كريم وهاب. روى أبو نعيم وابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ «سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسأل، وإن أحب عباد الله إلى الله للذي يحب الفرج» «١».
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله: إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً أى إن الله- تعالى- كان وما زال عليما بكل شيء من شئون هذا الكون، وقد وزع- سبحانه- أرزاقه ومواهبه على عباده بمقتضى علمه وحكمته، فجعل فيهم الغنى والفقير، فيحتاج بعضهم إلى بعض، وليتبادلوا المنافع التي لا غنى لهم عنها، وكلف كل فريق منهم بما يتناسب مع تكوينه واستعداده صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ.
ثم قال- تعالى وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ.
والمضاف إلى كل هنا محذوف عوض عنه التنوين. والتقدير ولكل إنسان أو لكل قوم أو لكل من مات، أو لكل من الرجال والنساء.
والموالي: جمع مولى. والمولى لفظ مشترك بين معان، فيقال للسيد المعتق لعبده مولى، لأنه ولى نعمته في عتقه له. ويقال للعبد العتيق مولى لاتصال ولاية مولاه في إنعامه عليه كما يقال لكل من الحليف والنصير والقريب مولى. ويقال لعصبة الشخص موالي.
قال الفخر الرازي: والمراد بالموالي هنا العصبة. ويؤكد ذلك ما رواه أبو صالح عن
(١) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٤٨٨.
132
أبى هريرة قال: قال رسول الله ﷺ «أنا أولى بالمؤمنين. من مات وترك مالا فماله للموالي العصبة. ومن ترك كلا فأنا وليه» وقال- عليه الصلاة والسلام- «اقسموا هذا المال فما أبقت السهام فلأولى عصبة ذكر» «١».
هذا، وللمفسرين في تأويل هذه الآية الكريمة أقوال متعددة منها أن المعنى:
١- ولكل واحد من الرجال والنساء جعلنا ورثة عصبة، يرثون مما تركه الوالدان والأقربون من المال.
٢- أو المعنى: ولكل من مات من الرجال والنساء جعلنا موالي أى ورثة يقتسمون تركته عن طريق الإرث، ولا حق للحليف فيها لأنه ليس من عصبة هذا الميت.
٣- أو المعنى: ولكل مال مما تركه الوالدان والأقربون جعلنا موالي أى ورثة يلونه ويحوزونه بعد أن يأخذ أصحاب الفروض نصيبهم.
وعلى هذه الوجوه يكون الوالدان والأقربون هم الذين يرثهم غيرهم من مواليهم أى عصبتهم.
٤- قال الفخر الرازي: ويمكن أن تفسر الآية بحيث يكون الوالدان والأقربون هم الورثة، فيكون المعنى:
ولكل واحد جعلنا ورثة في تركته. ثم كأنه قيل: ومن هؤلاء الورثة؟ فقيل. هم الوالدان والأقربون. وعلى هذا الوجه لا بد من الوقف عند قوله مِمَّا تَرَكَ «٢» :
هذا وتفسير الآية الكريمة بحيث يكون الوالدان والأقربون هم الذين يرثهم غيرهم من عصبتهم هو الأولى، لأنه هو الظاهر في معنى الآية، وعليه سار جمهور المفسرين، فقد قال ابن جرير: «فالموالى ها هنا: الورثة. ويعنى بقوله مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مما تركه والداه وأقرباؤه من الميراث. فتأويل الكلام، ولكل منكم أيها الناس جعلنا عصبة يرثون مما ترك والداه وأقرباؤه من ميراثهم» «٣».
وقال صاحب الكشاف: قوله مِمَّا تَرَكَ تبيين لكل. أى: ولكل شيء مما ترك الوالدان والأقربون من المال جعلنا موالي أى ورثة يلونه ويحرزونه، أو ولكل قوم جعلناهم موالي نصيب مما ترك الوالدان والأقربون. على أن جَعَلْنا مَوالِيَ صفة لكل، والضمير الراجع إلى كل
(١) تفسير الفخر الرازي ج ١ ص ٨٤.
(٢) تفسير الفخر الرازي ج ١٠ ص ٨٤- بتصرف وتلخيص-.
(٣) تفسير ابن جزير ج ٥ ص ٥١.
133
محذوف، والكلام مبتدأ أو خبر. كما تقول: لكل من خلقه الله إنسانا من رزق الله. أى حظ من رزق الله «١».
وقال القرطبي: بين الله- تعالى- أن لكل إنسان ورثة وموالي، فلينتفع كل واحد بما قسم الله له من الميراث ولا يتمن مال غيره «٢».
وقوله وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ جملة من مبتدأ وخبر. وجيء بالفاء في الخبر وهو قوله فَآتُوهُمْ لتضمن المبتدأ معنى الشرط.
وقوله عَقَدَتْ من العقد وهو الشد والربط والتوكيد والتغليظ، ومنه قولهم: عقد العهد يعقده، أى: شده وأكده.
والأيمان: جمع يمين والمراد به هنا أيديهم اليمنى، وإسناد العقد إليها على سبيل المجاز، لأنهم كانوا عند ما يوثقون عقدا يضع كل واحد منهم يده في يد الآخر، ليكون ذلك علامة على انبرام العقد وتأكيده. ومن هنا قيل للعقود الصفقات لأن كل عاقد يصفق بيمنه على يمين الآخر.
ويصح أن يكون المراد بالأيمان هنا الأقسام التي كانوا يقسمونها ويحلفونها عند التعاقد على شيء يهمهم أمره.
وقد قرأ عاصم وحمزة والكسائي «عقدت أيمانكم، وقرأ الباقون» عاقدت أيمانكم» وعلى كلتا القراءتين فالمفعول محذوف أى والذين عقدت حلفهم أيمانكم أو عاقدتهم أيمانكم.
وللعلماء في المراد بقوله وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ أقوال منها:
١- أن المراد بهم الحلفاء وهم موالي الموالاة وكان لهم نصيب من الميراث ثم نسخ، وقد ورد في ذلك آثار منها ما أخرجه ابن جرير وغيره عن قتادة قال: قوله تعالى-: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ كان الرجل يعاقد الرجل في الجاهلية فيقول: دمى دمك، وهدمي هدمك.. أى مهدومى مهدومك وترثني وأرثك، وتطلب بي وأطلب بك، فجعل له السدس من جميع المال في الإسلام، ثم يقسم أهل الميراث ميراثهم. فنسخ ذلك بعد في سورة الأنفال فقال الله تعالى- وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ «٣».
٢- ويرى بعضهم أن المراد بهم الأدعياء وهم الأبناء بالتبني، وكانوا يتوارثون بسبب ذلك، ثم نسخه بآية سورة الأنفال السابقة.
(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٥٠٤.
(٢) تفسير القرطبي ج ٥ ص ٥١.
(٣) تفسير ابن جرير ج ٥ ص ٥٢.
134
٣- ويرى فريق ثالث أن المراد بهم إخوان المؤاخاة، فقد كان النبي ﷺ يؤاخى بين الرجلين من أصحابه وكانت تلك المؤاخاة سببا في التوارث ثم نسخ ذلك بآية الأنفال السابقة.
٤- وقال أبو مسلم الأصفهاني: المراد بهم الأزواج، إذ النكاح يسمى عقدا.
والذي نراه أولى هو القول الأول لكثرة الآثار التي تؤيده، ولأنه هو الذي رجحه جمهور المفسرين، وعليه يكون المعنى: والذين عقدت حلفهم أيمانكم وهم الذين تحالفتم معهم على التناصر وغيره فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ أى فأعطوهم نصيبهم من الميراث وفاء بالعقود والعهود.
قال ابن جرير عند تفسيره لهذه الآية الكريمة. وأولى الأقوال بالصواب في تأويل قوله- تعالى- وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ قول من قال: والذين عقدت أيمانكم على المحالفة، وهم الحلفاء، وذلك أنه معلوم عند جميع أهل العلم بأيام العرب وأخبارها: أن عقد الحلف بينها كان يكون بالأيمان والعهود والمواثيق على نحو ما قد ذكرنا من الروايات في ذلك «١».
وقال ابن كثير: وقوله وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ أى والذين تحالفتم بالأيمان المؤكدة أنتم وهم فآتوهم نصيبهم من الميراث كما وعدتموهم في الأيمان المغلظة، إن الله شاهد بينكم في تلك العقود والمعاهدات. وقد كان هذا في ابتداء الإسلام ثم نسخ بعد ذلك، وأمروا أن يوفوا من عاقدوا ولا ينشئوا بعد نزول هذه الآية معاقدة «٢».
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً أى إن الله- تعالى- كان وما زال عالما بجميع الأشياء، ومطلعا على جليها وخفيها، وسيجازى الذين يتمسكون بشريعته بما يستحقون من ثواب. وسيجازى الذين ينحرفون عنها بما يستحقون من عقاب.
فالجملة الكريمة تذييل قصد به الوعد لمن أطاع الله والوعيد لمن عصاه.
ثم بين- سبحانه- حقوق الرجال وحقوق النساء، وما يجب لكل فريق نحو الآخر، ودعا أهل الخير إلى محاولة الإصلاح بين الزوجين إذا ما دب الخلاف بينهما فقال- تعالى-:
(١) تفسير ابن جرير ج ٥ ص ٥٥.
(٢) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٤٨٩.
135

[سورة النساء (٤) : الآيات ٣٤ الى ٣٥]

الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (٣٤) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (٣٥)
روى المفسرون روايات في سبب نزول قوله- تعالى- الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ الآية.
ومن هذه الروايات ما ذكره القرطبي من أنها نزلت في سعد بن الربيع نشزت عليه امرأته حبيبة بنت زيد بن خارجة بن أبى زهير فلطمها فقال أبوها: يا رسول الله، أفرشته كريمتي فلطمها. فقال ﷺ (لتقتص من زوجها). فانصرفت مع أبيها لتقتص منه. فقال- عليه الصلاة والسلام- «ارجعوا هذا جبريل أتانى» فأنزل الله هذه الآية «١».
وقوله قَوَّامُونَ جمع قوام على وزن فعال للمبالغة من القيام على الشيء وحفظه.
يقال: قام فلان على الشيء وهو قائم عليه وقوام عليه، إذا كان يرعاه ويحفظه ويتولاه.
ويقال: هذا قيم المرأة وقوامها للذي يقوم بأمرها ويهتم بحفظها وإصلاحها ورعاية شئونها.
أى: الرجال يقومون على شئون النساء بالحفظ والرعاية والنفقة والتأديب وغير ذلك مما تقتضيه مصلحتهن.
ثم ذكر- سبحانه- سببين لهذه القوامة.
أولهما: وهبى وقد بينه بقوله: بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ.
أى أن حكمة الله اقتضت أن يكون الرجال قوامين على النساء بسبب ما فضل الله به الرجال على النساء من قوة في الجسم، وزيادة في العلم، وقدرة على تحمل أعباء الحياة وتكاليفها وما يستتبع ذلك من دفاع عنهن إذا ما تعرضن لسوء.
(١) تفسير القرطبي ج ٥ ص ١٦٨.
136
قال الفخر الرازي: واعلم أن فضل الرجال على النساء حاصل من وجوه كثيرة: بعضها صفات حقيقية وبعضها أحكام شرعية. أما الصفات الحقيقية فاعلم أن الفضائل الحقيقية يرجع حاصلها إلى أمرين. إلى العلم وإلى القدرة.
ولا شك أن عقول الرجال وعلومهم أكثر. ولا شك أن قدرتهم على الأعمال الشاقة أكمل، فلهذين السببين حصلت الفضيلة للرجال على النساء في العقل والحزم والقوة. وإن منهم الأنبياء والعلماء، وفيهم الإمامة الكبرى والصغرى والجهاد، والأذان، والخطبة، والولاية في النكاح.
فكل ذلك يدل على فضل الرجال على النساء» «١».
والمراد بالتفضيل في قوله بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ تفضيل الجنس على الجنس لا تفضيل الآحاد على الآحاد. فقد يوجد من النساء من هي أقوى عقلا وأكثر معرفة من بعض الرجال.
والباء للسببية، وما مصدرية، والبعض الأول المقصود به الرجال والبعض الثاني المقصود به النساء، والضمير المضاف إليه البعض الأول يقع على مجموع الفريقين على سبيل التغليب.
وقال- سبحانه- بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ ولم يقل- مثلا-: بما فضلهم الله عليهن، للإشعار بأن الرجال من النساء والنساء من الرجال كما قال في آية أخرى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ وللإشارة إلى أن هذا التفضيل هو لصالح الفريقين، فعلى كل فريق منهم أن يتفرغ لأداء المهمة التي كلفه الله بها بإخلاص وطاعة حتى يسعد الفريقان.
وأما السبب الثاني: فهو كسبي وقد بينه- سبحانه- بقوله: وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ.
أى أن الله- تعالى- جعل الرجال قوامين على النساء بسبب ما فضل الله به الرجال على النساء من علم وقدرة. وبسبب ما ألزم به الرجال من إنفاق على النساء ومن تقديم المهور لهن عند الزواج بهن، ومن القيام برعايتهن وصيانتهن.
قال الآلوسى: واستدل بالآية على أن للزوج تأديب زوجته ومنعها من الخروج. وأن عليها طاعته إلا في معصية الله- تعالى-. وفي الخبر «لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها». واستدل بها أيضا من أجاز فسخ النكاح عند الإعسار عن النفقة والكسوة.
وهو مذهب مالك والشافعى، لأنه إذا خرج عن كونه قواما عليها فقد خرج عن الغرض المقصود بالنكاح. وعندنا لا فسخ لقوله- تعالى: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ.
واستدل بها أيضا من جعل للزوج الحجر على زوجته في نفسها وما لها فلا تتصرف فيه إلا بإذنه،
(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٠ ص ٨٨.
137
لأنه- سبحانه- جعل الرجل قواما بصيغة المبالغة. وهو الناظر على الشيء الحافظ له» «١».
ثم شرع- سبحانه- في تفصيل أحوال النساء. وفي بيان كيفية القيام عليهن بحسب اختلاف أحوالهن، فقسمهن إلى قسمين:
فقال في شأن القسم الأول: فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ.
أى: فالصالحات من النساء من صفاتهن أنهن قانِتاتٌ أى مطيعات لله- تعالى ولأزواجهن عن طيب نفس واطمئنان قلب، ومن صفاتهن كذلك أنهن حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ.
قال صاحب الكشاف: الغيب خلاف الشهادة. أى حافظات لمواجب الغيب. إذا كان الأزواج غير شاهدين لهن، حفظن ما يجب عليهن حفظه في حال الغيبة من الفروج والأموال والبيوت. وعن النبي ﷺ أنه قال. «خير النساء امرأة إن نظرت إليها سرتك، وإن أمرتها أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك في مالها ونفسها»، ثم تلا الآية الكريمة «٢».
و «ما» في قوله بِما حَفِظَ اللَّهُ يحتمل أن تكون مصدرية فيكون المعنى: أن هؤلاء النساء الصالحات المطيعات من صفاتهن أيضا أنهن يحفظن في غيبة أزواجهن ما يجب حفظه بسبب حفظ الله لهن ورعايته إياهن بالتوفيق للعمل الذي يحبه ويرضاه.
ويحتمل أن تكون موصولة فيكون المعنى: أنهن حافظات لغيبة أزواجهن في النفس والعرض والمال وكل ما يجب حفظه بسبب الأمر الذي حفظه الله لهن على أزواجهن حيث كلف الأزواج بالإنفاق عليهن وبالإحسان إليهن، فعليهن أن يحفظن حقوق أزواجهن في مقابلة الذي حفظه الله لهن من حقوق على أزواجهن.
فالجملة الكريمة تمدح النساء الصالحات المطيعات الحافظات لأسرار أزواجهن ولكل ما يجب حفظه من عرض أو مال أو غير ذلك مما تقتضيه الحياة الزوجية.
هذا هو القسم الأول من النساء، أما القسم الثاني فقد قال- سبحانه- في شأنه: وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ والمراد بقوله نُشُوزَهُنَّ عصيانهن وخروجهن عما توجبه الحياة الزوجية من طاعة الزوجة لزوجها. يقال: نشزت الزوجة نشوزا أى: عصت زوجها وامتنعت عليه. وأصل النشوز مأخوذ من النشز بمعنى الارتفاع في وسط الأرض السهلة المنبسطة ويكون شاذا فيها. فشبهت المرأة المتعالية على طاعة زوجها بالمرتفع من الأرض.
(١) تفسير الآلوسى ج ٥ ص ٢٤. [.....]
(٢) تفسير الكشاف ج ١ ص ٥٠٠
138
والمعنى: هذا شأن النساء الصالحات القانتات الحافظات للغيب بسبب حفظ الله لهن، أما النساء اللاتي تخافون نُشُوزَهُنَّ أى عصيانهن لكم، وترفعهن عن مطاوعتكم، وسوء عشرتهن فَعِظُوهُنَّ بالقول الذي يؤثر في النفس، ويوجههن نحو الخير والفضيلة، بأن تذكروهن بحسن عاقبة الطاعة للزوج. وسوء عاقبة النشوز والمعصية، وبأن تسوقوا لهن من تعاليم الإسلام وآدابه وتوجيهاته ما من شأنه أن يشفى الصدور، ويهدى النفوس إلى الخير.
قال ابن كثير: وقوله- تعالى-: وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ أى النساء اللاتي تخافون أن ينشزن على أزواجهن فعظوهن. والنشوز هو الارتفاع فالمرأة الناشز هي المرتفعة على زوجها التاركة لأمره، المعرضة عنه المبغضة له، فمتى ظهر له منها أمارات النشوز فليعظها وليخوفها عقاب الله، فإن الله قد أوجب حق الزوج عليها وطاعته، وحرم عليها معصيته لماله عليها من الفضل، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها» «١».
وقوله وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ أى وعليكم إذا لم تنفع الموعظة والنصيحة معهن أن تتركوهن منفردات في أماكن نومهن.
فالمضاجع جمع مضجع- وهو مكان النوم والاضطجاع.
قال القرطبي: والهجر في المضجع هو أن يضاجعها- أى ينام معها في فراش واحد- ويوليها ظهره ولا يجامعها. وقال مجاهد: وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ أى تجنبوا مضاجعهن أى- اهجروا أماكن نومهن بأن تناموا بعيدا عنهن-» «٢».
روى أبو داود بسنده عن معاوية بن حيدة القشيري أنه قال: يا رسول الله: ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت ولا تضرب الوجه.
ولا تقبح. ولا تهجر إلا في البيت».
وقوله وَاضْرِبُوهُنَّ معطوف على ما قبله. أى إن لم ينفع ما فعلتم من العظة والهجران فاضربوهن ضربا غير مبرح- أى غير شديد ولا مشين- فقد ثبت في صحيح مسلم عن جابر عن النبي ﷺ أنه قال في حجة الوداع» : واتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم- أى أسيرات عندكم- ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه. فإن فعلن فاضربوهن ضربا غير مبرح».
(١) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٤٩٢.
(٢) تفسير القرطبي ج ٥ ص ١٧١- بتصرف وتلخيص.
139
وقد فسر العلماء الضرب غير المبرح بأنه الذي لا يكسر عظما، ولا يشين جارحة، وأن يتقى الوجه فإنه مجمع المحاسن ولا يلجأ إليه إلا عند فشل العلاجين السابقين.
وقد قال- سبحانه- وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ ولم يقل: واللائي ينشزن، للإشعار بأن يبدأ الزوج بعلاج عيوب زوجته عند ما تظهر أمارات هذه العيوب وعلاماتها وأن لا يتركها حتى تستشرى وتشتد، بل عليه عند ما يخشى النشوز أن يعالجه قبل أن يقع، وأن يكون علاجه بطريقة حكيمة من شأنها أن تقنع وتفيد.
وبعضهم فسر الخوف، بالعلم أى واللاتي تعلمون نشوزهن فعظوهن... إلخ.
وبعضهم قدر مضافا في الكلام أى: واللاتي تخافون دوام نشوزهن، فعظوهن واهجروهن في المضاجع... إلخ.
وبعضهم قدر معطوفا محذوفا أى: واللاتي تخافون نشوزهن ونشزن، فعظوهن واهجروهن في المضاجع... إلخ.
وجمهور العلماء على أن من الواجب على الزوج أن يسلك في معالجته لزوجته تلك الأنواع الثلاثة على الترتيب بأن يبدأ بالوعظ ثم بالهجر ثم بالضرب، لأن الله- تعالى- قد أمر بذلك، ولأنه قد رتب هذه العقوبات بتلك الطريقة الحكيمة التي تبدأ بالعقوبة الخفيفة ثم تتدرج إلى العقوبة الشديدة ثم إلى الأكثر شدة.
قال الفخر الرازي: وبالجملة فالتخفيف مراعى في هذا الباب على أبلغ الوجوه. والذي يدل عليه اللفظ أنه- تعالى- ابتدأ بالوعظ. ثم ترقى منه إلى الضرب. وذلك تنبيه يجرى مجرى التصريح في أنه متى حصل الغرض بالطريق الأخف، وجب الاكتفاء به، ولم يجز الإقدام على الطريق الأشق. وهذه طريقة من قال: حكم هذه الآية مشروع على الترتيب.
وقال بعض أصحابنا: «تحرير المذهب أن له عند خوف النشوز أن يعظها، وهل له أن يهجرها؟ فيه احتمال. وله عند إبداء النشوز أن يعظها أو يهجرها، أو يضربها» «١».
ثم بين- سبحانه- ما يجب على الرجال نحو النساء إذا ما أطعنهم وتركن النشوز والعصيان فقال- تعالى-: فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً.
أى فإن رجعن عن النشوز إلى الطاعة وانقدن لما أوجب الله عليهن نحوكم أيها الرجال، فلا تطلبوا سبيلا وطريقا إلى التعدي عليهن، أو فلا تظلموهن بأى طريق من طرق الظلم كأن
(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٠ ص ٩٠ بتصرف وتلخيص.
140
تؤذوهن بألسنتكم أو بأيديكم أو بغير ذلك، بل اجعلوا ما كان منهن كأنه لم يكن، وحاولوا التقرب إليهن بألوان المودة والرحمة.
إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً فاحذروا مخالفة أمره، فإن قدرته- سبحانه- عليكم أعظم من قدرتكم على نسائكم.
فالجملة الكريمة تذييل قصد به حث الأزواج على قبول توبة النساء، وتحذيرهم من ظلمهن إذا ما تركن النشوز، وعدن إلى طريق الطاعة والإنابة.
قال بعضهم: وذكر هاتين الصفتين في هذا الموضع في غاية الحسن، وبيانه من وجوه:
الأول: أن المقصود منه تهديد الأزواج على ظلم النساء. والمعنى: أنهن إن ضعفن عن دفع ظلمكم وعجزن عن الانتصاف منكم، فالله- سبحانه- ينتصف لهن منكم لأنه علىّ قاهر كبير.
الثاني: لا تبغوا عليهن إذا أطعنكم لعلو أيديكم، فإن الله أعلى منكم وأكبر من كل شيء.
الثالث: أنه- سبحانه- مع علوه وكبريائه لا يكلفكم إلا ما تطيقون، كذلك لا تكلفوهن محبتكم، فإنهن لا يقدرن على ذلك.
الرابع: أنه مع علوه وكبريائه لا يؤاخذ العاصي إذا تاب، بل يغفر له، فإذا تاب المرأة عن نشوزها فأنتم أولى بأن تتركوا عقوبتها وتقبلوا توبتها.
الخامس: أنه- تعالى مع علوه وكبريائه اكتفى من العبد بالظواهر ولم يهتك السرائر فأنتم أولى أن تكتفوا بظاهر حال المرأة، وأن لا تقعوا في التفتيش عما في قلبها وضميرها من الحب والبغض» «١».
ثم بين- سبحانه- ما يجب عمله إذا ما نشب خلاف بين الزوجين فقال- تعالى-: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها، إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً.
والمراد بالخوف هنا العلم. والخطاب لولاة الأمور وصلحاء الأمة. وقيل لأهل الزوجين.
والمراد بالشقاق ما يحصل بين الزوجين من خلاف ومعاداة. وسمى الخلاف شقاقا لأن المخالف يفعل ما يشق على صاحبه، أو لأن كل واحد من الزوجين صار في شق وجانب غير الذي فيه صاحبه.
(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٠ ص ٩١.
141
وقوله شِقاقَ بَيْنِهِما أصله شقاقا بينهما. فأضيف الشقاق إلى الظرف إما على إجرائه مجرى المفعول فيه اتساعا. كقوله- تعالى- بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ. وأصله بل مكر في الليل والنهار.
وإما على إجرائه مجرى الفاعل بجعل البين مشاقا والليل والنهار ماكرين. كما في قولك:
نهارك صائم.
والمعنى: وإن علمتم أيها المؤمنون أن هناك خلافا بين الزوجين قد يتسبب عنه النفور الشديد، وانقطاع حبال الحياة الزوجية بينهما، ففي هذه الحالة عليكم أن تبعثوا حَكَماً
أى رجلا صالحا عاقلا أهلا للإصلاح ومنع الظالم من الظلم مِنْ أَهْلِهِ أى من أهل الزوج وأقاربه وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها أى من أقارب الزوجة بحيث يكون على صفة الأول: لأن الأقارب في الغالب أعرف ببواطن الأحوال، وأطلب للإصلاح، وتسكن إليهم النفس أكثر من غيرهم.
وعلى الحكمين في هذه الحالة أن يستكشفا حقيقة الخلاف، وان يعرفا هل الإصلاح بين الزوجين ممكن أو أن الفراق خير لهما؟.
وظاهر الأمر في قوله فَابْعَثُوا أنه للوجوب، لأنه من باب رفع المظالم ورفع المظالم من الأمور الواجبة على الحكام.
وظاهر وصف الحكمين بأن يكون أحدهما من أهل الزوج والثاني من أهل الزوجة، أن ذلك شرط على سبيل الوجوب، إلا أن كثيرا من العلماء حمله على الاستحباب، وقالوا: إذا بعث القاضي بحكمين من الأجانب جاز ذلك، لأن فائدة بعث الحكمين استطلاع حقيقة الحال بين الزوجين، وهذا أمر يستطيعه الأقارب وغير الأقارب إلا أنه يستحب الأقارب فيه لأنهم أعرف بأحوال الزوجين، وأشد طلبا للإصلاح، وأبعد عن الظنة والريبة، وأقرب إلى أن تسكن إليهم النفس.
والضمير في قوله- تعالى- إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يجوز أن يعود للحكمين ويجوز أن يكون للزوجين. وكذلك الضمير في قوله يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما يحتمل أن يكون للحكمين وأن يكون للزوجين.
والأولى جعل الضمير الأول للحكمين والثاني للزوجين فيكون المعنى: إن يريدا أى الحكمان إصلاحا بنية صحيحة وعزيمة صادقة، يوفق الله بين الزوجين بإلقاء الألفة والمودة في نفسيهما، وانتزاع أسباب الخلاف من قلبيهما.
هذا، وقد اختلف العلماء فيما يتولاه الحكمان، أيتوليان الجمع والتفريق بين الزوجين بدون إذنهما أم ليس لهما تنفيذ أمر يتعلق بالزوجين إلا بعد استئذانهما؟.
142
يرى بعضهم أن للحكمين أن يلزما الزوجين بما يريانه بدون إذنهما، لأن الله- تعالى- سماهما حكمين، والحكم هو الذي يحسم الخلاف بما تقتضيه المصلحة سواء أرضى المحكوم عليه أم لم يرض ولأن القاضي هو الذي كلفهما بهذه المهمة فلهما أن يتصرفا بما يريانه خيرا بدون إذن الزوجين ولأن عليا- رضى الله عنه- عند ما بعث الحكمين لحسم الخلاف الذي نشب بين أخيه عقيل وبين زوجته قال لهما: أتدريان ما عليكما؟ إن عليكما إن رأيتم أن تجمعا جمعتما وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما...
وإلى هذا الرأى اتجه ابن عباس والشعبي ومالك وأحمد بن حنبل وغيرهم.
ويرى الحسن وأبو حنيفة وغيرهما أنه ليس للحكمين أن يفرقا بين الزوجين إلا برضاهما لأنهما وكيلان للزوجين، ولأن الآية الكريمة قد بينت أن عملهما هو الإصلاح فإن عجزا عنه فقد انتهت مهمتهما، ولأن الطلاق من الزوج وحده، ولا يتولاه غيره إلا بالنيابة عنه.
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً أى: إنه- سبحانه- عليم بظواهر الأمور وبواطنها. خبير بأحوال النفوس وطرق علاجها، ولا يخفى عليه شيء من تصرفات الناس وأعمالهم، وسيحاسبهم عليها.
فالجملة الكريمة تذييل المقصود منه الوعيد للحكمين إذا ما سلكوا طريقا يخالف الحق والعدل.
وبهذا نرى أن هاتين الآيتين الكريمتين قد بينتا جانبا هاما مما يجب للرجال على النساء، ومما يجب للنساء على الرجال، فقد مدحت أولاهما النساء الصالحات المطيعات الحافظات لحق أزواجهن، ورسمت العلاج الناجع الذي يجب على الرجال أن يستعملوه إذا ما حدث نشوز من زوجاتهم، وحذرت الرجال من البغي على النساء إذا ما تركن النشوز وعدن إلى الطاعة والاستقامة فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً. ثم طلبت الآية الثانية من ولاة الأمور وصلحاء الأمة أن يتدخلوا بين الزوجين إذا ما نشب خلاف بينهما، وأن يكون هذا التدخل عن طريق حكمين عدلين عاقلين يتوليان الإصلاح بينهما، ويقضيان بما فيه مصلحة الزوجين، وقد وعد- سبحانه- بالتوفيق بين الزوجين متى صلحت النيات، وصفت النفوس، ومالت القلوب نحو التسامح والتعاطف قال- تعالى- إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً.
وبهذا التشريع الحكيم تسعد الأمم والأسر، وتنال ما تصبو إليه من رقى واستقرار.
وبعد هذا البيان الحكيم الذي ساقته السورة الكريمة فيما يتعلق بأحكام الأسرة ووسائل
143
استقرارها، وعلاج ما يكون بين الزوجين من أسباب النزاع... بعد هذا البيان الحكيم عن ذلك أخذت السورة الكريمة في دعوة الناس إلى عبادة الله وحده، وإلى التحلي بمكارم الأخلاق، ونهتهم عن الإشراك بالله- تعالى-، وعن الغرور والبخل والرياء، وغير ذلك من الأعمال التي ترضى الشيطان وتغضب الرحمن فقال- تعالى-:
[سورة النساء (٤) : الآيات ٣٦ الى ٤٢]
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (٣٦) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (٣٧) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (٣٨) وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً (٣٩) إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (٤٠)
فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (٤١) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (٤٢)
144
قال القرطبي ما ملخصه: أجمع العلماء على أن هذه الآية- وهي قوله- تعالى- وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً- من المحكم المتفق عليه- ليس منها شيء منسوخ. وكذلك هي في جميع الكتب. ولو لم يكن كذلك لعرف ذلك من جهة العقل وإن لم ينزل به الكتاب. والعبودية هي التذلل والافتقار لمن له الحكم والاختيار. فالآية أصل في خلوص الأعمال لله وتصفيتها من شوائب الرياء وغيره. وفي صحيح مسلم عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله- تعالى- أنا أغنى الشركاء عن الشرك. من عمل عملا أشرك فيه معى غيرى تركته وشركه» «١».
والمعنى: عليكم أيها الناس أن تخلصوا لله- تعالى- العبادة والخضوع، وأن تتجهوا إليه وحده في كل شئونكم بدون أن تتخذوا معه أى شريك لا في عقيدتكم ولا في عبادتكم ولا في أقوالكم ولا في أعمالكم، كما قال- تعالى- وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ.
وهذه العبادة الخالصة لله- تعالى- هي حقه- سبحانه- علينا، فهو الذي خلقنا وهو الذي رزقنا وهو المتفضل علينا في جميع الحالات.
روى البخاري عن معاذ بن جبل قال: كنت ردف النبي- صلى الله عليه وسلم- على حمار يقال له عفيرة.
فقال: يا معاذ هل تدرى ما حق الله على عباده وما حق العباد على الله؟ قلت الله ورسوله أعلم. قال: فان حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا. وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا. فقلت: يا رسول الله! أفلا أبشر به الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا).
وقد صدر- سبحانه- تلك الوصايا الحكيمة التي اشتملت عليها الآية الكريمة بالأمر بعبادته والنهى عن أن نشرك به شيئا، لأن إخلاص العبادة له أساس الدين، ومداره الأعظم الذي بدونه لا يقبل الله من العبد عملاما، ولأن في ذلك إيماء إلى ارتفاع شأن تلك الوصايا التي سيقت بعد ذلك، إذ قرنها بالعبادة والتوحيد يكسبها عظمة وجلالا.
وعطف النهى عن الشرك على الأمر بالعبادة لله- تعالى- من باب عطف الخاص على
(١) تفسير القرطبي ج ٥ ص ١٨٠
.
145
العام، لأن الإشراك ضد التوحيد فيفهم من النهى عن الإشراك الأمر بالتوحيد.
ثم أوصى- سبحانه- بالإحسان إلى الوالدين فقال: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً.
أى: عليكم أن تخلصوا لله العبادة ولا تشركوا معه شيئا، وعليكم كذلك أن تحسنوا إلى الوالدين بأن تطيعوهما وتكرموهما وتستجيبوا لمطالبهما التي يرضاها الله، والتي في استطاعتكم أداؤها.
وقد جاء الأمر بالإحسان إلى الوالدين عقب الأمر بتوحيد الله، لأن أحق الناس بالاحترام والطاعة بعد الله- عز وجل- هما الوالدان لأنهما هما السبب المباشر في وجود الإنسان.
ومن الآيات التي قرنت الأمر بالإحسان إلى الوالدين بالأمر بطاعة الله قوله- تعالى-:
وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً.
وقوله- تعالى-: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً.
وقوله- تعالى-: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً.
ومن الأحاديث التي أمرت بالإحسان إلى الوالدين ونهت عن الإساءة إليهما ما رواه الترمذي عن عبد الله بن عمرو عن النبي ﷺ أنه قال: «رضا الله في رضا الوالدين وسخط الله في سخط الوالدين».
وروى أبو داود والبيهقي عن رجل من بنى سلمة أنه جاء إلى النبي ﷺ فقال: «يا رسول الله هل بقي على من بر أبوى شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال: نعم. الصلاة عليهما.
والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما»
«١».
وقد جاءت هذه الجملة وهي قوله تعالى وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً في صورة الخبر إلا أن المراد بها الأمر بالإحسان إليهما، ففي الكلام محذوف والتقدير: وأحسنوا بالوالدين إحسانا. فقوله وبالوالدين متعلق بالفعل المقدر.
ثم أمر- سبحانه- بالإحسان إلى الأقارب واليتامى والمساكين فقال: وبذي القربى واليتامى والمساكين.
أى وأحسنوا كذلك إلى أقاربكم الذين جمعت بينكم وبينهم رابطة القرابة والنسب، وإلى اليتامى الذين فقدوا الأب الحانى بأن تعطفوا عليهم، وترحموا ضعفهم، وتحسنوا تربيتهم
(١) التاج الجامع للأصول ج ٥ ص ٦ للشيخ منصور على ناصف.
146
ورعايتهم. وإلى المساكين الذين هم في حاجة إلى العون والمساعدة لفقرهم وضعفهم وعدم وجود ما يقوم بكفايتهم.
وقد وردت آيات كثيرة في القرآن الكريم تدعو المسلمين إلى الإحسان إلى الأقارب واليتامى والمساكين، ومن ذلك قوله- تعالى- وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ.
وقوله- تعالى- وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً.
ومن الأحاديث التي وردت في هذا المعنى ما رواه الشيخان عن أبى هريرة أن رسول الله ﷺ قال: «من سره أن يبسط له في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه»، وروى الشيخان أيضا عن سهل بن سعد عن النبي ﷺ أنه قال: أنا وكافل اليتيم في الجنة كهذا وقال بإصبعيه السبابة والوسطى- أى أشار وفرج بين إصبعيه السبابة والوسطى».
وروى البخاري وغيره عن صفوان بن سليم عن النبي ﷺ أنه قال: «الساعى على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، أو كالذي يصوم النهار ويقوم الليل» «١».
ثم أمر- سبحانه- بالإحسان إلى طائفة أخرى من الناس فقال- تعالى-: وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ.
والجار ذو القربى: هو الجار الذي قرب جواره. أو هو الذي له مع الجوار قرب واتصال بنسب أو دين، فإن له مع حق الجوار حق القرابة.
والجار الجنب: هو الجار الذي بعد جواره عن جوارك من الجنابة ضد القرابة. يقال:
اجتنب فلان فلانا إذا بعد عنه. وقيل هو الجار الذي لا قرابة في النسب بينه وبين جاره، ويقابله الجار ذو القربى.
وقد ساق ابن كثير عند تفسيره لهذه الجملة أكثر من عشرة أحاديث تتعلق بالإحسان إلى الجار ومنها ما رواه الشيخان عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ قال: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه».
وروى الترمذي عن عبد الله بن عمر عن النبي ﷺ أنه قال: خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه. وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره» «٢».
والصاحب بالجنب: هو الرفيق في كل أمر حسن: كتعليم أو تجارة أو سفر أو غير ذلك.
(١) التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول ج ٥ ص ٩ وما بعدها.
(٢) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٤٩٤
147
قال صاحب الكشاف: «والصاحب بالجنب: هو الذي صحبك بأن حصل بجنبك إما رفيقا في سفر، وإما جارا ملاصقا، وإما شريكا في تعلم علم أو حرفة، وإما قاعدا إلى جنبك في مجلس أو مسجد أو غير ذلك فعليك أن ترعى ذلك الحق ولا تنساه وتجعله ذريعة إلى الإحسان.
وقيل: الصاحب بالجنب المرأة»
«١» وابن السبيل: هو المسافر الذي انقطع عن بلده، ونفد ما في يده من مال يوصله إلى مبتغاه.
والسبيل: الطريق فنسب المسافر إليه لمروره عليه وملابسته له.
ومن الإحسان إليه. إيواؤه وإطعامه ومساعدته بما يوصله إلى موطنه.
والمراد بقوله وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ العبيد الأرقاء الذين ملكت رقابهم، فصاروا ضعاف الحيلة لامتلاك غيرهم لهم.
وقد أوصى النبي ﷺ بالإحسان إليهم في كثير من الأحاديث ومن ذلك ما رواه أبو داود وابن ماجة عن على بن أبى طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جعل يوصى أمته في مرض موته فيقول:
الصلاة الصلاة. اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم»
.
وروى الإمام أحمد والنسائي عن المقدام بن معد يكرب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(ما أطعمت نفسك فهو لك صدقة. وما أطعمت ولدك فهو لك صدقة. وما أطعمت زوجك فهو لك صدقة. وما أطعمت خادمك فهو لك صدقة).
وروى الشيخان عن أبى ذر عن النبي ﷺ قال: «هم إخوانكم خولكم. جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم. فإن كلفتموهم فأعينوهم» «٢» وبذلك نرى أن الآية الكريمة قد أمرت الناس بإخلاص العبادة لله- تعالى-، كما أمرتهم بالإحسان إلى آبائهم وإلى أقاربهم وإلى البائسين والمحتاجين وغيرهم ممن هم في حاجة إلى مدّ يد العون والمساعدة.
وبتنفيذ هذه الوصايا السامية تسعد الإنسانية، وتنال ما تصبو إليه من رقى واستقرار.
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً.
والمختال: هو المتكبر المعجب بنفسه: سمى بذلك لأنه يتخيل لنفسه من السجايا والصفات
(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٥٠٩
(٢) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٤٩٥.
148
والأفعال ما ليس فيه فيستعلى على الناس ولا يلتفت إليهم.
والفخور: هو الشديد الفخر بما يقول أو يفعل، المكثر من ذكر مزاياه ومناقبه، والمحب لأن يحمد بما لم يفعل.
أى: إن الله لا يحب من كان متكبرا معجبا بنفسه، ومن كان كثير الفخر بما يقول أو يفعل لأن من هذه صفاته لا يقوم برعاية حقوق الناس بل إن غروره ليجعله يستنكف عن الاتصال بهم وإن فخره ليحمله على التطاول عليهم.
والجملة الكريمة علة لكلام محذوف والتقدير: لا تفتخروا ولا تختالوا فإن الله لا يحب من كان متصفا بهذه الصفات القبيحة.
وقوله الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ يدل من قوله مُخْتالًا فَخُوراً أى: أن الله لا يحب من كان مختالا فخورا ولا يحب الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل.
ويجوز أن يكون مبتدأ محذوف الخبر والتقدير: الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله مبغضون من الله أو أحقاء لكل ما ينزل بهم من عذاب.
وحذف لتذهب نفس السامع فيه كل مذهب. ودل على هذا الخبر المحذوف قوله: وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً.
ويجوز أن يكون منصوبا أو مرفوعا على الذم. إلى غير ذلك مما ذكروه في وجوه إعراب هذه الآية الكريمة.
والمعنى: أن الله- تعالى- لا يحب هؤلاء المختالين والفخورين، ولا يحب كذلك الذين لا يكتفون بالبخل بأموالهم عن إنفاق شيء منها في وجوه الخير مع أن بخلهم هذا مفسدة عظيمة. بل يأمرون غيرهم بأن يكونوا بخلاء مثلهم، وأن يسلكوا مسلكهم الذميم.
قال صاحب الكشاف: أى يبخلون بذات أيديهم وبما في أيدى غيرهم. فيأمرونهم بأن يبخلوا به مقتا للسخاء ممن وجد منه السخاء. وفي أمثال العرب أبخل من الضنين بنائل غيره.
ثم قال: ولقد رأينا ممن بلى بداء البخل، من إذا طرق سمعه أن أحدا جاد على أحد، شخص به، أى قلق وضجر، وحل حبوته واضطرب ودارت عيناه في رأسه. كأنما نهب رحله، وكسرت خزائنه ضجرا من ذلك وحسرة على وجوده» «١».
وقوله: وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ بيان لرذيلة أخرى من رذائلهم الكثيرة أى:
أنهم يبخلون بما في أيديهم ويأمرون غيرهم بذلك، ويكتمون ويخفون نعم الله التي أعطاها لهم
(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٥١٠.
149
فلا يظهرونها سواء أكانت هذه النعم نعما مالية أم علمية أم غير ذلك من نعم الله عليهم.
وقوله- تعالى- وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً بيان للمصير السيئ الذي يصيرون إليه بسبب أفعالهم القبيحة.
أى: وهيأنا لهؤلاء الجاحدين لنعم الله الكافرين بوحيه عذابا يهينهم ويذلهم وينسيهم ما كانوا فيه من فخر وخيلاء وغرور.
قال الآلوسى ما ملخصه: ووضع- سبحانه- المظهر موضع المضمر للإشعار بأن من هذا شأنه فهو كافر لنعم الله، ومن كان كافرا لنعمه فله عذاب يهينه كما أهان النعم بالبخل والإخفاء.
وسبب نزول هذه الآية أن جماعة من اليهود كانوا يأتون رجالا من الأنصار فيقولون لهم:
لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر في ذهابها، ولا تسارعوا في النفقة فإنكم لا تدرون ما يكون. فأنزل الله قوله- تعالى- الَّذِينَ يَبْخَلُونَ إلى قوله: وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً.
وقيل نزلت في الذين كتموا صفة النبي ﷺ وبخلوا بحق الله عليهم وهم أعداء الله- تعالى- أهل الكتاب «١».
وقوله- تعالى وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ معطوف على الَّذِينَ يَبْخَلُونَ.
وإنما شاركوهم في الذم وسوء العاقبة لأن البخل بإظهار نعم الله في مواضع الخير وكتمانها، يستوي مع الإنفاق الذي لا يقصد به وجه الله في القبح واستجلاب العقاب، إذ أن الذي ينفق ماله على سبيل الرياء والسمعة لا يتوخى به مواقع الحاجة، فقد يعطى الغنى ويمنع الفقير، وقد يبذل الكثير من المال ولكن في المفاسد والشرور والمظاهر الكاذبة.
والمعنى: والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس أى قاصدين بإنفاقهم الرياء والسمعة لا وجه الله- تعالى- ولا يؤمنون بالله الذي له الخلق والأمر، ولا باليوم الآخر وما فيه من ثواب وعقاب... هؤلاء الذين يفعلون ذلك يبغضهم الله- تعالى-، ويجازيهم بما يستحقون من عذاب أليم.
روى مسلم عن أبى هريرة قال: سمعت النبي ﷺ يقول: قال الله- تبارك وتعالى-: أنا أغنى الشركاء عن الشرك. من عمل عملا أشرك معى فيه غيرى تركته وشركه.
وقوله وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً جملة معترضة لبيان أن صحبتهم للشيطان
(١) تفسير الآلوسى ج ٥ ص ٣٠.
150
ومطاوعتهم له هي التي دفعتهم إلى البخل وإلى الرياء وإلى عدم الإيمان بالحق الذي آمن به العقلاء من الناس.
والمراد بالشيطان هنا: كل ما يغرى الإنسان بالشر ويدفعه إليه من الإنس أو الجن.
والقرين: هو المصاحب الملازم للإنسان. فهو فعيل بمعنى مفاعل، كخليط بمعنى المخالط.
وساء هنا: بمعنى بئس. وقرينا تمييز مفسر للضمير المستكن في ساء. والمخصوص بالذم محذوف وهو الشيطان الذي يدفع الإنسان إلى الشرور والآثام.
والمعنى ومن يكن الشيطان مقارنا ومصاحبا له فبئس المصاحب وبئس المقارن الشيطان لأنه يدعوه إلى المعاصي التي تفضى به إلى النار.
وفي الآية الكريمة إشارة إلى أن قرناء السوء يفسدون الأخلاق: لأن عدوى الأخلاق تسرى بالمجاورة، كما تسرى عدوى الأمراض البدنية.
والمقصود من الجملة الكريمة نهى الناس عن طاعة شياطين الإنس والجن الذين يحرضون على ارتكاب الفواحش والقبائح، ويزينون لأتباعهم الشرور والآثام.
ثم وبخ- سبحانه- هؤلاء الذين يؤثرون رضا الناس على رضا الله، والذين كفروا بالحق بعد إذ جاءهم فقال-: وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ.
والمعنى: وأى ضرر على هؤلاء الكافرين البخلاء المرائين لو أنهم آمنوا بالله- تعالى- حق الإيمان، وآمنوا باليوم الآخر وما فيه من ثواب وعقاب، وأنفقوا مما رزقهم الله من فضله ابتغاء وجهه؟.
إنه لا ضرر مطلقا من إيمانهم وإنفاقهم واستجابتهم للحق، بل إن الخير كل الخير في اتباع ذلك، والشر كل الشر فيما هم عليه من كفر وبخل ورياء.
فالجملة الكريمة توبيخ لهم على سلوكهم الطريق المعوج وتركهم للطريق المستقيم.
وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله: قوله وَماذا عَلَيْهِمْ. وأى تبعة عليهم في الإيمان والإنفاق في سبيل الله. والمراد الذم والتوبيخ. وإلا فكل منفعة ومفلحة في ذلك: وهذا كما يقال للمنتقم: ما ضرك لو عفوت وللعاق: ما كان يرزؤك لو كنت بارا. وقد علم أنه لا مضرة ولا مرزأة في العفو والبر. ولكنه ذم وتجهيل وتوبيخ بمكان المنفعة» «١».
وقوله وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً تذييل قصد به تهديدهم على إيثارهم طريق الغي على طريق الرشد.
(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٥١١. [.....]
151
أى: وكان الله بهم عليما علما يشمل بواطنهم وظواهرهم، وسيجازيهم على ما أسروه وما أعلنوه بالعقاب الذي يستحقونه.
ثم بين- سبحانه- أنه منزه عن الظلم بعد أن أقام الحجة على الظالمين، ودعاهم إلى سلوك طريق الخير، فقال إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً.
والمثقال: مفعال من الثقل. ويطلق على الشيء القليل الذي يحتمل الوزن.
والذرة: تطلق على النملة، وعلى الغبار الذي يتطاير من التراب عند النفخ.
وهذا أحقر ما يقدر به الشيء، فعلم انتفاء ما هو أكثر منه بالأولى.
والمراد: أن الله- تعالى- لا ينقص أحدا من ثواب عمله شيئا مهما ضؤل هذا الشيء وحقر، فخرج الكلام على أصغر شيء يعرفه الناس. كما قال- تعالى- فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ.
وكما في قوله- تعالى- وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ، فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً، وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ.
ومفعول يظلم محذوف والتقدير: لا يظلم أحدا مثقال ذرة.
وقوله مِثْقالَ منصوب على أنه نعت لمصدر محذوف أى لا يظلم أحدا ظلما وزن ذرة. كما تقول: لا أظلم قليلا ولا كثيرا.
وقوله وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً بيان لسعة جوده- سبحانه- وعظيم رحمته وعفوه.
وقد قرأ نافع وابن كثير وأبو جعفر حسنة- بالضم- على أن تك مضارع كان التامة أى وإن توجد أو تحصل حسنة يضاعفها.
وقرأ الباقون حَسَنَةً- بالنصب- على أنها خبر لقوله تَكُ المشتقة من كان الناقصة.
وأصل تَكُ تكن فحذفت النون من آخر الفعل من غير قياس تشبيها لها بحروف العلة، وتخفيفا لكثرة الاستعمال.
والضمير المستتر في الفعل «تك» يعود إلى المثقال. وجيء به مؤنثا مراعاة للفظ ذرة الذي أضيف إليه لفظ مثقال لأن لفظ مثقال مبهم لا يميزه إلا لفظ ذرة فكان كالمستغنى عنه.
وقيل: إنما جيء به مؤنثا حملا على المعنى، لأنه بمعنى: وإن تك زنة ذرة حسنة يضاعفها.
وقيل: إنما جيء به كذلك لأن المضاف قد يكتسب التأنيث من المضاف إليه إذا كان جزأه
152
كما في نحو قولهم: كما شرقت صدر القناة من الدم..
والمعنى: إن الله- تعالى- بفضله وجوده لا يظلم الناس شيئا، ولا ينقصهم أى نقص من ثواب أعمالهم بل يجازيهم بها ويثيبهم عليها وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها أى وإن تك الفعلة الحسنة بالغة في القلة مثقال ذرة يضاعف ثوابها بكرمه وجوده أضعافا كثيرة. وفوق ذلك فإنه- سبحانه- يعطى من يشاء إعطاءه عطاء عظيما من عنده ولا يعلم مقدار هذا العطاء إلا هو- سبحانه.
وفي إضافة هذا العطاء العظيم إلى ذاته- تعالى- في قوله مِنْ لَدُنْهُ تشريف له، وتهويل من شأنه.
وسماه أجرا لكونه جزاء على العمل الصالح الذي عمله عباده المؤمنون الصادقون.
هذا، وقد أورد الإمام ابن كثير جملة من الأحاديث في معنى هذه الآية ومن ذلك ما رواه الشيخان عن أبى سعيد الخدري عن رسول الله ﷺ في حديث الشفاعة الطويل وفيه: فيقول الله- تعالى- لملائكته! ارجعوا. فمن وجدتم في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان فأخرجوه من النار، فيخرجون خلقا كثيرا. ثم يقول أبو سعيد: اقرؤا إن شئتم قوله- تعالى- إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ.
وروى أبو داود الطيالسي في مسنده عن أنس أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: إن الله لا يظلم المؤمن حسنة. يثاب عليها الرزق في الدنيا. ويجزى بها في الآخرة. وأما الكافر فيطعم بها في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة لم يكن له حسنة» «١».
ثم نبه- سبحانه- هؤلاء الكافرين إلى ما يكونون عليه من حال سيئة يوم القيامة إذا استمروا في كفرهم فقال: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً. يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً.
قال الفخر الرازي: وجه النظم هو أنه- تعالى- بين أن في الآخرة لا يجرى على أحد ظلم، وأنه- تعالى- يجازى المحسن على إحسانه ويزيده على قدر حقه. فبين في هذه الآية- وهو قوله- تعالى- فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ أن ذلك يجرى بشهادة الرسل الذين جعلهم الله الحجة على الخلق لتكون الحجة على المسيء أبلغ. والتبكيت له أعظم. وحسرته أشد. ويكون سرور من قبل من الرسول وأظهر الطاعة أعظم. ويكون هذا وعيدا للكفار الذين قال الله فيهم إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ ووعدا للمطيعين الذين قال فيهم «وإن تك حسنة يضاعفها» «٢».
(١) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٤٩٧.
(٢) تفسير الفخر الرازي ج ١٠ ص ١٠٥.
153
والفاء في قوله «فكيف» للإفصاح عن شرط مقدر نشأ من الكلام السابق وكيف في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف.
والتقدير: إذا أيقنت بما أخبرناك به أيها الرسول الكريم أو أيها السامع من أن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما فكيف يكون حال هؤلاء الكفرة إذا ما جئنا من كل أمة من الأمم السابقة بشهيد يشهد عليهم بما ارتكبوه من سوء الصنيع وقبح الأعمال، وهذا الشهيد هو نبيهم الذي أرسله الله لهدايتهم، وجئنا بك يا محمد شهيدا على هؤلاء الذين بعثك الله لإخراجهم من الظلمات إلى النور فكذبوك واستحبوا العمى على الهدى.
لا شك أن حالهم سيكون أسوأ حال، ومصيرهم سيكون أقبح مصير، بسبب كفرهم وبخلهم وريائهم واتباعهم للهوى والشيطان.
ومن العلماء من يرى أن المراد بقوله- تعالى- وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً أى جئنا بك يا محمد شهيدا على هؤلاء الأنبياء بأنهم قد بلغوا رسالة الله ولم يقصروا في نصيحة أقوامهم.
والذي نراه أولى هو أن شهادة النبي ﷺ تشمل كل ذلك أى تشمل شهادته على قومه بأنه قد بلغهم رسالة الله، وشهادته للأنبياء السابقين بأنهم نصحوا لأقوامهم وبلغوا رسالة ربهم، لأن النبي ﷺ قد أعطاه الله تعالى- من المنزلة العالية ما لم يعط أحدا سواه.
روى الشيخان وغيرهما عن عبد الله بن مسعود قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرأ على شيئا من القرآن. فقلت يا رسول الله أأقرأ عليك وعليك أنزل قال: نعم. إنى أحب أن أسمعه من غيرى. فقرأت عليه سورة النساء: حتى أتيت إلى هذه الآية: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ.. الآية» فقال: حسبك الآن، فإذا عيناه تذرفان».
وقوله تعالى- يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ استئناف مبين لحالهم التي أشير إلى شدتها وفظاعتها بقوله فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً.
والتنوين في قوله يَوْمَئِذٍ عوض عن الجملتين السابقتين أى مجيء الشهيد على كل أمة، ومجيء الرسول شهيدا على قومه.
أى: يوم أن يشهد الرسل على أقوامهم بأنهم قد بلغوهم رسالة الله، ويوم أن تشهد أنت يا محمد على من كذبك من قومك بأنك قد أمرتهم بعبادة الله وحده يومئذ وهو يوم القيامة، يتمنى ويحب الذين كفروا وعصوا الرسول الذي جاء لهدايتهم لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ أى يودون لو انشقت الأرض فبلعتهم لما يرون من هول الموقف ولما يحل بهم من الخزي والفضيحة والعذاب. أو يودون لو يدفنون فيها فتسوى عليهم كما تسوى على الموتى ويبقون على
154
هذه الحال في باطنها بدون بعث أو نشور، حتى لا يصيبهم ما أعد لهم من عقاب بسبب سوء أعمالهم.
والمقصود أنهم لشدة خوفهم وفزعهم يتمنون أن لو أخفتهم الأرض في باطنها بحيث لا يظهر شيء منهم عليها في أى وقت من الأوقات.
وجملة لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ مفعول يَوَدُّ على أن لو مصدرية. أى: يودون أن يدفنوا وتسوى الأرض متلبسة بهم حتى لكأنهم جزء منها.
وقوله وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً معطوف على يَوَدُّ أى أنهم يومئذ يودون لو تسوى بهم الأرض، ويعترفون لله تعالى بجميع ما فعلوه، لأنهم لو كتموا شيئا بألسنتهم لشهدت عليهم بقية جوارحهم.
ويصح أن تكون الواو في قوله وَلا يَكْتُمُونَ للحال. أى: أنهم يومئذ يودون لو تسوى بهم الأرض والحال أنهم مع ذلك لا يكتمون عن الله- تعالى- حديثا من أحوالهم في الدنيا لأنهم لا يستطيعون هذا الكتمان.
والمقصود أنهم مع شدة هلعهم وجزعهم لن يستطيعوا أن يفلتوا من عقاب الله، ولن يستطيعوا أن يكتموا شيئا مما ارتكبوه من جرائم.
أخرج ابن جرير عن الضحاك أن نافع بن الأزرق- وكان ممن يسألون عن متشابه القرآن- أتى إلى ابن عباس فقال: يا ابن عباس: قال الله- تعالى- وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً وقوله وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ- كيف الجمع بينهما-؟ فقال له ابن عباس. إنى أحسبك قمت من عند أصحابك فقلت: ألقى على ابن عباس متشابه القرآن. فإذا رجعت إليهم فأخبرهم أن الله- تعالى- يجمع الناس يوم القيامة في بقيع واحد. فيقول المشركون: إن الله لا يقبل من أحد شيئا إلا ممن وحده. فيقولون: تعالوا نجحد فيسألهم فيقولون: والله ربنا ما كنا مشركين.
قال: فيختم على أفواههم ويستنطق جوارحهم فتشهد عليهم جوارحهم أنهم كانوا مشركين.
فعند ذلك تمنوا لو أن الأرض سويت بهم ولا يكتمون الله حديثا» «١».
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد أمرت بإخلاص العبادة لله- تعالى- وحده كما أمرت بالإحسان إلى الوالدين والأقربين، واليتامى والمساكين وإلى الجار القريب والبعيد، وإلى الصاحب والمسافر والمملوك، ونهت عن البخل والرياء وجحود الحق واتباع الشيطان.
وبينت أن الله- تعالى- لا يظلم أحدا مثقال ذرة وأنه- سبحانه- يضاعف ثواب الحسنات،
(١) تفسير ابن جرير ج ٥ ص ٩٤.
155
ويعطى المحسن من ألوان الخير ما لا يعلمه إلا هو- سبحانه- ونبهت الكافرين إلى سوء مصيرهم حتى يثوبوا إلى رشدهم ويسيروا في الطريق القويم من قبل أن يأتى يوم تنكشف فيه الحقائق وينالون فيه ما يستحقون من عقاب دون أن ينفعهم الندم أو التمني.
ثم وجه- سبحانه- بعد ذلك نداء إلى المؤمنين بين لهم فيه بعض الأحكام التي تتعلق بالصلاة وأرشدهم إلى ما يجب عليهم عند أدائها من تطهير بدني وروحي حتى يكونوا أهلا لرضا الله وحسن قبوله، فقال- تعالى-:
[سورة النساء (٤) : آية ٤٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (٤٣)
روى المفسرون في سبب نزول هذه الآية الكريمة روايات منها ما رواه أبو داود والنسائي عن على بن أبى طالب أنه كان هو وعبد الرحمن بن عوف ورجل آخر، قد شربوا الخمر. فصلى بهم عبد الرحمن فقرأ: قل يا أيها الكافرون. فخلط فيها. فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى.
وروى الترمذي وابن أبى حاتم عن على بن أبى طالب قال: صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما فدعانا وسقانا من الخمر. فأخذت الخمر منا. وحضرت الصلاة. فقدموا فلانا. قال:
فقرأ: قل يا أيها الكافرون. أعبد ما تعبدون. ونحن نعبد ما تعبدون. فأنزل الله الآية.
قال ابن كثير: وقد كان هذا النهى قبل تحريم الخمر. كما دل عليه الحديث الذي ذكرناه في سورة البقرة عند قوله- تعالى- يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ. الآية» فإن رسول الله ﷺ تلاها على عمر. فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا. فلما نزلت هذه الآية تلاها عليه فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا. فكانوا لا يشربون الخمر في أوقات الصلاة- وفي رواية لأبى داود: فكان منادى رسول الله ﷺ إذا قامت الصلاة ينادى: لا يقربن الصلاة
156
سكران- حتى نزل قوله- تعالى- في سورة المائدة: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ. إلى قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ فقال عمر: انتهينا.
انتهينا) «١».
والمراد بالصلاة عند كثير من العلماء: الهيئة المخصوصة من قراءة وقيام وركوع وسجود.
والمراد بقربها: القيام إليها والتلبس بها، إلا أنه- سبحانه- نهى عن القرب منها مبالغة في النهى عن غشيانها وهم بحالة تتنافى مع جلالها والخشوع فيها.
وقوله سُكارى جمع سكران.
وأصل السكر في اللغة السد. ومنه قولهم سكرت الطريق أى سددته. ومنه قوله- تعالى- حكاية عن الكافرين وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ. لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا أى: انسدت فصارت لا ينفذ إليها النور، ولا ندرك الأشياء على حقيقتها.
والمراد بالسكر هنا الحالة التي تحصل لشارب الخمر والتي يفقد معها وعيه، ويسد ما بين المرء وعقله.
والجنب: من أصابته الجناية بسبب جماع أو احتلام أو غيرهما. وهذا اللفظ يستوي فيه- على الصحيح- الواحد، والمثنى، والجمع، والمذكر والمؤنث لجريانه مجرى المصدر، واشتقاقه من المجانبة بمعنى المباعدة.
وعابر السبيل: مجتاز الطريق وهو المسافر. أو من يعبر الطريق من جانب إلى جانب.
يقال: عبرت هذا الطريق فأنا أعبره عبرا وعبورا. ومنه قيل: عبر فلان النهر إذا قطعه وجازه.
والمعنى: يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن تؤدوا الصلاة وأنتم في حالة السكر. حتى تكونوا بحيث تعلمون ما تقولونه قبل أدائها، ولا في حال الجنابة حتى تغتسلوا إلا أن تكونوا مسافرين ولم تجدوا ماء فتيمموا لكي تؤدوها.
ومن العلماء من يرى أن المراد بالصلاة هنا: مواضعها وهي المساجد. فالكلام مجاز مرسل بتقدير مضاف فهو من باب ذكر الحال وإرادة المحل.
والمعنى عليه: لا تقربوا مواضع الصلاة وهي المساجد وأنتم سكارى، ولا تقربوها وأنتم جنب حتى تغتسلوا إلا أن تكونوا تريدون اجتيازها من باب إلى آخر من غير مكث فيها فإنه يجوز لكم ذلك.
(١) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٥٠٠.
157
روى ابن جرير عن الليث قال: حدثنا يزيد بن أبى حبيب عن قول الله- تعالى-:
وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ أن رجالا من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد تصيبهم جنابة ولا ماء عندهم فيريدون الماء. ولا يجدون ممرا إلا في المسجد. فأنزل الله- تعالى- وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ «١».
وقال بعض العلماء: وبالجملة فالحال الأولى أعنى قوله وَأَنْتُمْ سُكارى تقوى بقاء الصلاة على معناها الحقيقي، من دون تقدير مضاف: وقوله: إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ يقوى تقدير المضاف. أى: لا تقربوا موضع الصلاة.
ويمكن أن يقال: إن بعض قيود النهى- وهو قوله: وَأَنْتُمْ سُكارى يدل على أن المراد بالصلاة معناها الحقيقي.
وبعض قيود النهى- وهو قوله: إلا عابري سبيل- يدل على أن المراد مواضع الصلاة.
ولا مانع من اعتبار كل واحد منهما مع قيده الدال عليه. ويكون ذلك بمنزلة نهيين مقيد كل واحد منهما بقيد. وهما: لا تقربوا الصلاة التي هي ذات الأذكار والأركان وأنتم سكارى.
ولا تقربوا مواضع الصلاة حال كونكم جنبا إلا حال عبوركم المسجد من جانب إلى جانب.
وغاية ما يقال في هذا إنه من باب الجمع بين الحقيقة والمجاز» «٢».
وفي ندائهم بصفة الإيمان، تحريك لحرارة العقيدة في قلوبهم، وتوجيه لنفوسهم إلى ما يستدعيه الإيمان من طاعة واستجابة لله رب العالمين.
وقوله وَأَنْتُمْ سُكارى جملة حالية. أى لا تقربوها في حال السكر، لأن ذلك يتنافى مع الإيمان السليم، ومع ما تستحقه الصلاة من خشوع واستحضار للقلب. وإنما الذي يقتضيه إيمانكم وحياؤكم من الله أن تدخلوا في الصلاة وأنتم بكامل وعيكم، واستحضاركم لما يستلزمها من خشوع وأدب.
ولا شك أن هذا كان قبل أن ينزل التحريم القاطع لشرب الخمر في جميع الأوقات كما سبق أن أشرنا.
وقوله حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ غاية للنهى وإيماء إلى علته.
وحتى هنا حرف جر بمعنى إلى، والفعل بعدها منصوب بأن مضمرة. وما في قوله ما تَقُولُونَ موصولة بمعنى الذي أو نكرة موصوفة والعائد محذوف أى تقولونه.
(١) تفسير ابن جرير ج ٥ ص ٩٩.
(٢) تفسير القاسمى ج ٥ ص ١٢٤٧ نقلا عن: فتح البيان.
158
أى: حتى تعلموا ما تقولونه علما يقينيا لا غلط معه ولا تخليط، بأن تعقلوا ما اشتملت عليه الصلاة من تكبير وقراءة وتسبيح ودعاء وغير ذلك مما تقتضيه الصلاة.
قال الآلوسى: وقد روى أنهم كانوا بعد ما أنزلت الآية لا يشربون الخمر في أوقات الصلاة، فإذا صلوا العشاء شربوها فلا يصبحون إلا وقد ذهب عنهم السكر وعلموا ما يقولون» «١».
وقوله وَلا جُنُباً معطوف على قوله وَأَنْتُمْ سُكارى إذ الجملة في موضع النصب على الحال. والاستثناء في قوله إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ مفرغ من أعم الأحوال.
وقوله حَتَّى تَغْتَسِلُوا بيان لغاية المنع بالنسبة للجنب.
والاغتسال: تعميم الجسد كله بالماء. وهو بعد الجنابة طهارة حسية وتنشيط للبدن بعد أن أصابه بعض التعب بسبب الأفعال التي أدت إلى الجنابة. وهو كذلك طهارة نفسية، لأنه يبعث في الإنسان حسن الاستعداد لذكر الله ولأداء الصلاة بعد أن استحكمت الشهوة وسيطرت على صاحبها لفترة من الوقت. فبالاغتسال بعد قضاء الشهوة يتجدد للبدن نشاطه، وللروح صفاؤها وحسن استعدادها لطاعة الله.
ثم شرع- سبحانه- في بيان الأعذار التي تبيح التيمم عند العجز عن الماء فقال: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى، أَوْ عَلى سَفَرٍ، أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ، فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً والمراد بالمرض في قوله- تعالى-: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى: المرض الذي يمنع من استعمال الماء مطلقا، كأن يكون استعمال الماء يزيد المرض شدة، أو يبطئ البرء، فإن الله- تعالى- قد أباح للمريض في هذه الأحوال وأمثالها أن يتيمم بدل الوضوء أو الغسل. كما أباح له- أيضا- أن يتيمم عند فقد الماء أو ما في حكم ذلك.
وقوله: أَوْ عَلى سَفَرٍ في محل نصب عطفا على خبر كان وهو قوله: مَرْضى.
أى: وكذلك أباح الله لكم التيمم عند السفر إذا لم تجدوا ماء، أو كان معكم من الماء ما أنتم في حاجة شديدة إليه، أو كان هناك ما يمنع من استعمال الماء.
وقوله أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ معطوف على قوله: كُنْتُمْ.
والغائط من الغيط. وهو المكان المنخفض من الأرض. وهو هنا كناية عن الحدث لأن العادة جرت على أن من يريد الحدث يذهب إلى ذلك المكان المنخفض ليتوارى عن أعين الناس.
(١) تفسير الآلوسى ج ٥ ص ٣٩
159
وفي إسناد المجيء إلى واحد مبهم من المخاطبين، سمو في الخطاب، حيث تحاشى- سبحانه- التصريح بنسبتهم إلى ما يستحيا من ذكره أو ما يستهجن التصريح به.
أى وكذلك أباح الله لكم التيمم إن كنتم محدثين ولم تجدوا ماء تتطهرون به من الحدث.
أو تجدونه ولكن هناك ما يمنعكم من استعماله.
والمراد بالملامسة في قوله أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ الجماع عند بعض الفقهاء قال الآلوسى ما ملخصه: قوله- تعالى- أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ يريد- سبحانه-: أو جامعتم النساء.
إلا أنه كنى بالملامسة عن الجماع، لأنه مما يستهجن التصريح به أو يستحيى منه. وإليه ذهب ابن عباس والحسن وغيرهما.
وعن ابن مسعود أن المراد بالملامسة ما دون الجماع. أى ماسستم بشرتهن ببشرتكم. وبه استدل الشافعى على أن اللمس ينقض الوضوء.
وقال مالك: إن كان اللمس بشهوة نقض وإلا فلا....
وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا ينتقض الوضوء بالمس ولو بشهوة... » «١» والفاء في قوله فَلَمْ تَجِدُوا ماءً عطفت ما بعدها على الشرط السابق وهو قوله وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى. والضمير في قوله تَجِدُوا يعود لكل من تقدم من مريض ومسافر ومتغوط وملامس. وفيه تغليب للخطاب على الغيبة. وذلك أنه تقدم ضمير الغيبة في قوله أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ بينما تقدم ضمير المخاطب في قوله كُنْتُمْ أَوْ لامَسْتُمُ.
والمراد بعدم الوجدان هنا ما هو أعم من الوجود الحسى. أى أن قوله فَلَمْ تَجِدُوا ماءً كناية عن عدم التمكن من استعماله وإن وجد حسا، إذ أن الشيء المتعذر استعماله كالمعدوم.
وقوله فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً جواب الشرط وهو قوله: وَإِنْ كُنْتُمْ.
والمعنى: وإن كنتم أيها المؤمنون في حالة مرض أو على سفر أو كنتم محدثين أو لامستم النساء فلم تجدوا في تلك الأحوال ما تستعملونه لطهارتكم، أو وجدتم ماء ولكن منعكم مانع من استعماله، فعليكم أن تتيمموا صعيدا طيبا، بدلا من الماء، فان الله- تعالى- ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ.
ومنهم من يرى أن الضمير في قوله: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً يعود إلى الجمع ما عدا المرضى، لأن المرضى يباح لهم التيمم مع وجود الماء إذا تضرروا من استعماله.
وعلى هذا الرأى يكون المراد بعدم الوجدان. عدم الوجدان الحسى.
(١) تفسير الآلوسى ج ٥ ص ٤٢
160
والتيمم لغة: القصد. يقال تيممت الشيء أى قصدته.
ويطلق في الشرع على القصد إلى التراب لمسح الوجه واليدين به.
وأما الصعيد- بوزن فعيل- فيطلق على وجه الأرض البارز، ترابا كان أو غيره. وقيل يطلق على التراب خاصة.
والطيب: الطاهر الذي لم تلوثه نجاسة ولا قذر.
أى: إذا لم تجدوا ماء للتطهر به أو وجدتموه ولكنكم عجزتم عن استعماله فاقصدوا ترابا طاهرا بارزا على وجه الأرض لكي تستعملوه في طهارتكم عوضا عن الماء.
وقوله فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ بيان لكيفية التيمم.
أى: اقصدوا ترابا على ظاهر الأرض طاهرا فامسحوا منه بوجوهكم وأيديكم.
وقوله إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً تذييل قصد به بيان أنه- سبحانه- متصف بالعفو فلا يختار لعباده إلا السهل اليسير الذي يسهل عليهم أداؤه من غير مشقة مرهقة، وأنه هو الغفار الذي يغفر للمقصرين والمخطئين ذنوبهم متى تابوا إليه واستغفروه مما صدر عنهم من ذنوب.
هذا ومن الأحكام والآداب التي أخذها العلماء من هذه الآية ما يأتى:
١- أن من الواجب على المسلم عند ما يتهيأ للصلاة أن يتجنب كل ما يتعارض مع الخشوع فيها، لأن الصلاة مناجاة ووقوف بين يدي الله- تعالى-، ومن شأن المناجى لله- تعالى- أن يتفرغ لذلك، وأن يكون على درجة من العلم والفهم تمكنه من الوقوف الخاشع بين يدي الله رب العالمين.
٢- أن الصلاة محرمة على السكران حال سكره حتى يصحو. فإذا أداها حال سكره تكون باطلة، وكذلك الحكم بالنسبة للمحدث أو الجنب حتى يتطهر.
٣- استدل بهذه الآية- من قال بأن المراد بالصلاة مواضعها- على أنه يحرم على السكران دخول المسجد، لما يتوقع منه من التلويث وفحش القول، ويقاس عليه كل ذي نجاسة يخشى معها التلويث والسباب ونحوه.
٤- استدلوا بقوله- تعالى-: حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ على أن المسلم منهى عن الصلاة حال النعاس أو ما يشبهه، لأنه في هذه الحالة لا يعلم ما يقول ويؤيد ذلك ما رواه البخاري عن عائشة أن رسول الله ﷺ قال: (إذا نعس أحدكم وهو يصلى فليرقد حتى يذهب عنه النوم. فان أحدكم إذا صلى وهو ناعس لا يدرى لعله يستغفر فيسب نفسه).
161
وروى البخاري عن أنس عن النبي ﷺ قال: (إذا نعس أحدكم في الصلاة فلينم حتى يعلم ما يقرأ).
قال الفخر الرازي ما ملخصه: ويرى الضحاك أنه ليس المراد من لفظ سُكارى السكر من الخمر، وإنما المراد منه سكر النوم. لأن لفظ السكر يستعمل في النوم فكان هذا اللفظ محتملا له....
ثم قال الرازي: واعلم أن القول الصحيح هو قول الجمهور من الصحابة والتابعين وهو أن المراد من لفظ سُكارى السكر من الخمر، لأن لفظ السكر حقيقة في السكر من شرب الخمر، والأصل في الكلام الحقيقة... ، ولأن جميع المفسرين قد اتفقوا على أن هذه الآية إنما نزلت في شرب الخمر... ) «١»
٥- استدلوا بقوله- تعالى- وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا على أنه يحرم على الجنب المكث في المسجد، إلا أنه يجوز له المرور فيه.
قال ابن كثير ما ملخصه: قال ابن عباس في قوله وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ: لا تدخلوا المسجد وأنتم جنب إلا عابري سبيل. أى: تمر به مرا ولا تجلس.
وروى ابن جرير عن يزيد بن أبى حبيب في قوله- تعالى- وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ أن رجالا من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد فكانت تصيبهم الجنابة ولا ماء عندهم فيريدون الماء ولا يجدون مرورا إلا في المسجد. فأنزل الله- تعالى- وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ ويشهد لصحة ذلك ما ثبت في صحيح البخاري أن رسول الله ﷺ قال: (سدوا كل خوخة في المسجد إلا خوخة أبى بكر... )
وبهذه الآية احتج كثير من الأئمة على أنه يحرم على الجنب المكث في المسجد، ويجوز له المرور، وكذا الحائض والنفساء أيضا متى أمنت كل واحدة منهما التلويث في حال المرور...
ثم قال ابن كثير: وقوله حَتَّى تَغْتَسِلُوا دليل لما ذهب إليه الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة ومالك والشافعى من أنه يحرم على الجنب المكث في المسجد حتى يغتسل أو يتيمم إن عدم الماء أو لم يقدر على استعماله. وذهب الإمام أحمد إلى أنه متى توضأ الجنب جاز له المكث في المسجد، لما روى من أن صحابة كانوا يفعلون ذلك. وعن عطاء بن يسار قال: رأيت رجالا من أصحاب رسول الله ﷺ يجلسون في المسجد وهم مجنون إذا توضأوا وضوء الصلاة. وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم) «٢».
(١) تفسير الفخر الرازي ج ١ ص ١٠٩- بتصرف وتلخيص.
(٢) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٥٠٣
162
٦- ظاهر قوله- تعالى- فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا يفيد أن التيمم لا يصح مع وجود الماء، لأن الآية الكريمة قد رتبت الأمر بالتيمم على نفى وجود الماء.
ولكن هذا الظاهر غير مراد، لأنه يقتضى أنه حتى لو وجدنا ماء، وكنا في حاجة شديدة إليه، أو لا نقدر على استعماله فإنه لا يجوز لنا أن نتيمم، وهذا يتعارض مع سماحه الشريعة الإسلامية ويسرها، قال- تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وقال- تعالى-: ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ.
ويتعارض كذلك مع ما شرع من أجله التيمم وهو التيسير على الناس، والتيسير على الناس لا يتأتى بإلزامهم أن يفقدوا ما معهم من الماء في الطهارة ليقعوا في العنت بسبب العطش أو الجوع. أو بإلزامهم استعمال الماء في طهارتهم مع أن في استعماله مضرة بهم.
لذا قال العلماء: إن التيمم مشروع للمسلم عند فقده للماء، أو عند وجود الماء ولكن هناك عارض يمنعه من استعماله كمرض أو نحوه.
ولقد ورد في السنة النبوية الشريفة ما يشهد بأنه يجوز للمسلم أن يتيمم مع وجود الماء متى كان هناك ما يمنع من استعماله.
ومن ذلك ما أخرجه أبو داود والدارقطني عن جابر قال: خرجنا في سفر. فأصاب رجلا منا حجر فشجه في رأسه. ثم احتلم فسأل أصحابه فقال هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا:
ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء. فاغتسل فمات. فلما قدمنا على النبي ﷺ أخبر بذلك فقال: قتلوه، قتلهم الله، هلا سألوا إذا لم يعلموا؟ فإنما شفاء العي السؤال. إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على جرحه ثم يمسح عليه ويغسل سائر جسده».
وروى أبو داود والدارقطني عن عمرو بن العاص قال: احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك. فتيممت. ثم صليت بأصحابى الصبح. فذكروا ذلك للنبي ﷺ فقال: «يا عمرو صليت بأصحابى وأنت جنب» ؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت: إنى سمعت الله يقول: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً فضحك رسول الله ﷺ ولم يقل شيئا».
قال القرطبي- بعد أن ساق هذا الحديث والذي قبله-: فدل هذا الحديث على إباحة التيمم مع الخوف من المرض- عند استعمال الماء-: وفيه إطلاق اسم الجنب على المتيمم، وجواز صلاة المتيمم بالمتوضئين. وهذا أحد القولين عندنا. وهو الصحيح الذي أقره مالك في موطئه وقرئ عليه إلى أن مات «١».
(١) تفسير القرطبي ج ٥ ص ٢١٧
163
وقال ابن كثير: وقد استنبط كثير من الفقهاء من الآية أنه لا يجوز التيمم لعدم الماء إلا بعد طلب الماء. فمتى طلبه فلم يجده جاز له حينئذ التيمم. وقد ذكروا كيفية الطلب في كتب الفروع... » «١».
٧- أخذ الشافعية والحنابلة من قوله- تعالى- فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً: أن التيمم لا يجوز إلا بالتراب الطاهر لأنه هو المقصود بالصعيد الطيب» ولأنه ثبت في صحيح مسلم عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله ﷺ فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة. وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا. وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء» قالوا:
فخصص الطهور بالتراب في مقام الامتنان. فلو كان غيره يقوم مقامه لذكره معه.
ويرى الإمام أبو حنيفة أن التيمم يجوز بالتراب وبالحجر وبما ماثله من كل ما كان من جنس الأرض متى كان طاهرا. قالوا: لأن الظاهر من لفظ الصعيد وجه الأرض وهذه الصفة لا تختص بالتراب.
وتوسع الإمام مالك فذهب إلى أن التيمم يجوز بكل ما سبق وبغيره كالشجر والحجر والنبات لأن الصعيد عنده كل ما صعد على وجه الأرض.
قال القرطبي عند حديثه عن اختلاف الفقهاء في ذلك: وإذا تقرر هذا فاعلم أن مكان الإجماع فيما ذكرناه أن يتيمم الرجل على تراب منبت طاهر غير منقول ولا منصوب. ومكان الإجماع في المنع أن يتيمم الرجل على الذهب الصرف والفضة والياقوت والأطعمة كالخبز واللحم وغيرهما، أو على النجاسات. واختلف في غير هذا كالمعادن، فأجيز وهو مذهب مالك وغيره. ومنع وهو مذهب الشافعى وغيره....» «٢».
٨- أفاد قوله- تعالى- فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ أن الواجب في التيمم هو مسح الوجه واليدين فقط سواء أكان التيمم بدلا عن الوضوء أم عن الغسل.
قال القرطبي: وروى التيمم إلى المرفقين عن النبي ﷺ جابر بن عبد الله، وابن عمر وبه كان يقول: قال الدارقطني: سئل قتادة عن التيمم في السفر فقال: كان ابن عمر يقول: إلى المرفقين. وكان الحسن وإبراهيم النخعي يقولان: إلى المرفقين.
ثم قال: وقالت طائفة يبلغ به إلى الكوعين وهما الرسغان. روى ذلك عن على بن أبى طالب والأوزاعى وعطاء والشعبي في رواية. وبه قال أحمد ابن حنبل، والطبري.
(١) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٥٠٤
(٢) تفسير القرطبي ج ٥ ص ٢٣٧.
164
وقال مكحول: اجتمعت أنا والزهري فتذاكرنا التيمم فقال الزهري: المسح إلى الآباط.
وقال ابن أبى الجهم: التيمم بضربة واحدة، وبه قال أحمد بن حنبل وإسحاق وداود والطبري «١».
٩- ذكر المفسرون في سبب مشروعية التيمم روايات منها ما أخرجه البخاري عن عائشة- رضى الله عنها- قالت: خرجنا مع رسول الله ﷺ في بعض أسفاره: حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي. فأقام رسول الله ﷺ على التماسه وأقام الناس معه. وليسوا على ماء. وليس معهم ماء. فأتى الناس إلى أبى بكر الصديق فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة؟
أقامت برسول الله ﷺ وبالناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء. فجاء أبو بكر ورسول الله ﷺ واضع رأسه على فخذي قد نام. فقال: حبست رسول الله ﷺ والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء. قالت عائشة: فعاتبنى أبو بكر وقال ما شاء الله أن يقول. فجعل يطعننى بيده في خاصرتي فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله ﷺ على فخذي. فقام رسول الله ﷺ حتى أصبح على غير ماء. فأنزل الله آية التيمم. فتيمموا. فقال أسيد بن الحضير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبى بكر.
قالت: فبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته».
قال الحافظ ابن كثير عند ذكره هنا لسبب مشروعية التيمم، وإنما ذكرنا ذلك هاهنا، لأن هذه الآية التي في النساء متقدمة في النزول على آية سورة المائدة وبيانه: أن هذه نزلت قبل تحريم الخمر. والخمر إنما حرم بعد أحد بيسير، في محاصرة النبي ﷺ لبنى النضير. وأما المائدة فإنها من آخر ما نزل ولا سيما صدرها. فناسب أن يذكر السبب هنا «٢»..
١٠- تكلم بعض العلماء عن حكمة مشروعية التيمم عوضا عن الطهارة بالماء فقال:
والتيمم من خصائص شريعة الإسلام كما في حديث جابر أن النبي ﷺ قال: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي- فذكر منها- وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا».
والتيمم بدل جعله الشرع عن الطهارة. ولم أر لأحد من العلماء بيانا في حكمة جعل التيمم عوضا عن الطهارة بالماء، وكان ذلك من همي زمنا طويلا وقت الطلب. ثم انفتح لي حكمة ذلك.
وأحسب أن حكمة تشريعه تقرير لزوم الطهارة في نفوس المؤمنين. وتقرير حرمة الصلاة
(١) تفسير القرطبي ج ٥ ص ٢٤٠ [.....]
(٢) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٥٠٦.
165
وترفيع شأنها في نفوسهم. فلم تترك لهم حالة يعدون فيها أنفسهم مصلين بدون طهارة تعظيما لمناجاة الله- تعالى- فلذلك شرع لهم عملا يشبه الإيماء إلى الطهارة ليستشعروا أنفسهم متطهرين، وجعل ذلك بمباشرة اليدين صعيد الأرض التي هي منبع الماء. ولأن التراب مستعمل في تطهير الآنية ونحوها، ينظفون به ما علق لهم من الأقذار في ثيابهم وأبدانهم وما عونهم. وما الاستجمار إلا من ضرب ذلك، مع ما في ذلك من تجديد طلب الماء لفاقده وتذكيره بأنه مطالب به عند زوال مانعه. وإذ قد كان التيمم طهارة رمزية اكتفت الشريعة فيه بالوجه والكفين في الطهارتين الصغرى والكبرى كما دل عليه حديث عمار بن ياسر فقد ثبت في الصحيح عن عمار بن ياسر قال: كنت في سفر فأجنبت فتمعكت في التراب «أى تمرغت» وصليت. فأتيت النبي ﷺ فذكرت ذلك له فقال: «يكفيك الوجه والكفان». ويؤيد هذا المقصد أن المسلمين لما عدموا الماء في غزوة المريسيع صلوا بدون وضوء فنزلت آية التيمم.
هذا منتهى ما عرض لي من حكمة مشروعية التيمم بعد طول البحث والتأمل في حكمة مقنعة في النظر «١».
وبعد، فهذه بعض الأحكام والآداب التي اشتملت عليها تلك الآية، ومنها نرى كيف وجهت المؤمنين إلى ما يقوى إيمانهم، ويصفى نفوسهم، ويبعدهم عن الأسباب التي تحول بينهم وبين إخلاص المناجاة لله رب العالمين، وإلى ما يجعلهم يتحرزون عن كل ما يدنسهم أو يلهيهم عن طاعة الله.
كما ترى كيف استعملت في خطابها للمؤمنين ألطف الكنايات وأسمى التعبيرات، وأبلغ الإشارات، وفي ذلك ما فيه من تربية سليمة للمؤمنين تجعلهم يسعدون في دنياهم وآخرتهم.
هذا، وأنت إذا تدبرت السورة الكريمة من مطلعها إلى هنا، تراها قد نظمت العلاقات بين أفراد المجتمع الإسلامى تنظيما حكيما، وساقت لهم من التوجيهات السامية، والآداب العالية، والتشريعات الجليلة... ما يجعلهم يعيشون في أمان واطمئنان.
ثم أخذت السورة بعد ذلك تسوق لنا في أكثر من عشر آيات، ألوانا من رذائل أهل الكتاب، ومن مسالكهم الخبيثة لكيد الدعوة الإسلامية، ومن حسدهم للنبي ﷺ على ما آتاه الله من فضله، وتوعدتهم بسوء المصير على ما اقترفوه من منكرات وآثام...
وكأن السورة الكريمة بعد أن نظمت المجتمع الإسلامى هذا التنظيم الداخلى السليم،
(١) تفسير التحرير والتنوير ج ص ٦٨. طبع الدار التونسية للنشر. تأليف الأستاذ الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور.
166
أخذت في تحذير المؤمنين من عدوهم الخارجي، وأطلعتهم على ما يضمره لهم أهل الكتاب من كراهية وبغضاء.
استمع إلى السورة الكريمة وهي تحكى كل ذلك فتقول:
[سورة النساء (٤) : الآيات ٤٤ الى ٥٥]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (٤٤) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً (٤٥) مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (٤٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (٤٧) إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (٤٨)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٤٩) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (٥٠) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (٥١) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (٥٢) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (٥٣)
أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (٥٤) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (٥٥)
167
قال الآلوسى: قوله- تعالى- أَلَمْ تَرَ هذه الكلمة قد تذكر لمن تقدم علمه فتكون للتعجب والتقدير والتذكير لمن علم بما يأتى كالأحبار وأهل التواريخ، وقد تذكر لمن لا يكون كذلك فتكون لتعريفه وتعجيبه. وقد اشتهرت في ذلك حتى أجريت مجرى المثل في هذا الياب.
بأن شبه حال من لم ير الشيء بحال من رآه في أنه لا ينبغي أن يخفى عليه وأنه ينبغي أن يتعجب منه ثم أجرى الكلام معه كما يجرى مع من رأى قصدا إلى المبالغة في شهرته وعراقته في التعجب- والرؤية إما بمعنى الإبصار- أى ألم تنظر إليهم، وإما بمعنى الإدراك القلبي متضمنا معنى الوصول والانتهاء- أى ألم ينته علمك إليهم» «١».
والمراد ب الَّذِينَ أحبار اليهود. والمراد بالذي أوتوه ما بين لهم في الكتاب من العلوم والأحكام التي من جملتها ما علموه من نعوت النبي ﷺ ومن حقية دين الإسلام بالاتباع.
والمراد بالكتاب: التوراة التي أنزلها الله- تعالى- على موسى عليه السلام- ليكون هداية لبنى إسرائيل، فحرفوها وتركوا العمل بها.
والمراد بالسبيل: الطريق المستقيم وهو طريق الإسلام فال فيه للعهد.
والمعنى: ألم ينته علمك إلى حال هؤلاء الأحبار من اليهود الذين أعطوا حظا ومقدارا من علم التوراة؟ إن كنت لم تعلم أحوالهم أو لم تنظر إليهم فهاك خبرهم وتلك هي حقيقتهم، إنهم
(١) تفسير الآلوسى ج ٥ ص ٤٥- بتصرف يسير.
168
يشترون الضلالة وهو البقاء على اليهودية بعد وضوح الآيات لهم الدالة على صحة دين الإسلام، وهم لا يكتفون بتلبسهم بالضلال الذي أشربته نفوسهم، بل يريدون لكم يا معشر المسلمين أن تتركوا دين الإسلام الذي هو السبيل الحق، وأن تتبعوهم في ضلالهم وكفرهم.
فالمقصود من الآية الكريمة تعجيب المؤمنين من سوء أحوال أولئك الأحبار، وتحذير لهم من موالاتهم أو من الاستماع إلى أكاذيبهم وشبهاتهم.
والخطاب لكل من يصلح له من المؤمنين. وتوجيهه إلى النبي ﷺ هنا مع توجيهه بعد ذلك إلى الكل- في قوله أَنْ تَضِلُّوا- للإيذان بكمال شهرة شناعة حال أولئك اليهود، وأنها بلغت من الظهور إلى حيث يتعجب منها كل من يراها أو يعلمها.
وقد وصفهم- سبحانه- بأنهم أوتوا نصيبا من الكتاب، ولم يؤتوا الكتاب كله، لأنهم نسوا حظا كبيرا مما ذكروا به، ولم يبق عندهم من علم الكتاب إلا القليل، وهذا القليل لم يعملوا به بل حرفوه وبدلوه وأخضعوا تفسيره لأهوائهم وشهواتهم.
وقوله يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ هو موطن التعجب من شأنهم لأنهم لا يطلبون الضلالة بفتور أو تريث وإنما يطلبونها بشراهة ونهم ويدفعون فيها أغلى الأثمان وهو الهدى، ولا يكتفون بذلك بل يبتغون من المؤمنين أن يكونوا مثلهم في الضلال.
وقريب من معنى هذه الآية قوله تعالى- وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً.
وذكر سبحانه- الشيء الذي اشتروه وهو الضلالة، وطوى ذكر المتروك وهو الهدى، للإيذان بغاية ظهوره. وللإشعار بأنهم قوم يطلبون الضلالة في ذاتها. وأن البعد عن الحق والهدى مطلب من مطالبهم يدفعون فيه الثمن عن رغبة، وذلك لأنهم قوم مردوا على الضلالة فغدوا لا يستمرئون سواها، ولا يركنون إلا إليها. وإن قوما هذا شأنهم لجديرون بالابتعاد عنهم، والتحقير من أمرهم. لأنك- كما يقول الفخر الرازي- لا ترى حالة أسوأ ولا أقبح ممن جمع بين هذين الأمرين: أعنى الضلال والإضلال.
قال الآلوسى: وقوله: يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ.. إلخ استئناف مبين لمناط التشنيع ومدار التعجب المفهومين من صدر الكلام، مبنى على سؤال نشأ منه كأنه قيل:
ماذا يصنعون حتى ينظر إليهم؟ فقيل يختارون الضلالة على الهدى أو يستبدلونها بعد تمكنهم منه وذهب أبو البقاء إلى أن جملة يَشْتَرُونَ حالة مقدرة من ضمير أُوتُوا أو حال من الَّذِينَ
«١».
وقوله وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ جملة معترضة للتأكيد والتحذير.
(١) تفسير الآلوسى ج ٥ ص ٤٥.
169
أى: والله- تعالى- أعلم بأعدائكم منكم- أيها المؤمنون- وقد أخبركم بأحوالهم وبما يبيتون لكم من شرور فاحذروهم ولا تلتفتوا إلى أقوالهم وأعدوا العدة لتأديبهم دفاعا عن دينكم وعقيدتكم.
وقوله وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً تذييل قصد به غرس الطمأنينة في نفوس المؤمنين بأن العاقبة لهم.
أى: وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا يتولى أموركم، ويصلح بالكم، وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً يدفع عنكم مكرهم وشرورهم وما دام الأمر كذلك فاكتفوا بولايته ونصرته. واعتصموا بحبله، وأطيعوا أمره، ولا تكونوا في ضيق من مكر أعدائكم فإن الله ناصركم عليهم بفضله وإحسانه.
وقوله وَكَفى فعل ماض. ولفظ الجلالة فاعل والباء مزيدة فيه لتأكيد الكفاية. ووليا ونصيرا منصوبان على التمييز. وقيل على الحال.
وكرر- سبحانه- الفعل كفى لإلقاء الطمأنينة في قلوب المؤمنين، لأن التكرار في مثل هذا المقام يكون أكثر تأثيرا في القلب، وأشد مبالغة فيما سيق الكلام من أجله.
فكأنه- سبحانه- يقول لهم: اكتفوا بولاية الله ونصرته، وكفاكم الله الولاية والنصرة والمعونة. ومن كان الله كافيه نصره على عدوه فاطمئنوا ولا تخافوا.
ثم ذكر- سبحانه- ألوانا من الأقوال والأعمال القبيحة التي كان اليهود يقولونها ويفعلونها للإساءة إلى النبي ﷺ وإلى المسلمين فقال: مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ.
وتحريف الشيء إمالته وتغييره. ومنه قولهم: طاعون يحرف القلوب، أى يميلها ويجعلها على حرف، أى جانب وطرف. وأصله من الحرف يقال: حرف الشيء عن وجهه، صرفه عنه.
والجملة الكريمة بيان للموصول وهو قوله- تعالى- الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ.
ويجوز أن يكون قوله مِنَ الَّذِينَ هادُوا خبر لمبتدأ محذوف. وقوله يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ صفة له.
أى من الذين هادوا قوم أو فريق من صفاتهم أنهم يحرفون الكلم عن مواضعه أى يميلونه عن مواضعه، ويجعلون مكانه غيره، ويفسرونه تفسيرا سقيما بعيدا عن الحق والصواب.
قال الفخر الرازي: في كيفية التحريف وجوه:
أحدها: أنهم كانوا يبدلون اللفظ بلفظ آخر. مثل تحريفهم اسم «ربعة» عن موضعه في التوراة بوضعهم «آدم طويل»، وكتحريفهم الرجم بوضعهم الجلد بدله.
الثاني: أن المراد بالتحريف إلقاء الشبه الباطلة، والتأويلات الفاسدة، وصرف اللفظ من
170
معناه الحق إلى معنى باطل بوجوه من الحيل اللفظية، كما يفعله أهل البدعة في زماننا هذا بالآيات المخالفة لمذاهبهم. وهذا هو الأصح.
الثالث: أنهم كانوا يدخلون على النبي ﷺ ويسألونه عن أمر فيخبرهم ليأخذوا به فإذا خرجوا من عنده حرفوا كلامه» «١».
والذي نراه أولى أن تحريف هؤلاء اليهود للكلم عن مواضعه يتناول كل ذلك، لأنهم لم يتركوا وسيلة من وسائل التحريف الباطل إلا فعلوها، أملا منهم في صرف الناس عن الدعوة الإسلامية، ولكن الله- تعالى- خيب آمالهم.
قال الزمخشري: فإن قلت: كيف قيل هاهنا عَنْ مَواضِعِهِ وفي المائدة مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ؟ قلت: «أما عن مواضعه» فعلى ما فسرنا من إزالته عن مواضعه التي أوجبت حكمة وضعه فيها، بما اقتضت شهواتهم من إبدال غيره مكانه.
وأما مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ فالمعنى أنه كانت له مواضع قمن بأن يكون فيها. فحين حرفوه تركوه كالغريب الذي لا موضع له بعد مواضعه ومقاره. والمعنيان متقاربان» «٢».
ثم حكى- سبحانه- لونا ثانيا من ضلالتهم فقال: وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا أى.
ويقولون للنبي ﷺ إذا ما أمرهم بشيء: سمعنا قولك وعصينا أمرك فنحن مع فهمنا لما تقول لا نطيعك لأننا متمسكون باليهودية.
ثم حكى- سبحانه- لونا ثالثا من مكرهم فقال: وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وهذه الجملة معطوفة على ما قبلها وداخلة تحت القول السابق.
أى: ويقولون ذلك في أثناء مخاطبتهم للنبي ﷺ وهو كلام ذو وجهين وجه محتمل للشر. بأن يحمل على معنى «اسمع» حال كونك غير مسمع كلاما ترضاه. ووجه محتمل للخير. بأن يحمل على معنى اسمع منا غير مسمع كلاما تكرهه.
فأنت تراهم- لعنهم الله- أنهم كانوا يخاطبون النبي ﷺ بهذا الكلام المحتمل للشر والخير موهمين غيرهم أنهم يريدون الخير، مع أنهم لا يريدون إلا الشر، بسبب ما طفحت به نفوسهم من حسد للنبي ﷺ وللمسلمين.
ثم حكى- سبحانه- لونا رابعا من خبثهم فقال: وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وهو كلام معطوف على ما قبله وداخل تحت القول السابق.
(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٠ ص ١١٨ طبعة عبد الرحمن محمد
(٢) تفسير الكشاف ج ١ ص ٥١٧
171
وكلمة راعِنا كلمة ذات وجهين- أيضا- فهي محتملة للخير بحملها على معنى ارقبنا وأمهلنا أو انتظرنا نكلمك. ومحتملة للشر بحملها على شبه كلمة عبرانية كانوا يتسابون بها. أو على السب بالرعونة أى الحمق.
قال الراغب: قوله: - تعالى- وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ كان ذلك قولا يقولونه للنبي ﷺ على سبيل التهكم يقصدون به رميه بالرعونة، ويوهمون أنهم يقولون: راعنا أى: أحفظنا. من قولهم: رعن الرجل يرعن رعنا فهو رعن» «١» أى أحمق.
وأصل كلمة لَيًّا لويا لأنه من لويت، فأدغمت الواو في الياء لسبقها بالسكون. واللى:
الانحراف والالتفات والانعطاف.
والمراد أنهم كانوا يلوون ألسنتهم بالكلمة أو بالكلام ليكون اللفظ في السمع مشبها لفظا آخر هم يريدونه لأنه يدل على معنى ذميم.
أى أنهم كانوا يقولون للنبي ﷺ على سبيل التهكم والاستهزاء راعِنا ويقصدون بهذا القول الإساءة إليه ﷺ وينطقون بهذه الكلمة وما يشابهها نطقا ملتويا منحرفا ليصرفوها عن جانب احتمالها للخير إلى جانب احتمالها للشر. ولذا فقد نهى الله- تعالى- المؤمنين عن مخاطبة الرسول ﷺ بمثل هذه الألفاظ.
قال ابن كثير: عند تفسيره لقوله- تعالى- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا: نهى الله عباده المؤمنين عن أن يتشبهوا بالكافرين في مقالهم وفعالهم. وذلك أن اليهود كانوا يعلنون من الكلام ما فيه تورية لما يقصدونه من التنقيص- عليهم لعائن الله-: فإذا أرادوا أن يقولوا اسمع لنا: يقولون راعنا، ويورون بالرعونه: وكذلك جاءت الأحاديث بالإخبار عنهم بأنهم كانوا إذا سلموا إنما يقولون. السام عليكم. والسام هو الموت. ولهذا أمرنا أن نرد عليهم بوعليكم. وإنما يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم فينا. والغرض أن الله- تعالى- نهى المؤمنين عن مشابهة الكافرين قولا وفعلا» «٢».
وقوله وَطَعْناً فِي الدِّينِ أى يقولون ذلك من أجل القدح في الدين والاستهزاء بتعاليمه، وبنبيه صلى الله عليه وسلم.
ثم بين- سبحانه- ما كان بحب عليهم أن يقولوه لو كانوا يعقلون فقال: تعالى- وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ
(١) المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني ص ١٩٨
(٢) تفسير ابن كثير ج ١ ص ١٤٨.
172
أى: ولو أنهم قالوا عند سماعهم لما يدعوهم إليه الرسول ﷺ من حق وخير، سَمِعْنا قولك سماع قبول واستجابة، وأطعنا أمرك بدل قولهم سمعنا وعصينا.
ولو أنهم قالوا عند مخاطبتهم له ﷺ وَاسْمَعْ إجابتنا لدعوة الحق وَانْظُرْنا حتى نفهم عنك ما تريده منا بدل قولهم وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ لو أنهم فعلوا ذلك لكان قولهم هذا خيرا لهم وأعدل من أقوالهم السابقة الباطلة التي حكاها القرآن عنهم.
ولكنهم لسوء طباعهم لم يفعلوا ذلك فحقت عليهم اللعنة في الدنيا والآخرة وقد صرح القرآن بذلك فقال: وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا. أى: ولكنهم لم يقولوا ما هو خير لهم وأقوم بل قالوا ما هو شر وباطل، فاستحقوا اللعنة من الله بسبب كفرهم وسوء أفعالهم:
ولفظ قَلِيلًا في قوله فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا منصوب على الاستثناء من قوله لَعَنَهُمُ أى: ولكن لعنهم الله إلا فريقا منهم آمنوا فلم يلعنوا: أو منصوب على الوصفية لمصدر محذوف أى: ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا إيمانا قليلا أى ضعيفا ركيكا لا يعبأ به، ولا يغنى عنهم من عذاب الله شيئا لأنه إيمان غير صحيح بسبب تفريقهم بين رسل الله في التصديق والطاعة.
قال- تعالى- إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ، وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا. أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً.
ثم وجه- سبحانه- نداء إلى اليهود أمرهم فيه باتباع طريق الحق، وأنذرهم بسوء المصير إذا لم يستمعوا إلى هذا النداء فقال- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها، أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا.
أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: كلم رسول الله ﷺ رؤساء من أحبار يهود. منهم عبد الله بن صوريا، وكعب بن أسد فقال لهم: يا معشر يهود: اتقوا الله وأسلموا. فو الله انكم لتعلمون أن الذي جئتكم به الحق. فقالوا: ما نعرف ذلك يا محمد، وجحدوا ما عرفوا وأصروا على الكفر. فأنزل الله فيهم: يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ.
الآية «١».
(١) تفسير ابن جرير ج ٥ ص ١٢٤.
173
وفي ندائهم بقولهم يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا تحريض لهم على الإيمان، لأن اعطاءهم علم الكتاب من شأنه أن يحملهم على المسارعة إلى تلبية دعوة النبي ﷺ وألا تأخذهم العصبية الدينية كما أخذت أهل مكة العصبية الجاهلية، ولأن هذا الإيمان الذي يدعون إليه هو التصديق بما أنزله الله على نبيه ﷺ من قرآن، إذ هو يطابق- في جوهره- ما أنزله- سبحانه- على الأنبياء السابقين الذين يزعم أهل الكتاب أنهم يؤمنون بهم. إذا فوحدة المنزل توجب عليهم أن يؤمنوا بجميع ما أنزله الله.
ووصفهم هنا بأنهم أوتوا الكتاب، مع أنه وصفهم قبل ذلك بأنهم أوتوا نصيبا من الكتاب، لأن وصفهم هنا بذلك المقصود منه حضهم على الإيمان وترغيبهم فيه وإثارة هممهم للانقياد لتعاليم كتابهم الذي بشرهم بمبعث النبي ﷺ وأمرهم بالإيمان به. أما وصفهم فيما سبق بأنهم أوتوا نصيبا من الكتاب فالمقصود منه التعجيب من أحوالهم، والتهوين من شأنهم.
والمعنى: يا معشر اليهود الذين آتاهم الله التوراة لتكون هداية لهم، آمنوا ايمانا حقا بِما نَزَّلْنا من قرآن على محمد ﷺ فإن هذا القرآن قد نزل مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وموافقا للتوراة التي بين أيديكم في الدعوة إلى وحدانية الله- تعالى- وإلى مكارم الأخلاق، وفي النهى عن الفواحش والمعاصي، ومؤيدا لها فيما ذكرته من صفات تتعلق بمحمد ﷺ ومن آيات تدعو إلى تصديقه والإيمان به.
وعبر عن القرآن بقوله: بِما نَزَّلْنا لأن في هذا التعبير تذكير بعظم شأن القرآن وأنه منزل بأمر الله وحفظه.
وعبر عن التوراة بقوله لِما مَعَكُمْ لأن في هذا التعبير تسجيلا عليهم بأن التوراة كتاب مستصحب عندهم وقريب من أيديهم، وشهادته بصدق النبي ﷺ ظاهرة جلية، فإذا ما تركوا شهادته مع وضوحها ومع استصحابهم له كان مثلهم كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً.
ثم أنذرهم- سبحانه- بعد ذلك بسوء العاقبة إذا ما أعرضوا عن الإيمان بدعوة الإسلام فقال- تعالى- مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا.
والطمس إزالة الأثر بالمحو. قال الله- تعالى- فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ أى: زالت ومحيت. ويقال: طمست الريح الأثر إذا محته وأزالته. وللمفسرين في المراد من معنى الطمس هنا اتجاهان:
أما الاتجاه الأول فيرى أصحابه حمل اللفظ على حقيقته بمعنى إزالة ما في الوجه من أعضاء ومحو أثرها.
174
فيكون المعنى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً أى نمحو تخطيط صورها من عين وأنف وفم وحاجب فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أى فنجعلها على هيئة أدبارها وهي الأقفاء بحيث تكون الوجوه مطموسة مثل الأقفاء. وإلى هذا المعنى ذهب ابن عباس وقتادة وغيرهما.
قال الإمام الرازي: وهذا المعنى إنما جعله الله عقوبة لما فيه من التشويه في الخلقة والمثلة والفضيحة لأن عند ذلك يعظم الغم والحسرة....» «١».
ومن المفسرين الذين رجحوا حمل اللفظ على حقيقته الإمام ابن جرير لقد قال: «وأولى الأقوال في ذلك بالصواب» قول من قال: معنى قوله مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً من قبل أن نطمس أبصارها، ونمحو آثارها، فنسويها كالأقفاء. فنردها على أدبارها، فنجعل أبصارها في أدبارها، يعنى بذلك: فنجعل الوجوه في أدبار الوجوه. فيكون معناه: فنحول الوجوه أقفاء، والأقفاء وجوها، فيمشوا القهقرى، كما قال ابن عباس ومن قال بذلك» «٢».
وأصحاب هذا الاتجاه منهم من يرى أن هذه العقوبة تكون في آخر الزمان ومنهم من يرى هذه العقوبة تكون في الآخرة. ومنهم من قال بأن هذه العقوبة مقيدة بعدم إيمان أحد منهم، وقد آمن بعضهم كعبد الله بن سلام وغيره وأما الاتجاه الثاني فيرى أصحابه حمل اللفظ على مجازه، بمعنى أن المراد بالطمس الطمس المعنوي.
فيكون المعنى: آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن تقسو قلوبكم، ونطبع عليها بسبب تمسكها بالضلال، وتماديها في العناد.
قال ابن كثير مؤيدا هذا الاتجاه: هذا مثل ضربه الله لهم في صرفهم عن الحق وردهم، إلى الباطل، ورجوعهم عن المحجة البيضاء إلى سبيل الضلال يهرعون ويمشون القهقرى على أدبارهم. وهذا كما قال بعضهم في قوله- تعالى- وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا أى هذا مثل سوء ضربه الله لهم في ضلالهم ومنعهم عن الهدى.
قال مجاهد: من قبل أن نطمس وجوها أى عن صراط الحق: فنردها على أدبارها أى في الضلال. وقال السدى: معناه: فنعميها عن الحق ونرجعها كفارا... «٣».
(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٠ ص ١٢١ طبعة عبد الرحمن محمد.
(٢) تفسير ابن جرير ج ٥ ص ١٢٣ طبعة الحلبي.
(٣) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٥٠٨.
175
وقال الفخر الرازي- بعد أن بين معنى الآية على القول الأول-: أما القول الثاني: فهو أن المراد من طمس الوجوه مجازه ثم ذكروا فيه وجوها.
الأول: قال الحسن: نطمسها عن الهدى فنردها على أدبارها أى على ضلالتها والمقصود بيان إلقائها في أنواع الخذلان وظلمات الضلالات.
الثاني: يحتمل أن يكون المراد بالطمس القلب والتغيير. وبالوجوه: رؤساؤهم ووجهاؤهم.
والمعنى: من قبل أن نغير أحوال وجهائهم فنسلب منهم الإقبال والوجاهة ونكسوهم الصغار والإدبار والمذلة.
الثالث: قال عبد الرحمن بن زيد: هذا الوعيد قد لحق اليهود ومضى. وتأول ذلك في إجلاء قريظة والنضير إلى الشام، فرد الله وجوههم على أدبارهم حين عادوا إلى أذرعات وأريحاء من أرض الشام.. فيكون المراد بطمس الوجوه على هذا الرأى: إزالة آثارهم عن بلاد العرب ومحو أحوالهم عنها».
وقد مال الفخرى الرازي إلى القول الثاني ووصفه بأنه لا إشكال معه البتة... » «١».
وقال بعض العلماء: إن الذي يبدو لنا من ظاهر النص وهو قوله- تعالى- مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها: أنه يراد به سحقهم في القتال، وحملهم على أن يولوا الأدبار، فتكون وجوههم غير بادية بصورها، بعد أن كانوا مقبلين بها، فأزالها السيف والخوف، وجعل صورتها مختفية، وأقفيتهم هي البادية الواضحة، فكأن صورة الوجوه قد زالت وحلت محلها صورة الأدبار.
وعلى ذلك يكون المعنى: إنكم استرسلتم في غيكم وضلالكم. ومع ذلك نطالبكم بالهداية والإيمان قبل أن ينزل بكم غضب الله- تعالى- في الدنيا وذلك بتسليط المؤمنين بالحق عليكم، فيذيقونكم بأس القتال فتفرون، وتختفى وجوهكم... » «٢».
هذه بعض الوجوه التي قالها من يرى أن المراد بالطمس الطمس المعنوي وأن اللفظ محمول على المجاز، ولعل هذا الاتجاه أقرب إلى الصواب لسلامته من الاعتراضات والإشكالات التي أوردها بعض المفسرين- كالرازي والآلوسى- عند تفسيرهما للآية الكريمة.
وقوله أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ بيان لعقوبة أخرى سوى العقوبة السابقة.
واللعن: هو الطرد من رحمة الله- تعالى-.
(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٠ ص ١٢١. بتصرف يسير-
. (٢) تفسير الآية الكريمة لفضيلة الأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة بمجلة لواء الإسلام السنة الخامسة عشرة. العدد الأول. [.....]
176
فالآية الكريمة دعوة لليهود إلى الإيمان بما جاء به محمد ﷺ من قبل أن يطبع الله- تعالى- على قلوبهم ويذهب بنورها فلا تتجه إلى الحق ولا تميل إليه. أو من قبل أن يلعنهم ويطردهم من رحمته ويجعلهم عبرة للمعتبرين.
وأصحاب السبت هم قوم من اليهود حرم الله عليهم الصيد في يوم السبت، فتحايلوا على استحلال ما حرمه الله بحيل قبيحة، فأنزل الله عليهم عذابه، ومسخهم قردة...
وقد ذكر الله قصتهم بشيء من التفصيل في سورة الأعراف «١».
وكلمة «أو» في الآية الكريمة لمنع الخلو. فجوز أن يعاقب الله طائفة منهم بعقوبة من هاتين العقوبتين، ويعاقب طائفة أخرى منهم بالعقوبة الثانية إن هم استمروا في ضلالهم وطغيانهم.
والضمير المنصوب في قوله «نلعنهم» يعود لأصحاب الوجوه. أو للذين أوتوا الكتاب على طريقة الالتفات.
وقوله وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا أى كان وما زال جميع ما أمر الله به وقضاه نافذا لا محالة لأنه- سبحانه- لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء:
والجملة الكريمة تذييل قصد به تهديد هؤلاء الضالين المعاندين حتى يثوبوا إلى رشدهم، ويدخلوا في صفوف المؤمنين.
وقوله إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ. استئناف مسوق لتقرير ما قبله من الوعيد، ولتأكيد وجوب امتثال الأمر بالإيمان، لأنه لا مغفرة إذا انتفى الإيمان.
والمراد بالشرك هنا: مطلق الكفر فيدخل فيه كفر اليهود دخولا أوليا.
والمعنى: إن الله لا يغفر لكافر مات على كفره، ويغفر ما دون الكفر من الذنوب والمعاصي لمن يشاء أن يغفر له إذا مات من غير توبة. فمن مات من المسلمين بدون توبة من الذنوب التي اقترفها فأمره مفوض إلى الله، إن شاء عفا عنه وأدخله الجنة، وإن شاء عذبه ثم أدخله الجنة.
وقوله وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً استئناف مشعر بتعليل عدم غفران الشرك، وزيادة في تشنيع حال المشرك.
أى. ومن يشرك بالله في عبادته غيره من خلقه، فقد ارتكب من الآثام ما لا تتعلق به المغفرة، لأنه بهذا الإشراك قد افترى الكذب العظيم على الله، واقترف الإفك المبين، وفعل أعظم ذنب في الوجود:
(١) راجع كتابنا «بنوا إسرائيل في القرآن والسنة» ج ٢ من ص ٥٢- ٦٠.
177
قال القرطبي: قوله- تعالى-: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ روى أن النبي ﷺ تلا قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً فقال له رجل: يا رسول الله والشرك!! فنزل: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ. الآية. وهذا من المحكم المتفق عليه الذي لا اختلاف فيه بين الأمة.
وقوله وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ من المتشابه الذي قد تكلم العلماء فيه.
فقال ابن جرير الطبري: قد أبانت هذه الآية أن كل صاحب كبيرة فهو في مشيئة الله إن شاء عفا عنه ذنبه، وإن شاء عاقبه عليه ما لم تكن كبيرته شركا بالله- تعالى-» «١».
وقد أورد ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية الكريمة ثلاثة عشر حديثا تتعلق بها.
ومن هذه الأحاديث ما رواه الحافظ أبو يعلى في مسنده عن جابر أن النبي ﷺ قال: لا تزال المغفرة على العبد ما لم يقع في الحجاب» قيل يا نبي الله وما الحجاب؟ قال: الإشراك بالله. ثم قرأ: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ. الآية.
وروى ابن أبى حاتم وابن جرير عن ابن عمر قال: كنا معشر أصحاب النبي ﷺ لا نشك في قاتل النفس، وآكل مال اليتيم، وشاهد الزور، وقاطع الرحم، حتى نزلت هذه الآية: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وفي رواية لابن أبى حاتم: فلما سمعناها كففنا عن الشهادة وأرجينا الأمور إلى الله- تعالى-» «٢».
وقال الآلوسى: ثم إن هذه الآية كما يرد بها على المعتزلة- الذين يسوون بين الإشراك بالله وبين ارتكاب الكبيرة بدون توبة- يرد بها أيضا- على الخوارج الذين زعموا أن كل ذنب شرك وأن صاحبه مخلد في النار. وذكر الجلال أن فيها ردا أيضا على المرجئة القائلين: إن أصحاب الكبائر من المسلمين لا يعذبون.
وأخرج ابن الضريس وابن عدى بسند صحيح عن ابن عمر قال: كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى سمعنا من نبينا ﷺ قوله- تعالى- إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وقال:
«إنى ادخرت دعوتي وشفاعتي لأهل الكبائر من أمتى فأمسكنا عن كثير مما كان في أنفسنا ثم نطقنا ورجونا». وقد استبشر الصحابة بهذه الآية حتى قال على بن أبى طالب: أحب آية إلى في القرآن إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ «٣».
ثم حكى- سبحانه- لونا آخر من قبائح اليهود فقال:
(١) تفسير القرطبي ج ٥ ص ٢٤٥.
(٢) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٥١٠.
(٣) تفسير الآلوسى ج ٥ ص ٥٣.
178
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ، بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا. انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً.
روى المفسرون في سبب نزول هاتين الآيتين أن رجالا من اليهود أتوا النبي ﷺ بأطفالهم فقالوا: يا محمد هل على هؤلاء ذنب؟ فقال: لا. فقالوا: والله ما نحن إلا كهيئتهم.
ما عملناه بالنهار كفر عنا بالليل، وما عملنا بالليل كفر عنا بالنهار» «١».
ولقد حكى القرآن عن اليهود أنهم قالوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً.
وحكى عنهم أنهم كانوا يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا.
وحكى عنهم وعن النصارى أنهم قالوا: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ.
والاستفهام في قوله- تعالى- أَلَمْ تَرَ للتعجب من أحوالهم، والتهوين من شأنهم حيث بالغوا في مدح أنفسهم مع أنهم كاذبون في ذلك.
وقوله يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ من التزكية بمعنى التطهير والتنزيه عن القبيح. والمراد بهذا التعبير هنا: أنهم يصفون أنفسهم بالأفعال الحسنة، ويمدحونها مدحا كثيرا، مع أنهم لا يستحقون إلا الذم بسبب سوء أقوالهم وأفعالهم.
والمعنى: ألم ينته علمك يا محمد إلى حال هؤلاء اليهود الذين يمدحون أنفسهم ويثنون عليها مختالين متفاخرين مع ما هم عليه من الكفر وسوء الأخلاق؟ إن كنت لم تعلم أحوالهم أو لم تنظر إليهم فها نحن نكشف لك عن خباياهم لتتعجب من سوء أعمالهم وليتعجب منهم كل عاقل.
وقوله بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ إبطال لمعتقدهم بإثبات ضده، وهو أن التزكية شهادة من الله ولا ينفع أحدا أن يزكى نفسه، وإعلام منه- سبحانه- بأن تزكيته هي التي يعتد بها لا تزكية غيره، فإنه هو العالم بما ينطوى عليه الإنسان من حسن وقبح، وخير وشر.
وقوله وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا بيان لكمال عدله- سبحانه- وأنه لا يظلم أحدا من خلقه لا قليلا ولا كثيرا.
والفتيل: هو الخيط الذي يكون في شق النواة. وكثيرا ما يضرب به المثل في القلة والحقارة.
أى أن هؤلاء الذين يزكون أنفسهم بغير حق يعاقبون على هذا الكذب بما يستحقون من عقاب عادل لا ظلم معه لأنه- سبحانه- لا يظلم أحدا من عباده شيئا بل يجازى كل إنسان بما هو أهل له من خير أو شر.
(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٥٢٠.
179
ثم أكد- سبحانه- التعجيب من أحوالهم فقال: انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ....
أى: انظر أيها العاقل كيف يفترى هؤلاء اليهود على الله الكذب في تزكيتهم لأنفسهم مع كفرهم وعنادهم وارتكابهم الأفعال القبيحة التي تجعلهم أهلا لكل مذمة وسوء عاقبة.
وقد جعل- سبحانه- افتراءهم الكذب لشدة تحقق وقوعه، كأنه أمر مرئى يراه الناس بأعينهم، ويشاهدونه بأبصارهم.
وقوله وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً أى: وكفى بافترائهم الكذب على الله إثما ظاهرا بينا يستحقون يسببه أشد العقوبات، وأغلظ الإهانات.
قال القرطبي ما ملخصه: قوله- تعالى- أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ يقتضى الغض من المزكى لنفسه بلسانه، والإعلان بأن الزاكي المزكى من حسنت أفعاله، وزكاه الله- تعالى-، فلا عبرة بتزكية الإنسان نفسه، وإنما العبرة بتزكية الله له.
وأما تزكية الغير ومدحه له ففي البخاري من حديث أبى بكرة أن رجلا ذكر عند النبي ﷺ فأثنى عليه رجل خيرا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ويحك قطعت عنق صاحبك- يقوله مرارا- إن كان أحدكم مادحا لا محالة فليقل أحسب كذا وكذا إن كان يرى أنه كذلك، وحسبه الله ولا يزكى على الله أحدا». فنهى ﷺ أن يفرط في مدح الرجل بما ليس فيه... فيحمله ذلك على تضييع العمل وترك الازدياد من الفضل ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «ويحك قطعت عنق صاحبك».
ومدح الرجل بما فيه من الفعل الحسن والأمر المحمود ليكون منه ترغيبا له في أمثاله، وتحريضا للناس على الاقتداء به في أشباهه ليس مدحا مذموما.
وقد مدح النبي ﷺ في الشعر والخطب والمخاطبة. ومدح ﷺ أصحابه فقال: «إنكم لتقلون عند الطمع وتكثرون عند الفزع» «١».
ثم ساق- سبحانه- بعد ذلك لونا آخر من رذائلهم وقبائحهم التي تدعو إلى مزيد من التعجيب من أحوالهم. والتحقير من شأنهم فقال- تعالى-: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا.
روى المفسرون في سبب نزول هذه الآية روايات منها: ما جاء عن ابن عباس أن حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف خرجا إلى مكة في جمع من اليهود ليحالفوا قريشا على حرب
(١) تفسير القرطبي ج ٥ ص ٢٤٦.
180
النبي صلى الله عليه وسلم. فنزل كعب على أبى سفيان فأحسن مثواه. ونزلت اليهود في دور قريش. فقال أهل مكة لليهود: إنكم أهل كتاب ومحمد ﷺ صاحب كتاب فلا نأمن أن يكون هذا مكرا منكم.
فإن أردتم أن نخرج معكم فاسجدوا لهذين الصنمين وآمنوا بهما ففعلوا. ثم قال كعب: يا أهل مكة ليجيء منا ثلاثون ومنكم ثلاثون فنلزق أكبادنا بالكعبة فنعاهد رب البيت على قتال محمد ﷺ ففعلوا ذلك. فلما فرغوا قال أبو سفيان لكعب: إنك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم، ونحن أميون لا نعلم فأينا أهدى طريقا وأقرب إلى الحق نحن أم محمد؟ قال كعب: اعرضوا على دينكم.
فقال أبو سفيان: نحن ننحر للحجيج الكرماء، ونسقيهم اللبن، ونقرى الضيف، ونفك العاني، ونصل الرحم، ونعمر بيت ربنا ونطوف به، ونحن أهل الحرم، ومحمد ﷺ فارق دين آبائه وقطع الرحم وفارق الحرم، وديننا القديم ودين محمد الحديث.
فقال كعب: أنتم والله أهدى سبيلا مما عليه محمد ﷺ فأنزل الله الآية «١».
والجبت في الأصل: اسم صنم ثم استعمل في كل معبود سوى الله- تعالى-.
والطاغوت: يطلق على كل باطل وعلى كل ما عبد من دون الله، أو كل من دعا إلى ضلالة.
أى: يصدقون بأنهما آلهة ويشركونهما في العبادة مع الله- تعالى-. أو يطيعونهما في الباطل.
قال ابن جرير: والصواب من القول في تأويل يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ أن يقال:
يصدقون بمعبودين من دون الله، ويتخذونهما إلهين، وذلك أن الجبت والطاغوت اسمان لكل معظم بعبادة من دون الله أو طاعة أو خضوع له، كائنا ما كان ذلك المعظم من حجر أو إنسان أو شيطان» «٢».
وقوله وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا بيان لما نطقوا به من زور وبهتان. أى: ويقولون إرضاء للذين كفروا وهم مشركو مكة. هؤلاء في شركهم وعبادتهم للجبت والطاغوت، أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا أى أقوم طريقا، وأحسن دينا من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم.
واللام في قوله لِلَّذِينَ كَفَرُوا لام العلة. أى: يقولون لأجل الذين كفروا..
والإشارة بقوله هؤُلاءِ أَهْدى إلى الذين كفروا.
وإيراد النبي ﷺ وأصحابه بعنوان الإيمان، ليس من قبل القائلين، بل من جهة الله تعالى، تعريفا لهم بالوصف الجميل، وتحقيرا لمن رجح عليهم المتصفين بأقبح الصفات.
(١) تفسير الآلوسى ج ٥ ص ٥٥.
(٢) تفسير ابن جرير ج ٥ ص ١٣٣.
181
ثم بين- سبحانه- مصيرهم السيئ بسبب انحرافهم عن الحق فقال- تعالى- أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ.
أى: أولئك الذين استحوذ عليهم الشيطان، فأيدوا المشركين بالقول والعمل وسجدوا لأصنامهم، وزكوا أفعالهم... أولئك الذين هذه صفاتهم لَعَنَهُمُ اللَّهُ أى: أبعدهم عن رحمته وطردهم وأخزاهم بسبب كذبهم في حقدهم وإيثارهم عبادة الشيطان على طاعة الرحمن.
وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً أى ومن يلعنه الله ويبعده عن رحمته فلن تجد له ناصرا ينصره، أو شفيعا يشفع له.
واسم الإشارة أُولئِكَ مبتدأ. والموصول وصلته خبر. والجملة مستأنفة لبيان حالهم.
وإظهار سوء مآلهم.
والإتيان باسم الإشارة هنا في نهاية البلاغة، لأن من بلغ وصف حاله هذا المبلغ صار جديرا بأن يشار إليه بكل ازدراء واحتقار.
وفي قوله وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً بيان لحرمانهم ثمرة استنصارهم بمشركي قريش، وإيماء إلى وعد المؤمنين بأنهم المنصورون، لأنهم هم المقربون عند الله، ومن يقربه الله فلن تجد له خاذلا.
هذا، وتحالف أولئك اليهود مع المشركين، وتفضيلهم إياهم على المؤمنين- كما حكته الآية الكريمة- قد شهد بقبحه واحد من اليهود هو الدكتور إسرائيل ولفنسون. فقد قال في كتابه «تاريخ اليهود في جزيرة العرب» معلقا على هذه القصة:
وكان من واجب هؤلاء اليهود ألا يتورطوا في هذا الخطأ الفاحش، وألا يصرحوا أمام زعماء قريش بأن عبادة الأصنام أفضل من التوحيد الإسلامى ولو أدى بهم الأمر إلى عدم إجابة مطلبهم، لأن بنى إسرائيل الذين كانوا لمدة قرون حاملى راية التوحيد في العالم بين الأمم الوثنية باسم الآباء الأقدمين، والذين نكبوا بنكبات لا تحصى من تقتيل واضطهاد بسبب إيمانهم بإله واحد في عصور شتى من الأدوار التاريخية... كان من واجبهم أن يضحوا بحياتهم وكل عزيز عليهم في سبيل أن يخذلوا المشركين، هذا فضلا عن أنهم بالتجائهم إلى عبدة الأوثان، إنما كانوا يحاربون أنفسهم، ويناقضون تعاليم التوراة التي توصيهم بالنفور من عبدة الأصنام، والوقوف منهم موقف الخصومة «١».
ثم انتقل- سبحانه- من توبيخهم على تزكيتهم لأنفسهم بالباطل وعلى تفضيلهم عبادة
(١) تاريخ اليهود في جزيرة العرب لإسرائيل ولفنسون.
182
الأوثان على عبادة الرحمن. إلى توبيخهم على البخل والأثرة فقال- تعالى-: أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ، فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً.
وأَمْ هنا منقطعة بمعنى بل فهي للإضراب والانتقال، والهمزة للاستفهام الإنكارى أى:
لإنكار أن يكون لهم نصيب من الملك، وإبطال زعمهم من أن الملك يعود إليهم في آخر الزمان. والفاء في قوله فَإِذاً للسببية الجزائية لشرط محذوف.
والنقير: النكتة التي تكون في ظهر النواة ويضرب به المثل في القلة والحقارة.
والمعنى: إن هؤلاء اليهود ليس لهم نصيب من الملك ألبتة. لأنهم لا يستحقونه، ولأنهم لو أوتوا نصيبا منه على سبيل الفرض فإنهم لشدة حرصهم وبخلهم وأثرتهم لا يعطون أحدا غيرهم منه أقل القليل. وقد كنى عن أقل القليل هذا بالنقير.
فأنت ترى أن الآية الكريمة ترد على ما يزعمه اليهود من أن الملك لهم، وأنهم لا يليق بهم أن يتبعوا غيرهم، وتصفهم بأنهم أبخل الناس وأبعدهم عن العدل والقسط ومن كانت هذه صفاته، فقد اقتضت حكمة الله أن يحرمه نعمة الملك والسلطان.
ثم انتقل- سبحانه- من تبكيتهم على البخل وغيره مما سبق إلى تقريعهم على رذيلة الحسد التي استولت عليهم فأضلتهم وجعلتهم يتألمون لما يصيب الناس من خير ويتمنون زواله فقال- تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ.
وأَمْ هنا منقطعة أيضا كسابقتها، والاستفهام المقدر بعدها لإنكار الواقع وهو حسدهم لغيرهم.
والمراد من الناس: النبي ﷺ أو هو والمؤمنون معه. وقيل المقصود من الناس: العرب عامة.
قال الفخر الرازي: والمراد من الناس- عند الأكثرين- أنه محمد صلى الله عليه وسلم. وإنما جاز أن يقع عليه لفظ الجمع وهو واحد لأنه اجتمع عنده من خصال الخير ما لا يحصل إلا متفرقا في الجمع العظيم أو المراد بهم: الرسول ﷺ ومن معه من المؤمنين لأن لفظ الناس جمع فحمله على الجمع أولى من حمله على المفرد. وحسن لفظ إطلاق الناس عليهم لأنهم القائمون بالعبودية الحق لله- تعالى- فكأنهم كل الناس... » «١».
والمراد بالفضل في قوله عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ النبوة والهدى والإيمان.
والمعنى: إن هؤلاء اليهود ليسوا بخلاء فقط بل إن فيهم من الصفات ما هو أقبح من البخل
(١) تفسير الفخر الرازي ج ١ ص ١٣٢.
183
وهو الحسد، فقد حسدوا النبي ﷺ لأن الله منحه النبوة وهو رجل عربي ليس منهم، وحسدوا أتباعه لأنهم آمنوا به وصدقوه والتفوا من حوله يؤازرونه ويفتدونه بأرواحهم وأموالهم.
وقوله فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً توبيخ لهم على حسدهم، وإلزام لهم بما هو مسلم عندهم.
والمعنى: إنكم بحسدكم للنبي ﷺ على ما آتاه الله من فضله، تكونون قد ضللتم وسرتم في طريق الشيطان، لأنكم لو كنتم عقلاء لما فعلتم ذلك، إذ أنتم تعلمون علم اليقين أن الله- تعالى- قد أعطى آلَ إِبْراهِيمَ أى: قرابته القريبة من ذريته كإسماعيل- وهو جد العرب- وإسحاق ويعقوب وغيرهم.. أعطاهم الْكِتابَ أى: جنس الكتب السماوية فيشمل ذلك التوراة والإنجيل والزبور وغيرها. وأعطاهم الْحِكْمَةَ أى العلم النافع مع العمل به.
وأعطاهم مُلْكاً عَظِيماً أى سلطانا واسعا وبسطة في الأرض.
ومع ذلك فأنتم لم تحسدوا هؤلاء على ما أعطاهم الله من كتاب وحكمة وملك عظيم، فلماذا تحسدون محمدا ﷺ على ما آتاه الله من فضله مع أنه من نسل إبراهيم- عليه السلام-؟.
فالجملة الكريمة توبيخ لهم على أنانيتهم وحسدهم، وإلزام لهم بما يعرفونه من واقع كتبهم، وكشف للناس عن أن أحقادهم مرجعها إلى انطماس بصيرتهم، وخبث نفوسهم.
ثم بين- سبحانه- عاقبة كل من المحسن والمسيء فقال: فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً.
أى: فمن جنس هؤلاء الحاسدين وآبائهم من آمن وصدق بما أعطاه الله لآل إبراهيم من كتاب وحكمه، ومنهم من كفر به وأعرض عنه وسعى في صد الناس عنه. فالضمير في بِهِ وعَنْهُ يعود إلى ما أوتى آل إبراهيم.
ويرى بعضهم أن الضمير يعود إلى إبراهيم- عليه السلام. فيكون المعنى:
فمن آل إبراهيم من آمن بإبراهيم ومنهم من أعرض عنه ولم يتبع تعاليمه.
وفي هذه الآية الكريمة تسلية للنبي ﷺ عما لقيه من اليهود من أذى.
فكأنه- سبحانه- يقول له: إن هؤلاء الحاسدين لك قد اختلفوا على من هم منهم، وأنت يا محمد لست منهم، فكيف تنتظر منهم أن يسالموك أو يتبعوك؟
وقوله وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً بيان لما أعده- سبحانه- للكافرين من عذاب.
أى: وكفى بجهنم نارا مسعرة أى: موقدة إيقادا شديدا يعذبون بها على كفرهم وعنادهم وصدودهم عن الحق. يقال: سعر النار- كمنع- وسعرها وأسعرها أى: أوقدها.
184
وكفى فعل ماض. وقوله بِجَهَنَّمَ فاعله على زيادة الباء فيه. وقوله سَعِيراً تمييز أو حال.
وبهذا نرى أن هذه الآيات الكريمة من قوله- تعالى- أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ إلى قوله: وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً قد وبخت اليهود على بيعهم دينهم بدنياهم، وتحريفهم الكلم عن مواضعه واستهزائهم بدعوة الحق، وتزكيتهم لأنفسهم بالباطل، وافترائهم على الله الكذب، وتفضيلهم عبادة الأوثان على عبادة الله، وعلى بخلهم وحسدهم للنبي ﷺ على ما آتاه الله من فضله.
وقد توعدتهم على هذه الصفات الذميمة، والمسالك الخبيثة بأشد أنواع العذاب، وحذرت المؤمنين من شرورهم ومفاسدهم.
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك سوء عاقبة كل كافر، وحسن عاقبة كل مؤمن، فقال:
[سورة النساء (٤) : الآيات ٥٦ الى ٥٧]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (٥٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (٥٧)
والمراد بالذين كفروا هنا: كل كافر سواء أكان من بنى إسرائيل أم من غيرهم.
وقوله: نُصْلِيهِمْ من الإصلاء وهو إيقاد النار. والمراد هنا إدخالهم فيها وقوله:
نَضِجَتْ من النضج وهو بلوغ نهاية الشيء. يقال: نضج الثمر واللحم ينضج نضجا إذا أدرك وبلغ نهايته. والمراد هنا: احتراق الجلود احتراقا تاما.
والمعنى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا الدالة على أن الله وحده هو المستحق للعبادة والخضوع سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً أى: سوف ندخلهم نارا هائلة عظيمة وسوف هنا- كما قال سيبويه- للتهديد وتأكيد العذاب المقبل ولو مع التراخي وتراخى العذاب مع تأكيده يجعل النفس في فزع دائم، وخوف مستمر حتى يقع.
وقوله كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها بيان لشدة العذاب ودوامه أى: كلما
185
احترقت جلودهم وتلاشت أعطيناهم بدل الجلود المحترقة جلودا غير محترقة مغايرة للمحترقة.
فالتبديل على هذا تبديل حقيقى مادى. بمعنى أن يخلق الله- تعالى- مكان الجلود المحترقة جلودا أخرى جديدة مغايرة للمحترقة.
ويرى بعضهم أن الجملة الكريمة كناية عن دوام العذاب لهم. وقد ذكر هذا الرأى الفخر الرازي فقال: ويمكن أن يقال: هذا استعارة عن الدوام وعدم الانقطاع. كما يقال لمن يراد وصفه بالدوام: كلما انتهى فقد ابتدأ. وكلما وصل إلى آخره فقد ابتدأ من أوله. فكذا قوله كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها.
يعنى: كلما ظنوا أنهم نضجوا واحترقوا وانتهوا إلى الهلاك، أعطيناهم قوة جديدة من الحياة.
فيكون المقصود بيان دوام العذاب وعدم انقطاعه) «١».
والذي نراه أن حمل التبديل على حقيقته أولى، لأنه ليس لنا أن نعدل في كلام الله عن الحقيقة إلى المجاز، إلا عند الضرورة. وهنا لا ضرورة لذلك، لأن تبديل الجلود داخل تحت قدرة الله- تعالى- ولأن هذا المعنى الذي ذكره الإمام الرازي يتأتى مع حمل اللفظ على حقيقته إذ كلمة «كل» تدل على دوام العذاب وعدم انقطاعه، ولأن كثيرا من السلف قد فسروا الآية على الوجه الأول، فقد روى عن ابن عمر أنه قال: تلا رجل عند عمر هذه الآية قال: فقال عمر: أعدها على. فأعادها. فقال معاذ بن جبل: عندي تفسيرها: تبدل جلودهم في كل ساعة مائة مرة. فقال عمر: هكذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله لِيَذُوقُوا الْعَذابَ جملة تعليلية لقوله بَدَّلْناهُمْ أى بدلناهم جلودا غيرها ليقاسوا شدة العذاب، وليحسوا به في كل مرة كما يحس الذائق للشيء الذي يذوقه.
وقوله إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً تذييل قصد به تأكيد التهديد والوعيد الذي اشتملت عليه الآية الكريمة.
أى: أن الله- تعالى كان وما زال عزيزا لا يغلبه غالب، ولا يمنع عقابه مانع (حكيما) في تدبيره وتقديره وتعذيب من يعذبه وإثابة من يثيبه.
وقوله وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بيان لحسن الثواب الذي وعد الله به عباده المؤمنين في مقابلة بيان العقاب الذي أعده للكافرين.
وتلك عادة القرآن في تربية النفوس. إنه يسوق عاقبة الكافرين ثم يتبعها بحسن عاقبة المؤمنين أو العكس، ليحمل العقلاء على الابتعاد عن طريق الكفر والعصيان، وليغريهم بالسير
(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٠ ص ١٣٥
186
في طريق الطاعة والإيمان.
أى: والذين آمنوا إيمانا حقا، وعملوا في دنياهم الأعمال الطيبات الصالحات سَنُدْخِلُهُمْ يوم القيامة جَنَّاتٍ تَجْرِي من تحت شجرها وقصورها الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً أى:
أكرمناهم إكراما عظيما بأن جعلناهم مقيمين في الجنة لا يموتون ولا يخرجون منها لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ أى لهم فيها نساء بريئات ومنزهات من جميع الأدناس الحسية والمعنوية.
وقوله: وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا أى: ظلا وارفا جميلا لا يصيب صاحبه حر ولا سموم.
والظل: أثر لما يحجب الشمس وحرارتها. والظليل: صفة مشتقة من الظل للتأكيد على حد قولهم: ليل أليل أى ظلا بلغ الغاية في جنسه.
ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال: ظَلِيلًا صفة مشتقة من لفظ الظل لتأكيد معناه.
كما يقال: ليل أليل. ويوم أيوم وما أشبه ذلك. وهو ما كان فيئا- أى طويلا ممتدا- لا حوب فيه- أى لا خرق ولا قطع فيه- ودائما لا تنسخه الشمس. وسجسجا- أى متوسطا- لا حر فيه ولا برد. وليس ذلك إلا ظل الجنة. رزقنا الله بتوفيقه لما يزلف إليه التفيؤ تحت ذلك الظل «١».
وبعد هذا الحديث الجامع عن أحوال أهل الكتاب من اليهود، وجه القرآن جملة من الأوامر الحكيمة إلى المؤمنين، فقال- تعالى-:
[سورة النساء (٤) : الآيات ٥٨ الى ٥٩]
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (٥٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٥٩)
(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٥٢٣.
187
قال ابن كثير- عند تفسيره للآية الأولى-: ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نزلت في شأن عثمان بن طلحة بن أبى طلحة. وهو ابن عم شيبة بن عثمان بن أبى طلحة الذي صارت الحجابة في نسله إلى اليوم. وسبب نزولها فيه: حين أخذ رسول الله ﷺ مفتاح الكعبة منه يوم الفتح ثم رده عليه.
ثم قال: قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن جعفر عن عبيد الله بن أبى ثور عن صفية بنت شيبة أن رسول الله ﷺ لما نزل بمكة واطمأن الناس، خرج حتى أتى إلى البيت فطاف به سبعا على راحلته يستلم الركن بمحجن في يده. فلما قضى طوافه دعا عثمان بن طلحة فأخذ مفتاح الكعبة منه ففتحت له فدخلها.
ثم قام على باب الكعبة فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له. صدق وعده. ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين: إلا سدانة البيت وسقاية الحاج.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين عثمان بن طلحة؟ فدعى له. فقال: هاك مفتاحك يا عثمان!! اليوم يوم بر ووفاء «١».
هذا ونزول الآية الكريمة في هذا السبب الخاص لا يمنع عمومها إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
والأمانات: جمع أمانة وهي مصدر سمى به المفعول. فهي بمعنى ما يؤتمن الإنسان عليه.
والمعنى: إن الله تعالى- يأمركم- أيها المؤمنون- أن تؤدوا ما ائتمنتم عليه من الحقوق سواء أكانت هذه الحقوق لله- تعالى- أم للعباد. وسواء أكانت فعلية أم قولية أم اعتقادية.
وقد أسند- سبحانه- الأمر إليه مع تأكيده، اهتماما بالمأمور به، وحضا للناس على أداء ما يؤتمنون عليه من علم ومال، وودائع، وأسرار، وغير ذلك مما يقع في دائرة الائتمان، وتنبغي المحافظة عليه.
ومعنى أدائها إلى أهلها: توصيلها إلى أصحابها كما هي من غير بخس أو تطفيف أو تحريف أو غير ذلك مما يتنافى مع أدائها بالطريقة التي ترضى الله- تعالى-.
ومن الآيات القرآنية التي نوهت بشأن الأمانة وأمرت بأدائها وحفظها قوله- تعالى-:
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ «٢».
(١) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٥١٥- بتصرف وتلخيص.
(٢) سورة الأحزاب الآية ٧٢ [.....]
188
وقوله- تعالى- وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ. أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ «١».
وأما الأحاديث فمنها ما رواه الترمذي والنسائي عن أبى هريرة أن رسول الله ﷺ قال:
«المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم».
وروى الترمذي وأبو داود عن أبى هريرة أن رسول الله ﷺ قال: أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك).
وقوله: وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ أمر بإيصال الحقوق المتعلقة بذمم الغير إلى أصحابها إثر الأمر بإيصال الحقوق المتعلقة بذممهم.
وقوله حَكَمْتُمْ من الحكم ومعناه الفصل بين المتنازعين، وإظهار الحق لصاحبه.
وقوله بِالْعَدْلِ أى بالحق الذي أوجبه الله عليكم. وأصل العدل: التسوية. يقال: عدل كذا بكذا أى سواه به.
قال الجمل وقوله: وَإِذا حَكَمْتُمْ إذا معمول لمقدر على مذهب البصريين من أن ما بعد أن المصدرية لا يعمل فيما قبلها والتقدير: وأن تحكموا بالعدل إذا حكمتم بين الناس. أو معمول للمذكور على مذهب الكوفيين من إجازة عمل ما بعد أن فيما قبلها «٢».
والمعنى: وكما أمركم الله- تعالى- أيها المؤمنون بأداء الأمانات إلى أهلها، فإنه يأمركم- أيضا- إذا حكمتم بين الناس أن تجعلوا حكمكم قائما على الحق والعدل، فإن الله- تعالى- ما أقام ملكه إلا عليهما، ولأن الأحكام إذا صاحبها الجور والظلم أدت إلى شقاء الأفراد والجماعات.
قال بعض العلماء: يرى بعضهم: أن الخطاب في هذا النص موجه إلى الذين يحكمون، وهم الحكام من ولاة وقضاة وغيرهم ممن يلون الحاكم. ولا مانع عندنا من أن يكون الخطاب موجها إلى الأمة كلها، لأن الأمة العزيزة التي تتولى أمور نفسها من غير تحكم من ملك أو طاغ قاهر، هي محكومة ومحكمة. فهي التي تختار حاكمها وهي في هذا محكمة، مطلوب منها العدل، فلا تختار لهوى أو لعطاء أو لمصلحة شخصية أيا كان نوعها. وهي محكمة في حاكمها فلا تقول فيه إلا حقا، ولا تطالبه إلا بما هو حق لا جور فيه، ولا تشتط في نقده، ولا تسكن عن نصيحته، فإن النبي ﷺ يقول: الدين النصيحة: لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) «٣».
(١) سورة المعارج الآيات من ٣٢- ٣٥
(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ١ ص ٢٩٤.
(٣) تفسير الآية الكريمة للاستاذ الشيخ محمد أبو زهره. مجلة لواء الإسلام السنة ١٥ العدد الرابع.
189
وحديث القرآن عن وجوب إقامة العدل ودفع الظلم حديث مستفيض. قال تعالى-:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ «١».
وقال- تعالى- يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى «٢».
وقال- تعالى- وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى
«٣».
وقال- تعالى- وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا. اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى «٤».
وأما حديث السنة النبوية عن ذلك فهو أيضا مستفيض. ومن الأحاديث التي وردت في هذا المعنى ما رواه الإمام مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن. وكلتا يديه يمين. الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا».
وقوله إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ جملة مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها، متضمنة لمزيد اللطف بالمخاطبين، وحسن استدعائهم إلى الامتثال لما أمروا به وقوله إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ جملة مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها، متضمنة لمزيد اللطف بالمخاطبين، وحسن استدعائهم إلى الامتثال لما أمروا به وقوله نِعِمَّا أصله نعم ما فركبت نعم مع ما بعد طرح حركة الميم الأولى وتنزيلها منزلة الكلمة الواحدة ثم أدغمت الميمان وحركت العين الساكنة بالكسر للتخلص من التقاء الساكنين.
وما إما منصوبة موصوفة بقوله يَعِظُكُمْ فكأنه قيل: نعم شيئا يعظكم به.
وإما مرفوعة موصولة فكأنه قيل: نعم الشيء الذي يعظكم به.
والمخصوص بالمدح محذوف وهو أداء الأمانة إلى أهلها والحكم بين الناس بالعدل.
والوعظ: التذكير بالخير، والتحذير من الشر، بأسلوب يرق له القلب.
والمعنى: إن الله- تعالى- قد أمركم- يا معشر المؤمنين- بأداء الأمانة، وبالحكم بالعدل، ولنعماهما شيئا جليلا يذكركم به، ويدعوكم إليه.
وقوله- تعالى- إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً وعد للطائعين ووعيد للعاصين.
أى: إن الله- تعالى- كان سميعا لأقوالكم في الأحكام وفي غيرها. بَصِيراً بكل أحوالكم وتصرفاتكم. وسيجازيكم بما تفعلونه من خير أو شر.
(١) سورة النحل الآية ٩٠.
(٢) سورة ص الآية ٢٦
(٣) سورة الأنعام الآية ١٥٢
(٤) سورة المائدة الآية ٨
190
وبعد أن أمر- سبحانه بأداء الأمانة وبالحكم بالعدل عقب ذلك بأمر المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله وولاة أمورهم فقال- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ.
وطاعة الله وطاعة رسوله متلازمتان. قال- تعالى-: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ.
ومعنى طاعتهما: التزام أوامرهما، واجتناب نواهيهما.
والمراد بأولى الأمر- على الراجح- الحكام. وطاعتهم إنما تكون في غير معصية الله، فإذا أمروا بما يتنافى مع تعاليم الدين فلا سمع لهم على الأمة ولا طاعة.
وإنما أمرنا الله- تعالى- بطاعتهم في غير معصية، لأنهم هم المنفذون لتعاليم الشريعة، وهم الذين بيدهم مقاليد الأمة التي يقومون على رعاية مصالحها، ولأن عدم طاعتهم يؤدى إلى اضطراب أحوال الأمة وفسادها.
قال صاحب الكشاف: والمراد (بأولى الأمر منكم) : أمراء الحق، لأن- أمراء الجور- الله ورسوله بريئان منهم، فلا يعطفون على الله ورسوله بوجوب الطاعة لهم. وإنما يجمع بين الله ورسوله والأمراء الموافقين لهما في إيثار العدل واختيار الحق والأمر بهما. والنهى عن أضدادهما كالخلفاء الراشدين ومن تبعهم بإحسان. وكان الخلفاء يقولون: أطيعونى ما عدلت فيكم. فان خالفت فلا طاعة لي عليكم، وعن أبى حازم أن مسلمة بن عبد الملك قال له: ألستم أمرتم بطاعتنا في قوله وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فقال له: أليس قد نزعت عنكم إذا خالفتم الحق بقوله:
فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ.
وقيل هم العلماء الدينيون الذين يعلمون الناس ويأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر «١».
وأعاد- سبحانه- الفعل أَطِيعُوا مع الرسول فقال: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ولم يعده مع أولى الأمر، للإشارة إلى استقلال الرسول ﷺ بالطاعة حتى ولو كان ما يأمر به ليس منصوصا عليه في القرآن، لأنه لا ينطق عن الهوى، وللإيذان بأن طاعة الرسول ﷺ أعلى من طاعة أولى الأمر.
وقوله مِنْكُمْ في محل نصب على الحال من أولى الأمر. أى: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر حالة كونهم كائنين منكم أى من دينكم وملتكم.
وفي ذلك إشارة إلى أنه لا طاعة لمن يتحكمون في شئون المسلمين ممن ليسوا على ملتهم.
(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٥٢٤
191
وقوله: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ بيان لما يجب على المؤمنين أن يفعلوه إذا ما حدث بينهم اختلاف في أمر من الأمور الدينية.
والمراد بالتنازع هنا: الاختلاف والجدال مأخوذ من النزع بمعنى الجذب. فكأن كل واحد من المختلفين يجذب من غيره الحجة لدليله..
ومنه قول النبي ﷺ «مالي أنازع القرآن» أى ينازعني غيرى ويجاذبنى في القراءة. وذلك أن بعض المأمومين جهر خلفه فنازعه قراءته فشغله، فنهاه عن الجهر بالقراءة في الصلاة خلفه «١».
والمعنى: فان تنازعتم واختلفتم أيها المؤمنون أنتم وأولو الأمر منكم في أمر من أمور الدين فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ أى فردوا ذلك الحكم أو الأمر الذي اختلفتم فيه إلى كتاب الله وإلى رسوله ﷺ بأن تسألوه عنه في حياته، وترجعوا إلى سنته بعد مماته.
قال القرطبي: قوله فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ أى تجادلتم واختلفتم في شيء من أمور دينكم فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ أى ردوا ذلك الحكم إلى كتاب الله أو إلى رسوله بالسؤال في حياته، أو بالنظر في سنته بعد وفاته. وهذا قول مجاهد والأعمش وقتادة. وهو الصحيح.
ومن لم ير هذا اختل إيمانه، لقوله- تعالى إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.
وفي قوله فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ دليل على أن سنته ﷺ يعمل بها ويمتثل ما فيها.
قال ﷺ «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم. فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم». أخرجه مسلم.
وروى أبو داود عن أبى رافع عن النبي ﷺ قال: «لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته، يأتيه الأمر من أمرى مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: لا ندري ما وجدناه في كتاب الله اتبعناه».
وعن العرباض بن سارية أنه حضر رسول الله ﷺ يخطب الناس وهو يقول: «أيحسب أحدكم متكئا على أريكته قد يظن أن الله لم يحرم شيئا إلا ما في هذا القرآن ألا وإنى والله قد أمرت ووعظت ونهيت عن أشياء إنها لمثل القرآن أو أكثر» «٢».
وقوله إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ شرط جوابه محذوف عند جمهور البصريين اكتفاء بدلالة المذكور عليه.
أى: إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر حق الإيمان فارجعوا فيما تنازعتم فيه من أمور دينية إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
(١) هامش تفسير القرطبي ج ٥ ص ٢٦١
(٢) تفسير القرطبي ج ٥ ص ٢٦٢- بتصرف وتلخيص
192
والجملة الكريمة تحريض للمؤمنين على الامتثال لتعاليم الإسلام وآدابه، لأن الإيمان الحق يقتضى ذلك.
واسم الإشارة في قوله: ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا يعود إلى الرد إلى الكتاب والسنة وقوله تَأْوِيلًا من آل هذا الأمر إلى كذا أى رجع إليه، فيكون المعنى: ذلك الذي أمرتكم به من رد ما اختلفتم فيه إلى الكتاب والسنة خير لكم وأحمد مغبة، وأجمل عاقبة.
ويجوز أن يكون قوله تَأْوِيلًا بمعنى التفسير والتوضيح فيكون المعنى:
ذلك أى الرد إلى الكتاب والسنة خير لكم وأحسن تأويلا وتفسيرا من تأويلكم أنتم إياه، من غير رد إلى أصل من الكتاب والسنة. والأول أنسب لسياق الآية الكريمة.
قال ابن كثير: قوله فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ. الآية هذا أمر من الله- تعالى- بأن كل شيء تنازع فيه الناس من أصول الدين وفروعه، أن يردوا التنازع في ذلك إلى الكتاب والسنة كما قال- تعالى-: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ. فما حكم به القرآن والسنة وشهد له بالصحة فهو الحق. وماذا بعد الحق إلا الضلال. ولهذا قال- تعالى-: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. أى: ردوا الخصومات إلى كتاب الله وسنة رسوله فتحاكموا إليهما فيما شجر بينكم إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر. فدل على أن من لم يتحاكم في محل النزاع إلى الكتاب والسنة، ولا يرجع إليهما في ذلك، فليس مؤمنا بالله ولا باليوم الآخر «١».
وقال بعض العلماء: قد يؤخذ من الآية التي معنا أن أدلة الأحكام الشرعية أربعة. وهي:
الكتاب والسنة والإجماع والقياس.. لأن الأحكام إما منصوصة في الكتاب أو السنة وذلك قوله: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ. وإما مجمع عليها من أولى الأمر بعد استنادهم إلى دليل علموه. وذلك قوله وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ وإما غير منصوصة ولا مجمع عليها. وهذه سبيلها الاجتهاد والرد إلى الله والرسول وذلك هو القياس.
فما أثبته الفقهاء والأصوليون غير هذه الأربعة كالاستحسان الذي يراه الأحناف دليلا.
وإثبات الأحكام الشرعية تمشيا مع المصالح المرسلة الذي يقول به المالكية، والاستصحاب الذي يقول به الشافعية، كل ذلك إن كان غير هذه الأربعة فمردود بظاهر هذه الآية، وإن كان راجعا إليها فقد ثبت أن الأدلة أربعة «٢».
(١) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٥١٨.
(٢) تفسير آيات الأحكام ج ٣ ص ١١٩. للشيخ محمد السائس.
193
ثم انتقل القرآن بعد ذلك إلى الحديث عن المنافقين فكشف عن أحوالهم الذميمة، وطباعهم القبيحة، ونفوسهم المريضة، وحذر المؤمنين من مكرهم وكذبهم، بعد أن حذرهم قبل ذلك من مكر اليهود وأمرهم بالاعتصام بطاعة الله ورسوله. استمع إلى القرآن الكريم وهو يكشف النقاب عن حال هؤلاء المنافقين فيقول:
[سورة النساء (٤) : الآيات ٦٠ الى ٦٨]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (٦٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (٦١) فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (٦٢) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (٦٣) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (٦٤)
فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٦٥) وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (٦٦) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (٦٧) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٦٨)
194
روى المفسرون في سبب نزول قوله- تعالى- أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ.. إلخ روايات متقاربة في معناها ومن ذلك ما أخرجه الثعلبي وابن أبى حاتم من طرق عن ابن عباس أن رجلا من المنافقين يقال له بشر خاصم يهوديا، فدعاه اليهودي إلى التحاكم إلى النبي ﷺ ودعاه المنافق إلى التحاكم إلى كعب بن الأشرف: ثم إنهما احتكما إلى النبي ﷺ فقضى لليهودي، فلم يرض المنافق. وقال: تعالى نتحاكم إلى عمر بن الخطاب.
فقال اليهودي لعمر: قضى لنا رسول الله ﷺ فلم يرض بقضائه. فقال عمر للمنافق:
أكذلك؟ قال: نعم. فقال عمر: مكانكما حتى أخرج إليكما. فدخل عمر فاشتمل على سيفه ثم خرج فضرب عنق المنافق حتى برد- أى مات-. ثم قال: هكذا أقضى لمن لم يرض بقضاء الله- تعالى- وقضاء رسوله ﷺ فنزلت» «١».
والاستفهام في قوله أَلَمْ تَرَ للتعجيب من حال أولئك المنافقين، وإنكار ما هم عليه من خلق ذميم وإعراض عن حكم الله ورسوله إلى حكم غيرهما.
وقوله يَزْعُمُونَ من الزعم ويستعمل غالبا في القول الذي لا تحقق معه، كما يستعمل- أيضا- في الكذب ومنه قوله- تعالى-: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا: هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ أى بكذبهم.
وقد يطلق الزعم على القول الحق.
قال الآلوسى: وقد أكثر سيبويه في «الكتاب» من قوله: زعم الخليل كذا- في أشياء يرتضيها.
والمراد بالزعم هنا الكذب لأن الآية الكريمة في المنافقين الذين يظهرون خلاف ما يبطنون.
والمعنى: ألم ينته علمك يا محمد إلى حال هؤلاء المنافقين الذين يزعمون كذبا وزورا أنهم
(١) تفسير الآلوسى ج ٥ ص ٦٧.
195
آمنوا بما أنزل إليك من ربك من قرآن كريم، ومن شريعة عادلة، ويزعمون كذلك أنهم آمنوا بما أنزل على الرسل من قبلك من كتب سماوية؟ إن كنت لم تعلم حالهم أو لم تنظر إليهم فهاك خبرهم لتحذرهم ولتحذر أمتك من شرورهم.
فالمقصود من الاستفهام التعجيب من حال هؤلاء المنافقين، وحض النبي ﷺ وأمته على معرفة مسالكهم الخبيثة، حتى يأخذوا حذرهم منهم.
وفي وصفهم بادعاء الإيمان بما أنزل على الرسول وبما أنزل على الرسل من قبله تأكيد للتعجيب من أحوالهم، وتشديد للتوبيخ والتقبيح من سلوكهم ببيان كمال المباينة بين دعواهم المقتضية حتما للتحاكم إلى الرسول ﷺ وبين ما صدر عنهم من هرولة إلى التحاكم إلى غيره.
وقوله: يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ بيان لموطن التعجيب من أحوالهم الغريبة، وصفاتهم السيئة.
والمراد بالطاغوت هنا: ما سوى شريعة الإسلام من أحكام باطلة بعيدة عن الحق يأخذها المنافقون عمن يعظمونهم وقيل المراد به: كعب بن الأشرف لأنه هو الذي أراد المنافقون التحاكم إليه، وقد سماه الله بذلك لكثرة طغيانه وعداوته للرسول صلى الله عليه وسلم.
والمعنى: أن هؤلاء المنافقين يزعمون الإيمان بما أنزل إليك- يا محمد- وبما أنزل من قبلك، ومع هذا فهم يريدون- عن محبة واقتناع- التحاكم إلى الطاغوت أى إلى من يعظمونه، ويصدرون عن قوله، ويرضون بحكمه من دون حكم الله.
وقوله وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ جملة حالية من ضمير يريدون.
أى: يريدون التحاكم إلى الطاغوت والحال أن الله- تعالى- قد أمرهم بالكفر به، وبالانقياد للأحكام التي يحكم بها النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً معطوف على قوله يُرِيدُونَ وداخل في حكم التعجيب، لأن اتباعهم لمن يريد إضلالهم، وإعراضهم عمن يريد هدايتهم أمر يدعو إلى العجب الشديد.
والمراد بالضلال البعيد: الكفر والبعد عن الحق والهدى.
ووصفه بالبعد للمبالغة في شناعة ضلالهم، بتنزيله على سبيل المجاز منزلة جنس ذي مسافة كان هذا الفرد منه بالغا غاية المسافة.
قال ابن كثير: هذه الآية إنكار من الله- تعالى- على من يدعى الإيمان بما أنزل الله على رسوله وعلى الأنبياء السابقين. وهو مع ذلك، يريد أن يتحاكم في فصل الخصومات إلى غير
196
كتاب الله، وسنة رسوله.
كما ذكر في سبب نزول هذه الآية أنها في رجل من الأنصار ورجل من اليهود تخاصما. فجعل اليهودي يقول: بيني وبينك محمد. وذاك يقول: بيني وبينك كعب بن الأشرف. وقيل: في جماعة من المنافقين ممن أظهروا الإسلام أرادوا أن يتحاكموا إلى حكام الجاهلية. وقيل غير ذلك. والآية أعم من ذلك كله، فإنها ذامة لكل من عدل عن الكتاب والسنة وتحاكم إلى ما سواهما من الباطل. وهو المراد بالطاغوت هنا «١».
ثم صور- سبحانه- إعراضهم عن الحق، ونفورهم عن شريعة الله- تعالى- فقال:
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً.
أى: وإذا قيل لهؤلاء المنافقين أقبلوا على حكم الله وحكم رسوله، فإن الخير كل الخير فيما شرعه الله وقضاه، إذا ما قيل لهم ذلك رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك، رأيتهم لسوء نواياهم، ولؤم طواياهم يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً أى يعرضون عنك- يا محمد- إعراضا شديدا.
وقوله تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ إغراء لهم بتقبل الحق، وحض لهم على الامتثال لشريعة الله لأنها هي الشريعة التي فيها سعادتهم، ولكنهم لمرض قلوبهم ينفرون من الحكم المنزل من السماء إلى حكم الطاغوت الباطل.
وقال- سبحانه- رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ ولم يقل رأيتهم بالإضمار لتسجيل النفاق عليهم، وذمهم به، وللإشعار بعلة الحكم أى: رأيتهم لنفاقهم يصدون عنك صدودا.
وقوله صُدُوداً مصدر مؤكد بفعله أى: يعرضون عنك إعراضا تاما بحيث لا يريدون أن يسمعوا منك شيئا، لأن حكمك لا يناسب أهواءهم.
فذكر المصدر هنا للتأكيد والمبالغة فكأنه قيل: صدودا أى صدود.
فأنت ترى أن الآية الكريمة قد ذكرت علامة جلية من علامات المنافقين حتى يأخذ المؤمنون حذرهم منهم، وهي أنهم إذا ما دعوا إلى حكم الله الذي يزعمون أنهم آمنوا به، أعرضوا عن هذا الحكم إعراضا شديدا، وظهر بذلك كذبهم ونفاقهم.
ثم يعرض القرآن بعد ذلك مظهرا آخر من مظاهر نفاقهم عند الشدائد والمحن فيقول:
فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ، ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ، إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً.
والفاء في قوله فَكَيْفَ للتفريع. و «كيف» في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف.
(١) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٥١٩. [.....]
197
والمعنى: فكيف يكون حالهم إذا نزلت بهم النوازل، وأصابتهم المصائب بسبب تركهم حكم الله، واتباعهم حكم الطغيان ثُمَّ جاؤُكَ معتذرين عما حدث منهم من قبائح، والحال أنهم يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ كذبا وزورا إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً أى ما أردنا بالتحاكم إلى غيرك- يا محمد- إلا إحسانا إلى المتخاصمين، وتوفيقا بينهم حتى لا يتسع الخلاف بينهم، ولم نرد بذلك عدم الرضا بحكمك، فلا تؤاخذنا بما فعلنا.
والاستفهام بكيف هنا للتهويل. أى أن حالهم عند ما تصيبهم المصائب بسبب أفعالهم الخبيثة، ويأتون للرسول ﷺ معتذرين، ستكون حالا بائسة شنيعة مخزية: لأنهم لا يجدون وجها مقبولا للدفاع عما ارتكبوه من قبائح.
والباء في بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ للسببية. والمراد بما قدمت أيديهم ما اجترحوه من سيئات من أشدها تحاكمهم إلى الطاغوت. وعبر عن ذلك بقوله: بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ: لأن الأيدى مظهر من مظاهر الإنسان.
والتعبير ب «ثم» في هذا المقام للإشعار بالتباين الشديد بين إعراضهم وصدودهم إذا ما قال لهم قائل: تعالوا إلى حكم الله... وبين إقبالهم بعد ذلك معتذرين ومقسمين بالأيمان الكاذبة أنهم ما أرادوا بما فعلوا إلا الإحسان والتوفيق.
وإن ما قاله هؤلاء المنافقون من أعذار بعد أن أصابتهم المصائب. وانكشف أمرهم بين المؤمنين، وصاروا محل الازدراء والنبذ لتحاكمهم إلى الطاغوت. ما قاله هؤلاء- كما حكاه القرآن الكريم- ليشبهه ما يقوله منافقو اليوم عند ما يتهربون من التحاكم إلى شريعة الله إلى التحاكم إلى غيرها من شرائع الناس. فأنت تراهم إذا ما أحيط بهم، وعجزوا عن الدفاع عن أنفسهم، اعتذروا بأنهم ما تركوا الحكم بشريعة الله إلى غيرها إلا بقصد الإحسان إلى المتنازعين، والتوفيق بين مختلف الطوائف في المجتمع حتى لا يغضب من ليسوا مسلمين.
ولا شك أن هذه الأعذار لن تغنى عنهم من عذاب الله شيئا، لأنه لا عذر لمن يهجر شريعة الله، ويهرع إلى التحاكم إلى غيرها.
ثم بين- سبحانه- أنه ليس غافلا عن أعمال أولئك المنافقين، وأرشد نبيه ﷺ إلى وسائل معالجتهم فقال- تعالى-: أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ، فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ، وَعِظْهُمْ، وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً.
أى: أولئك الذين نافقوا، وأخفوا حقيقة نواياهم السيئة، وتركوا حكم الله إلى حكم الطاغوت... أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ من النفاق والميل إلى الكفر، وإن أظهروا إسلامهم.
198
وقوله فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ.. إلخ بيان لطرق معالجتهم.
أى: فلا تلتفت إليهم، وغض الطرف عن مسالكهم الخبيثة، ولا تقبل عليهم، لكي يشعروا باستنكارك لأعمالهم.
وقوله وَعِظْهُمْ: الوعظ هو التذكير بفعل الخير وترك الشر بأسلوب يرقق القلوب، ويشتمل على الترغيب والترهيب.
أى: ذكرهم بما في أعمالهم القبيحة من سوء العاقبة لهم، وبما في تركها من خير جزيل يعود عليهم في دنياهم وآخرتهم، وأخبرهم بأن تحاكمهم إلى غير شريعة الله سيكون فيه هلاكهم.
وقوله وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً أى قل لهم بعد ذلك قولا يبلغ أعماق نفوسهم لقوته وشدة تأثيره. بأن تورد لهم ما تريد أن تخاطبهم به بطريقة تجعلهم يقبلون على قولك.
وفي هذه الجملة الكريمة ما فيها من التعبير البليغ المؤثر، حتى لكأنما القول الذي يقوله الرسول ﷺ لهم: يودع مباشرة في الأنفس، ويستقر رأسا في القلوب.
وقد وضح هذا المعنى صاحب الكشاف فقال: فإن قلت: بم تعلق قوله: فِي أَنْفُسِهِمْ قلت: بقوله بَلِيغاً أى: قل لهم قولا بليغا في أنفسهم مؤثرا في قلوبهم يغتمون به اغتماما، ويستشعرون منه الخوف استشعارا، وهو التوعد بالقتل والاستئصال إن نجم منهم النفاق، وأطلع قرنه، وأخبرهم أن ما في نفوسهم من الدغل والنفاق معلوم عند الله، وأنه لا فرق بينكم وبين المشركين. وما هذه المكانة إلا لإظهاركم الإيمان وإسراركم الكفر وإضماره. فإن فعلتم ما تكشفون به غطاءكم لم يبق إلا السيف.
أو يتعلق بقوله قُلْ لَهُمْ. أى: قل لهم في أنفسهم الخبيثة وقلوبهم المطوية على النفاق قولا بليغا. وإن الله يعلم ما في قلوبكم. لا يخفى عليه. فلا يغنى عنكم إبطانه.
فأصلحوا أنفسكم وطهروا قلوبكم وداووها من مرض النفاق. وإلا أنزل الله بكم ما أنزل بالمجاهرين بالشرك من انتقامه، وشرا من ذلك وأغلظ، أو قل لهم في أنفسهم خاليا بهم، ليس معهم غيرهم. قولا بليغا يبلغ منهم، ويؤثر فيهم «١».
فأنت ترى أن الآية الكريمة قد أرشدت النبي ﷺ إلى استعمال ثلاثة طرق لصرف المنافقين عن أفعالهم القبيحة. وهذه الطرق هي الإعراض عنهم، ووعظهم بما يرغبهم في الخير ويرهبهم من الشر، ومخاطبتهم بالقول البليغ المؤثر الذي يحرك نفوسهم تحريكا قويا، ويجعلهم يقبلون عليه.
(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٥٢٧.
199
وهذه الطرق هي أسمى ألوان الدعوة إلى الله، وأنجع الأساليب في جلب الناس إلى ما يأخذ بيدهم إلى الخير والفلاح.
ثم بين- سبحانه- أنه ما أرسل رسله إلا ليطاعوا لا ليخالفوا، وأرشد المخالفين إلى ما يجب عليهم فعله للتكفير عن مخالفتهم فقال تعالى:
وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ. وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ، لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً.
ومِنْ في قوله مِنْ رَسُولٍ زائدة للتأكيد والتعميم، واللام في قوله لِيُطاعَ للتعليل، والاستثناء مفرغ من المفعول لأجله.
أى: وما أرسلنا رسولا من الرسل لشيء من الأشياء إلا ليطاع فيما أمر ونهى وحكم، لا ليطلب ذلك من غيره. فطاعته فرض على من أرسل إليهم. وإنكار فرضيتها كفر.
لأن طاعة الرسول طاعة لله، ومعصيته معصية لله. قال- تعالى-: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ.
وقوله بِإِذْنِ اللَّهِ أى: بسبب إذنه- سبحانه- في طاعة رسوله. لأنه هو الذي أمر بهذه الطاعة لرسله.
ويجوز أن يراد بقوله بِإِذْنِ اللَّهِ أى بتوفيقه- سبحانه- إلى هذه الطاعة من يشاء توفيقه إليها من عباده.
وقوله وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ.. إلخ بيان لما كان يجب عليهم أن يفعلوه بعد وقوعهم في الخطأ.
أى ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم بسبب تحاكمهم إلى الطاغوت، وبخروجهم عن تعاليم الإسلام، لو أنهم بسبب ذلك وغيره جاؤُكَ تائبين توبة صادقة من هذا النفاق فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ مما اجترحوه من ذنوب وسيئات وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ.
أى. دعوا الله- تعالى- بأن يقبل توبتهم، ويغفر ذنوبهم. لو أنهم فعلوا ذلك لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً أى كثير القبول للتوبة من التائبين رَحِيماً أى كثير التفضل على عباده بالرحمة والمغفرة.
قال الفخر الرازي: لقائل أن يقول: أليس لو استغفروا الله وتابوا على وجه صحيح، كانت توبتهم مقبولة؟ فما الفائدة في ضم استغفار الرسول إلى استغفارهم؟
قلنا: الجواب عنه من وجوه:
الأول: أن ذلك التحاكم إلى الطاغوت كان مخالفة لحكم الله.
200
وكان أيضا إساءة إلى الرسول ﷺ ومن كان ذنبه كذلك وجب عليه الاعتذار عن ذلك الذنب لغيره. فلهذا المعنى وجب عليهم أن يطلبوا من الرسول أن يستغفر لهم.
الثاني: أن القوم لما لم يرضوا بحكم الرسول، ظهر منهم ذلك التمرد. فإذا تابوا وجب عليهم أن يفعلوا ما يزيل عنهم ذلك التمرد، وما ذاك إلا بأن يذهبوا إلى الرسول ﷺ ويطلبوا منه الاستغفار.
الثالث: لعلهم إذا أتوا بالتوبة أتوا بها على وجه الخلل، فإذا انضم إليها استغفار الرسول صارت مستحقة للقبول.
ثم قال: وإنما قال- سبحانه- وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ. ولم يقل واستغفرت لهم: إجلالا للرسول صلى الله عليه وسلم. وأنهم إذا جاءوا من خصه الله برسالته، وأكرمه بوحيه، وجعله سفيرا بينه وبين خلقه، ومن كان كذلك فإن الله لا يرد شفاعته، فكانت الفائدة في العدول عن لفظ الخطاب إلى لفظ المغايبة «١».
فالآية الكريمة قد فتحت باب التوبة أمام العصاة والمذنبين، وسمت بمكانة الرسول ﷺ عند ربه سموا عظيما.
ورحم الله ابن كثير فقد قال عند تفسيره لهذه الآية: وقوله: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ. الآية. يرشد- تعالى- العصاة والمذنبين إذا وقع منهم الخطأ والعصيان أن يأتوا إلى الرسول ﷺ فيستغفروا الله عنده، ويسألوه أن يستغفر لهم، فإنهم إذا فعلوا ذلك تاب الله عليهم ورحمهم وغفر لهم ولهذا قال: لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً.
وقد جاء عن الإمام العتبى أنه قال: كنت جالسا عند قبر النبي ﷺ فجاء أعرابى فقال:
السلام عليك يا رسول الله!! سمعت الله يقول: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ.
الآية: وقد جئتك مستغفرا لذنبي، مستشفعا بك عند ربي. ثم أنشأ يقول:
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
قال العتبى: ثم انصرف الأعرابى، فرأيت النبي ﷺ في النوم فقال «يا عتبى الحق الأعرابى فبشره أن الله قد غفر له» «٢».
ثم بين- سبحانه- أن كل من يدعى الإيمان لا يكون إيمانه صادقا إلا إذا تقبل حكم
(١) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٥١٩.
(٢) تفسير الفخر الرازي ج ١٠ ص ١٦٢.
201
رسول الله ﷺ عن إذعان واقتناع فقال: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً.
والفاء في قوله فَلا للإفصاح عن شرط مقدر.
ولا يرى الزمخشري أنها زائدة لتقوية الكلام وتأكيد معنى القسم، فهي كقوله- تعالى-: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ «١».
ويرى ابن جرير أنها ليست زائدة، وإنما هي رد على ما تقدم ذكره من تحاكمهم إلى الطاغوت وتركهم حكم شريعة الإسلام فقد قال:
«يعنى- جل ثناؤه- بقوله فلا: أى فليس الأمر كما يزعمون أنهم يؤمنون بما أنزل إليك وهم يتحاكمون إلى الطاغوت، ويصدون عنك إذا دعوا إليك يا محمد. ثم استأنف القسم- جل ذكره- فقال: وربك يا محمد لا يؤمنون أى: لا يصدقون بي وبك حتى يحكموك فيما شجر بينهم» «٢».
وقوله فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ أى فيما اختلف بينهم من الأمور والتبس.
يقال: شجر بينهم الأمر يشجر شجرا وشجورا إذا تنازعوا فيه. وأصله التداخل والاختلاط. ومنه شجر الكلام، إذا دخل بعضه في بعض واختلط. ومنه الشجر: لتداخل أغصانه.
وقيل للمنازعة تشاجر، لأن المتنازعين تختلف أقوالهم، وتتعارض دعاويهم، ويختلط بعضهم ببعض.
وقوله حَرَجاً أى ضيقا وشكا، وأصل الحرج مجتمع الشيء، ويقال للشجر الملتف الذي لا يكاد يوصل إليه حرج. ثم أطلق على ضيق الصدر لكراهته لشيء معين.
والمعنى: إذا ثبت ما أخبرناك به يا محمد قبل ذلك، فإن هؤلاء المنافقين وحق ربك «لا يؤمنون» إيمانا حقا يقبله الله- تعالى- حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ أى: حتى يجعلوك حاكما بينهم، ويلجئوا إليك فيما اختلفوا فيه من أمور، والتبس عليهم منها. ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ بعد ذلك حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ أى ضيقا وشكا في قضائك بينهم وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً أى: ويخضعوا لحكمك خضوعا تاما لا إباء معه ولا ارتياب.
وفي إضافة الاسم الجليل إلى النبي ﷺ في قوله- سبحانه- وَرَبِّكَ تكريم للنبي ﷺ وتشريف له، وتنويه بمكانته.
(١) سورة الحجر آية ٩٢، ٩٣.
(٢) تفسير ابن جرير ج ٥ ص ١٥٨.
202
وقوله لا يُؤْمِنُونَ هو جواب القسم.
وقوله ثُمَّ لا يَجِدُوا معطوف على مقدر ينساق إليه الكلام. أى: حتى يحكموك فيما شجر بينهم فتحكم بينهم ثم لا يجدوا.
وقوله تَسْلِيماً تأكيد للفعل. بمنزلة تكريره. أى تسليما تاما بظاهرهم وباطنهم من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة فقد روى الحافظ أبو نعيم والطبراني عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله ﷺ قال: «والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به».
هذا، وقد روى المفسرون في سبب نزول هذه الآية روايات منها ما رواه البخاري عن الزهري عن عروة قال: خاصم الزبير رجلا من الأنصار في شراج الحرة- أى في مسيل مياه-.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك. فقال الأنصارى: يا رسول الله!! أن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه النبي ﷺ ثم قال: اسق يا زبير. ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر- والجدر هو ما يدار بالنخل من تراب كالجدار-. ثم أرسل الماء إلى جارك.
قال الزبير: فما أحسب هذه الآية إلا نزلت في ذلك فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ «١».
وهذا السبب الخاص في نزول الآية الكريمة لا يمنع عمومها في وجوب التحاكم إلى رسول الله ﷺ في حياته، وإلى الشريعة التي أتى بها بعد وفاته، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما يرى جمهور العلماء.
ويبدو أن ما ذكرناه سابقا من تحاكم بعض المنافقين إلى غير رسول الله ﷺ وما جاء في البخاري من تخاصم الزبير مع الرجل الأنصارى يبدو أن هذه الحوادث قد حدثت في زمن متقارب فنزلت الآيات لبيان وجوب التحاكم إلى شريعه الله دون سواها.
والمتأمل في الآية الكريمة يراها قد بينت أن المؤمن لا يكون إيمانه تاما إلا إذا توفرت فيه صفات ثلاث:
أولها: أن يتحاكم إلى رسول الله ﷺ في حياته، وإلى شريعته بعد وفاته.
وثانيها: أن يتقبل حكم الشريعة الإسلامية التي جاء بها النبي ﷺ برضا وطيب خاطر، وأن يوقن إيقانا تاما بأن ما يقضى به هو الحق والعدل. قال- تعالى-: ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ
(١) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٥٢٠.
203
وثالثها: أن يذعن لأحكام شريعة الله إذعانا تاما في مظهره وحسه. قال- تعالى- وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً. أى يخضعوا خضوعا تاما.
فقوله- تعالى- ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ يمثل الانقياد الباطني والنفسي.
وقوله- تعالى- وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً يمثل الانقياد الظاهري والحسى.
وهكذا نرى الآية الكريمة تحذر المؤمنين من التحاكم إلى غير شريعة الله بأسلوب يبعث في النفوس الوجل والخشية، ويحملهم على الإذعان لأحكام الله- تعالى-.
ثم بين- سبحانه- بعض مظاهر فضله على الناس، ورحمته بهم. فقال- تعالى-:
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ، ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ، وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ، لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً.
والمراد بقوله كَتَبْنا: فرضنا وأوجبنا.
والمراد (بقتل النفس) تعريضها للهلاك من غير أمل في النجاة، وقيل: المراد به تعريضها للقتل عن طريق الجهاد.
والمراد بالخروج من الديار: الهجرة في سبيل الله، والخروج من الأوطان إلى أماكن فيها استجابة لأمر الله.
قال الفخر الرازي: الضمير في قوله وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فيه قولان:
الأول: وهو قول ابن عباس ومجاهد- أنه عائد إلى المنافقين، وذلك لأنه- تعالى- كتب على بنى إسرائيل أن يقتلوا أنفسهم، وكتب على المهاجرين أن يخرجوا من ديارهم. فقال- تعالى-: ولو أنا كتبنا القتل والخروج عن الوطن على هؤلاء المنافقين ما فعله إلا قليل منهم رياء وسمعة، وحينئذ يصعب الأمر عليهم، وينكشف كفرهم، فإذا لم نفعل ذلك بل كلفناهم بالأشياء السهلة، فليتركوا النفاق، وليقبلوا الإيمان على سبيل الإخلاص. وهذا القول اختيار أبى بكر الأصم والقفال.
الثاني: أن المراد لو كتب الله على الناس ما ذكر لم يفعله إلا قليل منهم، فلما لم يفعل- سبحانه- ذلك رحمة بعباده، بل اكتفى بتكليفهم بالأمور السهلة، فعليهم أن يقبلوا عليها بإخلاص حتى ينالوا خير الدارين.
وعلى هذا التقدير دخل تحت هذا الكلام المؤمن والمنافق. وأما الضمير في قوله وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ فهو مختص بالمنافقين، ولا يبعد أن يكون أول الآية عاما وآخرها خاصا.
204
وعلى هذا التقدير يجب أن يكون المراد بالقليل المؤمنين» «١».
وعلى كلا التقديرين: فإن الآية الكريمة تدل على أن الله- تعالى- لم يكلف هذه الأمة إلا بما تستطيعه، لأنه- سبحانه- لو كلف الناس جميعا بالتكاليف الشاقة، لما استطاع أن يقوم بها إلا عدد قليل منهم، وهذا الدين لم يجئ لهذا العدد القليل من الناس وإنما جاء للناس جميعا.
والمراد: أننا لم نكتب على الناس قتل أنفسهم أو خروجهم من ديارهم لأننا لو فعلنا ذلك لما استطاعه إلا عدد قليل منهم. وإنما الذي كتبناه عليهم هو طاعة الرسول ﷺ والخضوع لحكمه في الظاهر والباطن والاستجابة لتوجيهاته في السر والعلن.
فالمقصود من الآية الكريمة بيان لمظهر من مظاهر فضل الله على هذه الأمة، ورحمته بها، وتحريض الناس على الامتثال لشريعة الله- تعالى- والضمير في قوله ما فَعَلُوهُ للمكتوب عليهم الشامل للقتل والخروج من الديار. لدلالة قوله كَتَبْنا عليه.
وقوله «قليل» مرفوع على أنه بدل من الواو في قوله فَعَلُوهُ والتقدير: ما فعله أحد إلا قليل منهم. وقرأه ابن عامر بالنصب على الاستثناء. والأول أولى، لأنه استثناء من كلام تام غير موجب فيترجح الرفع.
قال ابن كثير: لما نزلت وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ.. الآية. قال رجل: لو أمرنا لفعلنا، والحمد لله الذي عافانا. فبلغ ذلك النبي ﷺ فقال: «إن من أمتى رجالا، الإيمان أثبت في قلوبهم من الرواسي» وعن عامر بن عبد الله بن الزبير أن هذه الآية لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو نزلت لكان ابن أم عبد منهم» - أى: لو فرض ذلك لكان عبد الله بن مسعود من الذين يفعلونه.
وعن شريح بن عبيد قال: لما تلا رسول الله ﷺ هذه الآية، أشار بيده إلى عبد الله بن رواحة فقال: «لو أن الله كتب ذلك، لكان هذا من أولئك القليل» «٢».
وقوله: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً بيان للنتائج الطيبة التي تترتب على امتثالهم لأمر الله.
أى: ولو ثبت أن هؤلاء الذين أمرناهم بطاعتنا فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ أى: ما أمرناهم به من اتباع لرسولنا ﷺ وانقياد لحكمه، لأنه الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى...
(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٠ ص ١٦٧- بتصرف يسير.
(٢) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٥٢٢.
205
لو ثبت أنهم فعلوا ذلك لكان ما فعلوه خَيْراً لَهُمْ في دنياهم وآخرتهم. ولكان أَشَدَّ تَثْبِيتاً لهم على الحق والصواب، وأمنع لهم من الضلال.
ثم بين- سبحانه- ما لهم بعد ذلك من أجر عظيم فقال: وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً. وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً.
أى: وإذا لو ثبتوا على طاعتنا لأعطيناهم من عندنا ثوابا عظيما لا يعرف مقداره إلا الله- تعالى- ولتقبلناهم وأرشدناهم إلى سلوك الطريق المستقيم وهو طريق الإسلام الذي باتباعه يسعدون في دنياهم وآخرتهم.
قال صاحب الكشاف: وقوله «وإذا» جواب لسؤال مقدر، كأنه قيل: وماذا يكون لهم أيضا بعد التثبيت؟ فقيل: وإذا لو ثبتوا لَآتَيْناهُمْ لأن إذا جواب وجزاء «١».
وقد فخم- سبحانه- هذا العطاء بعدة أمور منها: أنه ذكر- سبحانه- نفسه بصيغة العظمة لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا وَلَهَدَيْناهُمْ والمعطى الكريم إذا ذكر نفسه باللفظ الدال على العظمة عند الوعد بالعطية، دل ذلك على عظمة تلك العطية.
ومنها: أن قوله مِنْ لَدُنَّا يدل على التخصيص أى: لآتيناهم من عندنا وحدنا لا من عند غيرنا. وهذا التخصيص يدل على المبالغة والتشريف، لأنه عطاء من واهب النعم وممن له الخلق والأمر كما في قوله- تعالى- وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً.
ومنها: أنه- سبحانه- وصف هذا الأجر المعطى بالعظمة بعد أن جاء به منكرا، وهذا الأسلوب يدل على أن هذا العطاء غير محدود بحدود، وأنه قد بلغ أقصى ما يتصوره العقل من جلال في كمه وفي كيفه. ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
هذا، وبذلك ترى أن الآيات الكريمة- من قوله- تعالى- أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ. إلى هنا- قد بينت ما عليه المنافقون من فسوق وعصيان، وحكت معاذيرهم الكاذبة، وصورت نفورهم من حكم الله تصويرا بليغا، وكشفت عن أحوالهم ورذائلهم بأسلوب يدعو العقلاء إلى احتقارهم وهجرهم، وأرشدت إلى أنجع الوسائل لعلاجهم وفتحت لهم باب التوبة حتى يثوبوا إلى رشدهم، ويطهروا نفوسهم من السوء والفحشاء، ووضحت جانبا من مظاهر اليسر والتخفيف التي تفضل بها- سبحانه- على الأمة الإسلامية، ووعدت الذين يستجيبون لله ولرسوله بالثواب الجزيل، وتوعدت الذين يتركون حكم الله إلى حكم غيره بالعذاب الأليم، ووصفتهم بعدم الإيمان.
(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٥٣٠
206
وقد أفاض بعض المفسرين عند تفسيره لهذه الآيات في بيان سوء حال من يتحاكم إلى غير شريعة الله، وساقوا أمثلة متعددة لشدة تمسك السلف الصالح بهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن ذلك قول الفخر الرازي: قال القاضي: يجب أن يكون التحاكم إلى هذا الطاغوت كالكفر. وعدم الرضا بحكم محمد ﷺ كفر ويدل عليه وجوه:
الأول: أنه- تعالى- قال يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ.
فجعل التحاكم إلى الطاغوت إيمانا به. ولا شك أن الإيمان بالطاغوت كفر بالله. كما ان الكفر بالطاغوت إيمان بالله.
الثاني: قوله تعالى-: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ.. إلى قوله:
وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً. وهذا نص في تكفير من لم يرض بحكم الرسول صلى الله عليه وسلم.
الثالث: قوله- تعالى- فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وهذا يدل على أن مخالفته معصية عظيمة.
وفي هذه الآيات دلائل على أن من رد شيئا من أوامر الله أو أوامر رسول الله ﷺ فهو خارج عن الإسلام. سواء رده من جهة الشك أم من جهة التمرد. وذلك يوجب صحة ما ذهبت الصحابة إليه من الحكم بارتداد مانعي الزكاة وقتلهم وسبى ذراريهم «١».
وقال الشيخ جمال الدين القاسمى: قال ولى الله التبريزي. روى الإمام مسلم- بسنده- عن بلال بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: لا تمنعوا النساء حظوظهن من المساجد إذا استأذنكم: فقال بلال: والله لنمنعهن. فقال عبد الله: أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتقول أنت: لنمنعهن؟
وفي رواية سالم عن أبيه قال: فأقبل عليه عبد الله فسبه سبا ما سمعته سبه مثله قط. وقال:
أخبرك عن رسول الله، وتقول: والله لنمنعهن».
وفي رواية للإمام أحمد أنه ما كلمه حتى مات.
فأنت ترى أن ابن عمر- رضى الله عنه- لشدة تمسكه بسنة رسول الله ﷺ قد غضب لله ورسوله، وهجر فلذة كبده، لتلك الزلة.
وقال الإمام الشافعى: أخبرنا أبو حنيفة بن سماك بن الفضل الشهابى قال: حدثني ابن أبى ذئب عن المقبري عن أبى شريح الكعبي أن النبي ﷺ قال عام الفتح: «من قتل له قتيل فهو بخير النظرين. إن أحب أخذ العقل وإن أحب فله القود». قال أبو حنيفة: فقلت لابن
(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٠ ص ١٥٥
207
أبى ذئب: أتأخذ بهذا يا أبا الحارث؟ فضرب صدري وصاح على صياحا كثيرا ونال منى وقال:
أحدثك عن رسول الله ﷺ وتقول أتأخذ به؟ نعم. آخذ به. وذلك الفرض على وعلى من سمعه. إن الله- تعالى- قد اختار محمدا ﷺ من الناس فهداهم به وعلى يديه. واختار لهم ما اختار له وعلى لسانه. فعلى الخلق أن يتبعوه لا مخرج لمسلم. وما سكت حتى تمنيت أن يسكت.
وقال الإمام ابن القيم: والذي ندين الله به، ولا يسعنا غيره أن الحديث إذا صح عن رسول الله ﷺ ولم يصح عنه حديث آخر ينسخه، أن الفرض علينا وعلى الأمة الأخذ بحديثه وترك كل ما خالفه. ولا نتركه لخلاف أحد من الناس كائنا من كان. لا راويه ولا غيره. إذ من الممكن أن ينسى الراوي الحديث ولا يحضره وقت الفتيا. أولا يتفطن لدلالته على تلك المسألة. أو يتأول فيه تأويلا مرجوحا. أو يقوم في ظنه ما يعارضه ولا يكون معارضا في نفس الأمر. أو يقلد غيره في فتواه بخلافه لاعتقاده أنه أعلم منه، وأنه إنما خالفه لما هو أقوى منه...
فالله- تعالى- علق سعادة الدارين بمتابعته ﷺ وجعل شقاوة الدارين في مخالفته «١».
وهكذا نرى أن السلف الصالح كانوا يتمسكون بسنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أشد التمسك، ويهجرون كل من خالفها، ولم يقيد نفسه بها.
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك الثواب العظيم الذي أعده للطائعين من عباده فقال:
[سورة النساء (٤) : الآيات ٦٩ الى ٧٠]
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (٦٩) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً (٧٠)
(١) تفسير القاسمى ج ٥ من ص ١٣٦١ إلى ص ١٣٨٢ وراجعه ففيه نقول كثيرة جيدة في هذا المعنى.
208
روى المفسرون في سبب نزول هاتين الآيتين روايات منها ما أخرجه ابن جرير عن سعيد بن جبير قال: جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله ﷺ وهو محزون. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا فلان مالي أراك محزونا؟ فقال الرجل: يا نبي الله شيء فكرت فيه. فقال ما هو؟ قال: نحن نغدو عليك ونروح ننظر إلى وجهك ونجالسك. وغدا ترفع مع النبيين فلا نصل إليك. فلم يرد النبي ﷺ شيئا. فأتاه جبريل بهذه الآية. وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ.. إلخ.
قال: فبعث إليه النبي ﷺ فبشره» «١».
والمعنى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ بالانقياد لأمره ونهيه، ويطع الرَّسُولَ في كل ما جاء به من ربه «فأولئك» المطيعون مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بالنعم التي تقصر العبارات عن تفصيلها وبيانها.
وقوله: مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ بيان للمنعم عليهم الذين يكون المطيع في صحبتهم ورفقتهم.
أى: فأولئك المتصفون بتمام الطاعة لله- تعالى- ولرسوله صلى الله عليه وسلم، يكونون يوم القيامة في صحبة الأنبياء الذين أرسلهم الله مبشرين ومنذرين فبلغوا رسالته ونالوا منه- سبحانه- أشرف المنازل.
وبدأ- سبحانه- بالنبيين لعلو درجاتهم، وسمو منزلتهم على من عداهم من البشر.
وقوله وَالصِّدِّيقِينَ جمع صديق وهم الذين صدقوا بكل ما جاء به الرسول ﷺ تصديقا لا يخالجه شك، ولا تحوم حوله ريبة، وصدقوا في دفاعهم عن عقيدتهم وتمسكهم بها، وسارعوا إلى ما يرضى الله بدون تردد أو تباطؤ.
وقوله وَالشُّهَداءِ جمع شهيد. وهم الذين استشهدوا في سبيل الله، ومن أجل إعلاء دينه وشريعته.
وقوله وَالصَّالِحِينَ جمع صالح. وهم الذين صلحت نفوسهم، واستقامت قلوبهم وأدوا ما يجب عليهم نحو خالقهم ونحو أنفسهم ونحو غيرهم.
هؤلاء هم الأخيار الأطهار الذين يكون المطيعون لله ولرسوله في رفقتهم وصحبتهم.
قال الفخر الرازي:
«وليس المراد بكون من أطاع الله وأطاع الرسول مع النبيين والصديقين كون الكل في درجة واحدة، لأن هذا يقتضى التسوية في الدرجة بين الفاضل
(١) تفسير ابن جرير ج ٥ ص ١٣٣
209
والمفضول. وأنه لا يجوز. بل المراد كونهم في الجنة بحيث يتمكن كل واحد منهم من رؤية الأخر، وإن بعد المكان، لأن الحجاب إذا زال شاهد بعضهم بعضا: وإذا أرادوا الزيارة والتلاقي قدروا عليه. فهذا هو المراد من هذه المعية.
ثم قال: وقد دلت الآية على أنه لا مرتبة بعد النبوة في الفضل والعلم إلا هذا الوصف. وهو كون الإنسان صديقا ولذا أينما ذكر في القرآن الصديق والنبي لم يجعل بينهما واسطة كما قال- تعالى- في صفة إدريس إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا «١».
وقوله- تعالى وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً تذييل مقرر لما قبله مؤكد للترغيب في العمل الصالح الذي يوصل المسلم إلى صحبة هؤلاء الكرام.
وقوله حَسُنَ فعل مراد به المدح ملحق بنعم. ومضمن معنى التعجب من حسنهم.
واسم الإشارة أُولئِكَ يعود إلى كل صنف من هذه الأصناف الأربعة وهم النبيون ومن بعدهم.
والرفيق: هو المصاحب الذي يلازمك في عمل أو سفر أو غيرهما. وسمى رفيقا لأنك ترافقه ويرافقك ويستعين كل واحد منكما بصاحبه في قضاء شئونه. وهو مشتق من الرفق بمعنى لين الجانب، ولطف المعاشرة.
ولم يجمع، لأن صيغة فعيل يستوي فيها الواحد وغيره.
والمعنى وحسن كل واحد من أولئك الأخيار- وهم الأنبياء ومن بعدهم- رفيقا ومصاحبا في الجنة لأن رفقة كل واحد منهم تشرح الصدور، وتبهج النفوس.
والمخصوص بالمدح محذوف أى: وحسن كل واحد من المذكورين رفيقا أو وحسن المذكورون أو الممدوحون رفيقا، لأن حسن لها حكم نعم.
وقوله أُولئِكَ فاعل حسن. ورفيقا تمييز.
قال صاحب الكشاف وقوله وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً فيه معنى التعجب كأنه قيل:
وما أحسن أولئك رفيقا. ولاستقلاله بمعنى التعجب قرئ وحسن بسكون السين) «٢».
واسم الإشارة ذلِكَ في قوله ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ يعود إلى ما ثبت للمطيعين من أجر جزيل، ومزيد هداية، وحسن رفقة. وهو مبتدأ. وقوله الْفَضْلُ صفته، والجار والمجرور
(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٠ ص ١٧١.
(٢) تفسير الكشاف ج ١ ص ٥٣١ [.....]
210
متعلق بمحذوف خبره. أى: ذلك الفضل العظيم كائن من الله- تعالى- لا من غيره.
وقوله وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً تذييل قصد به الإشارة إلى أن أولئك الأخيار. الذين قدموا أحسن الأعمال، واستحقوا أفضل الجزاء، وإن لم يعلمهم الناس فإن الله- تعالى- يعلمهم، وقد كافأهم بما يستحقون.
أى: كفى به- سبحانه- عليما بمن يستحق فضله وعطاءه وبمن لا يستحق، فهو- سبحانه- الذي لا تخفى عليه خافية من شئون خلقه.
وفي هذه الجملة الكريمة حض للمسلم على التزود من العمل الصالح، لأنه- سبحانه- ما دام يعلم أحوال عباده وسيحاسبهم على أعمالهم، فجدير بالعاقل أن يرغب في الطاعة وأن ينفر من المعصية.
هذا، وقد وردت أحاديث كثيرة تشير إلى أن المؤمنين الصادقين سيكونون يوم القيامة مع أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
ومن هذه الأحاديث ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن ربيعة بن كعب الأسلمى أنه قال. كنت أبيت مع رسول الله ﷺ فأتيته بوضوئه وحاجته فقال لي. (سل) : فقلت أسألك مرافقتك في الجنة. فقال أو غير ذلك؟ قلت: هو ذاك. قال: فأعنى على نفسك بكثرة السجود.
ومنها ما رواه الإمام أحمد عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه أن رسول الله ﷺ قال: «من قرأ ألف آية في سبيل الله، كتب يوم القيامة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا».
ومنها ما رواه الترمذي عن أبى سعيد الخدري قال: قال رسول الله ﷺ «التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء» قال ابن كثير: وأعظم من هذا كله بشارة، ما ثبت في الصحيح والمسانيد وغيرهما من طرق متواترة عن جماعة من الصحابة أن رسول الله ﷺ سئل عن الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم؟
فقال «المرء مع من أحب».
قال أنس: فما فرح المسلمون فرحهم بهذا الحديث «١».
(١) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٥٢٣.
211
وبذلك نرى أن هاتين الآيتين الكريمتين قد بشرتا المطيعين لله ولرسوله بأحسن البشارات، وأرفع الدرجات.
ثم وجهت السورة الكريمة نداء إلى المؤمنين أمرتهم فيه بالاستعداد للجهاد في سبيل الله من أجل إعلاء كلمته، بعد أن أمرتهم قبل ذلك بطاعته وبطاعة رسوله ﷺ فقال- تعالى-:
[سورة النساء (٤) : الآيات ٧١ الى ٧٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (٧١) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (٧٢) وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (٧٣)
قال القرطبي: قوله- تعالى- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ هذا خطاب للمؤمنين المخلصين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأمر لهم بجهاد الكفار والخروج في سبيل الله، وحماية الشرع.
ووجه النظم والاتصال بما قبله أنه لما ذكر طاعة الله وطاعة رسوله أمر أهل الطاعة بالقيام بإحياء دينه وإعلاء دعوته. وأمرهم ألا يقتحموا على عدوهم حتى يتحسسوا إلى ما عندهم، ويعلموا كيف يردون عليهم، فذلك أثبت لهم فقال «خذوا حذركم» فعلمهم مباشرة الحروب.
ولا ينافي هذا التوكل بل هو عين التوكل.. «١».
والحذر والحذر بمعنى واحد كالإثر والأثر. يقال: أخذ فلان حذره، إذا تيقظ واحترز مما يخشاه ويخافه. فكأنه جعل الحذر آلته التي يقي بها نفسه ويعصم بها روحه. فالكلام على سبيل الكناية والتخيل. بتشبيه الحذر بالسلاح وآلة الوقاية.
(١) تفسير القرطبي ج ٥ ص ٢٧٣.
212
والمعنى: استعدوا- أيها المؤمنون- لأعدائكم، وكونوا على يقظة منهم، وكونوا متأهبين للقائهم دائما بالإيمان القوى، وبالسلاح الذي يفل سلاحهم.
هذا، وللأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده كلام حسن في هذا المعنى، فقد قال- رحمه الله- ما ملخصه: «الحذر: الاحتراس والاستعداد لاتقاء شر العدو، وذلك بأن نعرف حال العدو ومبلغ استعداده وقوته ومعرفة أرضه وبلاده وفي أمثال العرب (قتلت أرض جاهلها). ويدخل في الحذر والاستعداد معرفة الأسلحة وكيفية استعمالها فكل ذلك وغيره يدخل تحت الأمر بأخذ الحذر.
وقد كان النبي ﷺ وأصحابه عارفين بأرض عدوهم، وكان للنبي ﷺ جواسيس يأتونه بأخبار مكة، ولما أخبروه بنقض قريش للعهد استعد لفتحها، وقال أبو بكر لخالد يوم حرب اليمامة (حاربهم بمثل ما يحاربونك به: السيف بالسيف، والرمح بالرمح). وهذه كلمة جليلة فالقول وعمل النبي ﷺ وأصحابه، كل ذلك دال على أن الاستعداد يختلف باختلاف حال العدو وقوته»
«١».
فأنت ترى أن هذه الجملة الكريمة خُذُوا حِذْرَكُمْ دعوة للمؤمنين في كل زمان ومكان إلى حسن الاستعداد لمجابهة أعدائهم بشتى الأساليب وبمختلف الوسائل التي تجعل الأمة الإسلامية يرهبها أعداؤها سواء أكانوا في داخلها أم في خارجها.
وقوله فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً تفريع على أخذ الحذر لأنهم إذا أخذوا حذرهم، عرفوا كيف يتخيرون أسلوب القتال المناسب لحال أعدائهم وقوله فَانْفِرُوا من النفر وهو الخروج إلى عمل من الأعمال بسرعة. ومنه قوله- تعالى- وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ «٢».
والمراد بقوله فَانْفِرُوا هنا: أى اخرجوا إلى قتال أعدائكم بهمة ونشاط.
ويقال: نفر القوم ينفرون نفرا ونفيرا إذا نهضوا لقتال عدوهم. واستنفر الإمام الناس إذا حضهم على جهاد أعدائهم ومنه قوله ﷺ (وإذا استنفرتم فانفروا). والنفير. اسم للقوم الذين ينفرون.
وقوله ثُباتٍ جمع ثبة وهي الجماعة والعصبة من الفرسان. مأخوذة من ثبا يثبو أى اجتمع.
(١) تفسير المنار ج ٥ ص ٢٥٠
(٢) سورة التوبة آية ١٢٢
213
والمعنى. عليكم- أيها المؤمنون- أن تكونوا دائما على استعداد للقاء أعدائكم، ولا تغفلوا عن كيدهم. فإذا ما حان الوقت لقتالهم فاخرجوا إليهم مسرعين جماعة في إثر جماعة أو فاخرجوا إليهم مجتمعين في جيش واحد، فإن قتالكم لأعدائكم أحيانا يتطلب خروجكم فرقة بعد فرقة، وأحيانا يتطلب خروجكم مجتمعين، فاسلكوا في قتالكم لأعدائكم الطريقة المناسبة لدحرهم والتغلب عليهم.
وقوله ثُباتٍ منصوب على الحال من الضمير في قوله انْفِرُوا وكذلك قوله جَمِيعاً أى انفروا متفرقين أو انفروا مجتمعين أى، ليكن نفوركم على حسب ما تقتضيه طبيعة المعركة.
قال الآلوسى: قوله أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً أى مجتمعين جماعة واحدة. ويسمى الجيش إذا اجتمع ولم ينتشر كتيبة. وللقطعة المنتخبة المقتطعة منه سرية وهي من خمسة أنفس إلى ثلاثمائة أو أربعمائة. وما زاد على السرية فمنسر- كمجلس ومنبر- إلى الثمانمائة. فإن زاد يقال له جيش إلى أربعة آلاف.
فإن زاد يسمى جحفلا. فإن زاد يسمى خميسا وهو الجيش العظيم. وما افترق من السرية يسمى بعثا. والآية وإن نزلت في الحرب لكن فيها إشارة إلى الحث على المبادرة إلى الخيرات كلها كيفما أمكن قبل الفوات» «١».
ثم كشف- سبحانه- عن فساد نفوس المنافقين وضعاف الإيمان فقال: وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ أى: ليتأخرن وليتثاقلن عن الجهاد. من «بطأ» - بالتشديد- بمعنى أبطأ فهو فعل لازم. وقد يستعمل أبطأ وبطأ- بالتشديد- متعديين، وعليه يكون المفعول هنا محذوف أى:
ليبطئن غيره ويثبطه عن الخروج للجهاد في سبيل الله.
وقد جمع المنافقون وضعاف الإيمان بين الأمرين: فقد كانوا يتخلفون عن الجهاد في سبيل الله وينتحلون المعاذير الكاذبة لتخلفهم، ولا يكتفون بذلك بل يحاولون منع غيرهم عن الخروج للجهاد.
والتعبير بقوله لَيُبَطِّئَنَّ تعبير في أسمى درجات البلاغة والروعة، لأنه يصور الحركة النفسية للمنافقين وضعاف الإيمان وهم يشدون أنفسهم شدا، ويقدمون رجلا ويؤخرون أخرى عند ما يدعوهم داعي الجهاد إلى الخروج من أجل إعلاء كلمة الله.
وقد اشتملت الجملة الكريمة على جملة مؤكدات، للاشعار بأن هؤلاء المنافقين لا يتركون
(١) تفسير الآلوسى ج ٥ ص ٧٩
214
فرصة تمرد دون أن يبثوا سمومهم بنشاط وإصرار، وأنهم حريصون كل الحرص على توهين عزائم المجاهدين، وحملهم على أن يكونوا مع القاعدين كما هو شأن المنافقين.
والمراد بقوله مِنْكُمْ أى من جنسكم وممن يعيشون معكم ويساكنونكم، ويرتبطون معكم برباط القرابة، ويتظاهرون بالإسلام، فلقد كان المنافقون في المدينة تربطهم روابط متعددة بالمؤمنين الصادقين، كما هو معروف في التاريخ الإسلامى.
فمثلا عبد الله بن أبى بن سلول- زعيم المنافقين- كان أحد أبنائه من المؤمنين الصادقين.
وقد وجه القرآن الخطاب إلى المؤمنين لكي يكشف لهم عن المنافقين المندسين في صفوفهم لكي يحذروهم، قال صاحب الكشاف: واللام في قوله لَمَنْ للابتداء بمنزلتها في قوله إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ وفي لَيُبَطِّئَنَّ جواب قسم محذوف تقديره: وإن منكم لمن أقسم بالله ليبطئن وجوابه صلة من والضمير الراجع منها يعود إلى ما استكن في لَيُبَطِّئَنَّ. والخطاب لعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم» «١».
وقوله فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً بيان لما انطوت عليه نفوس المنافقين من فساد، وما نطقت به ألسنتهم من سوء.
أى: وإن من المتظاهرين بأنهم منكم- يا معشر المؤمنين- لمن يتثاقلون عن القتال ويعملون على أن يكون غيرهم مثلهم، فَإِنْ أَصابَتْكُمْ يا معشر المؤمنين مُصِيبَةٌ كهزيمة وقتية، أو استشهاد جماعة منكم قالَ هذا المنافق على سبيل الفرح والتشفي قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ أى: قد أكرمنى الله بالقعود إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً أى حاضرا في المعركة، لأنى لو كنت حاضرا معهم لأصابنى ما أصابهم من القتل أو الجراح أو الآلام.
فالآية الكريمة تحكى عن المنافقين أنهم يعتبرون قعودهم عن الجهاد نعمة، إذا ما أصاب المؤمنين مصيبة عند قتالهم لأعدائهم.
أما إذا كانت الدولة للمؤمنين، وظفروا بالغنائم، فهنا يتمنى المنافقون أن لو كانوا معهم لينالوا بعض هذه الغنائم. واستمع إلى القرآن وهو يحكى عنهم ذلك فيقول: وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ- كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ- يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً.
أى: وَلَئِنْ أَصابَكُمْ يا معشر المؤمنين فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ كفتح وغنيمة ونصر وظفر لَيَقُولَنَّ هذا المنافق على سبيل الندامة والحسرة والتهالك على حطام الدنيا، حالة كونه
(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٥٣٢
215
كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ ليقولن: يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ عند ما خرجوا للجهاد فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً بأن أحصل كما حصلوا على الغنائم الكثيرة.
وهذا- كما يقول ابن جرير- خبر من الله- تعالى- ذكره عن هؤلاء المنافقين، أن شهودهم الحرب مع المسلمين- إن شهدوها- إنما هو لطلب الغنيمة وإن تخلفوا عنها فللشك الذي في قلوبهم، وأنهم لا يرجون لحضورها ثوابا، ولا يخافون بالتخلف عنها من الله عقابا «١».
وفي نسبة الفضل إلى الله في قوله وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ دون إصابة المصيبة تعليم لحسن الأدب مع الله- تعالى- وإن كان سبحانه- هو الخالق لكل شيء، فهو الذي يمنح الفضل لمن يشاء وهو الذي يمنعه عمن يشاء.
وقوله كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ جملة معترضة بين فعل القول الذي هو لَيَقُولَنَّ وبين المقول الذي هو يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ.
وقد جيء بها على سبيل التهكم والسخرية والتعجب من حال المنافقين، لأنهم كان في إمكانهم أن يخرجوا مع المؤمنين للقتال، وأن ينالوا نصيبهم من الغنائم التي حصل عليها المؤمنون، ولكنهم لم يخرجوا لسوء نواياهم، فلما أظهروا التحسر لعدم الخروج بعد أن رأوا الغنائم في أيدى المؤمنين كان تحسرهم في غير موضعه لأن الذي يتحسر على فوات شيء عادة هو من لا علم له به أو بأسبابه، أما المنافقون فبسبب مخالطتهم وصحبتهم للمؤمنين كانوا على علم بقتال المؤمنين لأعدائهم، وكان في إمكانهم أن يخرجوا معهم.
فكأن الله تعالى يقول للمؤمنين: انظروا وتعجبوا من شأن هؤلاء المنافقين إنهم عند ما أصابتكم مصيبه فرحوا، وعند ما انتصرتم وأصبتم الغنائم تحسروا وتمنوا أن لو كانوا معكم حتى لكأنهم لا علم لهم بالقتال الذي دار بينكم وبين أعدائكم، وحتى لكأنهم لا مخالطة ولا صحبة بينكم وبينهم مع أن علمهم بالقتال حاصل، ومخالطتهم لكم حاصلة فلم يتحسرون؟ إن قولهم: يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً ليدعو إلى التعجب من أحوالهم، والتحقير لسلوكهم، والدعوة عليهم بأن يزدادوا حسرة على حسرتهم.
وبذلك نرى أن الآيات الكريمة قد أمرت المؤمنين بحسن الاستعداد للقاء أعدائهم في كل وقت، وكشفت لهم عن رذائل المنافقين الذين إذا أصابت المؤمنين مصيبة فرحوا لها، وإذا أصابهم فضل من الله تحسروا وحزنوا، وفي هذا الكشف فضيحة للمنافقين، وتحذير للمؤمنين من شرورهم.
(١) تفسير ابن جرير ج ٥ ص ١٦٦
216
وبعد هذا التوبيخ الشديد للمتثاقلين عن الجهاد، أخذ القرآن الكريم في استنهاض الهمم والعزائم للجهاد في سبيل الله فقال- تعالى-:
[سورة النساء (٤) : الآيات ٧٤ الى ٧٦]
فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (٧٤) وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (٧٥) الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (٧٦)
والفاء في قوله فَلْيُقاتِلْ للإفصاح عن جواب شرط مقدر. أى إن أبطأ هؤلاء المنافقون والذين في قلوبهم مرض وتأخروا عن الجهاد والقتال، فليقاتل المؤمنون الصادقون الذين يَشْرُونَ أى يبيعون الحياة الدنيا بكل متعها وشهواتها من أجل الحصول على رضا الله- تعالى- في الآخرة.
وقوله فِي سَبِيلِ اللَّهِ تنبيه إلى أن هذا النوع من القتال هو المعتد به عند الله- تعالى-، لأن المؤمن الصادق لا يقاتل من أجل فخر أو مغنم أو اغتصاب حق غيره، وإنما يقاتل من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى.
وقوله وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً بيان للثواب العظيم الذي أعده الله- تعالى- للمجاهدين.
أى: ومن يقاتل في سبيل الله ومن أجل إعلاء دينه، فيستشهد، أو يكون له النصر على
217
عدوه، فسوف نؤتيه أجرا عظيما لا يعلم مقداره إلا الله تعالى.. وإنما اقتصر- سبحانه على بيان حالتين بالنسبة للمقاتل وهي حالة الاستشهاد وحالة الغلبة على العدو، للإشعار بأن المجاهد الصادق لا يبغى من جهاده إلا هاتين الحالتين، فهو قد وطن نفسه حالة جهاده على الاستشهاد أو على الانتصار على أعداء الله، ومتى وطن نفسه على ذلك ثبت في قتاله، وأخلص في جهاده.
وقدم- سبحانه- القتل على الغلب، للإيذان بأن حرص المجاهد المخلص على الاستشهاد في سبيل الله، أشد من حرصه على الغلب والنصر.
والتعبير بسوف في قوله فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً لتأكيد الحصول على الأجر العظيم في المستقبل.
والجملة جواب الشرط وهو قوله وَمَنْ يُقاتِلْ وقوله فَيُقْتَلْ تفريع على فعل الشرط.
ونكر- سبحانه- الأجر ووصفه بالعظم، للإشعار بأنه أجر لا يحده تعيين، ولا يبينه تعريف، ولا يعلم مقداره إلا الله- تعالى-.
ثم حرض- سبحانه- المؤمنين على القتال بأبلغ أسلوب فقال: وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ.
فالخطاب للمؤمنين المأمورين بالقتال على طريقة الالتفات، مبالغة في التحريض عليه، وتأكيدا لوجوبه، وما اسم استفهام مبتدأ، والجار والمجرور وهو لَكُمْ خبره.
وجملة لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ في محل نصب على الحال، والعامل في هذه الحال الاستقرار المقدر أو الظرف لتضمنه معنى الفعل.
والمراد بالاستفهام تحريضهم على الجهاد، والإنكار عليهم في تركه مع توفر دواعيه، والمعنى:
أى شيء جعلكم غير مقاتلين؟ إن عدم قتالكم لأعدائكم يتنافى مع إيمانكم، أما الذي يتناسب مع إيمانكم وطاعتكم لله فهو أن تقاتلوا من أجل إعلاء كلمة الله، ومن أجل المستضعفين من الرجال والنساء والولدان.
فالآية الكريمة تحريض على الجهاد بأبلغ وجه، ونفى للاعتذار عنه.
والمراد بالمستضعفين: الضعفاء من الناس وهم المسلمون الذين بقوا في مكة بعد هجرة الرسول ﷺ إلى المدينة، لعدم قدرتهم على الهجرة أو لمنع المشركين إياهم من الخروج.
وقد كان النبي ﷺ يدعو لهم فيقول: اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام وعياش بن أبى ربيعة والمستضعفين من المؤمنين.
وقوله وَالْمُسْتَضْعَفِينَ معطوف على قوله فِي سَبِيلِ اللَّهِ أى: قاتلوا في سبيل الله وفي
218
سبيل المستضعفين حتى تخلصوهم من ظلم المشركين لهم.
وخصهم بالذكر مع أن القتال في سبيل الله يشملهم، لمزيد العناية بشأنهم، وللتحريض على القتال بحكم الشرف والمروءة بعد التحريض عليه بحكم الدين والتقرب إلى الله- تعالى-، لأن مروءة الإنسان الكريم تحمله على نصرة الضعيف، ومنع الاعتداء عليه.
وقوله مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ، بيان لهؤلاء المستضعفين.
أى: قاتلوا- أيها المؤمنون- من أجل إعلاء كلمة الله ونشر دينه، ومن أجل نصرة المستضعفين من الرجال الذين صدهم المشركون عن الهجرة، ومن النساء اللائي لا يملكن حولا ولا قوة. ومن الولدان الصغار الذين لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم.
وفي النص على هؤلاء المستضعفين وخصوصا النساء والولدان، أقوى تحريض على الجهاد، وأعظم وسيلة لإثارة الحماس والنخوة من أجل القتال، لأنهم إذا تركوا هؤلاء المستضعفين أذلاء في أيدى المشركين، فإنهم سيعيرون بهم، وهذا ما يأباه كل شريف كريم.
ثم حكى- سبحانه- ما كان يقوله المستضعفون فقال: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها. وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً.
أى: قاتلوا- أيها المؤمنون- في سبيل المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يضرعون إلى الله قائلين: يا ربنا أخرجنا من هذه القرية التي ظلمنا أهلها بسبب شركهم وكفرهم وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا.
أى وسخر لنا من عندك حافظا يحفظ علينا ديننا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً. أى:
وسخر لنا من عندك كذلك ناصرا يدفع عنا أذى أعدائنا، فأنت الذي لا يذل من استجار به، ولا يضعف من كنت نصيره ووليه.
والمراد بالقرية الظالم أهلها: مكة. وقد وصف أهلها بأنهم ظالمون، ولم توصف هي بأنها ظالمة كما وصف غيرها من القرى كما في قوله- تعالى- وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها وذلك من باب التكريم لمكة، إذ هي حرم الله الآمن ولا يوصف حرم الله الآمن بالظلم ولو على سبيل المجاز.
وقوله الظَّالِمِ أَهْلُها صفة للقرية، وأهلها مرفوع به على الفاعلية، وأل في الظالم موصولة بمعنى التي أى التي ظلم أهلها. فقوله الظَّالِمِ جار على القرية لفظا، وهو لما بعدها معنى نحو: مررت برجل حسن غلامه.
وفي هذا النداء الذي تضرع به أولئك المستضعفون إلى خالقهم أسمى ألوان الأدب
219
والإخلاص فهم يلتمسون منه- سبحانه- أن يخرجهم من بطش الظالمين وحكمهم، وأن يجعلهم تابعين للقوم الذين يحبهم ويحبونه، وهم المؤمنون، وأن يهيئ لهم النصر على أعدائهم وأعدائه.
ولقد استجاب الله- تعالى- لهم دعاءهم، حيث يسر لبعضهم الخروج إلى المدينة، ورزق المؤمنين فتحا قريبا، وإلى ذلك أشار صاحب الكشاف بقوله: «والمستضعفون هم الذين أسلموا بمكة وصدهم المشركون عن الهجرة فبقوا بين أظهرهم مستذلين... وكانوا يدعون الله بالخلاص ويستنصرونه، فيسر الله لبعضهم الخروج إلى المدينة، وبقي بعضهم إلى الفتح حتى جعل الله لهم من لدنه خير ولى وناصر وهو محمد ﷺ فتولاهم أحسن التولي، ونصرهم أقوى النصر.
فإن قلت: لم يذكر الولدان: قلت: تسجيلا بإفراط ظلمهم، حيث بلغ أذاهم الولدان غير المكلفين، إرغاما لآبائهم وأمهاتهم، ومبغضة لهم، ولأن المستضعفين كانوا يشركون صبيانهم في دعائهم استنزالا لرحمة الله بدعاء صغارهم الذين لم يذنبوا، كما وردت السنة بإخراجهم في الاستسقاء «١»
.
ثم ساق- سبحانه- لونا آخر من تحريضهم على الجهاد وهو تحديد الهدف الذي يقاتل من أجله كل فريق فقال: الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ، فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً أى أنتم- أيها المؤمنون- إذا قاتلتم فإنما تقاتلون وغايتكم إعلاء كلمة الله، ونصرة الحق الذي جاء به رسولكم محمد صلى الله عليه وسلم.
أما أعداؤكم الكافرون فإنهم يقاتلون من أجل طاعة الشيطان الذي يأمرهم بكل بغى وطغيان، وإذا كان هذا حالكم وحالهم فعليكم- أيها المؤمنون- أن تقاتلوا أولياء الشيطان بكل قوة وصدق عزيمة إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً أى. إن كيد الشيطان وتدبيره كان ضعيفا، لأن الشيطان ينصر أولياءه، والله- تعالى- ينصر أولياءه، ولا شك أن نصرة الله- تعالى- لأوليائه أقوى وأشد من نصرة الشيطان لأوليائه.
فقوله- تعالى- الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كلام مستأنف سيق لتشجيع المؤمنين وترغيبهم في الجهاد ببيان الغاية والهدف الذي يعمل من أجله كل فريق، وببيان أن المؤمنين ستكون عاقبتهم النصر والظفر لأن الله وليهم وناصرهم.
والفاء في قوله فَقاتِلُوا للتفريع، أى إذا كانت تلك غايتكم أيها المؤمنون وتلك هي غاية
(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٥٣٤
220
أعدائكم فقاتلوهم بدون خوف أو وجل منهم لأن الله معكم بنصره وتأييده أما هم فالشيطان معهم بضعفه وفجوره.
والمراد بكيد الشيطان تدبيره ووسوسته لأتباعه بالاعتداء على المؤمنين وتأليب الناس عليهم.
قال الفخر الرازي: الكيد: السعى في فساد الحال على جهة الاحتيال عليه، يقال: كاده يكيده إذا سعى في إيقاع الضرر على جهة الحيلة عليه. وفائدة إدخال كانَ في قوله كانَ ضَعِيفاً للتأكيد لضعف كيده، يعنى أنه منذ كان، كان موصوفا بالضعف والذلة «١».
وبذلك نرى أن هذه الآيات الثلاث قد شجعت المؤمنين على القتال بأبلغ أسلوب، وأشرف دافع، وأنبل غاية، فقد أمرتهم بالقتال إذا كانوا حقا من المؤمنين، الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة، وبشرتهم برضا الله وحسن ثوابه سواء أقتلوا أم غلبوا واستنكرت عليهم أن يتثاقلوا عن القتال مع أن كل دواعي الدين والشرف والمروءة تدعوهم إليه، وبينت لهم أنه إذا كان الكافرون الذين الغاية من قتالهم نصرة الشيطان يقدمون على القتال، فأولى بالمؤمنين الذين الغاية من قتالهم نصرة الحق أن ينفروا خفافا وثقالا للجهاد في سبيل الله، ثم بشرتهم في النهاية بأن العاقبة لهم، لأن الكافرين يستندون إلى كيد الشيطان الضعيف الباطل، أما المؤمنون فيأوون إلى جناب الله الذي لا يخذل من اعتصم به، ولا يخيب من التجأ إليه.
وبعد هذا التحريض الشديد من الله- تعالى- للمؤمنين على القتال في سبيله، حكى- سبحانه- على سبيل التعجيب حال طائفة من ضعاف الإيمان، كانوا قبل أن يفرض القتال عليهم يظهرون التشوق إليه. وبعد أن فرض عليهم جبنوا عنه، وقد وبخهم الله- تعالى- على هذا المسلك الذميم، فقال- سبحانه-:
[سورة النساء (٤) : الآيات ٧٧ الى ٨٠]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧٧) أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (٧٨) ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (٧٩) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (٨٠)
(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٠ ص ١٨٤
221
والاستفهام في قوله- تعالى- أَلَمْ تَرَ للتعجيب من حال أولئك الذين كانوا يظهرون التشوق إلى القتال فلما فرض عليهم جبنوا عنه.
وقوله كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ من الكف بمعنى الامتناع أى: امتنعوا عن مباشرة القتال إلى أن تؤمروا به.
والمعنى: ألم ينته علمك يا محمد أو ألم تنظر بعين الدهشة والغرابة إلى حال أولئك الذين كانوا يظهرون شدة الحماسة للقتال، فقيل لهم كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ أى: عن القتال لأنكم لم تؤمروا به بعد وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ فإن الصلاة تخلص النفس من أدران المآثم، وتجعلها تتجه إلى الله وحده وَآتُوا الزَّكاةَ فإن الزكاة تطهر النفوس من الشح والبخل، وتربط بين الناس برباط المحبة والتعاون.
ثم بين- سبحانه- حالهم بعد أن فرض عليهم القتال فقال: فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً.
أى: فحين فرض عليهم القتال وأمروا بمباشرته بعد أن صارت للمسلمين دولة بالمدينة، حين حدث ذلك، إذا فريق منهم- وهم الذين قل إيمانهم، وضعف يقينهم، وارتابت قلوبهم- يَخْشَوْنَ النَّاسَ أى يخافونهم خوفا شديدا كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً أى: يخافون من الكفار أن يقتلوهم كما يخافون من الله أن ينزل بهم بأسه، أو أشد من ذلك.
فالمراد بالناس في قوله يَخْشَوْنَ النَّاسَ أولئك الأعداء الذين كتب الله على المؤمنين قتالهم.
222
وعبر عن هؤلاء الأعداء بقوله النَّاسَ زيادة في توبيخ أولئك الذين خافوا منهم هذا الخوف الشديد، لأنهم لو كانوا مؤمنين حقا، لاستقبلوا ما فرضه الله عليهم بالسمع والطاعة، ولما خافوا هذا الخوف الشديد من أناس مثلهم.
وقوله كَخَشْيَةِ اللَّهِ مفعول مطلق، أى يخشونهم خشية كخشية الله.
وهو بيان لشدة خورهم وهلعهم، ولفساد تفكيرهم، حيث جعلوا خشيتهم للناس في مقابل خشيتهم لله، الذي يجب أن تكون خشيته- سبحانه- فوق كل خشية.
وقوله أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً معطوف على ما قبله. وأشد حال من خشية لأن نعت النكرة إذا تقدم عليها أعرب حالا.
وفي هذه الجملة الكريمة زيادة في توبيخهم وذمهم وترق في توضيح حالتهم القبيحة، لأنه إذا كان من المقرر أنه لا يجوز للعاقل أن يجعل خشيته للناس كخشيته لله، فمن باب أولى لا يجوز له أن يجعل خشيته للناس أشد من خشيته لله- تعالى-.
قال الفخر الرازي ما ملخصه: فإن قيل: ظاهر أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً يوهم الشك. وذلك على علام الغيوب محال. أجيب بأن أَوْ بمعنى بل. أو هي للتنويع. على معنى أن خشية بعضهم كخشية الله وخشية بعضهم أشد منها أو هي للإبهام على السامع. على معنى أنهم على إحدى الصفتين من المساواة والشدة. وهو قريب مما في قوله- تعالى-: وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ يعنى أن من يبصرهم يقول: أنهم مائة ألف أو يزيدون «١».
ثم حكى- سبحانه- ما قاله أولئك الضعفاء عند ما فرض عليهم القتال فقال: وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ.
أى: أن هؤلاء الضعفاء لم يكتفوا بما اعتراهم من فزع وجزع عند ما كتب عليهم القتال وإنما أضافوا إلى ذلك أنهم قالوا على سبيل الضجر والألم: يا ربنا لم كتبت علينا القتال في هذا الوقت لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ أى: هلا عافيتنا وتركتنا حتى نموت موتة لا قتال معها عند حضور آجالنا، دون أن نتعرض لهذا التكليف الثقيل المخيف.
وهكذا يصور القرآن تخبط هؤلاء الضعفاء أكمل تصوير. إنهم قبل أن يفرض القتال يظهرون التحمس له، والتشوق لخوض معا معه، فإذا ما فرض عليهم القتال فزعوا وارتعدوا وقالوا ما قالوا من ضلال بضيق وهلع.
(١) تفسير الفخر الرازي ج ١ ص ١١٦
223
ويبدو أن هذه طبيعة أكثر المتهورين في كل وقت، إنهم قبل أن يجد الجد أشد الناس حماسة للقاء الأعداء، فإذا ماجد الجد ووقعت الواقعة كانوا أول الفارين، وأول الناكصين على أعقابهم.
وذلك لأن الشجعان العقلاء لا يتمنون لقاء الأعداء، ولا ينشئون القتال إنشاء، وإنما يقدرون الأمور حق قدرها، ويضعون الأشياء في مواضعها، فإذا ما اقتضت الضرورة خوض معركة من المعارك ثبتوا ثبات الأبطال.
أما المندفعون بدون إيمان يدفعهم، أو عقل يرشدهم، فإنهم لعدم تقديرهم للأمور يكونون في ساعة الشدة أول الناس جزعا ونكولا وانهيارا.
ولكن من هؤلاء الذين تحدثت عنهم الآية الكريمة ووصفتهم بأنهم حين كتب عليهم القتال «إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب..» ؟!!
إن الذي يراجع أقوال المفسرين يرى أن بعضهم يميل إلى أن الآية الكريمة في شأن المؤمنين، ويرى أن بعضهم يرجح أنها في شأن المنافقين، وقد لخص الإمام الرازي هذه الأقوال تلخيصا حسنا فقال:
«هذه الآية صفة للمؤمنين أو المنافقين؟ فيه قولان:
الأول: أن الآية نزلت في المؤمنين. قال الكلبي: نزلت في عبد الرحمن بن عوف، والمقداد، وقدامة بن مظعون، وسعد بن أبى وقاص. كانوا مع النبي ﷺ قبل أن يهاجروا إلى المدينة، ويلقون من المشركين أذى شديدا، فيشكون ذلك إلى النبي ﷺ ويقولون: ائذن لنا في قتالهم ويقول لهم الرسول ﷺ كفوا أيديكم فإنى لم أومر بقتالهم، واشتغلوا بإقامة دينكم من الصلاة والزكاة، فلما هاجر رسول الله ﷺ إلى المدينة كرهه بعضهم فأنزل الله هذه الآية.
ثم قال: واحتج الذاهبون إلى هذا القول بأن الذين يحتاج الرسول أن يقول لهم: كفوا عن القتال هم الراغبون في القتال والراغبون في القتال هم المؤمنون، فدل هذا على أن الآية في حق المؤمنين.. وأن كراهتهم للقتال إنما هي بمقتضى الجبلة البشرية... وقولهم لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ محمول على التمني في التخفيف للتكليف لا على وجه الإنكار لإيجاب الله تعالى.
ثم قال: والقول الثاني: أن الآية نازلة في حق المنافقين. واحتج الذاهبون إلى هذا القول بأن الآية مشتملة على أمور تدل على أنها مختصة بالمنافقين، لأن الله وصفهم بأنهم يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ومعلوم أن هذا الوصف لا يليق إلا بالمنافق، لأن المؤمن لا يجوز أن يكون خوفه من الناس أزيد من خوفه من الله- تعالى- ولأنه- سبحانه- حكى
224
عنهم أنهم قالوا: ربنا لما كتبت علينا القتال، والاعتراض على الله ليس إلا من صفة الكفار أو المنافقين، ولأن الله قال للرسول: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وهذا الكلام يذكر مع من كانت رغبته في الدنيا أكثر من رغبته في الآخرة، وذلك من صفات المنافقين.
ثم قال. والأولى حمل الآية على المنافقين لأنه- سبحانه- ذكر بعد هذه الآية قوله: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ ولا شك أن هذا من كلام المنافقين، فإذا كانت هذه الآية معطوفة على الآية التي نحن في تفسيرها ثم المعطوف في المنافقين، وجب أن يكون المعطوف عليهم فيهم أيضا «١».
ونحن نوافق الإمام الرازي فيما ذهب إليه من أن حمل الآية الكريمة على أنها في المنافقين هو الأولى للأسباب التي ذكرها.
ونضيف إلى ما ذكره الإمام الرازي أن المتأمل في سياق الآيات السابقة واللاحقة يراها واضحة في شأن المنافقين، ومن هم على شاكلتهم من ضعاف الايمان، الذين أدى بهم ضعف نفوسهم، وحبهم للدنيا إلى كراهة القتال، والخوف من تكاليفه...
فأنت إذا قرأت الآيات التي قبيل هذه الآية تراها تتحدث عن إرادة تحاكمهم إلى الطاغوت مع زعمهم الإيمان بما أنزل إلى الرسول ﷺ وبما أنزل على الرسل من قبله. وتراها تتحدث عن تباطئهم عن القتال وفرحهم لنجاتهم من مخاطرة.
ثم إذا قرأت الآيات التي تأتى بعد هذه الآية تراها تتحدث عن نسبتهم الحسنة إلى الله، ونسبتهم السيئة إلى رسوله ﷺ وعن إذاعتهم لأسرار المؤمنين... ألخ، فثبت أن الآية الكريمة تتحدث عن صفات المنافقين، وعمن هم قريبو الشبه بهم من ضعاف الإيمان الذين أخلدوا إلى الراحة. وآثروا القعود في بيوتهم على القتال من أجل إعلاء كلمة الله، ودفع الظلم عن المظلومين.
ونضيف أيضا أن القول الأول- الذي ذكره الإمام الرازي وهو أن الآية نزلت في المؤمنين- غير صحيح لأسباب من أهمها:
١- أن الرواية التي ذكرها الإمام الرازي نقلا عن الكلبي وهي أن الآية نزلت في عبد الرحمن بن عوف والمقداد وقدامة بن مظعون... إلخ هذه الرواية يبدو عليها الضعف، لأنها لم ترد في كتب الحديث الموثوق بها، ولأن الكلبي نفسه قد عرف عنه عدم التثبت في النقل.
ولقد علق الإمام الشيخ محمد عبده على هذه الرواية بقوله: «إننى أجزم ببطلان هذه الرواية
(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٠ ص ١٨٥- بتصرف وتلخيص
225
مهما كان سندها، لأننى أبرئ السابقين الأولين كسعد وعبد الرحمن مما رموا به. وهذه الآية متصلة بما قبلها، فإن الله- تعالى- أمر بأخذ الحذر والاستعداد للقتال، والنفر له، وذكر حال المبطئين لضعف قلوبهم. وبعد هجرة النبي ﷺ إلى المدينة أمر الإسلام أتباعه بالسلم وتهذيب النفوس بالعبادة والكف عن الاعتداء والقتال.. إلى أن اشتدت الحاجة إليه ففرضه الله عليهم فكرهه الضعفاء منهم» «١».
٢- أن المؤمنين لم يعهد عنهم ما ذكرت الآية من خوف من القتال، ومن تمن لعدم حضوره، وإنما المعهود عنهم أنهم كانوا يبادرون إليه كلما اقتضت الضرورة ذلك ويتسابقون لخوض ساحته دفاعا عن دينهم، وانتصارا ممن بغى عليهم.
ولقد قال المقداد بن عمرو للرسول صلى الله عليه وسلم. في غزوة بدر يا رسول الله، امض لما أمرك الله فنحن معك. والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون. ولكن نقول لك اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون. فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه...
إلى غير ذلك من الأقوال والمواقف التي تدل على شجاعتهم وقوة إيمانهم.
ولقد رجح الإمام القرطبي عند تفسيره للآية الكريمة أنها في المنافقين فقال: قال مجاهد:
هي في اليهود. وقال الحسن: هي في المؤمنين لقوله «يخشون الناس» أى مشركي مكة «كخشية الله» فهي على ما طبع عليه البشر من المخافة لا على المخالفة. وقال السدى: هم قوم أسلموا قبل فرض القتال فلما فرض كرهوه. وقيل: هو وصف للمنافقين. والمعنى: يخشون القتل من المشركين كما يخشون الموت من الله «أو أشد خشبة» أى عندهم وفي اعتقادهم.
ثم قال: قلت وهذا أشبه بسياق الآية لقوله ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب ومعاذ الله أن يصدر هذا القول من صحابى كريم، يعلم أن الآجال محدودة، والأرزاق مقسومة، بل كانوا لأوامر الله ممتثلين سامعين طائعين، يرون الوصول إلى الدار الآجلة خيرا من المقام في الدار العاجلة، على ما هو المعروف من سيرتهم- رضى الله عنهم- اللهم إلا أن يكون قائله ممن لم يرسخ في الإيمان قدمه، ولا انشرح بالإسلام جنانه، فإن أهل الإيمان متفاضلون فمنهم الكامل ومنهم الناقص، وهو الذي تنفر نفسه عما تؤمر به فيما تلحقه فيه المشقة وتدركه فيه الشدة» «٢».
(١) تفسير المنار ج ٥ ص ٢٦٣
(٢) تفسير القرطبي ج ٥ ص ٢٨١.
226
والخلاصة: أن الذي تطمئن إليه نفوسنا أن الآية الكريمة تحكى ما كان عليه المنافقون وضعاف الإيمان، من بعد عن طاعة الله، ومن جبن في النفوس ومن حب للحياة الدنيا وزينتها.
وأن المؤمنين بعيدون كل البعد عما اشتملت عليه الآية الكريمة من صفات وأحوال لأن ما عرف عنهم من إيمان وإقدام ينأى بهم عن أن يكونوا ممن قال الله فيهم فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وعن أن يقولوا: رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ.
هذا، وقوله- تعالى- قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا رد على التصرفات الذميمة، والأقوال الفاسدة التي صدرت عن المنافقين وضعاف الإيمان! وإرشاد من الله- تعالى- لعباده إلى أن متاع الحياة الدنيا قليل بالنسبة لما اشتملت عليه الآخرة من نعيم للمؤمنين الصادقين.
والمتاع: اسم لما يتمتع به الإنسان في هذه الحياة من مال وغيره.
والفتيل: هو الخيط الدقيق الذي يكون في شق نواة التمرة. ويضرب به المثل في القلة والتفاهة.
والمعنى: قل- يا محمد- لهؤلاء الذين يخشون لقاء الأعداء، ويفزعون من القتال طمعا في التمتع بزينة الحياة الدنيا، قل لهم: إن منافع الدنيا ولذاتها قليلة مهما كبرت في أعينكم لأنها زائلة فانية، أما الآخرة بما فيها من نعيم دائم فهي خير ثوابا، وأعظم أجرا لمن اتقى الله، وجاهد في سبيله. وإذا كان الأمر كذلك فاجعلوا خشيتكم من الله وحده، وبادروا إلى الجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله، لكي تنالوا الثواب الجزيل من الله دون أن يذهب من ثوابكم شيئا مهما كان هذا الشيء ضئيلا أو قليلا، ودون أن ينقص من أعماركم شيئا لأن الجبن لا يؤخر الحياة كما أن الإقدام لا ينقص شيئا منها.
ثم بين- سبحانه- أنه لا مفر لهم من الموت، وأنهم مهما فروا منه فإنه سيلقاهم آجلا أو عاجلا فقال- تعالى-: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ.
والبروج: جمع برج وهو الحصن المنيع الذي هو نهاية ما يصل إليه البشر في التحصن والمنعة. وأصل البروج من التبرج بمعنى الظهور. يقال: تبرجت المرأة، إذا أظهرت محاسنها.
والمراد بها الحصون والقلاع الشاهقة المنيعة.
والمشيدة: أى المحكمة البناء، والعظيمة الارتفاع من شاد القصر إذا رفعه، والمعنى: إنكم
227
أيها الخائفون من القتال إن ظننتم أن هذا الخوف منه أو القعود عنه سينجيكم من الموت، فأنتم بهذا الظن مخطئون، لأن الموت حيثما كنتم سيدرككم، ولو كنتم في أقوى الحصون، وأمنعها وأحكمها بناء، وما دام الأمر كذلك فليكن موتكم وأنتم مقبلون بدل أن تموتوا وأنتم مدبرون.
والجملة الكريمة لا محل لها من الإعراب، لأنها مسوقة على سبيل الاستئناف لتبكيت هؤلاء الكارهين للقتال، وتحريض غيرهم من المؤمنين على الإقدام عليه من أجل نصرة الحق.
ويحتمل أنها في محل نصب، فتكون داخلة في حيز القول المأمور به الرسول ﷺ أى: قل لهم يا محمد متاع الدنيا قليل. وقل لهم أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ.
وأين: اسم شرط جازم ظرف مكان يجزم فعلين، و «ما» زائدة للتأكيد، وتكونوا فعل الشرط ويدرككم جوابه.
والتعبير بقوله يُدْرِكْكُمُ للإشعار بأن الموت كأنه كائن حي يطلب الإنسان ويتبعه حيثما كان، وفي أى وقت كان، فهو طالب لا بد أن يدرك ما يطلبه ولا بد أن يصل إليه مهما تحصن منه، أو هرب من لقائه.
وجواب (لو) محذوف اعتمادا على دلالة ما قبله عليه أى: ولو كنتم في بروج مشيدة لأدرككم الموت.
وقريب في المعنى من هذه الآية قوله- تعالى- قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وقوله- تعالى-: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ.
فالجملة الكريمة صريحه في بيان أن الموت أمر لا مفر منه، ولا مهرب عنه سواء أقاتل الإنسان أم لم يقاتل. وما أحسن قول زهير بن أبى سلمى:
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ولو رام أسباب السماء بسلم
ثم حكى- سبحانه- ما كان يتفوه به المنافقون وإخوانهم في الكفر من باطل وزور فقال- تعالى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ، قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
أى: إن هؤلاء المنافقين وأشباههم، من ضعاف الإيمان وإخوانهم في الكفر بلغ بهم الفجور أنهم إذا أصابتهم حال حسنة من نعمة أو رخاء أو خصب أو غنيمة أو ظفر قالوا هذه الحال من عند الله، وإذا أصابتهم حال سيئة من جدب أو مصيبة أو هزيمة قالوا هذه الحال من عندك يا محمد بسبب شؤمك وسوء قيادتك- وحاشاه من ذلك صلى الله عليه وسلم-.
وهذا القول منهم قريب من قول قوم فرعون لموسى- عليه السلام- كما حكاه القرآن عنهم
228
في قوله: فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ.
قال القرطبي: نزلت هذه الآية في اليهود والمنافقين، وذلك أنهم لما قدم رسول الله ﷺ المدينة عليهم قالوا: ما زلنا نعرف النقص في ثمارنا ومزارعنا منذ قدم علينا هذا الرجل وأصحابه. قال ابن عباس: ومعنى مِنْ عِنْدِكَ أى: بسوء تدبيرك. وقيل مِنْ عِنْدِكَ أى بشؤمك الذي لحقنا، قالوه على جهة التطير» «١».
وقوله قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أمر من الله لنبيه ﷺ بأن يرد على مزاعمهم الباطلة. أى قل لهم يا محمد كل واحدة من النعمة والمصيبة هي من جهة الله- تعالى خلقا وإيجادا من غير أن يكون لي مدخل في وقوع شيء منها بوجه من الوجوه كما تزعمون:
وقوله فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً جملة معترضة مسوقة لتعييرهم بالجهل والغباوة، والفاء في قوله فمال لترتيب ما بعدها على ما قبلها والمعنى. وإذا كان الأمر كذلك وهو أن كل شيء من عند الله، فمال هؤلاء القوم من المنافقين وإخوانهم في الكفر وضعف الإيمان لا يكادون- لانطماس بصيرتهم- يفقهون ما يلقى عليهم من مواعظ، ولا يفهمون معنى ما يسمعون وما يقولون، إذ لو فقهوا شيئا مما يوعظون به لعلموا أن الله هو القابض الباسط، وأنه المعطى المانع.
قال- تعالى- ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
وقوله- تعالى- ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ الخطاب فيه للنبي ﷺ والمراد كل مكلف من أمته.
والمراد بالحسنة ما يسر له الإنسان ويفرح به، والمراد بالسيئة ما يسوءه ويحزنه.
والمعنى: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ أى من نعمة وأمور حسنة تفرح بها فَمِنَ اللَّهِ أى فبتوفيقه لك وتفضله عليك، وإرشادك إلى الوسائل التي أوصلتك إلى ما يسرك. وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ أى من مصيبة أو غيرها مما يحزن فَمِنْ نَفْسِكَ أى: فمن نفسك بسبب وقوعها فيما نهى الله عنه، وتركها للأسباب الموصلة إلى النجاح، كما قال- تعالى: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ.
وروى الترمذي عن أبى موسى الأشعرى عن النبي ﷺ قال: «لا يصيب عبدا نكتة فما فوقها
(١) تفسير القرطبي ج ٥ ص ٢٨٤ [.....]
.
229
أو دونها إلا بذنب. وما يعفو الله عنه أكثر». قال وقرأ: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ.
وروى ابن عساكر عن البراء- رضى الله عنه- عن النبي ﷺ قال: «ما من عثرة ولا اختلاج عرق ولا خدش عود إلا بما قدمت أيديكم. وما يعفو الله أكثر».
وعلى هذا يكون قوله- تعالى- ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ.. إلخ من كلام الله- تعالى- والخطاب فيه للنبي ﷺ والمراد به كل مكلف- كما سبق أن أشرنا- وقد ساقه- سبحانه- على سبيل الاستئناف ردا على مزاعم المنافقين ومن هم على شاكلتهم في الكفر وضعف الإيمان.
وقيل إن هذه الآية حكاية من الله- تعالى- لأقوال المنافقين السابقة، فكأنهم لم يكتفوا بأن ينسبوا للرسول ﷺ أنه السبب فيما أصابهم من جدب وهزيمة. بل أضافوا إلى ذلك قولهم له:
إن ما أصابك من حسنة فمن الله ولا فضل لك فيما نلت من نصر أو غنيمة، وما أصابك من سيئة أى هزيمة أو مصيبة فمن سوء صنعك وتصرفك.
ومقصدهم من ذلك- قبحهم الله- تجريد النبي ﷺ من كل فضل، وإلقاء اللوم عليه في كل ما يصيبهم من مصائب.
وقد أشار القرطبي إلى هذين القولين بقوله: قوله- تعالى- ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ الخطاب للنبي ﷺ والمراد أمته. أى ما أصابكم يا معشر الناس من خصب واتساع رزق فمن تفضل الله عليكم، وما أصابكم من جدب وضيق رزق فمن أنفسكم أى من أجل ذنوبكم وقع ذلك بكم.
وقيل: في الكلام حذف تقديره: يقولون. وعليه يكون الكلام متصلا، والمعنى: فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً حتى يقولوا ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ «١».
وقال الجمل: فإن قلت: كيف وجه الجمع بين قوله- تعالى: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وبين قوله وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ فأضاف السيئة إلى فعل العبد في هذه الآية- بينما أضاف الكل إلى الله في الآية السابقة-؟
قلت: أما إضافة الأشياء كلها إلى الله في الآية السابقة في قوله قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فعلى الحقيقة، لأن الله هو خالقها وموجدها. وأما إضافة السيئة إلى فعل العبد في قوله وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ فعلى سبيل المجاز. والتقدير: وما أصابك من سيئة فمن أجلها وبسبب
(١) تفسير القرطبي ج ٥ ص ٢٨٥ بتلخيص.
230
اقترافها الذنوب. وهذا لا ينافي أن خلقها من الله- كما سبق) «١».
وقال بعض العلماء: والتوفيق بين قوله- تعالى- ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ وبين قوله قبل ذلك: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هو أن قوله قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كان موضوعه الكلام في تقدير الله. فهم إن انتصر المؤمنون لا ينسبون للنبي ﷺ أى فضل، بل يجردونه من الفضل ويقولون هو من عند الله. وما قصدوا التفويض والإيمان بالقدر، بل قصدوا الغض من مقام النبوة. فإن كان هناك خير نسبوه إلى الله وإن كان ما يسوء نسبوه إلى النبي ﷺ إيذاء وتمردا.
فالله تعالى- قال لهم: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، أى كل ذلك بتقدير الله وإرادته.
أما قوله وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ فموضوعه اتخاذ الأسباب. ومعناه: أن من أخذ بالأسباب وتوكل على الله فالله- تعالى- يعطيه النتائج ومن لا يتخذ الأسباب، أو يخالف المنهاج السليم الموصل إلى الثمرة، فإنه سيناله ما يسوؤه، وبسبب منه.
فالأول: لبيان القدر.
والثاني: لبيان العمل «٢».
هذا، وقوله- تعالى- وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بيان لجلال منصبه وعلو مكانته ﷺ عند ربه- عز وجل- بعد بيان بطلان زعمهم الباطل في حقه عليه الصلاة والسلام.
أى: وأرسلناك- يا محمد- بأمرنا وبشريعتنا لتبلغ الناس ما أمرناك بتبليغه، ولتخرجهم من ظلمات الجهالة والكفر إلى نور التوحيد والإيمان وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً على صحة رسالتك، وعلى صدقك فيما تبلغه عنه، وإذا ثبت ذلك فالخير في طاعتك والشر والشؤم في مخالفتك.
والمراد بالناس جميعهم. أى: وأرسلناك لجميع الناس كما قال- تعالى- وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ.
وقوله رَسُولًا حال مؤكدة لعاملها وهو أرسلناك.
وقوله وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً تثبيت وتقوية لقلب النبي ﷺ أى: امض في طريقك ولا تلتفت إلى أقوالهم، وكفى بالله عليك وعليهم شهيدا، فإنه- سبحانه- لا يخفى عليه أمرك وأمرهم.
(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ١ ص ٤٠٣.
(٢) تفسير الآية الكريمة لفضيلة الأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة بمجلة لواء الإسلام العدد ١ السنة الخامسة عشرة.
231
ثم بين- سبحانه- أن طاعة رسوله ﷺ إنما هي طاعة له فقال: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ.
أى: من يستجب لما يدعوه إليه محمد ﷺ ويذعن لتعاليمه، فإنه بذلك يكون مطيعا لله، لأن الرسول ﷺ مبلغ لأمر الله ونهيه.
وقوله وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً بيان لوظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم.
أى: من أطاعك يا محمد فقد أطاع الله، ومن أعرض عن طاعتك وعصى أمرك، فعلى نفسه يكون جانيا، لأننا ما أرسلناك على الناس حافظا ورقيبا لأعمالهم، وإنما أرسلناك مبلغا ومنذرا.
وجواب الشرط في قوله وَمَنْ تَوَلَّى محذوف. أى ومن تولى فأعرض عنه فإنا ما أرسلناك عليهم حفيظا.
قال الآلوسى: وقوله- تعالى- مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ بيان لإحكام رسالته إثر بيان تحققها. وإنما كان الأمر كذلك لأن الآمر والناهي في الحقيقة هو الحق- سبحانه- والرسول إنما هو مبلغ للأمر والنهى فليست الطاعة له بالذات إنما هي لمن بلغ عنه. وفي بعض الآثار أن النبي ﷺ كان يقول: من أحبنى فقد أحب الله، ومن أطاعنى فقد أطاع الله. فقال المنافقون: ألا تسمعون إلى ما يقول هذا الرجل؟ لقد قارف الشرك، وهو نهى أن يعبد غير الله. ما يريد إلا أن نتخذه ربا كما اتخذت النصارى عيسى- عليه السلام- فنزلت «١» ».
ثم حكى- سبحانه- بعد ذلك جانبا آخر من صفات المنافقين ومن على شاكلتهم من ضعاف الإيمان حتى يحذرهم المؤمنون الصادقون فقال- تعالى-:
[سورة النساء (٤) : الآيات ٨١ الى ٨٣]
وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (٨١) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (٨٢) وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٣)
(١) تفسير الآلوسى ج ٥ ص ٩١
232
والضمير في قوله وَيَقُولُونَ للمنافقين ومن يلفون لفهم.
أى: أن هؤلاء المنافقين إذا أمرتم يا محمد بأمر وهم عندك يقولون طاعة أى أمرنا وشأننا طاعة. يقولون ذلك بألسنتهم أما قلوبهم فهي تخالف ألسنتهم.
وقوله طاعَةٌ خبر لمبتدأ محذوف وجوبا أى: أمرنا طاعة. ويجوز النصب على معنى:
أطعناك طاعة. كما يقول المأمور لمن أمره: سمعا وطاعة، وسمع وطاعة.
قال صاحب الكشاف: ونحوه قول سيبويه: سمعنا بعض العرب الموثوق بهم يقال له:
كيف أصبحت؟ فيقول: حمد الله وثناء عليه، كأنه قال: أمرى وشأنى حمد الله. ولو نصب «حمد الله» كان على الفعل. والرفع يدل على ثبات الطاعة واستقرارها «١».
ثم حكى- سبحانه- ما يكون عليه أمر هؤلاء المنافقين بعد خروجهم من عند الرسول ﷺ فقال: فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ.
وقوله بَيَّتَ من التبييت واشتقاقه- كما يقول الفخر الرازي- من البيتوتة، لأن أصلح الأوقات للفكر أن يجلس الإنسان في بيته بالليل، فهناك تكون الخواطر أخلى، والشواغل أقل.
لا جرم سمى الفكر المستقصى مبيتا. أو من بيت الشعر، لأن العرب إذا أرادوا قرض الشعر بالغوا في التفكر فيه...
والمراد: زوّر وموّه ودبّر.
والمعنى: أن هؤلاء المنافقين إذا كانوا عندك- يا محمد- وأمرتهم بأمر قالوا: طاعة، فإذا ما خرجوا من عندك وفارقوك دبر وأضمر طائفة منهم وهم رؤساؤهم «غير الذي تقول» أى خلاف ما قلت لتلك الطائفة أو قالت لك من ضمان الطاعة. فهم أمامك يظهرون الطاعة المطلقة، ومن خلفك يدبرون ويضمرون ما يناقض هذه الطاعة ويخالفها.
والتعبير عن الخروج بالبروز للإشارة إلى تفاوت ما بين أحوالهم، وتناقض مظهرهم مع خبيئتهم.
(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٥٢٩.
233
وإسناد هذا التبييت إلى طائفة منهم، لبيان أنهم هم المتصدون له بالذات، أما الباقون فتابعون لهم في ذلك، لا أنهم ثابتون على الطاعة.
وقوله وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ أى يثبته في صحائف أعمالهم. وبفضحهم بسبب سوء أعمالهم في الدنيا، ثم يجازيهم على هذا النفاق بما يستحقون في الآخرة، فالجملة الكريمة تهديد لهم على سوء صنيعهم، لعلهم يكفون عن هذا النفاق، وتطمين للنبي ﷺ بأنه- سبحانه- سيطلعه على مكرهم السيئ لكي يتقى شرهم، ولذا فقد أمره- سبحانه- بعدم الالتفات إليهم، وبالتوكل عليه- تعالى- وحده فقال:
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا. أى: إذا كان هذا هو شأنهم يا محمد.
فلا تكثرت بهم، ولا تلتفت إليهم، وسر في طريقك متوكلا على الله، ومعتمدا على رعايته وحفظه، وكفى بالله وكيلا وكفيلا لمن توكل عليه، واتبع أمره ونهيه. فأنت ترى أن الآية الكريمة قد كشفت عن جانب من صفات المنافقين وأحوالهم، ثم هددتهم على جرائمهم، ورسمت للنبي ﷺ الخطة الحكيمة لعلاجهم واتقاء شرهم.
ثم أنكر- سبحانه- على هؤلاء المنافقين وأشباههم عدم تدبرهم للقرآن وحضهم على تأمل حكمه وأحكامه وهداياته فقال: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ، وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً.
وقوله يَتَدَبَّرُونَ من التدبر، وتدبر الأمر- كما يقول الزمخشري- تأمله والنظر في أدباره وما يئول اليه في عاقبته ومنتهاه، ثم استعمل في كل تأمل فمعنى تدبر القرآن: تأمل معانيه وتبصر ما فيه.
والاستفهام لإنكار عدم تدبرهم، والتعجيب من استمرارهم في جهلهم ونفاقهم مع توفر الأسباب التي توصلهم إلى الهداية وعلى رأسها تدبر القرآن وتفهم معانيه.
والفاء للعطف على مقدر. أى: أيعرضون عن القرآن فلا يتأملون فيه.
والمعنى: إن هؤلاء المنافقين والذين في قلوبهم مرض قد خيب الله سعيهم، وكشف خباياهم، ورأوا بأعينهم سوء عاقبة الكافرين وحسن عاقبة المؤمنين، فهلا دفعهم ذلك إلى الإيمان وإلى تدبر القرآن وما اشتمل عليه من هدايات وإرشادات وأخبار صادقة، وأحكام حكيمة.. تشهد بأنه من عند الله- تعالى-، ولو كان هذا القرآن من عند غير الله أى من إنشاء البشر لوجدوا في أخباره وفي نظمه وفي أسلوبه وفي معانيه اختلافا كثيرا فضلا عن الاختلاف القليل، ولكن القرآن لأنه من عند الله وحده قد تنزه عن كل ذلك وخلا من كل اختلاف سواء أكان كثيرا أم قليلا.
234
فالمراد بالاختلاف: تباين النظم، وتناقض الحقائق، وتعارض الأخبار وتضارب المعاني، وغير ذلك مما خلا منه القرآن الكريم لأنه يتنافى مع بلاغته وصدقه.
وفي ذلك يقول صاحب الكشاف: قوله لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً أى: لكان الكثير منه مختلفا متناقضا قد تفاوت نظمه وبلاغته ومعانيه، فكان بعضه بالغا حد الإعجاز. وبعضه قاصرا عنه تمكن معارضته، وبعضه إخبارا بغيب قد وافق المخبر عنه، وبعضه إخبارا مخالفا للمخبر عنه، وبعضه دالا على معنى صحيح عند علماء المعاني، وبعضه دالا على معنى فاسد غير ملتئم.
فلما تجاوب كله بلاغة معجزة فائقة لقوى البلغاء، وتناصر معان، وصدق أخبار، دل على أنه ليس إلا من عند قادر على ما لم يقدر عليه غيره، عالم بما لا يعلمه أحد سواه» «١».
فالآية الكريمة تدعو الناس في كل زمان ومكان إلى تدبر القرآن الكريم وتأمل أحكامه، والانقياد لما اشتمل عليه من توجيهات وإرشادات وأوامر ونواه، ليسعدوا في دنياهم وآخرتهم.
ثم حكى القرآن بعد ذلك مسلكا آخر من المسالك الذميمة التي عرفت عن المنافقين وضعفاء النفوس فقال- تعالى- وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ.
والمراد بالأمر هنا: الخبر الذي يكون له أثر إذا أشيع وأذيع.
وقوله أَذاعُوا بِهِ أى نشروه وأشاعوه. يقال: أذاع الخبر وأذاع به إذا أفشاه وأعلنه.
والمعنى: أن هؤلاء الذين في قلوبهم مرض إذا سمعوا شيئا من الأخبار التي تتعلق بأمن المسلمين أو خوفهم أذاعوها وأظهروها قبل أن يقفوا على حقيقتها.
قال الآلوسى: والكلام مسوق لبيان جناية أخرى من جنايات المنافقين، أو لبيان جناية الضعفاء أثر بيان جناية المنافقين، وذلك أنهم كانوا إذا غزت سرية من المسلمين قالوا عنها:
أصاب المسلمون من عدوهم كذا. وأصاب العدو من المسلمين كذا وكذا من غير أن يكون النبي ﷺ هو الذي يخبرهم به. وقيل: كان الضعفاء يسمعون من أفواه المنافقين شيئا من الخبر عن السرايا مظنون غير معلوم الصحة فيذيعونه قبل أن يحققوه فيعود ذلك وبالا على المؤمنين» «٢».
ثم بين- سبحانه- ما كان يجب عليهم فعله فقال-: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ.
والمراد بأولى الأمر: كبار الصحابة البصراء بالأمور. وقيل المراد بهم: الولاة وأمراء السرايا.
(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٥٤٠
(٢) تفسير الآلوسى ج ٥ ص ٩٤
235
ويستنبطونه أى يستخرجونه. والاستنباط- كما يقول القرطبي- مأخوذ من استنبطت الماء إذا استخرجته. والنبط: الماء المستنبط أول ما يخرج من ماء البئر أول ما تحفر. وسمى النبط نبطا لأنهم يستخرجون ما في الأرض» «١».
والمعنى: أن هؤلاء المنافقين وضعاف الإيمان كان من شأنهم وحالهم أنهم إذا سمعوا شيئا من الأمور فيه أمن أو خوف يتعلق بالمؤمنين أشاعوه وأظهروه بدون تحقق أو تثبت، بقصد بلبلة الأفكار، واضطراب حال المؤمنين، ولو أن هؤلاء المنافقين ومن يستمعون إليهم ردوا ذلك الخبر الذي جاءهم والذي أشاعوه بدون تثبت، لو أنهم ردوه إلى الرسول ﷺ وإلى كبار الصحابة البصراء في الأمور: لَعَلِمَهُ أى لعلم حقيقة ذلك الخبر الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ أى: الذين يستخرجونه ويستعملونه ويتطلبونه وهم المنافقون المذيعون للأخبار مِنْهُمْ أى: من الرسول وأولى الأمر.
أى: لو أن أولئك المنافقين وأشباههم الذين يستخرجون الأخبار ويذيعونها بغير تثبت سكتوا عن إذاعتها وردوا الأمر في شأنها إلى الرسول وإلى كبار أصحابه، لو أنهم فعلوا ذلك لعلموا من جهة الرسول ومن جهة كبار أصحابه حقيقة تلك الأخبار، وما يجب عليهم نحوها من كتمان أو إذاعة.
وعلى هذا يكون الضمير في قوله مِنْهُمْ في الموضعين يعود إلى الرسول وإلى أولى الأمر.
ويكون المراد بالذين يستنبطونه: المنافقون وضعاف الإيمان الذين يذيعون الأخبار ويكون في الكلام إظهار في مقام الإضمار حيث قال: سبحانه- لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ولم يقل لعلموه منهم، وذلك لزيادة تقرير الغرض المسوق له الكلام، وللمبالغة في ذمهم على بجثهم وراء الأخبار الخفية الهامة واستنباطها وتطلبها ثم إذاعتها بقصد الإضرار بمصلحة المسلمين.
وقد ذكر الفخر الرازي في المراد بالذين يستنبطونه وجها آخر فقال:
وفي قوله الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ قولان:
الأول: أنهم أولئك المنافقون المذيعون.
والتقدير: لو أن هؤلاء المنافقين المذيعين للأخبار ردوا أمر الأمن والخوف إلى الرسول وإلى أولى الأمر، وطلبوا معرفة الحال فيه من جهتهم، لعلمه الذين يستنبطونه وهم هؤلاء المنافقون المذيعون مِنْهُمْ أى من جانب الرسول ومن جانب أولى الأمر.
(١) تفسير القرطبي ج ٥ ص ٢٩١
236
والقول الثاني: أنهم طائفة من أولى الأمر. والتقدير: ولو أن المنافقين ردوا إلى الرسول وإلى أولى الأمر لكان علمه حاصلا عند من يستنبط هذه الوقائع من أولى الأمر، وذلك لأن أولى الأمر فريقان: بعضهم من يكون مستنبطا، وبعضهم من لا يكون كذلك. فقوله مِنْهُمْ يعنى لعلمه الذين يستنبطون المخفيات من طوائف أولى الأمر.
فإن قيل: إذا كان الذين أمرهم الله برد هذه الاخبار إلى الرسول وإلى المؤمنين هم المنافقون فكيف جعل أولى الأمر منهم في قوله وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ؟ قلنا: إنما جعل أولى الأمر منهم على حسب الظاهر. لأن المنافقين يظهرون من أنفسهم أنهم يؤمنون. ونظيره قوله- تعالى-:
وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ «١».
ثم ختم- سبحانه- الآية ببيان فضله على عباده فقال وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلًا.
أى: ولولا فضل الله عليكم ورحمته بكم- أيها المؤمنون- بتوفيقه إياكم إلى الخير والطاعة، لوقعتم في إغواء الشيطان كما وقع هؤلاء المنافقون وأشباههم، إلا عددا قليلا منكم وهم الذين أخلصوا دينهم لله واعتصموا به فصاروا لا سبيل للشيطان عليهم كما قال- تعالى- إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ.
هذا. ومن الأحكام والآداب التي أخذها العلماء من هذه الآية الكريمة وجوب عدم إذاعة الأخبار- خصوصا في حالات الحرب- إلا بعد التأكد من صحتها ومن عدم إضرارها بمصلحة المسلمين.
وفي ذلك يقول الإمام ابن كثير: قوله- تعالى- وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ إنكار على من يبادر إلى الأمور قبل تحققها فيخبر بها ويفشيها وينشرها، وقد لا يكون لها صحة. وفي صحيح مسلم عن أبى هريرة عن رسول الله ﷺ أنه قال: «كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع».
وفي الصحيحين عن المغيرة بن شعبة أن رسول الله ﷺ نهى عن قيل وقال. أى: الذي يكثر من الحديث عما يقول الناس من غير تثبت ولا تدبر ولا تبين.
وفي الصحيح «من حدث بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين».
وفي سنن أبى داود أن رسول الله ﷺ قال: «بئس مطية الرجل زعموا» «٢».
(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٠ ص ١٩٩
(٢) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٥٢٩
237
وقد عدد الفخر الرازي المضار التي تعود على الأمة بسبب إذاعة الأخبار بدون تثبت فقال:
وكان سبب الضرر من إذاعة هذه الأخبار من وجوه:
الأول: أن مثل هذه الإرجافات لا تنفك عن الكذب الكثير.
الثاني: أنه إذا كان ذلك الخبر في جانب الأمن زادوا فيه زيادات كثيرة. فإذا لم توجد فيه تلك الزيادات، أورث ذلك شبهة للضعفاء في صدق الرسول ﷺ لأن المنافقين كانوا يروون هذه الإرجافات عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
وإن كان ذلك في جانب الخوف تشوش الأمر بسببه على ضعفاء المسلمين، ووقعوا عنده في الحيرة والاضطراب، فكانت تلك الإرجافات سببا للفتنة من هذا الوجه.
الثالث: أن الإرجاف سبب لتوفير الدواعي على البحث الشديد والاستقصاء التام. وذلك سبب لظهور الأسرار. وذلك مما لا يوافق المصلحة.
الرابع: أن العداوة الشديدة كانت قائمة بين المسلمين والكفار. فكل ما كان أمنا لأحد الفريقين كان خوفا للفريق الثاني. فإن وقع خبر الأمن للمسلمين وحصول العسكر وآلات الحرب لهم. أرجف المنافقون بذلك، فوصل الخبر إلى الكفار فأخذوا في التحصن من المسلمين. وإن وقع خبر الخوف للمسلمين بالغوا في ذلك وزادوا فيه. فظهر من ذلك أن ذلك الإرجاف كان منشأ للفتن والآفات من كل الوجوه. ولما كان الأمر كذلك ذم الله- تعالى- تلك الإذاعة وذلك التشهير ومنعهم منه) «١».
وقال الشيخ محمد المنير- الذي عاصر الحروب الصليبية- معلقا على هذه الآية: (في هذه الآية تأديب لمن يحدث بكل ما يسمع وكفى به كذبا وخصوصا عن مثل السرايا والمناصبين الأعداء العداوة، والمقيمين في نحر العدو. وما أعظم المفسدة في لهج العامة بكل ما يسمعون من أخبارهم خيرا أو غيره. ولقد جربنا ذلك في زماننا هذا منذ طرق العدو المخذول البلاد- طهرها الله منه وصانها من رجسه ونجسه، وعجل للمسلمين الفتح وأنزل عليهم السكينة والنصر) «٢».
والخلاصة، أن إذاعة الأخبار بدون تثبت- خصوصا في أوقات الحروب تؤدى إلى أعظم المفاسد والشرور، لأنها إن كانت تتعلق بالأمن فإنها قد تحدث لونا من التراخي وعدم أخذ الحذر، وإن كانت تتعلق بالخوف فإنها قد تحدث بلبلة واضطرابا في الصفوف.
(١) تفسير الفخر الرازي ج ٩ ص ١٩٨
(٢) حاشية تفسير الكشاف ج ١ ص ٥٤٠
238
والمجتمع الذي يكثر فيه العقلاء الفطناء هو الذي تقل فيه إذاعة الأخبار إلا من مصادرها الأصيلة، وهو الذي يرجع أفراده في معرفة الحقائق إلى العلماء المتخصصين.
وهكذا نرى الآية الكريمة تغرس في نفوس المؤمنين أسمى ألوان الإخلاص لدينهم ودولتهم وقيادتهم، فهي في مطلعها تنكر عليهم إذاعة الاخبار بدون تحقق من صدقها ومن فائدتها، وفي وسطها تأمرهم بأن يرجعوا إلى حقائق دينهم وإلى الحكام العادلين، والعلماء المخلصين الذين يعرفون الأمور على وجهها ليسألوهم عما يريدون معرفته، وفي آخرها تذكرهم بفضل الله عليهم ورحمته بهم حتى يداوموا على طاعته، ويشكروه على نعمه.
وبعد هذا الحديث الحكيم عن أحوال المنافقين وضعفاء الإيمان، وعن تباطئهم عن الجهاد وإشاعتهم للأخبار بدون تثبت، بعد كل ذلك أمر الله- تعالى- نبيه محمدا ﷺ أن يستمر في قتاله للمشركين، وأن يحرض أصحابه على ذلك، كما أرشد- سبحانه- المؤمنين إلى طائفة من مكارم الأخلاق التي تقوى رابطتهم فقال- تعالى-:
[سورة النساء (٤) : الآيات ٨٤ الى ٨٧]
فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (٨٤) مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (٨٥) وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (٨٦) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً (٨٧)
والفاء في قوله فَقاتِلْ للإفصاح عن جواب شرط مقدر. أى:
239
إلى أفعالهم وأقوالهم.
وقوله لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ أى: قاتل- يا محمد- في سبيل إعلاء كلمة الله، والله- تعالى- لا يكلفك إلا فعل نفسك، فتقدم للجهاد ولا تلتفت إلى تباطؤ المتباطئين، أو تخذيل المخذلين، فإن الله هو ناصرك لا الجنود، فإن شاء نصرك وحدك كما ينصرك وحولك الألوف.
وجملة لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ في محل نصب على الحال من فاعل فقاتل. أى: فقاتل حال كونك غير مكلف إلا نفسك وحدها.
قال صاحب الكشاف: قيل: دعا النبي ﷺ الناس في بدر الصغرى إلى الخروج، وكان أبو سفيان قد واعد رسول الله ﷺ اللقاء فيها. فكره بعضهم أن يخرجوا فنزلت فخرج رسول الله ﷺ وما معه إلا سبعون لم يعولوا على أحد. ولو لم يتبعه أحد لخرج وحده، وقرئ لا تُكَلَّفُ بالجزم على النهى. ولا نكلف: بالنون وكسر اللام.
أى: لا نكلف نحن إلا نفسك وحدها» «١».
وقوله وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ أى: حثهم على القتال ورغبهم فيه، حتى ينفروا معك خفافا وثقالا من أجل نصرة الحق والدفاع عن المظلومين.
ولقد استجاب النبي ﷺ لهذه الأوامر، وأعد نفسه لقتال أعدائه، ورغب أتباعه في ذلك، ولذا قال ﷺ عند ما أذن الله له في القتال «والله لأقاتلنهم حتى تنفرد سالفتي» «٢» أى: حتى أموت.
ولقد اقتدى به أبو بكر الصديق في حروب الردة فقال: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، والله لو منعونى عناقا كانوا يؤدونها لرسول الله ﷺ لقاتلتهم على منعها. ولو خالفتني يميني لجاهدتهم بشمالي «٣».
ولقد استفاضت أحاديث النبي ﷺ في ترغيب أمته في الجهاد، ومن ذلك قوله لأصحابه يوم بدر وهو يسوى الصفوف: قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض.
قال الفخر الرازي: دلت الآية الكريمة على أنه ﷺ كان أشجع الخلق وأعرفهم بكيفية القتال، لأنه- تعالى- ما كان يأمره بذلك إلا وهو ﷺ موصوف بهذه الصفات. ولقد اقتدى به أبو بكر- رضى الله عنه- حيث حاول الخروج وحده لقتال ما نعى الزكاة، ومن علم أن الأمر
(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٤٢
(٢) السالفة: صفحة العنق، وكنى بانفرادها عن الموت لأنها لا تنفرد عما يليها إلا به. [.....]
(٣) تفسير القرطبي ج ٥ ص ٢٩٣
240
كله بيد الله، وأنه لا يحصل أمر من الأمور إلا بقضاء الله سهل عليه ذلك. ودلت الآية على أنه ﷺ لو لم يساعده على القتال غيره لم يجز له التخلف عن الجهاد» «١».
وقوله: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا بشارة للمؤمنين، ووعد منه- سبحانه- بحسن عاقبتهم وسوء عاقبة الكافرين. وعَسَى حرف ترج. وهو هنا يفيد التحقق واليقين، لأنه صادر عن الله- تعالى-، الذي لا يخلف وعده. وفي التعبير بها تعليم للمؤمنين الأدب في القول حتى لا يجزمون بأمر يتعلق بالمستقبل، بل يسددون ويقاربون ويباشرون الأسباب ثم بعد ذلك يتركون النتائج لله- تعالى- والمعنى: قاتل يا محمد في سبيل الله وحرض المؤمنين على ذلك، عسى الله- تعالى- أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا أى يمنع قتالهم وصولتهم وطغيانهم وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً أى أشد صولة وأعظم سلطانا، وأقدر بأسا على ما يريده وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا أى أشد عقوبة وتعذيبا.
والتنكيل: مصدر من قول القائل نكلت بفلان فأنا أنكل به تنكيلا إذا أوجعته عقوبة، وجعلته عبرة لغيره. وأصله التعذيب بالنكل وهو القيد، ثم استعمل في كل تعذيب بلغ الغاية في الشدة والألم.
وأفعل التفضيل أَشَدُّ ليس على بابه، لأن بأس المشركين لا قيمة له بجانب بأس الله- تعالى- وقوته ونفاذ أمره. وعذابهم لغيرهم من الضعفاء لا وزن له بجانب عذابه- سبحانه- للظالمين، لأن عذابهم لغيرهم يمكن التخلص منه أما عذابه- سبحانه- فلا يمكن التخلص منه ولأن عذابهم لغيرهم سينتهي مهما طال، أما عذابه- سبحانه- للكافرين الظالمين فهو باق دائم لا ينتهى ولا يزول.
والمقصود من هذا التذييل تهديد الكافرين بسوء المصير وتشجيع المؤمنين على قتالهم، وبشارتهم النصر عليهم:
قال القرطبي: قوله- تعالى- عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا إطماع، والإطماع من الله- تعالى- واجب لأن إطماع الكريم إيجاب..
فإن قال قائل: نحن نرى الكفار في بأس وشدة، وقلتم: إن عسى بمعنى اليقين فأين ذلك الوعد؟ قيل له: قد وجد هذا الوعد ولا يلزم وجوده على الاستمرار والدوام. فمتى وجد ولو لحظة مثلا فقد صدق الوعد فقد كف الله بأس المشركين في بدر الصغرى. وفي الحديبية وفي
(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٠ ص ٢٠٤
241
غزوة الأحزاب حيث ألقى الله- تعالى- في قلوب الأحزاب الرعب فانصرفوا دون أن ينالوا خيرا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ. فهذا كله بأس قد كفه الله عن المؤمنين «١».
ثم رغب- سبحانه المؤمنين في التوسط في الخير، وحذرهم من التوسط في الشر، فقال:
مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها، وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها والشفاعة: هي التوسط بالقول في وصول إنسان إلى منفعة دنيوية أو أخروية، أو إلى إنقاذه من مضرة. وهي مأخوذة من الشفع وهو الزوج في العدد ضد الوتر. فكأن المشفوع له كان وترا فجعله الشفيع شفعا.
والنصيب: الحظ من كل شيء. والكفل: الضعف والنصيب والحظ.
قال الجمل: واستعمال الكفل في الشر أكثر من استعمال النصيب فيه وإن كان كل منهما قد يستعمل في الخير كما قال- تعالى- يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ ولقلة استعمال النصيب في الشر وكثرة استعمال الكفل فيه غاير بينهما في الآية الكريمة حيث أتى بالكفل مع السيئة وبالنصيب مع الحسنة» «٢».
والمعنى: من يشفع شفاعة حسنة، أى يتوسط في أمر يترتب عليه خير يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها أى: يكن له ثواب هذه الشفاعة الحسنة. وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً وهي ما كانت في غير طريق الخير يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها أى: يكن له نصيب من وزرها وإثمها، لأنه سعى في الفساد ولم يسع في الخير.
وإطلاق الشفاعة على السعى في الشر من باب المشاكلة، لأن الشفاعة لا تطلق إلا على الوساطة في الخير.
والآية الكريمة وإن كانت واردة على سبيل التعميم في بيان جزاء كل شفاعة حسنة أو كل شفاعة سيئة، إلا أن المقصود بها قصدا أوليا ترغيب المؤمنين في أن يعاون بعضهم بعضا على الجهاد في سبيل الله، وفي انضمام بعضهم إلى بعض من أجل نصرة الحق، وتهديد المنافقين الذين كان يشفع بعضهم لبعض لكي يأذن لهم النبي ﷺ في التخلف عن الجهاد. وقد رجح هذا الاتجاه الإمام ابن جرير فقال ما ملخصه:
يعنى- سبحانه- بقوله مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها من يصر يا محمد شفعا لوتر أصحابك، فيشفعهم في جهاد عدوهم
(١) تفسير القرطبي ج ٥ ص ٢٩٤- بتصرف وتلخيص
(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ١ ص ٤٠٧
242
وقتالهم في سبيل الله، وهو الشفاعة الحسنة يكن له نصيب منها، أى يكن له من شفاعته تلك نصيب، وهو الحظ من ثواب الله وجزيل كرامته. ومن يشفع وتر أهل الكفر بالله على المؤمنين به، فيقاتلهم وذلك هو الشفاعة السيئة يكن له كفل منها. يعنى بالكفل: النصيب والحظ من الوزر والإثم، وهو مأخوذ من كفل البعير والمركب، وهو الكساء أو الشيء يهيأ عليه شبيه بالسرج على الدابة. يقال: جاء فلان مكتفلا: إذا جاء على مركب قد وطئ له... وقد قيل: إن الآية عنى بها شفاعة الناس بعضهم لبعض. وغير مستنكر أن تكون الآية نزلت فيما ذكر، ثم عم بذلك كل شافع بخير أو شر.
وإنما اخترنا ما قلنا من القول في ذلك لأنه في سياق الآية التي أمر الله نبيه فيها بحض المؤمنين على القتال. فكان ذلك بالوعد لمن أجاب رسول الله ﷺ والوعيد لمن أبى إجابته أشبه منه من الحث على شفاعة الناس بعضهم لبعض التي لم يجر لها ذكر قبل. ولا لها ذكر بعد «١».
وقوله وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً تذييل قصد به تعريف الناس أنه- سبحانه- سيجازى كل إنسان بعمله، حتى يكثروا من فعل الخير ويقلعوا عن فعل الشر.
ومقيتا: أى مقتدرا. من أقات على الشيء اقتدر عليه. ومنه قول الزبير ابن عبد المطلب:
إذا كان الأمر كما حكى- سبحانه- عن المنافقين وكيدهم فقاتل أنت يا محمد من أجل إعلاء كلمة الله ولا تلتفت
وذي ضغن كففت النفس عنه وكنت على مساءته مقيتا
أى: وكنت على رد إساءته مقتدرا.
أو مقيتا: معناها حفيظا من القوت وهو ما يمسك الرمق من الرزق وتحفظ به الحياة:
والمعنى: وكان الله تعالى- وما زال على كل شيء مقتدرا لا يعجزه شيء، وحفيظا على أحوال الناس لا يغيب عنه شيء من ذلك، وسيجازيهم بما يستحقون من ثواب أو عقاب.
هذا وقد وردت أحاديث متعددة في الحض على الشفاعة الحسنة، ومن ذلك ما أخرجه الشيخان عن أبى موسى الأشعرى قال: «كان النبي ﷺ إذا أتاه طالب حاجة أقبل على جلسائه فقال: «اشفعوا تؤجروا ويقضى الله على لسان نبيه ما أحب».
قال صاحب الكشاف: والشفاعة الحسنة هي التي روعي بها حق مسلم، ودفع بها عنه شر أو جلب إليه خير، وابتغى بها وجه الله، ولم تؤخذ عليها رشوة، وكانت في أمر جائز، لا في حد من حدود الله ولا في حق من الحقوق- يعنى الواجبة عليه- والسيئة ما كانت بخلاف ذلك.
وعن مسروق: أنه شفع شفاعة. فأهدى إليه المشفوع له جارية. فغضب وردها. وقال:
لو علمت ما في قلبك ما تكلمت في حاجتك. ولا أتكلم فيما بقي منها» «٢».
(١) تفسير ابن جرير ج ٥ ص ٢٨٦
(٢) تفسير الكشاف ج ١ ص ٥٤٢
.
243
وبعد أن أمر الله- تعالى- عباده بالشفاعة الحسنة ونهاهم عن الشفاعة السيئة، أتبع ذلك بتعليمهم أدب اللقاء والمقابلة حتى تزيد المودة والمحبة بينهم فقال- تعالى-: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها.
والتحية: تفعلة من حييت والأصل تحيية مثل ترضية وتسمية فأدغموا الياء في الياء. قال الراغب: أصل التحية من الحياة، بأن يقال حياك الله، أى: جعل لك حياة، وذلك إخبار ثم جعل دعاء تحية. يقال: حيا فلان فلانا تحية إذا قال له ذلك «١».
وكان من عادة العرب إذا لقى بعضهم بعضا أن يقولوا على سبيل المودة: حياك الله فلما جاء الإسلام أبدل ذلك بالسلام والأمان بأن يقول المسلم لأخيه المسلم: السلام عليكم وأضيف إليها الدعاء برحمة الله وبركاته.
قال ابن كثير: قوله- تعالى- وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها أى: إذا سلم عليكم المسلم فردوا عليه بأفضل مما سلم، أوردوا عليه بمثل ما سلم. فالزيادة مندوبة والمماثلة مفروضة. فعن سلمان الفارسي قال: جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: السلام عليكم يا رسول الله. فقال «وعليك السلام ورحمة الله» ثم جاء آخر فقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وعليك السلام ورحمة الله وبركاته. ثم جاء ثالث فقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته فقال له: (وعليك) فقال له الرجل:
يا رسول الله، بأبى أنت وأمى أتاك فلان وفلان فسلما عليك فرددت عليهما أكثر مما رددت على.
فقال (إنك لم تترك لنا شيئا) قال الله- تعالى-: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها فرددناها عليك. وفي الحديث دلالة على أنه لا زيادة في السلام على هذه الصفة:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. إذ لو شرع أكثر من ذلك لزاده رسول الله ﷺ «٢»
.
فأنت ترى أن الآية الكريمة تدعو المؤمنين إلى أن يردوا التحية على من يحيونهم وأن يفشوا هذه التحية بينهم، لأن إفشاءها يؤدى إلى توثيق علاقات المحبة والمودة بين المسلمين.
وقد ورد في الحض على إفشاء السلام أحاديث كثيرة منها ما رواه مسلم في صحيحه عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا.
ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم».
وقوله إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً تذييل قصد به بعث الناس على امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه.
(١) مفردات القرآن للراغب الاصفهانى ص ١٤٠
(٢) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٥٣١
.
244
أى: إن الله- تعالى- كان وما زال مهيمنا على عباده، بصيرا بكل أقوالهم وأعمالهم، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وسيحاسب الناس يوم القيامة على أفعالهم، وسيجازيهم عليها بما يستحقون فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ.
وإذا كان الأمر كذلك فالعاقل هو الذي يفعل ما أمره الله- تعالى- بفعله، ويجتنب ما أمره الله- تعالى- باجتنابه.
هذا وقد تكلم العلماء هنا كلاما طويلا في كيفية السلام وفي فضله، وفي بعض أحكامه المأثورة، فارجع إلى كلامهم إن شئت «١».
ثم بين- سبحانه- أن مصير العباد جميعا إليه يوم القيامة فقال- تعالى- اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ.
أى: الله الواحد الأحد الفرد الصمد والذي لا معبود بحق سواه، كتب على نفسه أنه ليبعثنكم من قبوركم وليحشرنكم إلى الحساب في يوم القيامة الذي لا شك في حصوله ووقوعه.
فالجملة الكريمة قررت أن العبادة الحق إنما هي لله رب العالمين، كما قررت أن يوم الحساب آت لا شك فيه مهما أنكره الملحدون، ومارى فيه الممارون.
ولفظ الجلالة مبتدأ، وجملة «لا إله إلا هو» خبر. وقوله لَيَجْمَعَنَّكُمْ جواب قسم محذوف. أى والله ليحشرنكم من قبوركم للحساب يوم القيامة. والجملة القسمية إما مستأنفة لا محل لها من الإعراب، أو هي خبر ثان للمبتدأ أو هي الخبر وجملة لا إله إلا هو معترضة.
وقوله لا رَيْبَ فِيهِ في محل نصب على الحال من يوم إذ الضمير في قوله (فيه) يعود إلى اليوم. ويجوز أن يكون في محل نصب على أنه نعت لمصدر محذوف دل عليه ليجمعنكم أى:
ليجمعنكم جمعا لا ريب فيه.
والاستفهام في قوله- تعالى- وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً للإنكار والنفي أى: لا يوجد في هذا الوجود من هو أصدق من الله- تعالى في حديثه وخبره ووعده ووعيده، وذلك لأن الكذب قبيح، والله- تعالى- منزه عن كل قبيح. ولأن الكاذب إنما يكذب لجر منفعة، أو لدفع مضرة، أو لجهله بقبح الكذب.. والله- تعالى- غنى عن كل شيء، وقدير على كل شيء وخالق لكل شيء، ومن كان كذلك لا يصدر عنه كذب وإنما يصدر عنه كل حق وصدق وعدل.
(١) راجع القرطبي ج ٥ ص ٢٩٨. والآلوسي ج ٥ ص ٩٨. والفخر الرازي ج ١٠ ص ٢٠٨.
245
ثم واصلت السورة الكريمة حديثها عن أحوال المنافقين، وبينت حكم الله- تعالى- فيهم، ورسمت للمؤمنين طريق معاملتهم لغيرهم فقال تعالى:
[سورة النساء (٤) : الآيات ٨٨ الى ٩١]
فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (٨٨) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٨٩) إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (٩٠) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (٩١)
أورد المفسرون في سبب نزول قوله- تعالى- فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ روايات أهمها روايتان:
246
أولهما: أن هذه الآية نزلت في شأن المنافقين الذين تخلفوا عن الاشتراك مع المؤمنين في غزوة أحد. وذلك أن رسول الله ﷺ خرج إلى أحد ومعه المسلمون. وفي الطريق رجع عبد الله بن أبى بن سلول بثلث الناس وقالوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ فاختلف أصحاب النبي ﷺ في شأن هؤلاء المنافقين. فقال بعضهم: نقتلهم فقد كفروا.
وقال آخرون: لم يكفروا. فأنزل الله- تعالى- الآية. فقال رسول الله ﷺ (إنها طيبة وإنها تنفى الخبث كما ينفى الكير خبث الحديد) :
أما الرواية الثانية: فيؤخذ منها أنها نزلت في قوم كانوا يظهرون الإسلام بمكة إلا أنهم كانوا يظاهرون المشركين. فقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس أن قوما كانوا بمكة قد تكلموا بالإسلام وكانوا يظاهرون المشركين، فخرجوا من مكة يطلبون حاجة لهم. فقالوا: إن لقينا أصحاب محمد فليس علينا منهم بأس. وإن المؤمنين لما أخبروا أنهم قد خرجوا من مكة، قالت فئة من المؤمنين: اركبوا إلى هؤلاء الخبثاء فاقتلوهم، فإنهم يظاهرون عدوكم. وقالت فئة أخرى من المؤمنين: سبحان الله: - أو كما قالوا- أتقتلون قوما قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به؟ أمن أجل أنهم لم يهاجروا ولم يتركوا ديارهم تستحل دماؤهم وأموالهم؟ فكانوا كذلك فئتين والرسول ﷺ عندهم لا ينهى واحدا من الفريقين عن شيء، فنزلت: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ.
وهناك روايات أخرى قريبة من هذه الرواية في معناها قد ذكرها المفسرون «١».
ويبدو لنا أن الرواية الثانية هي الأقرب إلى سياق الآيات وإلى الواقع التاريخى، لأنه من الثابت تاريخيا أن منافقي المدينة لم يرد أمر بقتالهم، وإنما استعمل معهم الرسول ﷺ وسائل أخرى أدت إلى نبذهم وهوان أمرهم، ولأن قوله- تعالى- بعد ذلك فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا يؤيد أنه ليس المقصود بالمنافقين هنا منافقي المدينة، وإنما المقصود بهم جماعة أخرى من المنافقين كانوا خارج المدينة، إذ لا هجرة من المدينة إلى غيرها وإنما الهجرة تكون من غيرها إليها، لأنها دار الإسلام، ولم يكن فتح مكة قد تم عند نزول هذه الآية.
وقد رجح الإمام ابن جرير سبب النزول الذي حكته الرواية الثانية فقال ما ملخصه: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: نزلت هذه الآية في اختلاف أصحاب رسول الله في قوم كانوا قد ارتدوا عن الإسلام بعد إسلامهم من أهل مكة. وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب لأن قوله- تعالى- بعد ذلك فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا أوضح دليل على أنهم كانوا من غير أهل المدينة، لأن الهجرة كانت على عهد رسول الله إلى داره ومدينته من سائر أرض
(١) راجع الآلوسى ج ٥ ص ١٠٧ وتفسير الفخر الرازي ج ١٠ ص ٢٨١
247
الكفر. فأما من كان من المدينة في دار الهجرة مقيما من المنافقين وأهل الشرك فلم يكن عليه فرض هجرة «١».
والفاء في قوله فَما لَكُمْ للتفريع على ما تقدم من أخبار المنافقين وأحوالهم أو هي للإفصاح و «ما» مبتدأ و «لكم» خبره.
قال الجمل: وقوله «في المنافقين» فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه متعلق بما تعلق به الخبر وهو «لكم» أى: أى شيء كائن لكم أو مستقر لكم في أمر المنافقين.
والثاني: أنه متعلق بمعنى فئتين، فإنه لي قوة: ما لكم تفترقون في أمر المنافقين فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
والثالث: أنه متعلق بمحذوف على أنه حال من فئتين، لأنه في الأصل صفة لها تقديره:
فئتين مفترقتين في المنافقين وصفة النكرة إذا تقدمت عليها انتصبت حالا. وقوله «فئتين» حال من ضمير «لكم» المجرور والعامل فيه الاستقرار أو الظرف لنيابته عنه... «٢».
والاستفهام لإنكار خلافهم في شأن المنافقين ولوم المؤمنين الذين أحسنوا الظن بالمنافقين مع أن أحوال هؤلاء المنافقين تدعو إلى سوء الظن بهم.
والمعنى: لقد سقت لكم- أيها المؤمنون- من أحوال المنافقين ما يكشف عن خبثهم ومكرهم، وبينت لكم من صفاتهم ما يدعو إلى الحذر منهم وسوء الظن بهم، وإذا كان هذا هو حالهم فما الذي سوغ لكم أن تختلفوا في شأنهم إلى فئتين؟ فئة تحسن الظن بهم وتدافع عنهم، وفئة أخرى صادقة الفراسة، سليمة الحكم لأنها عند ما رأت الشر قد استحوذ على المنافقين أعرضت عنهم، واحتقرتهم، وأخذت حذرها منهم، وحكمت عليهم بالحكم الذي رضيه الله- تعالى.
والآن- أيها المؤمنون- بعد أن ظهر الحق، وانكشف حال أولئك المنافقين، عليكم أن تتركوا الخلاف في شأنهم، وأن تتفقوا جميعا على أنهم قوم بعيدون عن الحق والإيمان.
ومنغمسون في الضلال والبطلان.
وقوله وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا حال من المنافقين مفيد لتأكيد الإنكار السابق أى: لم تختلفون- أيها المؤمنون- في شأن المنافقين هذا الاختلاف والحال أن الله- تعالى- قد ردهم
(١) تفسير ابن جرير ج ٥ ص ١٩٤
(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ١ ص ٤٠٨
248
إلى الكفر بعد الإيمان بسبب أقوالهم الأثيمة، وأعمالهم القبيحة.
وقوله أَرْكَسَهُمْ من الركس وهو رد أول الشيء على آخره. يقال: ركس الشيء يركسه ركسا إذا قلبه على رأسه. والركس والنكس بمعنى واحد.
والاستفهام في قوله أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ للإنكار على من أحسن الظن بأولئك المنافقين.
أى: أتريدون أيها المؤمنون الذين أحسنتم الظن بهؤلاء المنافقين أن تعدوهم من جملة المهتدين، مع أن الله- تعالى- قد خلق فيهم الضلال، لأنهم قد استحبوا العمى على الهدى، وآثروا الغي على الرشد.
وقوله وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا أى: ومن يكتب الله عليه الضلالة، فلن تجد أحدا يهديه ويرشده، لأن قضاء الله لا يتبدل، وقدره لا يتخلف.
وقوله- تعالى- وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً كلام مستأنف مسوق لبيان غلوهم وتماديهم في الكفر وتصديهم لإضلال غيرهم إثر بيان كفرهم وضلالهم في أنفسهم.
أى: أن هؤلاء المنافقين الذين يحسن الظن بهم بعضكم- أيها المؤمنون- لا يكتفون بكفرهم في أنفسهم بل هم يتمنون ويودون كفركم مثلهم بحيث تكونون أنتم وهم متساوين في الكفر والنفاق، وإذا كان هذا هو حالهم فكيف تطمعون في إيمانهم؟ وكيف تحسنون الظن بهم؟
ولَوْ في قوله وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ مصدرية. أى تمنوا كفركم. وقوله كَما كَفَرُوا نعت لمصدر محذوف: أى تمنوا أن تكفروا كفرا مثل كفرهم.
وقوله فَتَكُونُونَ سَواءً معطوف على قوله لَوْ تَكْفُرُونَ ومفرع عليه. أى: ودوا لو تكفرون فتكونون مستوين معهم في الضلال والكفر والنفاق.
وما أبلغ التعبير في جانب محاولة المؤمنين بالإرادة في قوله أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وفي جانب محاولة المنافقين بالود لأن الإرادة ينشأ عنها الفعل. فالمؤمنون يستقربون حصول الإيمان من المنافقين، لأن الإيمان قريب من فطرة الناس وعقولهم. والمنافقون يعلمون أن المؤمنين لا يرتدون عن دينهم، ويرونهم متمسكين به غاية التمسك، فلم يكن طلبهم تكفير المؤمنين إلا كلون من التمني الذي لا أمل في تحققه، فعبر عنه بالود المجرد، أى ودوا ذلك ولكنه ود بعيد التحقق.
وقوله فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ نهى من الله- تعالى- للمؤمنين عن موالاة المنافقين حتى يصدر منهم ما يدل على إقلاعهم عن النفاق والضلال.
249
والفاء في قوله: فَلا تَتَّخِذُوا للإفصاح عن شرط مقدر. والتقدير إذا كان هذا هو شأن المنافقين فلا يصح لكم- أيها المؤمنون- أن تتخذوا منهم أولياء أو نصراء أو أصدقاء حتى تتحقوا من إسلامهم بأن يهاجروا من أجل إعلاء كلمة الله من دار الكفر التي يقيمون فيها ويناصرون أهلها إلى دار الإيمان التي تقيمون فيها، وينضمون إليكم لنصرة الحق، ودفع الظلم.
قال الفخر الرازي ما ملخصه: (دلت الآية على أنه لا يجوز موالاة المشركين والمنافقين والمشتهرين بالزندقة لأن أعز الأشياء وأعظمها عند جميع الخلق هو الدين، لأنه هو الأمر الذي به يتقرب إلى الله، ويتوسل به إلى السعادة... وإذا كان الأمر كذلك، امتنع طلب المحبة والولاية في الموضع الذي يكون أعظم موجبات العداوة حاصلا فيه ودلت على إيجاب الهجرة بعد الإسلام- أى فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يسلموا ويهاجروا- وأنهم إن أسلموا لم يكن بيننا وبينهم موالاة إلا بعد الهجرة. ونظيره قوله- تعالى- ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا.
واعلم أن هذا التكليف إنما كان لازما حال ما كانت الهجرة مفروضة ففي الحديث الشريف: «أنا برىء من كل مسلم أقام بين أظهر المشركين. وأنا برىء من كل مسلم مع مشرك». فكانت الهجرة واجبة إلى أن فتحت مكة. ثم نسخ فرض الهجرة بما رواه ابن عباس عن رسول الله ﷺ أنه قال يوم فتح مكة «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية». وروى عن الحسن أن حكم الآية ثابت في كل من أقام في دار الحرب فرأى فرض الهجرة إلى دار الإسلام قائما) «١».
وقوله: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ، وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً بيان لحكم الله- تعالى- في هؤلاء المنافقين إذا ما استمروا في غيهم وضلالهم.
والمعنى: فإن أعرض هؤلاء المنافقون عن الهجرة في سبيل الله- تعالى- فلا تعتبروا إسلامهم، بل خذوهم في الأسر، وضيقوا عليهم (واقتلوهم حيث وجدتموهم) لأنهم أعداء لكم وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ في هذه الحالة وَلِيًّا توادونه وتصادقونه وَلا نَصِيراً تنتصرون به على أعدائكم، لأن ولاية هؤلاء المنافقين محادة لله ولرسوله، والتناصر بهم يؤدى إلى الخذلان كما قال- تعالى- لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا.
فالجملة الكريمة تأمر المؤمنين بقتل أولئك المنافقين الذين ظهر الكفر منهم وتنهاهم عن اتخاذهم أولياء أو أصدقاء وعن الاستنصار بهم.
(١) تفسير الفخر الرازي ج ١ ص ٢٢١.
250
وقوله: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ استثناء من الضمير المنصوب في قوله فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ.
وقوله يَصِلُونَ بمعنى يلتجئون ويتصلون. الميثاق العهد الموثق.
والمعنى: أن الله- تعالى- يأمركم- أيها المؤمنون- أن تأخذوا وتقتلوا أولئك المنافقين الذين أظهروا كفرهم وتمنوا أن تكونوا مثلهم، وامتنعوا عن الهجرة إلى دياركم، وينهاكم عن موالاتهم وعن الاستعانة بهم، لكنه- سبحانه- قد استثنى من هؤلاء الذين أمركم بأخذهم وقتلهم أناسا التجأوا واستندوا إلى قوم بينكم وبينهم عهد أمان، لأنهم بهذا الالتجاء قد صار حكمهم كحكم من لجئوا إليهم من حيث الأمان وعدم الاعتداء.
وقد ذكر العلماء أقوالا في المراد من القوم الذين كان بينهم وبين المسلمين عهد أمان، فقيل:
هم الأسلميون، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقت خروجه إلى مكة قد وادع هلال بن عويمر الأسلمى على أن لا يعينه ولا يعين عليه، وعلى أن من وصل إلى هلال ولجأ إليه فله من الجوار مثل الذي لهلال. وقيل هم بنو بكر بن زيد. وقيل هم خزاعة «١».
وقوله: أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ عطف على صلة الذين وهو قوله يَصِلُونَ.
ومعنى حصرت: ضاقت وانقبضت ومنه الحصر في القول وهو ضيق الكلام على المتكلم.
ويقال حصر صدره يحصر أى ضاق.
أى: خذوا واقتلوا- أيها المؤمنون- المنافقين الذين أعلنوا كفرهم، ولا تأخذوا ولا تقتلوا الذين التجأوا إلى قوم بينكم وبينهم عهد أمان، ولا تأخذوا ولا تقتلوا كذلك الذين جاءوا إليكم وقد ضاقت نفوسهم، وانقبضت صدورهم عن قتالكم لأنكم مسلمون كما أنهم قد ضاقت نفوسهم عن قتال قومهم لأنهم منهم، أو لأنهم يخشون قتالهم خوفا على أموالهم أو على ذريتهم أو ذوى أرحامهم.
فأنت ترى أن الاستثناء في قوله إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ قد أخرج من الأخذ والقتل فريقين من الناس:
الفريق الأول: هو الذي ترك المحاربين من الأعداء، والتجأ إلى القوم الذين بينهم وبين المسلمين عهد أمان، فإنه بهذا الالتجاء قد صار حكمه كحكم من التجأ إليهم في الأمان.
والفريق الثاني: هو الذي جاء إلى المؤمنين، مسالما وترك قومه، إلا أنه في الوقت نفسه يكره
(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ١ ص ٤٠٨. [.....]
251
أن يقاتل المسلمين لحبه لهم. ويكره أن يقاتل قومه لأنهم قومه وعشيرته وأهله أو لأنه لو قاتلهم للحقه الضرر في ماله أو ذريته.
وقوله: حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ في موضع نصب على الحال بتقدير قد كما يرى بعضهم.
وبعضهم لا يرى حاجة لتقديرها، لأنه قد جاء الفعل الماضي حالا بغيرها كثيرا.
وقيل هو صفة لموصوف محذوف هو حال من فاعل جاؤ أى: جاءوكم حالة كونهم حصرت صدورهم.
وقوله: أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ مجرور بحرف جر مقدر أى: حصرت صدورهم عن أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم. أو هو في محل نصب على أنه مفعول لأجله. أى حصرت صدورهم كراهة قتالكم أو قتال قومهم.
والمراد بالفريق الثاني بنو مدلج فقد أخرج ابن أبى حاتم عن الحسن أن سراقة بن مالك المدلجي حدثهم فقال: لما ظهر النبي ﷺ على أهل بدر وأسلم من حولهم، قال: بلغني أنه يريد أن يبعث خالد بن الوليد إلى قومي بنى مدلج. فأتيته فقلت: أنشدك النعمة. بلغني أنك تريد أن تبعث إلى قومي. وأنا أريد أن توادعهم. فإن أسلم قومك أسلموا ودخلوا في الإسلام. وإن لم يسلموا لم يحسن تغليب قومك عليهم. فأخذ رسول الله ﷺ بيد خالد فقال: اذهب معه فافعل ما يريد. فصالحهم خالد على أن لا يعينوا على رسول الله ﷺ وإن أسلمت قريش أسلموا معهم، فأنزل الله الآية «١».
وقوله وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ بيان لمظهر من مظاهر فضل الله ورعايته للمؤمنين.
أى: ولو شاء الله لسلط جميع المشركين عليكم بأن قوى قلوبهم، وجرأهم عليكم، وجعلهم يبرزون لقتالكم صفا واحدا، ولكنه- سبحانه- لم يشأ ذلك، بل ألقى الرعب في صفوف أعدائكم، وجعل منهم من يسالمكم ويأتى إليكم موادعا.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: كيف يجوز أن يسلط الله الكفرة على المؤمنين؟ قلت:
ما كانت مكافتهم إلا لقذف الرعب في قلوبهم. ولو شاء لمصلحة يراها من ابتلاء ونحوه لم يقذفه. فكانوا متسلطين مقاتلين غير مكافين فذلك معنى التسليط «٢».
وقال القرطبي: قوله- تعالى- وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ تسليط الله المشركين على
(١) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٥٣٣
(٢) تفسير الكشاف ج ١ ص ٥٤٨
252
المؤمنين هو بأن يقدرهم على ذلك، ويقويهم إما عقوبة ونقمة عند إذاعة المنكر وظهور المعاصي.
وإما ابتلاء واختبارا كما قال- تعالى- وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ وإما تمحيصا للذنوب كما قال- تعالى- وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا. ولله أن يفعل ما يشاء ويسلط من يشاء على من يشاء إذا شاء.
ووجه النظم والاتصال بما قبل. أى: اقتلوا المنافقين الذين اختلفتم فيهم إلا أن يهاجروا وإلا أن يتصلوا بمن بينكم وبينهم ميثاق فيدخلوا فيما دخلوا فيه فلهم حكمهم، وإلا الذين جاءوكم قد حصرت صدورهم عن أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم فدخلوا فيكم فلا تقتلوهم» «١».
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا.
أى: أن هؤلاء الذين استثناهم الله- تعالى- من الأخذ والقتل، اقبلوا مسالمتهم إن اعتزلوا قتالكم فلم يتعرضوا لكم بسوء، وكفوا عن قتالهم إذا ألقوا إليكم السلم، أى: إذا انقادوا للصلح والأمان ورضوا به. وهم متى فعلوا ذلك فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا أى:
فما أذن الله لكم في أخذهم وقتلهم بأى طريق من الطرق التي توصل إلى العدوان عليهم.
وعبر بقوله وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ بدل السلام، للإشارة إلى معنى التسليم لا مجرد الأمن والسلام، لأن السلم يفيد معنى التسليم، فهم ألقوا إليكم قيادهم واستسلموا لأمركم، ودخلوا في طاعتكم.
وفي نفى أن يكون هناك سبيل عليهم، مبالغه في عدم التعرض لهم بسوء لأنه إذا انتفى الوصول إليهم انتفى الاعتداء عليهم من باب أولى.
هذا، ويرى جمهور المفسرين أن الأحكام التي اشتملت عليها هذه الآية الكريمة منسوخة بآية سورة التوبة وهي قوله- تعالى- فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ.
قال الجمل: معاهدة المشركين وموادعتهم في هذه الآية منسوخة بآية السيف- وهي قوله «فإذا انسلخ الأشهر الحرم. الآية» وذلك لأن الله- تعالى- لما أعز الإسلام وأهله أمر أن لا يقبل من مشركي العرب إلا الإسلام أو القتال» «٢».
(١) تفسير القرطبي ج ٥ ص ٣١٠
(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ١ ص ٤١٠.
253
ثم بين- سبحانه- صنفا آخر غير هؤلاء المسالمين، وهم قوم من المنافقين المخادعين، الذين لا يضمرون للمؤمنين إلا شرا، ولا يمدون أيديهم إلى أهل الحق إلا بالسوء فقال- تعالى-:
سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها.
أى: ستجدون- أيها المؤمنون- قوما من المنافقين آخرين غير الذين وصفتهم لكم، يُرِيدُونَ بإظهارهم للإسلام أَنْ يَأْمَنُوكُمْ على أنفسهم، ويريدون بإظهارهم للكفر أن يَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ من الأذى، ومن صفات هؤلاء المخادعين أنهم كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها أى: كلما دعوا إلى الردة وإلى العصبية البغيضة وقعوا فيها أشنع وقوع، ورجعوا إليها منكوسين على رءوسهم.
قال ابن جرير: عن مجاهد قال: هم ناس كانوا يأتون النبي ﷺ فيسلمون رياء ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان. يبتغون بذلك أن يأمنوا هاهنا وهاهنا، فأمر بقتالهم إن لم يعتزلوا ويصلحوا» «١».
ثم بين- سبحانه- ما يجب على المؤمنين نحو هؤلاء المنافقين المخادعين فقال: فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ. وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً.
أى: أن هؤلاء المنافقين إن لم يعتزلوا قتالكم والتعرض لكم بسوء، ويلقوا إليكم الأمان والانقياد، ويمتنعوا عن العدوان عليكم، إن لم يفعلوا ذلك فخذوهم أسرى، واقتلوهم حيث ثَقِفْتُمُوهُمْ أى: وجدتموهم وظفرتم بهم. يقال ثقفت الرجل في الحرب اثقفه، إذا أدركته وظفرت به وقوله وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً أى أولئك الذين وصفتهم لكم جعل الله لكم حجة واضحة في أخذهم وقتلهم، بسبب ظهور عداوتهم، وانكشاف غدرهم، وتذبذبهم بين الإسلام والكفر تبعا لشهوات نفوسهم المريضة.
هذا، والمتأمل في هذه الآيات الأربعة الكريمة يراها قد رسمت للمؤمنين كيف تكون علاقتهم بغيرهم من المنافقين والمشركين.
فهي تأمرهم- أولا- بأن يقفوا من المنافقين الذين أركسهم الله بما كسبوا صفا واحدا ورأيا واحدا، فلا يدافعوا عنهم ولا يحسنوا الظن بهم، ولا يولوهم ولا يستعينوا بهم، حتى يهاجروا في سبيل الله، فإن امتنعوا عن الهجرة حل أخذهم وقتلهم.
وتأمرهم- ثانيا- بأن يسالموا- إلى حين- قوما التجأوا إلى قوم بينهم وبين المسلمين عهد
(١) تفسير ابن جرير ج ٥ ص ٢٠١
254
وأمان، وأن يسالموا كذلك أولئك الذين يأتون إليهم وهم يكرهون قتالهم أو قتال قومهم، وأظهروا الانقياد والاستسلام للمؤمنين.
وتأمرهم- ثالثا- بأن يأخذوا ويقتلوا أولئك المتلاعبين بالعقيدة والدين والذين بلغ بهم الغدر والخداع أنهم إذا قدموا المدينة أظهروا الإسلام، فإذا ما عادوا إلى مكة أو إلى قومهم أظهروا الكفر، وكانوا مع قومهم ضد المسلمين.
وإنها لتوجيهات حكيمة تبصر المؤمنين بما يجب عليهم نحو غيرهم من الناس الذين يخالفونهم في عقيدتهم.
وبعد هذا الحديث الحكيم الذي بين الله- تعالى- فيه أحوال المنافقين، وصفاتهم الذميمة، وموقف المؤمنين ممن يخالفونهم في العقيدة، بعد كل ذلك أخذت السورة الكريمة في بيان حكم القتل الخطأ، وحكم القتل العمد فقال- تعالى-:
[سورة النساء (٤) : الآيات ٩٢ الى ٩٣]
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (٩٢) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (٩٣)
255
روى المفسرون روايات في سبب نزول قوله- تعالى- وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً.. الآية ومن أشهر هذه الروايات ما جاء عن مجاهد وغيره أنها نزلت في عياش بن أبى ربيعه، وذلك أنه قتل رجلا كان يعذبه لكي يترك الإسلام، فأضمر عياش قتل ذلك الرجل. ثم أسلم هذا الرجل دون أن يعلم عياش بإسلامه. فلما لقيه في يوم من الأيام ظن عياش أن الرجل لم يزل مشركا فقتله. فلما علم بإسلامه أتى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، قتلته ولم أشعر بإسلامه فأنزل الله الآية «١».
والآية الكريمة وإن كانت قد نزلت في حادثة معينة إلا أن حكمها يتناول كل من قتل غيره خطأ، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
والنفي في قوله- تعالى- وَما كانَ ليس لنفى الوقوع، لأنه لو كان كذلك ما وقع قتل على سبيل الخطأ أبدا، وإنما النفي بمعنى النهى وعدم الجواز.
وقد أشار القرطبي إلى ذلك بقوله: قوله- تعالى- وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً هذه آية من أمهات الأحكام. والمعنى ما ينبغي لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ، فقوله: وَما كانَ ليس على النفي وإنما هو على التحريم والنهى كقوله: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ ولو كانت على النفي لما وجد مؤمن قتل مؤمنا قط، لأن ما نفاه الله فلا يجوز وجوده فهو كقوله- تعالى- ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها فلا يقدر العباد أن ينبتوا شجرها أبدا. ثم استثنى استثناء منقطعا ليس من الأول وهو الذي يكون فيه «إلا» بمعنى لكن.
والتقدير: ما كان له أن يقتله ألبتة لكن إن قتله خطأ فعليه كذا. والخطأ: اسم من أخطأ خطأ وإخطاء إذا لم يصنع عن تعمد، فالخطأ الاسم يقوم مقام الإخطاء. ويقال لمن أراد شيئا ففعل غيره: أخطأ. ولمن فعل غير الصواب: أخطأ» «٢».
وقال صاحب الكشاف: فإن قلت. بم انتصب خطأ؟ قلت: بأنه مفعول له. أى:
ما ينبغي له أن يقتله لعلة من العلل إلا للخطأ وحده. ويجوز أن يكون حالا بمعنى: لا يقتله في حال من الأحوال إلا في حال الخطأ. وأن يكون صفة للمصدر أى: إلا قتلا خطأ. والمعنى، أن من شأن المؤمن أن ينتفى عنه وجود قتل المؤمن ابتداء البتة، إلا إذا وجد منه خطأ من غير قصد، بأن يرمى كافرا فيصيب مسلما. أو يرمى شخصا على أنه كافر فإذا هو مسلم «٣».
ثم بين- سبحانه- حكم القتل الخطأ فقال: وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا.
(١) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٥٣٤ بتصرف يسير.
(٢) تفسير القرطبي ج ٥ ص ٣١٢.
(٣) تفسير الكشاف ج ١ ص ٥٤٨.
256
قوله فَتَحْرِيرُ، التحرير: الإعتاق وهو تفعيل من الحرية. أى جعل الرقبة حرة. وهو مبتدأ محذوف الخبر أى: فعليه تحرير رقبة مؤمنة.
وقوله: وَدِيَةٌ الدية ما يعطى عوضا من دم القتيل إلى وليه. وهي مأخوذة من الودي كالعدة من الوعد. يقال: ودى القاتل القتيل يديه دية إذا أعطى وليه المال الذي هو بدل النفس. وسمى المال دية تسمية بالمصدر.
والمعنى: أن المؤمن لا يسوغ له ولا يليق به أن يقتل أخاه المؤمن، لأن ذلك محرم تحريما قاطعا، لكن إن وقع منه القتل له على سبيل الخطأ فإن دم القتيل لا يذهب هدرا، بل على من قتل أخاه المؤمن خطأ «تحرير رقبة مؤمنة» أى: إعتاق نفس مؤمنة، وعليه كذلك دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ أى: مؤداة إلى ورثة القتيل عوضا لهم عما فاتهم من قتيلهم. وقوله إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا أى إلا أن يتصدق أهل القتيل بهذه الدية على القاتل، بأن يتنازلوا عنها له على سبيل العفو والصفح.
وعبر- سبحانه- عن العتق بالتحرير في قوله فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ للاشعار بأن الحرية للعبيد مقصد من مقاصد الإسلام، وأن شريعته قد أوجبت على أتباعها أن يعتقوا الأرقاء إذا ما وقعوا في بعض الأخطاء حتى يتحرر أكبر عدد من الرقاب.
والتعبير عن النفس بالرقبة من باب التعبير عن الكل بالجزء. وكان التعبير بذلك للاشارة إلى أن الرق غل معنوي في الرقاب، وأن المؤمن الصادق في إيمانه هو الذي يبذل قصارى جهده في فك الرقاب من قيدها.
وقيد الرقبة المحررة بأن تكون مؤمنة لتخرج الكافرة، إذ الإسلام يحرص على تحرير الأرقاء المؤمنين دون الكافرين.
قال ابن كثير: وجمهور الفقهاء على أن الرقبة المؤمنة تجزئ سواء أكانت صغيرة أم كبيرة فقد أخرج الإمام أحمد عن رجل من الأنصار أنه جاء بأمة سوداء فقال: يا رسول الله، إن على عتق رقبة مؤمنة. فإن كنت ترى هذه مؤمنة أعتقها. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتشهدين أن لا إله إلا الله؟ قالت: نعم. قال: أتشهدين أنى رسول الله؟ قالت: نعم قال: أتؤمنين بالبعث بعد الموت؟ قالت: نعم. قال: أعتقها» «١».
ويرى بعضهم أنه لا تجزئ إلا الرقبة المؤمنة التي صلت وعقلت الإيمان، أما الصغيرة فإنها لا تجزئ.
(١) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٥٣٤
257
وقوله وَدِيَةٌ معطوف على «فتحرير» وقوله مُسَلَّمَةٌ صفة لدية. وقوله إِلى أَهْلِهِ متعلقة بمسلمة.
قال القرطبي ما ملخصه: ولم يعين الله في كتابه ما يعطى في الدية، وإنما في الآية إيجاب الدية مطلقا، وليس فيها إيجابها على العاقلة أو على القاتل، وإنما أخذ ذلك من السنة.
والعاقلة: قرابات الرجل من جهة أبيه وهم عصبته..
وقد ثبتت الأخبار عن رسول الله ﷺ بأن الدية مائة من الإبل. ووداها ﷺ في عبد الله بن سهل المقتول بخيبر فكان ذلك بيانا على لسان النبي ﷺ لمجمل الكتاب واختلفوا فيما يجب على غير أهل الإبل، فقالت طائفة: على أهل الذهب ألف دينار. وعلى أهل الورق اثنا عشر ألف درهم.
وقد ثبتت الأخبار عن النبي ﷺ أنه قضى بدية الخطأ على العاقلة. وأجمع أهل العلم على القول به «١».
ففي الصحيحين عن أبى هريرة قال: اقتتلت امرأتان من هذيل. فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها، وما في بطنها. فاختصموا إلى رسول الله ﷺ فقضى أن دية جنينها غرة: عبد وأمة. وقضى بدية المرأة على عاقلتها «٢».
قالوا: وإنما كانت دية القتل الخطأ على العاقلة، لأن القاتل لو دفعها لأوشكت أن تأتى على جميع ماله، وليكون ذلك دليلا على تضافر الأسرة وتعاونها. وإذا كان القاتل فقيرا وأسرته فقيرة، فإن دية المقتول تكون على بيت مال المسلمين، حتى لا يهدر دم القتيل.
قال القاسمى: تجب الدية على كل عاقلة القاتل. وهم عصبته غير الأصول والفروع «٣».
لأنه لما عفى عن القاتل فلا وجه للأخذ منه. وأصوله وفروعه أجزاؤه فالأخذ منهم أخذ منه.
ولا وجه لإهدار دم المؤمن. فيؤخذ من عاقلته الذين يرثونه بأقوى الجهات وهي العصبية، لأن الغرم بالغنم. فإن لم يكن له عاقلة أو كانوا فقراء فعلى بيت المال «٤».
والتعبير عن أداء الدين بقوله مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ يومئ إلى وجوب حسن الأداء بأن تسلم هذه الدية إلى أسرة القتيل بكل سماحة ولطف جبرا لخاطرها عما أصابها.
(١) تفسير القرطبي ج ٥ ص ٣١٥
(٢) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٥٣٥
(٣) هذا رأى الشافعى ورواية عن أحمد، وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد في أظهر روايته بدخول الأصول والفروع في العاقلة.
(٤) تفسير القاسمى ج ٥ ص ١٤٤٦
258
والمراد بقوله إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا أى: إلا أن يتبرع بها أولياء المقتول على سبيل العفو والصفح.
وعبر عن ذلك بقوله يَصَّدَّقُوا للإشارة إلى أن تبرعهم هذا مرغوب فيه وأنه بمنزلة الصدقة التي لهم ثوابها الجزيل عند الله- تعالى- لا سيما إذا كان أولياء القاتل وعصبته يشق عليهم أداؤها فيتركها أولياء القتيل رأفة بأولياء القاتل وشفقة عليهم، وفي الحديث الشريف كل معروف صدقة.
ثم بين- سبحانه- حكم القتل الخطأ لمؤمن ينتمى إلى الأعداء فقال فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ.
أى: فإن كان المقتول خطأ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ أى محاربين لكم، وَهُوَ مُؤْمِنٌ أى وكان المقتول مؤمنا ولم يعلم به القاتل، لكونه بين أظهر قومه الكفار ولم يفارقهم، أو أتاهم بعد أن فارقهم لأمر من الأمور، فعلى القاتل في هذه الحالة تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ كفارة عن هذا القتل الخطأ، وليس عليه دية، لأن أولياء القتيل من الكفار ولا توارث بين المؤمن والكفار، ولأن دفع الدية إليهم يؤدى إلى تقويتهم علينا ومن غير المعقول أن ندفع لأعدائنا ما يتقوون به علينا.
روى الحاكم وغيره عن ابن عباس قال: كان الرجل يأتى النبي ﷺ ثم يرجع إلى قومه وهم مشركون. فيصيبه المسلمون في سرية أو غزوة. فيعتق الذي يصيبه رقبة.
ثم بين- سبحانه- حكم القتل الخطأ إذا كان المقتول من قوم بينهم وبين المسلمين عهد وميثاق فقال- تعالى-: وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ.
أى: وإن كان المقتول خطأ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أى: من قوم بينكم وبينهم- أيها المؤمنون- عهد من هدنة أو أمان وهم على دينهم وأنتم على دينكم، فعلى القاتل في هذه الحالة دية تدفعها عاقلته إلى أهل القتيل، لأن حكمهم كحكم المسلمين، وعليه كذلك تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ لتكون كفارة له عند الله، وقدم الدية هنا على تحرير الرقبة على العكس مما جاء في صدر الآية، للإشعار بوجوب المسارعة إلى تسليم الدية حتى لا يتردد القاتل في دفعها إلى غير المسلمين الذين بينهم وبين المسلمين عهد يمنع عدم الاعتداء.
فأنت ترى أن الله- تعالى- قد جعل الحكم في قتل المعاهد كالحكم في قتل المسلم من الدية وتحرير الرقبة، وبعضهم يرى أن المراد بالمقتول خطأ هنا المسلم الذي هو في قوم معاهدين وأن الدية لا تدفع لهؤلاء القوم فيكون معنى الآية: وإن كان أى المقتول المؤمن مِنْ قَوْمٍ كفار
259
بينكم وبينهم ميثاق، فعلى قاتله دية مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ من أهل الإسلام إن وجدوا، ولا تدفع إلى ذوى قرابته من الكفار وإن كانوا معاهدين، إذ لا يرث الكافر المؤمن.
ويبدو لنا أن الرأى الأول أقرب إلى الصواب، لأنه لو كان المراد بالمقتول خطأ هنا القتيل المسلم لكان مكررا ولما كان هناك معنى لإفراده إذ حكمه يكون داخلا في قوله- تعالى- في صدر الآية «ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله». فلما أفرده- سبحانه- بالذكر علمنا أن المقصود بالقتيل هنا من قتل خطأ من قوم كفار بيننا وبينهم ميثاق سواء أكان المقتول على ديننا أم على دينهم.
وقد ذكر صاحب الكشاف هذا الوجه ولم يذكر سواه فقال: وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ- أى:
وإن كان المقتول من قوم- كفرة لهم ذمة كالمشركين الذين عاهدوا المسلمين وأهل الذمة من الكتابيين فحكمه حكم مسلم من مسلمين» «١». ومن العلماء أيضا من يرى أن دية المسلم والكافر سواء ومنهم من يرى غير ذلك.
وقد أشار الإمام ابن كثير إلى هذين الرأيين بقوله: قوله- تعالى- وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ. الآية، أى: فإن كان القتيل أولياؤه أهل ذمة أو هدنة فلهم دية قتيلهم. فإن كان مؤمنا فدية كاملة وكذا إن كان كافرا أيضا عند طائفة من العلماء. وقيل يجب في الكافر نصف دية المسلم وقيل ثلثها كما هو مفصل في كتب الأحكام «٢».
ثم يبين- سبحانه- الحكم عند عدم استطاعة إعتاق الرقبة فقال: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ، وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً.
أى: فمن لم يجد رقبه مؤمنة يعتقها فعليه في هذه الحالة صيام شهرين متواصلين في أيامهما، لا يفرق بينهم فطر، بحيث لو أفطر يوما فيها استأنف من جديد ابتداء الشهرين، إلا أن يكون الفطر بسبب حيض أو نفاس أو مرض يتعذر معه الصوم.
وقوله- تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ مفعول لأجله والتقدير: أى شرع الله لكم ذلك توبة منه أى قبولا لها ورحمة بكم. من: تاب الله على فلان إذا قبل توبته.
وهذه التوبة ليست من إثم القتل الخطأ، لأن الإثم مرفوع عن المخطئ كما في الحديث الشريف «رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه».
وإنما التوبة هنا من التقصير وقلة التثبت والتحقق، ولكي يكون المسلم يعد ذلك متذكرا
(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٥٥٠. [.....]
(٢) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٥٣٥.
260
فلا يقع منه في المستقبل ما وقع منه في الماضي، ولهذا قال الإمام الزيلعى:
«وبهذا النوع من القتل أى القتل الخطأ- لا يأثم إثم القتل، وإنما يأثم إثم ترك التحرز والمبالغة في التثبت، لأن الأفعال المباحة لا تجوز مباشرتها إلا بشرط ألا تؤذى أحدا. فإذا آذى أحدا فقد تحقق ترك الحرز».
وقوله وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً تذييل قصد به زجر الناس عن اتباع الهوى وعن مخالفة شريعته.
أى: وكان الله وما زال عليما بالنفوس وخباياها وحركاتها وبكل شيء في هذا الكون: حكيما في كل ما شرع وقضى. وسيحاسب الناس على أقوالهم. وأعمالهم يوم القيامة. وسيجازيهم بما يستحقون من خير أو من شر.
وبهذا نرى أن الآية الكريمة قد بينت أن المؤمن إذا قتل على سبيل الخطأ أخاه المؤمن أو قتل رجلا من قوم كافرين ولكن بيننا وبينهم ميثاق أمان فعليه في كل حالة من هاتين الحالتين عتق رقبة ودية. أما إذا قتل المؤمن رجلا مؤمنا ولكن كان من قوم كافرين محاربين لنا وليس بيننا وبينهم عهد ولا ميثاق فعلى القاتل تحرير رقبة فقط. فإن لم يستطع تحرير رقبة فعليه صيام شهرين متتابعين توبة من الله. وبهذه الأحكام الحكيمة تربى النفوس على الاحتراس والاحتياط وأخذ الحذر، وتصان الدماء عن أن تذهب هدرا، وتعوض أسرة القتيل عن فقيدها بما يخفف آلامها، ويجبر خاطرها، وتعوض الجماعة الإسلامية بتحرير رقبة مؤمنة تعمل لصالح الجماعة بحرية وانطلاق بعد أن كانت تعمل لخدمة سيدها فحسب.
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك سوء عاقبة من يقتل مؤمنا متعمدا فقال: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً.
أى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً قتله فَجَزاؤُهُ الذي يستحقه بسبب هذه الجناية الكبيرة «جهنم خالدا فيها» أى باقيا فيها مدة طويلة لا يعلم مقدارها إلا الله وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ بسبب ما ارتكبه من منكر وَلَعَنَهُ أى طرده من رحمته وَأَعَدَّ لَهُ من وراء ذلك كله عَذاباً عَظِيماً يوم القيامة.
هذا وقد ساق المفسرون جملة من الآيات والأحاديث التي تهدد مرتكب هذه الكبيرة بالعذاب الشديد واختلفوا في حكمها هل هي منسوخة أولا؟ وهل للقاتل عمدا توبة أو لا؟
وقد أفاض الإمام ابن كثير في بيان كل ذلك فقال ما ملخصه:
«هذا تهديد شديد ووعيد أكيد لمن تعاطى هذا الذنب العظيم والذي هو مقرون بالشرك بالله
261
في غير ما آية. قال- تعالى- وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ.
والأحاديث في تحريم القتل كثيرة جدا. فمن ذلك ما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء» وروى أبو داود عن عبادة بن الصامت أن رسول الله ﷺ قال: «لا يزال المؤمن معتقا- أى خفيف الظهر، سريع السير- ما لم يصب دما حراما. فإذا أصاب دما حراما بلح» أى: أعيا وانقطع.
وفي حديث آخر: «لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم».
ثم قال: وقد كان ابن عباس يرى أنه لا توبة لقاتل المؤمن عمدا.
وقال البخاري: حدثنا آدم حدثنا شعبة حدثنا المغيرة بن النعمان قال:
سمعت ابن جبير قال: اختلف فيها أهل الكوفة. فرحلت فيها إلى ابن عباس فسألته عنها.
فقال: نزلت هذه الآية. وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً هي آخر ما نزل وما نسخها شيء.
وروى ابن جرير أيضا عن سعيد بن جبير قال. سألت ابن عباس عن قوله- تعالى- وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً. فقال: إن الرجل إذا عرف الإسلام، وشرائع الإسلام، ثم قتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم ولا توبة له.
ثم قال: والذي عليه الجمهور من سلف الأمة وخلفها. أن القاتل له توبة فيما بينه وبين الله- تعالى- فإن تاب وأناب وخشع وخضع وعمل عملا صالحا بدل الله سيئاته حسنات، وعوض المقتول من ظلامته وأرضاه عن ظلامته.
قال الله- تعالى- إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ.
فهذه الآية عامة في جميع الذنوب ما عدا الشرك. وهي مذكورة في هذه السورة الكريمة بعد هذه الآية وقبلها لتقوية الرجاء.
والمراد بالخلود هنا المكث الطويل. وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله ﷺ أنه يخرج من النار من كان في قلبه أدنى مثقال ذرة من إيمان.
وأما ما نقل عن بعض السلف من خلاف هذا فمراد قائله الزجر والتوبة لا أنه يعتقد بطلان توبته «١».
والآية الكريمة وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ. الصواب في معناها: أن جزاءه
(١) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٥٣٦.
262
جهنم. فقد يجازى بذلك وقد يجازى بغيره. وقد لا يجازى بل يعفى عنه. فإن قتل عمدا مستحلا بغير حق ولا تأويل فهو كافر مرتد. يخلد في جهنم بالإجماع. وإن كان غير مستحل بل معتقدا تحريمه فهو فاسق عاص. مرتكب كبيرة جزاؤه جهنم خالدا فيها. ولكن تفضل- سبحانه- فأخبر أنه لا يخلد فيها من مات موحدا فلا يخلد هذا. وقد يعفى عنه ولا يدخل النار أصلا. وقد لا يعفى عنه بل يعذب كسائر العصاة الموحدين. ثم يخرج معهم إلى الجنة ولا يخلد في النار. فهذا هو الصواب في معنى الآية «١».
وبهذا نرى أن الآية الكريمة تنهى المؤمن نهيا قاطعا عن أن يمد يده بالسوء لقتل نفس حرم الله قتلها إلا بالحق، وتتوعد الذي يفعل ذلك بغضب الله عليه وطرده من رحمته، وإلحاق العذاب العظيم به يوم القيامة.
وبعد هذا التحذير الشديد من قتل النفس بغير حق، وجه القرآن نداء إلى المؤمنين نهاهم فيه عن القتل بدون تبين أو تثبت من أجل التوصل إلى عرض من أعراض الدنيا الفانية، فقال- تعالى-:
[سورة النساء (٤) : آية ٩٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٩٤)
روى المفسرون في سبب نزول هذه الآية الكريمة روايات متعددة إلا أنها متقاربة في المعنى.
وقد حكى معظمها الإمام القرطبي فقال ما ملخصه:
هذه الآية نزلت في قوم من المسلمين مروا في سفرهم برجل معه جمل وغنيمة يبيعها فسلم
(١) تفسير القاسمى ج ٥ ص ١٤٥٨.
263
على القوم وقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فحمل عليه أحدهم فقتله- ظنا منه أن المقتول نطق بالشهادتين ليأمن القتل- فلما ذكر ذلك للنبي ﷺ شق عليه ونزلت الآية فحمل رسول الله ﷺ ديته إلى أهله ورد عليه غنيماته.
وقد قيل: إن القاتل محلم بن جثامة والمقتول عامر بن الأضبط. وقيل: إن القاتل أسامة بن زيد والمقتول مرداس بن نهيك من بنى مرة من أهل فدك.
وفي سنن ابن ماجة عن عمران بن حصين قال: بعث رسول الله ﷺ جيشا من المسلمين إلى المشركين فقاتلوهم قتالا شديدا فمنح المشركون المسلمين أكتافهم. فحمل رجل من المسلمين على رجل من المشركين بالرمح. فلما غشيه قال: أشهد أن لا إله إلا الله إنى مسلم. فطعنه فقتله.
فأتى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله هلكت. قال: «وما الذي صنعت» مرة أو مرتين.
فأخبره بالذي صنع. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فهلا شققت عن بطنه فعلمت ما في قلبه» ؟
فقال: «يا رسول الله لو شققت بطنه أكنت أعلم ما في قلبه؟ قال: لا فلا أنت قبلت ما تكلم به ولا أنت تعلم ما في قلبه»...
ثم قال القرطبي: ولعل هذه الأحوال جرت في زمان متقارب فنزلت الآية في الجميع «١».
والضرب في الأرض: السير فيها. تقول العرب: ضربت في الأرض إذا سرت لتجارة أو غزو أو غيره. وكأن السير في الأرض سمى بذلك لأنه يضرب الأرض برجليه في سيره. والمراد بالضرب في الأرض هنا: السفر والسير فيها من أجل الجهاد في سبيل الله.
وقوله فَتَبَيَّنُوا معناه: فتثبتوا وتأكدوا وتأملوا فيما تأتون وتذرون. وقرأ حمزة «فتثبتوا».
قال القرطبي: والسلم والسلم والسلام بمعنى واحد. قال البخاري. وقرئ بها كلها.
واختار أبو عبيد «السلام». وخالفه أهل النظر فقالوا السلم هنا أشبه لأنه بمعنى الانقياد والاستسلام. كما قال- تعالى- فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ.
والمعنى: يا أيها الذين آمنوا وصدقوا بالحق، إذا خرجتم من بيوتكم وسرتم في الأرض من أجل الجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمته فَتَبَيَّنُوا أى فاطلبوا بيان الأمر في كل ما تأتون وما تذرون، واحذروا أن تضعوا سيوفكم في غير موضعها. فإن الأصل في الدماء الحرمة والصيانة وعدم الاعتداء عليها، وقد حرم الله- تعالى- قتل النفس إلا بالحق.
(١) تفسير القرطبي ج ٥ ص ٣٦٣.
264
والتبين والتثبت في القتل واجب حضرا وسفرا. وإنما خص السفر بالذكر لأن الحادثة التي نزلت فيها الآية وقعت في السفر.
وقوله وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً أى: تأكدوا- أيها المؤمنون- وتثبتوا في كل أحكامكم وأفعالكم، ولا تقولوا لمن أظهر الانقياد لدعوتكم ودينكم فنطق بالشهادتين أو حياكم بتحية الإسلام. لا تقولوا له لست مؤمنا حقا وإنما قلت ما قلت بلسانك فقط لتأمن القتل. بل الواجب عليكم أن تقبلوا منه ما أظهره وعاملوه بموجبه فإن علم السرائر والبواطن إنما هو لله- تعالى- وحده.
وجملة لَسْتَ مُؤْمِناً مقول لقوله لا تَقُولُوا: أى لا تنفوا عنه الإيمان وهو يظهره أمامكم وفي هذا من الفقه- كما يقول القرطبي- باب عظيم، وهو أن الأحكام تناط بالمظان والظواهر لا على القطع واطلاع السرائر.
ولقد كان عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- ينهى عن قتل من أعلن الاستسلام ويحذر من يقتله بأنه سيقتله به، وقد أرسل بذلك إلى قواد جيوشه لأن الذين يقتلون من يطلب الأمان طمعا في ماله لا يكون جهادهم خالصا لله، ولا تكون أعمالهم محل رضا الله- تعالى- ولذا قال- سبحانه-:
تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ. والابتغاء: الطلب الشديد والرغبة الملحة.
وعرض الحياة الدنيا: جميع متاعها وأموالها. وسمى متاع الدنيا عرضا، لأنه مهما كثر فهو زائل غير دائم، وعارض غير باق.
قال الراغب: والعرض- بفتح الراء والعين- مالا يكون له ثبات. ومنه استعار المتكلمون العرض لما لا ثبات له إلا بالجوهر. وقيل: الدنيا عرض حاضر تنبيها على أنه لا ثبات لها «١»، والمغانم: جمع مغنم ويطلق على ما يؤخذ من مال العدو، من باب إطلاق المصدر على اسم المفعول.
والمعنى: تثبتوا- أيها المؤمنون- في كل أقوالكم وأعمالكم، ولا تتعجلوا في أحكامكم، ولا تقولوا لمن حياكم بتحية الإسلام أو نطق بالشهادتين لست مؤمنا، وإنما فعلت ذلك تقية ثم تقتلونه. مبتغين من وراء قتله متاع الدنيا الزائل، وعرضها الفاني، إن هذا المسلك يتنافى مع الإيمان الصادق والجهاد الخالص. ومن كان منكم يريد متاع الدنيا فليطلبه من الله وحده- فإن
(١) مفردات القرآن للراغب الأصفهاني ص ٣٣١.
265
خزائنه لا تنفد، وعطاءه لا يحد- ولا يطلبه عن طريق الاعتداء على من أظهر الإسلام أو التمس منكم الأمان.
وقوله تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا حال من فاعل لا تَقُولُوا لكن لا على أن يكون النهى راجعا للقيد فقط كما في قولك: لا تطلب العلم تبتغى به الجاه والتفاخر، بل على أنه راجع إليهما جميعا. أى: لا تقولوا له ذلك ولا تبتغوا العرض الفاني.
فالمقصود بهذه الجملة الكريمة توبيخهم على حرصهم على متاع الدنيا بطريقة لا تتناسب مع الإيمان الكامل، ومع الهدف الذي خرجوا من أجله: وهو إعلاء كلمة الله تعالى- وضم أكبر عدد من الناس إلى دعوة الحق التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ تعليل للنهى عن ابتغاء عرض الحياة الدنيا بهذا الأسلوب فكأنه قال: لا تعودوا إلى ما فعلتموه من قتل من ألقى إليكم السلام طلبا لما له، فإن الله- تعالى- عنده مغانم كثيرة، وفي مقدوره أن يغنيكم من فضله فالجأوا إلى جنابه وحده، وخصوه بالسؤال، وأخلصوا له العمل.
وقوله كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا تعليل للنهى عما قالوه وما فعلوه.
أى: أنتم- أيها المؤمنون- كنتم من قبل مثل ذلك الذي ألقى إليكم السلام، فقد كنتم في أول إسلامكم لا يظهر منكم للناس غير ما ظهر منه لكم من النطق بالشهادتين وتبادل تحية الإسلام، فمن الله عليكم بأن قبل منكم تلك المرتبة وعصم بها دماءكم وأموالكم ولم يأمر بالتفحص عن سرائركم.
وإلى هذا المعنى اتجه صاحب الكشاف فقد قال: قوله كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ أول ما دخلتم في الإسلام سمعت من أفواهكم كلمة الشهادة فحصنت من دماءكم وأموالكم من غير انتظار الاطلاع على مواطأة قلوبكم لألسنتكم بالاستقامة والاشتهار بالإيمان فعليكم أن تفعلوا بالداخلين في الإسلام كما فعل بكم، وأن تعتبروا ظاهر الإسلام في المكانة، ولا تقولوا إن تهليل هذا لاتقاء القتل لا لصدق النية، فتجعلوه سبيلا إلى استباحة دمه وماله وقد حرمهما الله «١».
فاسم الإشارة راجع إلى من في قوله: لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ.
ويجوز أن يكون اسم الإشارة راجعا إلى الحالة التي كانوا عليها في ابتداء إسلامهم. أى كحال هذا الذي يسر إيمانه ويخفيه عن قومه كنتم من قبل.
(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٥٥٣.
266
وقد رجح هذا المعنى ابن جرير فقال ما ملخصه: قوله كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ أى كذلك كنتم تخفون إيمانكم في وقومكم من المشركين، وأنتم مقيمون بين أظهرهم، كما كان هذا الذي قتلتموه مقيما بين أظهر قومه من المشركين مستخفيا بدينه منهم فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ أى: فرفع منكم ما كنتم فيه من الخوف من أعدائكم بإظهار دينه وإعزاز أهله، حتى أمكنكم إظهار ما كنتم تستخفون به من توحيده وعبادته... «١».
والذي يبدو لنا أن الآية الكريمة تتسع لهذين التفسيرين، إلا أن التفسير الأول الذي جرى عليه صاحب الكشاف أشمل وأنسب لسياق الآية لأن المقصد الرئيسى الذي تدعو إليه الآية الكريمة هو نهى المؤمنين عن سوء الظن بمن أظهر الإسلام وعن الاعتداء عليه. وأمرهم بان يعاملوا الناس بظواهرهم أما بواطنهم فأمرها إلى الله وحده.
والفاء في قوله فَتَبَيَّنُوا فصيحة. أى: إذا كان الأمر كذلك فتبينوا نعمة الله عليكم وداوموا على شكرها، وقيسوا أحوال غيركم بما سبق من أحوالكم، واقبلوا ظواهر الناس بدون فحص عن بواطنهم، ولا تصدروا أحكامكم عليهم إلا بعد التثبت والتأكد من صحتها ولا تشهروا سيوفكم في وجوههم إلا بعد التأكد من كفرهم وعدوانهم.
وقوله: إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً تذييل قصد به تحذيرهم من مخالفة أمره.
أى: إن الله مطلع على دقيق الأمور وجليلها، خبير بما تسره نفوسكم وما تعلنه، لا يخفى عليه شيء من ظواهركم وبواطنكم، وسيحاسبكم على كل ذلك، وسيجازيكم بما تستحقون من خير أو شر.
هذا وقد أخذ العلماء من هذه الآية أن الكافر إذا نطق بالشهادتين حرم قتله لأنه قد اعتصم بعصام الإسلام المانع من إهدار دمه وماله وأهله.
كما أخذوا منها وجوب التثبت في الأحكام وفي الأقوال. وأخذ الناس بظواهرهم حتى يثبت خلاف ذلك.
قال الفخر الرازي: اعلم أن المقصود من هذه الآية المبالغة في تحريم قتل المؤمنين. وأمر المجاهدين بالتثبت فيه، لئلا يسفكوا دما حراما بتأويل ضعيف «٢».
وقال بعض العلماء: وقد دلت الآية على حكمة عظيمة في حفظ الجامعة الدينية، وهي بث الثقة والأمان بين أفراد الأمة وطرح ما من شأنه إدخال الشك لأنه إذا فتح هذا الباب عسر
(١) تفسير الطبري ج ٥ ص ٢٢٦.
(٢) تفسير الفخر الرازي ج ١١ ص ٢.
267
سده، وكما يتهم المتهم غيره فللغير أن يتهم من اتهمه. وبذلك ترتفع الثقة، ويسهل على ضعفاء الإيمان المروق، إذ قد أصبحت التهمة تظل الصادق والمنافق. وانظر معاملة النبي ﷺ المنافقين معاملة المسلمين.
على أن هذا الدين سريع السريان في القلوب فيكتفى أهله بدخول الداخلين فيه من غير مناقشة. إذ لا يلبثون أن يألفوه وتخالط بشاشته قلوبهم. فهم يقتحمونه على شك وتردد فيصير إيمانا راسخا. ومما يعين على ذلك ثقة السابقين فيه باللاحقين.
ومن أجل ذلك أعاد الله الأمر فقال فَتَبَيَّنُوا تأكيدا لقوله فَتَبَيَّنُوا المذكور قبله... «١».
وبعد أن أمر- سبحانه- المؤمنين بأن يعاملوا الناس على حسب ظواهرهم ونهاهم عند جهادهم عن التعجل في القتل. أتبع ذلك ببيان فضل المجاهدين المخلصين فقال- تعالى-
[سورة النساء (٤) : الآيات ٩٥ الى ٩٦]
لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (٩٥) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٩٦)
قال الآلوسى: قوله- تعالى- لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ. شروع في الحث على الجهاد ليأنفوا عن تركه، وليرغبوا عما يوجب خللا فيه. والمراد بالقاعدين: الذين أذن لهم في القعود عن الجهاد اكتفاء بغيرهم. وروى البخاري عن ابن عباس: هم القاعدون عن بدر وهو الظاهر الموافق للتاريخ على ما قيل. وقال أبو حمزة: إنهم المتخلفون عن تبوك. وروى أن الآية نزلت في كعب بن مالك من بنى سلمة ومرارة بن الربيع من بنى عمرو بن عوف. وهلال بن أمية من بنى واقف حين تخلفوا عن رسول الله ﷺ في تلك الغزوة» «٢».
(١) تفسير التحرير والتنوير للشيخ محمد الطاهر بن عاشور ج ٥ ص ١٦٨.
(٢) تفسير الآلوسى ج ٥ ص ١٢١.
268
وقوله غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ جملة معترضة جيء بها لبيان أنهم غير مقصودين بعدم المساواة مع المجاهدين في الأجر.
والضرر: مصدر ضرر مثل مرض. وهذه الزنة تجيء- غالبا- في العاهات ونحوها، مثل عمى وحصر وعرج ورمد.
والمراد بقوله غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ أى: غير أصحاب العلل والأمراض التي تحول بينهم وبين الجهاد في سبيل الله من عمى أو عرج أو ضعف أو غير ذلك من الأعذار.
وقد روى المفسرون في سبب نزول قوله- تعالى- غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ روايات منها ما أخرجه البخاري عن البراء قال: لما نزلت لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. دعا رسول الله ﷺ زيدا فكتبها فجاء ابن أم مكتوم فشكا ضرارته. فأنزل الله: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ «١».
وقال القرطبي: روى الأئمة- واللفظ لأبى داود عن زيد بن ثابت قال: كنت إلى جنب رسول الله ﷺ فغشيته السكينة فوقعت فخذ رسول الله ﷺ على فخذي فما وجدت ثقل شيء أثقل من فخذ رسول الله ﷺ ثم سرى عنه فقال: «اكتب» فكتبت في كتف- أى في عظم عريض كانوا يكتبون فيه لقلة القراطيس عندهم- لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.. الآية.
فقام ابن أم مكتوم- وكان رجلا أعمى- لما سمع فضيلة المجاهدين فقال: يا رسول الله فكيف بمن لا يستطيع الجهاد من المؤمنين؟ فلما قضى كلامه غشيت رسول الله السكينة فوقعت فخذه على فخذي. ووجدت من ثقلها في المرة الثانية كما وجدت في المرة الأولى ثم سرى عن رسول الله ﷺ فقال: اقرأ يا زيد. فقرأت: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فقال رسول الله ﷺ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ الآية كلها.
قال زيد: فأنزلها الله وحدها فألحقتها. والذي نفسي بيده لكأنى أنظر إلى ملحقها عند صدع في كتف «٢».
والمعنى: لا يستوي عند الله- تعالى- الذين قعدوا عن الجهاد لإعلاء كلمة الحق دون أن يكون عندهم من الأعذار ما يمنعهم من ذلك، لا يستوي هؤلاء مع الذين جاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم. أما الذين قعدوا عن الجهاد لأعذار تمنعهم عن مباشرته، فإن نيتهم الصادقة
(١) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٥٤٠.
(٢) تفسير القرطبي ج ٥ ص ٣٣٢.
269
سترفع منزلتهم عند الله- تعالى-، وستجعلهم في مصاف المجاهدين بأموالهم وأنفسهم أو قريبين منهم.
ويشهد لذلك ما رواه البخاري وأبو داود عن أنس أن رسول الله ﷺ قال- وهو يسير إلى تبوك: «إن بالمدينة أقواما ما سرتم من سير ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه. قالوا:
يا رسول الله، وهم بالمدينة قال: نعم حبسهم العذر»
.
قال ابن كثير: وفي هذا المعنى قال الشاعر:
يا راحلين إلى البيت العتيق لقد سرتم جسوما وسرنا نحن أرواحا
إنا أقمنا على عذر وعن قدر ومن أقام على عذر كمن راحا
وقوله: لا يَسْتَوِي نفى لاستواء المجاهدين والقاعدين، والمقصود بهذا النفي التعريض بالمفضول لتفريطه وزهده في الخير، وحض على الاقتداء بمن هو أفضل منه، إذ من المعروف أن القاعد عن الجهاد لا يساوى المجاهد في الفضل والثواب. فتعين أن يكون المراد بهذا التعبير التعريض بالقاعدين ليتأسوا بالمجاهدين، وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله:
فإن قلت: معلوم أن القاعد بغير عذر والمجاهد لا يستويان فما فائدة نفى الاستواء؟ قلت:
معناه الإذكار بما بينهما من التفاوت العظيم، والبون البعيد، ليأنف القاعد ويترفع بنفسه عن انحطاط منزلته. فيهتز للجهاد ويرغب فيه، وفي ارتفاع طبقته، ونحوه: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ أريد به التحريك من الجهل إلى التعلم. ولينهض الشخص بنفسه عن صفة الجهل إلى شرف العلم.
وقوله مِنَ الْمُؤْمِنِينَ جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من القاعدين.
وفائدة قوله: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الإيذان من أول الأمر بأن قعودهم عن الجهاد لم يمنعهم عن الوصف بالإيمان، لأن قعودهم عن الجهاد لم يكن عن نفاق أو عن ضعف في دينهم، وإنما كان عن تراخ أو اشتغال ببعض الأمور الدنيوية.
قال الجمل وقوله: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ: قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وعاصم غَيْرُ بالرفع: وقرأ الباقون بالنصب. وقرأ الأعمش بالجر.
فالرفع على وجهين:
أظهرهما أنه على البدل من الْقاعِدُونَ. وإنما كان هذا أظهر لأن الكلام نفى والبدل معه أرجح.
والثاني: أنه رفع على أنه صفة لقوله الْقاعِدُونَ لأنهم لما لم يكونوا أناسا بأعيانهم بل أريد
270
بهم الجنس أشبهوا النكرة فوصفوا بها.
وأما النصب فعلى: الاستثناء من الْقاعِدُونَ وهو الأظهر، لأنه المحدث عنه.
وأما الجر فعلى أنه صفة للمؤمنين «١».
وقوله: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى بيان لمزية المجاهدين على غيرهم.
والمراد بالقاعدين هنا- الذين قعدوا عن الجهاد لسبب مانع من مباشرته أى: فضل الله- تعالى- المجاهدين بأموالهم وأنفسهم من أجل إعزاز دينه، فضلهم درجة على القاعدين بأعذار، لأن المجاهدين قد عرضوا أنفسهم للمخاطر والأهوال، وبذلوا أرواحهم وأموالهم في سبيل إعلاء كلمة الله.
والدرجة هنا مستعارة للعلو المعنوي أى أن المراد بها هو الفضل، ووفرة الأجر وزيادة الثواب. والتنوين فيها للتعظيم.
قال ابن جرير: فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين من أولى الضرر درجة واحدة، يعنى فضيلة واحدة. وذلك بفضل جهادهم بأنفسهم فأما فيما سوى ذلك فهما مستويان» «٢».
وقوله وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى جملة معترضة جيء بها تداركا لما عسى أن يوهمه تفضيل أحد الفريقين على الآخر من حرمان المفضول.
أى: وكل واحد من فريقى المجاهدين والقاعدين من أهل الضرر وعده الله المثوبة الحسنى وهي الجنة لحسن عقيدتهم وخلوص نيتهم، وإنما التفاوت في زيادة العمل المقتضى لمزيد الثواب.
وقوله كُلًّا مفعول أول لما يعقبه قدم عليه لإفادة القصر تأكيدا للوعد وتنوينه عوض عن المضاف إليه. وقوله الْحُسْنى مفعول ثان.
ثم بين- سبحانه- أنه قد فضل المجاهدين على القاعدين بغير عذر بدرجات عظيمة فقال وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً.
أى: وفضل الله- تعالى- المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين دون أن يكون هناك
(١) حاشية الجمل على الجليلين ج ١ ص ٤١٥
(٢) تفسير ابن جرير ج ١ ص ٢٣١ [.....]
271
عذر يمنعهم عن الجهاد، فضل الله المجاهدين على هؤلاء القاعدين بالأجر العظيم والثواب الجزيل، والمنزلة الرفيعة.
وقوله أَجْراً عَظِيماً منصوب على النيابة عن المفعول المطلق المبين للنوع، لأن الأجر هو ذلك التفضيل. أو على نزع الخافض أى فضلهم بأجر عظيم. أو على أنه مفعول ثان بتضمين فضل معنى أعطى أى أعطاهم أجرا تفضلا منه.
ثم فصل- سبحانه- هذا الأجر العظيم فقال دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً.
أى فضل الله- تعالى- المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين عن الجهاد بغير عذر بالأجر العظيم الذي يرفعهم عند الله- تعالى- درجات عالية ويقربهم من مقامات قدسه، ويغفر لهم ما فرط منهم، ويتغمدهم بسابغ رحمته وكان الله كثير الغفران لأوليائه واسع الرحمة بأهل طاعته.
وقوله دَرَجاتٍ مِنْهُ بدل أو عطف بيان من قوله أَجْراً عَظِيماً. وقوله مِنْهُ جار ومجرور متعلق بمحذوف وقع صفة لدرجات.
ونكرت الدرجات للإشعار بأنها درجات عظيمة لا يحدها الحصر، ولا يعينها المقدار، بل هي شرف عظيم لا يناله إلا المقربون الأبرار.
هذا، وما جرينا عليه من أن المجاهدين يمتازون عن القاعدين بعذر بدرجة، ويمتازون عن القاعدين بغير عذر بدرجات هو رأى كثير من المفسرين، وقد عبر عنه صاحب الكشاف بقوله:
فإن قلت: قد ذكر الله- تعالى- مفضلين درجة ومفضلين درجات فمن هم؟ قلت: أما المفضلون درجة واحدة فهم الذين فضلوا على القاعدين الأضراء. وأما المفضلون درجات فالذين فضلوا على القاعدين الذين أذن لهم في التخلف اكتفاء بغيرهم، لأن الغزو فرض كفاية «١».
ومن المفسرين من يرى أن الذين فضل الله عليهم المجاهدين بدرجة وبدرجات هم صنف واحد، وهم الذين قعدوا عن الجهاد بدون عذر. أما الذين قعدوا بعذر فهم متساوون في الأجر مع المجاهدين.
وعلى هذا الرأى سار الآلوسى في تفسيره فقد قال ما ملخصه: «فضل الله المجاهدين» في سبيله «بأموالهم وأنفسهم على القاعدين» من المؤمنين غير أولى الضرر دَرَجَةً لا يقادر
(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٥٥٤
272
قدرها. وَكُلًّا أى: كل واحد من الفريقين المجاهدين والقاعدين (وعد الله الحسنى). وقوله وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ عطف على ما قبله أَجْراً عَظِيماً.
ثم قال: ولعل تكرير التفضيل بطريق العطف المنبئ عن المغايرة. وتقييده تارة بدرجة وتارة بدرجات مع اتحاد المفضل والمفضل عليه. إما لتنزيل الاختلاف العنواني بين التفضيلين وبين الدرجة والدرجات منزلة الاختلاف الذاتي تمهيدا لسلوك طريق الإبهام ثم التفسير... وإما للاختلاف بالذات بين التفضيلين والدرجة والدرجات «١».
وقد حكى الإمام القرطبي هذين الوجهين فقال: قوله- تعالى- فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وقد قال بعد هذا: دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً فقال قوم: التفضيل بالدرجة ثم بالدرجات إنما هو مبالغة وبيان وتأكيد.
وقيل: فضل الله المجاهدين على القاعدين من أولى الضرر بدرجة واحدة. وفضل الله المجاهدين على القاعدين من غير عذر درجات «٢».
والذي نراه أولى من هذين القولين قول من قال بأن الله- تعالى- فضل المجاهدين على القاعدين بعذر بدرجة، وفضل المجاهدين على القاعدين بغير عذر بدرجات، وذلك لأن هذا التفسير هو المأثور عن ابن عباس وغيره من الصحابة. فقد قال ابن عباس في قوله- تعالى- فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً أراد بالقاعدين هنا أولى الضرر «٣» ولأن القاعدين بعذر وإن كان لهم من حسن النية ما يرفع منزلتهم إلا أن المجاهدين الذين باشروا الجهاد وعرضوا أنفسهم لأخطار القتال يفوقونهم منزلة وأجرا.
وهذا ما يقتضيه منطق العقول البشرية، أما عطاء الله بعد ذلك لكل فريق فمرجعه إليه وحده على حسب ما تقتضيه حكمته وسعة رحمته.
هذا، وقد أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة أن الجهاد من أفضل الأعمال وأن المجاهدين لهم عند الله- تعالى- منازل عالية. ومن الأحاديث التي وردت في هذا المعنى ما أخرجه الشيخان عن أبى هريرة أن رسول الله ﷺ قال: «إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله. بين كل درجتين كما بين السماء والأرض. فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة ومنه تتفجر أنهار الجنة».
(١) تفسير الآلوسي ج ٥ ص ١٢٣
(٢) تفسير القرطبي ج ٥ ص ٢٤٤
(٣) حاشية الجمل على الجلالين ج ١ ص ٤١٥
273
وبعد أن رفع- سبحانه- من شأن المجاهدين، وبين حال القاعدين عن الجهاد يعذر أو بغير عذر، أتبع ذلك ببيان حال القاعدين في دار الكفر بدون هجرة إلى دار الإسلام، ووعد المهاجرين في سبيل الله بحسن العاقبة فقال- تعالى-:
[سورة النساء (٤) : الآيات ٩٧ الى ١٠٠]
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (٩٧) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (٩٨) فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً (٩٩) وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٠)
روى المفسرون في سبب نزول قوله- تعالى- إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ روايات منها ما أخرجه البخاري عن ابن عباس أن ناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على رسول الله ﷺ يأتى السهم فيرمى به فيصيب أحدهم فيقتله. أو يضرب فيقتل. فأنزل الله:
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ... الآية.
ومنها ما أخرجه الطبراني عن ابن عباس قال: كان قوم بمكة قد أسلموا. فلما هاجر رسول الله كرهوا أن يهاجروا- خوفا على أموالهم ونفورا من مفارقة أوطانهم- فأنزل الله الآية.
ومنها ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس قال: كان قوم من أهل مكة أسلموا. وكانوا يخفون الإسلام. فأخرجهم المشركون معهم يوم بدر. فأصيب بعضهم. فقال المسلمون:
هؤلاء كانوا مسلمين فأكرهوا فاستغفروا لهم فنزلت الآية «١».
(١) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٥٤٢ وتفسير ابن جرير ج ٥ ص ٢٠١
274
قال ابن كثير- بعد ذكره لهذه الروايات-: هذه الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة وليس متمكنا من إقامة الدين فهو ظالم لنفسه، مرتكب حراما بالإجماع وبنص هذه الآية..
وقوله: تَوَفَّاهُمُ يحتمل أن يكون فعلا ماضيا، وتركت علامة التأنيث للفصل، ولأن الفاعل ليس مؤنثا تأنيثا حقيقيا. ويحتمل أن يكون فعلا مضارعا وأصله «تتوفاهم» فحذفت إحدى التاءين تخفيفا. وهو من توفى الشيء إذا أخذه وافيا تاما.
والمراد من التوفي: قبض أرواحهم وإماتتهم. وقيل المراد به: حشرهم إلى جهنم.
والمراد من الملائكة: ملك الموت وأعوانه الذين يتولون قبض الأرواح بإذن الله وأمره.
وظلم النفس معناه: أن يفعل الإنسان فعلا يؤدى إلى مضرته وسوء عاقبته سواء أكان هذا الفعل كفرا أم معصية.
وإنما كان ظالما لنفسه لأنه قال قولا أو فعل فعلا ليس من شأن العقلاء أن يقولوه أو يفعلوه لو خامة عقباه.
والمعنى: إن الذين تقبض الملائكة أرواحهم وتميتهم حال كونهم قد ظلموا أنفسهم بسبب رضاهم بالذل والهوان، وإقامتهم في أرض لم يستطيعوا أن يباشروا تعاليم دينهم فيها، وعدم هجرتهم إلى الأرض التي يقيم فيها إخوانهم في العقيدة مع قدرتهم على الهجرة...
إن الذين تتوفاهم الملائكة وهم بهذه الحال، تسألهم الملائكة سؤال تقريع وتوبيخ عند قبض أرواحهم أو يوم القيامة فتقول لهم: «فيم كنتم» أى: في أى حال كنتم؟ أكنتم في عزة أم في ذلة؟ وكيف رضيتم البقاء مع الكافرين الذين أذلوكم وسخروا من دينكم؟ أو المعنى: في أى شيء كنتم من أمور دينكم؟
قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ أى: قال الذين ظلموا أنفسهم للملائكة: كنا في الدنيا يستضعفنا أهل الشرك في أرضنا وبلادنا، وصيرونا أذلاء لا نملك من أمرنا شيئا. وهو اعتذار قبيح يدل على هوان المعتذرين به وضعف نفوسهم، ولذلك لم تقبل منهم الملائكة هذا العذر، بل ردت عليهم بما حكاه الله- تعالى- في قوله: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها؟
فالاستفهام لإنكار عذرهم، وعدم الاعتداد به.
أى أن الملائكة تقول لهم- كما يقول الآلوسى-: إن عذركم عن ذلك التقصير بحلولكم بين أهل تلك الأرض أبرد من الزمهرير، إذ يمكنكم حل عقدة هذا الأمر الذي أخل بدينكم بالرحيل إلى قطر آخر من الأرض تقدرون فيه على إقامة أمور الدين كما فعل من هاجر إلى
275
الحبشة وإلى المدينة. أو إن تعللكم عن الخروج مع أعداء الله- تعالى- بأنكم مقهورون غير مقبول، لأنكم متمكنون من المهاجرة ومن الخروج من تحت أيديهم «١».
وقوله ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ جملة حالية من ضمير المفعول في قوله: تَوَفَّاهُمُ أى: تتوفاهم الملائكة في حال ظلمهم لأنفسهم. والإضافة فيه لفظية فلا تفيده تعريفا. والأصل ظالمين أنفسهم فحذفت النون تخفيفا.
قال الجمل ما ملخصه: وخبر إن في قوله إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ. محذوف تقديره: إن الذين توفاهم الملائكة هلكوا. ويكون قوله: قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ مبينا لتلك الجملة المحذوفة. أو يكون الخبر قوله فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ ودخلت الفاء في الخبر تشبيها للموصول باسم الشرط... «٢».
وقوله قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ جملة مستأنفة جوابا عن سؤال مقدر فكأنه قيل:
فماذا قال أولئك الذين ظلموا أنفسهم للملائكة؟ فكان الجواب: كنا مستضعفين في الأرض.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: كيف صح وقوع قوله «كنا مستضعفين في الأرض» جوابا عن قولهم: فيم كنتم وكان حق الجواب: كنا في كذا أو لم نكن في شيء؟ قلت معنى «فيم كنتم» التوبيخ بأنهم لم يكونوا في شيء من الدين حيث قدروا على المهاجرة ولم يهاجروا.
فقالوا: كنا مستضعفين اعتذارا مما وبخوا به، واعتلالا بالاستضعاف، وأنهم لم يتمكنوا من الهجرة حتى يكونوا في شيء. فبكتتهم الملائكة بقولهم: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها، أرادوا: إنكم كنتم قادرين على الخروج من مكة إلى بعض البلاد التي لا تمنعون فيها من إظهار دينكم.
وهذا دليل على أن الرجل إذا كان في بلد لا يتمكن فيه من إقامة دينه كما يجب لبعض الأسباب- والعوائق عن إقامة الدين لا تنحصر- أو علم أنه في غير بلده أقوم بحق الله وأدوم للعبادة حقت عليه المهاجرة.
ويبدو أن الإمام الزمخشري كان عند تفسيره لهذه الآية قد هاجر من موطنه للإقامة بجوار بيت الله الحرام، فقد قال خلال تفسيره لها «اللهم إن كنت تعلم أن هجرتي إليك لم تكن إلا للفرار بديني فاجعلها سببا في خاتمة الخير، ودرك المرجو من فضلك، والمبتغى من رحمتك.
وصل جواري لك بعكوفى عند بيتك بجوارك في دار كرامتك يا واسع المغفرة»
«٣».
(١) تفسير الآلوسى ج ٥ ص ١٢٦- بتصرف يسير.
(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ١ ص ٤١٦.
(٣) تفسير الكشاف ج ١ ص ٥٥٥
276
وقال القرطبي: ويفيد هذا السؤال والجواب أنهم ماتوا مسلمين ظالمين لأنفسهم في تركهم الهجرة، وإلا فلو ماتوا كافرين لم يقل لهم شيء من هذا. وإنما أضرب عن ذكرهم في الصحابة لشدة ما واقعوه «١».
وقوله فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً بيان لسوء عاقبة هؤلاء الذين آثروا العيش في أرض الكفر مع الذل على الهجرة إلى أرض الإسلام.
أى: فأولئك الذين ماتوا ظالمين لأنفسهم مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ أى: مسكنهم الذي يأوون إليه في الآخرة جهنم، وهي مصيرهم الذي يصيرون إليه وَساءَتْ مَصِيراً أى: وساءت جهنم لأهلها الذين صاروا إليها مصيرا ومسكنا ومأوى، لأنهم سيذوقون فيها العذاب الأليم.
وجيء باسم الإشارة فَأُولئِكَ للإشعار بأنهم جديرون بالحكم الوارد بعده للصفات التي وصفوا بها قبله، فهم كانوا قادرين على الهجرة لكنهم لم يهاجروا لضعف نفوسهم وحرصهم على أموالهم ومصالحهم.
والمخصوص بالذم في قوله وَساءَتْ مَصِيراً محذوف. أى: جهنم.
ثم استثنى- سبحانه- من هذا المصير السيئ لمن ظلموا أنفسهم ثلاثة أصناف من الناس فقال: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ.
أى: أن هذا المصير السيئ والعذاب المهين هو للذين ظلموا أنفسهم بترك الهجرة إلى المسلمين مع قدرتهم عليها، لكن هناك طوائف من الناس خارجون من هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم ومن هذا المصير الأليم، وهم أولئك الرجال الذين عجزوا حقا عن الهجرة لضعفهم أو مرضهم أو شيخوختهم.. أو النساء اللائي لا يستطعن الخروج وحدهن خشية من الاعتداء عليهن أو الولدان الذين لم يبلغوا الحلم بعد، أو بلغوه بلوغا قريبا لكنهم لا يستطيعون الهجرة بمفردهم لقلة ذات يدهم أو لغير ذلك من الأعذار الصحيحة.
وقوله لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا جملة مستأنفة موضحة لمعنى الاستضعاف.
حتى لا يتوهم متوهم أن استضعاف هؤلاء كالاستضعاف الذي تذرع به أولئك الذين ظلموا أنفسهم عند ما قالوا- كما حكى القرآن عنهم- كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ. ويصح أن تكون حالا من المستضعفين.
أى: ليس مندرجا مع الذين ظلموا أنفسهم فاستحقوا المصير السيئ أولئك الضعفاء من الرجال والنساء والولدان لأنهم لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً في الخروج إذ لا قوة لهم على الخروج
(١) تفسير القرطبي ج ٥ ص ٣٤٦
277
ولا نفقة معهم توصلهم مبتغاهم وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا أى: ولا يعرفون الطريق التي توصلهم إلى دار هجرتهم.
قال القرطبي: والحيلة: لفظ عام لأنواع أسباب التخلص. والسبيل: سبيل المدينة. فيما ذكر مجاهد والسدى وغيرهما. والصواب أنه عام في جميع السبل.
والاستثناء في قوله إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ منقطع- على الصحيح- لأن هؤلاء الذين قعدوا عن الهجرة لعجزهم، خارجون من أولئك الذين ظلموا أنفسهم بقعودهم عن الهجرة مع قدرتهم على ذلك.
وفي ذكر الولدان مبالغة في أمر الهجرة حتى لكأنها لو استطاعها غير المكلفين لقاموا بها، وإشعار بأن على أوليائهم أن يهاجروا بهم معهم متى تمكنوا من ذلك.
وقوله فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ. بيان لحكم هؤلاء المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا.
أى: أن هؤلاء الذين قعدوا عن الهجرة لأعذار حالت بينهم وبينها «عسى الله أن يعفو عنهم» أى: يتجاوز عنهم بفضله ورحمته بسبب عدم استطاعتهم للهجرة.
قال الجمل: وعسى ولعل في كلام الله واجبتان، وإن كانتا رجاء وطمعا في كلام المخلوقين، لأن المخلوق هو الذي تعرض له الشكوك والظنون. والباري منزه عن ذلك، وإذا أطمع- سبحانه- عبده وصله «١».
وقال الآلوسى: وفي قوله عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ إيذان بأن ترك الهجرة أمر خطير حتى ان المضطر الذي تحقق عدم وجوبها عليه ينبغي له أن يعد تركها ذنبا، ولا يأمن. ويترصد الفرصة ويعلق قلبه بها» «٢».
وقوله وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً تذييل مقرر لما قبله بأتم وجه أى وكان الله- تعالى-.
وما زال كثير العفو عن عباده فيما يقعون فيه من تقصير، كثير المغفرة لمن تاب إليه وأناب.
ثم رغب- سبحانه- في الهجرة من أجل إعلاء دينه بأسمى ألوان الترغيب فقال: وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً.
وقوله: مُراغَماً اسم مكان أى يجد في الأرض متحولا ومهاجرا.
(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ١ ص ٤١٨
(٢) تفسير الآلوسى ج ٥ ص ١٢٧
278
قال القرطبي ما ملخصه: اختلف في تأويل المراغم فقال مجاهد: المراغم: المتزحزح. وقال ابن عباس: المراغم: المتحول والمذهب. وقال ابن زيد: المراغم: المهاجر.
وهذه الأقوال متفقة المعاني وهو اسم الموضع الذي يراغم فيه. وهو مشتق من الرغام أى التراب ورغم أنف فلان أى لصق بالتراب. وراغمت فلانا هجرته وعاديته.
وهذا كله تفسير بالمعنى. فأما الخاص باللفظة فهو أن المراغم موضع المراغمة كما ذكرناه وهو أن يرغم كل واحد من المتنازعين أنف صاحبه بأن يغلبه على مراده.
فكأن كفار قريش أرغموا أنوف المحبوسين بمكة، فلو هاجر منهم مهاجر لأرغم أنوف قريش لحصوله في منعة منهم، فتلك المنعة هي موضع المراغمة «١».
والمعنى: ومن يهاجر تاركا دار إقامته من أجل إعلاء كلمة الله وإعزاز دينه، يجد في الأرض أماكن كثيرة يأمن فيها مكر أعدائه وظلمهم، ويجد فيها من الخير والنعمة والسعة في الرزق ما يكون سببا لرغم أنف أعدائه الذين فارقهم كراهة لصحبتهم القبيحة، ومعاملتهم السيئة.
قال الفخر الرازي: وذلك لأن من فارق بلده وذهب إلى بلدة أجنبية، فإذا استقام أمره في تلك البلدة الأجنبية، ووصل ذلك الخبر إلى أهل بلدته خجلوا من سوء معاملتهم له ورغمت أنوفهم- أى أصابهم الذل- بسبب ذلك.
فكأنه قيل: يا أيها الإنسان إنك كنت تكره الهجرة عن وطنك خوفا من أن تقع في المشقة والمحنة والسفر، فلا تخف فإن الله- تعالى- سيعطيك من النعم الجليلة، والمراتب العظيمة، في دار هجرتك ما يصير سببا لرغم أنوف أعدائك، ويكون سببا لسعة عيشك.
وإنما قدم- سبحانه- ذكر رغم الأعداء على ذكر سعة العيش لأن ابتهاج الإنسان الذي يهاجر عن أهله وبلده بسبب شدة ظلمهم له بدولته من حيث إنها تصير سببا لرغم أنوف الأعداء. أشد من ابتهاجه بتلك الدولة من حيث إنها صارت سببا لسعة العيش عليه «٢».
وقوله وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ تنويه عظيم بشأن الهجرة من أجل إعلاء كلمة الله، حيث جعل- سبحانه- ثوابها حاصلا حتى ولو لم يصل المهاجر إلى مقصده.
أى: ومن يخرج من بيته تاركا أهله ووطنه، فارا بدينه إلى المكان الذي تعلو فيه كلمة الله وكلمة رسوله، قاصدا بذلك نصرة الحق وأهله، من يفعل ذلك ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ وهو في
(١) تفسير القرطبي ج ٥ ص ٣٤٨
(٢) تفسير الفخر الرازي ج ١١ ص ١٥ طبعة عبد الرحمن محمد.
279
طريقه قبل أن يصل إلى مكان هجرته «فقد وقع أجره على الله» أى: فقد ثبت ووجب له الأجر عند الله- تعالى- تفضلا منه- سبحانه- وكرما وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً فيغفر لهذا المهاجر ما فرط منه من تقصير، ويرحمه برحمته الواسعة.
وقوله ثُمَّ يُدْرِكْهُ بالجزم عطفا على فعل الشرط وهو وَمَنْ يَخْرُجْ. وجوابه قوله:
فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ.
قال الآلوسى: وقرئ ثُمَّ يُدْرِكْهُ بالرفع. وخرجه ابن جنى على أنه فعل مضارع مرفوع والموت فاعله. والجملة خبر لمبتدأ محذوف أى: ثم هو يدركه الموت «١».
وفي التعبير بقوله فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ بعث للطمأنينة في قلوب المهاجرين، وحفز لهم على الهجرة من أجل إعلاء كلمة الله لأنهم إذا وصلوا إلى دار هجرتهم فقد راغموا أنف أعدائهم ورزقهم الله بالخير من فضله، وإن ماتوا قبل أن يصلوا أعطاهم- سبحانه- ثواب المهاجرين كاملا ببركة حسن نياتهم، وكافأهم على ذلك أجرا جزيلا لا يعلم مقداره إلا هو.
وقد وردت روايات في سبب نزول هذه الآية الكريمة منها ما أخرجه ابن جرير عن سعيد بن جبير أنها نزلت في جندب بن ضمرة وكان قد بلغه وهو بمكة قوله- تعالى-: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ.. الآية فقال لبنيه: احملونى فإنى لست من المستضعفين، وإنى لأهتدى إلى الطريق، وإنى لا أبيت الليلة بمكة. فحملوه على سرير متوجها إلى المدينة- وكان شيخا كبيرا، فمات بالتنعيم- وهو موضع قرب مكة- ولما أدركه الموت أخذ يصفق يمينه على شماله ويقول: اللهم هذه لك. وهذه لرسولك ﷺ أبايعك على ما بايع عليه رسولك- ثم مات- ولما بلغ خبر موته الصحابة قالوا: ليته مات بالمدينة فنزلت الآية «٢».
هذا، ومن الأحكام والآداب التي أخذها العلماء من هذه الآيات ما يأتى:
١- وجوب الهجرة من دار لا يستطيع المسلم فيها أن يؤدى شعائر دينه.
قال القرطبي: في هذه الآيات دليل على هجران الأرض التي يعمل فيها بالمعاصي. وقال سعيد بن جبير: إذا عمل بالمعاصي في أرض فاخرج منها. وتلا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها. وقال مالك: هذه الآيات دالة على أنه ليس لأحد المقام في أرض يسب فيها السلف ويعمل فيها بغير الحق «٣».
(١) تفسير الآلوسى ج ٥ ص ١٢٧. [.....]
(٢) تفسير الآلوسى ج ٥ ص ١٢٩
(٣) تفسير القرطبي ج ٥ ص ٣٤٨
280
وقال الشيخ القاسمى ما ملخصه: قال الحافظ بن حجر في «الفتح» : الهجرة الترك.
والهجرة إلى الشيء الانتقال إليه عن غيره. وفي الشرع: ترك ما نهى الله عنه.
وقد وقعت في الإسلام على وجهين:
الأول: الانتقال من دار الخوف إلى دار الأمن. كما في هجرتي الحبشة وابتداء الهجرة من مكة إلى المدينة.
الثاني: الهجرة من دار الكفر إلى دار الإيمان. وذلك بعد أن استقر النبي ﷺ بالمدينة وهاجر إليه من أمكنه ذلك من المسلمين. وكانت الهجرة إذ ذاك تختص بالمدينة إلى أن فتحت مكة فانقطع الاختصاص وبقي عموم الانتقال من دار الكفر لمن قدر عليه باقيا.
ثم قال الشيخ القاسمى: وقد أفصح ابن عمر بالمراد فيما أخرجه الإسماعيلى بلفظ:
انقطعت الهجرة بعد الفتح إلى رسول الله ﷺ ولا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار. أى: ما دام في الدنيا دار كفر، فالهجرة واجبة منها على من أسلم وخشي أن يفتن في دينه.
وروى الإمام أحمد وأبو داود عن معاوية قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة. ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها» «١».
٢- أن من خرج للهجرة في سبيل الله ومات في الطريق أعطاه الله- تعالى- أجر المهاجرين ببركة نيته الصادقة، ويدل على ذلك ما جاء في الصحيحين عن عمر بن الخطاب أن رسول الله ﷺ قال: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى. فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله. ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه».
وقال صاحب الكشاف: كل هجرة لغرض ديني- من طلب علم أو حج أو جهاد أو فرار إلى بلد يزداد فيه طاعة أو قناعة وزهدا في الدنيا أو ابتغاء رزق طيب- فهي هجرة إلى الله ورسوله. وإن أدركه الموت في طريقه فأجره واقع على الله «٢».
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد وبخت الذين رضوا أن يقيموا مع الكافرين في ذلة وهوان مع قدرتهم على الهجرة، وتوعدتهم على ضعف إيمانهم، بسوء المصير، وحرضت المؤمنين في كل زمان ومكان على الهجرة في سبيل الله بأسمى ألوان التحريض وأشدها، ووعدت المهاجر
(١) تفسير القاسمى ج ٥ ص ١٤٩٢
(٢) تفسير الكشاف ج ١ ص ٥٥٧
281
من أجل إعلاء كلمة الحق بالخير الوفير، والأجر الجزيل. «وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
وبعد أن حض- سبحانه- عباده على الهجرة في سبيله أتبع ذلك ببيان جانب من مظاهر رحمته في التيسير عليهم فيما شرعه لهم من عبادات، حيث أباح لهم قصر الصلاة في حالة السفر، وعرفهم كيف يؤدونها في حالة الجهاد والخوف من مباغتة العدو لهم فقال- تعالى-:
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٠١ الى ١٠٢]
وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (١٠١) وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٠٢)
قوله وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ أى: إذا سافرتم، وأطلق الضرب في الأرض على السفر لأن المسافر يضرب برجله وبراحلته على الأرض.
والمراد من الأرض: ما يشمل البر والبحر. أى إذا سافرتم- أيها المؤمنون- في أى مكان
282
يسافر فيه من بر أو بحر فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أى: حرج أو إثم في أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ أى في أن تنقصوا منها ما خففه الله عنكم رحمة بكم.
وقوله تَقْصُرُوا من القصر وهو ضد المد. يقال قصرت الشيء أى جعلته قصيرا بحذف بعض أجزائه أو أوصافه.
ومن في قوله مِنَ الصَّلاةِ يجوز أن تكون زائدة للتأكيد فيكون لفظ الصلاة مفعولا به لتقصروا. ويجوز أن تكون للتبعيض فيكون المفعول محذوفا. والجار والمجرور في موضع الصفة.
أى: فليس عليكم جناح في أن تقصروا شيئا من الصلاة.
وقوله إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا جملة شرطية وجوابها محذوف دل عليه ما قبله.
والمراد بالفتنة هنا: إنزال الأذى بالمؤمنين.
أى: إن خفتم أن يتعرض لكم المشركون بما تكرهونه من القتال أو غيره حين سفركم فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة.
وقوله إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً تعليل لتأكيد أخذ الحذر من الكفار دائما، لأن عداوتهم للمؤمنين ظاهرة، وكراهتهم لهم شديدة.
أى: إن الكافرين كانوا وما زالوا بالنسبة لكم- أيها المؤمنون- يظهرون العداوة، وما تخفيه صدورهم لكم من أحقاد وكراهية أشد وأكبر.
وقد أكد- سبحانه- هذه العداوة بإن الدالة على التوكيد، وبكان المفيدة للدوام والاستمرار، وبوصف هذه العداوة بالسفور والظهور، لكي يحترس المسلمون منهم أشد الاحتراس.
هذا، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية ما يأتى:
١- أن قصر الصلاة في السفر سنة. ومنهم من يرى أن المصلى مخير فيه كما يخير في الكفارات. ومنهم من يرى أنه فرض.
قال القرطبي ما ملخصه: واختلف العلماء في حكم القصر في السفر فروى عن جماعة أنه فرض وهو قول عمر بن عبد العزيز والكوفيين. واحتجوا بحديث عائشة «فرضت الصلاة ركعتين ركعتين» ولا حجة فيه لمخالفتها له فإنها كانت تتم في السفر وذلك يوهنه...
وحكى ابن الجهم أن أشهب روى عن مالك أن القصر فرض. ومشهور مذهبه وجل أصحابه، وأكثر العلماء من السلف والخلف أن القصر سنة. وهو الصحيح.
283
ومذهب عامة البغداديين من المالكيين أن الفرض التخيير. ثم اختلفوا في أيهما أفضل، فقال بعضهم: القصر أفضل.. وقيل: الإتمام أفضل» «١».
أما بالنسبة لمسافة السفر التي يجوز معها قصر الصلاة للعلماء فيها أقوال منها: أن السفر الذي يسوغ القصر هو ما كان مسيرة ثلاثة أيام بلياليها بالسير المعتاد.
وهذا رأى الأحناف. ومن حججهم قوله صلى الله عليه وسلم: «يمسح المقيم يوما وليلة والمسافر ثلاثة أيام بلياليها» وأيضا ورد أن النبي ﷺ منع المرأة من السفر فوق ثلاث إلا مع زوج أو محرم، فدل هذا على أن ما دون الثلاث لا يعد سفرا، بل هو في حكم الإقامة، حيث جعل الثلاث فاصلا بين الخروج بدون محرم وعدمه. وأيضا فقد جرى عرف العرب أن الرجل كان لا يعتبر مسافرا إلا بسير نحو ثلاثة أيام.
أما المالكية والشافعية وأكثر الأئمة فيرون أن السفر الذي تقصر فيه الصلاة هو ما كان مسيرة يوم وليلة وقيل يوم فقط، وذلك لما رواه ابن عباس أن النبي ﷺ قال: «يا أهل مكة لا تقصروا في أدنى من أربعة برد. من مكة إلى عسفان، وقد قدرت هذه المسافة بمسيرة يوم وليلة أو يوم فقط.
ويرى داود الظاهري وأتباعه أن القصر في كل ما يسمى سفرا، سواء أكان قصيرا أم طويلا لأن المدار عندهم في تحقيق القصر على تحقيق شرطه وهو الضرب في الأرض، ولأن كلمة الضرب في الأرض قد جاءت على إطلاقها من غير تقييد بمدة معلومة ولا مسافة محدودة.
وقد رد جمهور العلماء عليهم بردود منها: أن الضرب في الأرض حقيقته الانتقال من مكان إلى مكان. وظاهر أن مجرد الانتقال من مكان إلى آخر لا يكون سببا في الرخصة، فلا بد أن يكون السفر المرخص فيه بالقصر سفرا مخصوصا، وقد بينت السنة النبوية الشريفة مقداره على خلاف في الروايات.
هذا، وقد حكى القرطبي أقوال بعض العلماء في نقد أولئك الذين يأخذون الأمور بظواهرها بدون فهم سليم فقال:
قال ابن العربي: وقد تلاعب قوم بالدين فقالوا: إن من خرج من البلد إلى ظاهره أكل وقصر وقائل هذا أعجمى لا يعرف السفر عند العرب، أو مستخف بالدين. ولولا أن العلماء ذكروه لما رضيت أن ألمحه بمؤخر عيني، ولا أفكر فيه بفضول قلبي. ولم يذكر حد السفر الذي يقع به القصر لا في القرآن ولا في السنة. وإنما كان كذلك، لأنها كانت لفظة عربية مستقر
(١) تفسير القرطبي ج ٥ ص ٣٥١.
284
علمها عند العرب الذين خاطبهم الله بالقرآن فنحن نعلم قطعا أن من برز عن الدور لبعض الأمور أنه لا يكون مسافرا لا لغة ولا شرعا. وإن من مشى مسافرا ثلاثة أيام فإنه يكون مسافرا قطعا. كما أننا نحكم على من مشى يوما وليلة أنه كان مسافرا، لحديث «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم منها» وهذا هو الصحيح لأنه وسط بين الحالين. وعليه عول مالك. ولكنه لم يجد هذا الحديث متفقا عليه، فقد روى مرة «يوما وليلة» ومرة «ثلاثة أيام»...
ثم قال القرطبي: واختلفوا في نوع السفر الذي تقصر فيه الصلاة. فأجمع الناس على الجهاد والحج والعمرة وما ضارعها من صلة رحم.. واختلفوا فيما سوى ذلك. فالجمهور على جواز القصر في السفر المباح كالتجارة وغيرها. وعلى أنه لا قصر في سفر المعصية كالباغي وقاطع الطريق وما في معناهما.
ثم قال: واختلف العلماء في مدة الإقامة التي إذا نواها المسافر أتم. فقال مالك والشافعى والليث بن سعد: إذا نوى الإقامة أربعة أيام أتم.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: إذا نوى الإقامة خمس عشرة ليلة أتم، وإن كان أقل من ذلك قصر «١».
٢- ذهب جمهور العلماء إلى أن الآية الكريمة المقصود منها تشريع صلاة السفر، وأن المراد بالقصر في قوله «أن تقصروا من الصلاة» هو القصر في الكمية أى في عدد الركعات، بأن يصلى المسافر الصلاة الرباعية ركعتين، وأن حكمها للمسافر في حال الأمن كحكمها في حال الخوف لتظاهر السنن على مشروعيتها مطلقا.
وقد وضح هذه المسألة الإمام ابن كثير توضيحا حسنا فقال ما ملخصه: وقوله- تعالى- إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا الشرط فيه خرج مخرج الغالب حال نزول هذه الآية. إذ كانت أسفارهم بعد الهجرة في مبدئها مخوفة. بل كانوا لا ينهضون إلا إلى غزو عام، أو سرية خاصة، وسائر الأحياء حرب للإسلام وأهله. والمنطوق إذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له.
كقوله- تعالى- وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً وقوله- تعالى- وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ.
ومما يشهد بأن للمسافر أن يقصر سواء أكان آمنا أم خائفا ما رواه الترمذي والنسائي عن ابن عباس. أن النبي صلى الله عليه وسلم: خرج من المدينة إلى مكة لا يخاف إلا الله رب العالمين فصلى ركعتين.
(١) تفسير القرطبي ج ٥ ص ٣٥٤ وما بعدها.
285
وروى البخاري عن حارثة بن وهب الخزاعي قال: صلى بنا رسول الله ﷺ آمن ما كان بمنى ركعتين.
وروى البخاري عن أنس قال: خرجنا مع رسول الله ﷺ من المدينة إلى مكة. فكان يصلى ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة.
وروى مسلم وأحمد وأهل السنن عن يعلى بن أمية قال: سألت عمر بن الخطاب. قلت له:
قوله- تعالى-: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا. وقد أمن الناس؟ فقال لي عمر: عجبت مما عجبت منه. فسألت رسول الله ﷺ عن ذلك فقال: «صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته».
وروى أبو بكر بن أبى شيبة عن أبى حنظلة الحذاء قال: سألت ابن عمر عن صلاة السفر؟
فقال: ركعتان، فقلت له: أين قوله، إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ونحن آمنون؟
فقال: سنة رسول الله ﷺ «١».
فأنت ترى من هذه النصوص أنها تدل على أن الآية الكريمة مسوقة في تشريع صلاة السفر سواء أكان المسافر آمنا أم خائفا، وأن قوله- تعالى- أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ المراد من القصر هنا قصر عدد الركعات من أربع إلى اثنين كما كان يفعل النبي ﷺ في أسفاره، وأن القصر للصلاة في السفر بالنظر لما كانت عليه في الحضر.
قالوا: ومما يدل على أن لفظ القصر كان مخصوصا في عرفهم بنقص عدد الركعات، ما رواه البخاري عن أبى هريرة أن رسول الله ﷺ «انصرف من اثنتين- أى صلى الصلاة الرباعية ركعتين عن سهو- فقال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟....
هذا ويرى بعض العلماء أن هذه الآية نزلت في صلاة الخوف، وأن المقصود بالقصر هنا هو قصر الكيفية لا الكمية- أى تخفيف ما اشتملت عليه من قراءة وتسبيح وغير ذلك- لأنهم يرون أن كمية صلاة المسافر ركعتان فهي تمام غير قصر.
قال ابن كثير ما ملخصه: ومن العلماء من قال: إن المراد من القصر هاهنا إنما هو قصر الكيفية لا الكمية وهو قول مجاهد والضحاك والسدى واعتقدوا بما رواه الإمام مالك عن عائشة أنها قالت فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في السفر والحضر، فأقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر.
قالوا: فإذا كان أصل الصلاة في السفر هي اثنتين فكيف يكون المراد بالقصر هنا قصر
(١) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٥٤٤.
286
الكمية. لأن ما هو الأصل لا يقال فيه فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ. وروى الإمام أحمد والنسائي وابن ماجة عن عمر- رضى الله عنه- قال: صلاة السفر ركعتان وصلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم محمد ﷺ «١» ».
وقال القرطبي: وذهب جماعة إلى أن هذه الآية إنما هي مبيحة للقصر في السفر للخائف من العدو فمن كان آمنا فلا قصر له. روى عن عائشة أنها كانت تقول في السفر: أتموا صلاتكم.
فقالوا: إن رسول الله ﷺ كان يقصر. فقالت: إنه كان في حرب وكان يخاف وهل أنتم تخافون؟...
وذهب جماعة إلى أن الله- تعالى- لم يبح القصر في كتابه إلا بشرطين: السفر والخوف وفي غير الخوف بالسنة «٢».
ويبدو لنا أن الأولى ما ذهب إليه جمهور العلماء من أن الآية الكريمة المقصود منها تشريع صلاة السفر وأن المراد بالقصر فيها قصر كمية الصلاة بحيث يصلى المسافر الصلاة الرباعية ركعتين تخفيفا من الله- تعالى- عليه، سواء أكان في حالة أمن أم حالة خوف، لأن النصوص التي ساقها الجمهور لتأييد رأيهم صريحة في صحة ما ذهبوا إليه، ولأن القصر في اللغة معناه أن تقتصر من الشيء على بعضه، وهذا أظهر ما يكون في قصر الركعات على اثنين بدل أربع، أما القصر في الصفة أو الكيفية فهو تغيير في الصلاة لا إتيان بالبعض، إذ هو إحلال للإيماء محل الركوع والسجود- مثلا-. وأيضا فإن مِنَ في قوله أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ تكون أظهر في الاقتصار على بعض الركعات عند من يجعل هذا الحرف للتبعيض.
ومن أراد مزيد بيان لتلك المسائل فليرجع إلى أمهات كتب الفقه والتفسير.
ثم شرع- سبحانه- في بيان صفة صلاة الخوف في جماعة فقال- تعالى- وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ، وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ.
والمعنى: وإذا كنت يا محمد في أصحابك وشهدت معهم القتال «فأقمت لهم الصلاة» أى:
فأردت أن تقيم لهم الصلاة في جماعة لتزدادوا أجرا ورعاية من الله وأنتم تقاتلون أعداءه،
(١) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٥٤٥
(٢) تفسير القرطبي ج ٥ ص ٣٦٢
287
فعليك في هذه الحالة أن تقسم أصحابك إلى قسمين، ثم بعد ذلك فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ أى فلتقم جماعة من أصحابك معك في الصلاة، أما الطائفة الأخرى فلتكن بإزاء العدو ليحرسوكم منهم.
والضمير في قوله وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ يعود إلى الرجال الذين معه في الصلاة... أى:
ولتأخذ الطائفة القائمة معك في الصلاة أسلحتها معها وهي في الصلاة حتى تكون على أهبة القتال دائما.
وقوله فَإِذا سَجَدُوا أى: الرجال القائمون معك في الصلاة سجدوا في الركعة الأولى وأتموا الركعة فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ أى: فلينصرفوا بعد ذلك من صلاتهم ليكونوا في مقابلة العدو للحراسة. فالضمير في الكل يعود إلى المصلين معه.
وقيل المعنى: فإذا سجد الرجال الذين قاموا معك للصلاة، فليكن الرجال الآخرون الذين ليسوا في الصلاة من ورائكم لحماية ظهوركم، ولمنع نزول الأذى بكم من أعدائكم. وعلييه فيكون الضمير في قوله فَلْيَكُونُوا يعود إلى الطائفة الثانية التي ليست في الصلاة.
وقوله: وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ بيان لما يجب أن تفعله الطائفة الأخرى التي لم تدخل في الصلاة بعد. أى: فإذا ما انصرفت الطائفة الأولى للحراسة فلتأت الطائفة التي كانت قبل ذلك في الحراسة والتي لم تصل بعد فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ الركعة الأولى وأنت يا محمد في الركعة الثانية. وعليهم أيضا أن يكونوا كمن سبقهم حاملين لأسلحتهم التي لا تشغلهم عن الصلاة كالسيف والخنجر وما يشبه ذلك، حتى إذا ما باغتكم المشركون بالهجوم كنتم دائما على استعداد لمواجهتهم، وكنتم دائما على يقظة من مكرهم.
فأنت ترى أن الله- تعالى- قد أمر المؤمنين بالمحافظة على الصلاة حتى في حالة الحرب، وأمرهم في الوقت ذاته بأن يكونوا يقظين آخذين حذرهم وأسلحتهم من مباغتة أعدائهم لهم حتى لا يتوهم أولئك الأعداء أن الصلاة ستشغل المؤمنين عن الدفاع عن أنفسهم.
وقوله وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ استعمل لفظ الأخذ فيه في الحقيقة والمجاز. لأن أخذ الحذر كناية عن شدة اليقظة ودوام الترقب. وأخذ الأسلحة حقيقة في حملها للدفاع بها عن النفس. «١»
وقدم- سبحانه- الأمر بأخذ الحذر على أخذ الأسلحة لأن أخذ الأسلحة نوع من الحذر،
(١) راجع تفسير القرطبي ج ٥ ص ٣٥١ وما بعدها. وتفسير ابن كثير ج ١ ص ٥٤٤ وما بعدها.
288
ولأن الحذر عند انتقال الصفوف وتحركها واجب حتى لا يباغتهم الأعداء وهم يتحولون من مكان إلى مكان، وهذا أشبه بتغيير الخطط وقت القتال، وهو أمر له خطورته فوجب أن تشتد يقظة المسلمين حينئذ.
وإلى هذا المعنى أشار بعضهم بقوله: فإن قلت لم ذكر في أول الآية الأسلحة فقط، وذكر هنا الحذر والأسلحة؟ قلت: لأن العدو قلما يتنبه للمسلمين في أول الصلاة بل يظنون كونهم قائمين في المحاربة والمقاتلة. فإذا قاموا إلى الركعة الثانية ظهر للكفار أن المسلمين في الصلاة، فحينئذ ينتهزون الفرصة في الإقدام على المسلمين فلا جرم أن الله- تعالى- أمرهم في هذا الموضع بزيادة الحذر من الكفار مع أخذ الأسلحة «١».
وقوله- تعالى- وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً بيان لما من أجله أمروا بأخذ الحذر والسلاح. والخطاب لجميع المؤمنين.
وقوله وَدَّ من الود وهو محبة الشيء وتمنى حصوله.
والأسلحة: جمع سلاح. وهو اسم جنس لآلات الحرب التي يستعملها الناس في حروبهم وقتالهم.
والأمتعة: جمع متاع. وهو كل ما ينتفع به من عروض وأثاث. والمراد به هنا: ما يكون مع المحاربين من أشياء لا غنى لهم عنها كبعض ملابسهم وأطعمتهم ومعداتهم.
ولَوْ في قوله لَوْ تَغْفُلُونَ مصدرية. وقوله مَيْلَةً منصوب على المفعول المطلق لبيان العدد.
والمعنى: كونوا دائما- أيها المؤمنون- في أقصى درجات التنبه والتيقظ والحذر، فإن أعداءكم الكافرين يودون ويحبون غفلتكم وعدم انتباهكم عن أسلحتكم وأمتعتكم التي تستعملونها في قتالكم لهم، وفي هذه الحالة يحملون عليكم حملة واحدة قوية شديدة ليقتلوا منكم من يستطيعون قتله. فعليكم- أيها المؤمنون- أن تجمعوا بين الصلاة والجهاد جمعا مناسبا حكيما بحيث لا يشغلكم أحد الأمرين عن الآخر أو عن حسن الاستعداد لمجابهة أعدائكم الذين يتربصون بكم الدوائر.
فالآية الكريمة من مطلعها إلى هنا تراها تأمر بشدة وتكرار بأخذ الحذر وحمل السلاح لمجابهة أى مباغتة من المشركين. ومع هذا فقد رخص الله- تعالى- للمؤمنين بوضع السلاح في أحوال معينة دون أن يرخص لهم في أخذ الحذر فقال- تعالى- وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ.
(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ١ ص ٤٢٠- نقلا عن الخازن-
289
أى: ولا حرج ولا إثم عليكم- أيها المؤمنون- في أن تضعوا أسلحتكم في أغمادها فلا تحملوها إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ يثقل معه حمل السلاح أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى بحيث يشق عليكم حملها، ومع كل هذا فلا بد من أخذ الحذر من أعدائكم، بأن تكونوا على يقظة تامة من مكرهم، وعلى أحسن استعداد لدحرهم إذا ما باغتوكم بالهجوم.
وقوله إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً تذييل قصد به تشجيع المؤمنين على مقاتلة أعدائهم وأخذ الحذر منهم.
أى: إن الله- تعالى- أعد لأعدائكم الكافرين عذابا مذلا لهم في الدنيا والآخرة. أما في الدنيا فبنصركم عليهم وإذهاب صولتهم ودولتهم، كما قال- تعالى- قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ.
وأما في الآخرة فبالعذاب الذي يهينهم ويذلهم ولا يستطيعون منه نجاة أو مهربا. وإذا كان الأمر كذلك فباشروا- أيها المؤمنون- الأسباب التي توصلكم إلى النصر عليهم.
هذا، ومن الأحكام والآداب التي أخذها العلماء من هذه الآية ما يأتى:
١- قال الآلوسى: تعلق بظاهر قوله- تعالى- وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ. من خص صلاة الخوف بحضرته ﷺ كالحسن بن زيد ونسب ذلك أيضا لأبى يوسف، ونقله عنه الجصاص في كتاب الأحكام، وعامة الفقهاء على خلافه فإن الأئمة بعده ﷺ نوابه، وقوام بما كان يقوم به فيتناولهم حكم الخطاب الوارد له عليه الصلاة والسلام كما في قوله خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً وقد أخرجه أبو داود والنسائي وابن حبان وغيرهم عن ثعلبة بن زهدم. قال: كنا مع سعيد بن العاص بطبرستان فقال: أيكم صلى مع رسول الله صلاة الخوف؟ فقال حذيفة: أنا. ثم وصف له ذلك فصلوا كما وصف، وكان ذلك بمحضر من الصحابة ولم ينكره أحد منهم. وهم الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم، وهذا يحل محل الإجماع «١».
٢- أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة مشروعية صلاة الخوف وصفتها وأنه يطلب فيها حمل السلاح إلا لعذر. وقد روى المفسرون في سبب نزول هذه الآية روايات منها ما أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وغيرهم عن أبى عياش الزرقي قال: كنا مع رسول الله ﷺ بعسفان فاستقبلنا المشركون عليهم خالد بن الوليد. وهم بيننا وبين القبلة. فصلى بنا النبي ﷺ الظهر فقالوا: قد كانوا على حال لو أصبنا غرتهم ثم قالوا: تأتى عليهم الآن صلاة هي أحب إليهم
(١) تفسير الآلوسى ج ٥ ص ١٣٤- بتصريف يسير-
290
من أبنائهم وأنفسهم. فنزل جبريل بهذه الآية وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ.. إلخ بين الظهر والعصر «١» ».
٣- وردت روايات متعددة يؤخذ منها أن النبي ﷺ قد صلى صلاة الخوف على هيئات مختلفة وفي مواضع متعددة. ويشهد لهذا قول القرطبي. وقد اختلفت الروايات في هيئة صلاة الخوف.
واختلف العلماء لاختلافها. فذكر ابن القصار أنه ﷺ صلاها في عشر مواضع. وقال ابن العربي: روى عن النبي ﷺ أنه صلى صلاة الخوف أربعا وعشرين مرة. وقال الإمام أحمد بن حنبل- وهو إمام أهل الحديث والمقدم في معرفة علل النقل فيه- لا أعلم أنه روى في صلاة الخوف إلا حديث ثابت. وهي كلها صحاح ثابتة. فعلى أى حديث صلى منها المصلى صلاة الخوف أجزأه إن شاء الله «٢».
وقال ابن كثير: صلاة الخوف أنواع كثيرة فإن العدو تارة يكون تجاه القبلة، وتارة يكون في غير صوبها، ثم تارة يصلون جماعة وتارة يلتحم الحرب فلا يقدرون على الجماعة، بل يصلون فرادى مستقبلي القبلة وغير مستقبليها لعذر القتال كما أخر النبي ﷺ يوم الأحزاب صلاة الظهر والعصر فصلاهما بعد الغروب، ثم صلى بعدهما المغرب والعشاء. وأما الجمهور فقالوا هذا منسوخ بصلاة الخوف فإنها لم تكن نزلت بعد، فلما نزلت نسخ تأخير الصلاة لذلك «٣». ونظرا لاختلاف الروايات الواردة في كيفية صلاة الخوف، فقد اختلف الفقهاء في كيفية أدائها تبعا لما فهمه كل فريق من تلك الروايات. وهاك بعض مذاهبهم:
(أ) ذهب الإمام أبو حنيفة ومن تابعه إلى أن كيفية صلاة الخوف أن يقسم الإمام الناس طائفتين: طائفة تكون مع الإمام والأخرى بإزاء العدو. فيصلى بالذين معه ركعة ثم ينصرفون إلى مقام أصحابهم ثم تأتى الطائفة الأخرى التي كانت بإزاء العدو فيصلى بهم الإمام الركعة الثانية ويسلم هو.
ثم تأتى الطائفة الأولى فتصلي ركعة بغير قراءة، لأنها في رأيهم لاحقة. أى كأنها وراء الإمام حكما طول الصلاة، ولا قراءة عندهم وراء الإمام ثم تتشهد وتسلم. وتذهب إلى وجه العدو فتأتى الطائفة الثانية فتقضى ركعة بقراءة ثم تتشهد وتسلم. وإنما صلت هذه ركعتها بقراءة لأنها عندهم مسبوقة، فتكون كمن أدرك آخر صلاة الإمام وفاتته ركعة. فتكون القراءة واجبة في حقها.
(١) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٥٤٨
(٢) تفسير القرطبي ج ٥ ص ٣٦٥ [.....]
(٣) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٥٤٧
291
وهذه الكيفية لصلاة الخوف التي أخذ بها الإمام أبو حنيفة قد وردت في روايات عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(ب) أما الإمام مالك فيرى أن كيفية صلاة الخوف تكون كالآتى: أن يقسم الإمام الناس إلى طائفتين: طائفة تكون معه وطائفة تكون بإزاء العدو. ثم يصلى بالطائفة التي معه ركعة ولا يسلم وتتم هي الركعة الثانية وحدها ثم تتشهد وتسلم وتذهب إلى مكان الطائفة الثانية، وتأتى الطائفة الثانية فتقف خلف الإمام فيصلى معها الركعة الثانية ثم يجلسون للتشهد ويسلم الإمام وحده أما هم فيقومون فيصلون وحدهم الركعة التي بقيت ثم يتشهدون ويسلمون.
وقريب من هذه الكيفية ما ذهب إليه الإمام الشافعى فهو يوافق المالكية فيما ذهبوا إليه إلا أنه قال: لا يسلم الإمام حتى تتم الطائفة الثانية صلاتها ثم يسلم معهم.
ويذهب الإمام أحمد بن حنبل في كيفية صلاة الخوف إلى ما ذهب إليه الإمام مالك.
وفي رواية عنه أنه يوافق ما ذهب إليه الشافعية.
وهذا كله فيما إذا كانت الصلاة ثنائية في الأصل كالفجر أو رباعية فإنها تقصر إلى ثنائية.
أما إذا كانت صلاة الخوف في المغرب فيرى جمهور الفقهاء أن الإمام يصلى بالطائفة الأولى ركعتين، وبالطائفة الثانية ركعة ثم تتم كل طائفة ما بقي عليها بالطريقة التي سبق ذكرها عند الأئمة، والتي بسطها العلماء في كتب الفقه.
٤- ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية أهمية صلاة الجماعة، لأن الله- تعالى- أمر المسلمين بأن يؤدوا الصلاة في جماعة حتى وهم في حالة الاستعداد للقاء أعدائهم.
قال ابن كثير: ما أحسن ما استدل به من ذهب إلى وجوب الجماعة من هذه الآية الكريمة.
حيث اغتفرت أفعال كثيرة لأجل الجماعة. فلولا أنها واجبة ما ساغ ذلك.
٥- كذلك من الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية أن الإسلام دين يأمر أتباعه بأداء الصلاة حتى ولو كانوا في ساحة المعركة، وذلك لأن الصلاة صلة بين العبد وربه، ومتى حسنت هذه الصلة بين المجاهد وخالقه، فإنه- سبحانه- يكلؤه بعين رعايته، ويمده بنصره وتأييده.
وأن الإسلام بجانب هذا الاهتمام الشديد بشأن الصلاة فإنه يهتم أيضا بأن يأمر أتباعه بالحذر من مكر أعدائهم ومن مباغتتهم لهم، بأن يكون المؤمنون مستعدين لصدهم وردهم على أعقابهم، وأن لا يغفلوا عن حمل أسلحتهم حتى ولو كانوا قائمين للصلاة.
وبهذا نرى أن الإسلام يربى أتباعه تربية روحية وعقلية وبدنية من شأنها أن توصلهم- متى حافظوا عليها- إلى ما يعلى كلمتهم في الدنيا، ويرفع درجاتهم في الآخرة.
292
ثم أمر الله- تعالى- المؤمنين بالإكثار من ذكره بعد الانتهاء من صلاتهم، وشجعهم على مواصلة قتال أعدائهم بدون خوف أو ملل فقال- تعالى-:
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٠٣ الى ١٠٤]
فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (١٠٣) وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٠٤)
والمعنى: فإذا أديتم صلاة الخوف- أيها المؤمنون- على الوجه الذي بينته لكم وفرغتم منها فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ أى: فداوموا على الإكثار من ذكر الله في كل أحوالكم سواء كنتم قائمين في ميدان القتال، أم قاعدين مستريحين، أم مضطجعين على جنوبكم، فإن ذكر الله- تعالى- الذي يتناول كل قول أو عمل يرضى الله- هو العبادة المستمرة التي بها تصفو النفوس، وتنشرح الصدور، وتطمئن القلوب. قال- تعالى- الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ.
وإنما أمرهم- سبحانه- بالإكثار من ذكره في هذه الأحوال بصفة خاصة، مع أن الإكثار من ذكر الله مطلوب في كل وقت، لأن الإنسان في حالة الخوف ومقابلة الأعداء أحوج ما يكون إلى عون الله وتأييده ونصره، والتضرع إلى الله بالدعاء في هذه الأحوال يكون جديرا بالقبول والاستجابة.
قال- تعالى- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
والفاء في قوله فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ للتفريع على ما قبله.
أى: فإذا ما سكنت نفوسكم من الخوف، وأقمتم في مساكنكم بعد أن وضعت الحرب أوزارها، فداوموا على أداء الصلاة على وجهها الذي كانت عليه قبل حالة الحرب، وأتموا أركانها وشروطها وآدابها وخشوعها.
293
وقوله «إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا» تذييل المقصود به تأكيد ما قبله من الأمر بالمحافظة على الصلاة.
أى: إن الصلاة كانت على المؤمنين فرضا محددا بأوقات لا يجوز مجاوزتها بل لا بد من أدائها في أوقاتها سفرا وحضرا، وأمنا وخوفا.
والمراد بالكتاب هنا: المكتوب. وبالموقوت: المحدد بأوقات من وقت كمضروب من ضرب.
وقد رجح ابن جرير هذا المعنى بقوله: وأولى المعاني بتأويل الكلمة قول من قال: إن الصلاة كانت على المؤمنين فرضا موقوتا. أى فرضا وقت لهم وقت وجوب أدائه. لأن الموقوت إنما هو مفعول من قول القائل: وقت الله عليك فرضه فهو يقته. ففرضه عليك موقوت، إذا أخبر أنه جعل له وقتا يجب عليك أداؤه «١».
وقد أكد الله- تعالى- فرضية الصلاة ووجوب أدائها في أوقاتها بإن المفيدة للتأكيد، وبكان المفيدة للدوام والاستمرار. وبالتعبير عن الصلاة بأنها كتاب، وهو تعبير عن الوصف بالمصدر فيفيد فضل توكيد، وبقوله عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فإن هذا التركيب يفيد الإلزام والحتمية. وكل ذلك لكي يحافظ المؤمنون عليها محافظة تامة دون أن يشغلهم عنها شاغل، أو يحول بينهم وبين أدائها حائل.
وقوله وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ تشجيع للمؤمنين على مواصلة قتال أعدائهم بصبر وعزيمة.
وقوله تَهِنُوا من الوهن وهو الضعف والتخاذل. والابتغاء مصدر ابتغى بمعنى بغى المتعدى أى طلب.
أى: ولا تضعفوا- أيها المؤمنون- في ابتغاء العدو وطلبه، ولا تقعد بكم الآلام عن متابعته وملاحقته حتى يتم الله لكم النصر عليه.
ثم رغبهم- سبحانه- في مواصلة طلب أعدائهم بأسلوب منطقي رصين فقال: إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ، وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ.
أى: لا تتوانوا- أيها المؤمنون- عن ملاحقة أعدائكم ومقاتلتهم مهما تحملتم من آلام، وما أصبتم به من جراح، لأن ما أصابكم من آلام وجراح قد أصيب أعداؤكم بمثله أو أكثر منه، ولأن الآلام التي تحسونها هم يحسون مثلها أو أكثر منها. وفضلا عن ذلك فأنتم ترجون
(١) تفسير ابن جرير ج ٥ ص ٢٦٢ بتصرف وتلخيص.
294
بقتالكم لهم رضا الله، وإعلاء كلمته، وحسن مثوبته، وإظهار دينه. أما هم فإنهم يقاتلونكم ولا رجاء لهم في شيء من ذلك. وإنما رجاؤهم في تحقيق شهواتهم، وإرضاء شياطينهم، وانتصار باطلهم على حقكم.
وشتان بين من يقاتل وغايته ورجاؤه نصرة الحق. ومن يقاتل وغايته ورجاؤه نصرة الباطل.
ومادام الأمر كذلك فانهضوا- أيها المؤمنون- لقتال أعداء الله وأعدائكم، دون أن يحول بينكم وبين قتالهم ما تحسون به من آلام، فإن الله- تعالى- قد جعل العاقبة لكم، والنصر في ركابكم..
وقريب من هذه الآية قوله- تعالى- في سورة آل عمران: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ.
ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً أى: وكان الله وما زال عليما بكل شيء من أحوالكم وأحوالهم، حكيما في كل ما يقضيه ويأمر به أو ينهى عنه، فسيروا- أيها المؤمنون- في الطريق التي أمركم- سبحانه- بالسير فيها لتنالوا تأييده ورضاه.
هذا، وقد روى المفسرون في سبب نزول هذه الآية الكريمة روايات منها ما ذكره القرطبي من أنها نزلت في أعقاب حرب أحد حيث أمر النبي ﷺ المؤمنين بالخروج في آثار المشركين، وكان بالمسلمين جراحات. وكان قد أمر ألا يخرج معه إلا من كان قد حضر القتال في غزوة أحد «١».
وهذا السبب الذي ذكره القرطبي في نزول الآية الكريمة لا يمنع عمومها إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وعليه فإن الآيتين الكريمتين تأمران المسلمين في كل زمان ومكان بالمحافظة على فرائض الله ولا سيما الصلاة، وبالإكثار من ذكره في جميع أحوالهم، وبالإقدام على قتال أعدائهم بعزيمة صادقة، وهمة عالية، دون أن يحول بينهم وبين هذا القتال ما يشعرون به من آلام، فإن الله- تعالى- قد تكفل بنصر المؤمنين، ودحر المشركين.
وبعد أن أمر الله- تعالى- المؤمنين بالمحافظة على فرائضه وبأخذ حذرهم من الأعداء.
وبالاستعداد لإبطال مكرهم، وبمواصلة قتالهم حتى تعلو كلمة الحق، بعد كل هذا أمر- سبحانه- المؤمنين في شخص نبيهم ﷺ بأن يلتزموا الحق في كل شئونهم وأحوالهم، لأن عدم التقيد بالحق والعدل يؤدى إلى ضعف الأمة واضمحلالها. وقد ساق- سبحانه- في آيات كريمة ما يهدى القلوب إلى صراطه المستقيم فقال- تعالى-:
(١) تفسير القرطبي ج ٥ ص ٣٧٤. بتصرف يسير.
295

[سورة النساء (٤) : الآيات ١٠٥ الى ١١٣]

إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (١٠٥) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٦) وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (١٠٧) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (١٠٨) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (١٠٩)
وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (١١٠) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (١١١) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (١١٢) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (١١٣)
296
ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات روايات مختلفة السياق إلا أنها متقاربة المعاني.
ومن ذلك ما ذكره صاحب الكشاف من أن رجلا اسمه طعمة بن أبيرق- أحد بنى ظفر- سرق درعا من جار له أسمه قتادة ابن النعمان في جراب دقيق. فجعل الدقيق ينتثر من خرق فيه. وخبأ طعمة الدرع عند رجل من اليهود اسمه زيد بن السمين.
فالتمست الدرع عند طعمة فلم توجد وحلف ما أخذها، وماله بها علم. فتركوه واتبعوا أثر الدقيق حتى انتهى إلى منزل اليهودي فأخذوها. فقال اليهودي: دفعها إلى طعمة وشهد له ناس من اليهود. فقالت بنو ظفر- أقارب طعمة-: انطلقوا بنا إلى رسول الله ﷺ فلما وصلوا إليه سألوه أن يجادل- أى يدافع- عن صاحبهم طعمة وقالوا: إن لم تفعل هلك وافتضح وبرىء اليهودي. فهم رسول الله ﷺ أن يفعل وأن يعاقب اليهودي. وقيل هم أن يقطع يده فنزلت «١».
وهذه الآيات الكريمة وإن كانت قد نزلت في حادثة معينة، إلا أن توجيهاتها وأحكامها تتناول جميع المكلفين في كل زمان ومكان.
وقوله تعالى إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ تشريف للنبي ﷺ وإرشاد إلى ما يجب أن يكون عليه الحاكم أو القاضي من عدالة ونزاهة.
أى: إنا أنزلنا إليك يا محمد القرآن الكريم، إنزالا ملتبسا بالحق وبالعدل لكي تحكم بين الناس في قضاياهم بما أراك الله. أى بما عرفك وأعلمك وأوحى به إليك وقوله بِالْحَقِّ في محل نصب على الحال المؤكدة فيتعلق بمحذوف. وصاحب الحال هو الكتاب. أى: أنزلناه ملتبسا بالحق.
وقوله بِما أَراكَ الفعل هنا متعد لاثنين أحدهما العائد المحذوف والآخر كاف الخطاب أى: بما أراكه الله. أى: بما عرفك وأعلمك.
وسمى ذلك العلم بالرؤية، لأن العلم اليقيني المبرأ عن جهات الريب يكون جاريا مجرى الرؤية في القوة والظهور.
قال ابن كثير: احتج من ذهب من علماء الأصول إلى أنه كان ﷺ له أن يحكم بالاجتهاد بهذه الآية. وبما ثبت في الصحيحين عن أم سلمة أن رسول الله ﷺ سمع جلبة خصوم بباب حجرته فخرج إليهم فقال: «ألا إنما أنا بشر. وإنما أقضى بنحو مما أسمع. ولعل أحدكم أن
(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٥٦١ بتصريف يسير.
297
يكون ألحن بحجته من بعض فأقضى له. فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار، فليحملها أو ليذرها».
وفي رواية للإمام أحمد عن السيدة أم سلمة- أيضا- قالت: جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى رسول الله ﷺ في مواريث بينهما قد درست. ليس عندهما بينه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنكم تختصمون إلى وإنما أنا بشر. ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض.
فإنى أقضى بينكم على نحو ما أسمع. فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار.. فبكى الرجلان وقال كل منهما: حقي لأخى. فقال رسول الله ﷺ أما إذا قلتما ذلك فاذهبا فاقتسما، ثم توخيا الحق بينكما ثم استهما. ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه»
«١».
وقوله «ولا تكن للخائنين خصيما» معطوف على كلام مقدر يفهم من المقام. والخصيم هنا بمعنى المنتصر المدافع عن غيره فهو اسم فاعل بمعنى مخاصم وجمعه الخصماء. وأصله من الخصم وهو ناحية الشيء وطرفه. وقيل للخصمين خصمان، لأن كل واحد منهما في ناحية من الحجة والدعوى.
والمعنى: إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاحكم به ولا تكن لأجل الخائنين مخاصما للبراء، بأن تجعل فكرك ينحاز إلى أولئك الخائنين- الذين يظهرون الإسلام- قبل سماع البينات الهادية المرشدة إلى الحق.
وسماهم- سبحانه- خائنين، لأنهم في علمه- تعالى- كانوا كذلك وقد أخبر نبيه بخيانتهم ليحذرهم ولا يحسن الظن بهم.
قال القرطبي: قال العلماء: لا ينبغي إذا ظهر للمسلمين نفاق قوم أن يجادل فريق منهم فريقا عنهم ليحموهم ويدفعوا عنهم. فإن هذا قد وقع على عهد النبي ﷺ وفيهم نزل قوله- تعالى- وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً. وقوله: وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ.
والخطاب للنبي ﷺ والمراد منه الذين كانوا يفعلونه من المسلمين دونه لوجهين:
أحدهما: أنه- تعالى- أبان ذلك بما ذكره بعد بقوله ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
. والآخر: أن النبي ﷺ كان حكما فيما بينهم، ولذلك كان يعتذر إليه ولا يعتذر هو إلى غيره فدل على أن القصد لغيره «٢».
(١) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٥٥١
(٢) تفسير القرطبي ج ٥ ص ٣٧٧
298
ثم قال- تعالى- وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً. أى: واستغفر الله مما هممت به من تبرئة طعمة وإدانة اليهودي، حيث إن ظاهر الأمر يقتضى ذلك، وهذا وإن لم يكن ذنبا، إلا أنه- سبحانه- أمر نبيه ﷺ بالاستغفار من ذلك، لعلو مقامه على حد قول العلماء:
حسنات الأبرار سيئات المقربين.
أو المعنى: واستغفر الله لهؤلاء الخائنين لكي يتوبوا إلى الله- تعالى- ببركة استغفارك لهم، إن الله- تعالى- كان كثير المغفرة لمن تاب إليه، وكثير الرحمة لمن آمن به واتقاه. وهذا الأمر بالاستغفار والإنابة إلى الله موجه إلى كل مكلف في شخص النبي ﷺ ثم قال- تعالى- وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً.
أى: ولا تخاصم وتدافع عن هؤلاء الذين «يختانون أنفسهم» أى يخونونها بشدة وإصرار إن الله- تعالى- لا يحب ولا يرضى عمن كانت الخيانة وصفا من أوصافه، وخلقا من أخلاقه، وكذلك لا يحب ولا يرضى عمن كان الانهماك في الإثم والمعصية عادة من عاداته.
وجاء- سبحانه- بلفظ يَخْتانُونَ
بمعنى يخونون، لقصد وصفهم بالمبالغة في الخيانة لأن مادة الافتعال تدل على التكلف والمحاولة.
وجعلت خيانة هؤلاء لغيرهم خيانة لأنفسهم، لأن سوء عاقبة هذه الخيانة سيعود عليهم.
ولأن المسلمين جميعا كالجسد الواحد فمن تظاهر بأنه منهم ثم خان أحدهم فكأنما خان نفسه، وأوردها موارد البوار والتهلكة باعتدائه على حقوق الجماعة الإسلامية، وزعزعة أمنها واستقرارها.
والمراد بالموصول في قوله وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ
طعمة وأمثاله من الخائنين أو هو ومن عاونه وشهد ببراءته من أبناء عشيرته.
وقال- سبحانه- إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً
بصيغة المبالغة لإفادة أن الخيانة والإثم صارا وصفا ملازما لهؤلاء الخائنين الآثمين.
أى أن صيغة المبالغة هنا ليست للتخصيص حتى لا يتوهم متوهم أن الله- تعالى- يحب من عنده أصل الخيانة والإثم.
وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذا المعنى بقوله: فإن قلت: لم قيل «خوانا أثيما» على المبالغة؟ قلت: كان الله عالما من طعمة بالإفراط في الخيانة وركوب المآثم، ومن كانت تلك خاتمة أمره لم يشك في حاله. وقيل: إذا عثرت من رجل على سيئة فاعلم أن لها أخوات. وعن عمر- رضى الله عنه- أنه أمر بقطع يد سارق، فجاءت أمه تبكى وتقول: هذه أول سرقة
299
سرقها فاعف عنه. فقال لها كذبت. إن الله لا يؤاخذ عبده في أول مرة «١».
وقوله يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ
بيان لأحوالهم القبيحة التي تجعلهم محل غضب الله وسخطه.
والاستخفاء معناه الاستتار. يقال استخفيت من فلان. أى: تواريت منه واستترت.
أى: أن هؤلاء الذين من طبيعتهم الخيانة والوقوع في الآثام يستترون من الناس عند ما يقعون في المنكرات حياء منهم وخوفا من ضررهم وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ
أى: ولا يشعرون برقابة الله عليهم، واطلاعه على جميع أحوالهم، بل يرتكبون ما يرتكبون من آثام بدون حياء منه مع أنه- سبحانه- هو الأحق بأن يستحى منه، ويخشى من عقابه.
وقوله وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً
بيان لشمول علمه- سبحانه- بكل حركاتهم وسكناتهم.
أى: أن هؤلاء الخائنين يرتكبون السوء بدون حياء من الله، مع أنه- سبحانه- معهم في كل حركاتهم وسكناتهم بعلمه واطلاعه على أقوالهم وأعمالهم ولا يخفى عليه شيء من أمرهم حين «يبيتون» أى يضمرون ويدبرون ويقدرون في أذهانهم مالا يرضاه الله- من القول كأن يرتكبوا المنكرات ثم يمسحونها في غيرهم حتى لا يفتضح أمرهم.
قال صاحب الكشاف: وكفى بهذه الآية ناعية على الناس ما هم فيه من قلة الحياء والخشية من ربهم، مع علمهم- إن كانوا مؤمنين- أنهم في حضرته لا سترة ولا غفلة ولا غيبة، وليس إلا الكشف الصريح والافتضاح.
وقوله يُبَيِّتُونَ
أى: يدبرون ويزورون وأصله أن يكون ليلا ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ
وهو تدبير طعمة أن يرمى الدرع في دار غيره.
فإن قلت: كيف سمى التدبير قولا وإنما هو معنى في النفس؟ قلت: لما حدث بذلك نفسه سمى قولا على المجاز. ويجوز أن يكون المراد بالقول: الحلف الكاذب الذي حلف به طعمة بعد أن بيته وتوريكه الذنب على اليهودي «٢».
وقوله وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً
تذييل قصد به التهديد والوعيد. أى وكان الله- تعالى- محيطا إحاطة تامة بما يعمله هؤلاء الخائنون وغيرهم ولا يغيب عن علمه شيء من تصرفاتهم، وسيحاسبهم عليها يوم القيامة.
(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٥٦٣
(٢) تفسير الكشاف ج ١ ص ٥٦٣. وقوله «وتوريكه الذنب» يقال: ورك فلان ذنبه على غيره أى رماه به.
300
ثم وبخ- سبحانه- أولئك الذين دافعوا عن الخائنين وجادلوا عنهم بالباطل فقال:
ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا.
أى: ها أنتم أيها المدافعون عن الخائنين كطعمة وأمثاله قد جادلتم عنهم في الدنيا مبرئين إياهم من الخيانة بدون حق، فمن ذا الذي يستطيع منكم أن يدافع عنهم أمام الله يوم القيامة، بل من يكون عليهم يومئذ وكيلا. أى: قائما بتدبير أمورهم، ومدافعا عنهم؟ لا شك أنه لن يكون هناك أحد يدافع عنهم يوم القيامة لأن كل إنسان سيجازى بعمله، ولن ينفعه دفاع المدافعين، أو جدال المجادلين.
وقوله ها
حرف تنبيه. أى تنبيه المخاطبين على خطئهم في المجادلة عن السارق، وقوله أَنْتُمْ
مبتدأ. وقوله هؤُلاءِ
منادى بحرف نداء محذوف مبنى على الكسر في محل نصب.
وجملة جادَلْتُمْ عَنْهُمْ
. خبر المبتدأ. وبعضهم أعرب هؤلاء خبر أول. وجعل جملة جادلتم خبرا ثانيا.
وقوله جادَلْتُمْ
من الجدل بمعنى الفتل ومنه رجل مجدول الفتل أى قوى البنية فالجدال معناه تقوية الحجة التي يدافع بها الإنسان عن نفسه أو عن غيره. وقيل إن الجدال مأخوذ من الجدالة وهي وجه الأرض. فكأن كل واحد من الخصمين يكون كالمصارع الذي يريد أن يلقى صاحبه عليها. ومنه قولهم: تركته مجدلا أى مطروحا على الأرض.
وأَمْ
في قوله أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا
منقطعة للإضراب الانتقالى.
والاستفهام إنكارى بمعنى النفي في الموضعين. أى لا أحد يجادل عنهم أمام الله- تعالى- ولا أحد يستطيع أن يقوم بتدبير أمورهم يوم القيامة.
ثم فتح- سبحانه- بعد هذا التوبيخ الشديد للخائنين- باب التوبة لعباده فقال: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً
أى: ومن يعمل عملا سيئا يؤذى به غيره كما فعل طعمة باليهودي، أو يظلم نفسه بارتكاب الفواحش، التي يعود معظم ضررها على نفسه كشرب الخمر، وترك فرائض الله التي فرضها على عباده ثم بعد كل ذلك يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ
بأن يتوب إليه توبة صادقة نصوحا «يجد الله» بفضله وكرمه غَفُوراً رَحِيماً
أى كثير الغفران لعباده التائبين، واسع الرحمة إليهم.
فالمراد بعمل السوء هنا- على أرجح الأقوال- العمل السيئ الذي يكون فيه أذى للغير كالقذف والشتم والسب وما يشبه ذلك.
301
والمراد بظلم النفس: الأعمال السيئة التي يعود ضررها ابتداء على فاعلها نفسه كشرب الخمر، وترك الصلاة أو الصيام وما يشبه ذلك.
وإنما فسروا كل جملة بهذا التفسير المغاير للأخرى لوجود المقابلة بينهما.
وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً
أى عملا قبيحا يسوء به غيره كما فعل طعمة بقتادة واليهودي أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ
بما يختص به كالحلف الكاذب. وقيل ومن يعمل سوءا من ذنب دون الشرك أو يظلم نفسه بالشرك. وهذا بعث لطعمة على الاستغفار والتوبة أو لقومه لما فرط منهم من نصرته والذب عنه «١».
والتعبير «بثم» في قوله ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ
للإشارة إلى ما بين المعصية والاستغفار من تفاوت معنوي شاسع. إذ المعصية تؤدى بفاعلها إلى الخسران أما الاستغفار الذي تصحبه التوبة الصادقة فيؤدى إلى الفلاح والسعادة.
وقوله يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً
يفيد أن الله- تعالى- يستجيب لطلب الغفران من عبده متى تاب إليه وأناب، لأنه- سبحانه- قد وصف نفسه بأنه كثير المغفرة والرحمة لعباده، متى أقبلوا على طاعته بقلب سليم، ونية صادقة.
ثم بين- سبحانه- بأن الأفعال السيئة يعود ضررها على صاحبها وحده فقال- تعالى- وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ، وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً.
والكسب كما يقول الراغب- ما يتحراه الإنسان مما فيه اجتلاب نفع وتحصيل حظ، ككسب المال. وقد يستعمل فيما يظن الإنسان أنه يجلب منفعة له ثم استجلب به مضرة. وقد ورد في القرآن في فعل الصالحات والسيئات فمما استعمل في الصالحات قوله: أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً. ومما استعمل في السيئات قوله: إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ «٢».
ومنه قوله- تعالى- هنا وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ
أى. ومن يرتكب إثما من الآثام التي نهى الله عن ارتكابها، فإن ضرر ذلك يعود على نفسه وحدها. وما دام الأمر كذلك فعلى العاقل أن يبتعد عن الذنوب والآثام حتى ينجو من العقاب.
وقوله وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً
تذييل قصد به التحذير من سوء عاقبة اكتساب الآثام.
أى: وكان الله عليما بما في قلوب الناس وبما يقولون ويفعلون، حكيما في كل ما قدر وقضى.
(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٥٦٣ بتصرف يسير.
(٢) مفردات القرآن للراغب الأصفهاني ص ٣٤٠
302
وسيجازى كل إنسان بما يستحقه من خير أو شر ثم بين- سبحانه- المصير السيئ الذي ينتظر أولئك الذين يرتكبون السوء ثم يرمون به غيرهم فقال: وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً.
وقد قيل: إن الخطيئة والإثم هنا بمعنى واحد وقد جيء بهما على اختلاف لفظيهما للتأكيد المعنوي. ولم يرتض كثير من العلماء هذا القيل بل قالوا هما متغايران. وأن المراد بالخطيئة:
المعصية الصغيرة. والمراد بالإثم: المعصية الكبيرة. وقال آخرون: الفرق بين الخطيئة والإثم أن الخطيئة تكون عن عمد وعن غير عمد. والإثم لا يكون إلا عن عمد.
ويبدو لنا من تعبير القرآن عن الخطيئة أن المراد بها الذنوب التي يرتكبها صاحبها عن استهانة وعدم اكتراث، لأنه لكثرة ولوغه في الشرور صار يأتيها بلا مبالاة. قال- تعالى- بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ وقال- تعالى- مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً.
وأن المراد بالإثم هنا: الذنوب التي يرتكبها الإنسان عن تعمد وإصرار فتؤدى به إلى الإبطاء عن الاتجاه إلى الله بالاستغفار والتوبة، لأن الإثم كما يقول الراغب-: اسم للأفعال المبطئة عن الثواب «١».
والبهتان كما يقول القرطبي من البهت- بمعنى الدهش والتحير من فظاعة ما رمى به الإنسان من كذب- وهو أن تستقبل أخاك بأن تقذفه بذنب وهو منه برىء. وروى مسلم عن أبى هريرة رضى الله عنه أن النبي ﷺ قال. أتدرون ما الغيبة؟ قالوا الله ورسوله أعلم. قال. ذكرك أخاك بما يكره قال. أفرأيت إن كان في أخى ما أقول؟ قال إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته. وإن لم يكن فيه فقد بهته. ثم قال القرطبي وهذا نص. فرمى البريء بهت له. يقال. بهته بهتا وبهتانا إذا قال عليه ما لم يفعله «٢».
والمعنى: «ومن يكسب خطيئة» أى ذنبا من الذنوب التي يرتكبها صاحبها عن استهانة لكثرة تعوده على ارتكاب السيئات، أو يرتكب إِثْماً
من الآثام التي تبطئه عن رضا الله ورحمته «ثم يرم به بريئا» أى: ينسبه إلى غيره من الأبرياء مع أنه هو الذي اقترفه فَقَدِ احْتَمَلَ
أى: فقد تحمل بسبب فعله ذلك بُهْتاناً
أى كذبا يجعل من رمى به في حيرة ودهشة، وتحمل أيضا إِثْماً مُبِيناً
أى ذنبا واضحا بينا لا خفاء فيه يؤدى به إلى غضب الله وسخطه.
قال الجمل وقوله (به) في هذه الهاء أقوال:
(١) مفردات القرآن للراغب الأصفهاني ص ١٠
(٢) تفسير القرطبي ج ٥ ص ٣٨١
303
أحدها: أنها تعود على إِثْماً
والمتعاطفان بأو يجوز أن يعود الضمير على المعطوف كما في هذه الآية وعلى المعطوف عليه كما في قوله- تعالى- وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً.
الثاني: أنها تعود على الكسب المدلول عليه بالفعل نحو (اعدلوا هو أقرب للتقوى) أى العدل.
الثالث: أنها تعود على أحد المذكورين الدال عليه العطف بأو فإنه في قوة ثم يرم بأحد المذكورين «١».
وقال الفخر الرازي: واعلم أن صاحب البهتان مذموم في الدنيا أشد الذم ومعاقب في الآخرة أشد العقاب. فقوله: فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً
إشارة إلى ما يلحقه من الذم العظيم في الدنيا. وقوله وَإِثْماً مُبِيناً
إشارة إلى ما يلحقه من العقاب العظيم في الآخرة «٢».
وبهذا نرى أن هذه الآيات الثلاثة قد بينت مراتب العصاة أمام الله- تعالى وفتحت لهم باب التوبة ليثوبوا إلى رشدهم، وتوعدت المصرين على معاصيهم بسوء المصير.
ثم بين- سبحانه- مظاهر فضله على نبيه ﷺ فقال: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ.
أى: ولولا فضل الله عليك ورحمته بك- يا محمد- بأن وهبك النبوة، وعصمك من كيد الناس وأذاهم، وأحاطك علما بما يبيتونه من سوء لولا ذلك لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ
أى: من هؤلاء الذين يختانون أنفسهم وهم طعمة وأشياعه الذين دافعوا عنه، ومن كان على شاكلتهم في النفاق والجدال بالباطل أَنْ يُضِلُّوكَ
أى: لهمت طائفة من هؤلاء الذين في قلوبهم مرض أن يضلوك عن القضاء بالحق بين الناس، ولكن الله- تعالى- حال بينهم وبين هذا الهم بإشعارهم بأن ما يفعلونه معك من سوء سيكشفه الله لك عن طريق الوحى.
وقوله وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ
أى: أنهم بمحاولتهم إخفاء الحق والدفاع عن الخائن، وتعاونهم على الإثم والعدوان، ما يضلون إلا أنفسهم، لأن سوء عاقبة ذلك ستعود عليهم وحدهم، أما أنت يا محمد فقد عصمك الله من شرورهم، وحماك من كل انحراف عن الحق والعدل.
وقوله وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ
معطوف على ما قبله. أى هم بمحاولتهم إخفاء الحق
(١) تفسير الجمل ج ١ ص ٤٢٤
(٢) تفسير الفخر الرازي ج ١١ ص ٢٨ [.....]
304
ما يضرونك بأى قدر من الضر. لأنك إنما قضيت بينهم بما هو الظاهر من أحوالهم، وهو الذي تحكم بمقتضاه، أما الأمور الخفية التي تخالف الحق فمرجع علمها إلى الله وحده.
ومِنْ
في قوله مِنْ شَيْءٍ
زائدة لتأكيد النفي. وشيء أصله النصب على أنه مفعول مطلق لقوله يَضُرُّونَكَ
. أى: وما يضرونك شيئا من الضرر وقد جر لأجل حرف الجر الزائد.
وقوله وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً
معطوف على قوله وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ
لزيادة التقرير، ولزيادة بيان ما وهبه الله- تعالى- لنبيه من خير ورعاية وعصمة أى: أن الله- تعالى- قد امتن عليك يا محمد بأن أنزل عليك القرآن الذي يهدى للتي هي أقوم، وأنزل عليك الحكمة أى العلم النافع الذي يجعلك تصيب الحق في قولك وعملك «وعلمك ما لم تكن تعلم» من أخبار الأولين والآخرين، ومن خفيات الأمور، ومن أمور الدين والشرائع.
وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً
أى وكان فضل الله عليك عظيما عظما لا تحده عبارة، ولا تحيط به إشارة.
فالآية الكريمة فيها ما فيها من التنويه بشأن الرسول ﷺ ومن مظاهر فضل الله عليه ورحمته به.
وبعد فإن المتأمل في هذه الآيات الكريمة، ليراها تهدى الناس إلى ما يسعدهم في كل زمان ومكان متى اتبعوا توجيهاتها وإرشاداتها.
إنها تأمرهم في شخص نبيهم ﷺ أن يلتزموا الحق في كل أقوالهم وأعمالهم، حتى ولو كان الذي عليه الحق من أقرب الناس إليهم، وكان الذي له الحق من أعدى أعدائهم، وتنهاهم عن الدفاع عن الخائنين الذين يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله، وتبين لهم أن دفاعهم عنهم لن يفيده أمام الله- تعالى-.
ثم تفتح للعصاة باب التوبة لكي يفيئوا إلى رشدهم ويعودوا إلى طاعة ربهم وتخبرهم أن شؤم المعصية سيعود إليهم وحدهم وتنبههم إلى أن من أشد الذنوب عند الله- تعالى- أن يفعل الشخص فاحشة ثم يقذف بها غيره.
ثم تسوق الآيات في ختامها جانبا من فضل الله على نبيه ورحمته به، لكي يزداد ثباتا واطمئنانا» ويزداد أعداؤه خوفا وضعفا واضطرابا.
وهكذا نرى الآيات الكريمة تهدى الناس إلى الحق الذي لا يميل مع الهوى، ولا مع العصبية. ولا يترجح مع الحب أو البغض حتى ولو كان الذي عليه الحق ممن يظهرون الإسلام
305
ويعاملون معاملة المسلمين، وكان الذي له الحق من اليهود الذين لم يتركوا مسلكا لمحاربة الدعوة الإسلامية إلا سلكوه والذين يعرفون الحق كما يعرفون أبناءهم ومع ذلك أنكروه وحاربوه.
فهل رأيت- أخى القارئ- عدالة تقترب من هذه العدالة في سموها ونقائها واستقامة منهجها؟
إن هذه الآيات لتشهد بأن هذا القرآن من عند الله، لأن البشر مهما استقامت طبائعهم، فإنهم ليس في استطاعتهم أن يصلوا إلى هذا المستوي الرفيع الذي تشير إليه الآيات، والذي يكشف لكل عاقل أن هذا القرآن من عند الله وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً.
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك أن كثيرا من كلام الناس لا خير فيه، وأن العاقل هو الذي يحرص على القول النافع والعمل الطيب. وأن الذين يتبعون الطريق المخالف لطريق الحق سينالهم عذاب شديد من خالقهم فقال- سبحانه-:
[سورة النساء (٤) : الآيات ١١٤ الى ١١٥]
لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١١٤) وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (١١٥)
وقوله- تعالى-: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ. إشارة إلى ما جبل عليه كثير من الناس من إخفاء الأقوال أو الأعمال التي فيها شر ومضرة، ومن إعلان الأقوال أو الأفعال التي من ورائها خير ومنفعة. وقوله نَجْواهُمْ أى:
مما يتناجى به الناس ويتكلمون فيه. والنجوى: اسم مصدر بمعنى المسارة. يقال: نجوته نجوا
306
ونجوى وناجيته مناجاة. أى: ساررته بكلام على انفراد. وأصله: أن تعلو بمن تناجيه بسر معين في نجوة من الأرض. أى في مكان مرتفع منفصل بارتفاعه عما حوله. وقيل: أصله من النجاة، لأن الإسرار بالشيء فيه معاونة على النجاة. وتطلق النجوى على القوم المتناجين كما في قوله- تعالى- نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى.
والضمير في قوله مِنْ نَجْواهُمْ يعود إلى الناس جميعا، ويدخل فيه أولئك الذين كانوا يختانون أنفسهم ومن على شاكلتهم دخولا أوليا.
والمعروف- كما يقول الآلوسى- هو كل ما عرفه الشرع واستحسنه، فيشمل جميع أنواع البر كقرض وإغاثة ملهوف وإرشاد ضال إلى غير ذلك. ويراد به هنا ما عدا الصدقة وما عدا ما أشير إليه بقوله- تعالى- أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ «١».
والمعنى: لا خير في كثير من الكلام الذي يتناجى فيه الناس، ويتحدثون به سرا، إلا في نجوى من أمر غيره سرا بصدقة يزكى بها ماله، وينفع بها المحتاج إليها، أو من أمر غيره بالإكثار من أعمال البر، أو القيام بالإصلاح بين الناس المتخاصمين لكي يعودوا إلى ما كانوا عليه من الألفة والإخاء والصفاء.
قال الجمل: وقوله إِلَّا مَنْ أَمَرَ. في هذا الاستثناء قولان:
أحدهما: متصل والثاني: أنه منقطع. وهما مبنيان على أن النجوى يجوز أن يراد بها المصدر كالدعوى فتكون بمعنى التناجي أى التحدث. وأن يراد بها القوم المتناجون إطلاقا للمصدر على الواقع منه مجازا.
فعلى الأول يكون منقطعا، لأن من أمر ليس مناجاة، فكأنه قيل: لكن من أمر بصدقة ففي نجواه الخير وإن جعلنا النجوى بمعنى المتناجين كان متصلا. وقوله إِلَّا مَنْ أَمَرَ. إما منصوب على الاستثناء المنقطع إن جعلته منقطعا في لغة الحجازيين. أو على أصل الاستثناء إن جعلته متصلا. وإما مجرور على البدل من كثير، أو من نجواهم، أو صفة لأحدهما «٢».
فأنت ترى أن الآية الكريمة قد أخرجت من التناجي المذموم ثلاث خصال هي جماع الخير، وذلك لأن الصدقة التي يخرجها الإنسان تكون سببا في تزكية ماله، وحسن ثوابه، ونشر المحبة والمودة بين الناس.
والتعبير بقوله إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ يفيد الدعوة إليها، والحث على بذلها سرا ما دامت المصلحة تقتضي ذلك.
(١) تفسير الكشاف ج ٥ ص ١٤٤.
(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ١ ص ٤٢٤.
307
أما المعروف وهو النوع الثاني من التناجي المحمود فهو- كما يقول القرطبي لفظ يعم كل أعمال البر. ففي الحديث الشريف (كل معروف صدقة وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق) وقال على بن أبى طالب: (لا يزهدنك في المعروف كفر من كفره، فقد يشكر الشاكر بأضعاف جحود الجاحد).
وقال الماوردي: ينبغي لمن يقدر على إسداء المعروف أن يعجله حذار فواته، ويبادر به خيفة عجزه، وليعلم أنه من فرض زمانه، وغنائم إمكانه، ولا يهمله ثقة بالقدرة عليه، فكم من واثق بالقدرة ففاتت فأعقبت ندما.
وروى عن النبي ﷺ أنه قال: لكل شيء ثمرة وثمرة المعروف السراح- أى التعجيل- ومن شرط المعروف ترك الامتنان به، وترك الإعجاب بفعله. لما فيهما من إسقاط الشكر، وإحباط الأجر. قال بعض الشعراء:
زاد معروفك عندي عظما أنه عندك مستور حقير
تتناساه كأن لم تأته وهو عند الناس مشهور خطير «١»
والأمة التي يفشو فيها قول المعروف وفعله، تسودها السعادة، وتظلها المحبة والمودة والرحمة.
وأما الإصلاح بين الناس فهو فريضة اجتماعية يقوم بها من صفت نفوسهم وقويت عزائمهم، ورسخ إيمانهم.
وقد حض القرآن على الإصلاح بين الناس سواء أكانوا جماعات أم أفرادا لأن التخاصم والتنازع يؤدى إلى انتشار العداوات والمفاسد بين الناس. قال- تعالى-: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ.
وقد ساق الإمام ابن كثير جملة من الأحاديث التي تحض على الإصلاح بين الناس ومن ذلك ما رواه ابن مردويه عن محمد بن يزيد بن حنيش قال: دخلنا على سفيان الثوري نعوده. فدخل علينا سعيد بن حسان فقال له الثوري الحديث الذي كنت حدثتنيه عن أم صالح أردده على.
فقال: حدثتني أم صالح عن صفية بنت شيبة عن أم حبيبة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلام ابن آدم كله عليه لا له. إلا ذكر الله- تعالى- أو أمر بمعروف أو نهى عن منكر». فقال سفيان: أو ما سمعت الله في كتابه يقول: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ. فهو هذا بعينه.
وروى الجماعة- سوى ابن ماجة- عن أم كلثوم بنت عقبة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
(١) تفسير القرطبي ج ٥ ص ٣٨٤ بتصرف وتلخيص.
308
يقول: «ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمى خيرا أو يقول خيرا». وقالت: لم أسمعه يرخص في شيء مما يقوله الناس إلا في ثلاث: في الحرب. والإصلاح بين الناس. وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها).
وروى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي عن أبى الدرداء قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى. يا رسول الله!! قال إصلاح ذات البين». قال: «وفساد ذات البين هي الحالقة» «١».
ففي هذه الأحاديث الشريفة دعوة قوية إلى الإصلاح بين الناس حتى يعيشوا في أمان واطمئنان.
وبذلك نرى أن هذه الأمور الثلاثة التي أخرجها الله- تعالى من التناجي المذموم هي جماع الخير الإنسانى والاجتماعى.
وقد أشار الإمام الرازي إلى ذلك بقوله: هذه الآية وإن نزلت في مناجاة بعض قوم ذلك السارق مع بعض إلا أنها في المعنى عامة. والمراد: لا خير فيما يتناجى فيه الناس ويخوضون فيه من الحديث إلا ما كان من أعمال الخير ثم إنه- تعالى- ذكر من أعمال الخير ثلاثة أنواع:
الأمر بالصدقة. والأمر بالمعروف. والإصلاح بين الناس.
وإنما ذكر الله- تعالى- هذه الأقسام الثلاثة، لأن عمل الخير إما أن يكون بإيصال المنفعة أو بدفع المضرة. أما إيصال الخير: فإما أن يكون من الخيرات الجسمانية وهو إعطاء المال. وإليه الإشارة بقوله: إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ. وإما أن يكون من الخيرات الروحانية وهو عبارة عن تكميل القوة النظرية بالعلوم، أو تكميل القوة العملية بالأفعال الحسنة. ومجموعهما عبارة عن الأمر بالمعروف. وإليه الإشارة بقوله أَوْ مَعْرُوفٍ وأما إزالة الضرر فإليها الإشارة أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ فثبت أن مجامع الخيرات مذكورة في هذه الآية «٢».
ثم بين- سبحانه- حسن عاقبة من يقوم بفعل هذه الفضائل فقال: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً.
أى: ومن يفعل ذلك المذكور من الصدقة والمعروف والإصلاح بين الناس، قاصدا بفعله رضا الله وحسن مثوبته، فسوف نؤتيه أجرا عظيما لا يعرف مقداره إلا الله- تعالى-. وقال- سبحانه- ومن يفعل ذلك ولم يقل ومن يأمر بذلك كما جاء في صدر الآية. لأن المقصود
(١) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٥٥٣
(٢) تفسير الفخر الرازي ج ١١ ص ١٤
309
الترغيب في هذا الفعل الحسن، لأن الأمر بالخير إذا دخل في زمرة الخيرين كان الفاعل أحرى بالدخول في زمرتهم.
وفي تقييد الفعل بكونه ابتغاء مرضاة الله، تحريض على إخلاص النية، لأن الأعمال بالنيات، وإذا صاحب الرياء الأعمال أبطلها ومحق بركتها.
والتعبير بسوف هنا لتأكيد الوقوع في المستقبل. أى. فسوف نؤتيه أجرا لا يحيط به نطاق الوصف، ولن نبخسه شيئا من حقه حتى ولو كان هذا الشيء بالغا النهاية في الصغر.
ثم بين- سبحانه- سوء عاقبة الذين يسيرون في طريق الباطل، ويتركون طريق الحق فقال- تعالى-: وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى، وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً.
وقوله يُشاقِقِ من المشاقة بمعنى المعاداة والمخالفة المقصودة. وهي من الشق لأن المخالف كأنه يختار شقا يكون فيه غير شق الآخر.
فقوله وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ أى: من يخالفه ويعاديه.
وقوله مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى أى يخالفه ويعاديه من بعد ما اتضح له الحق، وقام لديه الدليل على صحة دين الإسلام.
وقوله وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ معطوف على يشاقق. أى: ويتبع طريقا غير طريق الإسلام التي سار فيها المؤمنون، واعتقدوا صحتها وسلامتها من كل سوء. من يفعل ذلك.
نوله ما تولى، أى نجعله- كما يقول الآلوسى واليا لما تولاه من الضلال. أو نخل بينه وبين ما اختار لنفسه من الضلال في الدنيا. أو نكله في الآخرة إلى ما اتكل عليه في الدنيا وانتصر به من الأوثان وغيرها.
قال صاحب المنار: والذي أريد توجيه الأذهان إلى فهمه هو أن هذه الجملة مبينة لسنة الله- تعالى- في عمل الإنسان. ومقدار ما أعطيه من الإرادة والاستقلال والعمل بالاختيار. فالوجهة التي يتولاها في حياته، والغاية التي يقصدها من عمله، يوليه الله إياها ويوجهه إليها. أى:
يكون بحسب سنته- تعالى- واليا لها وسائرا على طريقها. فلا يجد من القدرة الإلهية ما يجبره على ترك ما اختار لنفسه. ولو شاء- سبحانه- لهدى الناس أجمعين بخلقهم على حالة واحدة في الطاعة كالملائكة، ولكنه شاء أن يخلقهم على ما نراهم عليه الآن من تفاوت في الاستعداد والإدراك وعمل كل فرد بحسب ما يرى أنه خير له وأنفع في عاجله أو آجله أو فيهما جميعا «١»...
(١) تفسير المنار ج ٥ ص ٤١٥.
310
وقوله وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً وعيد شديد لأولئك المخالفين لطريق الحق. وأصل الصلى: إيقاد النار ولزومها وقت الاستدفاء. يقال صلى بالنار أى: بلى بها. وصليت الشاة:
شويتها وهي مصلية.
والمعنى: ومن يخالف طريق الحق نوله ما تولى وندخله في الآخرة جهنم ليشوى فيها كما تشوى الشاة، وساءت جهنم مكانا لمن صار إليها، وحل فيها.
قال ابن كثير: والذي عول عليه الشافعى يرحمه الله- في الاحتجاج على كون الإجماع حجة تحرم مخالفته هذه الآية الكريمة بعد التروي والفكر الطويل. وهو من أحسن الاستنباطات وأقواها. وإن كان بعضهم قد استشكل ذلك فاستبعد الدلالة على ذلك... «١».
وبهذا نرى أن الآيتين الكريمتين قد بشرتا من يفعل الخير ابتغاء مرضاة الله بالأجر العظيم، وأنذرتا من يخالف طريق أهل الحق بالعذاب الأليم، لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ، وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ثم حذر- سبحانه- من الشرك وتوعد المشركين الذين اتخذوا الشيطان وليا من دون الله بالعذاب المهين فقال- تعالى-:
[سورة النساء (٤) : الآيات ١١٦ الى ١٢١]
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١١٦) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (١١٧) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (١١٨) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (١١٩) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢٠)
أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (١٢١)
(١) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٤٥٥.
311
ذكر بعض المفسرين عن ابن عباس في سبب نزول قوله- تعالى- إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ. الآية: أن شيخا من العرب جاء إلى رسول الله ﷺ فقال: إنى شيخ منهمك في الذنوب. إلا أنى لم أشرك بالله شيئا منذ عرفته وآمنت به. ولم أتخذ من دونه وليا، ولم أوقع المعاصي جراءة. وما توهمت طرفة عين أنى أعجز الله هربا. وإنى لنادم تائب. فما ترى حالي عند الله- تعالى-؟ فنزلت «١».
والمراد بالشرك هنا: مطلق الكفر سواء أكان هذا الكفر من أهل الكتاب أم من العرب أم من غيرهم.
والمعنى: إن الله لا يغفر لكافر مات على كفره، ويغفر ما دون الكفر من الذنوب والمعاصي لمن يشاء أن يغفر له ممن اقترفها إذا مات من غير توبة. فمن مات منهم بدونها فهو تحت مشيئة الله إن شاء عفا عنه وأدخله الجنة، وإن شاء عذبه ثم أدخله الجنة.
وأما قوله قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً. فمقيد بالمشيئة أى: يغفر الذنوب جميعا لمن شاء أن يغفر له. ومقيد أيضا بما عدا الشرك. أى يغفر الذنوب جميعا إلا الشرك فإنه لا يغفره لمن مات عليه.
ثم بين- سبحانه- سوء حال المشركين فقال: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً والضلال هو السير في غير الطريق الموصل إلى النجاة.
أى: ومن يشرك بالله- تعالى- بأن يعبد سواه، أو يجعل معه شريكا في العبادة فقد سار في طريق الشرور والآثام سيرا بعيدا ينتهى به إلى الهلاك، ويفضى به إلى العذاب المهين.
وهذه الآية قد مر الكلام مفصلا في آية تشبهها من هذه السورة وهي قوله- تعالى- إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ. وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً «٢».
(١) تفسير الآلوسى ج ٥ ص ١٤٧.
(٢) الآية رقم ٤٨.
312
قالوا: وقد ختمت هذه الآية بقوله: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً لأنها في شأن أهل الكتاب من اليهود وهم عندهم علم بصحة نبوته ﷺ وبأن شريعته ناسخة لجميع الشرائع ومع ذلك فقد حملهم الحسد على إنكار الحق، فصار فعلهم هذا افتراء بالغ العظم في الكذب والجرأة على الله.
وختمت الآية التي معنا بقوله- تعالى-: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً لأنها في قوم مشركين لم يعرفوا من قبل كتابا ولا وحيا، فأتاهم رسول الله ﷺ بالهدى ودين الحق، وميز لهم طريق الرشد من طريق الغي، ولكنهم لم يتبعوه فكان فعلهم هذا ضلالا واضحا عن طريق الحق. وابتعادا شديدا عن الصراط المستقيم.
ثم فصل- سبحانه- ما عليه المشركون من ضلال فقال: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً.
وإِنْ هنا هي النافية. ويدعون من الدعاء وهو هنا بمعنى العبادة لأن من عبد شيئا فإنه يدعوه عند احتياجه إليه.
والمراد بالإناث: الأصنام التي كانوا يعبدونها من دون الله.
أى: أن هؤلاء المشركين ما يعبدون من دون الله إلا أصناما، أو ما ينادون من دون الله لقضاء حوائجهم إلا أوثانا لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا.
وعبر عن الأصنام بالإناث لأن المشركين سموا أكثر هذه الأصنام بأسماء الإناث، كاللات والعزى ومناة.
قال الحسن: كان لكل حي من أحياء العرب صنم يعبدونه ويسمونه أنثى بنى فلان وكانوا يزينونه بالحلى كالنساء.
وقيل: المراد بالإناث هنا الملائكة، لأن بعضهم كان يعبد الملائكة ويقولون عنها: بنات الله. قال- تعالى- وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً.
وقيل: المراد بها هنا: الجمادات التي لا حياة فيها ومع ذلك يعبدونها.
قال أبو حيان: قال الراغب: أكثر ما عبدته العرب من الأصنام كانت أشياء منفعلة غير فاعلة. فبكتهم الله أنهم مع كونهم فاعلين من وجه يعبدون ما ليس هو إلا منفعلا من كل وجه. وعلى هذا نبه إبراهيم- عليه السلام- أباه بقوله: يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً
«١».
(١) تفسير البحر المحيط لأبى حيان ج ٣ ص ٣٥٢.
313
وقد رجح ابن جرير القول الأول فقال: وأولى التأويلات التي ذكرت بتأويل ذلك تأويل من قال: عنى بذلك الآلهة التي كان مشركو العرب يعبدونها من دون الله، ويسمونها بالإناث من الأسماء كاللات والعزى ونائلة ومناة وما أشبه ذلك.
وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الآية لأن الأظهر من معاني الإناث في كلام العرب، ما عرف بالتأنيث دون غيره فإذا كان ذلك كذلك فالواجب توجيه تأويله إلى الأشهر من معانيه. فكأنه- تعالى- يقول: فحسب هؤلاء الذين أشركوا بالله وعبدوا ما عبدوا من دونه حجة عليهم في ضلالهم وكفرهم أنهم يعبدون إناثا. والإناث من كل شيء أخسه. فهم يقرون للخسيس من الأشياء بالعبودية على علم منهم بخساسته ويمتنعون من إخلاص العبودية للذي ملك كل شيء وبيده الخلق والأمر «١».
وقوله وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً بيان لما دفعهم إلى الوقوع في ذلك الضلال الذي انغمسوا فيه.
ومريدا. أى عاتيا متمردا بالغا الغاية في الشرور والفساد.
قال الراغب: والمارد والمريد من شياطين الجن والإنس المتعرى من الخيرات. من قولهم شجر أمرد إذا تعرى من الورق. ومنه قيل رملة مرداء أى: لم تنبت شيئا. ومنه الأمرد لتجرده عن الشعر «٢».
فأصل مادة مرد للملاسة والتجرد. ومنه قوله- تعالى-رْحٌ مُمَرَّدٌ
أى أملس. ووصف الشيطان بالتمرد لتجرده للشر. وعدم علوق شيء من الخير به. أو لظهور شره ظهور عيدان الشجرة المرداء.
والمعنى: إن هؤلاء المشركين ما يعبدون من دون الله إلا أصناما سموها بأسماء الإناث، وما يطيعون في عبادتها إلا شيطانا عاتيا متجردا من كل خير، ومتعريا من كل فضيلة. فهذا الشيطان الشرير دعاهم لعبادة غير الله فانقادوا له انقيادا تاما. وخضعوا له خضوعا لا مكان معه لتعقل أو تدبر.
وقوله مَرِيداً صفة لشيطان. وقوله لَعَنَهُ اللَّهُ صفة ثانية. أى: طرده من رحمته طردا مقترنا بسخط وغضب.
ثم حكى- سبحانه- أن الشيطان قد أقسم بأنه لن يكف عن إبعاد بنى آدم عن طريق الحق
(١) تفسير ابن جرير ج ٥ ص ٣٨٠. بتصرف وتلخيص.
(٢) مفردات القرآن للراغب الأصفهاني ص ٤٦٦.
314
فقال: وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً:
أى: أن الشيطان قال مؤكدا ومقسما لأتخذن من عبادك الذين هم من ذرية آدم، نصيبا مفروضا. أى: لأجعلن لي منهم مقدارا معينا قليلا كان أو كثيرا، وهم الذين سأصرفهم عن الطريق الحق، وسأجعلهم خاضعين لوسوستى ومنقادين لأمري. وقوله لَأَتَّخِذَنَّ من الاتخاذ وهو أخذ الشيء على جهة الاختصاص. وقوله مَفْرُوضاً من الفرض بمعنى القطع. وأطلق هنا على العدد المعين من الناس لاقتطاعه عن سواه من صالحي المؤمنين. فكل من أطاع الشيطان من بنى آدم فهو نصيبه المقطوع منهم له.
وجملة وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً معطوفة على الجملة المتقدمة عليها. أى:
أن هؤلاء المشركين ما يطيعون في عبادتهم لغير الله إلا شيطانا مريدا جامعا بين لعنة الله- تعالى- له، وبين هذا القول الشنيع الصادر منه عند اللعن.
أما الأمر الثاني والثالث اللذان توعد الشيطان بهما بنى آدم فقد حكاهما- سبحانه- في قوله وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ أى: ولأضلنهم عن طريق الحق فأجعلهم يسيرون في طريق الباطل إلى نهايته، ولأمنينهم الأمانى الفارغة. بأن أجعلهم يجرون وراء الأحلام الكاذبة، والأوهام الفاسدة. والأطماع التي تسيطر على نفوسهم وعقولهم، وبذلك يكونون من جندي، ويخضعون لأمري.
أما الأمر الرابع الذي توعد الشيطان به بنى آدم فقد حكاه- سبحانه- في قوله وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ.
قال الراغب: البتك يقارب البت لكن البتك يستعمل في قطع الأعضاء والشعر. يقال بتك شعره وأذنه- أى قطعها أو شقها- ومنه سيف باتك أى قاطع للأعضاء. وأما البت فيقال في قطع الحبل «١».
وكانوا في الجاهلية إذا ولدت الناقة خمسة أبطن وجاء الخامس ذكرا قطعوا أذنها أو شقوها شقا واسعا علامة على أنهم حرموا على أنفسهم الانتفاع بها وجعلوها للطواغيت وسموها بحيرة أى المشوقة الأذن.
والمراد: أنه يأمرهم بعبادة غير الله وبالأمانى الباطلة. وبتقطيع آذان الأنعام تقربا للطواغيت والأوثان فيسارعون إلى إجابته، وينقادون لوسوسته.
(١) المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني ص ٢٦.
315
أما الأمر الخامس الذي توعد الشيطان به بنى آدم فقد حكاه- سبحانه- في قوله وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ.
قال ابن كثير: أى دين الله. وهذا كقوله: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ على قول من جعل ذلك أمرا أى: لا تبدلوا فطرة الله، ودعوا الناس على فطرتهم. كما ثبت في الصحيحين عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه. كما تلد البهيمة بهيمة جمعاء. هل تجدون بها من جدعاء؟» وفي صحيح مسلم عن عياض بن حماد قال: قال رسول الله ﷺ قال الله- تعالى-: «إنى خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم» «١».
وقال بعضهم: المراد بتغيير خلق الله تغيير الصور التي خلق الله عليها مخلوقاته، كفقأ عين فحل الإبل في بعض الأحوال، وقطع الآذان، والوشم، وما يشبه ذلك مما كانوا يفعلونه في جاهليتهم اتباعا للشيطان.
وقد رجح ابن جرير أن المراد بتغيير خلق الله: تغيير دين الله فقال ما ملخصه: «وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك قول من قال: معناه: ولآمرنهم فليغيرن خلق الله، قال: دين الله. وذلك لدلالة الآية الأخرى على أن ذلك معناه وهي قوله: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ، ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ. وإذا كان ذلك معناه، دخل في ذلك فعل كل ما نهى الله عنه من خصاء ما لا يجوز خصاؤه، ووشم ما نهى عن وشمة، وغير ذلك من المعاصي «٢».
فأنت ترى أن الله- تعالى- قد حكى للناس ما قاله الشيطان بلسان حاله أو مقاله حتى يحذروه ويتخذوه عدوا لهم، لينالوا رضا الله ومثوبته.
وقد أكد- سبحانه- هذا المعنى بقوله: وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً.
أى: ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله، بأن يتبع الشيطان ويواليه ويسير خلف
(١) تفسير ابن جرير ج ٥ ص ٢٨٥. [.....]
(٢) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ٢٨٥.
316
وسوسته، ويترك طريق الحق والهدى، من يفعل ذلك يكن بفعله هذا قد خسر خسرانا واضحا بينا، لأن الشيطان لا يسوق الإنسان إلا إلى ما يهلكه ويخزيه في الدنيا والآخرة، وسيقول لأتباعه يوم ينزل بهم العقاب في الآخرة إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ.
وقوله- تعالى- يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً تأكيد للتحذير السابق من اتباع الشيطان.
أى: يعد الشيطان أولياءه بالوعود الباطلة، ويمنيهم بالأمانى الكاذبة، لكي يستمروا على طاعته، والحال أن الشيطان ما يعدهم إلا بالأمور الخادعة التي ظاهرها يغرى وباطنها يردى.
قال القرطبي: الغرور ما رأيت له ظاهرا تحبه وفيه باطن مكروه والشيطان غرور، لأنه يحمل على محاب النفس ووراء ذلك ما يسوء.
وقوله غُرُوراً مفعول ثان للوعد، أو مفعول لأجله. أو نعت لمصدر محذوف أى وعدا ذا غرور.
وقوله أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً بيان لسوء مصير الذين انقادوا للشيطان واتبعوا خطواته.
والمحيص: المهرب والملجأ. وهو اسم مكان أو مصدر ميمى يقال حاص عنه يحيص حيصا وحيوصا ومحيصا أى: عدل وحاد.
أى: أولئك الذين اتبعوا خطوات الشيطان وساروا في ركابه، مستقرهم جميعا جهنم، ولا يجدون ملجأ دونها يلتجئون إليه، أو مهربا يهربون منه لينجوا من عذابها، وإنما يبقون فيها دون أن يتمكنوا من الخروج منها.
وبهذا نرى أن هذه الآيات الكريمة قد حذرت أشد التحذير من الإشراك بالله- تعالى- ومن اتباع وساوس الشيطان وخداعه ووعوده الباطلة، وأمانيه الخادعة، وهددت كل من يهجر طريق الرشد. ويسلك طريق الغي بالعذاب الشديد الذي لا مفر منه ولا مهرب.
ثم عقب- سبحانه- ذلك ببيان حسن عاقبة المؤمنين، الذين آمنوا بالله إيمانا حقا، وابتعدوا عن كل مالا يرضيه فقال- سبحانه-:
317

[سورة النساء (٤) : الآيات ١٢٢ الى ١٢٦]

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً (١٢٢) لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٢٣) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (١٢٤) وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (١٢٥) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (١٢٦)
وقوله- تعالى- وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ. معطوف على قوله- تعالى- قبل ذلك، أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جريا على عادة القرآن في تعقيب الإنذار بالبشارة، والوعيد بالوعد.
أى: والذين آمنوا بالله إيمانا حقا، وقدموا في حياتهم الأعمال الصالحات «سندخلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار» أى من تحت غرفها ومساكنها الأنهار «خالدين فيها أبدا» أى: مقيمين فيها إقامة أبدية «وعد الله حقا» أى: واقعا لا محالة ما وعد الله به عباده الصالحين من نعم بخلاف ما وعد الشيطان به أتباعه فإنه وعد كاذب باطل.
وقوله وَعْدَ اللَّهِ منصوب على المصدر المؤكد لمضمون جملة سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لأنها بمعناه فكأنه مؤكد لنفسه وقوله حَقًّا منصوب بفعل محذوف أى: حق ذلك حقا.
318
والاستفهام في قوله وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا للنفي. والقيل مصدر كالقول أى: هذا ما وعد الله به عباده المؤمنين، وما وعد الله به عباده فهو متحقق الوقوع لا محالة، لأنه لا أحد أصدق من الله قولا. فالجملة الكريمة تذييل قصد به تأكيد ما سبقه من وعد الله لعباده المؤمنين بالجنة.
وقوله قِيلًا منصوب على أنه تمييز نسبة من قوله وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ ثم بين- سبحانه- أن الوصول إلى رضوانه لا يكون بالأمانى والأوهام وإنما يكون بالإيمان والعمل الصالح فقال: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ، مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ. وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً.
والأمانى: جمع أمنية. وهي ما يتمناه الإنسان ويرغب فيه ويشتهيه من أشياء متنوعة.
كحصوله على الخير الوفير في الدنيا، وعلى الجنة في الآخرة. وهي مأخوذة من التمني.
وقد روى المفسرون في سبب نزول هذه الآية روايات منها قول قتادة: ذكر لنا أن المسلمين وأهل الكتاب افتخروا. فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم، وكتابنا قبل كتابكم فنحن أولى منكم. وقال المسلمون: نحن أولى بالله منكم، ونبينا خاتم النبيين. وكتابنا يقضى على الكتب التي كانت قبله. فأنزل الله: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ
. الآية.
وقال مجاهد: قالت العرب لن نبعث ولن نعذب. وقالت اليهود والنصارى لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى. فأنزل الله- تعالى- لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ. الآية «١».
والضمير في قوله لَيْسَ يعود إلى ما تقدم ذكره من الوعد المتقدم وهو نيل الثواب ودخول الجنة.
والخطاب لجميع الفرق التي حدث بينها تنازع في شأن الدين الحق، وفي شأن ما يترتب على ذلك من ثواب.
والمعنى: ليس ما وعد الله به من الثواب أو إدخال الجنة، أو ليس ما تحاورتم فيه حاصلا بمجرد أمانيكم- أيها المسلمون- أو أمانى أهل الكتاب أو غيرهم، وإنما ما تمنيتموه جميعا يحصل بالإيمان الصادق، وبالعمل الصالح، وبالسعي والجد في طاعة الله، فقد اقتضت سنة الله- تعالى- أن من يعمل خيرا يجد خيرا، ومَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ أى: من يرتكب معصية مؤمنا كان أو كافرا يجازه الله بها عاجلا أو آجلا إلا إذا تاب، أو تفضل الله عليه بالمغفرة إذا كان مؤمنا.
(١) تفسير ابن جرير ج ٥ ص ٣٨٨.
319
وقد سار ابن كثير في تفسيره على أن الخطاب لجميع الطوائف فقال: «والمعنى في هذه الآية أن الدين ليس بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال. وليس كل من ادعى شيئا حصل له بمجرد دعواه، ولا كل من قال إنه على الحق سمع قوله بمجرد ذلك حتى يكون له من الله برهان ولهذا قال: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ.
أى ليس لكم ولا لهم النجاة بمجرد التمني. بل العبرة بطاعة الله- سبحانه- واتباع ما شرعه على ألسنة رسله ولهذا قال بعده مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ. كقوله: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ «١»
.
ومنهم من يرى أن الخطاب في قوله لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ للمسلمين.
وقد أشار إلى ذلك صاحب الكشاف بقوله: في لَيْسَ ضمير وعد الله أى: ليس ينال ما وعد الله من الثواب بِأَمانِيِّكُمْ وَلا بأمانى أهل الكتاب. والخطاب للمسلمين، لأنه لا يتمنى وعد الله إلا من آمن به. وكذلك ذكر أهل الكتاب معهم لمشاركتهم لهم في الإيمان بوعد الله «٢».
ومنهم من يرى أن الخطاب للمشركين. وقد رجح ذلك ابن جرير فقال ما ملخصه: وأولى الأقوال بالصواب في ذلك ما قاله مجاهد من أنه عنى بقوله لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ. مشركي قريش.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب. لأن المسلمين لم يجر لأمانيهم ذكر فيما مضى من الآي قبل قوله لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وإنما جرى ذكر أمانى نصيب الشيطان المفروض في قوله قبل ذلك.
وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ وقوله يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ فإلحاق معنى قوله- تعالى- لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ بما ذكره قبل أحق وأولى من ادعاء تأويل فيه لا دالة عليه من ظاهر التنزيل، ولا من أثر الرسول ﷺ «٣».
ومع وجاهة هذا الرأى الذي سار عليه ابن جرير، إلا أنا نؤثر عليه ما ذهب إليه ابن كثير من أن الآية الكريمة تخاطب الناس جميعا سواء أكانوا مؤمنين أم مشركين أم من أهل الكتاب. لأن الآية الكريمة تضع لهم جميعا قاعدة عامة وهي أن الوصول إلى ثواب الله ورضاه لا ينال بالأمانى والأحلام وإنما ينال بالإيمان والعمل الصالح.
وقوله مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ جملة مكونة من شرط وجزاء. والمراد بالسوء ما يشمل الكفر والمعاصي. وقيل: المراد بالسوء هنا الكفر فقط.
(١) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٥٥٧.
(٢، ٣) تفسير ابن جرير ج ٥ ص ٢٩١.
320
قال الآلوسى قوله- تعالى-: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ أى: عاجلا أو آجلا. فقد أخرج الترمذي وغيره عن أبى بكر الصديق قال: كنت عند النبي ﷺ فنزلت هذه الآية. فقال رسول الله: يا أبا بكر ألا أقرئك آية نزلت على؟ فقلت: بلى يا رسول الله. فأقرأنيها فلا أعلم إلا أنى وجدت انفصاما في ظهري.. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم. مالك يا أبا بكر؟ قلت بأبى أنت وأمى يا رسول الله وأينا لم يعمل السوء. وإنا لمجزيون بكل سوء عملناه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما أنت وأصحابك يا أبا بكر المؤمنون فتجزون بذلك في الدنيا حتى تلقوا الله- تعالى- ليس عليكم ذنوب. وأما الآخرون فيجمع لهم ذلك حتى يجزون يوم القيامة.
وأخرج مسلم وغيره عن أبى هريرة قال: لما نزلت هذه الآية شق ذلك على المسلمين وبلغت منهم ما شاء الله- تعالى- فشكوا ذلك إلى رسول الله ﷺ فقال: سددوا وقاربوا فإن كل ما أصاب المسلم كفارة حتى الشوكة يشاكها والنكبة ينكبها.
قال الآلوسى: والأحاديث بهذا المعنى أكثر من أن تحصى. ولهذا أجمع عامة العلماء على أن الأمراض والأسقام ومصائب الدنيا وهمومها- وإن قلت مشقتها- يكفر الله- تعالى- بها الخطيئات، والأكثرون على أنها- أيضا ترفع بها الدرجات، وهو الصحيح المعول عليه. فقد صح في غير ما طريق «ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتبت له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة» «١».
وقوله- تعالى- وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً تذييل قصد به تأكيد ما قبله من أن ثواب الله لا ينال إلا بالإيمان والعمل الصالح، وأن عقابه سيحل بمن يعمل السوء.
أى: أن من يعمل السوء سيجازى به، ولا يجد هذا المرتكب للسوء أحدا سوى الله- سبحانه- يلي أمره ويحامى عنه، ولا نصيرا ينصره ويحاول إنجاءه من عقاب الله- تعالى- ثم بين- سبحانه- حسن عاقبة المؤمنين فقال: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً.
أى: ومن يعمل من الأعمال الصالحات سواء أكان العامل ذكرا أم أنثى ما دام متحليا بصفة الإيمان، فأولئك العاملون بالأعمال الصالحة يدخلون الجنة جزاء عملهم ولا ينقصون شيئا من ثواب أعمالهم، ولو كان هذا الشيء نقيرا وهو النقطة التي تكون في ظهر النواة ويضرب بها المثل في القلة والحقارة.
ومَنْ في قوله مِنَ الصَّالِحاتِ للتبعيض أى: بعض الأعمال الصالحات لأن الإنسان
(١) تفسير الآلوسى ج ٥ ص ١٥٢.
321
لا يستطيع أن يعمل جميع الأعمال الصالحة، وإنما كل إنسان يعمل على قدر طاقته وقدرته ولا يكلف نفسا إلا وسعها.
ومَنْ في قوله مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى للبيان. أى بيان أن الأحكام الشرعية وما يترتب عليها من ثواب يشترك فيه الرجال والنساء إلا إذا قام دليل على أن أحد الصنفين مختص بحكم معين لا يشاركه فيه الصنف الآخر.
وفي ذلك إنصاف للمرأة من الظلم الذي كان واقعا عليها قبل شريعة الإسلام العادلة.
والجملة الكريمة في موضع نصب على الحال من ضمير يَعْمَلْ.
وقوله وَهُوَ مُؤْمِنٌ قيد لإخراج غير المؤمن لأن الكافر مهما قدم من أعمال صالحة في الدنيا فإنها لن تنفعه في الآخرة بسبب كفره بالدين الحق.
واسم الإشارة وهو قوله فَأُولئِكَ يعود إلى من في قوله وَمَنْ يَعْمَلْ باعتبار معناها.
وقوله وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً بيان لفضل الله- تعالى- وعد له، وأنه- سبحانه- إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً.
ثم أثنى- سبحانه- على من أخلص له الإيمان والعمل فقال: وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ.
أى: لا أحد أحسن دينا، وأجدر بالقبول عند الله وبجزيل ثوابه ممن أخلص نفسه لله، وجعلها سالمة له بحيث لا تعرف لها ربا ولا معبودا سواه.
وقوله وَهُوَ مُحْسِنٌ أى: وهو مؤد لما أمره الله به ومبتعد عن كل ما نهاه الله عنه، على الوجه اللائق الحسن.
فالاستفهام في قوله وَمَنْ أَحْسَنُ للنفي. والمقصود منه مدح من فعل ذلك على أتم وجه.
وقوله وَهُوَ مُحْسِنٌ جملة في موضع الحال من فاعل أَسْلَمَ.
فالآية الكريمة قد أشارت إلى أن الدين الحق يقتضى أمرين:
أولهما: إخلاص القلب والنية لله- تعالى- بحيث لا يكون عامرا إلا بذكر الله.
والثاني: إتقان العمل الصالح وإجادته حتى يصل إلى مرتبة الإحسان الذي عرفه النبي ﷺ بقوله: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك».
وقوله وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً بيان لما كان عليه إبراهيم- عليه السلام- من عقيدة سليمة، ودين قويم. وهو معطوف على قوله أَسْلَمَ وَجْهَهُ.
322
أى: لا أحد أحسن دينا، وأصوب طريقا ممن أخلص نفسه لله، وأتقن أعماله الصالحة على الوجه الذي يرضاه الله- تعالى- واتبع ملة إبراهيم الذي كان مبتعدا عن كل الملل الزائفة المعوجة ومتجها إلى الدين الحق، والمنهاج المستقيم.
والمراد بملة إبراهيم: شريعته التي كان يدين الله عليها، ومنهاجه الذي يوافق منهاج الإسلام الذي أتى به محمد- عليه الصلاة والسلام.
وحنيفا من الحنف وهو الميل عن الضلال إلى الاستقامة. وضده الجنف يقال: تحنف فلان أى تحرى طريق الاستقامة.
وقوله وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا تذييل جيء به للترغيب في اتباع ملة إبراهيم، وللتنويه بشأنه- عليه السلام- وبشأن من اتبع طريقته.
والخليل في كلام العرب: هو الصاحب الملازم الذي لا يخفى عليه شيء من أمور صاحبه.
مشتق من الخلة وهي صفاء المودة التي توجب الاختصاص بتخلل الأسرار.
قال الآلوسى: والخليل مشتق من الخلة- بضم الخاء- وهي إما من الخلال- بكسر الخاء- فإنها مودة تتخلل النفس وتخالطها مخالطة معنوية. فالخليل من بلغت مودته هذه المرتبة.
وإما من الخلل على معنى أن كلا من الخليلين يصلح خلل الآخر. وإما من الخل- بالفتح- وهو الطريق في الرمل، لأنهما يتوافقان على طريقة. وإما من الخلة- بفتح الخاء- بمعنى الخصلة لأنهما يتوافقان في الخصال والأخلاق. وأطلق الخليل على إبراهيم، لأن محبة الله تعالى، قد تخللت نفسه وخالطتها مخالطة تامة، أو لتخلقه بأخلاق الله تعالى «١».
والمعنى: واتخذ الله إبراهيم حنيفا له من بين خلقه، لأنه- عليه السلام- كان خالص المحبة لخالقه- عز وجل- ومبغضا لكل ما يبغضه الله من الشريك والأعمال السيئة، وغيورا على إعلاء كلمة الله وعلى تمكين دينه في الأرض فوصفه الله- تعالى- بهذا الوصف الجليل، وأسبغ عليه الكثير من ألوان نعمه وفضله.
قال الجمل: وقوله وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا في خَلِيلًا وجهان، فإن عدينا اتخذ لاثنين كان مفعولا ثانيا وإلا كان حالا. وهذه الجملة عطف على الجملة الاستفهامية التي معناها الخبر للتنبيه على شرف المتبوع وأنه جدير بأن يتبع لاصطفاء الله له بالخلة، وفائدة هذه الجملة تأكيد وجوب اتباع ملته، لأن من بلغ من الزلفى عند الله أن اتخذه خليلا جديرا بأن تتبع ملته.
وأظهر اسم إبراهيم في مقام الإضمار لتفخيم شأنه، والتنصيص على أنه متفق على مدحه «٢».
(١) تفسير الآلوسى ج ٥ ص ١١٥
(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ١ ص ١٤٨
323
ثم ختم- سبحانه- هذه الآيات ببيان أنه هو المالك لكل شيء، والمهيمن على شئون هذا الكون فقال: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً.
أى: ولله- تعالى- وحده جميع ما في السموات وما في الأرض من موجودات، فهو خالقها ومالكها ولا يخرج عن ملكوته شيء منها. وكان الله- تعالى- بكل شيء محيطا، بحيث لا تخفى عليه خافية من شئون خلقه، وسيجازى الذين أساءوا بما عملوا وسيجازى الذين أحسنوا بالحسنى.
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد بشرت المؤمنين بحسن الثواب، وبينت أن ثواب الله لا ينال بالأمانى وإنما ينال بالإيمان والعمل الصالح، وأن الدين الحق هو الدين الذي يدعو الإنسان إلى إخلاص نفسه لله، وإلى إحسان العمل في طاعته، وإلى اتباع ما كان عليه إبراهيم من منهاج سليم، وخلق قويم. وأنه- سبحانه هو المتصرف في شئون هذا الكون، وسيجازى كل إنسان بما يستحقه من خير أو شر.
ثم ساق- سبحانه- بعد ذلك جملة من الأحكام التي يتعلق أكثرها بالنساء فقال- تعالى-:
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٢٧ الى ١٣٠]
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (١٢٧) وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٢٨) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٢٩) وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً (١٣٠)
324
قال الإمام الرازي في بيان صلة هذه الآيات بما قبلها: اعلم أن عادة الله- تعالى- في ترتيب هذا الكتاب الكريم وقع على أحسن الوجوه. وهو أن يذكر شيئا من الأحكام ثم يذكر عقيبه آيات كثيرة في الوعد والوعيد والترغيب والترهيب، ويخلط بها آيات دالة على كبرياء الله وجلال قدرته. ثم يعود مرة أخرى إلى بيان الأحكام وهذا أحسن أنواع الترتيب وأقربها إلى التأثير في القلوب، لأن التكاليف بالأعمال الشاقة لا يقع في موقع القبول إلا إذا كان مقرونا بالوعد والوعيد. والوعد والوعيد لا يؤثر في القلب إلا عند القطع بغاية كمال من صدر عنه الوعد والوعيد. فظهر أن هذا الترتيب أحسن الترتيبات اللائقه بالدعوة إلى الحق.
إذا عرفت هذا فنقول: إنه- سبحانه- ذكر في أول هذه السورة أنواعا كثيرة من الشرائع والتكاليف. ثم أتبعها بشرح أحوال الكافرين والمنافقين واستقصى في ذلك. ثم ختم تلك الآيات الدالة على عظمة جلال الله وكمال كبريائه. ثم عاد بعد ذلك إلى بيان الأحكام فقال:
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ.. إلخ الآية «١».
وقوله وَيَسْتَفْتُونَكَ من الاستفتاء بمعنى طلب الفتيا أو الفتوى. يقال استفتيت العالم في مسألة كذا. أى سألته أن يبين حكمها. فالإفتاء إظهار المشكل من الأحكام وتبيينه.
فمعنى وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ: ويسألك أصحابك يا محمد أن تفتيهم في أمر النساء. أى يطلبون منك تبيين المشكل من الأحكام التي تتعلق بما يجب للنساء من حقوق، وبما يكون عليهن من واجبات.
والذي حمل الصحابة على هذا الطلب أنهم كانوا في جاهليتهم يعاملون النساء معاملة سيئة، ويظلمونهن ظلما شديدا، ثم وجدوا أن الإسلام الذي يدينون به قد أكرم المرأة وأنصفها بطريقة
(١) تفسير الفخر الرازي ج ١١ ص ٦١
325
لم يألفوها من قبل، فتعددت أسئلتهم عن الأحكام التي تتعلق بالنساء حتى ينفذوا نحوهن ما يطلبه الإسلام منهم من حيث معاشرتهن وولايتهن وميراثهن وغير ذلك من الأحكام.
قال القرطبي: نزلت- هذه الآية- بسبب سؤال قوم من الصحابة عن أمر النساء وأحكامهن في الميراث وغير ذلك. فأمر الله- تعالى- نبيه أن يقول لهم: الله يفتيكم فيهن أى:
يبين لكم حكم ما سألتم عنه، وهذه الآية رجوع إلى ما افتتحت به السورة من أمر النساء.
وكانت قد بقيت لهم أحكام لم يعرفوها فسألوا فقيل لهم: إن الله يفتيكم فيهن.. «١».
فسؤال الصحابة ليس عن ذوات النساء وإنما عن أحكام تتعلق بهن.
أخرج ابن جرير وغيره عن سعيد بن جبير قال: كان لا يرث إلا الرجل الذي قد بلغ أن يقوم في المال ويعمل فيه، ولا يرث الصغير ولا المرأة شيئا فلما نزلت آية المواريث في سورة النساء شق ذلك على الناس وقالوا: أيرث الصغير الذي لا يقوم في المال، والمرأة التي هي كذلك كما يرث الرجل الذي يعمل في المال؟ فرجوا أن يأتى في ذلك حدث من السماء فانتظروا:
فلما رأوا أنه لا يأتى حدث قالوا: لئن تم هذا إنه لواجب ما عنه بد. ثم قالوا: سلوا رسول الله ﷺ فسألوه. فأنزل الله وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ.. الآية «٢».
وقوله قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وعد من الله- تعالى- بالإجابة عما يسألون عنه. وهو لون من تبشير السائل المتحير بأنه قد وجد ضالته حتى يطمئن قلبه، ويهدأ باله. وذلك مثل قولهم- ولله المثل الأعلى- لمن سأل سؤالا لمن يحسن الإجابة عنه: على الخبير وقعت.
أى: قل يا محمد لهؤلاء السائلين عن بعض الأحكام المتعلقة بالنساء: الله- تعالى- يفتيكم في شأنهن، ويبين لكم بأجلى بيان وأحكمه ما تجهلون من أحكامهن. ويقضى بينكم وبينهن بالعدل الذي لا يحوم حوله باطل.
وفي تقديم لفظ الجلالة تنويه بشأن هذه الفتيا، وإشعار بوجوب التزام ما تتضمنه من أحكام لأنها صادرة من العليم الخبير.
وقوله وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ للنحاة فيه مذاهب شتى، لعل أولاها بالقبول أن تكون ما اسم موصول مبتدأ والخبر محذوف والتقدير يسألونك يا محمد عن بعض أحكام النساء فقل لهم: الله يفتيكم في شأنهن، والذي يتلى عليكم في الكتاب كذلك أى: يفتيكم في شأنهن أيضا. وذلك المتلو في الكتاب الذي بين بعض الأحكام التي تتعلق بالنساء منه قوله- تعالى فيما
(١) تفسير القرطبي ج ٥ ص ٤٠٢
(٢) تفسير ابن جرير ج ٥ ص ٣٩٩- بتصرف يسير.
326
تقدم من هذه السورة: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ.
قال الفخر الرازي: وحاصل الكلام أنهم كانوا قد سألوا عن أحوال كثيرة من أحوال النساء، فما كان منها غير مبين الحكم ذكر أن الله يفتيهم فيها. وما كان مبين الحكم في الآيات المتقدمة ذكر أن تلك الآيات المتلوة تفتيهم فيها، وجعل دلالة الكتاب على هذا الحكم إفتاء من الكتاب- على سبيل المجاز- ألا ترى أنه يقال في المجاز المشهور: إن كتاب الله بين لنا هذا الحكم. وكما جاز أيضا أن يقال: إن كتاب الله أفتى بكذا.
وقوله فِي يَتامَى النِّساءِ صلة ليتلى. أى: يتلى عليكم في شأنهن «١».
وإضافة اليتامى إلى النساء من إضافة الصفة إلى الموصوف أى النساء اليتامى وجعلها بعضهم هنا على معنى من لأنها من إضافة الشيء إلى جنسه أى: في اليتامى من النساء.
وقوله اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ صفة لليتامى.
والمراد بما كتب لهن: ما فرض لهن من ميراث وصداق وغير ذلك من حقوق شرعها الله- تعالى- لهن.
قوله: وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ معطوف على صلة اللاتي.
أى: لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن.
وقوله: أن تنكحوهن في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف وهو إما (في) وإما (عن).
وعلى أن حرف الجر المحذوف (في) يكون المعنى: لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون في نكاحهن لأنفسكم إن كن جميلات أو غنيات أو غير ذلك مما يرغبكم في الزواج بهن مع عدم إعطائهن حقوقهن كاملة.
وعلى أن حرف الجر المحذوف (عن) يكون المعنى: لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون عن نكاحهن. أى لا أنتم تتزوجونهن ولا تتركونهن يتزوجن بغيركم حتى تبقى أموالهن تحت أيديكم.
قال ابن كثير: روى البخاري عن عائشة في قوله- تعالى- وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ.. إلى قوله وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ.. أنها قالت: هو الرجل تكون عنده اليتيمة هو وليها ووارثها. فأشركته في ماله حتى في العذق. فيرغب أن ينكحها ويكره أن يزوجها رجلا فيشركه في ماله بما شركته فيعضلها. فنزلت هذه الآية.
(١) تفسير الفخر الرازي ج ١١ ص ٦٢
327
وعنها- أيضا أنها قالت: وقول الله- تعالى- وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ رغبة أحدكم عن يتيمته التي في حجره حين تكون قليلة المال والجمال. فنهوا أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن- أى إذا كن قليلات المال والجمال.
ثم قال ابن كثير: والمقصود أن الرجل إذا كان في حجره يتيمة يحل له تزوجها، فتارة يرغب في أن يتزوجها فأمره الله أن يمهرها أسوة بمثالها من النساء. وتارة لا يكون له فيها رغبة فنهاه الله- تعالى- عن أن يعضلها عن الأزواج خشية أن يشركوه في ماله الذي بينه وبينها «١».
وحذف حرف الجار هنا لا يعد لبسا، بل يعد من باب الإجمال والإيجاز البليغ، لأن الجملة الكريمة صالحة لتقدير كل من الحرفين السابقين على سبيل البدل، بالاعتبارين السابقين. أى باعتبار الرغبة فيهن أو الرغبة عنهن فكأنه- سبحانه- يقول: وترغبون في نكاح بعضهن في حالات معينة وترغبون عن نكاح بعض آخر منهن في حالات أخرى لأن فعل رغب يتعدى بحرف (في) للشيء المحبوب، وبحرف (عن) للشيء غير المحبوب.
قال الآلوسى: واستدل بعض أصحابنا- أى الأحناف- بالآية على جواز تزويج الصغيرة، لأنه ذكر الرغبة في نكاحها فاقتضى جوازه. والشافعية يقولون: إنه إنما ذكر ما كانت تفعله الجاهلية على طريق الذم فلا دلالة فيها على ذلك، مع أنه لا يلزم من الرغبة في نكاحها فعله في حال الصغر. وهذا الخلاف في غير الأب والجد، وأما هما فيجوز لهما تزويج الصغيرة بلا خلاف «٢».
وقوله: وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ معطوف على يتامى النساء، وقد كانوا في الجاهلية لا يورثونهم كما لا يورثون النساء، فشرع الله لهم الميراث كما هو مبين في آيات المواريث.
وقوله وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ في محل جر عطفا على ما قبله. أى: وما يتلى عليكم في يتامى النساء وفي المستضعفين من الولدان وفي أن تقوموا لليتامى بالقسط فيه الكفاية لحملكم على سلوك الطريق القويم مع هؤلاء الضعاف.
ومما ذكره الله- تعالى- في شأن اليتامى قوله في مطلع هذه السورة: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ.
فيكون معنى الآية إجمالا: يسألك بعض أصحابك يا محمد أن تفتيهم في بعض الأحكام التي تتعلق بالنساء. قل لهم على سبيل التعليم والإرشاد: الله- تعالى- يفتيكم ويبين لكم بيانا
(١) تفسير ابن كثير- بتلخيص يسير ج ١ ص ٥٦١
(٢) تفسير الآلوسى ج ٥ ص ١٦٠
328
شافيا ما تسألون عنه بشأنهن. ويفتيكم أيضا في شأنهن ما تلاه الله عليكم في قرآنه قبل نزول هذه الآية وما يتلوه عليكم بعدها.
ويفتيكم- أيضا- ما يتلى عليكم في القرآن في شأن اليتامى اللاتي تمنعونهن ما فرض لهن من الميراث وغيره. وترغبون في نكاحهن لما لهن أو لجمالهن بأقل من صداقهن. أو ترغبون عن نكاحهن وتعضلونهن طمعا في أموالهن. وهذا الإفتاء الذي تلاه الله عليكم في قرآنه يمنعكم من أن تفعلوا شيئا من ذلك.
ويفتيكم أيضا ما يتلى عليكم في الكتاب في شأن اليتامى- ذكورا كانوا أو إناثا- بأن يأمركم أن تلتزموا العدل معهم في أموالهم وفي سائر أمورهم.
ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله: وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً أى:
وما تفعلوا من خير يتعلق بهؤلاء المذكورين أو بغيرهم فإن الله- تعالى- كان به عليما علما دقيقا محيطا، وسيجازيكم عليه جزاء يشرح نفوسكم ويصلح بالكم.
فالآية الكريمة قد اشتملت على ألوان من الترغيب بشأن الإحسان إلى النساء وإلى المستضعفين من الولدان. وإلى اليتامى حتى تعيش الأمة عيشة هانئة، يشعر ضعيفها برعاية قويها له. ويشعر قويها برضا ضعيفها عنه.
ثم بين- سبحانه- بعض الأحكام التي تتعلق بالزوجين، وعالج ما يقع بينهما من خلاف ونفرة علاجا حكيما فقال- تعالى- وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ.
والخوف معناه: توقع الإنسان مكروها ينزل به. وهو هنا مستعمل في حقيقته إلا أنه لا يكون إلا بعد ظهور علامات تدل عليه من الرجل. كأن يقول لها: إنك قد كبرت وأريد أن أتزوج بشابة. إلى غير ذلك من الأحوال التي تلمسها الزوجة من زوجها بمقتضى مخالطتها له.
والنشوز مأخوذ من النشز بمعنى الارتفاع ويوصف به الرجل والمرأة. والمراد به هنا ما يكون من الرجل من استعلاء على زوجته. ومجافاة لها بترك مضاجعتها والتقصير في نفقتها وفي حقوقها.
والإعراض عنها من مظاهره: التقليل من محادثتها ومؤانستها وإدخال السرور عليها. وهو أخف من النشوز. «١»
(١) تفسير الآلوسى ج ٥ ص ١٦١ [.....]
329
وقد ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآية روايات منها ما أخرجه الترمذي وحسنه عن ابن عباس قال: خشيت سودة بنت زمعة إحدى زوجات النبي ﷺ أن يطلقها رسول الله ﷺ فقالت: يا رسول الله. لا تطلقني واجعل يومى لعائشة ففعل ونزلت هذه الآية. «١»
وأخرج الشافعى عن سعيد بن المسيب أن ابنة محمد بن مسلمة كانت عند رافع بن خديج فكره منها أمرا فأراد طلاقها فقالت: لا تطلقني واقسم لي ما بدا لك. فاصطلحا على صلح فجرت السنة بذلك ونزل القرآن.
وروى عن عائشة أنها قالت: نزلت في المرأة تكون عند الرجل ويريد الرجل أن يستبدل بها غيرها فتقول له: أمسكنى وتزوج بغيري وأنت في حل من النفقة والقسم.
وقوله: وَإِنِ امْرَأَةٌ فاعل لفعل واجب الإضمار. أى: وإن خافت امرأة خافت.
وقوله: مِنْ بَعْلِها متعلق بخافت، وقوله: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما جواب الشرط.
والمعنى: وإن خافت امرأة من زوجها (نشوزا) أى تجافيا عنها، وترفعا عن صحبتها أَوْ إِعْراضاً أى: انصرافا عن محادثتها ومؤانستها على خلاف ما عهدته منه قبل ذلك، ففي هذه الأحوال فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أى: لا حرج ولا إثم على الزوجة وزوجها في أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً يتفقان عليه فيما بينهما رعاية لرابطة الزوجية وإبقاء على دوامها، وذلك بأن تترك المرأة بعض حقوقها حتى تسترضى زوجها وتعمل على إزالة ما في نفسه من استعلاء وانصراف عنها.
وقوله صُلْحاً مفعول مطلق مؤكد لعامله. أو مفعول به على تأويل يصلحا بيوقعا صلحا.
وبَيْنَهُما حال من صُلْحاً لأنه كان نعتا له ونعت النكرة إذا تقدم عليها أعرب حالا، وفيه إشارة إلى أن الأولى لهما أن لا يطلعا الناس على ذلك. بل يكون ما يتفقان عليه سرا بينهما.
وقد عبر- سبحانه- عن طلب الصلح بقوله فَلا جُناحَ عَلَيْهِما ترفقا في الإيجاب، ونفيا لما يتوهم من أن تنازل أحدهما للآخر عن بعض حقه يؤدى إلى الإثم، لأن الصلح بينهما يقتضى أن يتسامح أحد الزوجين في جزء من حقه ليظفر بخير أكثر مما تسامح فيه. فإذا تركت المرأة بعض حقها لتدوم عشرتها مع زوجها بالمعروف فذلك لا إثم فيه بل إن فيه الخير.
وأكد- سبحانه- هذا الصلح بقوله صُلْحاً للإشارة إلى وجوب أن يكون الصلح بينهما حقيقيا لا شكليا، وأن يكون بحيث تتلاقى القلوب، وتصفو النفوس. وتشيع بينهما المودة والرحمة، ويرضى كل واحد منهما بما قسم الله له.
(١) تفسير الفخر الرازي ج ١١ ص ٦٥
330
وقوله وَالصُّلْحُ خَيْرٌ جملة معترضة من مبتدأ وخبر لتأكيد الصلح الذي حض الله عليه قبل ذلك.
أى: والصلح بين الزوجين خير من الفرقة وسوء العشرة، اللهم إلا إذا استحال الصلح والوفاق بينهما فإنه في هذه الحالة تكون الفرقة بينهما خيرا. وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ.
قال ابن كثير ما ملخصه: وقوله وَالصُّلْحُ خَيْرٌ. الظاهر من الآية أن صلحهما على ترك بعض حقها للزوج وقبول الزوج ذلك خير من المفارقة بالكلية كما أمسك النبي ﷺ سودة على أن تركت يومها لعائشة ولم يفارقها بل تركها من جملة نسائه، وفعله هذا للتأسى به أمته في مشروعية ذلك وجوازه فهو أفضل في حقه ﷺ ولما كان الوفاق أحب إلى الله من الفراق قال:
وَالصُّلْحُ خَيْرٌ، بل الطلاق بغيض إليه- سبحانه- ولهذا جاء الحديث الذي رواه أبو داود وابن ماجة عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله ﷺ «أبغض الحلال إلى الله الطلاق» «١».
وقوله- تعالى- وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ جملة أخرى معترضة جيء بها لبيان ما جبل عليه الإنسان من طباع، وللحض على الصلح حتى ولو خالف ما طبعت عليه النفس من سجايا.
والفعل حضر يتعدى لواحد فدخلت عليه الهمزة فجعلته يتعدى لاثنين كما هنا. إذ المفعول الأول نائب الفاعل وهو الأنفس والمفعول الثاني كلمة الشح.
والشح: البخل مع الحرص، والمراد: وأحضر الله الأنفس الشح. أى جبل الله النفوس على الشح بما تملكه، فالمرأة لا تكاد تتسامح أو تتنازل عن شيء من حقها، والرجل كذلك لا يكاد يتنازل عن شيء من حقوقه، لأن حرص الإنسان على حقه طبيعة فيه. فعلى الزوجين أن يلاحظا ذلك وأن يخالفا ميولهما وطبعهما من أجل الإبقاء على الحياة الزوجية بصفاء ومودة.
فالجملة الكريمة ترشد الإنسان إلى داء من أدوائه وتأمره بمعالجته حتى ولو أدى ذلك إلى مخالفة ما جبلت عليه نفسه.
ويرى ابن جرير أن المراد بالأنفس هنا أنفس النساء خاصة فقد قال ما ملخصه: وأولى القولين في ذلك بالصواب: قول من قال: عنى بذلك. أحضرت أنفس النساء الشح بانصبائهن من أزواجهن في الأيام والنفقة. والشح: الإفراط في الحرص على الشيء. وهو في هذا الموضع: إفراط حرص المرأة على نصيبها من أيامها من زوجها ونفقتها.
(١) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٥٦٣
331
فتأويل الكلام: وأحضرت أنفس النساء أهواءهن من فرط الحرص على حقوقهن من أزواجهن، والشح بذلك على ضرائرهن.
ثم قال. ويشهد لهذا ما روى في سبب نزول الآية من أنها نزلت في أمر رافع بن خديج وزوجته، إذ تزوج عليها شابة، فآثر الشابة عليها، فأبت الكبيرة أن تقر على الأثرة، فطلقها تطليقة وتركها. فلما قارب انقضاء عدتها، خيرها بين الفراق والرجعة والصبر على الأثرة.
فاختارت الرجعة والصبر على الأثرة فراجعها وآثر عليها. فلم تصبر. ففي ذلك دليل واضح على أن قوله- تعالى- وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ إنما عنى به: وأحضرت أنفس النساء الشح بحقوقهن من أزواجهن على ما وصفنا «١».
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بالأمر بخشيته ومراقبته، والسير في طريق الصلح والوفاق فقال: وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً.
أى: وإن تحسنوا- أيها الرجال- في أقوالكم وأفعالكم إلى نسائكم وتتقوا الله فيهن: بأن تتركوا التعالي عليهن والإعراض عنهن وتصبروا على مالا ترضونه منهن، من دمامة أو تقصير في واجباتهن. إن تفعلوا ذلك يرفع الله درجاتكم. ويجزل ثوابكم، لأنه- سبحانه- خبير بكل أحوالكم وأعمالكم، ولن يضيع- سبحانه- أجر من أحسن عملا.
فالجملة الكريمة خطاب للأزواج بطريق الالتفات. لقصد استمالتهم وترغيبهم في حسن معاملة نسائهم، وسلوك طريق الصلح معهن.
هذا، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية الكريمة: أن على الزوجين أن يحسنا العشرة الزوجية كل واحد منهما من جانبه، وأن يصبر كل واحد منهما على ما يكون من صاحبه من هفوات ومخالفات لا تخلو منها طبيعة الحياة الزوجية...
وأن أحد الزوجين إذا تنازل عن بعض حقوقه للآخر بقصد الإبقاء على الحياة الزوجية جاز ذلك، فإذا رغب رجل- مثلا- في طلاق زوجته لسبب من الأسباب وكانت الزوجة تريد البقاء معه، وتنازلت المرأة عن بعض حقوقها في سبيل أن تبقى معه وتراضيا على ذلك عن طيب خاطر، بأن أعطته بعض المال- مثلا- فإن ما أخذه منها لا يعد مالا حراما في مثل هذه الحالة.
أما إذا تظاهر الرجل بالنشوز أو الإعراض لكي ينال شيئا من حقوقها أو تتنازل له عن بعضها، فإن ما يأخذه الرجل منها في مثل هذه الحالة يكون أكلا لحقوق غيره بالباطل، لأنه لم يكن راغبا حقيقة في الطلاق وإنما تصنع النشوز أو الإعراض اجتلابا لمالها، واستدرارا لخيرها. وقد نهى
(١) تفسير ابن جرير ج ٥ ص ٣١٣
332
الله عن كل ذلك بل أمر بترك النشوز، ووعد من يحسن المعاشرة الزوجية ويتقى الله بالأجر الجزيل.
قال القرطبي ما ملخصه: يجوز أن يعطى الزوج على أن تصبر. أو تعطى هي على أن يبقيها في عصمته، أو يقع الصلح بينهما على الصبر والأثرة- أى يؤثر غيرها عليها من غير عطاء فهذا كله مباح. وقد يجوز أن تصالح إحداهن صاحبتها عن يومها بشيء تعطيه إياها فقد غضب الرسول ﷺ مرة على صفية فقالت لعائشة، أصلحى بيني وبين رسول الله ﷺ وقد ذهب لك يومى. قالت عائشة: فجئت إلى رسول الله ﷺ فجلست إلى جانبه. فقال: «إليك عنى فإنه ليس بيومك» فقلت: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. وأخبرته الخبر، فرضي عنها. وفيه أن ترك التسوية بين النساء وتفضيل بعضهن على بعض لا يجوز إلا بإذن المفضولة ورضاها «١».
وقال بعض العلماء ما ملخصه: فإن قيل: إن الله- تعالى- قال في نشوز المرأة: وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ. الآية وقال في نشوز الرجل:
وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً. الآية فجعل لنشوز المرأة عقوبة من زوجها يعظها ويهجرها في المضجع ويضربها ولم يجعل لنشوز الرجل عقوبة من زوجته، بل جعل له ترضية وتلطفا فما معنى ذلك؟
والجواب عن ذلك: أن الله- تعالى- جعل الرجال قوامين على النساء، فالرجل راعى المرأة ورئيسها المهيمن عليها. ومن قضية ذلك ألا يكون للمرءوس معاقبة رئيسه، وإلا انقلب الأمر وضاعت هيمنة الرئيس.
وأن الله فضل الرجال على النساء في العقل والدين. ومن قضية ذلك ألا يكون نشوز من الرجل إلا لسبب قاهر. ولكن المرأة لنقصان عقلها ودينها يكثر منها النشوز لأقل شيء تتوهمه سببا.
وأن نشوز الرجل أمارة من أمارات الكراهة وإرادة الفرقة. وإذا كان الله قد جعل له حق الفرقة ولم يجعل للمرأة عليه سبيلا إذا هو أراد فرقتها فأولى ألا يجعل لها عليه سبيلا إذا بدت منه أمارات هذه الفرقة «٢».
ثم بين- سبحانه- أن تحقيق العدالة الكاملة في الحياة الزوجية غير ممكن فقال- تعالى- وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ.
والخطاب هنا للرجال الذين يتزوجون بأكثر من زوجة.
(١) تفسير القرطبي ج ٥ ص ٤٠٥
(٢) تفسير آيات الأحكام ج ٢ ص ١٤٨ لفضيلة الشيخ محمد على السائس
333
والمعنى: ولن تستطيعوا- أيها الرجال- أن تعدلوا بين زوجاتكم المتعددات عدلا كاملا في المحبة وفي الميل القلبي وفي غير ذلك من الأمور التي تختلف باختلاف تآلف النفوس وتنافرها.
ولو أنكم حرصتم على العدل الكامل في مثل هذه الأمور النفسية لما استطعتم، لأن الميل النفسي لا يملكه الإنسان ولا يستطيع التحكم فيه.
قال ابن كثير: نزلت هذه الآية في عائشة. وكان النبي ﷺ يحبها أكثر من غيرها. وقد روى الترمذي وأبو داود وغيرهما عنها أنها قالت: كان رسول الله ﷺ يقسم بين نسائه فيعدل. ثم يقول: «اللهم هذا قسمي فيما أملك. فلا تلمني فيما تملك ولا أملك» يعنى القلب «١».
وقوله فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ إرشاد من الله- تعالى- للرجال إلى ما يجب عليهم نحو نسائهم المتعددات اللائي ليس في استطاعتهم التسوية بينهن في الميل القلبي.
أى: إذا ثبت أنكم لن تستطيعوا أن تعدلوا بينهن عدلا كاملا من جميع الوجوه ولو حرصتم على هذا العدل أتم الحرص. إذا ثبت ذلك فلا تميلوا كل الميل إلى إحداهن بأن تبالغوا في إرضائها والإقبال عليها حتى تصير الأخرى التي ملتم عنها وهجرتموها كالمعلقة أى كالمرأة التي لا هي بذات زوج فتنال منه حقوقها الزوجية ولا هي بمطلقة فترجو من الله أن يرزقها بالزوج الذي يكرمها. وإنما الواجب عليكم- يا معشر الرجال- أن تجاهدوا أنفسكم حتى تصلوا إلى الحق المستطاع من العدل بين الزوجات.
فقد أخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبى هريرة أن رسول الله ﷺ قال:
«من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما- أى لم يعدل بينهما فيما يمكنه العدل فيه- جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط».
وعن مجاهد قال: «كانوا يسوون بين الضرائر حتى في الطيب يتطيب لهذه كما يتطيب لهذه» «٢».
وقوله كُلَّ الْمَيْلِ نصب لفظ كل على المصدرية لأنها على حسب ما تضاف إليه من مصدر أو ظرف أو غيره.
وقوله فَتَذَرُوها منصوب بإضمار أن في جواب النهى. أو مجزوم عطفا على الفعل قبله.
والجملة الكريمة توبيخ للأزواج الذين لا يعدلون بين نسائهم.
قال القرطبي: وقوله فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ أى: لا هي مطلقة ولا ذات زوج. وهذا تشبيه
(١) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٥٦٤ بتصرف يسير
(٢) تفسير الآلوسى ج ٥ ص ١٦٣
334
بالشيء المعلق من شيء، لأنه لا على الأرض استقر ولا على ما علق عليه انحمل، وهذا مطرد في قولهم في المثل: (ارض من المركب بالتعليق). وفي حديث أم زرع: زوجي العشنق- أى الطويل الممتد القامة- إن أنطق أطلق. وإن أسكت أعلق- أى أهمل وأترك حتى لكأننى بدون زوج- «١».
ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله: وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً.
أى: وإن تصلحوا أعمالكم- أيها الناس- فتعدلوا في قسمتكم بين أزواجكم وتعاشروهن بالمعروف، وتتقوا الله وتراقبوه فيهن، وتتوبوا إلى الله توبة نصوحا مما حدث منكم من ظلم لهن.
إن تفعلوا ذلك يغفر الله لكم ذنوبكم ويتفضل عليكم برحمته وإحسانه.
هذا وقد ادعى بعض الذين لم يفهموا تعاليم الإسلام فهما سليما أن هذه الآية بضمها إلى قوله- تعالى- في مطلع هذه السورة فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً يكون منع تعدد الزوجات جائزا شرعا، لأن الله تعالى- قد بين في الآية التي معنا وهي قوله وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا أن العدل بين الزوجات المتعددات غير مستطاع، وبين في الآية الأخرى وهي قوله فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أن الجمع بين النساء غير جائز إلا عند الوثوق من العدل بينهن، وبما أن العدل بينهن غير مستطاع بنص الآية التي معنا، إذا فالجمع بين النساء غير جائز، وعلى الرجل أن يكتفى بواحدة.
وللرد على هذه الدعوى نقول: إن العدل الذي أخبر الله عنه غير مستطاع، هو العدل الذي يتعلق بالتسوية بين الزوجات في الحب القلبي، والميل النفسي، والتجاوب العاطفى، إذ من المعلوم أن هذه الأمور النفسية لا يستطيع الإنسان أن يتحكم فيها. فأنت- مثلا- تجلس في مجلس فيه أشخاص متعددون لا تعرفهم فتحس بارتياح لبعضهم وبنفور من بعضهم مع أنك لم يسبق لك أن اختلطت بواحد منهم، وما ذلك إلا لأن الميول القلبية يعجز الإنسان عن التحكم فيها.
أما العدل الذي جعله الله شرطا في جواز الجمع بين الزوجات فهو العدل الذي يتعلق بالتسوية فيما يقدر عليه الإنسان ويملكه مثل التسوية بينهن في النفقة والكسوة والسكنى والمبيت.
وغير ذلك من الأمور التي يقدر عليها.
وبهذا نرى أن موضوع الآية التي معنا يتعلق بالعدل النفسي وهو أمر غير مستطاع كما جاء في الحديث الشريف: «اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك».
(١) تفسير الآلوسى ج ٥ ص ٤٠٨
335
وأما موضوع الآية التي في صدر السورة وهي قوله- تعالى- فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً فيتعلق بالعدل الظاهري الذي يقدر عليه الإنسان مثل التسوية في النفقة وغير ذلك مما يقدر عليه الإنسان.
ومع هذا، فالآية التي معنا لم تطالب الرجل بالعدالة المطلقة الكاملة بين زوجاته بأن يسوى بينهن في كل شيء، لأن العدل بهذا المعنى غير مستطاع للمكلف ولو حرص على إقامته وبالغ في ذلك. وإنما الآية الكريمة طالبته بالممكن منه فكأنها تقول: إنكم- أيها الرجال- لن تستطيعوا أن تعدلوا العدل المطلق الكامل بين زوجاتكم في القسم والنفقة والتعهد والنظر والمؤانسة والمحبة وغير ذلك مما لا يكاد يحصر وَلَوْ حَرَصْتُمْ على هذا العدل الكامل أتم الحرص لما استطعتموه، ولذلك لم يكلفكم الله به، إذ التكليف الشرعي إنما يكون بما في الوسع والطاقة، وإذا كان الأمر كذلك فاجتهدوا ما استطعتم في العدل بين زوجاتكم، ولا تميلوا كل الميل إلى واحدة منهن وتهملوا الأخرى إهمالا يجعلها كأنها لا هي ذات زوج ولا هي مطلقة.
فإن العجز عن العدل المطلق الكامل لا يمنع تكليفكم بما دون ذلك من المراتب التي تقدرون عليها قالوا: ما لا يدرك كله لا يترك كله.
وبهذا نرى أن الآيتين الكريمتين تدعوان المسلم إلى العدل بين زوجاته بالقدر الذي يستطيعه بدون تقصير أو جور، وأنهما بانضمام معناهما لا تمنعان تعدد الزوجات كما ادعى المدعون.
وبعد أن رغب- سبحانه- في الصلح بين الزوجين وحض عليه، وأمر الأزواج بالعدل بين الزوجات بالقدر الذي يستطيعونه، عقب ذلك ببيان أن التفرقة بينهما جائزة إذا لم يكن منها بد.
لأن التفرقة مع الإحسان خير من المعاشرة السيئة فقال- تعالى- وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً.
وإن عز الصلح بين الزوجين واختارا الفراق تخوفا من ترك حقوق الله التي أوجبها على كل واحد منهما يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا منهما مِنْ سَعَتِهِ أى يجعل كل واحد منهما مستغنيا عن الآخر وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً أى: وكان الله- تعالى- وما يزال واسعا أى واسع الغنى والرحمة والفضل حَكِيماً في جميع أفعاله وأحكامه.
وبهذا نرى أن هذه الآيات الكريمة قد وضعت أحكم الأسس للحياة الزوجية السليمة، وعالجت أمراضها بالعلاج الشافي الحكيم، فقد أمرت الرجال بأن يؤدوا للنساء حقوقهن، وأن يعاشروهن بالمعروف، وأن على الزوجين إذا ما دب بينهما خلاف أن يعالجاه فيما بينهما بالتصالح والتسامح، وإذا اقتضى الأمر أن يتنازل أحدهما للآخر عن جانب من حقوقه فليفعل من أجل الإبقاء على الحياة الزوجية. وأن الرجل لا يستطيع أن يعدل عدلا مطلقا كاملا بين زوجاته،
336
ولكن هذا لا يمنعه من العدل بينهن بالقدر الذي يستطيعه بدون تقصير أو ميل مع الهوى، فإن الميسور لا يسقط بالمعسور. وأنه إذا استحال الصلح وتنافرت الطباع، وساءت العشرة كان الفراق بينهما أجدى، إذ الفراق مع الإحسان خير من الإمساك مع المعاشرة السيئة التي عز معها الإصلاح والوفاق والتقارب بين القلوب.
وبعد أن بين- سبحانه- ما ينبغي أن تكون عليه العلاقة بين الزوجين ووسائل علاج أدوائها.. بعد كل ذلك بين- سبحانه- أن كل شيء في ملكه وتحت سلطانه، فعلى الناس أن يخشوه ويراقبوه ويشتغلوا بعبادته فقال- تعالى-:
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٣١ الى ١٣٤]
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً (١٣١) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (١٣٢) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (١٣٣) مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً (١٣٤)
قال ابن جرير، قوله وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يعنى بذلك- سبحانه- ولله ملك جميع ما حوته السموات السبع والأرضون السبع من الأشياء كلها. وإنما ذكر- جل ثناؤه ذلك بعقب قوله وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ تنبيها منه لخلقه على موضع الرهبة عند فراق أحدهم زوجه ليفزعوا إليه عند الجزع من الحاجة والفاقة والوحشة بفراق سكنه، وتذكيرا منه له أنه الذي له الأشياء كلها. وأن من كان له ملك جميع الأشياء فغير متعذر عليه أن يغنيه ويغنى كل ذي فاقة وحاجة ويؤنس كل ذي وحشة «١».
(١) تفسير ابن جرير ج ٥ ص ٣١٨.
337
فالجملة الكريمة مستأنفة لبيان مظاهر قدرته ورحمته بعباده. والخطاب في قوله: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ والمراد بالذين أُوتُوا الْكِتابَ: اليهود والنصارى ومن قبلهم من الأمم. والمراد بالكتاب: جنس الكتب الإلهية.
وقوله: وَإِيَّاكُمْ معطوف على الموصول. وقوله مِنْ قَبْلِكُمْ متعلق بأوتوا أو بوصينا وقوله: أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ أن مصدرية في محل جر بتقدير حرف الجر.
والمعنى: ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم من الأمم السابقة وَإِيَّاكُمْ أى:
وصينا كلا منهم ومنكم بتقوى الله. أى بمراقبته وخشيته وتنفيذ أوامره والبعد عن نواهيه.
وقوله: وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ معطوف على وصينا بتقدير قلنا. أى وصيناهم ووصيناكم بتقوى الله، وقلنا لكم ولهم: إن تكفروا فاعلموا أنه- سبحانه- هو مالك الملك والملكوت ولن يضره كفركم ومعاصيكم، كما أنه- سبحانه- لن ينفعه شكركم وتقواكم، وإنما وصاكم وإياهم بما وصى لرحمته بكم لا لحاجته إليكم. كما قال- تعالى- في آية أخرى: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ.
ويرى صاحب الكشاف أن قوله- تعالى- وَإِنْ تَكْفُرُوا عطف على اتقوا، فقد قال:
وقوله: وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ عطف على اتقوا. لأن المعنى:
أمرناهم وأمرناكم بالتقوى، وقلنا لهم ولكم: إن تكفروا فإن لله ما في السموات وما في الأرض. والمعنى: إن لله الخلق كله وهو خالقهم ومالكهم والمنعم عليهم بأصناف النعم كلها، فحقه أن يكون مطاعا في خلقه غير معصى. يتقون عقابه ويرجون ثوابه. ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من الأمم السابقة ووصيناكم أن اتقوا الله. يعنى: أنها وصية قديمة ما زال يوصى الله بها عباده، لستم بها مخصوصين: لأنهم بالتقوى يسعدون عنده، وبها ينالون النجاة في العاقبة. وقلنا لهم ولكم: وإن تكفروا فإن لله في سماواته وأرضه من الملائكة والثقلين من يوحده ويعبده ويتقيه «١».
وجواب الشرط في قوله «وإن تكفروا محذوف، والتقدير: إن تكفرا بما وصاكم به فلن يضره كفركم فإنه- سبحانه- له ما في السموات وما في الأرض ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله:
وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً أى: وكان الله وما زال غنيا عن خلقه وعن عبادتهم، مستحقا لأن يحمده الحامدون لكثرة نعمه عليهم فالجملة الكريمة تذييل مقرر لما قبله.
ثم أكد- سبحانه- هيمنته على هذا الكون وملكيته له فقال: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا.
(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٨٥٤.
338
أى: ولله- تعالى- وحده ما في السموات وما في الأرض ملكا وتصرفا وإيجادا وإعداما.
وإحياء وإماتة. وكفى بالله- تعالى- وكيلا في تدبير أمور خلقه، وحفظه لمصالحهم.
والوكيل هو القيم والكفيل بالأمر الذي يوكل إليه. وقد ذكر- سبحانه- في هاتين الآيتين ملكيته لما في السموات وما في الأرض ثلاث مرات، تأكيدا لعظم سلطانه وقدرته وسعة غناه ورحمته، حتى ترسخ في نفوس الناس تقواه وخشيته.
قال القرطبي: فإن قال قائل: ما فائدة هذا التكرار؟ فعنه جوابان:
أحدهما: أنه كرر تأكيدا ليتنبه العباد وينظروا ما في ملكوته وأنه غنى عن العالمين.
الجواب الثاني: أنه كرر لفوائد: فأخبر في الأول أن الله- تعالى- يغنى كلا من سعته لأن له ما في السموات وما في الأرض فلا تنفد خزائنه. ثم قال: أوصيناكم وأهل الكتاب بالتقوى وإن تكفروا فإنه غنى عنكم لأن له ما في السموات والأرض. ثم أعلم في الثالث بحفظ خلقه وتدبيره إياهم بقوله وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا، لأن له ما في السموات وما في الأرض... «١».
وقوله- تعالى- إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً تقرير لما سبق بيانه من عظيم سلطانه وغناه وقدرته.
أى: إن يشأ الله يفنكم ويهلككم أيها الناس- ويأت مكانكم بقوم آخرين، وكان الله وما زال على إفنائكم وإيجاد غيركم بليغ القدرة، لأنه- سبحانه- لا يعجزه شيء. لكنه- سبحانه- لم يشأ ذلك لا لعجز منه. ولكن لأن حكمته اقتضت بقاءكم، ليبلوكم أيكم أحسن عملا، وليجازى كل إنسان على حسب عمله.
قال الجمل: (ومفعول المشيئة محذوف يدل عليه مضمون الجزاء. أى: إن يشأ إفناءكم وإيجاد آخرين يذهبكم- يعنى: أن إبقاءكم على ما أنتم عليه من العصيان إنما هو لكمال غناه عن طاعتكم، ولعدم تعلق مشيئته المبنية على الحكم البالغة بإفنائكم لا لعجزه- سبحانه- وقيل: هو خطاب لمن عادى رسول الله ﷺ من العرب. أى: يشأ يمتكم ويأت بأناس آخرين يوالونه. فمعناه هو معنى قوله- تعالى- وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ. ويروى أنه لما نزلت ضرب رسول الله ﷺ بيده على ظهر سلمان الفارسي وقال:
«إنهم قوم هذا». يريد أبناء فارس «٢».
فالآية الكريمة تقرير لغناه وقدرته- سبحانه- وتهديد لمن كفر به وعصاه.
(١) تفسير القرطبي ج ٥ ص ٤٠٩.
(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ١ ص ٤٣٢.
339
ثم حرض- سبحانه- الناس على أن يقصدوا بعملهم وجه الله، وأن يجعلوا مقصدهم الأعظم الفوز بنعيم الآخرة فقال- تعالى-: مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ، وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً.
والمراد بثواب الدنيا: خيراتها التي تعود على طالبها بالنفع الدنيوي.
والمراد بثواب الآخرة: الجزاء الحسن الذي أعده الله- تعالى- لعباده الصالحين.
والمعنى: من كان يريد ثواب الدنيا كالمجاهد يريد بجهاده الغنيمة والمنافع الدنيوية، فأخبره وأعلمه يا محمد أن عند الله ثواب الدنيا والآخرة. فلماذا قصر الطلب على المنافع الدنيوية مع أن ثواب الآخرة أجزل وأبقى؟ وهلا اقتدى بمن قالوا في دعائهم: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً؟
وجزاء الشرط محذوف بتقدير الإعلام والإخبار. أى: من كان يريد ثواب الدنيا فأعلمه وأخبره أن عند الله ثواب الدارين فماله لا يطلب ذلك أو يطلب الأشرف وهو ثواب الآخرة فإن من جاهد- مثلا- جهادا خالصا لم تفته المنافع الدنيوية، وله بجانب ذلك في الآخرة ما هو أنفع وأعظم وأبقى. فقد روى الإمام أحمد عن زيد بن ثابت أن رسول الله ﷺ قال: «من كان همه الآخرة جمع الله- تعالى شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت نيته الدنيا فرق الله عليه ضيعته، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له» «١».
ويرى صاحب البحر المحيط أن جواب الشرط محذوف لدلالة المعنى عليه فقد قال: والذي يظهر أن جواب الشرط محذوف لدلالة المعنى عليه. والتقدير: من كان يريد ثواب الدنيا فلا يقتصر عليه وليطلب الثوابين فعند الله ثواب الدنيا والآخرة.
ثم قال: وقال الراغب وقوله فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تبكيت للإنسان حيث اقتصر على أحد السؤالين مع كون المسئول مالكا للثوابين، وحث على أن يطلب منه- تعالى- ما هو أكمل وأفضل من مطلوبه. فمن طلب خسيسا مع أنه يمكنه أن يطلب نفيسا فهو دنيء الهمة. وقيل: الآية وعيد للمنافقين الذين لا يريدون بالجهاد غير الغنيمة «٢».
وما عبر عنه صاحب البحر المحيط بقوله: وقيل: الآية وعيد للمنافقين، قد رجحه ابن جرير واختاره فقد قال ما ملخصه: قوله مَنْ كانَ يُرِيدُ أى: ممن أظهر الإيمان من أهل النفاق.
(١) تفسير الآلوسى ج ٥ ص ١٦٧
(٢) تفسير البحر المحيط لأبى حيان ج ٣ ص ٢٦٩. [.....]
340
ثَوابَ الدُّنْيا يعنى عرض الدنيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ يعنى: أن جزاءه في الدنيا منها هو ما يصيب من المغنم. وأما ثوابه في الآخرة فنار جهنم «١».
والذي نراه أولى أن الآية الكريمة تخاطب الناس عامة، فتبين لهم أن خير الدنيا بيد الله وخير الآخرة أيضا بيد الله، فإن اتقوه نالوا الخيرين، وتنبههم إلى أن من الواجب عليهم ألا يشغلهم طلب خير الدنيا عن طلب خير الآخرة. بل عليهم أن يقدموا ثواب الآخرة على ثواب الدنيا.
عملا بقوله- تعالى- في آية أخرى: وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا. ولا نرى مقتضيا لتخصيص الآية بالمنافقين كما- يرى ابن جرير- رحمه الله.
وقوله- تعالى- وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً تذييل قصد به حض الناس على الإخلاص في أقوالهم وأعمالهم.
أى: وكان الله- تعالى- سميعا لكل ما يجهر به الناس ويسرونه، بصيرا بأحوالهم الظاهرة والخفية، وسيجازيهم بما يستحقونه من ثواب أو عقاب، يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ.
ثم وجه- سبحانه- بعد ذلك نداءين متتاليين إلى المؤمنين أمرهم فيهما بالمداومة على التمسك بفضيلة العدل في جميع الظروف والأحوال، وبالثبات على الإيمان الحق الذي ينالون به ثواب الله ورضاه، وتوعد الذين ينحرفون عن طريق الحق بسوء العاقبة فقال- تعالى-:
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٣٥ الى ١٣٦]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٣٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١٣٦)
(١) تفسير ابن جرير ج ٥ ص ٣٩١.
341
وقوله قَوَّامِينَ جمع قوام وهو صيغة مبالغة من قائم. والقوام: هو المبالغ في القيام بالشيء وفي الإتيان به على أتم وجه وأحسنه.
وقوله شُهَداءَ جمع شهيد بوزن فعيل. والأصل في هذه الصيغة أنها تدل على الصفات الراسخة في النفس ككريم وحكيم.
والمعنى: يا أيها الذين آمنوا بالحق إيمانا صادقا. كونوا مواظبين على إقامة العدل فيما بينكم في جميع الظروف والأحوال دون أن يصرفكم عن ذلك صارف، وكونوا «شهداء لله» أى: مقيمين للشهادة بالحق ابتغاء وجه الله لا لغرض من الأغراض الدنيوية. ولا لمطمع من المطامع الشخصية، فإن الإيمان الحق يستلزم منكم أن تعدلوا في أحكامكم وأن تؤدوا الشهادة على وجهها.
وفي ندائه- سبحانه- لهم بقوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تنبيه إلى الأمر الخير الذي ناداهم من أجله ودعاهم إلى تنفيذه وهو التزام العدالة في كل أمورهم، وتحريك لعاطفة الإيمان في قلوبهم بمقتضى وصفهم- بهذه الصفة الجليلة.
وعبر- سبحانه- بقوله كُونُوا قَوَّامِينَ بصيغة المبالغة الدالة على الكثرة والمداومة على الشيء، لتمكين صفة العدالة في نفوسهم، وترسيخها في قلوبهم.
فكأنه- سبحانه- يقول لهم: روضوا أنفسكم على التزام كلمة الحق، وعودوها على نصرة المظلوم وخذلان الظلم، وليكن ذلك خلقا من أخلاقكم. وسجية من سجاياكم، فلا يكفى أن تعدلوا في أحكامكم مرة أو مرتين، وإنما الواجب عليكم أن تداوموا على إقامة العدل في كل الأحوال، ومع كل الأشخاص.
قال صاحب المنار: وهذه العبارة- وهي قوله- تعالى- كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ أبلغ ما يمكن أن يقال في تأكيد أمر العدل والعناية به فالأمر بالعدل والقسط مطلقا يكون بعبارات مختلفة بعضها آكد من بعض تقول: اعدلوا أو أقسطوا. وتقول: كونوا عادلين أو مقسطين.
وهذه العبارة أبلغ لأنها أمر بتحصيل الصفة لا بمجرد الإتيان بالقسط الذي يصدق بمرة.
وتقول: أقيموا القسط. وأبلغ منه: كونوا قائمين بالقسط. وأبلغ من هذا وذاك: كونوا قوامين بالقسط. أى: لتكن المبالغة والعناية بإقامة القسط على وجهه صفة من صفاتكم، بأن
342
تتحروه بالدقة التامة حتى تكون ملكة راسخة في نفوسكم. والقسط يكون في العمل كالقيام بما يجب من العدل بين الزوجات والأولاد ويكون في الحكم بين الناس.. «١».
وقوله شُهَداءَ خبر ثان لكونوا. وقوله لِلَّهِ متعلق بمحذوف حال من ضمير شُهَداءَ.
أى: كونوا ملازمين للعدل في كل أموركم وكونوا مقيمين للشهادة على وجهها حالة كونها لوجه الله، لا لعرض من أعراض الدنيا.
قال الفخر الرازي: وإنما قدم- سبحانه- الأمر بالقيام بالقسط على الأمر بالشهادة لوجوه:
الأول: أن أكثر الناس من عادتهم أنهم يأمرون غيرهم بالمعروف، فإذا آل الأمر إلى أنفسهم تركوه حتى إن أقبح القبيح إذا صدر عنهم كان في محل المسامحة وأحسن الحسن. وإذا صدر عن غيرهم كان محل المنازعة. فالله- تعالى- نبه في هذه الآية على سوء هذه الطريقة. وذلك أنه- سبحانه- أمرهم بالقيام بالقسط أولا، ثم أمرهم بالشهادة على الغير ثانيا، تنبيها على أن الطريقة الحسنة أن تكون مضايقة الإنسان مع نفسه فوق مضايقته مع الغير.
الثاني: أن القيام بالشهادة عبارة عن دفع ضرر العقاب عن الغير، وهو الذي عليه الحق.
ودفع الضرر عن النفس مقدم على دفع الضرر عن الغير.
الثالث: أن القيام بالقسط فعل، والشهادة قول والفعل أقوى من القول «٢».
وقوله: وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ تأكيد للأمر بالتزام الحق في الأحكام والشهادات.
أى: كونوا قوامين بالقسط، وكونوا مقيمين للشهادة بالحق خالصة لوجه الله، ولو كانت الشهادة على أنفسكم- بأن تقروا بأن الحق عليها إذا كان واقع الأمر كذلك- ولو كانت- أيضا. على والديكم وعلى أقرب الناس إليكم.
قال القرطبي:
وشهادة المرء على نفسه إقراره بالحقوق عليها ثم ذكر الوالدين لوجوب برهما وعظم قدرهما. ثم ثنى بالأقربين إذ هم مظنة المودة والتعصب فكان الأجنبى من الناس أحرى أن يقام عليه بالقسط ويشهد عليه ولا خلاف بين أهل العلم في صحة أحكام هذه الآية، وأن شهادة الولد على الوالدين ماضية، ولا يمنع ذلك من برهما، بل أن يشهد عليهما ويخلصهما من الباطل. وكان من مضى من السلف الصالح يجيزون شهادة الوالدين والأخ، لأنه لم يكن أحد
(١) تفسير المنار ج ٥ ص ٤٥٦.
(٢) تفسير الفخر الرازي ج ١١ ص ٧٢.
343
يتهم في ذلك من السلف. ثم ظهرت من الناس أمور حملت الولاة على اتهامهم، فتركت شهادة من يتهم. وأجاز قوم شهادة بعضهم لبعض إذا كانوا عدولا «١».
ولَوْ في قوله وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ شرطية. والجار والمجرور خبر لكان المحذوفة مع اسمها. وجواب لو محذوف. والتقدير: ولو كانت الشهادة على أنفسكم فاشهدوا عليها بأن تقروا على أنفسكم بالحق ولا تكتموه.
وقوله- تعالى- إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما تأكيد لوجوب التزام الحق مع الغنى والفقير والصغير والكبير.
أى: إن يكن المشهود عليه غنيا يرجى في العادة ويخشى أو فقيرا يترحم عليه في الغالب ولا يخشى، فلا تمتنعوا عن الشهادة، لأن الله- تعالى- هو الأولى والأجدر بحساب كل من الغنى والفقير، وهو الأعلم بمصالح الناس، والأرحم بهم منكم. وجواب الشرط محذوف، أى: إن يكن المشهود عليه غنيا أو فقيرا فلا تتركوا الشهادة لأن الشهادة في مصلحتهما.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: لم ثنى الضمير في «أولى بهما» وكان حقه أن يوحد لأن قوله: إن يكن غنيا أو فقيرا في معنى إن يكن أحد هذين؟
قلت قد رجع الضمير إلى ما دل عليه قوله: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً لا إلى المذكور، فلذلك ثنى ولم يفرد، وهو جنس الغنى وجنس الفقير. فكأنه قيل: فالله أولى بجنسى الغنى والفقير.
أى: بالأغنياء والفقراء. وفي قراءة أبى: فالله أولى بهم وهي شاهدة على ذلك.
وقال ابن جرير: نزلت في النبي ﷺ إذ اختصم إليه رجلان: غنى وفقير. وكان ضلعه- أى ميله- مع الفقير لأنه يرى أن الفقير لا يظلم الغنى. فأبى الله إلا أن يقوم بالقسط في الغنى والفقير فقال: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما «٢».
والذي يستفاد من هذه الرواية ومن ظاهر الآية أن الغنى أو الفقر لا يصح أن يكونا سببا في التفاوت في الحكم. ويقاس عليهما غيرهما من أحوال الناس، لأن الله- تعالى- هو الذي نظم الكون بحكمته، وهو أعلم بمصالح الناس من أنفسهم، وجعل فيهم الغنى والفقير لأن الغنى والفقر أمران ثابتان في هذا الوجود، ولا يمكن أن تخلو منهما الجماعة الإنسانية، لأن ذلك تنظيم الله- تعالى، وإرادته الخالدة، وهو الذي يتفق مع الطبيعة الإنسانية، إذ العقول متفاوتة، والعزائم مختلفة، والأعمال متنوعة، ونتيجة لذلك كانت الثمار ليست متحدة.
(١) تفسير القرطبي ج ٥ ص ٤١٠- بتصرف وتلخيص-.
(٢) تفسير ابن جرير ج ٥ ص ٣٢١.
344
والمراد بالهوى في قوله: فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا الخضوع للشهوات والميل مع نزعات النفس الأمارة بالسوء.
وقوله أَنْ تَعْدِلُوا في موضع المفعول لأجله ويحتمل أن يكون بمعنى العدل فيكون علة للمنهى عنه، ويكون في الجملة مضاف مقدر. والمعنى: فلا تتبعوا الهوى والميل مع الشهوات كراهة أن تعدلوا بين الناس ويحتمل أن يكون بمعنى العدول عن الحق فيكون علة للنهى بتقدير لا، أى: أنهاكم عن اتباع الهوى لئلا تميلوا عن الحق وتتركوا العدل.
قال ابن كثير: أى: لا يحملنكم الهوى والعصبية وبغض الناس إليكم، على ترك العدل في شئونكم. بل الزموا العدل على أى حال كان. كما قال- تعالى- وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى. ومن هذا قول عبد الله بن رواحة لما بعثه النبي ﷺ يخرص على أهل خيبر ثمارهم وزروعهم، فأرادوا أن يرشوه ليرفق بهم، فقال: والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق إلى. ولأنتم أبغض الخلق إلى. وما يحملني حبى إياه وبغضي لكم على أن لا أعدل فيكم. فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض «١».
وقوله- تعالى- وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً تذييل قصد به تهديدهم ووعيدهم على ترك العدل، وعلى الامتناع عن الشهادة بالحق.
قال الفخر الرازي ما ملخصه: وفي الآية قراءتان. فقد قرأ الجمهور تَلْوُوا- بواوين قبلهما لام ساكنة- بمعنى الدفع والإعراض من قولهم: لواه حقه إذا مطله ودفعه. أو بمعنى التحريف والتبديل من قولهم لوى الشيء إذا فتله.
وقرأ ابن عامر وحمزة تلوا بلام مضمومة بعدها واو ساكنة- من الولاية بمعنى مباشرة الشيء والاشتغال به «٢».
والمعنى على قراءة الجمهور: وإن تلووا ألسنتكم عن الشهادة بالحق بأن تحرفوها وتقيموها على غير وجهتها أو تعرضوا عنها رأسا وتتركوها يعاقبكم الله عقابا شديدا فإنه- سبحانه- عليم بدقائق الأشياء، خبير بخفايا النفوس، وسيجازى كل إنسان بما يستحقه.
والمعنى على القراءة الثانية: وإن تلوا الشهادة فتباشروها على وجهها يعطكم الله أجرا حسنا، وإن تعرضوا عنها وتتركوها يعاقبكم الله عقابا أليما، فإن الله- تعالى- خبير بكل أقوالكم وأعمالكم.
(١) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٥٦٥.
(٢) تفسير الفخر الرازي ج ١١ ص ٧٤.
345
وقيل: إن القراءتين بمعنى واحد لأن أصل (تلوا) - وهي قراءة حمزة وابن عامر- تلووا- وهي قراءة الجمهور- نقلت حركة الواو- في قراءة الجمهور- إلى الساكن قبلها فالتقى واوان ساكنان فحذفت إحداهما فصارت الكلمة (تلوا).
هذا، والمتأمل في هذه الآية الكريمة يراها تبنى المجتمع الإسلامى على أقوى القواعد، وأمتن الأسس وأشرف المبادئ. إنها تبنيه على قواعد العدل والقسط، وتأمر المؤمنين أن يلتزموا كلمة الحق مع أنفسهم ومع أقرب المقربين إليهم مهما تكلفوا في ذلك من جهاد شاق يقتضيه التزام الحق، فإن كلمة الحق كثيرا ما تجعل صاحبها عرضة للإيذاء والاعتداء والاتهام بالباطل من الأشرار والفجار. بل إن كلمة الحق قد تفضى بصاحبها إلى الموت. ولكن لا بأس، فإن الموت مع التمسك بالحق، خير من الحياة في ظلمات الباطل.
ثم أمر الله- تعالى- المؤمنين أن يثبتوا على إيمانهم فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ أى: يا أيها المؤمنون اثبتوا على إيمانكم وداوموا على تصديقكم بوحدانية الله- تعالى- وعلى تصديقكم برسوله محمد ﷺ وبالكتاب الذي نزله الله- تعالى- عليه وهو القرآن، وبالكتاب الذي أنزله الله- تعالى- على الرسل الذين أرسلهم من قبله.
والمراد بالكتاب الذي أنزله على الرسل من قبله جنس الكتب السماوية كالتوراة والإنجيل والزبور.
ثم بين- سبحانه- سوء مصير من يكفر بشيء مما يجب الإيمان به فقال- تعالى-: وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً.
أى: ومن يكفر بالله بأن يجحد وحدانيته وألوهيته، ولا يخلص له العبادة، ويكفر بملائكته بأن ينكر بأنهم عباد مكرمون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ويكفر بكتبه التي أنزلها- سبحانه، على أنبيائه، وبرسله الذين أرسلهم لهداية الخلق. وباليوم الآخر وما فيه من ثواب وعقاب، من يكفر بكل ذلك فقد خرج عن طريق الهدى وبعد عن السبيل القويم بعدا كبيرا، لأنه بكفره بذلك يكون قد خالف الفطرة، وانحرف عما يقتضيه العقل السليم، وأوغل في الشرور والآثام إيغالا شديدا، يؤدى به إلى خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
وبعد هذه الأوامر السديدة للمؤمنين. عادت السورة الكريمة إلى تحذيرهم من أعدائهم ومن المنافقين، فكشفت لهم عن طبيعتهم، ونهتهم عن القعود معهم، وبينت لهم أنماطا من خداعهم، وألوانا من أخلاقهم الذميمة، وأخبرتهم عن سوء مصير أولئك المنافقين والمتمادين في الغي والضلال.
346
استمع إلى السورة الكريمة وهي تحكى كل ذلك بأسلوبها الحكيم فتقول:
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٣٧ الى ١٤٧]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (١٣٧) بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٣٨) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (١٣٩) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (١٤٠) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (١٤١)
إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٤٢) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (١٤٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (١٤٤) إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (١٤٥) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (١٤٦)
ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً (١٤٧)
347
وقوله- تعالى-: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا للمفسرين في تأويل هذه الآية وجوه:
أولها: أن المراد بهم قوم تكرر منهم الارتداد، وأصروا على الكفر، وازدادوا تماديا في البغي والضلال.
وقد صدر الفخر الرازي تفسيره لهذه الآية بهذا المعنى فقال: المراد بهم الذين يتكرر منهم الكفر بعد الإيمان مرات وكرات، فإن ذلك يدل على أنه لا وقع للإيمان في قلوبهم، إذ لو كان للإيمان وقع في قلوبهم لما تركوه لأدنى سبب ومن لا يكون للإيمان وقع في قلبه فالظاهر أنه لا يؤمن بالله إيمانا صحيحا معتبرا. فهذا هو المراد بقوله: لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ. وليس المراد أنه لو أتى بالإيمان الصحيح لم يكن معتبرا، بل المراد منه الاستبعاد والاستغراب على الوجه الذي ذكرناه «١».
وقال الإمام ابن كثير: يخبر- تعالى- عمن دخل في الإيمان ثم رجع عنه ثم عاد فيه ثم رجع واستمر على ضلاله، وازداد حتى مات، فإنه لا توبة بعد موته ولا يغفر الله له «ولا يجعل له مما هو فيه فرجا ولا مخرجا ولا طريقا إلى الهدى، ولهذا قال: لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا. وقد قال ابن عباس في قوله: ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً: تمادوا في كفرهم حتى ماتوا» «٢».
(١) تفسير الفخر الرازي ج ١١ ص ٧٨.
(٢) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٥٦٦.
348
وثانيها: أن المراد بهم أهل الكتاب. وقد رجح هذا الاتجاه ابن جرير فقال: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال: عنى بذلك أهل الكتاب الذين أقروا بحكم التوراة، ثم أقر من أقر منهم بعيسى والإنجيل، ثم كذب به بخلافه إياه، ثم كذب بمحمد ﷺ والفرقان، فازداد بتكذيبه كفرا على كفره «١».
وثالثها: أن المراد بهم طائفة من اليهود كانوا يظهرون الإسلام تارة ثم يرجعون عنه إلى يهوديتهم لتشكيك المسلمين في دينهم وذلك معنى قوله: وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ «٢».
ورابعها: أن المراد بهم المنافقون. فالإيمان الأول وإظهارهم الإسلام. وكفرهم بعد ذلك هو نفاقهم وكون باطنهم على خلاف ظاهرهم. والإيمان الثاني هو أنهم كلما لقوا جمعا من المسلمين قالوا: إنا مؤمنون. والكفر الثاني هو أنهم إذا خلوا إلى إخوانهم في النفاق قالوا لهم إنا معكم. وازديادهم في الكفر هو جدهم واجتهادهم في استخراج أنواع المكر والكيد في حق المسلمين.
والذي نراه أولى من بين هذه الأقوال القول الأول، لأن ألفاظ الآية عامة ولم تخصص قوما دون قوم، فكل من تكرر منهم الارتداد واستمروا في ضلالهم حتى ماتوا ينطبق عليهم الوعيد الذي بينته الآية الكريمة، سواء كان أولئك الذين حدث منهم هذا الارتداد المتكرر من المنافقين أم من غيرهم.
والمعنى: إن الذين آمنوا بدين الإسلام ثم رجعوا عنه إلى ما كانوا عليه من ضلال، ثم آمنوا ثم كفروا مرة أخرى، ثم ازدادوا كفرا على كفرهم بأن استمروا فيه حتى ماتوا... هؤلاء الذين فعلوا ذلك لم يكن الله ليغفر لهم، لتماديهم في الكفر وإصرارهم عليه حتى ماتوا، ولم يكن- سبحانه- ليهديهم سبيلا مستقيما، لأنهم هم الذين استحبوا العمى على الهدى، وهم الذين كانوا إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا، وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا.
قال الآلوسى: والقول المشهور الذي عليه الجمهور أن المراد من نفى المغفرة والهداية، نفى ما يقتضيهما وهو الإيمان الخالص الثابت. ومعنى نفيه: استبعاد وقوعه، فإن من تكرر منهم الارتداد وازدياد الكفر والإصرار عليه صاروا بحيث قد ضربت قلوبهم بالكفر، وصار الإيمان عندهم أدون شيء وأهونه، فلا يكادون يقربون منه قيد شبر ليتأهلوا للمغفرة وهداية سبيل الجنة، لا أنهم لو أخلصوا الإيمان لم يقبل منهم ولم يغفر لهم.
(١) تفسير ابن جرير ج ٥ ص ٣٢٨.
(٢) سورة آل عمران الآية ٧٢.
349
ثم قالوا: وخبر كان في أمثال هذا الموضع محذوف وبه تتعلق اللام أى: ما كان الله مريدا للغفران لهم. ونفى إرادة الفعل أبلغ من نفيه «١».
ثم تبدأ السورة الكريمة حملتها على المنافقين فتقول: بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً والتعبير بقوله: بشر بدل أنذر أو أخبر للتهكم بهم، لأن البشارة لا تكون غالبا إلا في الأخبار السارة، لأن الخبر السار يظهر سرورا في البشرة. فاستعملت البشارة في مطلق الإخبار أو في الإنذار على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية.
قال الراغب: ويقال: أبشرت الرجل وبشرته أى: أخبرته بأمر سار بسط بشرة وجهه وذلك أن النفس إذا سرت انتشر الدم فيها انتشار الماء في الشجر «٢».
وقوله: الْمُنافِقِينَ من النفاق وهو أن يظهر الشخص خلاف ما يبطن.
قالوا: وسمى المنافق منافقا أخذا من نافقاء اليربوع- وهو جحره فإنه يجعل له بابين يدخل من أحدهما ويخرج من الآخر فكذلك المنافق يدخل مع المؤمنين بقوله: أنا مؤمن. ويدخل مع الكفار بقوله: أنا كافر.
والمعنى: أنذر يا محمد أولئك المنافقين الذين أظهروا الإسلام وأخفوا الكفر بالعذاب الأليم، وسق لهم هذا الإنذار بلفظ التبشير على سبيل التهكم بهم، والاستهزاء بعقولهم، في مقابل تهكمهم بالإسلام وأهله وخداعهم للمؤمنين.
ثم كشف- سبحانه- عن جانب من طبيعتهم المنكوسة فقال: الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ.
أى: أنذر هؤلاء المنافقين بالعذاب الأليم، الذين من صفاتهم أنهم يتخذون الكافرين أولياء ونصراء لهم تاركين ولاية المؤمنين ونصرتهم. فهم سلم على الكافرين وحرب على المؤمنين.
والمراد بالكافرين هنا: اليهود- على أرجح الأقوال- فقد حكى عن المنافقين أنهم كانوا يقولون: إن أمر محمد ﷺ لن يتم فتولوا اليهود، ولأن غالب سكان المدينة- من غير المسلمين- كان من اليهود.
وقوله مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ حال من فاعل يتخذون. أى: يتخذون الكفار أنصارا لهم حالة كونهم متجاوزين ولاية المؤمنين ونصرتهم.
(١) تفسير الآلوسى ج ٥ ص ١٧١ بتصريف وتلخيص.
(٢) المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني ص ٤٨.
350
والاستفهام في قوله: أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ للإنكار والتعجيب من شأنهم، والتهكم من سوء تصورهم.
وقوله: فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً رد على تصوراتهم الباطلة، ومداركهم الفاسدة، وتثبيت للمؤمنين حتى يزدادوا قوة على قوتهم.
أى: أن هؤلاء المنافقين قد تركوا ولاية المؤمنين إلى ولاية الكافرين فما الذي دفعهم إلى هذا الانتكاس؟ أيطلبون بلهفة ورغبة العزة والقوة والمنعة من عند الكافرين؟ إذا كان هذا حالهم فقد خابوا وخسروا، فإن العزة والقوة والمنعة والنصرة له وحده. ومن اعتز بغير الله هان وذل.
قال ابن كثير: والمقصود من هذا التهييج على طلب العزة من جانب الله- تعالى- والإقبال على عبوديته، والانتظام في جملة عباده المؤمنين، الذين لهم النصرة في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد. ويناسب هنا أن نذكر الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن أبى ريحانة أن النبي ﷺ قال: «من انتسب إلى تسعة آباء كفار، يريد بهم عزا وفخرا فهو عاشرهم في النار» «١».
وقال الإمام الرازي: وأصل العزة في اللغة الشدة. ومنه قيل للأرض الصلبة الشديدة:
عزاز. ويقال: قد استعز المرض على المريض إذا اشتد ظهره به. وشاة عزوز التي يشتد حلبها ويصعب. والعزة: القوة منقولة من الشدة لتقارب معنييهما. والعزيز القوى المنيع بخلاف الذليل.
ثم قال: إذا عرفت هذا فنقول: إن المنافقين كانوا يطلبون العزة والقوة بسبب اتصالهم باليهود. ثم إنه- تعالى- أبطل عليهم هذا الرأى بقوله: فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً.
فإن قيل: هذا كالمناقض لقوله: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ؟ قلنا القدرة الكاملة لله. وكل من سواه فبإقداره صار قادرا. وبإعزازه صار عزيزا فالعزة الحاصلة للرسول عليه الصلاة والسلام وللمؤمنين لم تحصل إلا من الله- تعالى- فكأن الأمر عند التحقيق أن العزة جميعا لله «٢».
قالوا: وقد دلت الآية الكريمة على وجوب موالاة المؤمنين، والنهى عن موالاة الكافرين.
قال- تعالى- لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ «٣».
(١) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٥٦٦. [.....]
(٢) تفسير الفخر الرازي ج ١ ص ٨٠.
(٣) سورة المجادلة الآية ٢٢.
351
ثم نهى- سبحانه- المسلمين عن مخالطة الكافرين بآيات الله والمستهزئين بها فقال: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ.
أى: وقد نزل الله عليكم- أيها المؤمنون- في كتابه المحكم أنكم إذا سمعتم آيات الله يكفر بها الكافرون، ويستهزئ بها المستهزئون، فعليكم في هذه الأحوال أن تتركوا مجالسهم، وأن تعرضوا عنهم حتى يتكلموا في حديث آخر سوى الكفر بآيات الله والاستهزاء بها.
قال صاحب الكشاف: والمراد بالمنزل عليهم في الكتاب: هو ما نزل عليهم في مكة من قوله- تعالى-: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ «١». وذلك أن المشركين كانوا يخوضون في ذكر القرآن في مجالسهم فيستهزءون به، فنهى- سبحانه- المسلمين عن القعود معهم ماداموا خائضين فيه.
وكان أحبار اليهود بالمدينة يفعلون نحو فعل المشركين، فنهوا أن يقعدوا معهم كما نهوا- قبل ذلك- عن مجالسة المشركين بمكة «٢».
وأن في قوله أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ تفسيرية، لأن نَزَّلَ تضمن معنى القول دون حروفه.
وجعلها بعضهم مخففة من الثقيلة واسمها ضمير شأن مقدر أى أنه إذا سمعتم. وقدره بعضهم ضمير المخاطبين أى أنكم إذا سمعتم، وخبرهما جملة الشرط والجزاء.
وقوله يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها جملتان في موضع الحال من الآيات.
وأضاف- سبحانه- الآيات إليه، لتهويل أمرها، والتشنيع على من كفر أو استهزأ بها.
والضمير في قوله مَعَهُمْ يعود إلى الكافرين والمستهزئين المدلول عليهم بقوله: يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فكأنه قيل: لا تقعدوا- أيها المؤمنون- مع الكافرين بآيات الله والمستهزئين بها.
والضمير في قوله غَيْرِهِ يعود إلى تحدثهم بالكفر والاستهزاء أى: حتى يخوضوا في حديث سوى حديثهم المتعلق بالكفر بآيات الله والاستهزاء بها.
وقوله إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ تعليل للنهى عن القعود معهم.
أى: - أيها المؤمنون- إن استمعتم إلى الكفار والمنافقين وهم يعلنون الكفر بآيات الله- تعالى- والاستهزاء بها، كنتم معهم في الاستهانة بآيات الله وشركاء لهم في آثامهم، لأن
(١) سورة الأنعام الآية ٦٨.
(٢) تفسير الكشاف ج ١ ص ٥٧٨.
352
الراضي بالكفر بآيات الله وبالاستهزاء بها. يكون بعيدا عن حقيقة الإيمان، ومستحقا للعقوبة من الله- تعالى- قال صاحب الكشاف، فإن قلت: لم يكونون مثلهم بالمجالسة إليهم في وقت الخوض؟
قلت: لأنهم إذا لم ينكروا عليهم كانوا راضين. والراضي بالكفر كافر فإن قلت: فهلا كان المسلمون بمكة- حين كانوا يجالسون الخائضين من المشركين- منافقين؟ قلت: لأنهم كانوا لا ينكرون لعجزهم. وهؤلاء لم ينكروا مع قدرتهم فكان ترك الإنكار لرضاهم «١».
وقال القرطبي: فدل بهذا على وجوب اجتناب أصحاب المعاصي إذا ظهر منهم منكر، لأن من لم يتجنبهم فقد رضى فعلهم، والرضا بالكفر كفر. قال الله- تعالى- إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ.
فكل من جلس في مجلس معصية ولم ينكر عليهم يكون معهم في الوزر سواء. وينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية وعملوا بها، فإن لم يقدر على النكير عليهم فينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه الآية. وقد روى عن عمر بن عبد العزيز أنه أخذ قوما يشربون الخمر، فقيل له عن أحد الحاضرين: إنه صائم. فحمل عليه الأدب وقرأ عليه هذه الآية إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ أى أن الرضا بالمعصية معصية. ولهذا يؤاخذ الفاعل والراضي بعقوبة العاصي حتى يهلكوا جميعا. وهذه المماثلة ليست في جميع الصفات ولكنه إلزام شبه بحكم الظاهر من المقارنة «٢» ».
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بالوعيد الشديد للكافرين والمنافقين فقال: إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً لأن هذين الفريقين كما اجتمعوا في الدنيا على الكفر بآيات الله والاستهزاء بها والتواصي بالشرور والآثام، فسيجمعهم الله جميعا في جهنم يوم القيامة، بسبب ما قدمت أيديهم من جرائم ومنكرات.
فأنت ترى أن الآية الكريمة تنهى المؤمنين عن مجالسة الكافرين بآيات الله والمستهزئين بها، لأن أول الشر سماع الشر، ولأن أول مراتب ضعف الإيمان أن تفتر حماسة المؤمن في الدفاع عن الحق الذي آمن به.
ومن علامات المؤمن الصادق أنه متى سمع استهزاء بتعاليم دينه فعليه إما أن ينبرى للدفاع عن هذه التعاليم بشجاعة وحماسة وقولة تدمغ الباطل وأهله وتفضح كل معتد أثيم.. وإما أن يقاطع المجالس التي لا يحترم فيها دين الله. أما السكوت عن ذلك باسم التغاضى أو التسامح أو المرونة. أو بغير ذلك من الأسماء، فهذا أول مراتب النفاق الذي يؤدى إلى خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٥٨٨
(٢) تفسير القرطبي ج ٥ ص ٤١٨.
353
ثم ذكر- سبحانه- بعد ذلك سمة أخرى من أبرز سمات المنافقين. وهي أنهم كانوا يلقون المسلمين بوجه ويلقون الكفار بوجه آخر. أى أنهم يحاولون أن يمسكوا العصا من وسطها حتى يأكلوا من كل مائدة. استمع إلى القرآن وهو يصور ذلك بأسلوبه البليغ المؤثر فيقول: الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا: أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ؟ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا: أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ؟.
وقوله: يَتَرَبَّصُونَ من التربص بمعنى الانتظار وترقب الحوادث. يقال: تربص به إذا انتظره مع ترقب وملاحظة.
وقوله: نَسْتَحْوِذْ من الاستحواذ بمعنى الغلبة والتمكن والاستيلاء، يقال: استحوذ فلان على فلان أى: غلب عليه وتمكن منه. ومنه قوله- تعالى- اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ.
والمعنى: إن من صفات هؤلاء المنافقين- أيها المؤمنون- أنهم يتربصون بكم. أى:
ينتظرون بترقب وملاحظة ما يحدث لكم من خير أو شر، أو من نصر أو هزيمة فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ أى: نصر وظفر على أعدائكم قالُوا على سبيل التقرب إليكم أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ في الجهاد وغيره فاعطونا نصيبا من الخير الذي أصبتموه. وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ أى حظ من النصر عليكم- لأن الحرب سجال- قالُوا لهم- أيضا- على سبيل التقرب إليهم أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أى: ألم نتمكن من قتلكم وأسركم ولكنا لم نفعل ذلك، بل أحطناكم بحمايتنا ورعايتنا ومنعنا المؤمنين من النصر عليكم بسبب تخذيلنا لهم، وتجسسنا على أحوالهم. وإخباركم بما يهمكم من شئونهم، وما دام الأمر كذلك فاجعلوا لنا قسما من نصيبكم.
فالآية الكريمة تصور تصويرا بليغا ما كان عليه المنافقون من تلون وتقلب وهرولة وراء شهوات الدنيا في أى مكان كانت.
وعبر عن النصر في جانب المؤمنين بأنه فتح، وعن انتصار الكافرين بأنه نصيب، لتعظيم شأن المسلمين وللتهوين من شأن الكافرين. ولأن انتصار المسلمين يترتب عليه فتح الطريق أمام الحق لكي يدركه الناس، ويدخلوا في دين الله أفواجا، ولأن الفتح من الله يكون معه الدوام وحسن العاقبة بخلاف انتصار الكافرين فهو أمر طارئ وليس بدائم.
قال صاحب الانتصاف: وهذا من محاسن نكت أسرار القرآن، فإن الذي يتفق للمسلمين فيه: استئصال لشأفة الكفار واستيلاء على أرضهم وديارهم وأموالهم وأرض لم يطئوها. وأما ما كان يتفق للكفار فمثل الغلبة والقدرة التي لا يبلغ شأنها أن تسمى فتحا. فالتفريق بينهما أيضا
354
مطابق للواقع «١» والاستفهام في قوله أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وفي قوله أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ للتقرير أى: لقد كنا معكم واستحوذنا عليكم ومنعناكم من المؤمنين.
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بتبشير المؤمنين وإنذار الكافرين فقال: فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا.
والفاء هنا للإفصاح عن كلام مقدر. أى: إذا كان هذا هو حال المنافقين والكافرين في الدنيا، فأبشركم- أيها المؤمنون- بأن الله سيحكم بينكم وبينهم يوم القيامة بحكمه العادل، فيثيبكم بالثواب الجزيل لأنكم أولياؤه، ويعاقبهم بالعقاب الأليم لأنهم أعداؤه، وأبشركم- أيضا- بأنه- سبحانه- لن يجعل لأعدائكم الكافرين سلطانا عليكم ما دمتم متمسكين بدينكم، ومعتصمين بحبل الله جميعا بدون فرقة أو تنازع أو فشل، وآخذين بالأسباب وبسنن الله الكونية التي تعينكم على الوصول إلى غاياتكم الشريفة، ومقاصدكم السليمة.
فالآية الكريمة تنفى أن يكون هناك سبيل للكافرين على المؤمنين في الدنيا والآخرة.
ومنهم من يرى أن المراد بنفي السبيل هنا في الآخرة.
وقد أشار الإمام ابن كثير إلى هذين الاتجاهين بقوله- تعالى- وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا أى: يوم القيامة كما روى عن على بن أبى طالب وغيره.
ويحتمل أن يكون المعنى: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا أى: في الدنيا، بأن يسلطوا عليهم تسليط استيلاء واستئصال بالكلية، وإن حصل لهم ظفر في بعض الأحيان على بعض الناس فإن العاقبة للمتقين في الدنيا والآخرة، كما قال- تعالى- إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ «٢».
والذي نراه أولى أن تكون الجملة الكريمة عامة في نفى أن يكون هناك سلطان للكافرين على المؤمنين ما دام المؤمنون متبعين اتباعا تاما تعاليم دينهم وآخذين في الأسباب التي تجعل النصر حليفا لهم. وإذا كان الكافرون في بعض الأزمان والأحوال قد صارت لهم الغلبة على المسلمين، فذلك قد يكون نوعا من الابتلاء أو التأديب أو التمحيص. حتى يعود المسلمون إلى دينهم عودة كاملة تجعلهم يستجيبون لتوجيهاته. ويذعنون لأحكامه، ويطبقون أوامره ونواهيه.
وهنا يحالفهم نصر الله الذي لا يقهر ووعده الذي لا يتخلف.
ثم تمضى السورة الكريمة بعد هذا الوعد المطمئن لقلوب المؤمنين، في رسم صورة أخرى
(١) حاشية الكشاف ج ١ ص ٥٧٨.
(٢) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٥٦٧ بتصريف وتلخيص.
355
للمنافقين مبالغة في الكشف عن قبائحهم وفي التحذير من شرورهم فتقول: إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ، وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى، يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا. مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا.
وقوله: يُخادِعُونَ
من الخداع وهو أن يظهر الشخص من الأفعال ما يخفى أمره، ويستر حقيقته.
قال الراغب: الخداع: إنزال الغير عما هو بصدده بأمر يبديه على خلاف ما يخفيه...
ويقال: طريق خادع وخيدع. أى: مضل كأنه يخدع سالكه. وفي الحديث: (بين يدي الساعة سنون خداعة) أى: محتالة لتلونها بالجدب مرة وبالخصب مرة «١».
وقوله: خادِعُهُمْ
اسم فاعل من خادعته فخذعته إذا غلبته وكنت أخدع منه.
والمعنى: إن المنافقين لسوء طواياهم، وخبث نواياهم يُخادِعُونَ اللَّهَ
أى: يفعلون ما يفعل المخادع بأن يظهروا الإيمان ويبطنوا الكفر وَهُوَ خادِعُهُمْ
أى: وهو فاعل بهم ما يفعله الذي يغلب غيره في الخداع، حيث تركهم في الدنيا معصومى الدماء والأموال.
وأعدلهم في الآخرة الدرك الأسفل من النار.
ومنهم من جعل المراد بمخادعتهم لله مخادعتهم لرسوله وللمؤمنين فيكون الكلام على حذف مضاف. أى: إن المنافقين يخادعون رسول الله والمؤمنين وهو- سبحانه- خادعهم فهو كقوله- تعالى- إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ وعبر- سبحانه- عن خداعهم بصيغة تدل على المشاركة والمغالبة وهي قوله يُخادِعُونَ
، للإشعار بأنهم قد ينجحون في خداعهم وقد لا ينجحون.
وعبر- سبحانه- عن خداعه لهم بصيغة اسم الفاعل، للدلالة على الغلب والقهر. لأن الله- تعالى- كاشف أمرهم، ومزيل مغبة خداعهم، ومحاسبهم حسابا عسيرا على ما ارتكبوه من جنايات وسيئات.
وقوله: وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى
بيان للون آخر من قبائحهم.
وكُسالى
جمع كسلان وهو الذي يعتريه الفتور في أفعاله لكراهيته لها أو عدم اكتراثه بها.
وهي حال لازمة من ضمير قاموا أى: إن هؤلاء المنافقين إذا قاموا إلى الصلاة، قاموا متثاقلين
(١) مفردات القرآن ص ١٤٤
356
متباطئين لا نشاط عندهم لأدائها، ولا رغبة لهم في القيام بها، لأنهم لا يعتقدون ثوابا في فعلها، ولا عقابا على تركها.
وقوله يُراؤُنَ النَّاسَ
حال من الضمير المستكن في كسالى. أو جملة مستأنفة جوابا لمن يسأل: وما قصدهم من القيام للصلاة مع هذا التثاقل والتكاسل عنها؟ فكان الجواب: يراءون الناس. أى: يقصدون بصلاتهم الرياء والسمعة والخداع.
قال ابن كثير: وقوله: وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى
هذه صفة المنافقين في أشرف الأعمال وأفضلها وخيرها. وهي الصلاة. إذا قاموا إليها قاموا وهم كسالى عنها، لأنهم لا نية لهم فيها، ولا إيمان لهم بها، ولا خشية، ولا يعقلون معناها. وهذه صفة ظواهرهم.
ثم ذكر- سبحانه- صفة بواطنهم الفاسدة فقال: يُراؤُنَ النَّاسَ
أى: لا إخلاص لهم ولا معاملة مع الله، بل إنما يشهدون الناس تقية لهم ومصانعة ولهذا يتخلفون كثيرا عن الصلاة التي لا يرون فيها غالبا كصلاة العشاء في وقت العتمة وصلاة الصبح في وقت الغلس كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله ﷺ قال: «أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا» وروى الحافظ أبو ليلى عن عبد الله قال: من أحسن الصلاة حيث يراه الناس، وأساءها حيث يخلو، فتلك استهانة. استهان بها ربه- عز وجل- «١».
وقوله: وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا
معطوف على يُراؤُنَ
أى: أن من صفات المنافقين أنهم إذا قاموا إلى الصلاة قاموا متباطئين متقاعسين يقصدون الرياء والسمعة بصلاتهم، ولا يذكرون الله في صلاتهم إلا ذكرا قليلا أو وقتا قليلا لأنهم لا يخشعون ولا يدرون ما يقولون، بل هم في صلاتهم ساهون لاهون.
روى الإمام مالك عن العلاء بن عبد الرحمن عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله ﷺ «تلك صلاة المنافق- تلك صلاة المنافق. يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان، قام فنقر أربعا، لا يذكر الله فيها إلا قليلا».
قال ابن كثير: وكذا رواه مسلم والترمذي والنسائي من حديث إسماعيل بن جعفر المدني عن العلاء بن عبد الرحمن. وقال الترمذي: حسن صحيح.
ومنهم من فسر قوله وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا
أى: ولا يصلون إلا قليلا. لأنهم إنما يصلون رياء فإذا خلوا بأنفسهم لم يصلوا. والأول أولى لأنه أعم وأشمل.
(١) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٥٦٨- بتصرف وتلخيص
357
قال صاحب الكشاف: قوله «ولا يذكرون الله إلا قليلا» أى: ولا يصلون إلا قليلا، لأنهم لا يصلون قط غائبين عن عيون الناس إلا ما يجاهرون به. وما يجاهرون به قليل أيضا، لأنهم ما وجدوا مندوحة من تكلف ما ليس في قلوبهم لم يتكلفوه. أو ولا يذكرون الله بالتسبيح والتهليل إلا ذكرا قليلا في الندرة، وهكذا ترى كثيرا من المتظاهرين بالإسلام لو صحبته الأيام والليالى لم تسمع منه تهليلة ولا تسبيحة ولا تحميدة، ولكن حديث الدنيا يستغرق به أوقاته لا يفتر عنه..
فإن قلت ما معنى المراءاة وهي مفاعلة من الرؤية؟ قلت: فيها وجهان:
أحدهما: أن المرائى يريهم عمله وهم يرون استحسانه.
والثاني: أن يكون من المفاعلة بمعنى التفعيل. فيقال: راءى الناس. يعنى رآهم كقولك نعمه وناعمه.. روى أبو زيد: راءت المرأة المرآة الرجل: إذا أمسكتها لترى وجهه.. «١».
وقوله: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ حال من فاعل يراءون واسم الإشارة «ذلك» مشار به إلى الإيمان والكفر المدلول عليه بذكر المؤمنين والكافرين.
قال القرطبي: المذبذب: المتردد بين أمرين. والذبذبة: الاضطراب. يقال: ذبذبته فتذبذب. ومنه قول النابغة- في مدح النعمان بن المنذر-
ألم تر أن الله أعطاك سورة ترى كل ملك دونها يتذبذب
أى: يضطرب وقال ابن جنى: المذبذب: المهتز القلق الذي لا يثبت ولا يتمهل. فهؤلاء المنافقون مترددون بين المؤمنين والمشركين. لا مخلصين للإيمان ولا مصرحين بالكفر. وفي صحيح مسلم من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: «مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين- أى المترددة بين قطيعين- تعير إلى هذه مرة وإلى هذه أخرى» «٢».
وقوله لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ في محل نصب على أنه حال من ضمير مُذَبْذَبِينَ أو على أنه بيان وتفسير له.
وقوله: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا أى: ومن يضلله الله- تعالى- عن طريق الحق، بسبب إيثاره الغواية على الهداية. فلن تجد له سبيلا يوصله إلى الصراط المستقيم.
وبعد هذا الذم الشديد لما كان عليه المنافقون من خداع ورياء وضلال. وجه- سبحانه- نداء إلى المؤمنين نهاهم فيه عن موالاة الكافرين فقال- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ.
(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٥٧٩
(٢) القرطبي ج ٥ ص ٤٢٤.
358
أى: يا أيها الذين آمنوا بالله حق الإيمان، لا يصح منكم ولا ينبغي لكم أن تتخذوا الكافرين بالحق الذي آمنتم به أَوْلِياءَ أى نصراء وأصدقاء، تاركين ولاية إخوانكم المؤمنين ونصرتهم، فإن ذلك لا يتفق مع الإيمان، ولا يتناسب مع تعاليم دينكم.
فالآية الكريمة تنهى المؤمنين عن موالاة الكفرة. أى: عن مناصرتهم وإفشاء أسرار المؤمنين إليهم، وعن كل ما من شأنه أن يكون مضرة بالمؤمنين. كما قال- تعالى- في آية أخرى:
لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ «١».
وفي هذا النهى- أيضا- توبيخ للمنافقين الذين ما زال الحديث متصلا عن قبائحهم ورذائلهم، وتحذير من مسالكهم الخبيثة حيث كانوا يتركون ولاية المؤمنين وينضمون إلى صفوف الكافرين من اليهود وغيرهم ويقولون- كما حكى القرآن عنهم- نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ.
والاستفهام في قوله: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً للإنكار والتحذير من أن تقع هذه الموالاة منهم. والمراد بالسلطان: الحجة والدليل أى: إنكم إن اتخذتم الكافرين أولياء من دون المؤمنين، فقد جعلتم لله عليكم حجة في عقابكم، وفي تخليه عن نصرتكم ورعايتكم.
وتوجيه الإنكار إلى الإرادة دون متعلقها بأن يقال، أتجعلون. للمبالغة في التهويل من أمره ببيان أنه مما لا ينبغي أن تصدر عن العاقل إرادته، فضلا عن صدوره في نفسه.
قال بعضهم: وقد دلت الآية على تحريم موالاة المؤمنين للكافرين. قال الحاكم: وهي الموالاة في الدين والنصرة فيه. لا المخالقه والإحسان.
وقال الزمخشري: وعن صعصعة بن صوحان أنه قال لابن أخ له خالص المؤمن، وخالق الكافر والفاجر. فإن الفاجر يرضى منك بالخلق الحسن. وأنه يحق عليك أن تخالص المؤمن» «٢».
ثم بين- سبحانه- المصير الشنيع الذي سيصير إليه المنافقون يوم القيامة فقال- تعالى-:
إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً أى: في الطبقة السفلى من طبقاتها وسميت دركات لكونها متداركة أى: متتابعة بعضها تحت بعض. والدرك لغة في الدرك وهو كالدرج، إلا أن الدرج يقال باعتبار الصعود. والدرك يقال باعتبار النزول والحدور. ولذا قيل: درجات الجنة ودركات النار.
(١) سورة آل عمران الآية ٢٨
(٢) تفسير القاسمى ج ٥ ص ١٦٢١ [.....]
359
قال الآلوسى: والنار لها طبقات سبع: تسمى الأولى كما قيل: جهنم: والثانية: لظى.
والثالثة: الحطمة. والرابعة: السعير. والخامسة: سقر. والسادسة: الجحيم. والسابعة:
الهاوية. وقد تسمى النار جميعا باسم الطبقة الأولى، وبعض الطبقات باسم بعض لأن لفظ النار يجمعها... «١».
والمعنى: إن هؤلاء المنافقين الذين مردوا على النفاق. وسرى في طباعهم مسرى الدم سيكونون يوم القيامة في الطبقة السفلى من النار، ولن تجد لهم نصيرا ينصرهم من عذاب الله أو يدفع عنهم عقابه.
وإنما كان للمنافقين هذا العذاب الشديد، لأنهم أضافوا إلى كفرهم، الاستهزاء بالإسلام وأهله، وجمعوا بسوء طباعهم بين الكفر. والفسق والتضليل، والخداع، وإشاعة الفاحشة في صفوف المؤمنين، وغير ذلك من رذائلهم المتعددة، وقبائحهم المتنوعة.
قال بعض العلماء: ولكن من هو المنافق الذي يستحق أشد العقاب، ويكون في أعمق النيران يوم القيامة؟ نقول في الجواب عن ذلك: إنه المنافق الخالص الذي لم يكن فيه خصلة أو أكثر من خصلة فقط، ولكن هو الذي كفر بالله وبالرسالة المحمدية، ولم يكتف بذلك بل أظهر الإسلام ليفسد بين المسلمين ويتعرف أسرارهم.
ذلك أن النفاق درجات هذا أعلاها، وهو أشد الكفر. ودونه بعد ذلك مراتب تكون بين المسلمين ولا تخرج المسلم عن إسلامه، وإن كانت تجعل إيمانه ضعيفا. ومن ذلك ممالأة الحكام، والسكوت عن كلمة الحق مع النطق بالباطل ملقا وخداعا.
قيل لابن عمر- رضى الله عنهما-: ندخل على السلطان ونتكلم بكلام فإذا خرجنا تكلمنا بخلافه!! فقال: كنا نعده من النفاق.
ولقد جاء في الحديث الشريف ما يفيد أن المنافقين فريقان: فريق خلص للنفاق، وهذا منكوس القلب والنفس والفكر. وقسم فيه خصلة من النفاق، وهذا يتنازعه الخير والشر. فقد قال- عليه الصلاة والسلام- فيما رواه الإمام أحمد. «القلوب أربعة قلب أجرد فيه مثل السراج يزهر. وقلب أغلف مربوط على غلافه. وقلب منكوس، وقلب مصفح. فأما القلب الأجرد، فقلب المؤمن سراجه فيه نوره. وأما القلب الأغلف: فقلب الكافر. وأما القلب المنكوس: فقلب المنافق الخالص عرف ثم أنكر، وأما القلب المصفح: فقلب فيه إيمان ونفاق.
(١) تفسير الآلوسى ج ٥ ص ١٧٧.
360
ومثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب. ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح والدم. فأى المادتين غلبت على الأخرى غلبت عليه».
وإننا لهذا نقول: إن النفاق في داخل الإسلام مراتب. وأعلاها أولئك الذين يتملقون الحكام، وينحدرون إلى درجة وضعهم في مقام النبيين. ومنهم من يذهب به فرط نفاقه، فيفضل بعض عملهم على عمل النبيين، وهؤلاء نتردد في الحكم بأنهم مسلمون. وقريب منهم الذين يتأولون النصوص من غير حجة في التأويل. ويعبثون بظواهرها القاطعة لهوى الحكام «١».
ثم بعد هذا الوعيد الشديد للمنافقين فتح- سبحانه- باب التوبة ليدخل فيه كل من يريد أن يقلع عن ذنوبه من المنافقين وغيرهم، حتى ينجو من عقابه- سبحانه- فقال: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ، وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ، فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً.
أى: هذا الجزاء الذي بيناه هو جزاء المنافقين. لكن الذين تابوا منهم عن النفاق، وأصلحوا ما أفسدوا من أقوالهم وأفعالهم وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ أى تمسكوا بكتابه، وتركوا موالاة الكافرين وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ بحيث لا يريدون بطاعتهم سوى رضاه ومثوبته، فَأُولئِكَ الذين فعلوا ذلك مَعَ الْمُؤْمِنِينَ الصادقين الذين لم يصدر منهم نفاق. أى: معهم في فضيلة الإيمان الصادق، وما يترتب على ذلك من أجر جزيل. وثواب عظيم. «وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما» لا يقادر قدره، ولا يكتنه كنهه.
فقوله: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا استثناء من المنافقين في قوله إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ.
قال الفخر الرازي ما ملخصه: اشترط- سبحانه- في إزالة العقاب عن المنافقين أمورا أربعة:
أولها: التوبة.
وثانيها: إصلاح العمل. فالتوبة عبارة عن ترك القبيح، وإصلاح العمل عبارة عن الإقدام على الحسن.
وثالثها: الاعتصام بالله. وهو أن يكون غرضه من التوبة وإصلاح العمل طلب مرضاة الله.
(١) تفسير الآية الكريمة لفضيلة أستاذنا الجليل الشيخ محمد أبو زهرة مجلة لواء الإسلام السنة ١٧ العدد ١٢.
361
ورابعها: الإخلاص: بأن يكون طلب مرضاة الله خالصا وأن لا يمتزج به غرض آخر «١».
والإشارة في قوله فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ تعود إلى الاسم الموصول وهو الَّذِينَ باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة.
والمقصود بالمعية في قوله «مع المؤمنين» التشريف والتكريم بصحبة الأخيار والتعبير «بسوف» لتأكيد وقوع الأمر المبشر به في المستقبل، وليس لمجرد التسويف الزمانى.
أى: وسوف يؤت الله المؤمنين ما وعدهم به إيتاء لا شك في حصوله ووقوعه. ونكر- سبحانه- الأجر ووصفه بالعظم، للتنويه بشأنه. ولإفادة أنه أجر لا يكتنه كنهه.
ثم بين- سبحانه- جانبا من مظاهر رحمته بعباده، وفضله عليهم فقال- تعالى-:
ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً.
وما استفهامية. والمراد بالاستفهام هنا النفي والإنكار على أبلغ وجه وآكده والجملة الكريمة استئنافية مسوقة لبيان أن مدار تعذيبهم وجودا وعدما إنما هو كفرهم ومعاصيهم لا لشيء آخر.
والمعنى: أى منفعة له- سبحانه- في عذابكم وعقوبتكم إن شكرتم نعمه، وأديتم حقها، وآمنتم به حق الإيمان؟ لا شك أنه- سبحانه- لا يفعل بكم شيئا من العذاب ما دام الشكر والإيمان واقعين منكم فقد اقتضت حكمته- سبحانه- أن لا يعذب إلا من يستحق العذاب، بل إنه- سبحانه- قد يتجاوز عن كثير من ذنوب عباده رحمة منه وفضلا.
وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذا المعنى بقوله: قوله ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ أيتشفى به من الغيظ؟ أم يدرك به الثأر؟ أم يستجلب به نفعا؟ أم يستدفع به ضررا؟ كما هو شأن الملوك.
وهو الغنى المتعالي الذي لا يجوز عليه شيء من ذلك. وإنما هو أمر اقتضته الحكمة أن يعاقب المسيء. فإن قمتم بشكر نعمته وآمنتم به فقد أبعدتم عن أنفسكم استحقاق العذاب «٢».
وما في محل نصب ب يَفْعَلُ لأن الاستفهام له الصدارة. والباء في قوله «بعذابكم» سببية متعلقة بيفعل. والاستفهام هنا معناه النفي كما سبق أن أشرنا. وعبر عن النفي بالاستفهام للإشارة إلى أنه- سبحانه- رتب الجزاء على العمل وأنه يجب على كل عاقل أن يدرك أن عدالة الله قد اقتضت أنه- سبحانه- لا يضيع أجر من أحسن عملا، وأنه لا يعذب إلا من يستحق العذاب، ويعفو عن كثير من السيئات بفضله ومنته.
(١) تفسير الفخر الرازي ج ١١ ص ٨٨.
(٢) تفسير الكشاف ج ١ ص ٥٨١- بتصرف يسير-.
362
وقوله: إِنْ شَكَرْتُمْ جوابه محذوف دل عليه ما تقدم. أى: إن شكرتم وآمنتم فما الذي يفعله بعذابكم؟
وقدم الشكر على الإيمان، لأن الشكر سبب في الإيمان، إذ الإنسان عند ما يرى نعم الله، ويتفكر فيها ويقدرها حق قدرها، يسوقه ذلك إلى الإيمان الحق، فالشكر يؤدى إلى الإيمان والإيمان متى رسخ واستقر في القلب ارتفع بصاحبه إلى أسمى ألوان الشكر وأعظمها. فعطف الإيمان على الشكر من باب عطف المسبب على السبب.
وقوله: وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً تذييل قصد به تأكيد ما سبق من الله- سبحانه- لا يعذب عباده الشاكرين المؤمنين.
أى: وكان الله شاكرا لعباده على طاعتهم. أى مثيبهم ومجازيهم الجزاء الحسن على طاعتهم، عليما بجميع أقوالهم وأفعالهم، وسيجازى كل إنسان بما يستحقه. فالمراد بالشكر منه- سبحانه- مجازاة عباده بالثواب الجزيل على طاعتهم له ووقوفهم عند أمره ونهيه.
وسمى- سبحانه- ثواب الطائعين شكرا منه، للتنويه بشأن الطاعة، وللتشريف للمطيع، ولتعليم عباده أن يشكروا للمحسنين إحسانهم. فمن لا يشكر الناس لا يشكر الله، ورحم الله الإمام ابن القيم حيث يقول:
وهو الشكور. فلن يضيع سعيهم لكن يضاعفه بلا حسبان
ما للعباد عليه حق واجب هو أوجب الأجر العظيم الشان
كلا ولا عمل لديه بضائع إن كان بالإخلاص والإحسان
إن عذبوا فبعدله، أو نعموا فبفضله، والحمد للرحمن
وإلى هنا نرى أن الآيات الكريمة التي بدأت بقوله- تعالى-: بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ قد كشفت عن حقيقة النفاق والمنافقين في المجتمع الإسلامى، وأماطت اللثام عن طباعهم المعوجة، وأخلاقهم القبيحة، ومسالكهم الخبيثة، وهممهم الساقطة، ومصيرهم الأليم. وذلك لكي يحذرهم المؤمنون، ويتنبهوا إلى مكرهم وسوء صنيعهم. ثم نرى الآيات الكريمة خلال ذلك تفتح باب التوبة للتائبين من المنافقين وغيرهم وتعدهم إن تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله بالأجر العظيم. وأخيرا تجيء تلك اللفتة العجيبة المؤثرة العميقة. أخيرا بعد ذكر العقاب المفزع الذي توعد الله به المنافقين، وبعد ذكر الأجر العظيم الذي وعد الله به المؤمنين. أخيرا بعد كل ذلك تجيء الآية الكريمة التي تنفى بأبلغ أسلوب أن يكون هناك عذاب من الله لعباده الشاكرين المؤمنين، لأنه- سبحانه- وهو الغنى الحميد، قد اقتضت حكمته وعدالته أن لا يعذب إلا من يستحق العذاب، وأنه- سبحانه- سيجازى الشاكرين المؤمنين
363
بأكثر مما يستحقون من خير عميم، ونعيم مقيم، وما أحكم قوله- تعالى-: ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً إنها لآية كريمة تحض الناس على أن يقبلوا على ربهم بقلب سليم فيعبدوه حق العبادة، ويطيعوه حق الطاعة لينالوا ثوابه وجزاءه الحسن يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً.
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك أنه يبغض الجهر بالسوء من القول إلا في أحوال تقتضي ذلك، وتوعد الكافرين به وبرسله بالعذاب المهين، وبشر المؤمنين حق الإيمان بالأجر العظيم فقال- تعالى-:
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٤٨ الى ١٥٢]
لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (١٤٨) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (١٤٩) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١٥٠) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٥١) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٥٢)
وقوله- تعالى-: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ نهى للمؤمنين عن الاسترسال في الجهر بالسوء إلا عند ما يوجد المقتضى لهذا الجهر.
وعدم محبته- سبحانه- لشيء كناية عن غضبه على فاعله وعدم رضاه عنه، والجهر بالقول
364
معناه: النطق به في إعلان، ونشره بين الناس، وإذاعته فيهم فهو يقابل السر والإخفاء.
والقول السوء: هو الذي يسوء من يقال فيه ويؤذيه في شرفه، أو عرضه أو غير ذلك مما يلحق به شرا.
والمعنى: لا يحب الله- تعالى- لأحد من عباده أن يجهر بالأقوال السيئة أو الأفعال السيئة، إلا من وقع عليه الظلم فإنه يجوز له أن يجهر بالسوء من القول في الحدود التي تمكنه من رفع الظلم عنه دون أن يتجاوز ذلك، كأن يجهر الخصم بما ارتكبه خصمه في حقه من مآثم. وكأن يذكر المظلوم الظالم بالقول السيئ في المجالس العامة والخاصة متحريا البعد عن الكذب والبهتان.
قال القرطبي ما ملخصه: والذي يقتضيه ظاهر الآية أن للمظلوم أن ينتصر من ظالمه- ولكن مع اقتصاد- إن كان مؤمنا، فأما أن يقابل القذف بالقذف ونحوه فلا، وإن كان كافرا فأرسل لسانك وادع بما شئت من الهلكة وبكل دعاء كما فعل النبي ﷺ حيث قال: «اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسنى يوسف».
وإن كان مجاهرا بالظلم دعا عليه الداعي جهرا، ولم يكن لهذا المجاهر عرض محترم، ولا بدن محترم ولا مال محترم. وقد روى أبو داود عن عائشة أنها قالت: سرق لها شيء فجعلت تدعو عليه- أى على السارق- فقال رسول الله ﷺ «لا تسبخى عنه» أى: لا تخففى عنه العقوبة بدعائك عليه. وروى أبو داود- أيضا- عن عمرو بن الشريد عن أبيه عن رسول ﷺ قال:
«لي الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته» أى: المماطلة من القادر على دفع الحقوق لأصحابها ظلم يبيح للناس أن يذكروه بالسوء «١».
وقول السوء بدون مقتض يبغضه الله سواء أكان هذا القول سرا أم جهرا إلا أنه- سبحانه- خص الجهر بالذكر لأنه أشد فحشا، ولأنه أكثر جلبا للعداوة بين الناس، وأشد تأثيرا في إشاعة الجرائم في المجتمع، فإن كثرة سماع الناس للكلام السيئ. وللقول الماجن، يغرى الكثير منهم بترديد ما سمعوه، وبحكايته في أول الأمر بشيء من الحياء، ثم لا يلبث هذا الحياء أن يزول بسبب إلف الناس للكثير من الألفاظ النابية، والأقوال السيئة.
وأنت تقرأ القرآن فتراه في عشرات الآيات يأمر أتباعه بالمداومة على النطق بالكلام الطيب حتى تنتشر بينهم المحبة والمودة. ومن ذلك قوله- تعالى-: وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً «٢».
(١) تفسير القرطبي ج ٦ ص ٣.
(٢) سورة الأسراء الآية ٥٣.
365
والخلاصة أن الإسلام يحب لأتباعه أن يلتزموا النطق بالكلمة الطيبة، ويكره لهم أن يجهروا بالسوء من القول إلا في حالة وقوع ظلم عليهم، ففي هذه الحالة يجوز لهم أن يجهروا بالسوء من القول حتى يرتدع الظالم عن ظلمه.
والاستثناء في قوله إِلَّا مَنْ ظُلِمَ استثناء منقطع، فتكون إلا بمعنى لكن.
أى: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول لكن من ظلم له أن يجهر بالسوء لكي يدفع ما وقع عليه من ظلم.
ويحتمل أن يكون متصلا فيكون المعنى: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول من أحد إلا ممن ظلم فإنه يجوز له أن يجهر بالسوء من القول لرفع الظلم عنه فيكون الاستثناء من الفاعل المحذوف وهو- من أحد- أو: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا جهر من ظلم فإنه ليس بخارج عن محبة الله لأن دفع الظلم واجب. فيكون الكلام على تقدير مضاف محذوف.
وقوله: وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً تذييل قصد به التحذير من التعدي في الجهر المأذون فيه، ووعد للمظلوم بأنه- تعالى- يسمع شكواه ودعاءه، ويعلم ظلم ظالمه.
أى: وكان الله سميعا لكل ما يسر به المسرون أو يجهر به المجاهرون، عليما بما يدور في النفوس من بواعث وهواجس، وسيجازى كل إنسان بأقواله وأعماله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
ثم أكد- سبحانه- هذا المعنى، وحض على العفو والصفح وفعل الخير فقال: إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ، فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً.
أى: إن تظهروا- أيها الناس- خَيْراً من طاعة وبر وقول حسن، وفعل حسن، أو تُخْفُوهُ أى، تخفوا هذا الخير بأن تعملوه سرا أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ بأن تصفحوا عمن أساء إليكم، يكافئكم الله- تعالى- على ذلك مكافأة حسنة، ويتجاوز عن خطاياكم، فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً أى: كثير العفو عن العصاة مع كمال قدرته على مؤاخذتهم ومعاقبتهم فاقتدوا بهذه الصفات الحميدة لتنالوا محبة الله ورضاه.
فالآية الكريمة تدعو الناس إلى الإكثار من فعل الخير سواء أكان سرا أم جهرا، كما تدعو إلى العفو عن المسيئين إليهم.
قال ابن كثير: وفي الحديث الصحيح: «ما نقص مال من صدقة. وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا. وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله» «١».
(١) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٥٧١.
366
وقال الفخر الرازي: اعلم أن معاقد الخير على كثرتها محصورة في أمرين: صدق مع الحق وخلق مع الخلق. والذي يتعلق بالخلق محصور في قسمين: إيصال نفع إليهم ودفع ضرر عنهم. فقوله. إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ إشارة إلى إيصال النفع إليهم. وقوله: أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ إشارة إلى دفع الضرر عنهم. فدخل في هاتين الكلمتين جميع أنواع الخير وأعمال البر «١».
ثم بين- سبحانه- رذائل أهل الكتاب وأباطيلهم وسوء مصيرهم بعد حديثه القريب عن المنافقين.. فقال- تعالى- إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ بأن يجحدوا وحدانية الله، وينكروا صدق رسله- عليهم الصلاة والسلام- وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ أى يريدون أن يفرقوا بين الإيمان بالله- تعالى- وبين الإيمان برسله، بأن يعلنوا إيمانهم بوجود الله- تعالى- وأنه خالق هذا الكون، إلا أنهم يكفرون برسله أو ببعضهم.
قال القرطبي: نص- سبحانه- على أن التفريق بين الإيمان بالله والإيمان برسله كفر، وإنما كان كفرا لأن الله سبحانه- فرض على الناس أن يعبدوه بما شرع لهم على ألسنة الرسل، فإذا جحدوا رسالة الرسل فقد ردوا عليهم شرائعهم ولم يقبلوها منهم، فكانوا ممتنعين من التزام العبودية التي أمروا بالتزامها، فكان كجحد الصانع- سبحانه- وجحد الصانع كفر لما فيه من ترك التزام الطاعة والعبودية. وكذلك التفريق بين رسله في الإيمان بهم كفر «٢».
وقوله- تعالى- وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ حكاية لما نطقوا به من كفر وجحود. أى. ويقولون على سبيل التبجح والعناد: نؤمن ببعض الرسل ونكفر ببعضهم كما قال اليهود نؤمن بموسى والتوراة ونكفر بما وراء ذلك. وكما قال النصارى. نؤمن بعيسى والإنجيل ونكفر بما سوى ذلك.
وقوله وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا أى ويريدون بقولهم هذا أن يتخذوا بين الإيمان بالبعض والكفر بالبعض طريقا يسلكونه، ودينا يتبعونه مع أنه لا واسطة بينهما قطعا، لأن الرسل جميعا قد بعثهم الله- تعالى- لدعوة الناس إلى توحيده، وإخلاص العبادة له ونشر مكارم الأخلاق في الأرض. فمن كفر بواحد منهم كفر بهم جميعا.
وقوله أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً إخبار عن سوء مصيرهم، وشناعة عاقبتهم.
أى: أولئك الموصوفون بتلك الصفات القبيحة هم الكافرون الكاملون في الكفر،
(١) تفسير الفخر الرازي ج ١ ص ٩٠.
(٢) تفسير القرطبي ج ٦ ص ٤.
367
الراسخون في ظلماته، وأعتدنا أى وهيأنا وادخرنا للكافرين جميعا عذابا يهينهم ويذلهم جزاء كفرهم وجحودهم.
وقوله حَقًّا مصدر مؤكد لمضمون الجملة قبله، وعامله محذوف أى: أولئك الكافرون حق ذلك حقا. ويجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف. أى أولئك هم الكافرون كفرا حقا أى:
كفرا كاملا لا شك في وقوعه منهم وانغماسهم فيه.
هذا هو شأن الكافرين بالله ورسله، وتلك هي عاقبتهم أما المؤمنين الصادقون فقد بشرهم الله بقوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ حق الإيمان وآمنوا رُسُلِهِ جميعا وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أى: لم يفرقوا في الإيمان بين رسول ورسول بل آمنوا بهم جميعا.
أُولئِكَ الذين استقر الإيمان الكامل في قلوبهم، والذين وصفهم الله- تعالى- بتلك الأوصاف الحميدة سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ الله- تعالى- أُجُورَهُمْ التي وعدهم بها وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً أى: وكان الله وما زال كثير المغفرة والرحمة لمن هذه صفاتهم، وتلك نعوتهم.
والتعبير بسوف لتأكيد الأجر الذي وعدهم الله به، وللدلالة على أنه كائن لا محاولة وإن تراخى. وبذلك تكون الآيات الكريمة قد قابلت بين مصير الكافرين ومصير المؤمنين ليقلع الناس عن الكفر والمعاصي، ويستجيبوا لأوامر الله لينالوا رضاه.
ثم حكى- سبحانه- جانبا من الأسئلة المتعنتة التي كان اليهود يوجهونها إلى النبي ﷺ ومن النعم التي أنعم- سبحانه- بها عليهم ومن المنكرات التي قالوها وفعلوها، ومن العقوبات التي عاقبهم الله بها بسبب ظلمهم وفسوقهم.. استمع إلى القرآن وهو يحكى كل ذلك فيقول:
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٥٣ الى ١٦٢]
يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (١٥٣) وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (١٥٤) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥٥) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (١٥٦) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (١٥٧)
بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٥٨) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (١٥٩) فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (١٦٠) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦١) لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (١٦٢)
368
ذكر المفسرون في سبب نزول قوله- تعالى- يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ.. إلخ ذكروا روايات منها: ما أخرجه ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال: جاء أناس من اليهود إلى رسول
369
الله ﷺ فقالوا: يا محمد، إن موسى جاء بالألواح من عند الله، فأتنا أنت بالألواح من عند الله حتى نصدقك. فأنزل الله- تعالى- يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ. إلى قوله وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً وعن السدى: قالت اليهود: يا محمد، إن كنت صادقا فأتنا بكتاب من السماء كما جاء به موسى.
وعن قتادة: أنهم سألوه أن ينزل على رجال منهم بأعيانهم كتبا، تأمر بتصديقه واتباعه «١».
والمراد بأهل الكتاب هنا اليهود خاصة، بدليل سياق الآيات الكريمة التي ذكرت أوصافا تنطبق عليهم، وبدليل ما ذكرناه في سبب نزول الآيات.
والمعنى يسألك اليهود يا محمد على سبيل التعنت والعناد، أن تنزل عليهم كتابا من السماء مكتوبا جملة كما جاء موسى لآبائهم بالتوراة مكتوبة في الألواح جملة. أو يسألونك أن تنزل على رجال منهم بأعيانهم كتبا من السماء تأمرهم بتصديقك، وسؤالهم هذا مقصدهم من ورائه التعنت والجحود، ولو كانوا يريدون الإيمان حقا لما وجهوا إليك هذه الأسئلة المتعنتة لأن الأدلة القاطعة قد قامت على صدقك.
وعبر بالمضارع في قوله يَسْئَلُكَ لقصد استحضار حالتهم العجيبة في هذا السؤال، حتى لكأن السامع يراهم، وللدلالة على تكرار أسئلتهم وتجددها المرة تلو الأخرى بدون حياء أو خجل.
وقوله: فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً بيان للون من رذائلهم وقبائحهم، وتسلية للرسول ﷺ عما لحقه منهم من أذى وسوء أدب.
والفاء في قوله فَقَدْ سَأَلُوا معطوفة على جملة محذوفة والتقدير: لا تبتئس يا محمد من أقوال هؤلاء اليهود، ولا تهتم بأسئلتهم، فتلك شنشنة قديمة معروفة عن آبائهم، فقد سأل آباؤهم موسى أسئلة أكبر من ذلك فقالوا له: أرنا الله جهرة أى رؤية ظاهرة بحيث نعاينه ونشاهده بأبصارنا ويطلب إلينا الإيمان بك. ويصح أن تكون الفاء واقعة في جواب شرط مقدر، وإليه أشار صاحب الكشاف بقوله: فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ، جواب لشرط مقدر معناه (إن استكبرت ما سألوك فقد سألوا موسى أكبر من ذلك) وإنما أسند السؤال إليهم وإن وجد من آبائهم في أيام موسى وهم النقباء السبعون لأنهم كانوا على مذهبهم، وراضين بسؤالهم.
ومضاهين لهم في التعنت «٢».
أى: أن حاضر هؤلاء اليهود الذين يعيشون معك يا محمد كماضى آبائهم الأقدمين،
(١) تفسير ابن جرير ج ٦ ص ٧.
(٢) تفسير الكشاف ج ١ ص ٥٨٥.
370
وأخلاق الأبناء صورة من أخلاق الآباء، وجميعهم لا يبغون من سؤالهم الاهتداء إلى الحق وإنما يبغون إعنات الرسل- عليهم الصلاة والسلام- والإساءة إليهم.
والفاء في قوله: فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً تفسيرية كما في قولهم: توضأ فغسل وجهه.
وقوله: جَهْرَةً من الجهر الذي هو ضد الإخفاء. يقال جهر البئر- كمنع- واجتهرها، إذا أظهر ماءها. وجهر الشيء: كشفه، وجهر الرجل: رآه بلا حجاب.
أى: أرنا الله جهارا عيانا بحاسة البصر فيكون قوله جَهْرَةً مفعولا مطلقا، لأن لفظ جَهْرَةً نوع من مطلق الرؤية فيلاقى عامله في الفعل.
ويصح أن يكون حالا من المفعول الأول أى: أرنا الله مجاهرين معاينين وقوله: «فأخذتهم الصاعقة بظلمهم» بيان للعقوبة التي حلت بهم نتيجة سوء أدبهم وجرأتهم على خالقهم وعلى أنبيائهم.
والصاعقة- كما يقول ابن جرير-: كل أمر هائل رآه الرائي أو عاينه أو أصابه، حتى يصير من هوله وعظيم شأنه إلى هلاك وعطب وذهاب عقل صوتا كان ذلك أو نارا أو زلزلة أو رجفة «١».
وقال الراغب: الصاعقة على ثلاثة أوجه: الموت كقوله: فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ. والعذاب كقوله: أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ، والنار كقوله:
وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وما ذكره- سبحانه- إنما هي أشياء حاصلة من الصاعقة فإن الصاعقة هي الصوت الشديد في الجو، ثم يكون منه نار فقط، أو عذاب، أو موت، وهي في ذاتها شيء واحد. وهذه الأشياء تأثيرات منها «٢».
ويبدو أن المراد بالصاعقة هنا: ذلك الصوت الشديد المجلجل المزلزل المصحوب بنار هائلة، والذي كان من آثاره أن صعقوا: أى خروا مغشيا عليهم أو هلكوا، بسبب ظلمهم وعنادهم وفسوقهم عن أمر الله.
وقوله: ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً بيان لنوع ثالث من جرائمهم، ولمظهر من مظاهر رحمة الله بهم.
أى: أن هؤلاء الذين سألوا موسى رؤية الله جهرة، أخذتهم الصاعقة عقوبة لهم على
(١) تفسير ابن جرير ج ١ ص ٢٩٠
(٢) المفردات في غريب القرآن ص ٢٨١ للراغب الاصفهانى.
371
ظلمهم، لم يرتدعوا ولم ينزجروا، بل لجوا في طغيانهم وضلالهم فاتخذوا العجل معبودا لهم من دون الله مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ أى من بعد ما جاءتهم الدلائل القاطعة على وحدانية الله وصدق أنبيائه.
وقوله: فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ أى. عفونا عن اتخاذهم العجل إلها بعد أن تابوا وأقلعوا عن عبادته، لأن التوبة تجب ما قبلها.
وقوله: وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً أى. أعطينا موسى بفضلنا ومنتنا حججا بينات ومعجزات باهرات، وقوة وقدرة على الانتصار على من خالفه و (ثم) في قوله. ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ للتراخي الرتبى لأن اتخاذهم العجل إلها أعظم جرما مما حكاه الله عنهم من جرائم قبل ذلك.
وقوله مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بيان لفرط ضلالهم وانطماس بصيرتهم، لأنهم لم يعبدوا العجل عن جهالة، وإنما عبدوه من بعد ما وصلت إلى أسماعهم وعقولهم الدلائل الواضحة وعلى وحدانية الله، وعلى أن عبادة العجل لا يقدم عليها إنسان فيه شيء من التعقل وحسن الإدراك.
واسم الإشارة في قوله فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ يعود إلى اتخاذ العجل معبودا من دون الله.
والجملة الكريمة حض لليهود المعاصرين للعهد النبوي على الدخول في الإسلام فإنهم متى فعلوا ذلك غفر الله لهم ما سلف من ذنوبهم كما غفر لآبائهم بعد أن تابوا من عبادة العجل.
هذا، وما حكته هذه الآية الكريمة من جرائم بنى إسرائيل بصورة مجملة قد جاء مفصلا في مواطن أخرى ومن ذلك قوله- تعالى-: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ. ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ «١».
ثم بين- سبحانه- لونا آخر من عنادهم وجحودهم فقال: وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ.
قال ابن كثير: وذلك أنهم حين امتنعوا عن الالتزام بأحكام التوراة، وظهر منهم إباء عما جاء به موسى- عليه السلام- رفع الله على رءوسهم جبلا. ثم ألزموا فالتزموا، وسجدوا،
(١) سورة البقرة الآيات من ٥٤، ٥٦ وراجع تفسيرها في كتابنا (بنو إسرائيل في القرآن والسنة) ج ١ ص ٤٦٢. [.....]
372
وجعلوا ينظرون إلى ما فوق رءوسهم خشية أن يسقط عليهم. كما قال- تعالى-: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ.. الآية «١».
وقوله- تعالى-: وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً أى: وقلنا لهم على لسان أنبيائهم ادخلوا باب القرية التي أمرناكم بدخولها ساجدين لله، أى: ادخلوها متواضعين خاضعين لله، شاكرين له فضله وكرمه، ولكنهم خالفوا ما أمرهم الله مخالفة تامة.
والمراد بالقرية التي أمرهم الله بدخول بابها ساجدين: قيل: هي بيت المقدس وقيل:
إيلياء، وقيل: أريحاء. وقد أبهمها الله- تعالى- لأنه لا يتعلق بذكرها مقصد أو غرض. ولم يرد في السنة الصحيحة بيان لها.
وقد تحدث القرآن عن قصة أمرهم بدخول هذه القرية ساجدين بصورة أكثر تفصيلا في سورتي البقرة والأعراف، فقال- تعالى- في سورة البقرة:
وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً، وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً، وَقُولُوا حِطَّةٌ، نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ٥٨ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ. فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ ٥٩.
وقوله: وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ أى: وقلنا لهم كذلك لا تتجاوزوا الحدود التي أمركم الله بالتزامها في يوم السبت والتي منها: ألا تصطادوا في هذا اليوم، ولكنهم خالفوا أمر الله، وتحايلوا على استحلال محارمه.
وقصة اعتداء اليهود على محارم الله في يوم السبت قد جاء ذكرها في كثير من آيات القرآن الكريم. ومن ذلك قوله- تعالى- في سورة البقرة: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ: كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ ٦٥ فَجَعَلْناها نَكالًا لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ٦٦.
وقال- تعالى- في سورة الأعراف: وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ، إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ، إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ: كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ. الآية ١٦٣.
وقوله وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً أى: وأخذنا منهم عهدا مؤكدا كل التأكيد، وموثقا كل التوثيق، بأن يعملوا بما أمرهم الله به، ويتركوا ما نهاهم عنه. ولكنهم نقضوا عهودهم، وكفروا بآيات الله، ونبذوها وراء ظهورهم.
(١) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٥٧٣.
373
وأضاف- سبحانه- الأخذ إلى ذاته الكريمة تقوية لأمر هذا الميثاق، وتنويها بشأنه. وإشعارا بوجوب الوفاء به لأن ما أخذه الله على عباده من مواثيق من واجبهم أن يفوا بها إذ هو- سبحانه- وحده سيجازيهم على نكثهم ونقضهم لعهودهم.
ووصف- سبحانه- الميثاق الذي أخذه عليهم بالغلظ أى: بالشدة والقوة لأنه كان قويا في معناه وفي موضوعه وفي كل ما اشتمل عليه من أوامر ونواه وأحكام، ولأن نفوسهم كانت منغمسة في الجحود والعناد فكان من المناسب لها تأكيد العهد وتوثيقه لعلها ترعوى عن ضلالها وفسوقها عن أمر الله.
ثم عدد- سبحانه- ألوانا أخرى من جرائمهم التي عاقبهم عليها عقابا شديدا فقال- تعالى-: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ، وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ، وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ. وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ، بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا.
والفاء في قوله فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ للتفريع على ما تقدم من قوله وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً والباء للسببية، وما هنا مزيدة لتأكيد نقضهم للميثاق. والجار والمجرور متعلق بمحذوف لتذهب نفس السامع في تقديره كل مذهب في التهويل والتشنيع على هؤلاء الناقضين لعهودهم مع الله- تعالى- فيكون المعنى:
فبسبب نقض هؤلاء اليهود لعهودهم وبسبب كفرهم بآياتنا، وبسبب قتلهم لأنبيائنا، وبسبب أقوالهم الكاذبة. بسبب كل ذلك فعلنا بهم ما فعلنا من أنواع العقوبات الشديدة، وأنزلنا بهم ما أنزلنا من ذل ومهانة وصغار ومسخ.... إلخ.
ويرى بعضهم أن الجار والمجرور متعلق بقوله- تعالى- بعد ذلك حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ...
أى: فبسبب نقضهم للميثاق. وكفرهم بآيات الله حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم.
قال الفخر الرازي: واعلم أن القول الأول أولى ويدل عليه وجهان:
أحدهما: أن الكلام طويل جدا من قوله: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ إلى قوله: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ.
الثاني: أن تلك الجنايات المذكورة بعد قوله- تعالى- فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ عظيمة جدا. لأن كفرهم بآيات الله، وقتلهم الأنبياء، وإنكارهم للتكليف بقولهم: قلوبنا غلف، أعظم الذنوب، وذكر الذنوب العظيمة، إنما يليق أن يفرع عليه العقوبة العظيمة، وتحريم
374
بعض المأكولات عقوبة خفيفة فلا يحسن تعليقه بتلك الجنايات الكبيرة» «١».
فأنت ترى أن الله- تعالى- قد لعن بنى إسرائيل كما جاء في قوله- تعالى- فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ ومسخهم قردة وخنازير كما جاء في قوله- تعالى- فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ وكما في قوله- تعالى- قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ، مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ.
وتلك العقوبات كلها إنما كانت بسبب الجنايات والمنكرات التي سجلتها عليهم الآيات القرآنية والتي من أجمعها هذه الآيات التي معنا.
فالآيات التي معنا تسجل عليهم نقضهم للمواثيق، ثم تسجل عليهم- ثانيا- كفرهم بآيات الله.
وقد عطف- سبحانه- كفرهم بآياته على نقضهم للميثاق الذي أخذه عليهم مع أن ذلك الكفر من ثمرات النقض، للاشعار بأن النقض في ذاته إثم عظيم والكفر في ذاته إثم عظيم- أيضا- من غير التفات إلى أن له سببا أو ليس له سبب.
وسجل عليهم- ثالثا- قتلهم الأنبياء بغير حق. فقد قتلوا زكريا ويحيى وغيرهما من رسل الله- تعالى- ولا شك أن قتل الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- يدل على شناعة جريمة من قتلهم وعلى توغله في الجحود والعناد والفجور إلى درجة تعجز العبارات عن وصفها، لأنه بقتله للدعاة إلى الحق، لا يريد للحق أن يظهر ولا للفضيلة أن تنتشر، ولا للخير أن يسود، وإنما يريد أن تكون الأباطيل والرذائل والشرور هي السائدة في الأرض.
وقوله: بِغَيْرِ حَقٍّ ليس قيدا لأن قتل النبيين لا يكون بحق أبدا، وإنما المراد من قوله:
بِغَيْرِ حَقٍّ بيان أن هؤلاء القاتلين قد بلغوا النهاية في الظلم والفجور والتعدي. لأنهم قد قتلوا أنبياء الله بدون أى مسوغ يسوغ ذلك، وبدون أية شبهة تحملهم على ارتكاب ما ارتكبوا، وإنما فعلوا ما فعلوا لمجرد إرضاء أحقادهم وشهواتهم وأهوائهم...
وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذا المعنى بقوله، فإن قلت: وقتل الأنبياء لا يكون إلا بغير الحق فما فائدة ذكره؟ قلت. معناه أنهم قتلوهم بغير حق عندهم- ولا عند غيرهم-، لأنهم لم يقتلوا ولا أفسدوا في الأرض فيقتلوا. وإنما نصحوهم ودعوهم إلى ما ينفعهم فقتلوهم.
فلو سئلوا وأنصفوا من أنفسهم لم يذكروا وجها يستحقون به القتل «٢».
(١) تفسير الفخر الرازي ج ١١ ص ٩٧
(٢) تفسير الكشاف ج ١ ص ٤١٦
375
ثم سجل عليهم- رابعا- قولهم قُلُوبُنا غُلْفٌ.
وقوله: غُلْفٌ جمع أغلف- كحمر جمع أحمر- والشيء الأغلف هو الذي جعل عليه شيء يمنع وصول شيء آخر إليه.
والمعنى: أن هؤلاء الجاحدين قد قالوا عند ما دعاهم الرسول ﷺ إلى الحق إن قلوبنا قد خلقها الله مغطاة بأغطية غليظة، وهذه الأغطية جعلتنا لا نعى شيئا مما تقوله يا محمد، ولا نفقه شيئا مما تدعونا إليه، فهم بهذا الكلام الذي حكاه القرآن عنهم، يريدون أن يتنصلوا من مسئوليتهم عن كفرهم، لأنهم يزعمون أن قلوبهم قد خلقها الله بهذه الطريقة التي حالت بينهم وبين فهم ما يراد منهم.
وقريب من هذا قوله- تعالى- حكاية عن المشركين: وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ، وَفِي آذانِنا وَقْرٌ، وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ «١».
وقيل: إن قوله: غلف: جمع غلاف- ككتب وكتاب- وعليه يكون المعنى: أنهم قالوا إن قلوبنا غلف أى أوعية للعلم شأنها في ذلك شأن الكتب، فلا حاجة بنا يا محمد إلى ما تدعونا إليه، لأننا عندنا ما يكفينا.
والذي يبدو لنا أن التأويل الأول أولى، لأنه أقرب إلى سياق الآية، فقد رد الله عليهم بقوله: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا. والطبع معناه. إحكام الغلق على الشيء وختمه بحيث لا ينفذ إليه شيء آخر.
والمعنى: أن هؤلاء القائلين إن قلوبهم غلف كاذبون فيما يقولون، وتخليهم عن مسئولية الكفر ليس صحيحا. لأن كفرهم ليس سببه أن قلوبهم قد خلقت مغطاة بأغطية تحجب عنها إدراك الحق- كما يزعمون- بل الحق أن الله- تعالى- ختم عليها، وطمس معالم الحق فيها، بسبب كفرهم وأعمالهم القبيحة. فهو- سبحانه- قد خلق القلوب على الفطرة، بحيث تتمكن من اختيار الخير والشر، إلا أن هؤلاء اليهود قد أعرضوا عن الخير إلى الشر، واختاروا الكفر على الإيمان نتيجة انقيادهم لأهوائهم وشهواتهم. فالله- تعالى- طبع على قلوبهم بسبب إيثارهم سبيل الغي على سبيل الرشد، فصاروا لا يؤمنون إلا إيمانا قليلا لا قيمة له عند الله- تعالى-.
فقوله إِلَّا قَلِيلًا نعت لمصدر محذوف أى إلا إيمانا قليلا. كإيمانهم بنبوة موسى- عليه السلام- وإنما كان إيمانهم هذا لا قيمة له عند الله، لأن الإيمان ببعض الأنبياء والكفر
(١) سورة فصلت. الآية ٥
376
ببعضهم، يعتبره الإسلام كفرا بالكل كما سبق أن بينا في قوله- تعالى- إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا. أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا.
ومنهم من جعل قوله إِلَّا قَلِيلًا صفة لزمان محذوف أى: فلا يؤمنون إلا زمانا قليلا.
ومنهم من جعل الاستثناء في قوله إِلَّا قَلِيلًا من جماعة اليهود المدلول عليهم بالواو في قوله فَلا يُؤْمِنُونَ أى: فلا يؤمنون إلا عددا قليلا منهم كعبد الله بن سلام وأشباهه. والجملة الكريمة وهي قوله: طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ معترضة بين الجمل المتعاطفة. وقد جيء بها للمسارعة إلى رد مزاعمهم الفاسدة، وأقاويلهم الباطلة.
ثم سجل عليهم- خامسا وسادسا- جريمتين شنيعتين فقال: وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً.
والمراد بالكفر هنا: كفرهم بعيسى- عليه السلام- وهو غير الكفر المذكور قبل ذلك في قوله: طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ لأن المراد به هنا مطلق الجحود الذي لا يجعل الشخص يستقر على شيء، فهو إنكار مطلق للحق.
وقد أشار إلى هذا المعنى الآلوسى بقوله: وقوله: وَبِكُفْرِهِمْ عطف على بِكُفْرِهِمْ الذي قبله- وهو قوله- تعالى- بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ- ولا يتوهم أنه من عطف الشيء على نفسه ولا فائدة فيه لأن المراد بالكفر المعطوف: الكفر بعيسى. والمراد بالكفر المعطوف عليه: إما الكفر المطلق. أو الكفر بمحمد- صلى الله عليه وسلم- لاقترانه بقوله- تعالى- قُلُوبُنا غُلْفٌ. وقد حكى الله عنهم هذه المقالة في مواجهتهم له- عليه الصلاة والسلام- في مواضع. ففي العطف إيذان بصلاحية كل من الكفرين للسببية ويجوز أن يكون قوله:
وَبِكُفْرِهِمْ معطوف على قوله فَبِما نَقْضِهِمْ «١».
والبهتان: هو الكذب الشديد الذي لا تقبله العقول، بل يحيرها ويدهشها لغرابته وبعده عن الحقيقة. يقال: بهت فلان فلانا، إذا قال فيه قولا يدهشه ويحيره لغرابته وشناعته في الكذب والافتراء.
والمعنى: إن من أسباب لعن اليهود وضرب الذلة والمسكنة عليهم، كفرهم بعيسى- عليه السلام-، وهو الرسول المبعوث إليهم ليهديهم إلى الحق وإلى الطريق المستقيم. وافتراؤهم الكذب على مريم أم عيسى، ورميهم لها بما هي بريئة منه، وغافلة عنه، فقد اتهموها بالفاحشة
(١) تفسير الآلوسى ج ٦ ص ٩
377
لولادتها لعيسى من غير أب. وقد برأها الله- تعالى- مما نسبوه إليها. في قوله- تعالى- وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها، فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا، وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ «١».
وقوله: بُهْتاناً منصوب على أنه مفعول به لقوله- تعالى- وَقَوْلِهِمْ، فإنه متضمن معنى كلام نحو: قلت خطبة وشعرا. ويجوز أن يكون نعتا لمصدر محذوف، أى: وبكفرهم وقولهم على مريم قولا بهتانا. أو هو مصدر في موضع الحال أى: مباهتين. ووصفه بالعظم لشناعته وبلوغه النهاية في الكذب والافتراء.
ثم سجل عليهم بعد ذلك رذيلة سابعة ورد عليهم بما يخرس ألسنتهم، ويفضحهم على رءوس الأشهاد في كل زمان ومكان فقال: وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ، وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ والمسيح: لقب تشريف وتكريم لعيسى- عليه السلام- قيل: لقب بذلك لأنه ممسوح من كل خلق ذميم. وقيل: لأنه مسح بالبركة كما في قوله- تعالى-: وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وقيل لأن الله مسح عنه الذنوب.
أى: وبسبب قولهم على سبيل التبجح والتفاخر إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله، لعنهم الله وغضب عليهم، كما لعنهم وغضب عليهم- أيضا- بسبب جرائمهم السابقة.
وهذا القول الذي صدر عنهم هو في ذاته جريمة لأنهم قالوه على سبيل التبجح والتفاخر لقتلهم- في زعمهم- نبيا من أنبياء الله، ورسولا من أولى العزم من الرسل. وقولهم هذا وإن كان يخالف الحقيقة والواقع، إلا أنه يدل على أنهم أرادوا قتله فعلا، وسلكوا كل السبل لبلوغ غايتهم الدنيئة، فدسوا عليه عند الرومان، ووصفوه بالدجل والشعوذة، وحاولوا أن يسلموه لأعدائه ليصلبوه، بل زعموا أنهم أسلموه فعلا لهم، ولكن الله- تعالى- خيب سعيهم، وأبطل مكرهم، وحال بينهم وبين ما يشتهون، حيث نجى عيسى- عليه السلام- من شرورهم، ورفعه إليه دون أن يمسه سوء منهم.
ولا شك أن ما صدر عن اليهود في حق عيسى- عليه السلام- من محاولة قتله، واتخاذ كل وسيلة لتنفيذ غايتهم، ثم تفاخرهم بأنهم قتلوه وصلبوه، لا شك أن كل ذلك يعتبر من أكبر الجرائم لأنه من المقرر في الشرائع والقوانين أن من شرع في ارتكاب جريمة من الجرائم واتخذ كل الوسائل لتنفيذها، ولكنها لم تتم لأمر خارج عن إرادته، فإنه يعد من المجرمين الذين يستحقون العقاب الشديد.
(١) سورة التحريم الآية ١٢
378
واليهود قد اتخذوا كافة الطرق لقتل عيسى- عليه السلام- كما بينا-، ولكن حيل بينهم وبين ما يشتهون لأسباب خارجة عن طاقتهم. ومعنى هذا أنه لو بقيت لهم أية وسيلة لإتمام جريمتهم النكراء لما تقاعسوا عنها، ولأسرعوا في تنفيذها فهم يستحقون عقوبة المجرم في تفكيره، وفي نيته، وفي شروعه الأثيم، لارتكاب ما نهى الله عنه.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: كانوا كافرين بعيسى- عليه السلام- أعداء له، عامدين لقتله، يسمونه الساحر ابن الساحرة، والفاعل ابن الفاعلة، فكيف قالوا: إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ؟
قلت: قالوه على وجه الاستهزاء، كقول فرعون إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ. ويجوز أن يضع الله الذكر الحسن مكان ذكرهم القبيح في الحكاية عنهم، رفعا لعيسى عما كانوا يذكرونه به، وتعظيما لما أرادوا بمثله كقوله: لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ. الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً «١».
وقوله- تعالى- وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ رد على مزاعمم الكاذبة، وأقاويلهم الباطلة التي تفاخروا بها بأنهم قتلوا عيسى- عليه السلام-. أى: إن ما قاله اليهود متفاخرين به، وهو زعمهم أنهم قتلوا عيسى- عليه السلام-، هو من باب أكاذيبهم المعروفة عنهم فإنهم ما قتلوه، وما صلبوه ولكن الحق أنهم قتلوا رجلا آخر يشبه عيسى- عليه السلام- في الخلقة فظنوه إياه وقتلوه وصلبوه، ثم قالوا. إنا قتلنا المسيح ابن مريم رسول الله.
قال الفخر الرازي: قوله: شُبِّهَ مسندا إلى ماذا؟ إن جعلته مسندا إلى المسيح فهو مشبه به وليس بمشبه. وإن أسندته إلى المقتول فالمقتول لم يجر له ذكر؟ والجواب من وجهين:
الأول: أنه مسند إلى الجار والمجرور. وهو كقولك: خيل إليه. كأنه قيل: ولكن وقع لهم الشبه. الثاني: أن يسند إلى ضمير المقتول، لأن قوله: وَما قَتَلُوهُ يدل على أنه وقع القتل على غيره فصار ذلك الغير مذكورا بهذا الطريق فحسن إسناد شُبِّهَ إليه «٢».
وقال فضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف قوله: وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ زعم أكثر اليهود أنهم قتلوا المسيح وصلبوه، فأكذبهم الله- تعالى- في ذلك وقال: وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ. أى:
شبه لهم المقتول بأن ألقى عليه شبه المسيح فلما دخلوا عليه ليقتلوه- أى ليقتلوا المسيح- وجدوا الشبيه فقتلوه وصلبوه، يظنونه المسيح وما هو في الواقع، إذ قد رفع الله عيسى إلى السماء، ونجاه من شر الأعداء.
(١) وتفسير الكشاف ج ١ ص ٥٨٧
(٢) تفسير الفخر الرازي ج ١١ ص ٩٩
379
وقيل المعنى: ولكن التبس عليهم الأمر حيث ظنوا المقتول عيسى كما أوهمهم بذلك أحبارهم «١».
هذا، وللمفسرين في بيان كيفية التشبيه لهم وجوه من أهمها اثنان:
الأول: أن الله- تعالى- ألقى شبه عيسى- عليه السلام- على أحد الذين خانوه ودبروا قتله وهو (يهوذا الإسخربوطى) الذي كان عينا وجاسوسا على المسيح، والذي أرشد الجند الذين أرادوا قتله إلى مكانه، وقال لهم: من أقبله أمامكم يكون هو المسيح، فاقبضوا عليه لتقتلوه، فدخل بيت عيسى ليدلهم عليه ليقتلوه فرفع الله عيسى، وألقى شبهه على المنافق، فدخلوا عليه فقتلوه وهم يظنون أنه عيسى.
وهذا الوجه قد جاء مفصلا في بعض الأناجيل وأشار إليه الآلوسى بقوله: كان رجل من الحواريين ينافس عيسى- عليه السلام- فلما أرادوا قتله قال: أنا أدلكم عليه، وأخذ على ذلك ثلاثين درهما، فدخل بيت عيسى- عليه السلام- فرفع الله عيسى، وألقى شبهه على المنافق، فدخلوا عليه فقتلوه، وهم يظنون أنه عيسى «٢».
الثاني: أن الله- تعالى- ألقى شبه المسيح على أحد تلاميذه المخلصين حينما أجمعت اليهود على قتله، فأخبره الله بأنه سيرفعه إليه، فقال لأصحابه أيكم يرضى أن يلقى عليه شبهي فيقتل ويصلب ويدخل الجنة؟ فقال رجل منهم أنا. فألقى الله صورة عيسى عليه، فقتل ذلك الرجل وصلب.
وقد أطال الإمام ابن كثير في ذكر الروايات التي تؤيد هذا الوجه، ومنها قوله: عن ابن عباس قال: لما أراد الله- تعالى- أن يرفع عيسى إلى السماء، خرج على أصحابه وفي البيت اثنا عشر رجلا من الحواريين فقال لهم إن منكم من يكفر بعدي اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن بي.
قال: ثم قال: أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني، ويكون معى في درجتي؟
فقام شاب من أحدثهم سنا. فقال له: اجلس. ثم أعاد عليهم. فقام ذلك الشاب. فقال له: اجلس. ثم أعاد عليهم. فقام ذلك الشاب. فقال: أنا. فقال له عيسى، هو أنت ذاك.
فألقى عليه شبه عيسى. ورفع عيسى من روزنة في البيت إلى السماء. قال: وجاء الطلب من اليهود فأخذوا الشبه فقتلوه ثم صلبوه، فكفر به بعضهم اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن. قال ابن كثير: وهذا إسناد صحيح عن ابن عباس، ورواه النسائي عن أبى كريب عن أبى معاوية، وقال
(١) تفسير صفوة البيان ص ١٧٨ لفضيلة الأستاذ الشيخ حسنين مخلوف.
(٢) تفسير الآلوسى ج ٦ ص ١٠.
380
غير واحد من السلف: إنه قال لهم. أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني وهو رفيقي في الجنة... ؟ «١».
والذي يجب اعتقاده بنص القرآن الكريم أن عيسى- عليه السلام- لم يقتل ولم يصلب، وإنما رفعه الله إليه، ونجاه من مكر أعدائه، أما الذي قتل وصلب فهو شخص سواه.
ثم قال- تعالى-: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ. أى: وإن الذين اختلفوا في شأن عيسى من أهل الكتاب لفي شك دائم من حقيقة أمره. أى: في حيرة وتردد، ليس عندهم علم ثابت قطعى في شأنه، أو في شأن قتله، ولكنهم لا يتبعون فيما يقولونه عنه إلا الظن الذي لا تثبت به حجة. ولا يقوم عليه برهان.
ولقد اختلف أهل الكتاب في شأن عيسى اختلافا كبيرا. فمنهم من زعم أنه ابن الله.
وادعى أن في عيسى عنصرا إلهيا مع العنصر الإنسانى. وأن الذي ولدته مريم هو العنصر الإنسانى. ثم أفاض عليه بعد ذلك العنصر الإلهى.
ومنهم من قال: إن مريم ولدت العنصرين معا.
ولقد اختلفوا في أمر قتله. فقال بعض اليهود: إنه كان كاذبا فقتلناه قتلا حقيقيا، وتردد آخرون فقالوا: إن كان المقتول عيسى فأين صاحبنا. وإن كان المقتول صاحبنا فأين عيسى؟
وقال آخرون: الوجه وجه عيسى والبدن بدن صاحبنا.
إلى غير ذلك من خلافاتهم التي لا تنتهي حول حقيقة عيسى وحول مسألة قتله وصلبه «٢».
فالمراد بالموصول في قوله: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا ما يعم اليهود والنصارى جميعا. والضمير في قوله (فيه) يعود إلى عيسى- عليه السلام-.
وقوله مِنْهُ جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة الشك.
قال الآلوسى: وأصل الشك أن يستعمل في تساوى الطرفين، وقد يستعمل في لازم معناه وهو التردد مطلقا، وإن لم يترجح أحد طرفيه وهو المراد هنا. ولذا أكده بنفي العلم الشامل لذلك أيضا بقوله- سبحانه-: ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ «٣».
(١) تفسير ابن كثير ج ١ ص
(٢) إذا أردت المزيد من معرفة هذه المسألة فراجع تفسير القاسمى ج ٥ ص ١٦٢٩ إلى ص ١٧١٦. وتفسير المنار ج ٦ من ص ٢٣ إلى ٥٩
(٣) تفسير الآلوسى ج ٦ ص ١١
381
وقوله إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ الراجح أن الاستثناء فيه منقطع، أى ما لهم به من علم لكنهم يتبعون الظن.
وقيل: هو متصل، لأن العلم والظن يجمعهما مطلق الإدراك.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: قد وصفوا بالشك والشك أن لا يترجح أحد الجائزين.
ثم وصفوا بالظن والظن أن يترجح أحدهما فكيف يكونون شاكين ظانين؟ قلت: أريد أنهم شاكون ما لهم من علم قط، ولكن إن لاحت لهم أمارة ظنوا.
ولم يرتض هذا الجواب صاحب الانتصاف فقال: وليس في هذا الجواب شفاء الغليل.
والظاهر- والله أعلم- أنهم كانوا أغلب أحوالهم الشك في أمره والتردد، فجاءت العبارة الأولى على ما يغلب من حالهم، ثم كانوا لا يخلون من ظن في بعض الأحوال وعنده يقفون لا يرتفعون إلى العلم فيه البتة. وكيف يعلم الشيء على خلاف ما هو به؟ فجاءت العبارة الثانية على حالهم النادرة في الظن نافية عنهم ما يترقى عن الظن «١».
وقوله: وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً، بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً تأكيد لنجاة عيسى مما يزعمونه من قتلهم له، وبيان لما أكرمه الله به من رعاية وتشريف.
واليقين: هو العلم الجازم الذي لا يحتمل الشك والضمير في قوله وَما قَتَلُوهُ لعيسى.
وقوله يَقِيناً ذكر النحاة في إعرابه وجوها من أشهرها: أنه نعت لمصدر محذوف مأخوذ من لفظ قتلوه: أى: ما قتلوه قتلا يقينا، أى متيقنين معه من أن المقتول عيسى عليه السلام- وهذا فيه ترشيح للاختلاف والشك الذي اعتراهم.
أو هو حال مؤكدة لنفى القتل. أى انتفى قتلهم إياه انتفاء يقينا. فاليقين منصب على النفي. أى: أن: نفى كونه قد قتل أمر متيقن مؤكد مجزوم به، وليس ظنا كظنكم أو وهما كوهمكم يا معشر أهل الكتاب.
وقد أشار صاحب الكشاف إلى ذلك بقوله: قوله: وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً أى: وما قتلوه قتلا يقينا. أو ما قتلوه متيقنين كما ادعوا ذلك في قولهم إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ أو يجعل يَقِيناً تأكيدا لقوله: وَما قَتَلُوهُ كقولك: ما قتلوه حقا. أى حق انتفاء قتله حقا.
والمعنى: أن اليهود قد زعموا أنهم قتلوا عيسى- عليه السلام- وزعمهم هذا أبعد ما يكون عن الحق والصواب، لأن الحق المتيقن في هذه المسألة أنهم لم يقتلوه، فقد نجاه الله من مكرهم،
(١) تفسير الكشاف وحاشيته ج ١ ص ٨٥٧. [.....]
382
ورفع عيسى إليه، وكان الله عَزِيزاً. أى منيع الجناب، لا يلجأ إليه أحد إلا أعزه وحماه.
حَكِيماً في جميع ما يقدره ويقضيه من الأمور.
هذا، وجمهور العلماء على أن الله- تعالى- رفع عيسى إليه بجسده وروحه لا بروحه فقط قال بعض العلماء: والجمهور على أن عيسى رفع حيا من غير موت ولا غفوة بجسده وروحه إلى السماء. والخصوصية له- عليه السلام- هي في رفعه بجسده وبقائه فيها إلى الأمر المقدر له «١».
وفي بعضهم الرفع في قوله- تعالى- بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ بأنه رفع بالروح فقط.
وقد بسطنا القول في هذه المسألة عند تفسيرنا لسورة آل عمران في قوله تعالى-: إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ «٢».
وإِنْ هنا نافية بمعنى ما النافية، والمخبر عنه محذوف قامت صفته مقامه. أى: وما أحد من أهل الكتاب. وحذف أحد لأنه ملحوظ في كل نفى يدخله الاستثناء. نحو: ما قام إلا زيد. أى ما قام أحد إلا زيد.
وللمفسرين في تفسير هذه الآية اتجاهان:
الأول: أن الضمير في قوله قَبْلَ مَوْتِهِ يعود إلى عيسى- عليه السلام- وعليه يكون المعنى: وما من أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى- عند نزوله في آخر الزمان- حق الإيمان، قَبْلَ مَوْتِهِ أى: قبل موت عيسى، وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عيسى- عليه السلام- عَلَيْهِمْ أى: على أهل الكتاب شَهِيداً فيشهد عليهم بأنه قد أمرهم بعبادة الله وحده، وأنه قد نهاهم عن الإشراك معه آلهة أخرى.
وقد انتصر لهذا الاتجاه كثير من المفسرين وعلى رأسهم شيخهم ابن جرير. فقد قال- بعد سرد الأقوال في الآية-: وأولى الأقوال بالصحة والصواب قول من قال. تأويل ذلك: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى «٣».
وقد علق ابن كثير على ما رجحه ابن جرير بقوله: ولا شك أن الذي قاله ابن جرير هو الصحيح. لأن المقصود من سياق الآيات، بطلان ما زعمته اليهود من قتل عيسى وصلبه، وبطلان تسليم من سلم لهم من النصارى الجهلة ذلك. فقد أخبر الله- تعالى أن الأمر لم يكن
(١) تفسير صفوة البيان ص ١٠٩ لفضيلة الشيخ حسنين مخلوف
(٢) راجع تفسير الآية الكريمة في سورة آل عمران.
(٣) تفسير ابن جرير ج ٢ ص ٢٣
383
كذلك، وإنما شبه لهم فقتلوا الشبه وهم لا يتبينون ذلك. ثم إن الله- تعالى- رفع إليه عيسى، وإنه باق حي، وإنه سينزل قبل يوم القيامة.
ثم عقد ابن كثير فصلا عنونه بقوله: ذكر الأحاديث الواردة في نزول عيسى بن مريم إلى الأرض من السماء في آخر الزمان قبل يوم القيامة وأنه يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له.
ثم ساق ابن كثير جملة من الأحاديث في هذا المعنى منها ما رواه الشيخان عن أبى هريرة قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، وحتى تكون السجدة خيرا له من الدنيا وما فيها».
ثم يقول أبو هريرة: اقرؤا إن شئتم: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ «١».
أما الاتجاه الثاني: فيرى أصحابه أن الضمير في قوله قَبْلَ مَوْتِهِ يعود إلى الكتابي المدلول عليه بقوله: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ. وعليه يكون المعنى:
وما من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن بعيسى قبل موته أى قبل موت هذا الكتابي، لأنه عند ساعة الاحتضار يتجلى له الحق، ويتبين له صحة ما كان ينكره ويجحده فيؤمن بعيسى- عليه السلام- ويشهد بأنه عبد الله ورسوله، وأن الله واحد لا شريك له، ولكن هذا الإيمان لا ينفعه، لأنه جاء في وقت الغرغرة، وهو وقت لا ينفع فيه الإيمان، لانقطاع التكليف فيه.
قالوا: ويؤيد هذا التأويل قراءة أبى: إلا ليؤمنن به قبل موتهم- بضم النون وبميم الجمع-.
وقد صدر صاحب الكشاف كلامه بذكر هذا التأويل فقال ما ملخصه: والمعنى: وما من اليهود والنصارى أحد إلا ليؤمنن قبل موته بعيسى. وبأنه عبد الله ورسوله. يعنى: إذا عاين قبل أن تزهق روحه حين لا ينفعه إيمانه.
فإن قلت: ما فائدة الإخبار بإيمانهم بعيسى قبل موتهم؟ قلت فائدته الوعيد، وليكون علمهم بأنهم لا بد لهم من الإيمان به عن قريب عند المعاينة، وأن ذلك لا ينفعهم، بعثا لهم وتنبيها على معالجة الإيمان به في وقت الانتفاع به، وليكون إلزاما للحجة لهم.
وقيل: الضميران لعيسى بمعنى: وإن منهم أحد إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى وهم أهل الكتاب الذين يكونون في زمان نزوله «٢».
(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٥٧٧- بتصرف يسير-.
(٢) تفسير الكشاف ج ١ ص ٥٨٩
384
والذي نراه أولى أنه لا تعارض بين التأويلين. فإن كلا منهما حق في ذاته.
فكل كتابي عند ما تحضره الوفاة يعلم أن عيسى كان صادقا في نبوته، وأنه عبد الله، وأنه قد دعا الناس إلى عبادة الله وحده. وكذلك كل كتابي يشهد نزول عيسى في آخر الزمان سيؤمن به ويتبعه ويشهد بأنه صادق فيما بلغه عن ربه.
ثم حكى- سبحانه- ألوانا أخرى من جرائم اليهود، وحكى بعض العقوبات التي حلت بهم بسبب ظلمهم وبغيهم فقال- تعالى فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ، وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً، وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ، وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً.
والفاء في قوله فَبِظُلْمٍ للتفريع على جرائمهم السابقة، والباء للسببية، والتنكير للتهويل والتعظيم. والجار والمجرور متعلق بحرمنا. وقدم الجار والمجرور على عامله للتنبيه على قبح سبب التحريم.
والمعنى فبسبب ظلم عظيم شنيع وقع من أولئك اليهود حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم، ولو أنهم لم يقعوا في هذا الظلم الشديد لما حرم الله عليهم هذه الطيبات التي هم في حاجة إليها.
والآية الكريمة تعليل لبعض العقوبات التي نزلت بهم بسبب ظلمهم وبغيهم، ومن ضروب هذا الظلم والبغي ما سجله الله عليهم قبل ذلك من نقض للمواثيق، ومن كفر بآيات الله.
وما سجله عليهم- أيضا- بعد ذلك من صد عن سبيل الله، ومن أخذ للربا وقد نهاهم الله عن أخذه.
وهذه الطيبات التي حرمها الله عليهم منها ما حكاه- سبحانه- في سورة الأنعام بقوله:
وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ، وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ.
والتعبير عنهم بقوله: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا إيذان بشناعة ظلمهم، حيث إنهم وقعوا في هذا الظلم الشديد بعد توبتهم ورجوعهم عن عبادة العجل. وقولهم: إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ أى: تبنا ورجعنا إليك يا ربنا.
وقوله أُحِلَّتْ لَهُمْ هذه الجملة صفة للطيبات فهي في محل نصب.
والمراد من وصفها بذلك. بيان أنها كانت حلالا لهم قبل أن يرتكبوا ما ارتكبوا من موبقات.
أى: حرمنا عليهم طيبات كانت حلالا لهم، ثم حرمت عليهم بسبب بغيهم وظلمهم.
385
قال ابن كثير: يخبر- سبحانه- أنه بسبب ظلم اليهود، وبسبب ما ارتكبوه من ذنوب، حرمت عليهم طيبات كان قد أحلها لهم. وقرأ ابن عباس: طيبات كانت أحلت لهم. وهذا التحريم قد يكون قدريا. بمعنى أن الله قيضهم لأن يتأولوا في كتابهم، وحرفوا وبدلوا أشياء كانت حلالا لهم فحرموها على أنفسهم تضييقا، تنطعا. ويحتمل أن يكون شرعيا. بمعنى أنه- تعالى- حرم عليهم في التوراة أشياء كانت حلالا لهم قبل ذلك. كما قال- تعالى- كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ «١».
وقوله: وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً معطوف هو وما بعده من أخذهم الربا وغيره على الظلم الذي تعاطوه. من عطف الخاص على العام، لأن هذه الجرائم تفسير وتفصيل لظلمهم.
والصد والصدود: المنع. أى: وبسبب صدهم أنفسهم عن طريق الحق التي شرعها الله لعباده وصدهم غيرهم عنها صدا كثيرا، بسبب ذلك عاقبناهم وطردناهم من رحمتنا.
وقوله كَثِيراً صفة لمفعول محذوف منصوب بالمصدر وهو بِصَدِّهِمْ أى: وبصدهم عن سبيل الله جمعا كثيرا من الناس. أو صفة لمصدر محذوف، أى: وبصدهم عن سبيل الله صدا كثيرا. وقوله: وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ بيان للون آخر من رذائلهم وقبائحهم. أى: ومن أسباب تحريم بعض الطيبات عليهم ولعنهم، أخذهم الربا مع نهيهم عنه على ألسنة رسلنا، وأكلهم أموال الناس بالباطل، أى. على طريق الرشوة، والخيانة، والسرقة وغير ذلك من سائر الوجوه المحرمة.
وما حملهم على هذا الولوغ في المحرمات بشراهة وعدم مبالاة إلا أنانيتهم وبيعهم الدين بالدنيا. وقوله. وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ جملة حالية في محل نصب.
قال الآلوسي. وفي الآية دلالة على أن الربا كان محرما عليهم كما هو محرم علينا لأى النهى يدل على حرمة المنهي عنه، وإلا لما توعد- سبحانه- على مخالفته.
تلك هي بعض العقوبات التي عاقبهم الله بها في الدنيا. أما عقوبة هؤلاء اليهود في الآخرة فقد بينها- سبحانه- في قوله. وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً.
أى. وهيأنا وأعددنا للكافرين من أولئك اليهود الذين فسدت نفوسهم عذابا موجعا أليما، جزاء ظلمهم وفسوقهم عن أمر الله.
وقوله لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ احتراس قصد به إخراج من آمن منهم من هذا العذاب الأليم،
(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٤٨٥
386
لأن العذاب إنما هو للكافرين منهم فحسب، أما من آمن منهم كعبد الله بن سلام وأشباهه فلهم أجرهم عند ربهم.
وقد أكد- سبحانه- هذا المعنى بعد ذلك، بأن أكرم من يستحق الإكرام منهم، وبشره بالأجر العظيم فقال، لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ، وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ، وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ، وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً.
وقوله الرَّاسِخُونَ جمع راسخ. ورسوخ الشيء ثباته وتمكنه. يقال شجرة راسخة، أى ثابتة قوية لا تزحزحها الرياح ولا العواصف. والراسخ في العلم هو المتحقق فيه، الذي لا تؤثر فيه الشبهات، المتقن لما يعلمه إتقانا يبعده عن الميل والانحراف عن الحق.
وقوله، لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ استدراك من قوله قبل ذلك وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً وبيان لكون بعض أهل الكتاب على خلاف حال عامتهم في العاجل والآجل.
والمعنى: إن حال اليهود على ما وصف لكم من سوء خلق في الدنيا، ومن سوء عاقبة في الآخرة، لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ أى الثابتون فيه، المتقنون المستبصرون الذين أدركوا حقائقه وصدقوها وأذعنوا لها، ورسخت في نفوسهم رسوخا ليس معه شبهة تفسده، أو هوى يبعث به، أو ريب يزعزعه.
وَالْمُؤْمِنُونَ أى منهم. وقد وصفوا بالإيمان بعد وصفهم بما يوجبه وهو الرسوخ في العلم بطريق العطف المبنى على المغايرة بين المتعاطفين تنزيلا للاختلاف العنواني منزلة الاختلاف الذاتي.
وقوله يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ خبر لقوله الرَّاسِخُونَ. أى هؤلاء الراسخون في العلم من أهل الكتاب والمؤمنون منهم بالحق، يؤمنون بما أنزل إليك من قرآن، ويؤمنون بما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ من كتب سماوية على أنبياء الله ورسله.
وقوله: وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ للعلماء فيه وجوه من الإعراب أشهرها أنه منصوب على المدح.
أى: وأمدح المقيمين الصلاة.
قال صاحب الكشاف: وقوله وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ نصب على المدح لبيان فضل الصلاة وهو باب واسع. وقد فسره سيبويه على أمثلة وشواهد. ولا يلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحنا في خط المصحف: وربما التفت إليه من لم ينظر في الكتاب، ولم يعرف مذاهب العرب، وما لهم في النصب على الاختصاص من الافتنان وغبى عليه أن السابقين الأولين الذين مثلهم في التوراة
387
ومثلهم في الإنجيل، كانوا أبعد همة في الغيرة على الإسلام، وذب المطاعن عنه، من أن يتركوا في كتاب الله ثلمة ليسدها من بعدهم. وخرقا يرفوه من يلحق بهم وقيل: هو عطف على بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ أى: يؤمنون بالكتاب وبالمقيمين الصلاة وهم الأنبياء. وفي مصحف عبد الله: والمقيمون بالواو. وهي قراءة مالك بن دينار، والجحدري، وعيسى الثقفي «١».
وقوله: وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ معطوف على الرَّاسِخُونَ أو على الضمير المرفوع في يُؤْمِنُونَ. أو على أنه مبتدأ والخبر ما بعده وهو قوله. أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً.
والمراد بالجميع مؤمنو أهل الكتاب الصادقون في إيمانهم. فقد وصفهم- أولا- بالرسوخ في العلم، ثم وصفهم- ثانيا- بالإيمان الكامل بما أوحاه الله على أنبيائه من كتب وهدايات، ثم مدحهم- ثالثا- بإقامة الصلاة إقامة مستوفية لكل أركانها وسننها وآدابها وخشوعها، ثم وصفهم- رابعا- بإيتاء الزكاة لمستحقيها، ثم وصفهم- خامسا- بالإيمان بالله إيمانا حقا، وبالإيمان باليوم الآخر وما فيه من حساب وثواب وعقاب.
وبعد هذا الوصف الكريم لهؤلاء المؤمنين الصادقين، بين- سبحانه- حسن عاقبتهم فقال: أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً.
أى: أولئك الموصفون بتلك الصفات الجليلة سنؤتيهم يوم القيامة أجرا عظيم لا يعلم كنهه إلا علام الغيوب، لأنهم جمعوا بين الإيمان الصحيح وبين العمل الصالح.
هذا. والمتأمل في هذه الآيات الكريمة، يراها من أجمع الآيات التي تحدثت عن أحوال اليهود، وعن أخلاقهم السيئة، وعن فنون من رذائلهم وقبائحهم... فأنت تراها- أولا- تسجل عليهم أسئلتهم المتعنتة وسوء أدبهم مع الله، وعبادتهم للعجل من بعد أن قامت لديهم الأدلة على أن العبادة لا تكون إلا لله وحده، وعصيانهم لأوامر الله ونواهيه، ونقضهم للعهود والمواثيق، وكفرهم بآيات الله، وقتلهم الأنبياء بغير حق، وقولهم قلوبنا غلف، وبهتهم لمريم القانتة العابدة الطاهرة، وقولهم:
إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله إلى غير ذلك من الرذائل التي سجلها الله عليهم.
ثم تراها- ثانيا- تذكرهم وتذكر الناس جميعا ببعض مظاهر رحمة الله بهم، وعفوه عنهم، ونعمه عليهم، كما تذكرهم- أيضا- وتذكر الناس جميعا، ببعض العقوبات التي عاقبهم بها بسبب ظلمهم وبغيهم.
(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٥٩٠
388
وكأن الآيات الكريمة تقول لهم وللناس إن نعم الله على عباده لا تحصى ورحمته بهم واسعة، فاشكروه على نعمه، وتوبوا إليه من ذنوبكم، فإن الإصرار على المعاصي يؤدى إلى سوء العاقبة في الدنيا والآخرة.
ثم تراها- ثالثا- تدافع عن عيسى وأمه مريم دفاعا عادلا مقنعا وتبرئهما مما نسبه أهل الكتاب إليهما من زور وبهتان، وتصريح بأن أهل الكتاب لا حجة عندهم فيما تقولوه على عيسى وعلى أمه مريم، وأنهم في أقوالهم ما يتبعون إلا الظن، وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ثم تسوق الحقيقة التي لا باطل معها في شأن عيسى، بأن تبين بأن الذين زعموا أنهم قتلوه كاذبون مفترون فإنهم ما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم، وسيؤمنون به عند نزوله في آخر الزمان، أو عند ما يكونون في اللحظات الأخيرة من حياتهم، حين لا ينفع الإيمان.
ثم تراها- رابعا- لا تعمم في أحكامها، وإنما تحق الحق وتبطل الباطل فهي بعد أن تبين ما عليه اليهود من كفر وظلم وفسوق عن أمر الله، وتتوعدهم بالعذاب الشديد في الآخرة. بعد كل ذلك تمدح الراسخين في العلم منهم مدحا عظيما، وتكرم المؤمنين الصادقين منهم تكريما عظيما، وتبشرهم بالأجر الجزيل الذي يشرح صدورهم، ويطمئن قلوبهم. ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
هذا جانب مما اشتملت عليه هذه الآيات من عبر وعظات «لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد».
وبعد هذا الحديث المستفيض عن شبهات اليهود وسوء طباعهم. ساق- سبحانه- ما يشهد بصدق النبي ﷺ في دعوته، وأنه ليس بدعا من الرسل، بل هو واحد منهم إلا أنه خاتمهم، وأرفعهم منزلة عند الله- تعالى- فقال- سبحانه-:
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٦٣ الى ١٦٦]
إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (١٦٣) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (١٦٤) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٦٥) لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (١٦٦)
389
قال الإمام الرازي: اعلم أنه- تعالى- لما حكى أن اليهود سألوا رسول الله ﷺ أن ينزل عليهم كتابا من السماء، وذكر- سبحانه- بعد ذلك أنهم لا يسألون لأجل الاسترشاد، ولكن لأجل العناد واللجاج، وحكى أنواعا كثيرة من فضائحهم وقبائحهم... شرع- سبحانه- بعد ذلك في الجواب عن شبهاتهم فقال: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ «١».
وقوله أَوْحَيْنا من الإيحاء أو الوحى. والوحى في الأصل: الإعلام في خفاء عن طريق الإشارة، أو الإيماء، أو الإلهام، أو غير ذلك من المعاني التي تدل على أنه إعلام خاص، وليس إعلاما ظاهرا.
والمراد به هنا إعلام الله- تعالى- نبيه محمدا ﷺ ما أراد إعلامه به من قرآن أو غيره.
والمعنى: إنا أوحينا إليك يا محمد بكلامنا وأوامرنا ونواهينا وهداياتنا.. كما أوحينا إلى نبينا نوح وإلى سائر الأنبياء الذين جاءوا من بعده. فأنت يا محمد لست بدعا من الرسل، وإنما أنت رسول من عند الله- تعالى- تلقيت رسالتك منه- سبحانه- كما تلقاها غيرك من الرسل.
وأكد- سبحانه- خبر إيحائه صلى الله عليه وسلم، للاهتمام بهذا الخبر، ولإبطال ما أنكره المنكرون لوحى الله- تعالى- على أنبيائه ورسله فقد حكى القرآن عن الجاحدين للحق أنهم قالوا: ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ.
وبدأ سبحانه بنوح عليه السلام، لأنه الأب الثاني للبشرية بعد آدم عليه السلام، ولأن في
(١) تفسير الفخر الرازي ج ١١ ص ١٠٨
390
ذكره معنى التهديد لأولئك الجاحدين للرسالة السماوية، فقد أجاب الله تعالى، دعاءه في الكافرين فأغرقهم أجمعين.
قال الجمل: وإنما بدأ الله- تعالى- بذكر نوح- عليه السلام- لأنه أول نبي بعث بشريعة، وأول نذير على الشرك. وكان أول من عذبت أمته لردهم دعوته. وكان أطول الأنبياء عمرا «١».
والتشبيه في قوله: كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ تشبيه بجنس الوحى، وإن اختلفت أنواعه، واختلف الموحى به.
والكاف في قوله كَما نعت لمصدر محذوف، وما مصدرية. أى: إنا أوحينا إليك إيحاء مثل إيحائنا إلى نوح- عليه السلام-.
وقوله مِنْ بَعْدِهِ جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة للنبيين أى: والنبيين الكائنين من بعده أى: من بعد نوح.
وقوله: وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ معطوف على أوحينا إلى نوح، داخل معه في حكم التشبيه.
أى: أوحينا إليك يا محمد كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده، وكما أوحينا إلى إبراهيم بن آزر، وكما أوحينا إلى ابنه إسماعيل، وابنه إسحاق، وكما أوحينا إلى يعقوب بن إسحاق، وكما أوحينا إلى الأسباط وهم أولاد يعقوب.
قال الآلوسى: والأسباط هم أولاد يعقوب- عليه السلام- في المشهور. وقال غير واحد:
إن الأسباط في ولد إسحاق كالقبائل في أولاد إسماعيل وقد بعث منهم عدة رسل. فيجوز أن يكون- سبحانه- أراد بالوحي إليهم، الوحى إلى الأنبياء منهم. كما تقول: أرسلت إلى بنى تميم، وتريد أرسلت إلى وجوههم ولم يصح أن الأسباط الذين هم إخوة يوسف كانوا أنبياء، بل الذي صح عندي- وألف فيه الجلال السيوطي رسالة- خلافه» «٢».
وكرر- سبحانه- كلمة وَأَوْحَيْنا للإشعار بوجود فترة زمنية طويلة بين نوح وبين إبراهيم- عليهما السلام-.
ثم ذكر- سبحانه- عددا آخر من الأنبياء تشريفا وتكريما لهم فقال وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً.
(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ١ ص ٤٨٨
(٢) تفسير الآلوسى ج ٦ ص ١٦
391
أى: أوحينا إليك يا محمد كما أوحينا إلى هؤلاء الأنبياء السابقين، وكما أوحينا إلى عيسى ابن مريم الذي أنكر نبوته اليهود الذين يسألونك الأسئلة المتعنتة، وإلى أيوب الذي ضرب به المثل في الصبر، وإلى يونس بن متى الذي لم ينس ذكر الله وهو في بطن الحوت، وإلى هارون أخى موسى، وإلى سليمان بن داود الذي آتاه الله ملكا لم يؤته لأحد من بعده.
وقوله: وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً معطوف على قوله: أوحينا، وداخل في حكمه لأن إيتاء الزبور من باب الإيحاء.
وأوثر. قوله هنا: وآتينا على أوحينا لتحقق المماثلة في أمر خاص وهو إيتاء الكتاب بعد تحققها في مطلق الإيحاء.
والزبور- بفتح الزاى- اسم الكتاب الذي أنزله الله على داود- عليه السلام- قالوا: ولم يكن فيه أحكام، بل كان كله مواعظ وحكم وتقديس وتحميد وثناء على الله- تعالى-.
ولفظ (زبور) هنا بمعنى مزبور أى مكتوب. فهو على وزن فعول ولكن بمعنى مفعول. وزبر معناه كتب. أى: وآتينا داود كتابا مكتوبا.
ثم أجمل- سبحانه- بيان الرسل الذين أرسلهم فقال: وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ.
وقوله وَرُسُلًا منصوب بفعل مقدر قبله. أى: وأرسلنا رسلا قد أخبرناك عنهم، وقصصنا عليك أنباءهم فيما نزل عليك من قرآن قبل نزول هذه الآيات عليك. وأرسلنا رسلا آخرين غيرهم لم نقصص عليك أخبارهم لأن حكمتنا تقتضي ذلك، ولأن فيما قصصناه عليك من أخبار بعضهم عظات وعبرا لقوم يؤمنون.
هذا، وقد تكلم بعض العلماء عن عدد الأنبياء والرسل، واستندوا في كلامهم على أخبار وأحاديث لم تسلم أسانيدها من الطعن فيها.
قال ابن كثير: وقد اختلف في عدة الأنبياء والمرسلين، والمشهور في ذلك حديث أبى ذر الطويل، وذلك فيما رواه ابن مردويه في تفسيره حيث قال: حدثنا إبراهيم بن محمد. عن أبى إدريس الخولاني عن أبى ذر قال: قلت يا رسول الله: كم عدد الأنبياء؟ قال: «مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا. قلت يا رسول الله. كم الرسل منهم؟ قال: ثلاثمائة وثلاثة عشر..» «١».
وقوله: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً تشريف لموسى- عليه السلام- بهذه الصفة ولهذا يقال
(١) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٥٨٦
392
له: موسى الكليم. أى. وخاطب الله موسى مخاطبة من غير واسطة.
قال الجمل: والجملة إما معطوفة على قوله: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ عطف القصة على القصة، وإما حال بتقدير قد كما ينبئ عنه تغيير الأسلوب بالالتفات.
وقوله تَكْلِيماً مصدر مؤكد لعامله رافع لاحتمال المجاز.
قال الفراء: العرب تسمى ما وصل إلى الإنسان كلاما بأى طريق وصل. ما لم يؤكد بالمصدر. فإن أكد به لم يكن إلا حقيقة الكلام «١».
فدل قوله تَكْلِيماً على أن موسى قد سمع كلام الله- تعالى- حقيقة من غير واسطة، ولكن بكيفية لا يعلمها إلا هو- سبحانه-.
وقد ساق بعض المفسرين نقولا حسنة في مسألة كلام الله- تعالى- فارجع إليها إن شئت «٢».
وقوله: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ.
بيان لوظيفة الرسل- عليهم الصلاة والسلام- وللحكمة من إرسالهم. وقوله: رُسُلًا منصوب على المدح، أو بفعل مقدر قبله، أى: وأرسلنا رسلا. والمراد بالحجة هنا: المعذرة التي يعتذر بها الكافرون والعصاة.
أى: وكما أوحينا إليك يا محمد بما أوحينا من قرآن وهدايات. وأرسلناك للناس رسولا، فقد أرسلنا من قبلك رسلا كثيرين مبشرين من آمن وعمل صالحا يرضا الله عنه في الدنيا والآخرة، ومنذرين من كفر وعصى بسوء العقبى، وقد أرسل- سبحانه- الرسل مبشرين ومنذرين لكي لا يكون للناس على الله حجة يوم القيامة، أى لكي لا تكون لهم معذرة يعتذرون بها كأن يقولوا. يا ربنا هلا أرسلت إلينا رسولا فيبين لنا شرائعك، ويعلمنا أحكامك وأوامرك ونواهيك، فقد أرسلنا إليهم الرسل مبشرين ومنذرين لكي لا تكون لهم حجة يحتجون بها، كما قال- تعالى- وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى «٣».
قال الآلوسى: فالآية ظاهرة في أنه لا بد من الشرع وإرسال الرسل. وأن العقل لا يغنى عن ذلك. وزعم المعتزلة أن العقل كاف وأن مسألة الرسل إنما هو للتنبيه عن سنة الغفلة التي تعترى الإنسان من دون اختيار. فمعنى الآية عندهم: لئلا يبقى للناس على الله حجة.
(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ١ ص ٤٤٩
(٢) تفسير القاسمى ج ٥ من ص ١٧٢٣ إلى ص ١٧٥٢
(٣) سورة طه الآية ١٣٤ [.....]
.
393
وتسمية ما يقال عند ترك الإرسال حجة مع استحالة أن يكون لأحد عليه- سبحانه- حجة مجاز. بتنزيل المعذرة في القبول عنده- تعالى- بمقتضى كرمه ولطفه منزلة الحجة القاطعة التي لا مرد لها «١» ».
وقوله: حُجَّةٌ اسم يكون. وخبره قوله «للناس» وقوله: على الله حال من حجة.
وقوله: بَعْدَ الرُّسُلِ أى: بعد إرسال الرسل وتبليغ الشريعة على ألسنتهم وهو متعلق بالنفي أى: لتنتفى حجتهم واعتذارهم بعد إرسال الرسل.
قال ابن كثير: وقد ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود قال قال رسول الله ﷺ «لا أحد أغير من الله، ومن أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن. ولا أحد أحب إليه المدح من الله، ومن أجل ذلك مدح نفسه، ولا أحد أحب إليه العذر من الله، ومن أجل ذلك بعث النبيين مبشرين ومنذرين وفي لفظ آخر: «ومن أجل ذلك أرسل رسله وأنزل كتبه» «٢».
وقوله: وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً تذييل قصد به بيان قدرته التي لا تغالب وحكمته التي لا يحيط أحد بكنهها. أى: وكان الله- تعالى- وما زال هو القادر الغالب على كل شيء، الحكيم في جميع أفعاله وتصرفاته، وسيجازى الذين أساؤا بما عملوا، وسيجازى الذين أحسنوا بالحسنى.
هذا وللمرحوم الأستاذ الإمام محمد عبده كلام نفيس في كتابه (رسالة التوحيد) عن: حاجة البشر إلى إرسال الرسل، وعن وظيفتهم- عليهم الصلاة والسلام- ومما قاله في ذلك: الرسل يرشدون العقل إلى معرفة الله وما يجب أن يعرف من صفاته. ويبينون الحد الذي يجب أن يقف عنده في طلب ذلك العرفان. على وجه لا يشق عليه الاطمئنان إليه، ولا يرفع ثقته بما آتاه الله من القوة.
الرسل يبينون للناس ما اختلفت عليه عقولهم وشهواتهم. وتنازعته مصالحهم ولذاتهم.
فيفصلون في تلك المخاصمات بأمر الله الصادع. ويؤيدون بما يبلغون عنه ما تقوم به المصالح العامة. ولا يفوت به المصالح الخاصة.
الرسل يضعون لهم بأمر الله حدودا عامة. يسهل عليهم أن يردوا إليها أعمالهم. كاحترام الدماء البشرية إلا بحق. مع بيان الحق الذي تهدر له، وحظر تناول شيء مما كسبه الغير إلا بحق. مع بيان الحق الذي يبيح تناوله. واحترام الأعراض. مع بيان ما يباح وما يحرم من الأبضاع.
(١) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٥٨٨
(٢) تفسير الآلوسى ج ٦ ص ١٨
394
يحملونهم على تحويل أهوائهم عن اللذائذ الفانية إلى طلب الرغائب السامية آخذين في ذلك كله بطرف من الترغيب والترهيب والإنذار والتبشير حسبما أمرهم الله- جل شأنه-.
يفصلون في جميع ذلك للناس ما يؤهلهم لرضا الله عنهم وما يعرضهم لسخطه عليهم. ثم يحيطون بيانهم بنبإ الدار الآخرة، وما أعد الله فيها من الثواب وحسن العقبى، لمن وقف عند حدوده. وأخذ بأوامره.
وبهذا تطمئن النفوس، وتثلج الصدور، ويعتصم المرزوء بالصبر، انتظارا لجزيل الأجر. أو إرضاء لمن بيده الأمر. وبهذا ينحل أعظم مشكل في الاجتماع الإنسانى، لا يزال العقلاء يجهدون أنفسهم في حله إلى اليوم «١».
وقوله- سبحانه-: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ، وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً استدراك قصد به الرد على جحود أهل الكتاب للحق الذي جاء به النبي ﷺ فقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: دخل على رسول الله ﷺ جماعة من اليهود فقال لهم:
«إنى والله أعلم أنكم لتعلمون أنى رسول الله. فقالوا: ما نعلم ذلك. فأنزل الله قوله: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ. الآية «٢».
والمقصود من الآية الكريمة تسلية النبي ﷺ عن تكذيب كثير من الناس له، وإدخال الطمأنينة على قلبه، فكأنه- سبحانه- يقول له:
لم يشهد أهل الكتاب بأنك رسول من عند الله وصادق فيما تبلغه عنه لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أى: لكن الله يشهد بأن الذي أنزله إليك من قرآن هو الحق الذي لا ريب فيه.
وقوله: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ أى: أنزله بعلم تام، وحكمة بالغة، أو بما علمه من مصالح عباده في إنزاله عليك.
وقوله: وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ أى: والملائكة يشهدون بأنك صادق في رسالتك، وبأن ما أنزله الله عليك هو الحق الذي لا تحوم حوله شبهة.
وقوله. وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً أى: وكفى بشهادة الله شهادة بأنك على الحق وإن لم يشهد غيره لك. فإنه لا عبرة لإنكار المنكرين لنبوتك، ولا قيمة لجحود الجاحدين لما نزل عليك بعد شهادة الله لك بأنك نبيه ورسوله، لتخرج الناس بإذنه من ظلمات الجاهلية إلى نور الإسلام.
وقد أجاد صاحب الكشاف في توضيح تلك المعاني حيث قال: فإن قلت الاستدراك لا بد له
(١) رسالة التوحيد للأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده ص ١١٧ وما بعدها.
(٢) تفسير ابن جرير ج ٦ ص ٣١
395
من مستدرك فما هو في قوله: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ.
قلت: لما سأل أهل الكتاب إنزال كتاب من السماء، واحتج عليهم بقوله إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قال: لكن الله يشهد. بمعنى: أنهم لا يشهدون لكن الله يشهد...
ومعنى شهادة الله بما أنزل إليه، إثباته لصحته بإظهار المعجزات، كما تثبت الدعاوى بالبينات وشهادة الملائكة: شهادة بأنه حق وصدق.
فإن قلت: ما معنى قوله: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ قلت: معناه أنزله متلبسا بعلمه الخاص الذي لا يعلمه غيره. وهو تأليفه على نظم وأسلوب يعجز عنه كل بليغ وصاحب بيان، وموقعه مما قبله موقع الجملة المفسرة، لأنه بيان للشهادة. وقيل: أنزله وهو عالم بأنك أهل لإنزاله إليك وأنك مبلغه. ويحتمل: أنه أنزله وهو عالم به رقيب عليه حافظ له من الشياطين برصد من الملائكة، والملائكة يشهدون بذلك «١».
هذا، والمتأمل في هذه الآيات الكريمة يراها قد أثبتت صدق النبي ﷺ في رسالته بالأدلة الساطعة. والحجج الواضحة وبينت وظيفة الرسل- عليهم السلام- وحكمة الله في إرسالهم، وزادت للنبي ﷺ طمأنينة بأنه على الحق، لأن الله قد شهد له بذلك، وكفى بشهادة الله شهادة، مهما خالفها المخالفون، وأعرض عنها المعرضون.
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك ما عليه الكافرون من ضلال وخسران، وما سيصير إليه حالهم يوم القيامة من ذل ومهانة، ووجه إلى الناس جميعا نداء أمرهم فيه بالإيمان وترك الكفر والعصيان فقال- تعالى-:
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٦٧ الى ١٧٠]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (١٦٧) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (١٦٨) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (١٦٩) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧٠)
(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٥٩٢
396
وقوله: وَصَدُّوا من الصد بمعنى المنع والانصراف عن الشيء.
قال الراغب: والصد قد يكون انصرافا عن الشيء وامتناعا نحو: «يصدون عنك صدودا» وقد يكون صرفا ومنعا نحو: وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ.
والمعنى: إن الذين كفروا بالحق الذي جاءهم به محمد ﷺ وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أى:
وأعرضوا عن الطريق الذي أمر الله بسلوكه وهو طريق الإسلام ولم يكتفوا بذلك بل منعوا غيرهم أيضا عن سلوكه.
إنهم بفعلهم هذا قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيداً أى: قد ضلوا- بسبب كفرهم وصدهم أنفسهم والناس عن الحق- ضلالا بلغ الغاية في الشدة والشناعة.
ثم أكد- سبحانه- هذا المعنى بقوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بما يجب الإيمان به وَظَلَمُوا أنفسهم بإيرادها موارد التهلكة، وظلموا غيرهم بأن حببوا إليه الفسوق والعصيان وكرهوا إليه الطاعة والإيمان.
إن هؤلاء الذين جمعوا بين الكفر والظلم لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً. إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً.
أى: لم يكن الله ليغفر لهم، لأنه- سبحانه- لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، ولم يكن- سبحانه- ليهديهم طريقا من طرق الخير، لكنه- سبحانه- يهديهم إلى طريق تؤدى بهم إلى جهنم خالدين فيها أبدا، بسبب إيثارهم الغي على الرشد، والضلالة على الهداية، وبسبب فساد استعدادهم، وسوء اختيارهم.
والتعبير بالهداية في جانب طريق النار من باب التهكم بهم.
وقوله خالِدِينَ فِيها حال مقدرة من الضمير المنصوب في لِيَهْدِيَهُمْ، لأن المراد بالهداية هدايتهم في الدنيا إلى طريق جهنم. أى: ما يؤدى بهم إلى الدخول فيها.
وقوله أَبَداً منصوب على الظرفية، وهو مؤكد للخلود في النار رافع لاحتمال أن يراد بالخلود المكث الطويل.
أى: خالدين فيها خلودا أبديا بحيث لا يخرجون منها.
397
وقوله: وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً تذييل قصد به تحقير شأنهم، وبيان أنه- سبحانه- لا يعبأ بهم.
والمراد: وكان ذلك- أى: انتفاء غفران ذنوبهم، وانتفاء هدايتهم إلى طريق الخير، وقذفهم في جهنم وبئس المهاد- كان كل ذلك على الله يسيرا. أى: هينا سهلا لأنه- سبحانه- لا يستعصى على قدرته شيء.
ثم وجه- سبحانه- نداء إلى الناس جميعا يأمرهم فيه بالإيمان وينهاهم عن الكفر فقال:
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ.
أى: يا أيها المكلفون من الناس جميعا، قد جاءكم الرسول المشهود له بالصدق في رسالته، بالهدى ودين الحق من ربكم، فآمنوا به وصدقوه وأطيعوه، يكن إيمانكم خيرا لكم في الدنيا والآخرة.
فالخطاب في الآية الكريمة للناس أجمعين، سواء أكان عربيا أم غير عربي أبيض أم أسود، بعيدا أم قريبا... لأن رسالته ﷺ عامة وشاملة للناس جميعا.
والمراد بالرسول محمد ﷺ فأل فيه للعهد: وإيراده بعنوان الرسالة لتأكيد وجوب طاعته.
وقوله: بِالْحَقِّ متعلق بمحذوف على أنه حال أيضا من الرسول. أى: جاءكم الرسول ملتبسا بالحق الذي لا يحوم حوله باطل.
وقوله: مِنْ رَبِّكُمْ متعلق بمحذوف على أنه حال أيضا من الحق. أو متعلق بجاء. أى:
جاءكم من عند الله- تعالى- وليس متقولا.
ويرى بعضهم أن قوله خَيْراً خبر لكان المحذوفة مع اسمها، أى: فآمنوا به يكن إيمانكم خيرا لكم.
ويرى آخرون أنه صفة لمصدر محذوف. أى: فآمنوا إيمانا خيرا لكم. وهي صفة مؤكدة على حد أمس الدابر لا يعود، لأن الإيمان لا يكون إلا خيرا.
فأنت ترى أن هذه الجملة الكريمة قد حضت الناس على الإيمان بالرسول ﷺ لأنه لم يجئهم بشيء باطل وإنما جاءهم بالحق الثابت الموافق لفطرة البشر أجمعين، ولأنه لم يجئهم بما جاءهم به من عند نفسه وإنما جاءهم بما جاءهم به من عند الله- تعالى-. ولأنه لم يجئهم بما يفضى بهم إلى الشرور والآثام، وإنما جاءهم بما يوصلهم إلى السعادة في الدنيا وإلى الفوز برضا الله في الآخرة.
تلك هي عاقبة المؤمنين، أما عاقبة الكافرين فقد حذر- سبحانه- منها بقوله: وَإِنْ
398
تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً
، أى: وإن تكفروا- أيها الناس- فلن يضر الله كفركم، فإنه- سبحانه- له ما في السموات والأرض خلقا وملكا وتصرفا، وكان الله- تعالى- عليما علما تاما بأحوال خلقه، حكيما في جميع أفعاله وتدبيراته.
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد توعدت الكافرين بسوء المصير، وحضت الناس على الدخول في زمرة المؤمنين، وحذرتهم من الكفر حتى ينجوا يوم القيامة من عذاب السعير.
ثم وجهت السورة الكريمة بعد ذلك نداء إلى أهل الكتاب حذرتهم فيه من المغالاة في شأن عيسى- عليه السلام- وبينت لهم وللناس أن عيسى إنما هو عبد الله ورسوله، وبشرت المؤمنين بالأجر الجزيل، وأنذرت المستكبرين بالعذاب الأليم. استمع إلى القرآن الكريم وهو يرشد إلى كل ذلك فيقول:
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٧١ الى ١٧٥]
يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (١٧١) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (١٧٢) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧٣) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (١٧٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (١٧٥)
399
وقوله: لا تَغْلُوا أى: لا تتجاوزوا الحد المشروع. مأخوذ من الغلو، وهو- كما يقول القرطبي- التجاوز في الحد ومنه: غلا السعر يغلو غلاء. وغلا الرجل في الأمر غلوا. وغلا الجارية لحمها وعظمها، إذا أسرعت الشباب فجاوزت لداتها- أى: أترابها- «١».
وقد تجاوز أهل الكتاب الحد وغالوا في شأن عيسى. أما اليهود فقد أنكروا رسالته واتهموا أمه مريم بما هي منه بريئة.
وأما النصارى فقد رفعوا عيسى- عليه السلام- إلى مرتبة فوق مرتبة البشرية، واعتبره بعضهم إلها، واعتبره بعض آخر منهم ابنا لله، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
والمعنى: يا أهل الكتاب لا تتجاوزوا الحد المشروع والمعقول في شأن دينكم، ولا تقولوا على الله إلا القول الحق الذي شرعه الله- تعالى-، وارتضته العقول السليمة.
وقد ناداهم- سبحانه- بعنوان أهل الكتاب. للتعريض بهم، حيث إنهم خالفوا كتبهم التي بين أيديهم.
والخطاب هنا وإن كان يشمل أهل الكتاب جميعا من يهود ونصارى، إلا أن النصارى هم المقصودون هنا قصدا أوليا، بدليل سياق الآية الكريمة، فقد ذكرت حججا تبطل ما زعمه النصارى في شأن عيسى، ولذا قال ابن كثير ما ملخصه: قوله- تعالى- يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا: ينهى- سبحانه- أهل الكتاب عن الغلو والإطراء. وهذا كثير في النصارى، فإنهم تجاوزوا الحد في عيسى حتى رفعوه فوق المنزلة التي أعطاه الله إياها، فنقلوه من حيز النبوة إلى أن اتخذوه إلها من دون الله يعبدونه كما يعبدونه. بل قد غلوا في أتباعه وأشياعه ممن زعم أنه على
(١) تفسير القرطبي ج ٦ ص ٢١
400
دينه فادعوا فيهم العصمة واتبعوهم في كل ما قالوه سواء أكان حقا أم باطلا، أم ضلالا أم رشادا، ولهذا قال- تعالى- اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ.
وفي الصحيح عن عمر بن الخطاب أن رسول الله ﷺ قال: «لا تطرونى كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم فإنما أنا عبده فقولوا: عبد الله ورسوله» «١».
وقوله: وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ من باب عطف الخاص على العام، للاهتمام بالنهى عن الافتراء الشنيع الذي افتروه على الله.
أى: لا تصفوه- سبحانه- بما يستحيل اتصافه به من الحلول والاتحاد واتخاذ الصاحبة والولد، ولا تقولوا عليه- سبحانه- إلا القول الحق الثابت القائم على الدليل المقنع، والبرهان الواضح.
وعدى- سبحانه- قولهم بحرف على، لتضمنه معنى الافتراء والكذب، فقد قالوا قولا وزعموا أنه من دينهم، مع أن الأديان السماوية بريئة مما زعموه وافتروه.
ثم بين- سبحانه- القول الفصل في شأن عيسى فقال. إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ.
أى: إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله. أرسله- سبحانه- لهداية الناس إلى الحق، وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ أى: أن عيسى مكون ومخلوق بكلمة من الله وهي كلمة (كن) من غير واسطة أب ولا نطفة. وهذه الكلمة ألقاها- سبحانه- إلى مريم، أى: أوصلها إليها بنفخ جبريل فيها فكان عيسى بإذن الله بشرا سويا.
وقوله: وَرُوحٌ مِنْهُ أى: ونفخة منه، لأن عيسى حدث بسبب نفخة جبريل في درع مريم فكان عيسى بإذن الله. فنسب إلى أنه روح من الله، لأنه بأمره كان. وسمى النفخ روحا لأنه ريح تخرج من الروح. قال- تعالى-: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ «٢».
وقيل المراد بقوله: وَرُوحٌ مِنْهُ أى: وذو روح من أمر الله، لأنه- سبحانه- خلقه كما يخلق سائر الأرواح.
وقيل: الروح هنا بمعنى الرحمة. كما في قوله- تعالى- وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ أى: برحمة منه. وصدر- سبحانه الجملة الكريمة بأداة القصر (إنما) للتنبيه على أن عيسى- عليه السلام- ليس إلا رسولا أرسله الله لهداية الناس إلى الحق.
(١) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٩٠٥
(٢) سورة الأنبياء الآية ٩١
401
وذكره- سبحانه- بلقبه وباسمه وببنوته لمريم، للإشارة إلى أنه إنسان كسائر الناس، وبشر كسائر البشر، فهو مولود خرج من رحم أنثى كما يخرج الأولاد من أمهاتهم. وإذا كان لم يخرج من صلب أب، فيكفى أنه قد خرج من رحم أم، وكفى بذلك دليلا على بشريته.
قال بعض العلماء ما ملخصه: وقوله: وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ أى: خلقه بكلمة منه وهي (كن) كما خلق آدم. وكان عيسى بهذا كلمة الله لأنه خلقه بها، فقد خلق من غير بذر يبذر في رحم أمه، فما كان تكوينه نماء لبذر وجد، وللأسباب التي تجرى بين الناس، بل كان السبب هو إرادة الله وحده وكلمته (كن) وبذلك سمى كلمة الله.
وتعلق النصارى بأن كون عيسى كلمة الله دليل على ألوهيته- تعلق باطل- فما كانت الكلمة من الله إلها يعبد. وإنما سمى بذلك، لأنه نشأ بكلمة لا بمنى من الرجل يمنى....
وقوله: وَرُوحٌ مِنْهُ أى أنه- سبحانه- أنشأه بروح مرسل منه وهو جبريل الأمين. وقد يقال: إنه نشأ بروح منه- سبحانه- أى: أنه أفاض بروحه في جسمه كما أفاض بها على كل إنسان كما قال- تعالى-: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ. ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ «١».
والرأى الأول أولى. وعلى ذلك يكون معنى قوله: وَرُوحٌ مِنْهُ أى: أنه نشأ بنفخ الله الروح فيه من غير توسيط سلالة بشرية، ونطفة تتشكل إنسانا، وذلك بالملك الذي أرسله وهو جبريل...
وسمى الله- تعالى- عيسى روحا باعتباره نشأ من الروح مباشرة، ولأنه غلبت عليه الروحانية..
وبهذا يزول الوهم الذي سيطر على عقول من غالوا في شأن عيسى فنحلوه ما ليس له، وما ليس من شأنه، إذ جعلوه إلها، أو ابن إله... «٢».
وقوله الْمَسِيحُ مبتدأ، وعِيسَى عطف بيان له أو بدل منه. وقوله ابْنُ مَرْيَمَ صفة له وقوله رَسُولُ اللَّهِ خبر للمبتدأ. وقوله وَكَلِمَتُهُ معطوف على ما قبله وهو رسول الله. أو قوله أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ جملة حالية من الضمير المجرور في كَلِمَتُهُ بتقدير قد، والعامل فيها معنى الإضافة. والتقدير: وكلمته ملقيا إياها إلى مريم.
(١) سورة السجدة الآيات من ٧- ٩
(٢) تفسير الآية الكريمة لفضيلة الأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة، بمجلة لواء الإسلام السنة ١٨ العدد ٩
402
وقوله وَرُوحٌ مِنْهُ معطوف على كَلِمَتُهُ والجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة لروح.
ومن لابتداء الغاية مجازا وليست تبعيضية، أى أن الروح كائن من عند الله- تعالى- ونافخ بإذنه.
وبعد أن بين- سبحانه- القول الحق في شأن عيسى، دعا أهل الكتاب إلى الإيمان به وبجميع رسله. ونهاهم عن التمسك بالضلال والوهم فقال- تعالى- فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ. انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ: إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ، سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا.
والفاء في قوله: فَآمِنُوا للافصاح عن جواب شرط مقدر.
أى: إذا كان ذلك هو الحق في شأن عيسى، فآمنوا بالله إيمانا حقا بأن تفردوه بالألوهية والعبادة، وآمنوا برسله جميعا بدون تفريق بينهم، ولا تغالوا في أحد منهم بأن تخرجوه عن طبيعته وعن وظيفته..
وقوله: وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ نهى لهم عن النطق بالكلام بالباطل.
أى: ولا تقولوا الآلهة ثلاثة، أو المعبودات ثلاثة. فثلاثة خبر لمبتدأ محذوف وعبر- سبحانه- بقوله: وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ بدل قوله- مثلا-: ولا تؤمنن بثلاثة لأن أمر الثلاثة قول يقولونه، فإن سألتهم عن معناه قالوا تارة معناه: الأب والإبن والروح القدس، أى أنهم ثلاثة متفرقون. وتارة يقولون معناه: أن الأقانيم «١» ثلاثة والذات واحدة.. إلى غير ذلك من الأقوال التي ما أنزل الله بها من سلطان.
قال صاحب الكشاف: والذي يدل عليه القرآن التصريح منهم بأن الله والمسيح ومريم ثلاثة آلهة. وأن المسيح ولد الله من مريم. ألا ترى إلى قوله- تعالى-: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ.
والمشهور المستفيض عنهم أنهم يقولون: في المسيح لاهوتية وناسوتية من جهة الأب والأم... ) «٢».
هذا، وقد أفاض بعض العلماء في الرد على مزاعم أهل الكتاب في عقائدهم «٣»..
وقوله: انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ أمر لهم بسلوك الطريق الحق، والإقلاع عن الضلالات والأوهام.
(١) الأقانيم جمع الأفنوم- بضم الهمزة وسكون القاف- بمعنى الأصل أو الصف.
(٢) تفسير الكشاف ج ١ ص ٥٩٤
(٣) راجع تفسير الآلوسى ج ٦ من ص ٢٦ إلى ٣٦، وتفسير القاسمى ج ٥ ص ١٧٦٥
403
أى: انتهوا عما أنتم فيه من ضلال يا معشر أهل الكتاب، واتركوا القول بالتثليث، يكن انتهاؤكم خيرا لكم، بعبادتكم لله وحده تكونون قد خرجتم من ظلمات الشرك إلى نور الوحدانية.
وقوله: إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ إثبات لوحدانية الله- تعالى- بأقوى طريق. أى: إن المعبود بحق ليس إلا واحد، وهو الله- تعالى- ذو الجلال والإكرام، الخالق لهذا الكون، والمدبر لأمره.
وقوله: سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ تنزيه له- جل وعلا- عن صفات المخلوقين، وتوبيخ لمن وصفه بصفات لا تليق به.
وسبحان منصوب بفعل مقدر من لفظه: أى: أسبحه تسبيحا وأنزهه تنزيها عن أن يكون له ولد، لأن الأبوة والبنوة من صفات المخلوقين، وهو- سبحانه- منزه عن صفات المخلوقين، قال- تعالى-: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ.
وقوله لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جملة مستأنفة مسوقة لتعليل التنزيه أى أنه- سبحانه- مالك لجميع الموجودات علويها وسفليها، ولا يخرج عن ملكه منها شيء.
قال- تعالى- إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً ومن كان شأنه كذلك تنزه عن أن يلد أو يولد أو يكون له شريك في ملكه.
وقوله: وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا تذييل قصد به بيان سعة قدرته- سبحانه وهيمنته على هذا الكون. والوكيل: هو الحافظ والمدبر لأمر غيره.
أى: وكفى بالله وكيلا يكل إليه الخلق كلهم أمورهم، فهو الغنى عنهم وهم الفقراء إليه.
ومفعول كفى محذوف للعموم. أى: كفى كل أحد وكالة الله وحفظه وتدبيره، فتوكلوا عليه وحده، ولا تتوكلوا على من تزعمونه ابنا له.
ثم بين- سبحانه- أن المسيح عيسى- عليه السلام- عبد من عباد الله- تعالى-، وأنه لن يستنكف أبدا عن عبادة الله والإذعان لأمره فقال: نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ.
وأصل سْتَنْكِفَ
- يقول القرطبي: نكف، فالياء والسين والتاء زوائد. يقال: نكفت من الشيء واستنكفت منه وأنكفته أى: نزهته عما يستنكف منه. ومنه الحديث: سئل- رسول الله ﷺ عن سبحان الله فقال: «إنكاف الله من كل سوء».
يعنى: تنزيهه وتقديسه عن الأنداد والأولاد.
404
قال الزجاج: استنكف أى: أنف مأخوذ من نكفت الدمع إذا نحيته بإصبعك عن خدك.
ومنه الحديث «ما ينكف العرق عن جبينه» أى: ما ينقطع.
وقيل: هو من النّكف وهو العيب. يقال: ما عليه في هذا الأمر من نكف ولا وكف. أى عيب. أى لن يمتنع المسيح ولن يتنزه عن العبودية لله- تعالى- ولن ينقطع عنها. ولن يعاب أن يكون عبدا لله تعالى «١».
والجملة الكريمة مستأنفة لتقرير ما سبقها من تنزيه لله- تعالى- عن أن يكون له ولد، وإثبات لوحدانيته- عز وجل- وإفراده بالعبادة.
وقد روى المفسرون في سبب نزولها أن وفد نجران قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لم تعيب صاحبنا يا محمد؟ قال: «ومن صاحبكم؟ قالوا: عيسى، قال صلى الله عليه وسلم: وأى شيء قلت؟ قالوا تقول: إنه عبد الله ورسوله. قال صلى الله عليه وسلم: إنه ليس بعار أن يكون عبدا لله» «٢».
والمعنى: لن يأنف المسيح ولن يمتنع عن أن يكون عبدا لله، وكذلك الملائكة المقربون لن يأنفوا ولن يمتنعوا عن ذلك، فإن خضوع المخلوقات لخالقها شرف ليس بعده شرف. والله- تعالى- ما خلق الخلق إلا لعبادته وطاعته.
قال- تعالى- وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ. ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ.
وصدر- سبحانه- الجملة بحرف (لن) المفيدة للنفي المؤكد، لبيان أن عدم استنكاف المسيح والملائكة المقربين عن عبادة الله والخضوع له أمر مستمر وثابت ثبوتا لا شك فيه، لأنه- سبحانه- هو الذي خلق الخلق ورزقهم. ومن حقه عليهم أن يعبدوه، ويذعنوا لأمره، بل ويشعروا باللذة والأنس والشرف لعبادتهم له- سبحانه- كما قال الشاعر الحكيم:
ومما زادني عجبا وتيها وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وجعلك خير خلقك لي نبيا
هذا، وقد فهم بعض العلماء من هذه الآية أن الملائكة أفضل من الأنبياء، وممن فهم هذا الفهم الإمام الزمخشري فقد قال:
وقوله: نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ
أى: لن يأنف ولن يذهب بنفسه عزة، (من نكفت الدمع إذا نحيته عن خدك بإصبعك) لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
أى: ولا من هو أعلى منه قدرا،
(١) تفسير القرطبي ج ٦ ص ٢٦- بتصرف يسير-. [.....]
(٢) تفسير الفخر الرازي ج ١١ ص ١١٧.
405
وأعظم منه خطرا وهم الملائكة الذين حول العرش كجبريل وميكائيل وإسرافيل ومن في طبقتهم.
ثم قال: فإن قلت: من أين دل قوله لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
على أن المعنى: ولا من فوقه؟ قلت: من حيث إن علم المعاني لا يقتضى غير ذلك. وذلك أن الكلام إنما سيق لرد مذهب النصارى وغلوهم في رفع عيسى عن منزلة العبودية. فوجب أن يقال لهم: لن يترفع عيسى عن العبودية ولا من هو أعلى منه درجة. فكأنه قيل: لن يستنكف الملائكة المقربون من العبودية فكيف بالمسيح؟ ويدل عليه دلالة ظاهرة بينة، تخصيص المقربين لكونهم أرفع الملائكة درجة وأعلاهم منزلة «١».
وهذا الفهم الذي اتجه إليه الزمخشري من أن الملائكة أفضل من الأنبياء، لم يوافقه عليه أكثر العلماء، فقد قال الإمام ابن كثير:
وقد استدل بعض من ذهب إلى تفضيل الملائكة على البشر بهذه الآية حيث قال:
لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
. وليس له في ذلك دلالة، لأنه إنما عطف الملائكة على المسيح، لأن الاستنكاف هو الامتناع. والملائكة أقدر على ذلك من المسيح، فلهذا قال لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
ولا يلزم من كونهم أقوى وأقدر على الامتناع أن يكونوا أفضل. وقيل إنما ذكروا لأن بعض الناس اتخذهم آلهة مع الله كما اتخذ الضالون المسيح إلها أو ابنا لله. فأخبر- سبحانه- أنهم عبيد من عباده، وخلق من خلقه «٢».
وقد حاول بعض العلماء أن يجعل الآية الكريمة بعيدة عن موطن النزاع فقال: وعندي أن الترقي قائم، ولكن في المعنى الذي سيق له الكلام. وذلك أن النصارى غلوا غلوا كبيرا في المسيح، لأنه ولد من غير أب، ولأنه جرت على يديه معجزات كثيرة، ولأنه روحانى المعاني، فيبين الله- تعالى- أنه مع كل هذا لن يستنكف أن يكون عبد الله، ولا يستنكف من هو أعلى منه في هذه المعاني أن يكون عبدا لله، وهم الملائكة الذين خلقوا من غير أب ولا أم. وأجرى على أيديهم ما هو أشد وأعظم من معجزات، ومنهم من كان الروح الذي نفخ في مريم، وهم أرواح طاهرة مطهرة. فكان الترقي في هذه المعاني، وهم فيها يفضلون عيسى وغيره. وبذلك تكون الآية بعيدة عن الأفضلية المطلقة، فلا تدل على أفضلية الملائكة على الرسل في المنزلة عند الله. وتكون الآية بعيدة عن موطن الخلاف، والترقي دائما يكون في المعاني التي سيق لها الكلام دون غيرها. وليس المتأخر أعلى في ذاته من المتقدم وأفضل، ولكنه أعلى في الفعل الذي كان فيه كقول القائل: لا تضرب حرا ولا عبدا. فالتدرج هنا في النهى عن الضرب، لأنه إذا كان
(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٥٩٥.
(٢) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٥٩١.
406
ضرب العبد غير جائز فأولى أن يكون ضرب الحر غير جائز.
وذكر وصف المقربين، لأنهم إذا كانوا لا يستنكفون فأولى بذلك غيرهم «١».
ثم هدد- سبحانه- كل من يمتنع عن عبادته والخضوع له فقال: مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً.
أى: ومن يأنف من عبادة الله ويمتنع عنها، ويأبى الخضوع لطاعة الله ويستكبر عن كل ذلك، فسيجد يوم القيامة ما يستحقه من عقاب بسبب استنكافه واستكباره، فإن مرد العباد جميعا إليه- سبحانه- وسيجازى المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.
فالضمير في قوله سَيَحْشُرُهُمْ
يعود إلى المستنكفين والمستكبرين وإلى غيرهم من المؤمنين المطيعين بدليل أن الحشر عام للمؤمنين والكافرين، وبدليل التفصيل المفرع على هذا الحشر في قوله- تعالى- بعد ذلك:
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ أى: أن مرجع العباد جميعا إلى الله من استكبر عن عبادته وامتنع ومن لم يفعل ذلك بل آمن وأطاع.
فأما الذين آمنوا وعملوا الأعمال الصالحات، ولم يستنكفوا ولم يستكبروا، فسيعطيهم- سبحانه- ثواب أعمالهم كاملة غير منقوصة، ويزيدهم على ذلك شيئا عظيما من الرضا والفضل ومضاعفة الأجر. وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا عن عبادة الله وطاعته فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً لا يحيط به الوصف وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا أى أحدا يدافع عنهم ويلي أمورهم، ولا يجدون كذلك «نصيرا» ينصرهم وينجيهم من عذاب الله وبأسه.
وبعد هذا الوعد والوعيد والتبشير والإنذار، والترغيب والترهيب، وجه- سبحانه- نداء عاما إلى الناس أمرهم فيه باتباع طريق الحق فقال- تعالى- يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً.
والمراد بالبرهان هنا الدلائل والمعجزات الدالة على صدق النبي ﷺ فيما يبلغه عن ربه.
ويصح أن يكون المراد به النبي ﷺ وسماه- سبحانه- بذلك بسبب ما أعطاه من البراهين القاطعة التي شهدت بصدقه صلى الله عليه وسلم، والمراد بالنور المبين: القرآن الكريم.
قال الفخر الرازي: اعلم أنه- تعالى- لما أورد الحجة على جميع الفرق من المنافقين والكفار واليهود والنصارى، وأجاب عن جميع شبهاتهم عمم الخطاب. ودعا جميع الناس إلى الاعتراف برسالة محمد ﷺ فقال: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ.
(١) تفسير الآية الكريمة لفضيلة الشيخ محمد أبو زهرة. مجلة لواء الإسلام العدد العاشر.
407
والبرهان: هو محمد ﷺ وإنما سماه برهانا، لأن حرفته إقامة البرهان على تحقيق الحق وإبطال الباطل. والنور المبين هو القرآن الكريم. وسماه نورا، لأنه سبب لوقوع نور الإيمان في القلب «١»...
ومِنْ في قوله: مِنْ رَبِّكُمْ لابتداء الغاية مجازا، والجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة لبرهان. أى: قد جاءكم برهان كائن من ربكم.
وفي وصف البرهان بأنه من الله- تعالى-، تقوية وتشريف لمعنى البرهان، لأنه ما دام قد جاء من عند من له الخلق والأمر- سبحانه- فلا بد أن يكون برهانا صادقا مقنعا لمن يريد أن يتبع الحق.
وقال- سبحانه- وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ بإسناد الإنزال إلى ذاته- تعالى-، للإشارة إلى أنه هو مصدر الإنزال.
وقال إِلَيْكُمْ مع أن المنزل عليه هو النبي ﷺ للإشعار بكمال اللطف بهم، وللمبالغة في إزالة أعذارهم.
ووصف الشرائع والمواعظ والآداب والحكم التي اشتمل عليها القرآن الكريم بالنور المبين أى الواضح الظاهر، لأن هذه الشرائع والآداب. لا يخفى صدقها واشتمالها على الحق إلا على من انطمست بصيرته، وفسدت مداركه.
ثم بين- سبحانه- حسن عاقبة المستجيبين للحق، السالكين الطريق المستقيم، فقال:
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً.
أى: أن الله- تعالى- قد أرسل إلى الناس رسوله وأنزل عليهم بواسطته قرآنه، فمنهم من آمن واهتدى، ومنهم من كفر وغوى، فأما الذين آمنوا بالله- تعالى- حق الإيمان، واعتصموا به- سبحانه- مما يضرهم ويؤذيهم، فلم يستجيروا إلا به، ولم يخضعوا إلا له، ولم يعتمدوا إلا عليه.
هؤلاء الذين فعلوا ذلك سيدخلهم الله- تعالى في رحمة منه وفضل أى سيدخلهم في جنته ورضوانه، ويضفى عليهم من فضله وإحسانه بما يشرح صدورهم، ويبهج نفوسهم، ويصلح بالهم.
وقوله وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً أى: ويوفقهم في دنياهم إلى سلوك الطريق الحق وهو
(١) تفسير الفخر الرازي ج ١١ ص ١١٩- طبعة عبد الرحمن محمد.
408
طريق الإسلام، الذي يفضى بهم في آخرتهم إلى السعادة والأمان والفوز برضا الله- عز وجل-.
وقد ذكرت الآية ثواب الذين آمنوا بالله واعتصموا به، ولم تذكر عقاب الذين كفروا إهمالا لهم، لأنهم في حيز الطرد والطرح، أو لأن عاقبتهم السيئة معروفة لكل عاقل بسبب كفرهم وسوقهم عن أمر الله.
والسين في قوله فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ للتأكيد. أى فسيدخلهم في رحمة كائنة منه وفي فضل عظيم من عنده إدخالا لا شك في حصوله ووقوعه.
وقوله صِراطاً مفعول ثان ليهدى لتضمنه معنى يعرفهم.
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد نهت أهل الكتاب عن المغالاة في شأن عيسى- عليه السلام-، وعرفتهم حقيقته، ودعتهم إلى الإيمان بوحدانية الله، وبينت لهم ولغيرهم أن عيسى وغيره من الملائكة المقربين لن يستنكفوا عن عبادة الله، وان من امتنع عن عبادة الله فسيحاسبه- سبحانه- حسابا عسيرا، ويجازيه بما يستحقه من عقاب. أما من آمن بالله- تعالى- واتبع الحق الذي أنزله على رسله، فسينال منه- سبحانه- الرحمة الواسعة، والفضل العظيم، والسعادة التي ليست بعدها سعادة.
هذا، وكما اشتملت سورة النساء في مطلعها على الحديث عن أحكام الأسرة وأحكام الزواج والمواريث. فقد اختتمت بهذه الآية المتعلقة ببعض أحكام المواريث وهي قوله- تعالى-:
[سورة النساء (٤) : آية ١٧٦]
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٧٦)
409
أورد المفسرون في سبب نزول هذه الآية روايات منها ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن جابر بن عبد الله قال: دخل على النبي ﷺ وأنا مريض لا أعقل. فتوضأ فصب على أو قال:
صبوا عليه. فعقلت فقلت: إنه لا يرثني إلا كلالة. فكيف الميراث. فأنزل الله آية الفرائض.
وفي بعض الألفاظ فأنزل الله آية الميراث يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ الآية. وفي رواية قال جابر: نزلت في: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ «١».
ويبدو أن عددا من الصحابة قد سألوا النبي ﷺ في شأن ميراث الكلالة في أزمنة متفرقة فنزلت هذه الآية للإجابة عن أسئلتهم المتعلقة بها. وقد سمى النبي ﷺ هذه الآية بآية الصيف، لأنها نزلت في هذا الوقت.
قال القرطبي: قال عمر: إنى والله لا أدع شيئا أهم إلى من أمر الكلالة. وقد سألت رسول الله ﷺ عنها فما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيها، حتى طعن بإصبعه في جنبي أو في صدري ثم قال: «يا عمر، ألا تكفيك آية الصيف التي أنزلت في آخر سورة النساء» «٢».
وقوله: يَسْتَفْتُونَكَ من الاستفتاء بمعنى طلب الفتيا أو الفتوى. يقال: استفتيت العالم في مسألة كذا. أى: سألته أن يبين حكمها. فالإفتاء معناه: إظهار المشكل من الأحكام وتبينه.
والكلالة.. كما يقول الراغب-: اسم لما عدا الولد والوالد من الورثة وروى أن النبي ﷺ سئل عن الكلالة فقال: «من مات وليس له ولد ولا والد»، فجعله اسما للميت. وقال ابن عباس: هو اسم لمن عدا الولد» «٣».
وقال ابن كثير ما ملخصه: وكان- رضى الله عنه- يقول: الكلالة من لا ولد له. وكان أبو بكر- رضى الله عنه- يقول: الكلالة ما عدا الولد والوالد.
ثم قال: وعن عمر أنه قال: إنى لأستحى أن أخالف أبا بكر. وهذا الذي قاله الصديق، هو الذي عليه جمهور الصحابة والتابعين والأئمة في قديم الزمان وحديثه. وهو مذهب الأئمة الأربعة، والفقهاء السبعة، وقول علماء الأمصار قاطبة، وهو الذي يدل عليه القرآن «٤».
وقد ذكرت كلمة الكلالة مرتين في هذه السورة.
أما المرة الأولى ففي قوله- تعالى- في آيات المواريث:
(١) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٥٩٢
(٢) تفسير القرطبي ج ٦ ص ٢٩
(٣) المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني ص ٤٣٧
(٤) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٥٩٥
410
وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ، فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ.
وقد بينا عند تفسيرنا لهذه الجملة الكريمة أن المراد بالإخوة والأخوات فيها: الإخوة لأم والأخوات لأم.
أما هنا فالأمر يختلف إذ المراد بالإخوة والأخوات في الآية التي معنا: الإخوة والأخوات الأشقاء أو من الأب فقط.
والمعنى: يسألك أصحابك يا محمد في كيفية ميراث الكلالة، قل الله يفتيكم في ذلك، فاسمعوا حكمه وأطيعوه ولا تخالفوه.
وقوله فِي الْكَلالَةِ متعلق بقوله يُفْتِيكُمْ.
وقد تولى- سبحانه- الإجابة مع أن المسئول هو النبي صلى الله عليه وسلم، للتنويه بشأن الحكم المسئول عنه، ولتأكيد أن المواريث من الأمور التي تكفل الله ببيانها وتوزيعها وحده، فلا يصح لأحد أن يخالف ما شرعه الحكيم الخبير في شأنها فهو- سبحانه- أعلم بمصالح عباده، وأرحم بهم من آبائهم ومن أبنائهم، ومن كل مخلوق.
وقوله: إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ، وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ كلام مستأنف مبين للاجابة عما سألوا عنه في شأن ميراث الكلالة.
والمختار الذي عليه المحققون من العلماء أن الولد هنا عام يتناول الذكر والأنثى، لأن الكلام في الكلالة وهو من ليس له ولد أصلا لا ذكر ولا أنثى وليس له والد- أيضا- إلا أنه اقتصر على ذكر الولد ثقة بظهور الأمر. ولأن الولد مشترك معنوي وقع نكرة في سياق النفي فيعم الابن والبنت.
وقيل: المراد بالولد هنا الذكر خاصة لأنه المتبادر من معنى اللفظ.
والمراد بالأخت هنا- كما سبق أن أشرنا- الأخت الشقيقة أو الأخت لأب.
والمعنى: يسألك أصحابك يا محمد عن توريث الكلالة فقل لهم: الله يفتيكم في ذلك، إذا مات إنسان ولم يترك أولادا لا من الذكور ولا من الإناث. ولم يترك كذلك والدا، وترك أختا شقيقة أو من أبيه، فلأخته في تلك الحالة نصف ما تركه هذا الميت بالفرض، والباقي للعصبة، أولها بالرد إن لم يترك عصبة.
وإذا ماتت الأخت قبل أخيها ولم يكن لها ولد- ذكرا كان أو أنثى-، ولم يكن لها كذلك والد، فإن الأخ في تلك الحالة يحرز جميع مالها.
411
وقوله: امْرُؤٌ مرفوع بفعل محذوف يفسره ما بعده أى: إن هلك امرؤ وقوله: لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ في محل رفع على أنه صفة لقوله امْرُؤٌ أى: هلك امرؤ غير ذي ولد ولا والد.
والفاء في قوله فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ واقعة في جواب الشرط.
وقوله وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ جملة مستأنفة. سدت مسد جواب الشرط في قوله:
إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ.
قال الآلوسي: والآية كما أنها لم تدل على سقوط الإخوة بغير الولد، فإنها لم تدل على عدم سقوطهم به. وقد دلت السنة على أنهم لا يرثون مع الأب. إذ صح عنه- ﷺ أنه قال:
«ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى عصبة ذكر» ولا ريب في أن الأب أولى من الأخ.
وليس ما ذكر بأول حكمين بين أحدهما بالكتاب والآخر بالسنة «١».
ثم بين- سبحانه- صورتين أخريين من صور الكلالة فقال: فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ. وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالًا وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ أى: فإن كانتا أى:
الوارثتان بالأخوة اثنتين أو أكثر، فلهما الثلثان مما ترك أخوهما المتوفى، وإن كان الورثة لهذا الأخ المتوفى إخوة من الرجال والنساء ففي هذه الحالة تقسم تركته بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين.
وبهذا نرى أن الآية الكريمة قد ذكرت صورا أربعا لميراث الإخوة والأخوات للميت الذي لم يترك ولدا ولا والدا. أى الميت الكلالة.
١- أن يموت الميت وترثه أخت واحدة. ففي هذه الحالة يكون لها نصف تركته بالفرض والباقي للعصبة إن وجدوا، فإن لم يوجدوا فلها الباقي بالرد.
٢- أن يكون الأمر بالعكس بأن تموت امرأة ويرثها أخ واحد. فيكون له جميع تركتها.
٣- أن يكون الميت أخا أو أختا والوارث أختان فصاعدا، ففي هذه الحالة يكون لهما أو لهن الثلثان.
٤- أن يكون الميت أخا أو أختا، والورثة عدد من الإخوة والأخوات، ففي هذه الحالة تقسم التركة بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين.
هذا، وظاهر الآية يفيد أنه لا فرق بين الإخوة الأشقاء والإخوة لأب في أنهم يشتركون في التركة إذا اجتمعوا ولكن هذا الظاهر غير مراد، فقد خصصت السنة هذا العموم، فقدمت الأشقاء على الإخوة لأب. فإذا ما اجتمع الصنفان حجب الإخوة الأشقاء الإخوة لأب.
(١) تفسير الآلوسى ج ٦ ص ٤٥
412
وقد تكفلت كتب الفروع ببسط الكلام عن هذه الأحكام وأمثالها. هذا، وقوله- تعالى- يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ تذييل قصد به إظهار جانب من فضل الله- تعالى- على عباده، وتحذيرهم من مخالفة شرعه وأمره.
أى: يبين الله لكم هذه الأحكام المتعلقة بالمواريث كما يبين لكم غيرها خشية أن تضلوا طريق الحق في ذلك. بأن تعطوا من لا يستحق أو تهملوا من يستحق، والله- تعالى- عليم بكل شيء لا تخفى عليه خافية من أحوالكم، وسيحاسبكم على أعمالكم، فيجازى المتبع لشرعه بالثواب العظيم، ويجازى المخالف له بالعذاب الأليم.
والمفعول في قوله: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا محذوف، والمصدر المنسبك من أن والفعل مفعول لأجله بتقدير مضاف محذوف أى: يبين الله لكم الحلال والحرام وجميع الأحكام خشية أن تضلوا.
ويجوز أن يكون المصدر هو مفعول قوله يُبَيِّنُ أى: يبين الله لكم ضلالكم لتجتنبوه، فإن الشر يعرف ليجتنب، والخير يعرف ليفعل.
ويرى بعضهم أن الكلام على تقدير (اللام ولا) في طرفي «أن» والمعنى: يبين الله لكم ذلك لئلا تضلوا.
ثم أما بعد: فهذا تفسير وسيط لسورة النساء.
تلك السورة التي نظمت المجتمع الإسلامى تنظيما دقيقا حكيما.
نظمته فيما يتعلق بأوضاعه الداخلية، ونظمته فيما يتعلق بأوضاعه الخارجية. أما فيما يتعلق بأوضاعه الداخلية، فقد رأينا فيما سبق، كيف ساقت الأحكام والآداب والتوجيهات التي تكون مجتمعا فاضلا، يعرف الفرد فيه واجبه نحو خالقه، وواجبه نحو نفسه، وواجبه نحو غيره.
مجتمعا تقوم الأسرة فيه على دعائم ثابتة من الأمان والاطمئنان، والمحبة والمودة والوئام.
مجتمعا رجاله يكرمون نساءه، ويعطفون عليهن، ويعاشرونهن بالمعروف. ونساؤه يحترمن رجاله، ويؤدين ما عليهن نحوهم من حقوق بأدب، وعفة، وإخلاص، ووفاء.
مجتمعا حكامه يحكمون بالعدل، ويراقبون الله في أقوالهم وأعمالهم. المحكومون فيه يطيعون حكامهم فيما يأمرونهم به من حق وخير.
مجتمعا يرى أفراده أن خيراته وأمواله. هي أمانة في أعناقهم جميعا، وأن ثمارها ومنافعها ستعود عليهم جميعا. لذا فهم يحرصون على استغلال ما يملكونه منها فيما يرضى الله، وفيما يعود
413
عليهم وعلى أمتهم بالخير والصلاح والاستغناء والفلاح.
وأما فيما يتعلق بأوضاعه الخارجية، فقد رأينا- أيضا- فيما سبق، كيف كشفت النقاب عن رذائل المنافقين. وعن العقائد الفاسدة التي يتشبث بها أهل الكتاب. وعن المسالك الخبيثة، والوسائل المتعددة التي اتبعها هؤلاء جميعا لكيد الدعوة الإسلامية والإساءة إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
كما رأينا كيف أنها قد حذرت المؤمنين من شرور أعدائهم، وبصرتهم بما يجب عليهم نحوهم. وبما يجعلهم دائما على أتم استعداد لمقاومتهم، ولتأديبهم ولرد كيدهم في نحورهم.
ولقد ساقت السورة الكريمة من الآيات التي ترغب في الجهاد في سبيل الله، ما يجعل المؤمنين يقبلون عليه بقلوب منشرحة، وبعزائم ثابتة، وبأرواح غايتها الشهادة في سبيل الله.
وباتباع المسلمين السابقين لهذا التوجيه الحكيم الذي اشتملت عليه هذه السورة الكريمة، نالوا ما نالوا من مجد وسؤدد، وظفروا بما ظفروا به من عزة وسعادة، وأصابوا ما أصابوا من خير وفلاح.
وأخيرا، فإنى أحمد الله- تعالى- حمدا كثيرا على توفيقه لي لخدمة كتابه، وأضرع إليه بإخلاص أن يعينني على إتمام ما بدأته من خدمة كتابه، إنه أعظم مسئول وأكرم مأمول.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
محمد سيد طنطاوى شيخ الأزهر
414
فهرس إجمالى لتفسير سورة «النساء»
رقم الآية الآية المفسرة الصفحة المقدمة ٥ بين يدي السورة ٧ ١ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم ١٩ ٢ وآتوا اليتامى أموالهم ٢٥ ٣ وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى ٢٨ ٤ وآتوا النساء صدقاتهن نحلة ٣٦ ٥ ولا تؤتوا السفهاء أموالكم ٤٠ ٦ وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا ٤٣ ٧ للرجال نصيب مما ترك الوالدان ٤٩ ٨ وإذا حضر القسمة أولو القربى ٥٢ ٩ وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ٥٤ ١٠ إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ٥٨ ١١ يوصيكم الله في أولادكم ٦٣ ١٢ ولكم نصف ما ترك أزواجكم ٧١ ١٣ تلك حدود الله، ومن يطع الله ورسوله ٧٦ ١٤ ومن يعص الله ورسوله ٧٦ ١٥ واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم ٧٩ ١٦ واللذان يأتيانها منكم ٨٢ ١٧ إنما التوبة على الله للذين يعملون ٨٤ ١٨ وليست التوبة للذين يعملون ٨٧ ١٩ يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم ٨٨ ٢٠ وإن أردتم استبدال زوج ٩٤
415
٢١ وكيف تأخذونه وقد أفضى ٩٥ ٢٢ ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم ٩٨ ٢٣ حرمت عليكم أمهاتكم ١٠٢ ٢٤ والمحصنات من النساء ١٠٨ ٢٥ ومن لم يستطع منكم طولا ١١٥ ٢٦ يريد الله ليبين لكم ١٢١ ٢٧ والله يريد أن يتوب عليكم ١٢٣ ٢٨ يريد الله أن يخفف عنكم ١٢٣ ٢٩ يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا ١٢٤ ٣٠ ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما ١٢٨ ٣١ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه ١٢٨ ٣٢ ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم ١٣٠ ٣٣ ولكل جعلنا موالي مما ترك ١٣٢ ٣٤ الرجال قوامون على النساء ١٣٥ ٣٥ وإن خفتم شقاق بينهما ١٤١ ٣٦ واعبدوا الله ولا تشركوا به ١٤٤ ٣٧ الذين يبخلون ويأمرون الناس ١٤٩ ٣٨ والذين ينفقون أموالهم ١٥٠ ٣٩ وماذا عليهم لو آمنوا بالله ١٥١ ٤٠ إن الله لا يظلم مثقال ذرة ١٥١ ٤١ فكيف إذا جئنا من كل أمة ١٥٣ ٤٢ يومئذ يود الذين كفروا ١٥٤ ٤٣ يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا ١٥٦ ٤٤ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا ١٦٧
416
٤٥ والله أعلم بأعدائكم ١٦٩ ٤٦ من الذين هادوا يحرفون ١٧٠ ٤٧ يا أيها الذين أوتوا الكتاب ١٧٣ ٤٨ إن الله لا يغفر أن يشرك به ١٧٧ ٤٩ ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم ١٧٨ ٥٠ انظر كيف يفترون ١٨٠ ٥١ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا ١٨٠ ٥٢ أولئك الذين لعنهم الله ١٨٢ ٥٣ أم لهم نصيب من الملك ١٨٣ ٥٤ أم يحسدون الناس ١٨٣ ٥٥ فمنهم من آمن به ١٨٤ ٥٦ إن الذين كفروا بآياتنا ١٨٥ ٥٧ والذين آمنوا وعملوا الصالحات ١٨٦ ٥٨ إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات ١٨٧ ٥٩ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ١٩١ ٦٠ ألم تر إلى الذين يزعمون ١٩٤ ٦١ وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله ١٩٧ ٦٢ فكيف إذا أصابتهم مصيبة ١٩٧ ٦٣ أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم ١٩٨ ٦٤ وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع ٢٠٠ ٦٥ فلا وربك لا يؤمنون ٢٠٢ ٦٦ ولو أنا كتبنا عليهم ٢٠٤ ٦٧ وإذا لآتيناهم من لدنا ٢٠٦ ٦٨ ولهديناهم صراطا مستقيما ٢٠٦
417
٦٩ ومن يطع الله والرسول ٢٠٨ ٧٠ ذلك الفضل من الله ٢١٠ ٧١ يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم ٢١٢ ٧٢ وإن منكم لمن ليبطئن ٢١٤ ٧٣ ولئن أصابكم فضل من الله ٢١٥ ٧٤ فليقاتل في سبيل الله ٢١٧ ٧٥ وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله ٢١٨ ٧٦ الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله ٢٢٠ ٧٧ ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا ٢٢١ ٧٨ أينما تكونوا يدرككم الموت ٢٢٧ ٧٩ ما أصابك من حسنة ٢٢٩ ٨٠ من يطع الرسول فقد أطاع الله ٢٣٢ ٨١ ويقولون طاعة ٢٣٢ ٨٢ أفلا يتدبرون القرآن ٢٣٤ ٨٣ وإذا جاءهم أمر من الأمن ٢٣٥ ٨٤ فقاتل في سبيل الله ٢٣٩ ٨٥ من يشفع شفاعة حسنة ٢٤٢ ٨٦ وإذا حييتم بتحية فحيوا ٢٤٤ ٨٧ الله لا إله إلا هو ٢٤٥ ٨٨ فما لكم في المنافقين فئتين ٢٤٦ ٨٩ ودوا لو تكفرون كما كفروا ٢٤٩ ٩٠ إلا الذين يصلون إلى قوم ٢٥١ ٩١ ستجدون آخرين يريدون ٢٥٤ ٩٢ وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا ٢٥٥
418
٩٣ ومن يقتل مؤمنا متعمدا ٢٦١ ٩٤ يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم ٢٦٣ ٩٥ لا يستوي القاعدون من المؤمنين ٢٦٨ ٩٦ درجات منه ومغفرة ورحمة ٢٧٢ ٩٧ إن الذين توفاهم الملائكة ٢٧٤ ٩٨ إلا المستضعفين من الرجال ٢٧٧ ٩٩ فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم ٢٧٨ ١٠٠ ومن يهاجر في سبيل الله ٢٧٨ ١٠١ وإذا ضربتم في الأرض ٢٨٢ ١٠٢ وإذا كنت فيهم فأقمت ٢٨٧ ١٠٣ فإذا قضيتم الصلاة ٢٩٣ ١٠٤ ولا تهنوا في ابتغاء القوم ٢٩٤ ١٠٥ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق ٢٩٦ ١٠٦ واستغفر الله إن الله ٢٩٩ ١٠٧ ولا تجادل عن الذين يختانون ٢٩٩ ١٠٨ يستخفون من الناس ٣٠٠ ١٠٩ ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم ٣٠١ ١١٠ ومن يعمل سوءا ٣٠١ ١١١ ومن يكسب إثما ٣٠٢ ١١٢ ومن يكسب خطيئة أو إثما ٣٠٣ ١١٣ ولولا فضل الله عليك ٣٠٤ ١١٤ لا خير في كثير من نجواهم ٣٠٦ ١١٥ ومن يشاقق الرسول ٣١٠ ١١٦ إن الله لا يغفر أن يشرك به ٣١١
419
١١٧ إن يدعون من دونه إلا إناثا ٣١٣ ١١٨ لعنه الله وقال ٣١٤ ١١٩ ولأضلنهم ولأمنينهم ٣١٥ ١٢٠ يعدهم ويمنيهم ٣١٧ ١٢١ أولئك مأواهم جهنم ٣١٧ ١٢٢ والذين آمنوا وعملوا ٣١٨ ١٢٣ ليس بأمانيكم ٣١٩ ١٢٤ ومن يعمل من الصالحات ٣٢١ ١٢٥ ومن أحسن دينا ٣٢٢ ١٢٦ ولله ما في السموات وما في الأرض ٣٢٤ ١٢٧ ويستفتونك في النساء ٣٢٤ ١٢٨ وإن امرأة خافت من بعلها ٣٢٩ ١٢٩ ولن تستطيعوا أن تعدلوا ٣٣٣ ١٣٠ وإن يتفرقا ٣٣٦ ١٣١ ولله ما في السموات وما في الأرض ٣٣٧ ١٣٢ ولله ما في
السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا ٣٣٨ ١٣٣ إن يشأ يذهبكم أيها الناس ٣٣٩ ١٣٤ من كان يريد ثواب الدنيا ٣٤٠ ١٣٥ يا أيها الذين آمنوا كونوا ٣٤١ ١٣٦ يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ٣٤٦ ١٣٧ إن الذين آمنوا ثم كفروا ٣٤٧ ١٣٨ بشر المنافقين ٣٥٠ ١٣٩ الذين يتخذون الكافرين ٣٥٠ ١٤٠ وقد نزل عليكم في الكتاب ٣٥٢
420
١٤١ الذين يتربصون بكم ٣٥٤ ١٤٢ إن المنافقين يخادعون ٣٥٦ ١٤٣ مذبذبين بين ذلك ٣٥٨ ١٤٤ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا ٣٥٨ ١٤٥ إن المنافقين في الدرك ٣٥٩ ١٤٦ إلا الذين تابوا ٣٦١ ١٤٧ ما يفعل الله بعذابكم ٣٦٢ ١٤٨ لا يحب الله الجهر بالسوء ٣٦٤ ١٤٩ إن تبدوا خيرا أو تخفوه ٣٦٦ ١٥٠ إن الذين يكفرون بالله ٣٦٧ ١٥١ أولئك هم الكافرون حقا ٣٦٧ ١٥٢ والذين آمنوا بالله ورسله ٣٦٨ ١٥٣ يسألك أهل الكتاب ٣٦٨ ١٥٤ ورفعنا فوقهم الطور ٣٧٢ ١٥٥ فبما نقضهم ميثاقهم ٣٧٤ ١٥٦ وبكفرهم وقولهم على مريم ٣٧٧ ١٥٧ وقولهم إنا قتلنا المسيح ٣٧٨ ١٥٨ بل رفعه الله إليه ٣٨٢ ١٥٩ وإن من أهل الكتاب إلا ٣٨٤ ١٦٠ فبظلم من الذين هادوا ٣٨٥ ١٦١ وأخذهم الربا وقد نهوا ٣٨٦ ١٦٢ لكن الراسخون في العلم منهم ٣٨٧ ١٦٣ إنا أوحينا إليك ٣٨٩ ١٦٤ ورسلا قد قصصناهم ٣٩٢
421
١٦٥ رسلا مبشرين ومنذرين ٣٩٣ ١٦٦ لكن الله يشهد بما أنزل إليك ٣٩٥ ١٦٧ إن الذين كفروا وصدوا ٣٩٦ ١٦٨ إن الذين كفروا وظلموا ٣٩٧ ١٦٩ إلا طريق جهنم ٣٩٧ ١٧٠ يا أيها الناس قد جاءكم ٣٩٨ ١٧١ يا أهل الكتاب لا تغلوا ٣٩٩ ١٧٢ لن يستنكف المسيح ٤٠٤ ١٧٣ فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات ٤٠٧ ١٧٤ يا أيها الناس قد جاءكم برهان ٤٠٧ ١٧٥ فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به ٤٠٨ ١٧٦ يستفتونك قل الله يفتيكم ٤٠٩
422

[المجلد الرابع]

تفسير سورة المائدة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدّمة

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، أرسله ربه رحمة للعالمين، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.
وبعد: فإن القرآن الكريم هو كتاب الله الذي أنزله على رسوله محمد صلّى الله عليه وسلم ليخرج الناس به من الظلمات إلى النور، ولينقذهم من الظلم والفجور.
قال- تعالى-: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ.
ولقد كان من فضل الله علينا، أن وفقنا لخدمة كتابه، فأعاننا على كتابة تفسير سور: الفاتحة والبقرة، وآل عمران، والنساء ويسعدني أن أتبع ذلك بتفسير محرر لسورة المائدة، حاولت فيه أن أكشف عما اشتملت عليه هذه السورة من هدايات جامعة وتشريعات حكيمة، وحجج باهرة، تقذف حقها على باطل الضالين فإذا هو زاهق.
وقد رأيت من الخير قبل أن أبدأ في تفسيرها بالتفصيل والتحليل، أن أسوق كلمة بين يديها تكون بمثابة التعريف بها، وبيان فضلها، ووجه اتصالها بالسورة التي قبلها، وزمان نزولها، والمقاصد الإجمالية التي اشتملت عليها.
وقد كان منهجي في تفسير هذه السورة، هو المنهج الذي سلكته في تفسير السور السابقة.
وملخصه: أنى أبدأ بشرح الألفاظ القرآنية شرحا لغويا مناسبا، ثم أبين المراد منها- إذا كان الأمر يقتضى ذلك.
ثم أذكر سبب النزول للآية أو الآيات- إذا وجد وكان مقبولا- ثم أذكر المعنى الإجمالى للجملة أو للآية، مستعرضا ما اشتملت عليه من وجوه البلاغة وحسن التوجيه.
ثم أتبع هذا ببيان ما يؤخذ من الآية أو الآيات من أحكام وآداب وتشريعات.
5
وقد حرصت كثيرا على تخريج الأحاديث التي أذكرها، وعلى بيان المصادر التي أنقل عنها.
وتعمدت- عند النقل من المصدر لأول مرة- أن أبين زمان طبعته ومكانها ثم ألتزم النقل عنه بعد ذلك إلى نهاية السورة، دون أن ألجأ إلى طبعات أخرى إلا عند الضرورة القصوى.
وقد تجنبت التوسع في وجوه الإعراب، واكتفيت بالراجح منها..
وذلك لأنى توخيت فيما أكتب إبراز ما اشتمل عليه القرآن الكريم من هدايات جامعة وتشريعات حكيمة وآداب سامية، وعظات بليغة وتوجيهات نافعة، وأقوال مأثورة.
والله أسأل أن يجعل القرآن ربيع قلوبنا، وأنس نفوسنا، وأن يعيننا على إتمام ما بدأناه من خدمة لكتابه، وأن يجعل أقوالنا وأعمالنا خالصة لوجهه، ونافعة لعباده.
وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ١٥ من ربيع الأول ١٤٠٧ هـ ١٧ من نوفمبر ١٩٨٦ م محمد سيد طنطاوى شيخ الأزهر
6
تمهيد بين يدي السورة
١- سورة المائدة هي السورة الخامسة من سور القرآن الكريم في ترتيب المصحف، فقد سبقتها سور: الفاتحة، والبقرة، وآل عمران، والنساء.
٢- وهي مدنية باتفاق العلماء. بناء على القول الذي رجحه العلماء من أن القرآن المدني هو الذي نزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد الهجرة ولو كان نزوله في غير المدينة.
٣- وعدد آياتها عشرون ومائة آية عند الكوفيين ويرى الحجازيون والشاميون أن عدد آياتها اثنتان وعشرون ومائة آية، ويرى البصريون أن عدد آياتها ثلاث وعشرون ومائة آية.
٤- ولهذه السورة الكريمة أسماء أشهرها: المائدة.
وسميت بهذا الاسم، لأنها انفردت بذكر قصة المائدة التي طلب الحواريون من عيسى- عليه السلام- نزولها من السماء. وقد حكى الله- تعالى- ذلك في آخر السورة في قوله- تعالى-: إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ (الآيات من ١١٢: ١١٥) وتسمى أيضا بسورة العقود، لأنها السورة الوحيدة التي افتتحت بطلب الإيفاء بالعقود. قال- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ وتسمى- أيضا- المنقذة.
قال القرطبي: وروى عنه صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «سورة المائدة تدعى في ملكوت الله المنقذة. تنقذ صاحبها من أيدى ملائكة العذاب «١» ».
٥- ووجه اتصالها بسورة النساء- كما يقول الآلوسى- «أن سورة النساء قد اشتملت على عدة عقود: صريحا وضمنا. فالصريح: عقود الأنكحة وعقد الصداق. وعقد الحلف. وعقد المعاهدة والأمان. والضمنى: عقد الوصية والوديعة. والوكالة. والعارية. والإجارة. وغير ذلك مما يدخل في قوله- تعالى- إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها.
فناسب أن تعقب بسورة مفتتحة بالأمر بالوفاء بالعقود. فكأنه قيل: يا أيها الناس أوفوا بالعقود التي فرغ من ذكرها في السورة التي تمت، وإن كان في هذه السورة- أيضا- عقود.
ووجه تقديم النساء وتأخير المائدة. أن أول تلك يا أَيُّهَا النَّاسُ وفيها الخطاب بذلك في
(١) تفسير القرطبي: ج ٦ ص ٣٠ طبعة دار الكتب المصرية سنة ١٣٨٩ هـ سنة ١٩٥٩
7
مواضع، وهي أشبه بتنزيل المكي. وأول هذه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وفيها الخطاب بذلك في مواضع وهو أشبه بخطاب المدني. وتقديم العام وشبه المكي أنسب «١».
٦- وقد وردت روايات تفيد أن سورة المائدة نزلت على النبي صلّى الله عليه وسلّم دفعة واحدة. ومن هذه الروايات ما أخرجه الإمام أحمد عن أسماء بنت يزيد قالت: إنى لآخذة بزمام ناقة رسول الله العضباء، إذ نزلت عليه المائدة كلها. فكادت من ثقلها تدق عنق الناقة «٢».
وروى الإمام أحمد- أيضا- عن عبد الله بن عمرو قال: أنزلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سورة المائدة وهو راكب على راحلته، فلم تستطع أن تحمله فنزل عنها «٣».
وهناك روايات أخرى تحدثت عن زمان ومكان نزولها، ومن هذه الروايات ما أخرجه أبو عبيد عن محمد القرظي قال: نزلت سورة المائدة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حجة الوداع فيما بين مكة والمدينة «٤».
وقال القرطبي: وروى أنها نزلت عند منصرف رسول الله من الحديبية «٥».
وهناك روايات تحدثت عن زمان ومكان نزول بعض آياتها.
قال السيوطي في كتابه «الإتقان» - عند حديثه عن معرفة الحضري والسفرى-: وللسفرى أمثلة منها: قوله- تعالى- الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ففي الصحيح عن عمر بن الخطاب:
أنها نزلت عشية عرفة يوم الجمعة، عام حجة الوداع.
ومنها: آية التيمم. ففي الصحيح عن عائشة، أنها نزلت بالبيداء وهم داخلون المدينة- بعد انتهائهم من غزوة المريسيع كما جاء في بعض الروايات.
ومنها: قوله- تعالى- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فقد نزلت ببطن نخل.
ومنها: قوله- تعالى- وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ فقد نزلت في غزوة ذات الرقاع.
وهذه الآيات جميعها من سورة المائدة» «٦».
والذي تطمئن إليه النفس عند تلاوة سورة المائدة بتدبر وإمعان فكر، وعند مراجعة الروايات
(١) تفسير الآلوسى ج ٦ ص ٤٨. طبعة منير الدمشقي
(٢، ٣) تفسير ابن كثير ج ٢ طبعة عيسى الحلبي.
(٤) تفسير الآلوسى ج ٦ ص ٤٧. [.....]
(٥) تفسير القرطبي ج ٦ ص ٣٠
(٦) الإتقان في علوم القرآن ج ١ ص ١٨ طبعة مصطفى الحلبي سنة ١٩٥١.
8
التي وردت في سبب نزول بعض آياتها، يرى أن هذه السورة الكريمة لم تنزل دفعة واحدة، وإنما نزلت متفرقة وفي أوقات مختلفة.
ومما يشهد لذلك ما جاء في كتب الحديث وفي كتب السيرة أن المقداد بن الأسود قد قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم قبيل التحام المسلمين مع المشركين في غزوة بدر: يا رسول الله امض لما أمرك الله. فو الله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى. اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون.
فقد أخرج البخاري عن عبد الله بن مسعود قال: شهدت من المقداد بن الأسود مشهدا، لأن أكون صاحبه أحب إلى مما عدل به. أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يدعو على المشركين- في بدر- فقال: لا نقول كما قال قوم موسى: اذهب أنت وربك فقاتلا.. ولكنا نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك وخلفك» «١».
فهذا النص يفيد أن الصحابة كانوا على علم قبل غزوة بدر بهذه الآيات التي وردت في سورة المائدة، والتي تحكى موقف بنى إسرائيل من نبيهم موسى عند ما دعاهم إلى دخول الأرض المقدسة «٢».
كذلك مما يشهد بأن سورة المائدة قد نزلت منجمة ولم تنزل دفعة واحدة ما نقلناه منذ قليل عن السيوطي من أن بعض آياتها قد نزلت في أزمنة وأمكنة مختلفة.
وأيضا مما يشهد لذلك، أن المتأمل في بعض آياتها يراها تحكى لنا ألوانا من تعنت اليهود مع النبي صلّى الله عليه وسلّم ومن تحاكمهم إليه لا من أجل الوصول إلى الحق وإنما من أجل إظهاره بمظهر الجاهل بأحكام التوراة.
قال- تعالى- وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ، يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا.
وفعلهم هذا يدل على أنهم كانت لهم قوة ونفوذ في المدينة عند نزول هذه الآيات.
ومن المعروف تاريخيا أن نفوذ اليهود بالمدينة قد تلاشى بعد غزوة بنى قريظة في السنة الخامسة من الهجرة. وأن قوتهم قد زالت بعد فتح خيبر في أوائل السنة السابعة من الهجرة.
ومن كل هذا نستخلص أن بعض آيات هذه السورة يغلب على ظننا أنها نزلت على النبي صلّى الله عليه وسلّم في السنوات التي سبقت صلح الحديبية وأن الروايات التي نقلناها قبل ذلك عن بعض المفسرين، والتي يستفاد منها أن سورة المائدة قد نزلت دفعة واحدة، أو أنها نزلت عند منصرف
(١) صحيح البخاري ج ٥ ص ٩٢ طبعة مصطفى الحلبي سنة ١٩٤٥ هـ
(٢) راجع الآيات من ٢٠- ٢٦ من سورة المائدة.
9
الرسول صلّى الله عليه وسلّم من الحديبية، أو فتح مكة أو في حجة الوداع، أو عند رجوعه منها.. كل هذه الروايات فيها مقال- لأنها بجانب- تفرد بعض المحدثين بها فإنها تخالف ما جاء في كتب السنة الصحيحة من أن بعض آياتها قد نزل في حجة الوداع، وبعضها قد نزل بعد غزوة المريسيع، وبعضها كان معروفا للصحابة قبل اشتراكهم في غزوة بدر.
ولأن بعض آيات هذه السورة تحكى لنا أحداثا ومجادلات قد حصلت بين النبي صلّى الله عليه وسلّم وبين اليهود، وهذه الأحداث وتلك المجادلات من المستبعد أن تكون قد حدثت بعد غزوة بنى قريظة في السنة الخامسة من الهجرة، لأنه- كما سبق أن أشرنا- لم يبق لليهود نفوذ في المدينة بعد غزوة بنى قريظة، حتى يستطيعوا أن يواجهوا النبي صلّى الله عليه وسلّم بما واجهوه من مجادلات ومن تحاكم اليه بقصد إحراجه- كما سنفصل ذلك عند تفسيرنا للآيات المتعلقة بهذا الموضوع.
ومع كل هذا فنحن نرجح أن جانبا كبيرا من آيات سورة المائدة قد نزل متأخرا عن صلح الحديبية، بل عن فتح مكة، لأن بعض آياتها تقرر أن المشركين قد صاروا في يأس من التغلب على المسلمين بعد أن فتح المسلمون مكة بعد أن أتم الله لهم دينهم. قال- تعالى- الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً.
ولأن هناك آثارا تشهد بأن سورة المائدة- في مجموعها- من آخر ما نزل على النبي صلّى الله عليه وسلّم من قرآن.
قال القرطبي: وروى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قرأ سورة المائدة في حجة الوداع وقال: «يا أيها الناس إن سورة المائدة من آخر ما نزل فأحلوا حلالها وحرموا حرامها».
ونحوه عن عائشة- رضى الله عنها- موقوفا. قال جبير بن نفير: دخلت على عائشة فقالت:
هل تقرأ سورة المائدة؟ فقلت: نعم. فقالت: فإنها من آخر ما أنزل الله. فما وجدتم فيها من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيها من حرام فحرموه «١» ».
والخلاصة، أن الذي يغلب على ظننا أن سورة المائدة لم تنزل دفعة واحدة في وقت معين أو في زمان معين، وإنما نزل بعضها في السنوات التي سبقت صلح الحديبية، ونزل معظمها بعد هذا الوقت، للأسباب التي سبق أن بيناها، وأن الروايات التي تقول بنزولها دفعة واحدة أو في وقت معين وزمان معين من الممكن أن تحمل على أن المراد بها مجموع السورة لا جميعها.
٧- هذا وعند ما نستعرض سورة المائدة استعراضا إجماليا نراها في مطلعها تأمر المؤمنين
(١) تفسير القرطبي ج ٦ ص ٣١
10
بالوفاء بالعهود، وبالتزام التكاليف التي كلفهم الله بها، ثم أردفت ذلك ببيان الحلال من الذبائح والحرام منها، ثم بيان حكم طعام أهل الكتاب، وحكم الزواج بالكتابيات.
وبعد أن تكلمت عن المباحات التي يحتاج إليها الجسد أتبعت ذلك بالحديث عن الصلاة التي هي غذاء الروح، فأمرت المؤمنين بأن يدخلوها متطهرين، ووضحت لهم أنه- سبحانه- لا يريد من وراء ما يشرعه لهم الضيق أو الحرج وإنما يريد لهم الخير والطهر وإتمام النعمة:
ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
ثم أمرت المؤمنين بالتزام العدل مع الأصدقاء. ومع الأعداء، ووعدت المطيعين لله- تعالى- بالمغفرة والأجر العظيم، وتوعدت الكافرين بآيات الله بعذاب الجحيم، ثم ذكرت المؤمنين بجانب من مظاهر فضل الله عليهم ورحمته بهم، حيث كف أيدى المعتدين عنهم.
وحماهم من مكرهم. قال- تعالى- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ، فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ، وَاتَّقُوا اللَّهَ، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ «١».
- ثم نراها في الربع الثاني «٢» منها تحكى لنا جانبا من رذائل أهل الكتاب. فتبين كيف أن الله- تعالى- أخذ عليهم العهد والميثاق بأن يؤمنوا به ويطيعوه ولكنهم نقضوا عهودهم، فكانت نتيجة ذلك أن لعنهم الله، وأن أدام بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة.
ثم وجهت نداء إلى أهل الكتاب أرشدتهم فيه إلى طريق الحق، وأمرتهم باتباعه. ووبخت الذين قالوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ. وحكت جانبا من الدعاوى الباطلة التي ادعاها اليهود والنصارى، حيث قالوا: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ.
ثم وجهت نداء ثانيا إلى أهل الكتاب أمرتهم فيه باتباع محمد صلّى الله عليه وسلّم لأنهم بسبب عدم اتباعه سيكون مصيرهم إلى النار، ولن يقبل الله منهم عذرا بعد أن أرسل إليهم- سبحانه- من يبشرهم وينذرهم.
قال تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ، فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
ثم حكت السورة الكريمة قصة من قصص موسى- عليه السلام- مع بنى إسرائيل.
فقد ساقت بأسلوبها البليغ إغراءه لهم بدخول الأرض المقدسة، ولكنهم جبنوا واتخذوا
(١) الآيات من ١- ١١
(٢) الآيات من ١٢- ٢٦
11
عصيانه سبيلهم. فكانت نتيجة ذلك أن عاقبهم الله- تعالى- بالتيه. قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ.
- ثم نراها بعد ذلك في الربع الثالث «١» تحكى لنا قصة ابني آدم بأسلوب مؤثر: تحكى لنا قصة أول جريمة وقعت على ظهر الأرض بسبب الحسد. وتحكى لنا تلك المحاورات التي دارت بين الأخوين: القاتل والقتيل.
وكيف أن القاتل قد تحير في مواراة جثة أخيه، إلى أن تعلم كيفية مواراتها من غراب أخذ يبحث في الأرض ليواري جثة غراب مثله.
وإذا كان الحسد حتى في العبادات يؤدى إلى القتل وسفك الدماء، فقد شرع الله القصاص لحماية الأنفس والأموال والأعراض. فقد ذكر- سبحانه- بعد ذلك جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا. وجزاء السارق والسارقة. وجزاء الذين كفروا بالحق بعد أن جاءهم من عند الله.
وخلال ذلك أمر- سبحانه- عباده المؤمنين بتقوى الله. وبالتقرب إليه بالعمل الصالح، وبمداومة الجهاد في سبيل الله، حتى ينالوا الفلاح في الدنيا والآخرة.
- وبعد هذه التشريعات الحكيمة، نراها في الربع الرابع «٢» تحكى لنا بعض الوسائل الخبيثة التي اتبعها اليهود في محاربتهم للدعوة الإسلامية فذكرت بعض أقوالهم التي كانوا يقولونها عند ما يأتون إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم ليتحاكموا إليه في منازعاتهم يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا ووصفتهم بأنهم سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ.
وأرشدت الرسول- صلّى الله عليه وسلّم إلى طريقة التعامل معهم فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ. وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً. وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ.
ثم بعد أن مدحت التوراة، ووصفت الذين لم يحكموا بما أنزل الله بالكفر. والظلم. بعد كل ذلك نوهت بشأن عيسى- عليه السلام- وبشأن الإنجيل، وأمرت أهله بأن يحكموا بما أنزل الله فيه.
قال: تعالى- وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ.
(١) الآيات من ٢٧- ٤٠
(٢) الآيات من ٤١- ٥٠
12
ثم انتقلت السورة بعد ذلك إلى الحديث عن القرآن الكريم، فوصفته بأنه هو الكتاب المصدق لما بين يديه من الكتب، وهو المهيمن عليها، وهو الذي إليه المرجع في الأحكام، وأن الذين يبغون التحاكم إلى غيره ضالون ظالمون.
قال- تعالى- أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ، وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ.
- ثم وجهت السورة الكريمة في مطلع الربع الخامس «١» منها نداء إلى المؤمنين أمرتهم فيه بأن يجعلوا ولايتهم لله ولرسوله ولإخوانهم في العقيدة، ونهتهم عن موالاة الذين يخالفونهم في الدين. ووصفت الذين يتولون من غضب الله عليهم بالنفاق ومرض القلب، وبشرت المطيعين لله بالنصر والظفر قال- تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ.
ثم أمرت السورة الكريمة النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يوبخ أهل الكتاب بسبب كراهيتهم لأهل الحق، وأن يخبرهم بأن المستحقين للكراهية هم أولئك الذين لعنهم الله وغضب عليهم، لكفرهم، ومسارعتهم في الإثم والعدوان. ولافترائهم على الله- تعالى- الكذب، حيث وصفوه- سبحانه- بالبخل والشح.
قال- تعالى-: وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا. بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ. وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً. وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ، وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً، وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ.
وبعد أن بينت السورة الكريمة لأهل الكتاب أنهم لو آمنوا بالحق الذي جاءهم به محمد صلّى الله عليه وسلّم لكفر الله عنهم سيئاتهم، ولأدخلهم جنات النعيم، ولرزقهم من فضله الرزق الجزيل. بعد أن بينت كل ذلك، وجهت في مطلع الربع السادس «٢» منها إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم نداء أمرته فيه بتبليغ ما أمره الله بتبليغه بدون خشية أو تردد، ووعدته بعصمة الله- تعالى- له من الناس كما أمرته بمصارحة أهل الكتاب بما هم فيه من باطل وضلال.
ثم ساقت جملة من الرذائل التي انغمس فيها أهل الكتاب، فحكت نقضهم للعهود والمواثيق، وتكذيبهم للرسل تارة وقتلهم إياهم تارة أخرى، كما حكت قولهم الباطل: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ. وقولهم: إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ.
(١) الآيات من ٥٠- ٦٦
(٢) الآيات من ٦٧- ٨١
13
وقد هددتهم بالعذاب الأليم إذا ما تمادوا في ضلالهم وطغيانهم، وحثتهم على التوبة والاستغفار، وأقامت لهم الأدلة على بطلان عقائدهم، وبينت لهم القول الحق في شأن عيسى وأمه مريم حتى يكونوا على بصيرة من أمرهم.
قال- تعالى-: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ، وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ ثم كشفت السورة عن الأسباب التي أدت إلى طرد الكافرين من بنى إسرائيل من رحمة الله، فذكرت أنهم قد استحقوا ذلك بسبب عصيانهم، واعتدائهم وعدم تناهيهم عن منكر فعلوه، وولايتهم لأهل الكفر وعداوتهم لأهل الإيمان.
قال- تعالى- تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ، وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ، وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ.
ثم وضحت السورة الكريمة في مطلع الربع السابع «١» منها مراتب أعداء المؤمنين، فصرحت بأن أشد الناس عداوة للمؤمنين هم اليهود والذين أشركوا. وأن أقربهم مودة إلى المؤمنين أولئك الذين قالوا إنا نصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ.
ثم وجهت نداء المؤمنين نهتهم فيه عن تحريم الطيبات التي أحلها الله لهم وأرشدتهم إلى ما يجب عليهم فعله إذا ما حنثوا في أيمانهم. وأمرتهم بحفظ هذه الأيمان، وعدم اللجوء إليها إلا عند وجود المقتضى لها.
ثم أخبرتهم بأنه إذا كان الله- تعالى- قد أحل لهم الطيبات، فإنه في الوقت نفسه قد حرم عليهم الخبائث، وعلى رأس هذه الخبائث: الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، فعليهم أن يجتنبوا هذه الأرجاس لينالوا رضا الله في عاجلتهم وآجلتهم.
ثم ساقت السورة الكريمة ألوانا من مظاهر نعم الله على عباده ورحمته بهم حيث أباح لهم أن يتمتعوا بما أحله الله لهم مع مراقبته وخشيته في كل ما يأتون وما يذرون، ومع التزامهم بتعاليم شريعة الله في الحل وفي الحرم.
وبعد هذا الحديث المستفيض عما أحله الله وعما حرمه، أخذت السورة في مطلع الربع الثامن «٢» منها في التنويه بشأن الكعبة وبشأن البيت الحرام، ووظيفة الرسول صلّى الله عليه وسلّم.
(١) الآيات من ٨٢- ٩٦
(٢) الآيات من ٩٧- ١٠٨
14
ثم نهت المؤمنين عن الأسئلة التي لا منفعة من ورائها، فإن هذا يتنافى مع ما يقتضيه إيمانهم من أدب في القول، ومن تطلع إلى ما ينفع ويفيد، قال- تعالى- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ، وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها، وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ. قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ.
ثم حكت السورة أنواعا من الأوهام التي تعلق بها أهل الجاهلية، حيث حرموا على أنفسهم بعض المطاعم التي أحلها الله، مستندين في تحريمهم ما حرموه إلى عادات جاهلية اعتنقوها، وهذه العادات أبعد ما تكون عن شرع الله وعما تقتضيه العقول السليمة.
وفي وسط هذا الحديث عما أحله الله وحرمه، ساقت السورة توجيها حكيما للمؤمنين، حيث بينت لهم أن الداعي إلى الله متى قام بواجبه نحو ربه، ونحو نفسه، ونحو غيره، فإنه لا يكون بعد ذلك مسئولا عن ضلال من يضل.
قال- تعالى- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ، إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
وبعد أن بينت بعض الأحكام التي تتعلق بالوصية ووسائل إثباتها، نوهت السورة الكريمة في الربع الأخير منها «١» بشأن عيسى- عليه السلام- وحكت بعض المعجزات التي أيده الله بها في رسالته، وقصت ما طلبه الحواريون منه حيث قالوا له- كما حكى القرآن عنهم:
هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ وساقت ما دار بينهم وبين عيسى- عليه السلام- من محاورات في هذه المسألة.
ثم ختمت السورة حديثها عن عيسى بتلك الآيات التي تحكى براءته من كل ما افتراه المفترون عليه، وأنه- عليه السلام- لم يأمر قومه إلا بعبادة الله وحده، وأنه لم يكن إلا رسولا من رسل الله الذين أخلصوا له- سبحانه- العبادة والطاعة. استمع إلى السورة الكريمة وهي تحكى هذا المعنى بأسلوبها البليغ المؤثر فتقول:
وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ قالَ: سُبْحانَكَ. ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ. إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ، تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ، إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ. ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ، أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ، وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ، فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
(١) الآيات من ١٠٩ إلى نهاية السورة. [.....]
15
٨- هذا عرض مجمل للتشريعات والقصص والآداب والتوجيهات التي اشتملت عليها سورة المائدة. ومن هذا العرض نستطيع أن نستخلص بعض الحقائق البارزة في هذه السورة بصورة أظهر منها في غيرها. ومن تلك الحقائق ما يأتى:
١- أن السورة الكريمة زاخرة بالأحكام الشرعية المتنوعة، فأنت تقرؤها بتدبر وخشوع فتراها قد بينت أحكاما شرعية منها ما يتعلق بالحلال والحرام من الذبائح ومن الصيد ومنها ما يتعلق بالحلال والحرام في فترة الإحرام وفي المسجد الحرام. ومنها ما يتعلق بالحلال والحرام من النكاح، ومنها ما يتعلق بالطهارة والصلاة والتيمم، ومنها ما يتعلق بوجوب التزام العدل في القضاء وفي الشهادة وفي غيرهما. ومنها ما يتعلق بالحدود في السرقة وفي قطع الطريق والإفساد في الأرض. ومنها ما يتعلق بأهل الكتاب إذا ما تحاكموا إلينا. ومنها ما يتعلق بكفارات الايمان وكفارات قتل الصيد في حالة الإحرام. ومنها ما يتعلق بالخمر والميسر والأنصاب والأزلام.
ومنها ما يتعلق بالبحيرة والسائبة والوصيلة والحامى من الأنعام. ومنها ما يتعلق بالوصية عند الموت.. إلى غير ذلك من الأحكام الشرعية التي أفاضت في الحديث عنها هذه السورة الكريمة.
قال القرطبي: قال أبو ميسرة: المائدة من آخر ما نزل ليس فيها منسوخ. وفيها ثماني عشرة فريضة ليست في غيرها، وهي: الْمُنْخَنِقَةُ، وَالْمَوْقُوذَةُ، وَالْمُتَرَدِّيَةُ، وَالنَّطِيحَةُ، وَما أَكَلَ السَّبُعُ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ، وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ، وتمام الطهور: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ أى: إتمام ما لم يذكر في سورة النساء- وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ ولا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إلى قوله: عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ. ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ، وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ. وقوله- تعالى- شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ الآية.
ثم قال القرطبي: قلت: وفريضة تاسعة عشرة وهي قوله- تعالى-: وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ إذ ليس للآذان ذكر في القرآن إلا في هذه السورة أما ما جاء في سورة الجمعة فمخصوص بالجمعة. وهو في هذه السورة عام لجميع الصلوات» «١».
٢- إن الذي يقرأ سورة المائدة يراها قد وجهت جملة من النداءات إلى المؤمنين وقد تجاوزت هذه النداءات في كثرتها، تلك النداءات التي وردت في أطول سورة في القرآن وهي سورة البقرة.
(١) تفسير القرطبي ج ٦ ص ٣٠
16
فقد وجهت سورة المائدة إلى المؤمنين ستة عشر نداء. وقد تضمن كل نداء تشريعا من التشريعات، أو أمرا من الأوامر: أو نهيا من النواهي، أو توجيها من التوجيهات مما يدل على أن هذه السورة قد اهتمت اهتماما ملحوظا بتربية المؤمنين على المنهج الذي اختاره الله لهم.
ولا سيما بعد أن أكمل- سبحانه- لهم دينهم، وأتم عليهم نعمته.
وهذه هي النداءات التي وجهها الله- تعالى- إلى المؤمنين نسوقها مرتبة كما وردت في السورة.
١- قال- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ الآية ١ ٢- وقال- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ الآية ٢ ٣- وقال- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا الآية ٦ ٤- وقال- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ الآية ٨ ٥- وقال- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ الآية ١١ ٦- وقال- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ الآية ٣٥ ٧- وقال- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ الآية ٥١ ٨- وقال- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ الآية ٥٤ ٩- وقال- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً الآية ٥٧ ١٠- وقال- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ الآية ٨٧ ١١- وقال- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ الآية ٩٠ ١٢- وقال- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ الآية ٩٤ ١٣- وقال- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ الآية ٩٥ ١٤- وقال- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ الآية ١٠١ ١٥- وقال- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ الآية ١٠٥ ١٦- وقال- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ الآية ١٠٦ هذه هي النداءات التي وجهها- سبحانه- إلى المؤمنين في سورة المائدة، وأنت إذا تأملت فيها ترى كل نداء منها يعتبر قانونا منظما لناحية من نواحي الحياة عند المسلمين فيما يختص بأنفسهم، أو فيما يختص بعلاقتهم بغيرهم.
وسنفصل القول في هذه الآيات المشتملة على تلك النداءات عند تفسيرنا لها- إن شاء الله-.
٣- أن السورة الكريمة حافلة بالحديث عن أحوال أهل الكتاب، فقد تحدثت عن عقائدهم الفاسدة، وردت عليهم بما يبطل معتقداتهم بأسلوب منطقي رصين: ولم تكتف بهذا بل
17
أرشدتهم في كثير من آياتها إلى طريق الحق حتى يسلكوه، وحتى لا يكون لهم عذر يوم القيامة.
وأمرت النبي صلّى الله عليه وسلّم في كثير من آياتها- أيضا- أن يكشف لهم عن ضلالهم وفسوقهم عن أمر ربهم.
ومن ذلك قوله- تعالى-: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ.
وقوله- تعالى-: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ.
وقوله- تعالى-: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ، وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ، وَأَضَلُّوا كَثِيراً، وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ.
وقد ذكرت السورة الكريمة- كما سبق أن أشرنا- ألوانا من مسالك اليهود الخبيثة لكيد الدعوة الإسلامية، كتحاكمهم إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم لا بقصد الوصول إلى الحق، وإنما بقصد إظهاره بمظهر الجاهل بأحكام التوراة ولكن الله- تعالى- خيب سعيهم، وأبطل مكرهم، وكاستهزائهم بالدين الإسلامى وشعائره:
قال- تعالى-: وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ.
كما ذكرت- أيضا- أنواعا من رذائلهم التي من أشنعها: نقضهم للعهود والمواثيق، ومسارعتهم في الإثم والعدوان، وأكلهم أموال الناس بالباطل، وتكذيبهم للرسل تارة، وقتلهم لهم تارة أخرى.
أما فيما يتعلق بالنصارى فقد تميزت سورة المائدة بالإفاضة في الحديث عنهم بصورة لا تكاد توجد في غيرها بهذه السعة.
فقد تحدثت عن عقائدهم الباطلة، وعن أقوالهم الكاذبة في شأن عيسى عليه السلام- وفي شأن أمه مريم، وردت عليهم بما يدحض حجتهم، وبما يرشدهم إلى الصراط المستقيم.
وقد أنصفت السورة من يستحق الإنصاف منهم، وبشرت أولئك الذين اتبعوا الحق منهم بالثواب الجزيل من الله- تعالى.
٤- أن الذي ينظر في الأحكام والتشريعات والتوجيهات التي اشتملت عليها سورة المائدة يراها تمتاز بأنها أحكام نهائية لا تقبل النسخ.
وخذ على سبيل المثال ما ورد في هذه السورة بشأن تحريم الخمر، فإنك تراه قاطعا وحاسما في التحريم.
18
فلقد مر تحريم الخمر بمراحل كان أولها قوله- تعالى- في سورة البقرة: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ (الآية ٢١٩).
وكان ثانيها قوله- تعالى- في سورة النساء: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ (الآية ٤٣).
وكان آخرها قوله- تعالى- هنا في سورة المائدة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ.
والسر في أن الأحكام الشرعية التي وردت في هذه السورة تعتبر نهائية ولا تقبل النسخ. أن معظم آياتها- كما سبق أن ذكرنا- كان من آخر ما نزل على النبي صلّى الله عليه وسلّم من قرآن، وكان نزول كثير من آياتها بعد أن انزوى الشرك في مخابئه، وصار المسلمون في قوة ومنعة، كانوا بها أصحاب السلطان في مكة وفي بيت الله الحرام، دون أن يتعرض لهم متعرض، أو ينازعهم منازع، فقد تم فتح مكة ودخل الناس في دين الله أفواجا.
ولهذا فأنت لا ترى السورة الكريمة تتحدث عن الشرك أو عن المشركين، أو عن الجهاد في سبيل الله وما يتعلق به من حض عليه ومن أحكام تختص به.
وإنما سورة المائدة تتحدث عن قضايا أخرى كان المسلمون في حاجة إليها عند نزولها. ومن أهم هذه القضايا: حث المؤمنين على التزام العهود والمواثيق وتحذيرهم من الإخلال بشيء منها، وإنزال التشريعات التي هم في حاجة إليها بعد أن تم لهم النصر على أعدائهم، وإرشادهم إلى طرق المحاجة والمناقشة التي يردون بها على ما يثيره أهل الكتاب من شبهات حول تعاليم الإسلام وآدابه وتشريعاته. وبيان وجه الحق فيما حكته السورة عن أهل الكتاب من أقوال باطلة، ومن معتقدات فاسدة.
أما فيما يتعلق بالشرك والمشركين أو بالجهاد في سبيل الله، فلم يكن مقتضى حال المسلمين يستدعى الكلام في ذلك، لأن نزول معظمها كان بعد أن تم للمسلمين النصر على أعدائهم، وبعد أن أصبحت كلمتهم هي العليا، وكلمة المشركين هي السفلى.
وقد تكفلت السور المدنية الأخرى التي نزلت قبل سورة المائدة بالحديث المستفيض عن الشرك وعن المشركين، وعن الحض على الجهاد في سبيل الله، وعن غير ذلك من القضايا التي تقتضيها حالة المسلمين.
19
وبعد: فهذا تمهيد بين يدي السورة الكريمة تعرضنا خلاله لمكان نزولها ولزمانه، ولوجه تسميتها بسورة المائدة. وللمقاصد الإجمالية التي اشتملت عليها وللأمور البارزة فيها.
وقد قصدنا بهذا التمهيد إعطاء القارئ الكريم فكرة واضحة عن هذه السورة، قبل البدء في تفسير آياتها بالتفصيل والتحليل. والله الهادي إلى سواء السبيل.
20
Icon