ﰡ
مما أنتم مستخلفون فيه فِي سَبِيلِ اللَّهِ كي تفوزوا بالمثوبة العظمى والكرامة الكبرى عنده سبحانه وتصلوا الى ما جبلتم لأجله وبعد ما وصل الدعوة إليكم فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ اى يمنع ولم يعط بل يظهر ما يضمر في نفسه من الحقد والضغن وَبالجملة مَنْ يَبْخَلُ من ماله بعد ما امر بإنفاقه فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ إذ نفع الانفاق وضرر البخل كلاهما عائدان الى نفسه وَبالجملة اللَّهُ الْغَنِيُّ المستغنى بذاته عن عموم صدقاتكم وزكواتكم بل عن مطلق طاعاتكم وعباداتكم وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ المقصورون على الفقر والاحتياج الذاتي الى ما عنده سبحانه من انواع الانعام والإحسان وَبعد ما قد بلغت لهم يا أكمل الرسل ما بلغت من مقتضيات الوحى والإلهام الإلهي قل لهم إِنْ تَتَوَلَّوْا وتنصرفوا عن الايمان والامتثال لعموم المأمورات يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ اى يهلككم ويقم بدلكم قوما يؤمنون ويقومون بامتثال عموم الأوامر والنواهي ثُمَّ لما علم المستبدلون منكم واعتبروا مما جرى عليكم وشاهدوا مقتكم وهلاككم بأمثال هذا التولي والانصرافات لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ كافرين بالله كفارا لنعمه مضيعين لحقوق كرمه. جعلنا الله من زمرة الشاكرين الممتثلين بأوامره المجتنبين عن نواهيه بمنه وجوده
خاتمة سورة محمد صلّى الله عليه وسلّم
عليك ايها القاصد نحو طريق التوحيد العازم على سلوك سبيل الفناء في الله المثمر للبقاء الذاتي أوصلك الله الى غاية مبتغاك ونهاية متمناك ان تعدل في عموم اوصافك واخلاقك سيما في احوالك التي تتعلق بالإنفاق المأمور عليك بمقتضى الحكمة والعدالة الإلهية الناشئة من الله عن محض الارادة والرضا إياك إياك البخل والتقتير فانه الجالب لحلول غضب الله ونزول انواع سخطه حسب قهره وجلاله فعليك الامتثال بالمأمور والاتكال على الملك الرحيم الغفور
[سورة الفتح]
فاتحة سورة الفتح
لا يخفى على ارباب السكينة والوقار من الفائزين بسرائر التوحيد المنكشفين باسرار الربوبية والإلهية ان من استقام على طريق الحق متوكلا عليه مفوضا أموره كلها اليه مخلصا في جميع اعماله وأحواله مستويا على منهج العدالة المأمورة من قبل ربه فقد فتح عليه سبحانه أبواب اصناف الفتوحات الغيبية وأفاض عليه انواع الكرامات السنية القدسية وأوصله الى الدرجات العلية اللاهوتية وأنقذه من الدركات الهوية الناسوتية الامكانية الجهنمية لذلك قد من سبحانه على حبيبه صلّى الله عليه وسلّم بالفتح والظفر على عموم ما يسر الله له ووفقه عليه من انواع الخيرات والكرامات المنتظرة له واصناف السعادات العاجلة والآجلة متيمنا باسمه الأعلى بِسْمِ اللَّهِ الذي فتح على خلص عباده أبواب المعارف واليقين الرَّحْمنِ عليهم بافاضة التسليم والعقل المنشعب من حضرة علمه ليهديهم الى صراط مستقيم الرَّحِيمِ عليهم يوصلهم الى مقر التوحيد ليتمكنوا في روضة الرضاء وجنة التسليم
[الآيات]
إِنَّا من مقام عظيم فضلنا وجودنا معك يا أكمل الرسل قد فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ظاهرا عظيما بان ألهمنا عليك وأوضحنا لك طريق الخروج عن مضيق الإمكان الى سعة فضاء الوجوب ويسرنا لك الترقي والعروج من حضيض الجهل واودية الضلال الى ذروة العلم وأوج الوصال وانما فتحنا لك ما فتحنا
لِيَغْفِرَ لَكَ ويستر عليك اللَّهُ المحيط بعموم احوالك وشئونك ما تَقَدَّمَ مِنْ
الذي قد عرض عليك ولحق بك حسب بشريتك وإمكانك قبل انكشافك بسرائر الوحدة الذاتية كما ينبغي وعلى وجهها وَكذا ما تَأَخَّرَ بعده من تلويناتك في بعض الأحوال السارة والمؤلمة بحسب النشأة البشرية وَبالجملة يُتِمَّ نِعْمَتَهُ الموعودة لك حسب استعدادك ويوفرها عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً موصلا الى مقصد التوحيد الذاتي
وَبالجملة يَنْصُرَكَ اللَّهُ الوكيل الكفيل عليك في عروجك وترقيك عن بقعة الإمكان نَصْراً عَزِيزاً غالبا منيعا بحيث لم يغلب عليك بعد انكشافك بسرائر التوحيد جنود امارتك وعونة بشريتك مطلقا وكيف لا ينصر ربك يا أكمل الرسل مع انه
هُوَ القادر المقتدر الراقب المحافظ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ اى الطمأنينة والوقار فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ بك المقتبسين من مشكاة نبوتك نور الولاية اللامعة المتشعشعة من شمس الوحدة الذاتية لِيَزْدادُوا بهدايتك وارشادك إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ بانك على الحق المبين وَكيف لا يزدادون ايمانا بك يا أكمل الرسل مع انك قد فزت بالفوز العظيم من الوحدة الذاتية وصرت مصونا محفوظا في كنف الحق وجواره منصورا على عموم أعدائك إذ لِلَّهِ وفي حيطة قدرته الغالبة جُنُودُ السَّماواتِ اى مؤثرات الأسماء والصفات وَكذا جنود الْأَرْضِ اى قوابل الأركان والطبائع التي هي حوامل آثار العلويات والمتأثرات منها وَبالجملة قد كانَ اللَّهُ المطلع لعموم ما في استعدادات عباده وقابلياتهم عَلِيماً بحوائجهم لدى الحاجة حَكِيماً في تدبيرات أمورهم على وفق الحكمة المتقنة والمصلحة المستحكمة كل ذلك
لِيُدْخِلَ سبحانه حسب سعة رحمته وجوده الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ من امة حبيبه وصفيه المستخلف منه سبحانه في بريته وعموم خليقته جَنَّاتٍ متنزهات العلم والعين والحق تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ اى جداول المعارف والحقائق المترشحة من بحر الذات خالِدِينَ فِيها بلا تلوين وتحويل وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ اى يمحو عن عيون بصائرهم أشباح انانياتهم وامواج هوياتهم المستحدثة على بحر الوجود من نكبات التعينات وصرصر الإضافات وَكانَ ذلِكَ الإدخال والإيصال والمحو والتكفير عِنْدَ اللَّهِ المتعزز برداء العظمة والكبرياء فَوْزاً عَظِيماً واجرا جميلا لا فوز أعظم منه وأعلى
وَكما يدخل سبحانه المؤمنين والمؤمنات في روضات الجنات تفضلا وإحسانا يُعَذِّبَ ايضا الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وهم الذين قد اخرجوا أعناقهم عن عروة العبودية الإلهية بمتابعة الاهوية الفاسدة والآراء الباطلة وأظهروا الايمان على طرف اللسان بلا مقارنة اخلاص وإذعان وَايضا الْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وهم الذين جحدوا في الله الواحد الأحد الفرد الصمد المنزه عن الشركة مطلقا واثبتوا له سبحانه شركاء ظلما وزورا الظَّانِّينَ بِاللَّهِ المستقل بالربوبية والألوهية ظَنَّ السَّوْءِ وهو انه سبحانه لا ينصر أولياءه الباذلين مهجهم في طريق توحيده بحيث ينتظرون لمقتهم وهلاكهم بلا نصر من الله إياهم بل تدور عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ ويحيط بهم وبال ما يظنونه على اولياء الله كيف وَقد غَضِبَ اللَّهُ المطلع على ما في ضمائرهم عَلَيْهِمْ بل وَلَعَنَهُمْ اى طردهم عن ساحة عز قبوله وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ الطرد والحرمان وَساءَتْ مَصِيراً منزلا ومقيلا عليهم مع انهم يظنون بالله ظن السوء ويعتقدونه عاجزا عن نصر أوليائه
وَمع انه لِلَّهِ وفي حيطة قدرته وتحت تصرفه جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وله ان يأمرهم ما يشاء نصرا لمن يشاء ويغلبهم على من يريد ارادة واختيارا وَالحال انه قد كانَ اللَّهُ المتوحد
إِنَّا من مقام عظيم جودنا قد أَرْسَلْناكَ يا أكمل الرسل شاهِداً على عموم عبادنا تشهد لهم عند عموم ما صدر عنهم من الصالحات الجالبة لانواع المثوبات والكرامات وَمُبَشِّراً تبشرهم برفع الدرجات والفوز بالسعادات وَنَذِيراً تنذرهم عن الدركات العائقة عن الوصول الى جنة الذات التي دونها تجرى بحر الحياة كل ذلك
لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وتذعنوا بتوحيده وَرَسُولِهِ اى تصدقوا برسوله الذي قد أرسل إليكم من عنده سبحانه وَبعد اتصافكم بكمال الايمان والإذعان تُعَزِّرُوهُ وتعظموه سبحانه اى تعتقدوا ان الحول والقوة لله جميعا بحيث لا حول ولا قوة لسواه مطلقا وَبعد ما اعتقدتموه كذلك تُوَقِّرُوهُ وتعظموه حق تعظيمه وتكريمه وَبعد ما وقرتموه وعظمتموه كما ينبغي ويليق بشأنه تُسَبِّحُوهُ وتنزهوه عما لا يليق بجنابه بُكْرَةً وَأَصِيلًا اى في عموم أوقاتكم واصيلاتكم إذ لا يتأتى منكم بالنسبة الى جنابه سبحانه الا التفويض والتعظيم والتنزيه والتقديس والا فما للتراب ورب الأرباب ان يتكلموا عن ذاته وصفاته سوى ان يخوضوا في لجة بحر توحيده ويبهتوا في ببداء ألوهيته حتى يفنوا في فضاء صمديته إذ لا اله الا هو ولا شيء سواه وكل شيء هالك الا وجهه. ثم قال سبحانه بلسان الجمع على سبيل الإرشاد والتكميل
إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ يا أكمل الرسل ويختارون متابعتك ويستهدون من هدايتك وارشادك إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ الذي استخلفك عليهم وجعلك نائبا عن ذاته فيما بينهم فعليهم ان لا ينقضوا العهد والبيعة التي عهدوا معك ابدا وكيف يسع لهم المنقض مع ان يدك يَدُ اللَّهِ وقبضتك قبضة قدرته الغالبة ولا شك انها فَوْقَ أَيْدِيهِمْ مستعلية عليهم فَمَنْ نَكَثَ ونقض البيعة والعهد مع رسوله فَإِنَّما يَنْكُثُ وينقض عَلى نَفْسِهِ اى ما يعود وبال نقضه الا عليه وَمَنْ أَوْفى وحفظ بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ ألا وهو معاهدتهم مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بخلافته صلّى الله عليه وسلّم عنه سبحانه فَسَيُؤْتِيهِ جزاء للوفاء أَجْراً عَظِيماً هو الفوز بشرف اللقاء والتحقق لدى المولى
سَيَقُولُ لَكَ يا أكمل الرسل على سبيل الاعتذار الْمُخَلَّفُونَ اى المنافقون الناقضون للعهود المتخلفون عن الجهاد مِنَ الْأَعْرابِ المجبولين على الكفر والنفاق قد شَغَلَتْنا عن متابعتك ومشايعتك أَمْوالُنا وَأَهْلُونا إذ ليس لهم متعهد سوانا لذلك قد حرمنا عن صحبتك وعن اجر الجهاد فَاسْتَغْفِرْ لَنا يا رسول الله عند الله حتى يغفر لنا ما صدر عنا من التخلف لا تبال يا أكمل الرسل بهم وباعتذارهم هذا واستغفارهم فإنهم من شدة شكيمتهم وغيظهم وضعف عقيدتهم يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ تغريرا وتلبيسا قُلْ لهم على سبيل التفضيح والتبكيت فَمَنْ يَمْلِكُ اى يدفع ويمنع لَكُمْ مِنَ اللَّهِ القادر المقتدر شَيْئاً من مقتضى غضبه سبحانه إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ شيأ من مقتضيات لطفه ورحمته ان أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً وبالجملة لا راد لفضله ولا معقب لحكمه بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً يجازيكم على مقتضى خبرته
بَلْ ظَنَنْتُمْ ايها المتخلفون المثقلون أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ ولن يرجع الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً بل يستأصلهم العدو بالمرة فلن يرجع منهم احد من سفرهم هذا بل وَزُيِّنَ اى حبب وحسن ذلِكَ الاستئصال وعدم الرجوع وتمكن فِي قُلُوبِكُمْ من
وَبالجملة مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ اى لم يجمع بين الايمان بالله وتصديق الرسول المستخلف منه سبحانه فَإِنَّا بمقتضى قهرنا وجلالنا قد أَعْتَدْنا وهيأنا لِلْكافِرِينَ المصرين على الكفر والتكذيب سَعِيراً نارا مسعرة ملتهبة تحيط بهم جزاء ما قد اوقدوا في نفوسهم نيران الفتن والطغيان لأولياء الله
وَكيف لا ينتقم سبحانه مع انه لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وله التصرف فيهما بالاستقلال والاختيار يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ فضلا وإحسانا وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ عدلا وانتقاما وَبالجملة قد كانَ اللَّهُ المتصف بكمال اللطف والمرحمة غَفُوراً لمن تاب وآمن وعمل عملا صالحا رَحِيماً يقبل توبة التائبين ويعفو عن زلاتهم. ثم لما سمع المخلفون من الاعراب يوم الحديبية ان الله قد وعد للمؤمنين فتح خيبر وخص لهم الغنائم قصدوا الخروج نحوها طامعين من الغنائم لذلك اخبر الله سبحانه حبيبه صلّى الله عليه وسلّم بقصدهم هذا فقال
سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ المذكورون وقت إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ التي قد وعدت لكم خاصة لِتَأْخُذُوها وتسهموا منها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ بغزوتكم هذه وننصركم مع انهم لا يقصدون الرفاقة والوفاق في نفوسهم ونياتهم بل ما يُرِيدُونَ ويقصدون بقولهم هذا الا أَنْ يُبَدِّلُوا ويغيروا كَلامَ اللَّهِ الدال على تخصيص غنائم خيبر لمن حضر الحديبية بدل غنائم مكة قُلْ لهم يا أكمل الرسل على وجه التأكيد في النفي لَنْ تَتَّبِعُونا ابدا كَذلِكُمْ اى مثل ما سمعتم من النفي المؤكد قالَ اللَّهُ المطلع على ما في نفوسهم من النفاق والشقاق المستمر المؤكد مِنْ قَبْلُ اى قبل تهيئكم ايها المؤمنون للخروج الى الخيبر فَسَيَقُولُونَ بعد ما سمعوا النفي على وجه التأكيد في نفوسهم حسب ما في قلوبهم من الزيغ والضلال ما أمركم الله هذا بَلْ تَحْسُدُونَنا عن أخذ الغنيمة يعنى ما حملهم على هذا النفي المؤكد المؤبد الا الحسد والشح بَلْ هم قوم جاهلون قد كانُوا لا يَفْقَهُونَ ولا يفهمون مراد الله العليم الحكيم عن منعهم هذا إِلَّا قَلِيلًا منهم وهم المصدقون بالله ورسوله في سرائرهم ونجواهم
قُلْ يا أكمل الرسل لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ بعد ما ايسوا من الخروج الى خيبر سَتُدْعَوْنَ عن قريب إِلى غزوة قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ وشوكة عظيمة تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ اى مآل أمرهم اما القتل واما الإسلام لا غير إذ قد رفعت الهدنة والمصالحة بيننا فصار الأمر هكذا فَإِنْ تُطِيعُوا حينئذ ولا تتخلفوا كما تخلفتم يوم الحديبية يُؤْتِكُمُ اللَّهُ المطلع بنياتكم أَجْراً حَسَناً في الدنيا والآخرة وَإِنْ تَتَوَلَّوْا وتنصرفوا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يوم الحديبية يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً لتضاعف جرمكم وشدة شقاقكم ونفاقكم. ثم أخذ سبحانه في تعداد ما يرخص لهم التخلف والقعود على سبيل الاضطرار فقال
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ اى ليس لهؤلاء المذكورين وزر ومؤاخذة ان تخلفوا عن القتال وأمثال هذه الاعذار انما تقبل ان كانوا من اهل الإطاعة والايمان وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ على وجه الإخلاص والوفاق بلا بطانة ونفاق يُدْخِلْهُ سبحانه بمقتضى فضله وسعة رحمته وجوده جَنَّاتٍ متنزهات الكشوف والشهود تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ المملوة من المعارف والحقائق المتجددة بتجددات
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ المخلصين في الإطاعة والانقياد وقت إِذْ يُبايِعُونَكَ يا أكمل الرسل تَحْتَ الشَّجَرَةِ يوم الحديبية بيعة الرضوان والشجرة هي السمرة او السدرة فَعَلِمَ سبحانه بعلمه الحضوري ما فِي قُلُوبِهِمْ من الرغبة والإخلاص فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ اى الطمأنينة والوقار عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ بعد ما ايسوا عن فتح مكة ورجعوا من حديبية فَتْحاً قَرِيباً هو فتح خيبر بعيد رجوعهم منها
وَرزق لهم خاصة مَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها من خيبر بدل غنائم مكة وَبالجملة قد كانَ اللَّهُ المراقب لأحوال عباده عَزِيزاً غالبا مقتدرا على عموم مقدوراته حَكِيماً مراعيا مقتضى الحكمة في جميع تدبيراته الجارية بين عباده ومن مقتضيات الحكمة البالغة الإلهية انه
وَعَدَكُمُ اللَّهُ ايها المؤمنون المخلصون في اطاعة الله وتصديق رسوله مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها من أيدي الكفرة الى قيام الساعة إذ يظهر دينكم على الأديان كلها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ اى غنائم خيبر وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ اى اهل خيبر وأوليائهم وقد كفى كذلك سبحانه وكف مؤنة عموم من قصد السوء على أموالكم وذراريكم وَانما فعل بكم سبحانه ذلك لِتَكُونَ هذه الكفة والغنيمة آيَةً علامة وامارة لِلْمُؤْمِنِينَ الذين يلونكم ويقتفون اثركم دالة على ان المؤمن المخلص في جوار الله وفي كنف حفظه وحضانته وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً هو الثقة بالله وبكرامته ونصره لأوليائه
وَكذا قد عجل لكم عناية من الله إياكم مغانم أُخْرى مع انكم لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها لشوكة الأعداء وغلبتهم وكثرة عددهم وعددهم بل قد فررتم أنتم منهم مرارا وانهزمتم عنهم تكرارا قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وأباحها عليكم بالنصر والغلبة عليهم مع انكم خائفون وجلون منهم وهي غنائم هوازن وفارس وَبالجملة قد كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ دخل في حيطة علمه وارادته قَدِيراً لا يعجز عنه ولا يفتردونه إذ القدرة من أمهات الأوصاف الذاتية الإلهية التي لا تفتر ولا تضعف بحال
وَمن كمال قدرته سبحانه ونصره لأوليائه انه لَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وقابلوا اليوم معكم للقتال مع انكم قد فررتم منهم وجبنتم عنهم مرارا فيما مضى لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ عنكم البتة بنصر الله إياكم ثُمَّ بعد ما ولوا عنكم لا يَجِدُونَ وَلِيًّا يتولى أمورهم وَلا نَصِيراً ينصرهم وينقذهم من أيديكم ولا تستبعد يا أكمل الرسل من قدرة الله أمثال هذا لكونها
سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ اى مضت واستمرت مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ أنت ابدا لِسُنَّةِ اللَّهِ التي قد جرت منه سبحانه بمقتضى حكمته تَبْدِيلًا ولا لحكمه الصادر منه سبحانه بالإرادة والاختيار تغييرا وتحويلا
وَكيف يبدل سنة الله ويغير حكمه وحكمته مع انه هُوَ القادر القاهر المقتدر الَّذِي كَفَّ ومنع أَيْدِيَهُمْ اى أيدي كفار مكة خذلهم الله عَنْكُمْ حين استيلائهم عليكم وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ حين غلبتم عليهم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ وأظهركم عَلَيْهِمْ وذلك ان عكرمة بن ابى جهل خرج مع خمسمائة الى الحديبية فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خالد بن الوليد على جند فهزمهم حتى أدخلهم حيطان مكة ثم عاد وَبالجملة قد كانَ اللَّهُ العليم الحكيم بِما تَعْمَلُونَ من خير وشر بَصِيراً
هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله ظلما وعدوانا وَلم يقتصروا على الكفر فقط بل صَدُّوكُمْ اى حصروكم وصرفوكم عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ عام الحديبية وَالحال انه أنتم قد اهديتم الْهَدْيَ اى الذبائح والقرابين التي قد سقتم نحو البيت وصار مَعْكُوفاً محبوسا قريبا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ اى مذبحه الذي قد عينه الله لذبح الضحايا ألا وهو المنى وَبالجملة لَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ بينهم وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ في خلالهم لم يكف سبحانه أيديكم عنهم بل نصركم عليهم واستأصلتموهم بالمرة لكن لما كان بينهم من المؤمنين والمؤمنات لذلك كف سبحانه أيديكم عنهم كراهة انكم لَمْ تَعْلَمُوهُمْ اى المؤمنين المخلوطين بهم ولم تميزوهم من الكفار أَنْ تَطَؤُهُمْ وتدوسوهم فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ اى من أجل المؤمنين المخلوطين بالكافرين ومن جهتهم مَعَرَّةٌ اى مضرة ومكروه من لزوم دية او كفارة او اثم عظيم عند الله وتعيير شديد من المسلمين وغير ذلك من المنكرات مع انه انما صدر منكم الوطاءة والدوس يومئذ لو صدر بِغَيْرِ عِلْمٍ وبلا خبرة وانما كف أيديكم عنهم حين أظفركم عليهم لِيُدْخِلَ اللَّهُ المطلع بما في استعدادات عباده من الايمان والكفر فِي رَحْمَتِهِ التي هي التوحيد والإسلام مَنْ يَشاءُ منهم حتى لَوْ تَزَيَّلُوا اى تفرقوا وتميزوا اى المؤمنون من الكافرين يومئذ لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً في غاية الإيلام من السبي والجلاء وانواع المصيبة والبلاء اذكر يا أكمل الرسل وقت
إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ الانفة والغيرة لا على وجه الحق بل حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ وذلك انه صلّى الله عليه وسلّم لما نزل الحديبية فهم بقتال اهل مكة بعثوا سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى ومكرز بن حفص ليرجع صلّى الله عليه وسلّم من عامه هذا وتخلى له مكة من العام القابل ثلاثة ايام فقال صلّى الله عليه وسلّم لعلى اكتب بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما صالح عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اهل مكة فقالوا ما نعرف هذا اكتب باسمك اللهم هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله وقال صلّى الله عليه وسلم اكتب ما يريدون فكتب فهم المؤمنون ان يبطشوا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ ووقاره عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ إذ هم أحقاء بالطمأنينة والوقار وكظم الغيظ وتوطين النفس عند المكاره وَبالجملة قد أَلْزَمَهُمْ سبحانه كَلِمَةَ التَّقْوى واختار لهم صون النفس عن التهور والغلظة وَكانُوا أَحَقَّ بِها من غيرهم وَأَهْلَها اى كانوا أهلا لحفظها ورعايتها وَبالجملة قد كانَ اللَّهُ المراقب لعموم أحوالهم بِكُلِّ شَيْءٍ يليق بهم وينبغي لهم عَلِيماً يوفقهم عليه ويسهل عليهم الاتصاف به. ثم لما رأى صلّى الله عليه وسلّم في منامه انه وأصحابه دخلوا مكة آمنين وقد حلقوا وقصروا فقص صلّى الله عليه وسلّم الرؤيا على أصحابه فرحوا وظنوا ان ذلك في عامهم هذا فلما تأخر بالصلح والمعاهدة قال بعضهم والله ما حلقنا وما قصرنا وما رأينا البيت فنزلت
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا اى قد جعل سبحانه حبيبه صلّى الله عليه وسلّم صادقا فيما رأى ملتبسا بِالْحَقِّ والله ايها المؤمنون لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ من العدو إذ ما أريناه صلّى الله عليه وسلّم عموم ما أريناه الا بالحق مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ على الوجه المتعارف وَمُقَصِّرِينَ كما هو عادة الحجاج يحلق بعضهم ويقصر بعضهم وبالجملة لا تَخافُونَ بعد ذلك إذ الله معكم فَعَلِمَ منكم سبحانه ما لَمْ تَعْلَمُوا أنتم من انفسكم ولا تستعجلوا الفتح إذ هو مرهون بوقته فَجَعَلَ
اى فتح مكة فَتْحاً قَرِيباً هو فتح خيبر ليطمئن به قلوبكم الى ان يتيسر لكم الفتح الموعود الذي اخبر به نبيكم الصادق الصدوق وكيف لا يصدقه سبحانه مع انه
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ ملتبسا بِالْهُدى والإرشاد الى سبيل توحيده وَدِينِ الْحَقِّ الفارق بين الباطل والضلال ووعد له لِيُظْهِرَهُ اى دينه عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ اى جنس الأديان النازلة من عنده بان نسخ الجميع وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً اى كفى الله شهيدا على صدقه صلّى الله عليه وسلّم في رؤياه وكذا في دعوته ونبوته وفي ظهور انواع المعجزة بيده حيث قال سبحانه
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ حقا مرسل من عندنا صدقا مبعوث الى كافة البرايا من عبادنا ليهديهم الى توحيدنا الذاتي وَالَّذِينَ مَعَهُ من المؤمنين له المصدقين لدعوته المتعطشين بزلال مشربه أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ الساترين بغيوم هوياتهم الباطلة هوية الحق الظاهر في الآفاق والأنفس يدفعون مؤنة كثراتهم الوهمية بترويج الحق على الباطل وإعلاء كلمة التوحيد وتقديم الدين القويم وإظهاره على سائر الأديان رُحَماءُ فيما بَيْنَهُمْ متواضعون مع اهل الحق وارباب التوحيد لذلك تَراهُمْ في عموم أوقاتهم رُكَّعاً وسُجَّداً راكعين ساجدين متذللين خاضعين خاشعين بلا رعونة ولا رياء ولا سمعة ولا هواء بل ما يَبْتَغُونَ وما يطلبون بتذللهم هذا الا فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً من لدنه سبحانه وبالجملة سِيماهُمْ سمتهم وعلاماتهم الدالة على نجابة طينتهم وكرامة فطرتهم وذكاء فطنتهم لائحة ظاهرة فِي وُجُوهِهِمْ وجباههم مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ وكثرة التذلل والخشوع نحو الحق ذلِكَ المذكور في اوصافهم مَثَلُهُمْ وصفتهم العجيبة المذكورة فِي التَّوْراةِ وَكذا مَثَلُهُمْ هكذا فِي الْإِنْجِيلِ وبالجملة مثل اصحاب الرسول صلّى الله عليه وسلّم في نشوهم ونماهم في بدء ظهورهم وخروجهم أولا في غاية الضعف والنحافة واشتدادهم وغلظهم على الأعداء ووفور رأفتهم ورحمتهم على الأولياء ثانيا كَزَرْعٍ كمثل زرع وحبة مزروعة مبذورة وقع على الأرض ضعيفا وبرز منها نحيفا. ثم ظهر عليها ونبت قويا يوما فيوما الى حيث أَخْرَجَ شَطْأَهُ اى أفراخه وأغصانه دقيقا دقيقا فَآزَرَهُ قومه وقواه آنا فآنا بالمعاونة فَاسْتَغْلَظَ وعاد غليظا بعد ما رباه واحسن تربيته فَاسْتَوى واستقام بعد ذلك عَلى سُوقِهِ اى قصبه وساقه على وجه يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ عند رؤيتهم بكمال كثافته وغلظته ونضارته ولطافته وانما رباهم سبحانه وقواهم وأظهرهم على عموم من عاداهم على ابلغ وجه وأحسنه لِيَغِيظَ وليتحسر ويتحسد بِهِمُ الْكُفَّارَ المخالفون المخاصمون لهم من كمال تشددهم وترقيهم وبالجملة قد وَعَدَ اللَّهُ المطلع على ما في استعدادات عباده من الإخلاص والتفويض الَّذِينَ آمَنُوا بالله بكمال المحبة والتسليم وَمع ذلك قد عَمِلُوا الصَّالِحاتِ المقربة لهم الى الله مِنْهُمْ اى من جنسهم مَغْفِرَةً سترا ومحوا لأنانياتهم الباطلة وهوياتهم العاطلة في هوية الحق وَأَجْراً عَظِيماً هو الفوز بشرف اللقاء والوصول الى سدرة المنتهى وليس وراء الله مرمى رزقنا الله الوصول اليه والوقوف بين يديه
خاتمة سورة الفتح
عليك ايها المحمدي المتوجه نحو توحيد الذات مكنك الله في مقعد الصدق ووطنك في مقر التوحيد ان تعتدل أنت في عموم اوصافك واخلاقك وأعمالك مجتنبا عن كلا طرفي الإفراد والتفريط معرضا