تفسير سورة الأنعام

تفسير أبي السعود
تفسير سورة سورة الأنعام من كتاب إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم المعروف بـتفسير أبي السعود .
لمؤلفه أبو السعود . المتوفي سنة 982 هـ
سورة الأنعام مكية غير ست آيات أو ثلاث من قوله تعالى ﴿ قُل تَعالُوا أَتلُ ﴾. وهي مائة وخمس وستون آية.

﴿الحمد للَّهِ﴾ تعليقُ الحمدِ المعرَّفِ بلام الحقيقة أولاً باسم الذات الذي عليه يدور كافةُ ما يوجبه من صفات الكمال وإليه يؤُول جميعُ نعوتِ الجلال والجمال للإيذان بأنه عز وجل هو المستحِقُّ له بذاته لما مر من اقاتضاء اختصاصِ الحقيقة به سبحانه لاقتصار جميعِ أفرادِها عليه بالطريق البرهاني ووصفه تعالى ثانياً بما يُنْبىء عن تفصيل بعض موجِباته المنتظمةِ في سلك الإجمالِ من عظائم الآثارِ وجلائلِ الأفعال من قولهِ عزَّ وجلَّ ﴿الذي خلق السماوات والارض﴾ للتنبيه على استحقاقه تعالى لهواستقلاله به باعتبار أفعاله العظائم وآلائِه الجِسام أيضاً وتخصيصُ خلقِهما بالذكر لاشتمالهما على جملة الآثار العُلوية والسُفلية وعامةِ الآلاءِ الجليةِ والخفية التي أجلُها نعمةُ الوجودِ الكافية في إيجاب حمدِه تعالى على كل موجود فكيف بما يتفرَّع عليها من فنون النعم الأنفسية والآفاقية المنوطِ بها مصالحُ العبادِ في المعاش والمعادِ أي أنشأهما على ما هما عليه من النّمط الفائِق والطراز الرائق منطويَتَيْن من أنواع البدائعِ وأصنافِ الروائع على ما تتحيَّر فيه العقولُ والأفكار من تعاجيب العبر والآثار تبصرةً وذكرى لأولي الأبصار وجمعُ السموات لظهور تعدّدِ طبقاتِها واختلاف آثارها وحركاتِها وتقديمُها لشرفها وعلوِّ مكانها وتقدُّمها وجوداً على الأرض كما هي ﴿وَجَعَلَ الظلمات والنور﴾ عطْفٌ على خَلَق مترتب عليه لكون جعلهما مسبوقاً بخلق مَنْشَئِهما ومحلِّهما داخلٌ معه في حكم الإشعار بعِلَّة الحمد فكما أن خلق السموات والأرض وما بينهما لكونه أثراً عظيماً ونعمةً جليلة موجبٌ لاختصاص الحمد بخالقهما جل وعلا كذلك جعلُ الظلماتِ والنور لكونه أمراً خطيراً ونعمةً عظيمةً مقتضٍ لاختصاصه بجاعلهما والجمل هو الإنشاءُ والإبداعِ كالخلقِ خَلا أن ذلك مختصٌّ بالإنشاءِ التكوينيِّ وفيه مَعنى التقديرِ والتسويةِ وهذا عامٌّ له كَما في الآيةِ الكريمةِ وللتشريعيِّ أيضاً كما في قوله تعالى مَا جَعَلَ الله مِن بحيرة الاية وأما ما كان فهو إنباءٌ عن ملابسةِ مفعولِه بشيءٍ آخر بأن بكون فيهِ أولَهُ أوْ مِنْهُ أو نحوُ ذلكَ ملابسةً نصححة لأنْ يتوسَّطَ بينهُمَا شيءٌ من الظروفِ لغواً كانَ أو مستقراً لكنْ لا على أنْ يكونَ عُمدةً في الكلامِ بل قيداً فيهِ كما في قوله عز وجل وجعهل بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وقولُه تعالَى وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ وقولِه تعالى واجعل لَّنَا مِن لدنك وليا
104
الأنعام آية ١
الآيةَ فإنَّ كلَّ واحدٍ من هذهِ الظروفِ إمَّا متعلقٌ بنفسِ الجعلِ أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً من مفعولِه تقدمتْ عليه لكونِه نكرةً وأياً ما كانَ فهو قيدٌ في الكلامِ حتَّى إذا اقتضَى الحالُ وقوعَه عمدةً فيه يكونُ الجعلُ متعدياً إلى اثنينِ هُو ثانيهما كما في قولِه تعالى يَجْعَلُونَ أصابعهم في آذانهم ورُبَّما يَشتبِهُ الأمرُ فيُظن أنا عمدةٌ فيهِ وهو في الحقيقة قيدٌ بأحدِ الوجهينِ كما سلفَ في قولِه تعالى إِنّي جَاعِلٌ فِى الأرض خَلِيفَةً حيث قيل إن الظرف مفعولٌ ثان لجاعل وقد أشير هناك إلى أالذي يقضي به الذوق السليم وتقتضيه جزالةُ النظم الكريم أنه متعلقٌ بجاعل أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً من المفعول وأن المفعولَ الثانيَ هو خليفة وأن الأول محذوف على ما مر تفصيله وجمعُ الظلمات لظهور كثرةِ أسبابها ومَحالِّها عند الناس ومشاهدتهم لها على التَّفصيلِ وتقديمُها على النور لتقدم الإعدام على المَلَكات مع ما فيه من رعاية حسن المقابلة بين القرينتين وقوله تعالى ﴿ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ معطوفٌ على الجملة السابقة الناطقةِ بما مر من موجبات اختصاصِه تعالى بالحمد المستدعي لاقتصار العبادة عليه كما حُقِّق في تفسير الفاتحة الكريمة مَسوقٌ لإنكار ما عليه الكفرة واستبعادِه من مخالفتهم لمضمونها واجترائِهم على ما يَقْضي ببُطلانِه بديهةُ العقولِ والمعنى أنه تعالى كمختص باستحقاق الحمدِ والعبادةِ باعتبار ذاتِه وباعتبار ما فصَّل من شئونه العظيمة الخاصة به الموجبة لقصر الحمد والعبادة عليه ثم هؤلاء الكفرةُ لا يعملون بموجبه ويعدِلون به سبحانه أي يسوُّون به غيره في العبادة التي هي أقصى غايات الشكر الذي رأسُه الحمدُ مع كون كا ما سواه مخلوقاً له غيرَ متّصفٍ بشيء من مبادىء الحمد وكلمة ثم لاستبعاد الشرك بعد وضوحِ ما ذُكر من الآيات التكوينية القاضية ببطلانه لا بعد بيانه بالآيات التنويلية والموصولُ عبارةٌ عن طائفةِ الكفار جارٍ مَجرى الاسمِ لهام من غير أن يُجعلَ كفرُهم بما يجبُ أنْ يُؤْمَنَ به كلاًّ أو بعضاً عنواناً للموضوع فإن ذلك مُخِلٌّ باستبعاد ما أُسند إليهم من الإشراك والباء متعلقة بيعدلون ووضعُ الربِّ موضعَ ضميرِه تعالى لزيادة التشنيع والتقبيح والتقديم لمزيد الاهتمامِ والمسارعةِ إلى تحقيق مدارِ الإنكار والاستبعادِ والمحافظةِ على الفواصل وتركُ المفعولِ لظهوره أو لتوجيه الإنكارِ إلى نفس الفعل يتنزيله منزلةَ اللازم إيذاناً بأنه المدارُ في الاستبعاد والاستنكار لا خصوصيةُ المفعول هذا هو الحقيقُ بجزالة التنزيل والخليقُ بفخامة شأنه الجليل وأما جعلُ الباء صلةً لكفروا على أنّ يعدلون من العدول والمعنى أن الله حقيقٌ بالحمد على ما خلقه نعمةً على العباد ثم الذين كفروا به يعدلون فيكفرون نعمتَه فيردّه أن كفرهم به تعالى لا سيَّما باعتبار ربوبيته تعالى لهم أشدُّ شناعةً وأعظمُ جنايةً من عدولهم عن حمده عز وجل ولتحققه مع إغفاله أيضاً فجعلُ أهونَ الشرَّيْن عُمدةً في الكلام مقصودُ الإفادة وإخراجُ أعظمِهما مُخرجَ القيدِ المفروغِ عنه مما لا عهدَ له في الكلام السديد فكيف بالنظم التنزيلي هَذا وقد قيلَ إنَّه معطوفٌ على خلق اتلسموات والمعنى أنه تعالى خلق ما خلق مما لا يقدِر عليه أحدٌ سواه ثم هم يعدلون به سبحانه ما لا يقدِر على شيءٍ منه لكن لا على قصد أنه صلةٌ مستقلة ليكونَ بمنزلة أن يقالَ الحمدُ لله الذي عدَلوا به بل على أنه داخلٌ تحت الصلة بحيث يكون الكلُّ صلةً واحدة كأنه قيل الحمد لله الذي كان منه تلك النعمُ العظامُ ثم من الكفرة والكفر وأنت خبير بأن ما ينتظِمُ في سلك الصلة المنبئةِ عن موجبات حمده عز
105
الأنعام آية ٢ جل حقُّه أن يكونَ له دخلٌ في ذلك الإنباء ولو في الجملة ولا ريب في أن كفرهم بمعزلٍ منه وادعاءُ أن له دَخْلاً فيه لدلالته على كمال الجود كأنه قيل الحمد لله الذي أنعم بمثل هذه النعمِ العِظام على من لا يحمَده تعسّفٌ لا يساعده النظام وتعكيسٌ يأباه المقام كيف لا ومَساقُ النظم الكريم كما تُفصِحُ عنه الآياتُ الآتية تشنيعُ الكفرة وتوبيخُهم ببيانِ غايةِ إساءتِهم مع نهاية إحسانه تعالى إليهم لا بيانِ نهايةِ إحسانه تعالى غليهم مع غاية إساءتهم في حقه تعالى كما يقتضيه الادعاءُ المذكور وبهذا اتضح أنه لا سبيلَ إلى جعل المعطوف من روادف المعطوف عليه لما أن حقَّ الصلة أن تكون غيرَ مقصودةِ الإفادة فما ظنُّك بما هو من روادفها وقد عرفت أن المعطوف هو الذي سيق له الكلام فتأمل وكن على الحق المبين
106
﴿هُوَ الذى خَلَقَكُمْ مّن طِينٍ﴾ استئنافٌ مَسوقٌ لبيان بطلان كفرهم بالبعث مع مشاهدتهم لما يوجب الإيمانَ به إثرَ بيانِ بطلانِ إشراكِهم به تعالى مع معاينتهم لموجِبات توحيدِه وتخصيصُ خلقِهم بالذكر من بين سائر دلائل صِحةِ البعث مع أن ما كر من خلقِ السمواتِ والأرضِ من أوضحها وأظهرها كما ورد في قولِه تعالى أَوَلَيْسَ الذى خَلَقَ السموات والأرض بقادر على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم لما أن محل النزاعِ بعثُهم فدلالةُ بدءِ خلقهم على ذلك أظهروهم بشئون أنفسهم أعرفُ والتعامي عن الحجة النيِّرة أقبح والالتفاتُ لمزيد التشنيع والتوبيخ أي ابتدأ خلقَكم منه فإنه المادة الأولى للكل لما أنه منشأ آدم الذي هو ابو البشر وإنما نسب هذا الخلق إلى المخاطَبين لا إلى آدمَ عليه السَّلامُ وهو المخلوقُ منه حقيقةً بأن يقال هو الذي خلق أباكم الخ مع كقاية علمهم بخلقه عليهالسلام منه في إيجاب الإيمانِ بالبعثِ وبطلانِ الامتراءِ لتوضيحِ منهاجِ القياس وللمبالغة في إزاحةِ الاشتباه والالتباس مع ما فيه من تحقيق الحق والتنبيه على حكمةٍ خفية هي أن كلَّ فردٍ من أفراد البشر له حظٌّ من إنشائه عليه السلام منه حيث لم تكن فطرتُه البديعةُ مقصورة على لا نفسه بل كانت أُنموذَجاً منطوياً على فطرة سائرِ آحادِ الجنس انطواءً إجمالياً مستتبِعاً لجَرَيان آثارِها على الكل فكان خلقَه عليه السلام من الطين خلقا لكل أحد من فروعه منه ولمّا كان خلقُه على هذا النمطِ الساري إلى جميع أفراد ذريتِه أبدعَ من أن يكون ذلك مقصوراً على نفسه كما هو المفهومُ من نسبة الخق المذكورِ إليه وأدلَّ على عِظَم قُدرة الخلاق العليم وكمالِ علمِه وحكمتِه وكان ابتداءُ حال المخاطَبين أولى بأن يكون معيار لانتهائها فَعلَ ما فعل ولله درُّ شأنِ التنزيلِ وعلى هذا السرِّ مدارُ قوله تعالى وَلَقَدْ خلقناكم ثو صورناكم الخ وقوله تعالى وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً كما سيأتي وقيل المعنى خلق أباكم منه على حذف المضاف وقيل معنى خلقهم منه خلقهم من النطفة الحاصلةِ من الأغذية المتكوِّنة من الأرض وأيا ما كان ففيه من وضوحِ الدلالةِ على كمال قدرتِه تعالى على البعثِ ما لا يخفَى فإنَّ من قدَرَ على غحياء ما لم يشَمَّ رائحةَ الحياة قط كان على إحياءِ ما قارنها مدةً أظهرَ قدرة ﴿ثُمَّ قَضَى﴾ أي كتب لموتِ كلِّ واحد منكم أَجَلاً خاصاً له أي أحدا معيناً من الزمان يفنى عند حلولِه لا محالة وكلمة ثم للإيذان بتفاوزت ما بين خلقِهم وبين تقديرِ آجالِهم حسبما تقتضيه الحِكَم البالغة ﴿وَأَجَلٌ مُّسَمًّى﴾ أي حدٌّ معينٌ لبعثكم جميعاً وهو مبتدأ لتخصُّصه بالصفة كما في قوله تعالى وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ ولوقوعِه
106
الأنعام آية ٣
في موقع التفصيل كما في قول من قال إذا ما بكى من خلفها انصرفت له بشق وشقٌ عنْدنا لم يُحَوَّلِ وتنوينُه لتفخيم شأنه وتهويلِ أمره لذلك أُوثر تقديمُه على الخبر الذي هو ﴿عِندَهُ﴾ مع أن الشائعَ المستفيضَ هو التأخير كما في قولك عندي كلامٌ حقٌّ ولي كتابٌ نفيسٌ كأنه قيل وأيُّ أجلٍ مسمى مُثْبتٍ معينٍ في علمه لا يتغيرُ ولا يقفُ على وقت حلولِه أحدٌ لا مجملاً ولا مفصّلاً وأما أجلُ الموت فمعلومٌ إجمالاً وتقريباً بناءً على ظهور أَماراتِه أو على ما هو المعتادُ في أعمار الإنسان وتسميتُه أجلاً إنما هي باعتبار كونِه غايةً لمدة لُبْثهم في القبور لا باعتبار كونِه مبدأً لمدةِ القيامة كما أن مدار التسمية في الأجل الأول هو كونُه آخِرُ مدة الحياةَ لا كونُه أولِ مدةِ الممات لِما أن الأجلَ في اللغة عبارةٌ عن آخِرِ المدة لا عن أولها وقيل الأجلُ الأول ما بين الخلق والموت الثاني ما بين الموت والبعث مكن البرزخ فإن الأجل كما يُطلق على آخِرِ المدة يُطلق على كلِّها وهو الأوفق لما روي عن ابن عباس رضيَ الله عنهما أنَّ الله تعالى قضى لكل أحدٍ أجلين أجلاً من مولده إلى موته وأجلاً من موته إلى مبعثه فإن كان بَرّاً تقياً وَصولاً للرحِم زيد له من أجل البعث في أجَل العمر وإن كان فاجراً قاطعاً نُقِصَ من أجل العُمُر وزيد في أجلى البعث وذلك قوله تعالى وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِى كتاب فمعنى عدم تغير الأجل حينئذ عدمُ تغيُّر آخره والأولُ هو الأشهرُ الأليقُ بتفخيم الأجل الثاني المنوطِ باختصاصه بعلمه تعالى والأنسبُ بتهويله المبنيِّ على مقارنته للطامّة الكبرى فإن كونَ بعضِه معلوماً للخلق ومُضِيِّه من غير أن يقعَ فيه شيءٌ من الدواهي كما يستلزمه الحملُ على المعنى الثاني مُخِلٌّ بذلك قطعاً ومعنى زيادةِ الأجل ونقصِه فيما رُوي تأخيرُ الأجل الأول وتقديمُه ﴿ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ﴾ استبعادٌ واستنكارٌ لامترائهم في البعث بعد معابنتهم لما ذُكر من الحُجج الباهرة الدالةِ عليه أي تمترون في وقوعه وتحقّقِه في نفسه مع مشاهدتكم في أنفسِكم من الشواهدِ ما يقطع مادةَ الامتراءِ بالكلية فإن مَنْ قدَر على إفاضة الحياة وما يتفرَّع عليها من العلم والقدرة وسائِرِ الكمالاتِ البشرية على مادةٍ غيرِ مستعدّةٍ لشيء منها أصلاً كان أوضح اقتدار على إفاضتها على مادةٍ قد استعدت لها وقارنَتْها مدة ومن ههنا تبين أن ما قيل من أن الأجلَ الأولَ هو النومُ والثانيَ هو الموتُ أو أن الأول أجل الماضيين والثاني أجل الباقيين أو أن الأول مقدارُ ما مضى من عُمُر كلِّ أحدٍ والثانيَ مقدارُ ما بقِيَ منه مما لا وجهَ لَهُ أصلاً لما رأيتَ مِنْ أنَّ مَساقَ النظمِ الكريمِ استبعادُ امترائهم في البعث الذي عبَّر عن وقته بالأجل المسمّى فحيثُ أُريد به أحد ما ذُكِرَ منَ الأمورِ الثلاثة ففي أيِّ شيء يمترون ووصْفُهم بالامتراء الذي هو الشكُّ وتوجيهُ الاستبعاد إليه مع أنهم جازمون بانتفاءِ البعث مُصِرّون على إنكاره كما يُنْبىء عنه قولهم أئذا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وعظاما أئنا لمبعوثوتن ونظائرُه للدلالة على أن جزمَهم المذكورَ في أقصى مراتبِ الاستبعاد والاستنكار وقوله تعالى
107
﴿وَهُوَ الله﴾ جملةٌ من مبتدإٍ وخبر معطوفةٌ على ما قبلها مَسوقةٌ لبيان شمول أحكام الهيته تعالى لجميع المخبوقات وإحاطةِ علمِه بتفاصيلِ أحوال العباد وأعمالِهم المؤديةِ إلى الجزاء غثر الإشارةِ إلى تحقّق المعادِ في تضاعيفِ بيانِ كيفية خلقهم وتقدير آجالهم قوله تعالى ﴿في السماوات وَفِى الارض﴾ متعلقٌ بالمعنى
107
الأنعام آية ٤
الوصفيِّ الذي يُنبىء عنْهُ الاسم الجليل إما باعتبار أصلِ اشتقاقِه وكونِه علماً للمعبودِ بالحق كأنه قيل وهو لمعبود فيهما وإما باعتبار أنه اسمٌ اشتهر بما اشتهرَتْ به الذاتُ من صفات الكمال فلو حظ معه منها ما يقتضيه المقامُ من المالكية الكليةِ والتصرُّفِ الكامل حسبما تقتضيه المشيئةِ المبنيةِ على الحِكَم البالغة فعُلّق به الظرفُ من تلك الحيثية فصار كأنه قبل وهو المالكُ أو المتصرفُ المدبِّرُ فيهما كما في قوله تعالى وَهُوَ الذى فِى السماء إله وَفِى الأرض إله وليس المرادَ بما ذُكر مَن الاعتبارَيْن أن الاسمَ الجليلَ يُحملُ على معناه اللغويِّ أو على معنى المالك أو المتصرِّف أو نحوِ ذلك بل مجردُ ملاحظة أحدِ المعاني المذكورة في ضمنه كما لوحظ معَ اسْم الأسد في قوله أسدٌ عليَّ الخ ما اشتهرَ به من وصف الجَراءة التي اشتهر بها مُسمَّاه فجرى مجرى جرىءعلى وبهذا تبين أن ما قيل بصدد التصوير والتفسير أي هو المعروفُ بذلك في السموات وفى الارض أو هو المعروفُ المشتهرُ بالصفات الكمالية أو هو المعروف بالإلهية فيهما أو نحوُ ذلك بمعزلٍ من التحقيق فإن المعتبرَ مع الاسم هو نفس الوصف البذي اشتهر به غذ هو الذي يقتضيه المقامُ حسبما بيّن آنفاً لاشتهاره به ألا يُرى أن كلمة عليّ في المثال المذكور لا يمكن تعليقُها باشتهار الاسم بالجَراءة قطعاً وقيل هو متعلِّقٌ بما يفيده التركيبُ الحَصْريُّ من التوحّد والتفرّد كأنه قيل وهو المتوحِّدُ بالإلهية فيهما وقيل بما تقرر عند الكل من إطلاق هذا الاسم عليه خاصة كأنَّه قيلَ وهُو الذي يقال له الله فيهما لا يُشرك به شيءٌ في هذا الاسم على الوجه الذي سبق من اعتبار معنى التوحّد أو القول في فحوى الكلام بطريق الاستتباع لا على حمل الاسم الجليل على معنى المتوحِّد بالإلهية أو على تقدير القول وقد جوَّز أن يكون الظرفُ خبراً ثانياً على أن كونَه سبحانه فيهما عبارةٌ عن كونه تعالى مبالِغاً في العلم بما فيهما بناءً على تنزيل علمِه المقدس عن حصول الصور والأشباح لكونه حضورياً منزلةَ كونِه تعالى فيهما وتصويرُه به على طريقة التمثيل المبنيِّ على تشبيه حالةِ علمه تعالى بما فيهما بحالة كونه تعالى فيهما فإن العالَم إذا كان في مكانٍ كان عالِماً به وبما فيه على وجهٍ لا يخفى عليه منه شيء فعلى هذا يكون قوله عز وجل ﴿يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ﴾ أي ما أسرَرْتُموه وما جهرتم به من الأقوال وما أسررتموه وما أعلنتموه كائناً ما كانَ منْ الأقوال والأعمال بياناً وتقريراً لمضمونه وتحقيقاً للمعنى المراد منه وتعليق علمه عز وجل بما ذُكر خاصةً مع شموله لجميع ما فيهما حسبما تفيدُه الجملةُ السابقة لانسياق النظمِ الكريم إلى بيان حال المخاطبين وكذا على الوجه الثاني فإن ملاحظةَ الاسم الجليلِ من حيث المالكيةُ الكلية والتصرفُ الكاملُ الجاري على النمط المذكور مستتبعةٌ لملاحظة علمِه المحيطِ حتماً فيكونُ هذا بياناً وتقريراً له بلا ريب وأما على الأوجه الثلاثة الباقية فلا سبيل إلى كونه بياناً لكن لا لِما قيلَ من أنه لا دلالةَ لاستواء السرِّ والجهر في علمه تعالى على ما اعتُبر فيهما من المعبودية والاختصاص بهذا الاسم إذ ربما يُعبد ويُختصّ به من ليس له كمالُ العلم فإنه باطل قطعاً إذ المراد بمال ذكر هو المعبوديةُ بالحق والاختصاصُ بالاسم الجليل ولا ريبَ في أنَّهما مما لا يتصور فيمن ليس له كمالُ العلم بديهةً لأن ما ذُكر من العلمِ غيرُ معتبرٍ في مدلول شيءٍ من المعبودية بالحق والاختصاصِ بالاسم حتى يكونَ هذا بياناً له وبهذا تبين أنه ليس ببيانٍ على الوجه الثالث أيضاً لما أن التوحدَ بالإلهية لا يُعتبر في مفهومه العلمَ الكاملَ ليكون هذا بياناً له بل هو معتبرٌ فيما صدَق عليه المتوحِّد وذلك غيرُ كاف
108
الأنعام آية ٤ ٥
في البيانية وقيل هو خبرٌ بعد خبرٍ عند من يجوز كون الخبر الثاني جملةً كما في قوله تعالى فغذا هي حية تسعة وقيل هو الخبر والاسمُ الجليل بدلٌ من هو وبه يتعلق الظرف المتقدم ويكفي في ذلك كونُ المعلوم فيهما كما في قولك رميتُ الصيدَ في الحرَم إذا كان هو فيه وأنت خارجَه ولعل جعْلَ سرهم جهرهم فيهما لتوسيع الدائرة وتصويرِ أنه لاَ يعزُب عنْ علمِه شيءٌ منهما في أي مكان كان لا لأنهما قد يكونان في السموات أيضاً وتعميمُ الخطاب لأهلها تعسُّفٌ لا يخفى ﴿وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ﴾ أي ما تفعلونه لجلب نفعٍ أو دفعِ ضرَ من الأعمال المكتسَبةِ بالقلوب أو بالجوارح سراً أو علانية وتخصيصُها بالذِّكرِ مع اندراجها فيما سبق على التفسير الثاني للسر والجهر لإظهار كمال الاعتناء بها لأنها التي يتعلق بها الجزاءُ وهو السرُّ في إعادة يعلم
109
﴿وما تأتيُهم من آيةٍ من آيات رَبّهِمْ﴾ كلام مستأنَفٌ واردٌ لبيان كفرهم بآيات الله وإعراضِهم عنها بالكلية بعد ما بيّن في الآية الأولى إشراكهم باللخه سبحانه وإعراضَهم عن بعض آيات التوحيد وفي الآية الاثنية امتراؤهم في البعث وإعراضَهم عن بعض ى ياته والالتفاتُ للإشعار بأن ذكْرَ قبائحِهم قد اقتضى أن يضرِبَ عنهم الخطابَ صفحاً وتعددُ جناياتهم لغيرهم ذماً لهم وتقبيحاً لحالهم فما نافية وصيغة المضارع لحطكاية الحال الماضية أو للدلالة على الاستمرار التجددي ومِنْ الأُولى مزيدةٌ للاستغراقِ والثاني تبعيضيةٌ واقعةٌ مع مجرورِها صفةً لآيةٍ وإضافةُ الآيات إلى اسم الرب المضافِ إلى ضميرهم لتفخيم شأنها المستتْبِعِ لتهويل ما اجترُءوا عليه في حقِّها والمراد بها إمَّا الآياتُ التنزيليةُ فإتيانها نزولا والمعنى ما ينزِلُ إليهم آيةٌ من الآيات القرآنيةَ التي من جملتها هاتيك الآياتُ الناطقةُ بما فُصِّل من بدائعِ صنعِ الله عز وجل المُنْبئةِ عن جَرَيان أحكام ألوهيتِه تعالى على كافة الكائنات وإحاطةِ علمه بجميع أحوال الخق وأعمالهم الموجبةِ للإقبال عليها والإيمانِ بها ﴿إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ﴾ أي على وجه التكذيبِ والاستهزاء كما ستقف عليه وأما الآياتُ التكوينيةُ الشاملةُ للمعجزات وغيرِها من تعاجيبِ المصنوعاتِ فإتيانُها ظهورُها لهم والمعنى ما يظهر لهم ى ية من الآيات التكوينيةِ التي من جملتها ما ذكر من جلائل شئونه تعالى الشاهة بوحدانيته إلا كانوا عنها معرضين تاركين للنظر الصحيحِ فيها المؤدِّي إلى الإيمان بمُكوِّنها وإيثارُه على أن يقال إلاَّ أعرضُوا عنها كما وقع مثلُه في قوله تعالى وَإِن يَرَوْاْ آية يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ للدلالة على استمرارهم على الإعراضِ حسَبَ استمرارِ إتيانِ الآياتِ وعن متعلقةٌ بمعرضين قُدِّمت عليه مراعاة للفاواصل والجملة في محل النصب على أنَّها حالٌ من مفعولِ تأتي أو من فاعلِه المتخحصص بالوصف لاشتمالِها على ضمير كل منهما وأياً ما كان ففيها دلالة بينةٌ على كمال مسارعتهم إلى الإعراض وإيقاعهم له في آنِ الإتيان كما يُفصح عنه كلمةُ لما في قولِهِ تعالَى
﴿فَقَدْ كَذَّبُواْ بالحق لَمَّا جَاءهُمْ﴾ فإن الحق عبارةٌ عن القرآن الذي أعرضوا عنه حين أعرضوا عن كل آية آية منه عبر بذلك إبانةً لكمال قُبح ما فعلوا به فإن تكذيب الحقِّ مما لا يتصور صدوره
109
الأنعام آية ٦
عن أح والفاءُ لترتيب ما بعدها على ما قبلها لكنْ لاَ على أنَّها شيءٌ مغايِرٌ له في الحقيقة واقعٌ عَقيبَه أو حاصلٌ بسببه بل على أنَّ الأول وهو عينُ الثاني حقيقة وإنَّما الترتيبُ بحسَب التغايُرِ الاعتباريِّ وقد لتحقيقِ ذلك المعنى كما في قوله تعالى فَقَدْ جَاءوا ظُلْماً وَزُوراً بعد قوله تعالى وَقَالَ الذين كَفَرُواْ إِنْ هذا إِلاَّ إِفْكٌ افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فإن ما جاءوه أي فعلوه من الظلم والزور عينُ قولِهم المَحْكِيّ لكنه لما كان مُغايراً له مفهوماً وأشنَعَ منه حالاً رُتِّبَ عليه بالفاء ترتيبَ اللازم على الملزوم تَهويلاً لأمره كذلك مفهومُ التكذيب بالحق حيث كان أشنعَ من مفهوم الإعراضِ المذكورِ أُخرِجَ مُخرَجَ اللازم البيِّنِ البُطلان فرُتِّبَ عليه بالفاء إظهاراً لغاية بُطلانه ثم قُيد ذلك بكونه بلا تأمل تأكيداً لشناعته وتمهيداً لبيان أن ما كذبوا به إثر ذي أثير عواقبُ جليلةٌ ستبدو لهم البتة والمعنى أنهم حيث أعرضوا عن تلك الآيات عند إتيانها فقد كذبوا بما لا يمكن تكذيبُه أصلاً من غير أن يتدبروا في حاله ومآله ويقِفوا على ما في تضاعيفِه من الشواهد الموجبةِ لتصديقه كقوله تعالى بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بعلمه ولما يأتهم تَأْوِيلِهِ كما يُنْبىء عنه قوله تعالى ﴿فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاء مَا كَانُواْ بِهِ يستهزؤون﴾ فإن ما عبارةٌ عن الحق المذكور عبر عنه بذلك تهويلاً لأمره بإبهامه وتعليلاً للحكم بما في حيز الصلة وإنباؤه عبارةٌ عما سيَحيقُ بهم من العقوبات العاجلة التي نطَقت بها آياتُ الوعيد وفي لفظ الأنباء إيذانٌ بغاية العِظَم لِما أن النَّبأَ لا يُطلق إلا على خبرٍ عظيمِ الوقع وحملُها على العقوبات الآجلةِ أو على ظهور الإسلام وعلو كلمته يأباه الآيات الآتية وسوف لتأكيد مضمونِ الجملة وتقريرهِ أي فسيأتيهم البتةَ وإن تأخرَ مِصْداقُ أنباء الشيءِ الذي كانُوا يكذِّبون بهِ قَبلُ مِنْ غير أن يتدبروا في عواقبه وإنما قيل يستهزءون إيذانا بأن تكذيهم كان مقروناً بالاستهزاء كما أشير إليه هذا على أن يراد بالآيات القرآنيةُ وهو الأظهر وأما إنْ أُريد بها الآياتُ التكوينيةُ فالفاءُ داخلةٌ على عِلَّة جوابِ شرطٍ محذوف والإعراضُ على حقيقته كأنه قيل إن كانوا معرضين عن تلك الآيات فلا تعجبْ فقد فعلوا بما هو أعظمُ منها ما هو أعظمُ من الإعراض حيث كذبوا بالحق الذي هو أعظم الآيات ولا مَساغَ لحمل الآيات في هذا الوجه على كلها أصلاً وأما ما قيل من أن المعنى أنهم لمّا كانوا معرِضين عن الآيات كلِّها كذبوا بالقرآن فمِمّا ينبغِي تنزيهُ التنزيلِ عن أمثاله
110
﴿أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ﴾ استئنافٌ مَسوقٌ لتعيين ما هو المرادُ بالإنباء التي سبق بها الوعيد وتقرير إتيانِها بطريق الاستشهاد وهمزةُ الإنكار لتقرير الرؤية وهي عِرْفانية مستدعيةٌ لمفعول واحد وكم استفهاميةً كانت أو خبريةً معلِّقةٌ لها عن العمل مفيدة للتكثير سادّةٌ معَ ما في حيزها مسد مفعولهات منصوبةٌ بأهلكنا على المفعولية على أنَّها عبارةٌ عن الأشخاص ومن قرن مميِّزٌ لها على أنه عبارةٌ عن أهل عصر من الأعصار سمو بذلك لاقترانهم برهة
110
الأنعام آية ٦
من الدهر كما في قولِه عليه الصلاة والسلام خيرُ القرون قَرني ثم الذين يلونهم الحديث وقيل هو عبارة عن مدة من الزمان والمضافُ محذوف أي من أهلَ قرن وأما انتصابها على المصدرية أو على الظرفية على أنَّها عبارةٌ عن المصدر أو عن الزمان فتعسفٌ ظاهر ومن الأولى ابتدائية متعلقة بأهلكنا أي ألم يعرِفوا بمعايَنةِ الآثارِ وسَماعِ الأخبار كم أمةٍ أهلكنا من قبلِ أهل مكة أي من قبلِ خلقِهم أو من قبل زمانهم على حذفِ المضافِ وإقامةِ المضافِ إليه مُقامَه كعادٍ وثمودَ وأضرابِهم وقوله تعالى ﴿مكناهم فِى الارض﴾ استئناف لبيان كيفيةِ الإهلاك وتفصيلِ مباديه مبنيٌّ على سؤال نشأ من صدر الكلامِ كأنَّه قيلَ كيفَ كان ذلك فقيل مكانهم الخ وقيل هو صفةٌ لقرنٍ لِما أن النكرةَ مفتقرةٌ إلى مخصص فإذا وَلِيهَا ما يصلُح مخصِّصاً لها تعين وصيفته لها وأنتَ خبيرٌ بأنَّ تنوينَه التفخيميَّ مُغنٍ له عن استدعاء الصفة على أن ذلك مع اقتضائه أن يكون مضمونُه ومضمونُ ما عُطف عليه من الجمل الأربع أمراً مفروغاً عنه غيرَ مقصودِ بسياق النظم مؤدَ إلى اختلاف النَّظمُ الكريمُ كيفَ لا والمعنى حينئذٍ أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قرنٍ موصوفين بكذا وكذا وبإهلاكنا إياهم بذنوبهم وأنه بيِّنُ الفساد وتمكينُ الشيء في الأرض جعلُه قارّاً فيها ولمّا لزِمه جعلُها مقراً له ورد الاستعمالُ بكلَ منهما فقيل تارةً مكّنه في الأرض ومنه قوله تعالى وَلَقَدْ مكناهم فِيمَا إِن مكناكم فِيهِ وأخرى مكَّن له في الأرضِ ومنه قولُه تعالى إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى الأرض حتى أُجرِيَ كلٌّ منهما مُجرَى الآخرَ ومنه قوله تعالى ﴿مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ﴾ بعد قوله تعالى مكناهم فِى الأرض كأنَّه قيلَ في الأول مكنا لهم أو في الثاني ما لم نمكنْكم وما نكرةٌ موصوفةٌ بما بعدها من الجملة المنفية والعائد محذوف محلها على النصب على المكصدرية أي مكناهم تمكيناً لم نمكنْه لكم والالتفاتُ لما في مواجهتهم بضَعف الحال مزيدُ بيانٍ لشأن الفريقين ولدفعِ الاشتباه من أول الأمر عن مرجِعَي الضميرين ﴿وَأَرْسَلْنَا السماء﴾ أي المطرَ أو السحاب أو المظلة لأنها مبدأ المطر ﴿عَلَيْهِمْ﴾ متعلق بأرسلنا ﴿مُّدْرَاراً﴾ أي مِغزاراً حال من السماء ﴿وَجَعَلْنَا الانهار﴾ أي صيّرناها فقوله تعالى ﴿تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ﴾ مفعولٌ ثانٍ لجعلنا أو أنشأناها فهو حالٌ من مفعولِه ومن تحتهم متعلق بتجري وفيه من الدلالة على كونها مسخّرةً لهم مستمرةً على الجريان على الوجه المذكور ما ليس في أن يقالَ وأجرينا الأنهارَ من تحتهم وليس المرادُ بتَعدادِ هاتيك النعم العظامِ الفائضةِ عليهم بعد ذكر تمكينهم بيانَ عِظَم جنايتهم في كفرانها واستحقاقَهم بذلك لأعظم العقوبات بل بيانَ حيازتهم لجميعه اأسباب نيل المآرب ومبادىء الأمن والنجاة من المكاره والمعاطب وعدمَ إغناءِ ذلك عنهم شيئاً والمعنى أعطيناهم من البطة في الأجسام وزالامتداد في الأعمار والسَّعةِ من الأموال والاستظهار بأسباب الدنيا في استجلاب المنافع واستدفاع المضارِّ ما لم نُعط أهلَ مكةَ ففعلوا ما فعلوا ﴿فأهلكناهم بِذُنُوبِهِمْ﴾ أي أهلكنا كلَّ قرن من تلك القرون بسبب ما يخُصّهم من الذنوب فما أغنى عنهم تلك العُدَدُ والأسباب فسيحِلُّ بهؤلاء مثلُ ما حلَّ بهم من العذاب وهذا كما ترى آخِرُ ما به الاستشهادُ والاعتبار وأما قولُه سبحانه ﴿وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ﴾ أي أحدثنا من بعد إهلاك كل قرن ﴿قَرْناً آخَرِين﴾ بدلاً من الهالكين فلبيان كمالِ قدرتِه تعالى وسَعة سُلطانه وأن ما ذُكر من إهلاك الأمم الكثيرة
111
الأنعام آية ٧ ٨
لم يَنْقُصْ من ملكه شيئاً بل كلما أهلك أمةً أنشأ بدلها أخرى
112
﴿وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ﴾ جملةٌ مستأنفة سيقت بطريق تلوين الخطاب لبيان شدةِ شكيمتِهم في المُكابرة وما يتفرَّع عليها من الأقاويل الباطلةِ إثر بيان إعراضهم عن آياتِ الله تعالى وتكذيبِهم بالحق واستحقاقِهم بذلك لنزولِ العذاب ونسبة التنزيل ههنا إليه عليه السلام مع نسبة إتيانِ الآياتِ ومجيءِ الحقِّ فيما سبق إليهم للإشعار بقَدْحهم في نبوته عليه السلام في ضمن قدحِهم فيما نزل عليه صريحاً وقال الكلبي ومقاتل نزلت في النضرين الحرث وعبدِ اللَّه بنِ أبي أمية ونوفل ابن خويلد حيث قالوا لرسول الله ﷺ لن نؤمن لك حتى تأتيَنا بكتاب مّنْ عِندِ الله ومعه أربعةٌ من الملائكة يشهدون أنَّه من عندِ الله تعالى وأنك رسولُه ﴿كتابا﴾ إن جُعل اسما كالإمام فقوله تعالى ﴿فِى قِرْطَاسٍ﴾ متعلقٌ بمحذوف وقع صفة له أي كتاباً كائناً في صحيفة وإن جعل مصدراً بمعنى المكتوب فهو متعلِّق بنفسه ﴿فلمسوه﴾ ٦ أي لكتاب وقيل القرطاس وقوله تعالى ﴿بِأَيْدِيهِمْ﴾ مع ظهور أن اللمس لا يكون عادة إلا بالأيدي لزيادة التعين ودفع احتمالِ التجوُّز الواقعِ في قوله تعالى وأما لَمَسْنَا السماء أي تفحّصنا أي فمسوه بأيدهم بع ما رأَوْه بأعينهم بحيث لم يبقَ لهم في شأنه اشتباه ولم يقدِروا على الاعتذار بتسكير الأبصار ﴿لقالوا﴾ وإنما وضع الموصولُ موضعَ الضمير للتنصيص على اتِّصافُهم بما في حِّيزِ الصلة من الكفر الذي لا يخفى حسنُ موقعِه باعتبار مفهومه اللغوي أيضاً ﴿إِنَّ هَذَا﴾ أي ما هذا مشيرين إلى ذلك الكتاب ﴿إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ أي بيِّنٌ كونُه سحراً تعننا وعناداً للحق بعد ظهوره كما هو دأْبُ المُفحَمِ المجوج وديدان المكابِرِ اللَّجوج
﴿وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ﴾ شروع في قدحهم في نوبته عليه السلام صريحاً بعد ما أُشير إلى قدحهم فيهما ضِمناً وقيل هو معطوفٌ على جواب لو وليس بذاك لما أن تلك المقالةَ الشنعاءَ ليست مما يُقدَّر صدورُه عنهم على تقدير تنزيلِ الكتابِ المذكور بل هي من أباطيلهم المُحقّقة وخُرافاتهم المُلفّقة التي يتعللون بها كلما ضاقتْ عليهم الحيلُ وعيَّت بهم العلل أي هلا أُنزل عليه عليه السلام مَلكٌ بحيث نراه ويكلمنا أنه نبيٌّ حسبما نُقل عنهم فيما رُويَ عن الكلبي ومقاتل ونظيرُه قولهم لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً ولما كان مدارُ هذا الاقتراح على شيئين إنوال الملَك كما هو وجعلِه معه عليه السلام نذيراً أجيب عنه بأن ذلك مما لا يكادُ يدخُل تحتَ الوجود أصلاً لاشتماله على أمرين متباينين لا يجتمعان في الوجود لِما أن إنزالَ الملَك على صورته يقتضي انتفاءَ جعلِه نذيراً وجعلُه نذيراً يستدعي عدمَ إنزاله على صورته لا مَحالة وقد أشير إلى الأول بقوله تعالى ﴿وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِىَ الامر﴾ أي لو أنزلنا ملكا عللا هيئاته حسْبما اقترحوه والحالُ أنه مِن هِوْل المنظر بحيث لا تُطيقُ بمشاهدته قوى الآحاد البشرية ألا يرى أن الأنبياءَ عليهم الصلاة والسلام كانوا يشاهدون الملائكةَ ويفاوضونهم على الصور
112
الأنعام آية ٩
البشرية كضيف غبراهيم ولوطٍ وخصْمِ داودَ عليهم السلام وغير ذلك وحيث كان شأنُهم كذلك وهم مؤيَّدون بالقُوى القدُسية فما ظنُّك بمن عداهم من العوام فلو شاهدوه كذلطك لقُضِيَ أمرُ هلاكهم بالكلية واستحال جعلُه نذيراً وهو مع كونه خلافَ مطلوبِهم مستلزِمٌ لإخلاءِ العالم عما عليه يدور نظامُ الدنيا والآخرةِ من إرسال الرُّسل وتأسيسِ الشرائع وقد قال سبحانه وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً وفيه كما ترى إيذانٌ بأنهم في ذلك الاقتراحِ كالباحثِ عن حَتْفه بظِلْفه وأن عدم الإجابة إليه للبُقيا عليهم وبناءالفعل الأول في الجواب للفاعل الذي هو نونُ العَظمة مع كونه في السؤال مبنياً للمفعول لتهويلِ الأمر وتربية المهابة وبناء الثاني للمفعولِ للجَريِ على سَنَنِ الكِبرياء وكلمةُ ثم في قوله تعالى ﴿ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ﴾ أي لا يُمْهَلون بعد نزوله طرفةَ عينٍ فضلاً عن أن يُنْذَروا به كما هو المقصودُ بالإنذار للتنبيه على تفاوت ما بين قضاءِ الأمر وعدمِ الإنظار فإن مفاجأة العذابِ أشدُّ من نفس العذاب وأشق وقيل في سبب إهلاكهم أنهم إذا عاينوا الملَك قد نزل على رسُولِ الله صَلَّى الله عليه وسلم في صورته وهي آيةٌ لا شيءَ أبينُ منها ثم لم يؤمنوا لم يكنْ بدٌّ من إهلاكهم وقيل إنهم إذا رأَوه يزول الاختيارُ الذي هو قاعدةُ التكليف فيجبُ إهلاكُهم وإلى الثاني بقوله تعالى
113
﴿وَلَوْ جعلناه مَلَكاً لجعلناه رَجُلاً﴾ على أن الضميرَ الأول للنذير المفهومِ من فحوى الكلام بمعونة المقام وإنما لم يجعل للملك المذكور قبله بأن يعكس ترتيب المفعولين ويقال لو جعلناه نذيراً لجعلناه رجلاً مع فهم المراد منه أيضاً لتحقيق أن مناطَ إبرازِ الجعل الأول في معرِض الفرض والتقدير ومدارَ استلزامه للثاني إنما هو مَلَكيةُ النذير لا ذيرية المللك وذلك لأن الجعل حقُّه أن يكون مفعولُه الأولُ مبتدأ والثاني خبراً لكونه بمعنى التصييرِ المنقول من صار الداخِلِ على المبتدأ والخبر ولا ريب في أن مصَبّ الفائدة ومدارَ اللزوم بين الشرطية هو محمولُ المقدَّمِ لا موضوعُه فحيث كانت امتناعيةً أريد بها بيانُ انتفاءِ الجعْلِ الأول لاستلزامه المحذور الذي هو الجعل الثاني وجب أن يُجعلَ مدارُ الاستلزام في الأول مفعولاً ثانياً لا محالة ولذلك جَعَل مُقابِلَه في الجعل الثاني كذلك إبانةً لكمال التنافي بينهما الموجبِ لانتفاء الملزوم والضمير الثاني للملك لا لما رجع إليه الأول والمعنى لو جعلنا النذيرَ الذي اقترحوه ملكاً لمثّلنا ذلك المَلكَ رجلاً لما مر من عدم استطاعةِ الآحاد لمُعاينَةِ الملك على هيكله وفي إيثار رجلاً على بشراً إيذانٌ بأن الجعلَ بطريقِ التَّمثيلِ لا بطريقِ قلب الحقيقة وتعيينٌ لما يقع به التمثيل وقوله تعالى ﴿وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم﴾ عطفٌ على جواب لو مبنيّ على الجواب الأول وقرىء بحذف لام الجواب اكتفاءً بما في المعطوف عليه يقال لَبَستُ الأمرَ على القوم ألبِسُه إذا شبّهتُه وجعلته مشكلا وأصله الستر بالثوب وقرىء الفعلان بالتشديد للمبالغة أي ولَخلّطنا عليهم بتمثيله رجلاً ﴿ما يلبسون﴾ على أنفسهم حينئذ بأن يقولوا له إنما أنت بشرٌ ولست بمَلَك ولو استُدل على مَلَكيته بالقرآن المعجزِ الناطقِ بها أو بمعجزاتٍ أُخَرَ غيرِ مُلجئةٍ إلى التصديق لكذّبوه كما كذبوا النبي عليه الصلاة والسلام ولو أظهر لهم صورته الأصلية لزم الأمر الأول والتعبير عن تمثيله تعالى رجلاً باللَّبْس إما لكونه في سوء اللبس
113
الأنعام آية ١٠ ١٢
أو لكونه سبباً لِلَبْسِهم أو لوقوعه في صُحبته بطريق المشاكلة وفيه تأكيدٌ لاستحالة جعل النذيرِ مَلَكاً كأنه قيل لو فعلناع لفعلنا ما لا يليق بشأننا من لَبْس الأمر عليهم وقد جُوِّز أن يكونَ المعنى وللبسنا عليهم حينئذ مثلَ ما يلبِسون على أنفسهم الساعةَ في كفرهم بآيات الله البينة
114
﴿ولقد استهزئ بِرُسُلٍ مّن قَبْلِكَ﴾ تسليةٌ لرسول الله ﷺ عما يلقاه من قومه وفي تصدير الجملة بلام القسم وحرفِ التحقيق من الاعتناء بها ما لا يخفى وتنوينُ رسل للتفخيم والتكثير ومن ابتدائيةٌ متعلقةٌ بمحذوف وقع صفة لرسل أي وبالله لقد استُهزىء برسل أولي شأنٍ خطيرٍ وذوي عدد كبير كائنين من زمانٍ قبلَ زمانك على حذف المضافِ وإقامةِ امضاف إليه مُقامَه ﴿فَحَاقَ﴾ عَقيبه أي أحاط أو نزل أو حلَّ أو نحوُ ذلك فإن معناه يدور على الشمول واللزوم ولا يكاد يُستعمل إلا في الشر والحيقُ مايشتمل على الإنسان من مكروهِ فِعْلِه وقوله تعالى ﴿بالذين سخروا منهم﴾ أي استهزؤا بهم من أولئك الرسلِ عليهم السلام متعلق بحاق وتقديمُه على فاعله الذي هو قوله تعالى ﴿مَّا كانوا به يستهزؤون﴾ للمسارعة إلى بيان لحوقِ الشرّ بهم وما إما موصولةٌ مفيدةٌ للتهويل أي فأحاط بهم الذي كانوا يستهزءون به حيث أُهلكوا لأجله وإما مصدريةٌ أي فنزل بهم وَبالُ استهزائهم وتقديم الجار والمجرور على الفعل لرعاية الفواصل
﴿قُلْ سِيرُواْ فِى الأرض﴾ بعد بيانِ ما فعلت الأممُ الخالية وما فُعل به خوطب رسول الله ﷺ بإنذار قومه وتذكيرِهم بأحوالهم الفظيعة تحذيراً لهم عمَّا هم عليه وتملة للتسلية بما في ضِمْنه من العدة الالطيفة بأنه سيَحيقُ بهم مثلُ ما حاق بأضرابهم الأولين ولقد أنجَز ذلك يومَ بدرٍ أيَّ إنجازٍ أي سيرو في الأرض لتعرف أحوال أولئك الأمم ﴿ثُمَّ انظروا﴾ أي تفكروا ﴿كَيْفَ كَانَ عاقبة المكذبين﴾ وكلمة ثم إما لأن النظر في آثار الهالكين لا يتسنى إلا بعد انتهاءالسير إلى أماكنهم وإما لإبانةِ ما بينهما من التفاوت في مراتب الوجوب وهو الأظهر فإن وجوب السير ليس إلا لكونه وسيلةً إلى النظر كما يفصح عنه العطف بالفاء في قولِه عزَّ وجلَّ فانظروا الآية وإما أن الأول الأول لإباحة السير للتجارة ونحوها والثاني لإيجاب النظر في آثارهم وثم لتُباعِدَ ما بين الواجب والمباح فلا يناسب المقام وكيفَ معلِّقةٌ لفعلِ النظرِ ومحلُ الجملةِ النصبُ بنزعِ الخافض أي تفكروا في أنهم كيف أُهلكوا بعذاب الاستئصال والعاقبة مصد كالعافية ونظائرِها وهي منتهى الأمرِ ومآلُه ووضعُ المكذبين موضعَ المستهزئين لتحقيق أن مدارَ إصابةِ ما أصابهم هو التكذيبُ لينزجِرَ السامعون عنه لا عن الاستهزاء فقط مع بقاء التكذيب بحاله بناءً على توهُّم أنه المدار في ذلك
﴿قُلْ﴾ لهم بطريق الإلجاء
114
الأنعامآيه ١٠ ١١ ١٢
والتبكيت ﴿لّمَن مَّا فِى السماوات والارض﴾ من العقلاء وغيرِهم أي لمن الكائناتُ جميعاً خالقا ومُلكاً وتصرّفاً وقوله تعالى ﴿قُل لِلَّهِ﴾ تقريرٌ لهم وتنبيهٌ على أنه المتعيَّنُ للجواب بالاتفاق بحيث لا يتأتّى لأحد أن يُجيب بغيره كما نطق به قوله تعالى وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خلقِ السمواتِ والأرضِ لَيَقُولُنَّ الله وقوله تعالى ﴿كتب على نفسه الرحمة﴾ جملةٌ مستقلةٌ داخلةٌ تحتَ الأمر ناطقةٌ بشمول رحمتِه الواسعةِ لجميع الخلق شمولَ مُلكِه وقدرته للكلِّ مَسوقةٌ لبيان أنه تعالى رءوف بعباده لا يعدل عليهم بالعقوبة ويقبل منهم التوبة وافنابة وأن ما سبق ذكرُه وما لحِقَ من أحكام الغضب ليس من مقتَضيَات ذاتِه تعالى بل من جهة الخَلْق كيف لا ومن رحمتِه أن خلقَهم على الفطرة السليمةِ وهداهم إلى معرفته وتوحيدِه بنَصْب الآياتِ الأنفسية والآفاقية وإرسالِ الرسل وإنزالِ الكُتب المشحونة بالدعوة إلى موجباتِ رِضوانِه والتحذير عن مقتضيان سُخْطِه وقد بدّلوا فطرةَ الله تبديلاً وأعرَضوا عن الآياتِ بالمرة وكذّبوا بالكتب واستهزءوا بالرسل وما ظلمهم الله ولكن كَانُواْ هُمُ الظالمين ولولا شمولُ رحمتِه لسلك بهؤلاءِ أيضاً مَسلكَ الغابرين ومعنى كتب الرحمة على نفسه أنه تعالى قضاها وأوجبها بطريق التفضُّل والإحسانِ على ذاته المقدّسةِ بالذات لا بتوسُّط شيءٍ أصلاً وقيل ما رُوي عن أبي هريرةَ رضيَ الله عنه أنَّ رسولَ الله ﷺ قال لمَّا قضى الله تعالى الخلقَ كتَبَ في كتابٍ فهو عنده فوق العرش إن رحمتي سبقت غضبي وعنه في رواية أنه ﷺ قال لمَّا قضى الله تعالى الخلق كتب كتابا فهو عنده فوق العرش إنَّ رحمتي غلبتْ غضبي وعن عمر رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله ﷺ قال لكعب ما أولُ شيءٍ ابتدأه الله تعالى مِنْ خلقه فقال كعب كتب الله كتاباً لم يكتبْه بقلم ولا مِدادٍ كتابةَ الزَّبَرْجد واللؤلؤ والياقوت إني أَنَا الله لاَ إله إِلا أَنَاْ سبقت رحمتي غضبي ومعنى سبْقِ الرحمةِ وغَلَبتِها أنها أقدمُ تعلُّقاً بالخلق وأكثرُ وصولاً إليهم مع أنها من مقتضيات الذات المفيضة للخير وفي التعبير عن الذات بالنفس حجةٌ على من ادّعى أن لفظَ النفسِ لا يُطلق على الله تعالى وإن أريد به الذاتُ إلا مشاكلةً لِما ترَى من انتفاءِ المشاكلة ههنا بنَوْعَيْها وقوله تعالى ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلى يَوْمِ القيامة﴾ جوابُ قسمٍ محذوف والجملة استئنافٌ مسوقٌ للوعيد على إشراكهم وإغفالِهم النظرَ أي والله ليجمعنّكم في القبور مبعوثين أو محشورين إلى يوم القيامة فيجازيكم على شركك وسائرِ معاصيكم وإن أمهلكم بموجَب رحمتِه ولم يعاجِلْكم بالعقوبة الدنيوية وقيل إلى بمعنى اللام أي ليجمعنك ليوم القيامة كقوله تعالى إِنَّكَ جَامِعُ الناس لِيَوْمٍ لا ريبَ فيه وقيل هي بمعنى في أي ليجمعنكم يوم القيامة ﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾ أي في اليوم أو في الجمع وقوله تعالى ﴿الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم﴾ أي بتضييع رأسِ مالهم وهو الفطرةُ الأصليةُ والعقلُ السليم والاستعدادُ القريبُ الحاصلُ من مشاهدة الرسول ﷺ واستماعِ الوحْي وغيرِ ذلك من آثار الرحمة في موضع النصْب أو الرفعِ على الذم أي أعني الذين الخ وهم مبتدأ والخبر قوله تعالى ﴿فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ والفاءُ لتضمُّنِ المبتدأِ معنى الشرط والإشعارُ بأن عدمَ إيمانهم بسبب خُسرانهم فإن إبطالَ العقل باتباع الحواسِّ والوهم والانهماك في تلقليد وإغفالِ النظر أدّى بهم إلى الإصرار على الكفر والامتناعِ من الإيمان والجملةُ تذييلٌ مَسوقٌ من جهتِه تعالَى لهم لتقبيح حا غير داخل
115
الأنعام ١٣ ١٥
تحت الأمر
116
﴿وَلَهُ﴾ أي لله عز وجل خاصةً ﴿مَا سَكَنَ فِى الليل والنهار﴾ نزال الملوان منزلةَ المكان فعبّر عن نسبة الأشياء الزمانية إليهما بالسُكنى فيهما وتعديتُه بكلمة في كَما في قولِه تعالى وَسَكَنتُمْ فِى مساكن الذين ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ أو السكونِ مقابلَ الحركة والمرادُ ما سكن فيهما أو تحرّك فاكتفي بأحد الضدَّيْن عن الآخر ﴿وَهُوَ السميع﴾ المبالغُ في سماع كلِّ مسموع ﴿العليم﴾ المبالغُ في العلمِ بكلّ معلوم فلا يَخْفى عليه شيءٌ من الأقوال والأفعال
﴿قُلْ﴾ لهم بعد ما بكّتهم بما سبق من الخطاب ﴿أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً﴾ أي معبوداً بطريق الاستقلالِ أو الاشتراك وإنما سُلِّطت الهمزةُ على المفعول الأول لا على الفعل إيذاناً بأن المنكرَ هو اتخاذُ غيرِ الله ولياً لا اتخاذُ الوليِّ مطلقاً كما في قوله تعالى أَغَيْرَ الله أَبْغِى رَبّا وقولُه تعالى أَفَغَيْرَ الله تَأْمُرُونّى أَعْبُدُ الخ ﴿فَاطِرِ السماوات والارض﴾ أي مُبدعِهما بالجرِّ صفةٌ للجَلالة مؤكِّدةٌ للإنكار لأنه بمعنى الماضي ولذلك قُرىء فطَرَ ولا يضرّ الفصلُ بينهما بالجملة لأنها ليست بأجنبية إذ هي عاملةٌ في عامل الموصوف أو بدلٌ فإن الفصلَ بينه وبين المبدل منه أسهلُ لأن البدلَ على نية تكرير العامل وقرىء بالرفع والنصب على المدح وعن ابن عباس رضي الله عنهما ما عرفتُ معنى الفاطرِ حتى اختصم إليَّ أعرابيانِ في بشر فقال أحدهما أنا فَطَرْتُها أي ابتدأتها ﴿وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ﴾ أي يرزُق الخلق ولا يُرْزَق وتخصيصُ الطعام بالذكر لشدة الحاجة إليه أو لأنه معظمُ ما يصل إلى المرزوق من الرزق ومحلُ الجملةِ النصبُ على الحالية فإن مضمونها مقرر لوجوب اتخاذه سبحانه وتعالى وليا وقرىء ولا يطعم بفتح الياء وبعكس القراءةِ الأُولى أيضاً على أن الضميرَ لغير الله والمعنى أأُشرِك بمن هو فاطرُ السموات والأرض ما هو نازلٌ عن رتبة الحيوانية وببنائهما للفاعل على أن الثانيَ بمعنى يستطعم أو على معنى أنه يطعم تارة ولا يطعم أخرى كقوله تعالى يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ ﴿قُلْ﴾ بعد بيان أن اتخاذِ غيرِه تعالى ولياً ممَّا يَقْضي ببُطلانِه بديهةُ العقول ﴿إِنّى أُمِرْتُ﴾ من جنابِه عزَّ وجلَّ ﴿أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ﴾ وجهَه لله مخلِصاً له لأن النبيَّ إمامُ أمته في الإسلام كقوله تعالى وبذلك أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ المسلمين وقوله تعالى سبحانك تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين ﴿وَلاَ تَكُونَنَّ﴾ أي وقيل لي وَلاَ تَكُونَنَّ ﴿مِنَ المشركين﴾ أي في أمرٍ من أمورِ الدِّينِ ومعناه أُمرت بالإسلام ونُهيتُ عن الشرك وقد جوَّزَ عطفَه على الأمر
﴿قُلْ إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى﴾ أي بمخالفة أمرِه ونهيه أيَّ عصيانٍ كان فيدخُل فيه ما ذُكر دخولاً أولياً وفيه بيانٌ لكما اجتنابه ﷺ عن المعاصي على الإطلاق وقولُه تعالى ﴿عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيم﴾ أي عذابَ يوم القيامة مفعول خاف
116
الأنعام آية ١٦ ١٩
والشرطية معترِضةٌ بينهما والجوابُ محذوفٌ لدلالة ما قبله عليه وفيه قطعٌ لأطماعهم الفارغة وتعريضٌ بأنهم عصاةٌ مستوجبون للعذاب العظبم
117
﴿مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ﴾ على البناء المفعول أي العذاب وقرىء على البناء للفاعل والضمير لله سبحانه وقد قرىء بالإظهار والمفعولُ محذوفٌ وقوله تعالى ﴿يومئذ﴾ للصرف أيْ في ذلكَ اليومِ العظيم وقد جوز أن يكون هو المفعول على قراءة البناء للفاعل بحذف المضاف أي عذاب يومئذ ﴿فَقَدْ رَحِمَهُ﴾ أي نجاه وأنعم عليه وقيل فقد أدخله الجنة كما في قوله تعالى فمن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ والجملة مستأنفةٌ مؤكِّدةٌ لتهويل العذاب وضميرُ عنه ورَحمه لمن هو عبارة عن غيرالعاصي ﴿وَذَلِكَ﴾ إشارة إلى الصرف أو الرحمة لأنها مؤوّلة بأن مع الفعل وما فيه من معنى البُعدِ للإيذانِ بعلوِّ درجتِه وبعد مكانه في الفضل وهو مبتدأ خبره قوله تعالى ﴿الفوز المبين﴾ أي الظاهرُ كونُه فوزاً وهو الظَفَر بالبُغية والألف واللام لقصره على ذلك
﴿وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرّ﴾ أي ببليةٍ كمرَض وفقر ونحو ذلك ﴿فَلاَ كاشف لَهُ﴾ أي فلا قادرَ على كشفه عند ﴿إِلاَّ هُوَ﴾ وحده ﴿وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ﴾ من صِحةٍ ونعمةٍ ونحو ذلك ﴿فَهُوَ على كل شىء قدير﴾ ومن جملته ذلك فيقدِرُ عليه فيمسك به ويحفَظْه عليك من غير أنيقدر علي دفعه أو على رفعه أحدٌ كقوله تعالى فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ وحملُه على تأكيد الجوابين يأبه الفاء تذكرة روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال أُهدي للنبي ﷺ بغلة أهداها كسرى فركِبها بحبْل من شعر ثم أردفني خلفه ثم سار بي ميلاً ثم التفت إلي فقال يا غلام فقلت لبيك يا رسول الله فقال أحفَظِ الله يحفَظْك احفظ الله تجدْه أمامك تعرَّفْ إلى الله في الرخاء يعرِفْك في الشدة وإذا سألت فاسألِ الله وإذا استعنت فاستعنْ بالله فقد مضى القلمُ بما هو كائنٌ فلو جَهَدَ الخلائقُ أن ينفعوك بما لم يقضِه الله لك لم يقدِروا عليه ولو جَهَدوا أن يضروك بما لم يكتُبِ الله عليك ما قدَروا عليه فإن استطعتَ أن تعملَ بالصبر مع اليقين فافعل فإن لم تستطِعْ فاصبر فإن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً واعلم أن النصر مع الصبر وأن مع الكرْب فرَجاً وأن مع العسر يسراً
﴿وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ﴾ تصويرٌ لقهره وعلوِّه بالغَلَبة والقُدرة ﴿وَهُوَ الحكيم﴾ في كلِّ ما يفعله ويأمر به ﴿الخبير﴾ بأحوال عبادِه وخفايا أمورِهم واللام في المواضع الثلاثة للقصر
﴿قل﴾ أي
117
الأنعام آية ٢٠ ٢١
﴿شَىْء أَكْبَرُ شهادة﴾ رُوِيَ أنَّ قريشاً قالُوا لرسول الله ﷺ يا محمد لقد سألنا عنك اليهودَ والنصارى فزعموا أن ليس لك عندهم ذكرٌ ولا صفةٌ فأرنا من يشهد لك أنك رسولُ الله فنزلت فأي ممبتدأ وأكبر خبره وشهادة نصبعلى التمييز وقوله تعالى ﴿قُلِ الله﴾ امر له ﷺ بأن يتولَّى الجواب بنفسه إما للإيذان بتعيُّنه وعدمِ قدرتهم على أن يجيبوا بغيره أو لأنهم ربما يتلعثمون فيه لا لتردُّدهم في أنه أكبرُ من كل شيء بل في كونه شهيداً في هذا الشا قوله تعالى ﴿شهيد﴾ خبر ميتدأ محذوف أي هو شهيد ﴿بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ﴾ ويجوز أن يكون الله شهيد بيني وبينكم هو الجواب لأنه إذا كان هو الشهيدَ بينه وبينهم كان أكبرُ شيءٍ شهادةً شهيداً له ﷺ وتكريرُ البين لتحقيق المقابلة ﴿وَأُوحِىَ إِلَىَّ﴾ أي من جهتِه تعالَى ﴿هذا القرآن﴾ الشاهدُ بصِحة رسالتي ﴿لاِنذِرَكُمْ بِهِ﴾ بما فيه من الوعيد والاقتصارُ على ذكر الأنذار لما أن الكلام مع الكفرة ﴿وَمَن بَلَغَ﴾ عطفٌ على ضمير المخاطَبين أي لأنذركم به يا أهلَ مكةَ وسائرَ مَنْ بلغه من الأسودِ والأحمرِ أو من الثقلَيْن أو لأنذركم به أيها الموجودون ومَنْ سيوجد إلى يوم القيامة وهو دليلٌ على أن أحكام القرآن تعمُّ الموجودين يوم نزولِه ومن سيوجد بَعْدُ إلى يوم القيامة خلا أن ذلك بطريق العبارة في الكل عند الحنابلة بالإجماع عندنا في غير الموجودين وفي غير المكلفين يومئذ كما مر في أول سورة النساء ﴿أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى﴾ تقرير لهم مع إنكارواستبعاد ﴿قُل لاَّ أَشْهَدُ﴾ بذلك وإن شهدتم به فإنه باطل صِرْف ﴿قُلْ﴾ تكرير للأمر للتأكيد ﴿إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ﴾ أي بل إنما أشهد أنه تعالى لاَ إله إِلاَّ هو
118
﴿وَإِنَّنِى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ﴾ مِن الأصنام أو من إشراككم ﴿الذين آتيناهم الكتاب﴾ جواب عما سبق من قولهم لقد سألنا عنك اليهود والنصارى أُخِّر عن تعيين الشهيد مسارعةً إلى إلزامهم بالجواب عن تحكّمهم بقولهم فأرنا من يشهد لك الخ والمرادُ بالموصول اليهودُ والنصارى وبالكتاب الجنسُ المنتظمُ للتوراة والإنجيل وإيرادُهم بعنوان إيتاءِ الكتابِ للإيذان بمدار ما أسند غليهم بقوله تعالى ﴿يَعْرِفُونَهُ﴾ أي يعرفون رسول الله صه من جهة الكتابَيْن بحِلْيته ونُعوتِه المذكورة فيهما ﴿كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ﴾ بحِلاهم بحيث لا يشكون في ذلك أصلاً رُوِيَ أنَّ رسولَ الله ﷺ لما قدم المدينة قال عمر رضي الله عنه لعبدِ اللَّه بنِ سَلامٍ أنزل الله تعالى علي نبيه هذه الآيةَ وكيف هذه المعرفة فقال يا عمر لقد عرفتُه فيكم حين رأيته كما أعرِف ابني ولأنا أشدُّ معرفةً بمحمدٍ مني بابني لأني لا أدري ما صنع النساء وأشهد أنه حقٌّ من الله تعالى ﴿الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم﴾ من أهل الكتابين والمشركين بأن ضيعوه فطرة الله التي فطرَ النَّاسَ عليها وأعرضوا عن البينات الموجبةِ للإيمان بالكلية ﴿فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ لما أنهم مطبوعٌ على قلوبهم ومحلُّ الموصولِ الرفعُ على الابتداء وخبرُه الجملة المصدرةُ بالفاء لِشَبَه الموصول بالشرط وقيل على أنَّه خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي هم الذين خسروا الخ وقيل على أنَّه نعتٌ للموصولِ الأول وقيل النصبُ على الذم فقوله تعالى فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ على الوجوه الأخيرة عطفٌ على جملة الذين آتيناهم الكتاب الخ
﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً﴾
118
بوصفهم النبيَّ الموعودَ في الكتابين بخلاف أوصافه ﷺ فإنه افتراءٌ على الله سبحانه وبقولهم الملائكةُ بناتُ الله وقولِهم هَؤُلاء شفعاؤنا عِندَ الله ونحو ذلك وهو إنكارٌ واستبعادٌ لأن يكون أحدٌ أظلمَ ممن فعل ذلك أو مساوياً له وإنْ كانَ سبكُ التَّركيبِ غيرَ متعرِّض لإنكار المساواة ونفيُها يشهد به العرف الفاشي والاستعمال المطرد فإنه إذا قيل مَنْ أكرمُ من فلان أو لا أفضلَ من فلان فالمراد حتماً أنه أكرمُ من كل كريم وأفضل من كل فاضل ألا يُرى إلى قوله عز وجل لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الأخرة هُمُ الأخسرون بعد قوله تعالى وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً الخ والسرُّ في ذلك أن النسبةَ بين الشيئين إنما تُتصوَّر غالباً لا سيما في باب المغالبة بالتفاوُت زيادةً ونُقصاناً فإذا لم يكن أحدُهما أزيدَ يتحقق النُقصانُ لا محالة ﴿أو كَذَّبَ بِآيَاتِهِ﴾ كأن كذّبوا بالقرآن الذي من جملته الآيةُ الناطقةُ بأنهم يعرفونه ﷺ كما يعرِفون أبناءهم وبالمُعجزات وسمَّوْها سحراً وحرفوا التوراة وغيروا نعوته ﷺ فإن ذلك تكذيبٌ بآياته تعالى وكلمةُ أو للإيذانِ بأنَّ كلاً منَ الافتراء والتكذيب وحدَه بالغٌ غايةَ الإفراط في الظلم فكيف وهم قد جمعوا بينهما فأثبتوا ما نفاه الله تعالى ونفَوْا ما أثبته قاتلهم الله أنَّي يُؤفكون ﴿إِنَّهُ﴾ الضميرُ للشأنِ ومدارُ وضعِهِ موضعَه ادِّعاءُ شهرتِه المُغْنية عن ذكره وفائدته تصديرِ الجملة به الإيذانُ بفخامة مضممونها مع ما فيه من زيادة تقريرِه في الذهن فإنَّ الضميرَ لا يُفهمُ منه من أولِ الأمرِ إلا شأنٌ مبهمٌ لهُ خطرٌ فيبقى الذهنُ مترقِّباً لما يعقُبه فيتمكنُ عندَ ورودِه لَهُ فضلُ تمكُّنٍ فكأنه قيل إن الشأنَ الخطيرَ هذا هو ﴿لاَ يُفْلِحُ الظالمون﴾ أي لا ينجُون من مكروهٍ ولا يفوزون بمطلوب وإذا كان حالُ الظالمين هذا فما ظنُّك بمن في الغايةِ القاصيةِ من الظلم
119
﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً﴾ منصوبٌ على الظرفية بمُضمر مؤخَّرٍ قد حُذف إيذاناً بضيق العبارة عن شرحه وبيانه وإيماءً إلى عدم استطاعة السامعين لسماعِه لكمال فظاعةِ ما يقع فيه من الطَّامةِ والدَّاهيةِ التامة كأنه قيل ويوم نحشرُهم جميعاً ﴿ثُمَّ نَقُولُ﴾ لهم ما نقول كانَ من الأحوالُ والأهوالُ ما لا يحيطُ بهِ دائرةُ المقال وتقديرُ صيغةِ الماضِي للدَلالة على التحققِ ولحُسنِ موقَعِ عطفِ قوله تعالى ثُمَّ لَمْ تَكُنْ الخ عليه وقيل منصوبٌ على المفعوليةِ بمضمرِ مقدّم أي واذكر لهم للتخويف والتحذير ويوم نحشرهم الخ وقيل وليتقوا أو ليحذروا يوم نحشرهم الخ والضمير للكل وجميعاً حال منه وقرىء يَحشرُهم جميعاً ثم يقول بالياء فيهما ﴿لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ﴾ أي نقول لهم خاصة للتوبيخ والتقريع على رءوس الأشهاد ﴿أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ﴾ أي آلهتُكم التي جعلتموها شركاءَ لله سبحانه وإضافتُها إليهم لما أن شِرْكتَها ليست إلا بسميتهم وتقوُّلهم الكاذب كما ينبىء عنه قوله تعالى ﴿الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ أي تزعُمونها شركاءَ فحُذِف المفعولان معاً وهذا السؤالُ المُنبِىءُ عن غَيْبة الشركاءِ مع عموم الحشر لها لقوله تعالى احشروا الذين ظَلَمُواْ وأزواجهم وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله وغيرِ ذلك من النصوص إنما يقع بعد ما جرى بينها وبينهم من التبرُّؤ من الجانبين وتقطَّع ما بينهم من الأسباب والعلائقِ حسبما سحكيه قوله تعالى فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ الخ ونحوذلك من الآيات الكريمة إما بعدم حضورِها حينئذٍ في الحقيقة بإبعادها من ذلك الموقف وإما بتنزيل
119
٠ -
الأنعام آية ٢٣ ٢٤
عدمِ حضورها بعُنوان الشِرْكة والشفاعة منزلةَ عدم حضورها في الحقيقة إذ ليس السؤالُ عنها من حيث ذواتها إنما هو من حيث إنها شركاءُ كما يُعرب عنه الوصفُ بالموصول ولا ريب في أن عدم الوصفِ يوجب عدمَ الموصوف من حيث هو موصوف فهي من حيث هي شركاءُ غائبةٌ لا محالة وإن كانت حاضرةً من حيث ذواتُها أصناماً كانت أو غيرها وأما ما يقال من أنه يُحال بينها وبينهم في وقت التة وبيخ ليفقِدوهم في الساعة التي علقوا بها الرجاءَ فيها فيرَوْا مكان خِزْيهم وحسرتِهم فربما يُشعِر بعدم شعورِهم بحقيقة الحال وعدمِ انقطاع حبالِ رجائهم عنها بعدُ وقد عرفت أنهم شاهدوها قبل ذلك وانصرمت عُروةُ أطماعهم عنها بالكلية على أنها معلومةً لهم من حين الموتِ والابتلاءِ بالعذاب في البرزخ وإنما الذي يحصُل يوم الحشر الانكشافُ الجليُّ واليقين القويُّ المترتبُ على المحاضَرة والمحاوَرة
120
﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ﴾ بتأنيث الفعلِ ورفع فتنتُهم على أنه اسمٌ له والخبرُ ﴿إِلاَّ أَن قَالُواْ﴾ وقُرىء بنصب فتنتَهم على أنها الخبرُ والاسمُ إلا أن قالوا والتأنيث للخبر كما في قولهم من كانت أمَّك وقرىء بالتذكير مع رفع الفتنة ونصبها ورفعُها أنسبُ بحسب المعنى والجملة عطفٌ على ما قُدّر عاملاً في يوم نحشرهم كما أُشيرَ إليهِ فيما سلف والاستثناءُ مفرَّغٌ من أعم الأشياء وفتنتُهم إما كفرُهم مراداً به عاقبتُه أي لم تكن عاقبةُ كفرِهم الذي لزِموه مدةَ أعمارِهم وافتخروا به شيئاً من الأشياءِ إلا جحدوه والتبرؤَ منه بأن يقولوا ٦ ﴿والله رَبّنَا مَا كُنَّا مشركين﴾ وأما جواتبهم عبّر عنه بالفتنة لأنه كذِب ووصفُه تعالى بربوبيته لهم للمبالغة في التبرّؤ من الإشراك وقرىء بنا على النداء فهو لإظهار الضراعة والابتهال في استدعاء قبول المعذرة وإنما يقولون ذلك مع علمهم بأنه بمعزِلٍ من النفع رأساً من فرط الحَيْرة والدهَش وحملُه على معنى ما كنا مشركين عند أنفسنا وما علمنا في الدنيا أنا على خطأ غي معتقَدِنا مما لا ينبغي أن يُتوهّم أصلاً فإنه يُوهِم أن لهم عذراً أما وأن لهم قدرةً على الاعتذار في الجملة وذلك مُخِلٌّ بكمال هَوْل اليوم قطعاً على أنه قد قضى ببطلانه قوله تعالى
﴿انظر كَيْفَ كَذَبُواْ على أَنفُسِهِمْ﴾ فإنه تعجيبٌ من كذبهم الصريح بإنكار صدورِ الإشراك عنهم في الدنيا أي انظر كَيْفَ كَذَبُواْ على أنفسهم في قولهم ذلك فإنَّه أمرٌ عجيبٌ في الغاية وأما حملُه على كِذْبهم في الدنيا فتمحُّلٌ يجب تنزيهُ ساحةِ التنزيلِ عنه وقوله تعالى ﴿وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾ عطفٌ على كذَبوا داخلٌ معه في حكم التعجيب وما مصدريةٌ أو موصولةٌ قد حُذف عائدُها والمعنى انظر كيف كذَبوا باليمين الفاجرةِ المغلَّظة على أنفسهم بإنكار صدور ما صدر عنهم وكيف ضل عنهم أي زال وذهب افتراؤهم أو ما كانوا يفترونه من الإشراك حتى نفَوا صدوره عنهم بالكلية وتبرءوا منه بالمرة وقيل ما عبارةٌ عن الشركاء وإيقاعُ الافتراء عليها مع أنه في الحقيقة واقعٌ على أحوالها من الإلهية والشِرْكة والشفاعة ونحوِها للمبالغة في أمرها كأنها نفسالمفترى وقيل الجملة كلامٌ مستأنفٌ غيرُ داخلٍ في حيز التعجيب
120
الأنعام آية ٢٥
121
﴿وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ﴾ كلامٌ مبتدأ مَسوقٌ لحكاية ما صدر في الدنيا عن بعض المشركين من أحكام الكفر ثم بيانِ ما سيصدر عنهم يوم الحشر تقريراً لما قبله وتحقيقاً لمضمونه والضميرُ للذين أشركوا ومحلُ الظرفِ الرفعُ على أنه مبتدأ باعتبارِ مضمونِه أو بتقديرِ الموصوف كما في قوله تعالى ومنادون ذَلِكَ أي وجمعٌ منا الخ ومَن موصولةٌ أو موصوفةٌ محلُها الرَّفعُ على الخبرَّيةِ والمعنى وبعضهم أو وبعضٌ منهم الذي يستمع إليك أو فريق يستمع إليك على أنَّ مناطَ الإفادةِ اتصافُهم بما في حِّيزِ الصِّلةِ أو الصِّفةِ لا كونُهم ذواتِ أولئك المذكورينَ وقد مرَّ في تفسيرِ قوله تعالى ومن الماس مَن يَقُولُ الخ رُوي أنه اجتمع أبو سفيانَ والوليدُ والنضْرُ وعُتبةُ وشيبةُ وأبو جهل وأضرا بهم يستمعون تلاوةَ رسول الله ﷺ فقالوا للنضر وكان صاحبَ أخبار يا ابا قتيلة ما يقول محمد فقال والذي جعلها بيتَه ما أدري ما يقول إلا أنه يحرِّك لسانه ويقول أساطيرَ الأولين مثلَ ما حدثتُكم من القرون الماضية فقال أبو سفيان إني لأراه حقاً فقال أبو جهل كلا فنزلت ﴿وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً﴾ من الجَعْل بمعنى الإنشاء وعلى متعلقةٌ به وضمير قلوبهم راجعٌ إلى مَنْ وجمعيتُه بالنظر إلى معناها كما أن إفرادَ ضميرِ يستمعُ بالنظر إلى لفظها وقد رُوعيَ جانب المعنى في قوله تعالى وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ الآية والأكنة جمع كِنان وهو ما يُستر به الشيءُ وتنوينُها للتفخيم والجملة إما مستأنفةٌ للإخبار بما تضمنه من الخَتْم أو حالٌ من فاعل يستمع بإضمار قد عند من يقدِّرها قبل الماضي الواقعِ حالاً أي يستمعون إليك وقد ألقينا على قلوبهم أغطية كثيرةً لا يُقَادر قدرُها خارجةً عما يتعارفه الناس ﴿أَن يَفْقَهُوهُ﴾ أي كراهةَ أن يفقهوا ما يستمعونه من القرآن المدلولِ عليه بذكر الاستماع ويجوزُ أن يكونَ مفعولاً لما يُنبىء عنه الكلامُ أي منعناهم أن يفقهوه ﴿وَفِي آذَانِهِم وَقْراً﴾ صَمماً وثِقَلاً مانعاً من سماعه والكلام فيهِ كما في قوله تعالى على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً وهذا تمثيلٌ مُعرِبٌ عن كمال جهلهم بشئون النبي عليه الصلاةَ والسلام وفرطِ نُبُوَّة قلوبهم عن فهم القرآنِ الكريم ومجِّ أسماعِهم له وقد مرَّ تحقيقُه في أول سورة البقرة وقيل هو حطكاية لما قالوا قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى آذاننا وَقْرٌ الآية وأنت خبيرٌ بأن مرادهم بذلك الإخبارُ بما اعتقدوه في حق القرآن والنبي ﷺ جهلاً وكفراً من اتصافهما بأوصافٍ مانعةٍ من التصديق والإيمانِ ككون القرآنِ سِحراً وشعراً وأساطيرَ الأولين وقسْ على ما تخيلوه في حق النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم لا الإخبارُ بأن هناك أمراً وراء ذلك قد حال بينهم وبين إدراكه حائلٌ من قِبَلِهم حتى يُمكِنَ حملُ النظم الكريم على ذلك ﴿وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ﴾ من الآيات القرآنيةِ أي يشاهدوهما بسماعها ﴿لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا﴾ على عمومِ النفي لا على نفي العُموم أي كفروا بكل واحدى ة منها لعدم اجتلائهم غياها كما هي لما مر من حالهم ﴿حتى إِذَا جاؤوك يجادلونك﴾ هي حتى التي تقع بعدها الجمل والجملة هي قوله تعالى إِذَا جَاءوكَ ﴿يَقُولُ الذين كَفَرُواْ﴾ وما بينهما حالٌ من فاعل جاءوك وإنما وضع الموصولُ موضعَ الضمير ذمًّا لهم بما في حيِّز الصلةِ وإشعاراً لعلة الحكم أي بلَغوا من
121
الأنعام آية ٢٦ ٢٧
التكذيب والمكابرة إلى أنهم إذا جاءوك مجادلين لك لا يكتفون بمجرد عدم افيمان بما سمعوا من الآياتِ الكريمة بل يقولون ﴿إِنَّ هَذَا﴾ أي ما هذا ﴿إِلاَّ أساطير الأولين﴾ فإنّ عدأ حسن الحديث وأصدقِه الذي لا يأتيه الباطلُ من بينِ يديهِ ولا منْ خلفه من قبيل الأباطيلِ والخرافاتِ رتبةٌ من الكفر لا غاية وراءها ويجوز أن تكون حتى جارة وإذا ظرفيةً بمعنى وقتِ مجيئهم ويجادلونك حالٌ كما سبق وقوله تعالى يَقُولُ الذين كَفَرُواْ الخ تفسيرٌ للمجادلة والأساطيرُ جمع أُسطورة أو اسطارة أم جمع أسطار وهو جمع سَطَر بالتحريك وأصل الكل السَّطْر بمعنى الخط
122
﴿وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ﴾ الضمير المرفوع للمذكورين والمجرورُ للقرآن أي لا يقنعون بما ذكر من تكذيبه وعدِّه من قبيل الأساطير بل ينهَوْن الناسَ عن استماعه لئلا يقِفوا على حقّيته فيؤمنوا به ﴿وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ﴾ أي يتباعدون عنه بأنفسهم إظهاراً لغاية نفورهم عنه وتأكيداً لنهيهم عنه فإن اجتنابَ الناهي عن المنهيِّ عنه من متمّمات النهْي ولعل ذلك هو السرُّ في تأخير النأْي عن النهْي وقيل الضميرُ المجرور للنبي ﷺ وقيل المرفوعُ لأبي طالب ولعل جمعيته باعتبار استتباعه لأتباعه فإنه كان ينهى قريشاً عن التعرض لرسول الله ﷺ وينآى عنه فلا يؤمن به وروي أنهم اجتمعوا إليه وأرادوا برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم سوءاً فقال... والله لن يَصِلوا إليك بجمعِهم حتى أُوسَّدَ في التراب دفينا... فاصدَعْ بأمرك ما عليك غضاضة وابشُرْ بذاك وقَرَّ منه عيونا... ودعوتني وزعمتَ أنك ناصحي ولقد صدقت وكنت ثَمَّ أمينا... وعرضتَ ديناً لا محالةَ إنه من خيرِ أديان البرية دينا... لولا الملامةُ أو حِذاري سُبّة لوجدتني سَمْحاً بذاك مبينا فنزلت ﴿وَإِن يُهْلِكُونَ﴾ أي ما يهلكون بما فعلوا من النهي والنأي ﴿إِلاَّ أَنفُسُهُمْ﴾ بتعريضها لأشد العذاب وأفظعِه عاجلاً وآجلاً وهو عذابُ الضلال والإضلال وقوله تعالى ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ حال من ضمير يُهلكون أي يقصُرون الإهلاكَ على أنفسهم والحالُ أنهم ما يشعُرون أي لا بإهلاكهم أنفسَهم ولا باقتصار ذلك عليها من غير أن يُضِروا بذلك شيئاً من القرآن والرسول ﷺ والمؤمنين وإنما عبّر عنه بالإهلاك مع أن المنفي عن غيرهم مطلقُ الضرر إذ غعاية ما يؤدي إليه ما فعلوا من القدح في القرآن الكريم الممانعةُ في تمشّي أحكامِه وظهورِ أمر الدين للإيذان بأن ما يَحيق بهم هو الهلاكُ لا الضررُ المطلقُ على أن مقصِدهم لم يكن مطلق الممانعة فيما ذُكر بل كانوا يبغون الغوائل لرسول الله ﷺ والمؤمنين ويجوز أن يكون الإهلاكُ معتبراً بالنسبة إلى الذين يُضِلونهم بالنهي فقصْرُه على أنسهم حينئذ مع شموله للفريقين مبنيٌّ على تنزيلِ عذاب الضلال عند عذاب افضلال منزلةَ العدم
﴿وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار﴾ شروعٌ في حكاية ما سيصدر عنهم يوم القيامة من القول المناقضِ لما صدر عنهم في الدنيا من القبائحِ المَحْكيّة مع كونه كِذْباً في نفسه والخطابُ إمَّا لرسولِ الله ﷺ أو لكل أحد
122
الأنعام آية ٢٨
من أهل المشاهَدة والعِيانِ قصداً إلى بيانُ كمالِ سوءِ حالِهم وبلوغِها من الشناعة والفظاعةِ إلى حيثُ لا يختصُّ استغرابُها براءٍ دونَ راءٍ ممَّن اعتاد مشاهدةَ الأمورِ العجيبة بل كلُّ منْ يتأتى منْهُ الرؤيةُ يتعجبُ من هولها وفظاعتِها وجوابُ لو محذوف ثقةً بظهوره وإيذاناً بقصور العبارة عن تفصيله وكذا مفعولُ ترى لدِلالة ما في حيِّز الظرْفِ عليه لو تراهم حين يوقَفون على النار حتى يعاينوها لرأيتَ ما لا يسعه التعبيرُ وصيغةُ الماضِي للدَلالة على التحقق أو حين يطّلعون عليها اطّلاعاً وهي تحتَهم أو يدخُلونها فيعرِفون مقدارَ عذابها من قولهم وقفتُه على كذا إذا فهَّمتُه وعرَّفته وقرىء وقَفوا على البناءِ للفاعلِ منْ وقَف عليه وقوفاً ﴿فَقَالُواْ يا ليتنا﴾ أي إلى الدنيا تمنياً للرجوع والخلاص وهيهاتَ ولاتَ حينَ مناصٍ ﴿وَلاَ نُكَذّبَ بآيات رَبّنَا﴾ أي بآياته الناطقةِ بأحوال النار وأهوالها الآمرةِ باتقائها إذ هي التي تخطُر حينئذ ببالهم ويتحسرون على ما فرّطوا في حقها أو بجميع ى ياته المنتظمةِ لتلك الآياتِ انتظاماً أولياً ﴿وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين﴾ بهَا العاملين بمقتضاها حتى لا تنرى هذا الموقفَ الهائلَ أو نكونَ من فريق المؤمنين الناجين من العذاب الفائزين بحُسن المآب ونصبُ الفعلين على جواب التمني بإضمار أنْ بعد الواو وإجرائها مجرى الفاء ويؤيده قراءةُ ابن مسعوج وابن إسحق فلا نكذبَ والمعنى إنْ رُدِدْنا لم نكذبْ ونكنْ من المؤمنين وقيل ينسَبِكُ من أن المصدرية ومن الفعل بعجها مصدرٌ متوهِّم فيُعطَف هذا عليه كأنه قيل ليت لنا رداً وانتفاءَ تكذيبٍ وكوناً من المؤمنين وقرىء برفعهما على أنه كلامٌ مستأنف كقوله دعني ولا أعودُ أي وأنا لا أعود تركتَني أو لم تترُكْني أو عطفٌ على نرد أو حال من ضميره فيكون داخلاً في حكم التمني كالوجه الخير للنصب وتعلقُ التكذيب الآتي به لما تضمّنه من العِدَة بالإيمان وعدمِ التكذيب كمن قال ليتني رُزقتُ مالاً فأكافئك هـ = على صنيعك فإنه متمنَ في معنى الواعد فلو رزق مالاً ولم يكافىءْ صاحبه يكون مكذِّباً لا محالة وقرىء برفع الأول ونصب الثاني وقد مر وجههما
123
﴿بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ﴾ إضرابهما يُنْبىءُ عنه التمني من الوعد بتصديق الآيات والإيمان بها أي ليس ذلك عن عزيمة صادقةٍ ناشئة عن رغبةٍ في الإيمان وشوق إلى تحصيله والاتصافِ به بل لأنه ظهرَ لهم في موقفهم ذلك ما كانوا يخفونه في الدنيا من الداهيةِ الدهياء وظنوا أنهم مُواقِعوها فلِخَوْفها وهول مطلعها قالوا ما قالوا والمراد بها النارُ التي وُقفوا عليها إذ هي التي سيق الكلامُ لتهويل أمرها والتعجيب من فظاعة حالِ الموقوفين عليها وبإخفائها تكذيبُهم بها فإن التكذيبَ بالشيء كفر به وإخفاءٌ له لا محالة وإيثاره على صريح التكذيب الوارد في قولِه عزَّ وجلَّ هذه جَهَنَّمُ التى يُكَذّبُ بها المجرمون وقوله تعالة هذه النار التى كُنتُم بِهَا تُكَذّبُونَ مع كونه أنسبَ بما قبله من قولهم ولا نكذب بآيات رَبّنَا لمراعاة ما في مقابلته من البُدُوّ هذا هُو الذي تستدعيهِ جزالةُ النظمِ الكريم وأما ما قيل من أن المراد بما يُخفون كفرُهم ومعاصيهم أو قبائحُهم وفضائحُهم التي كانوا يكتُمونها من الناس فتظهر في صحفهم وبشهادجة جوارحِهم عليهم أو شركِهم الذي يجحدون به في بعض مواقف القيامة بقولهم والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ثم يظهر بما ذُكر من شهادة الجوارحِ عليهم أو ما أخفاه رؤساء
123
الأنعام آية ٢٩ ٣٠
الكفرة عن أتباعهم من أمر البعث والتنشور أو ما كتمه علماءُ أهل الكتابين من صحة نبوة النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم ونُعوته الشريفة عن عوامِّهم على أن الضميرَ المجرورَ للعوام والمرفوعَ للخواص أو كفرُهم الذي أخفَوْه عن المؤمنين والضميرُ المجرور للمؤمنين والمرفوع للمنافقين فبعدج الإغضاءِ عما في كلَ منها من الاعتساف والاختلال لا سبيل إلى شيء من ذلك أصلاً لما عرفتَ من أنَّ سَوْق النظم الشريف لتهويل أمر النار وتفظيعِ حال أهلها وقد ذُكر وقوفُهم عليها وأُشير إلى أنه اعتراهم عند ذلك من الخوف والخشية والحَيْرة والدهشة ما لا يحبط به الوصفُ ورُتّب عليه تمنِّيهم المذكورُ بالفاء القاضيةِ بسببية ما قبلَها لما بعدَها فإسقاطُ النار بعد ذلك من تلك السببية وهي في نفسها أدهى الدواهي وأزجرُ الزواجر وإسنادُها إلى شيء من الأمور المذكورة التي دونها في الهول والزجر مع عدم جَرَيانِ ذكرها ثَمةَ أمرٌ يجب تنزيهُ ساحةِ التنزيلِ عن أمثاله وأما ما قيل من أن المراد جزاءُ ما كانوا يُخفون فمن قبيل دخولِ البيوت من ظهورِها وأبوابُها مفتوحة فتأمل ﴿وَلَوْ رُدُّواْ﴾ أي من موقفهم ذلك إلى الدنيا حسبما تمنَّوْه وغاب عنهم ما شاهدوه من الأهوال ﴿لعادوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ﴾ من فنون القبائح التي من جملتها التكذيبُ المذكورُ ونسُوا ما عاينوه بالكلية لاقتصار أنظارِهم على الشاهدِ دون الغائب ﴿وَإِنَّهُمْ لكاذبون﴾ أي لقومٌ ديدَنُهم الكذِبُ في كلِّ ما يأتُون وما يذرون
124
﴿وَقَالُواْ﴾ عطفٌ على عادوا داخلٌ في حيز الجواب وتوسيطُ قولِه تعالى وَإِنَّهُمْ لكاذبون بينهما لأنه اعتراضٌ مسوقلتقرير ما أفاده الشرطيةُ من كذبهم المخصوصِ ولو أُخِّر لأَوْهم أن المراد تكذيبُهم في إنكارهم البعثَ والمعنى لوردوا إلى الدنيا لعادجوا لما نُهوا عنه وقالوا ﴿إِنْ هِىَ﴾ أيْ ما الحَيَاةُ ﴿إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾ بعد ما فارقنا هذه الحياةَ كأن لم يرَوا ما رأَوا من الأحوال التي أولُها البعثُ والنشور
﴿وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ على رَبّهِمْ﴾ الكلامُ فيه كالذي مر في نظيره خلا أن الوقوف ههنا مجاز عن الحبس للتوبيخ والسؤال كما يوقَفُ العبدُ الجاني بين يدَيْ سيده للعقاب وقيل عرَفوا ربهم حق التعريف وقل وُقفوا على جزاءِ ربهم وقولُه تعالى ﴿قَالَ﴾ استئناف مبني على سؤالٍ نشأَ من الكلامِ السابقِ كأنَّه قيلَ فماذَا قالَ لهم ربهم إذ ذاك فقيل قال ﴿أَلَيْسَ هذا﴾ مشيراً إلى ما شاهدُوه من البهث وما يتبعه من الأمور العظام ﴿بالحق﴾ تقريعاً لهم على تكذيبهم لذلك وقولِهم عند سماعِ ما يتعلق به ما هو بحقَ وما هو إلا باطلٌ ﴿قَالُواْ﴾ استئنافٌ كما سبق ﴿بلى وربنا﴾ أكدوا اعتبرافهم باليمين إظهاراً لكمال يقينهم بحقِّيته وإيذاناً بصدور ذلك عنهم بالرغبة والنشاط معا في نفعه ﴿قَالَ﴾ استئناف كما مر ﴿فَذُوقُواْ العذاب﴾ الذي عاينتموه والفاءُ لترتيب التعذيب على اعترافهم بحقية ما كفروا به في الدنيا لكن لا على أن مدارَ التعذيب هو اعترافُهم بذلك بل هو كفرُهم السابقُ بما اعترفوا بحقيته الآن كما نطق به قوله عز وجل ﴿بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ أي بسبب كفركم في الدنيا بذلك أو
124
الأنعام ٣١ ٣٢
بكلِّ ما يجبُ الإيمانُ به فيدخل كفرُهم به دخولاً أولياً ولعل هذا التوبيخ والتقريع وإنما يقع بعد ما وُقفوا على النار فقالوا ما قالوا إذِ الظاهرُ أنه لا يبقى بعد هذا الأمر إلا العذاب
125
﴿قَدْ خَسِرَ الذين كَذَّبُواْ بِلِقَاء الله﴾ هم الذين حُكِيت أحوالُهم لكنْ وْضع الموصولُ موضعَ الضمير للإيذان بتسبب خسرانهم بما في حيز الصلة من التكذيب بلقائه تعالى بقيام الساعة وما يترتبُ عليهِ من البعث وأحكامه المتفرعةِ عليه واستمرارِهم على ذلك فإن كلمةَ حتى في قولِه تعالى ﴿حتى إِذَا جَاءتْهُمُ الساعة﴾ غايةٌ لتكذيبهم لا لخُسرانهم فإنه أبديٌّ لا حدَّ له ﴿بغتة﴾ البغت والبغت مفاجأة للشيء بسرعة من ير شعور به يقال بغة بغْتاً وبغتةً أي فجأةً وانتصابُها إما على أنها مصدرٌ واقعٍ موقعَ الحالِ من فاعلِ جاءتهم أي مباغتة أو من مفعول أي مبغوتين وإما على أنَّها مصدرٌ مؤكِّدٌ على غير الصدر فإنّ جاءتهم في معنى بغتتهم كقولهم أتيته ركضاً أو مصدرٌ مؤكِّد لفعل محذوف وقع حالاً من فاعل جاءتهم أي جاءتهم الساعة تبغتهم بغتة ﴿قَالُواْ﴾ جواب إذا ﴿يا حسرتنا﴾ تعالَيْ فهذا أوانُك والحسرةُ شدة الندم وهذا التحسرُ وإن كان يعتريهم عند الموت لكنْ لما كان ذلك من مبادىء الساعة يمي باسمها ولذلك قال عليه الصلاة والسلام من مات فقد قامت قيامتُه أو جُعل مجيءُ الساعة بعد الموت كالواقع بغير فترةٍ لسرعته ﴿على مَا فَرَّطْنَا فِيهَا﴾ أي على تفريطنا في شأن الساعة وتقصيرنا في مراعاة حقها والاستعداد لها بالإيمان بها واكتسابِ الأعمالِ الصَّالحةِ كما في قوله تعالى على مَا فَرَّطَتُ فِى جَنبِ الله وقيل الضميرُ للحياة الدنيا وإن لم يجْرِ لها ذكرٌ لكونها معلومة والتفريطُ التقصيرُ في الشيء مع القدرة على ما فعله وقيل هو التضييعُ وقيل الفَرَط السبق ومنه الفارط أي السابق ومعنى فرطلى السبْقَ لغيره فالتضعيف فيه للسلب كما في جلّدتُ البعير وقوله تعالى ﴿وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ﴾ حالٌ من فاعل قالوا فائدتُه الأيذان بأن عذابَهم ليس مقصُوراً على ما ذكِر من الحسرة على ما فات وزال بل يقاسون مع ذلك تحمُّلَ الأوزار الثِقال والإيماءُ إلى أن تلك الحسرةَ من الشدة بحيث لا تزول ولا تنسى بما يكابدونه من فنون العقوبات والسرُّ في ذلك أن العذابَ الروحانيَّ أشدُّ من الجُسمانيِّ نعوذ برحمة الله عز وجل منهما والوِزر في الأصل الحِملُ الثقيل سُمِّي به الإثمُ والذنبُ لغاية ثِقَلِه على صاحبه وذكرُ الظهور كذكر الأيدي في قوله تعالى فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ فإن المعتاد حملُ الأثقالِ على الظهور كما أن المألوفَ هو الكسبُ بالأيدي والمعنى أنهم يتحسرون على ما لم يعملوا من الحسنات والحال أنعهم يحمِلون أوزارَ ما عملوا من السيئات ﴿أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ﴾ تذييلٌ مقرِّرٌ لمَا قبلَهُ وتكملةٌ له أي بئس شيئاً يَزِرُونه وِزْرُهم
﴿وَمَا الحياة الدنيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ﴾ لمّا حقَّق فيما سبق أن وراءَ الحياة الدنيا حياةً أخرى يلقَوْن فيها من الخطوب ما يلقون بَيَّن بعدَه حالَ تينِك الحياتين في أنفسهما واللعب
125
٦ -
الأنعام آية ٣٣
عمل يشغل النفس ويفطرها عما تنتفع به واللهوُ صرفُها عن الجدّ إلى الهزل والمعنى إما على حذف الماف أو على جعل الحياة الدنيا نفسَ اللعِب واللهوِ مبالغةً كما في قول الخنساء فإنما هي إقبالٌ وإدبارُ أي وما أعمالُ الدنيا أي الأعمالُ المتعلقةُ بها من حيث هي هي أو وما هي من حيث إنها محلٌ لكسب تلك الأعمال إلا لعبٌ يشغَل الناسَ ويلهيهم بما فيه من منفعةٍ سريعة الزوال ولة وشيكة الاضمحلال عما يعقُبهم منفعة جليلة باقية ولذة حقيقية غير متناهية من الإيمان والعملِ الصالحِ ﴿وَلَلدَّارُ الاخرة﴾ التي هي محلُ الحياة الأخرى ﴿خَيْرٌ لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ الكفرَ والمعاصِيَ لأن منافعها خالصةٌ عن المضارِّ ولذاتِها غيرُ مُنغّصةٍ بالآلام مستمرةٌ على الدوام ﴿أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ ذلك حتى تتقوا ما أنتم عليه من الكفر والعصيان والفاء للعطف على مقدار أي تغفلون فلا تعقِلون أو ألا تتفكرون فتعقِلون وقرىء يعقلون على الغَيْبة
126
﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذى يَقُولُونَ﴾ استئنافٌ مَسوقٌ لتسليةِ رسولِ الله ﷺ عن الحزن الذي يعتريه مما حُكي عن الكفرة من الإصرار على التكذيب والمبالغة فيه ببيان أنه عليه الصلاة والسلام بمكانة من الله عز وجل وأن ما يفعلونه في حقه فهو راجعٌ إليه تعالى في الحقيقة وأنه ينتقم منهم لا محالة أشدَّ انتقام وكلمةُ قد لتأكيد العلم بما ذكر المفيدِ لتأكيد الوعيدِ كما في قوله تعالى ما أنتم عليهخ وقوله تعالى قَدْ يَعْلَمُ الله المعوقين ونحوِهما بإخراجها إلى معنى التكثير حسبما يُخْرجُ إليه ربما في مثل قوله... وإنْ تُمْسِ مهجورَ الفِناء فربما أقام به بعد الوفود وفودُ جرياً على سَننِ العرب عند قصد الإفراط في التكثير تقول لبعض قُوادِ العساكر كم عندك من الفرسان فيقول رُبَّ فارسٍ عندِي وعندُه مقانبُ جَمةٌ يريد بذلكَ التماديَ في تكثير فُرسانه ولكنه يروم إظهارَ براءته عن التزيُّد وإبرازَ أنه ممَّن يقللُ كثيرَ مَا عنده فضلاً عن تكثير القلل وعليه قوله عز وجل رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ وهذه طريقةٌ إنما تُسلك عند كون الأمر من الوضوح بحيث لا تحو حوله شائبةُ ريبٍ حقيقةً كما في الآيات الكريمة المذكورة أو ادعاءً كما في البيت وقولِه... قَدْ أتركَ القِرْنَ مُصفرّاً أناملُهُ وقولِه ولكنه قد يُهلك المالَ نائِلُهْ والمراد بكثرة علمه تعالى كثرةُ تعلقِه وهو متعدَ إلى اثنين وما بعده ساد مسدهما واسمُ إن ضمير الشأن وخبرُها الجملة المفسرة له والموصولُ فاعل يحزنك وعائدُه محذوف أي الذي يقولونه وهو ما حُكي عنهم من قولهم إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الاولين ونحوُ ذلك وقرىء لَيُحزِنُك من أحزن المنقول من حزن اللام وقوله تعالى ﴿فَإِنَّهُمْ لاَ يكذبونك﴾ تعليل لما يشعرون به الكلامُ السابق من النهي عن الاعتداد بما قالوا لكن لا بطريق التشاغل عنه وعدِّه هيناً والإقبالِ التام على ما هو أهمُّ منه من استعظام جحودهم بآيات الله عزَّ وجلَّ كما قيل فإنه مع كونِه بمعزلٍ من التسلية بالكلية مما يوهم كونَ حزنه عليه الصلاة والسلام لخاصة نفسه بل بطريق التسلِّي بما يفيده من بلوغه عليه الصلاة والسلام في جلالة القَدْرِ ورِفعة المحل والزُلفى من الله عز وجل إلى حيث لا غايةَ وراءَه حيثُ لم يقتصر على جعل تكذيبه ﷺ تكذيباً لآياته سبحانه على طريقة قوله تعالى مَّنْ يطع الرسول
126
الأنعام آية ٣٤
فَقَدْ أَطَاعَ الله بل نفى تكذيبهم عنه ﷺ وأثبت لآياته تعالى على طريقة قوله تعالى إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا ينعون الله أيذاناً بكمال القرب واضمحلال شئونه ﷺ في شأن الله عز وجل نعم فيه استعظام لجنايتاهم مُنْبىءٌ عن عظم عقوبتهم كأنه قيل لا تعتدَّ به وكِلْه إلى الله تعالى فإنهم في تكذيبهم ذلك لا يكذبونك في الحقيقة ﴿ولكن الظالمين بآيات الله يَجْحَدُونَ﴾ أي ولكنهم بآياته تعالى يكذّبون فوضَعَ المُظهرَ موضعَ المُضمر تسجيلاً عليهم بالرسوخ في الظلم الذي جحودهم هذا فن من فنونه والالتفاتُ إلى الإسم الجليل لتربية المهابة واستعظام ما أقدَموا عليه من جحود آياته تعالى وإيرادُ الجحود في مورد التكذيب للإيذان بأن آياتِه تعالى من الوضوح بحيث يشاهد صدقها كلُّ أحد وأن من ينكرها فإنما ينكرها بطريق الجحود الذي هو عبارةٌ عن الإنكار مع العلم بخلافه كما في قوله تعالى وَجَحَدُواْ بها واستيقنها أَنفُسُهُمْ وهو المعنيُّ بقول من قال إنه نفْيُ ما في القلب إثباتُه أو إثباتُ ما في القلب نفيُه والباء متعلقة بيجحدون يقال جحد حقَّه وبحقِّه إذا أنكره وهو يعلمه وقيل هو لتضمين الجحود معنى التكذيب وأيًّا ما كان فتقديمُ الجارِّ والمجرور للقَصْر وقيل المعنى فإنهم لا يكذبونك بقلوبهم ولكنهم يجحدون بألسنتهم ويعضُده ما رُوي من أن الأخْنَسَ بنَ شُرَيْقٍ قال لأبي جهل يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادقٌ هو أم كاذب فإنه ليس عندنا أحدٌ غيرُنا فقال له والله إن محمداً لصادقٌ وما كذَب قطُّ ولكن إذا ذهب بنو قُصيَ باللواءِ والسِّقاية والحِجابة والنبوّة فماذا يكونُ لسائر قريش فنزلت وقد رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله ﷺ كان يسمَّى الأمينَ فعرَفوا أنه لا يكذِب في شيء ولكنهم كانوا يجحدون وقيل فإنهم لا يكذبونك لأنهم عندهم الصادقُ الموسومُ بالصدق ولكنهم يجحدون بآيات الله كما يروى أن أبا جهل كان يقول لرسول الله ﷺ ما نُكذِّبُك وإنك عندنا لصادقٌ ولكنا نكذِّبُ ما جئتنا به فنزلت وكأن صدقَ المُخبرِ عند الخبيث بمطابقةِ خبرِه لاعتقادِه والأولُ هو الذي تستدعيهِ الجزالة التنزيلية وقرىء لا يُكْذِبونك من الإكذاب فقيل كلاهما بمعنى واحدٍ كأكثرَ وكثُر وأنزل نزل وهو الأظهر وقيل معنى أكذبه وجده كاذباً ونُقل عن الكسائيِّ أن العربَ تقول كذبتُ الرجلَ أي نسبتُ الكذب إليه وأكذبته أي نسبت الكذب إلى ما جاءَ به لا إليه وقوله تعالى
127
﴿وَلَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ﴾ افتنانٌ في تسليته عليه الصلاة والسلام فإن عمومَ البلية ربما يهوِّنُ أمرَها بعضَ تهوين وإرشادٌ له عليه الصَّلاةُ والسلام إلا الاقتداءِ بمن قبلَه من الرسلِ الكرام عليهم الصلاة والسلام في الصبر على ما أصابهُم من أممهم من فنون الأَذِيَّة وعِدَةٌ ضمنية له عليه الصلاة والسلام بمثل ما مُنِحوه من النصر وتصديرُ الكلام بالقسم لتأكيد التسلية وتنوينُ رسلٌ للتفخيم والتكثر ومن إما متعلقةٌ بكُذِّبت أو بمحذوف وقع صفة لرسل أي وبالله لقد كذِّبت من قبل تكذيبك رسلٌ أول شأنٍ خطير وذوُو عددٍ كثير أو كُذبت رسل كانوا من زمان قبلَ زمانك ﴿فَصَبَرُواْ على مَا كُذّبُواْ﴾ ما مصدرية وقوله
127
الأنعام آية ٣٥
تعالى ﴿وَأُوذُواْ﴾ عطفٌ على كُذبوا داخلٌ في حكمه فأنسبك منهما مصدران من المبنيِّ للمفعول أي فصبروا على تكذيبهم وإيذائهم فتأسَّ بهم واصطبِرْ على ما نالكَ من قولمك والمرادُ بإيذائهم إما عينُ تكذيبهم وإما ما يقارنه من فنون الإيذاء لم يُصرَّحْ به ثقةً باستلزام التكذيب إياه غالبا وأياما كان ففيه تأكيدٌ للتسلية وقيل عطفٌ على صبروا وقيل على كذبت وقيل هو استئناف وقوله تعالى ﴿حتى أتاهم نَصْرُنَا﴾ غايةٌ للصير وفيه إيذانٌ بأن نَصره تعالى إياهم أمرٌ مقرَّر لا مرد له وأنه متوجه إليهم لا بد من إتيانه البتةَ والالتفاتُ إلى نونِ العظمةِ لإبراز الاعتناء بشأن النصر وقوله تعالى ﴿وَلاَ مُبَدّلَ لكلمات الله﴾ اعتراضٌ مقرِّرٌ لما قبله من إتيان نصرِه إياهم والمراد بكلماته تعالى ما ينبىء عنه قوله تعالى وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون وقولُه تعالى كَتَبَ الله لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى من المواعيد السابقة للرسلِ عليهمْ الصلاةُ والسلامُ الدالة على نُصرة رسول الله أيضاً لا نفسُ الآياتِ المذكورة ونظائرُها فإن الإخبارَ بعدم تبدّلِها إنما يفيد عدمَ تبدلِ المواعيدِ الواردةِ إلى رسول الله ﷺ خاصة جون المواعيد السابقة للرسلِ عليهمْ الصلاةُ والسلامُ ويجوزُ أن يُرادَ بكلماته تعالى جميعُ كلماته التي من جُملتِها تلك المواعيدُ الكريمةُ ويدخل فيها المواعيدُ الواردة في حقِّه عليه الصَّلاةُ والسلام دخولاً أولياً والالتفاتُ إلى الإسم الجليل للإشعارِ بعلَّةِ الحُكم فإنَّ الألوهية من موجبات أن لا يغالبه أحدٌ في فعلٍ من الأفعال ولا يقعَ منه تعالى خُلْفٌ في قول من الأقوال وقوله تعالى ﴿وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ المرسلين﴾ جملة قَسَمية جيءَ بها لتحقيق ما مُنحوا من النصر وتأكيدِ ما في ضِمْنه من الوعد لرسول الله ﷺ أو لتقرير جميعَ ما ذكِر من تكذيب الأمم وما ترتب عليه من الأمور والجارُّ والمجرور في محلِ الرفعِ على أنه فاعل إما باعتبار مضمونِه أي بعضُ نبأ المرسلين أو بتقدير الموصوف أي بعضٌ من نبأ المرسلين كما مرَّ في تفسيرِ قولِه تعالى وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ آمنا بالله الآية وأياما كان فالمرادُ بنَبَئِهم عليهم السلام على الأول نصرُه تعالى إياهم بعد اللُّتيا والتي وعلى الثاني جميعُ ما جرى بينهم وبين أممهم على ما ينبىءُ عنه قوله تعالى أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البأساء والضراء وَزُلْزِلُواْ الآية وقيل في محل النصب على الحالية من المستسكن في جاء العائدِ إلى ما يُفهم من الجملة السابقة أي ولقد جاءك هذا الخبر كائناً من نبأ المرسلين
128
﴿وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ﴾ كلامٌ مستأنفٌ مَسوق لتأكيد إيجاب الصبر المستفاد من التسلية ببيان أنه أمرٌ لا محيدَ عنه أصلاً أي إن كان عظُم عليك وشقَّ إعراضُهم عن الإيمان بما جئت به من القرآن الكريم حسبما يُفصح عنه ما حُكي عنهم من تسميتهم له أساطيرَ الأولين وتنائيهم عنه ونهْيِهمُ الناسَ عنه وقيل إن الحرث بن عامر بنِ نوفلِ بنِ عبدِ منافٍ أتى رسول الله ﷺ في محضر من قريش فقال يا محمدُ ائتنا بآيةٍ من عند الله كما كانت الأنبياءُ تفعل وأنا أصدقك فأبى الله أن يأتي بآية مما اقترحوا فأعرضوا عن رسول
128
الأنعام ٣٦
الله فشق ذلك عليه لما أنَّه عليه الصَّلاةُ السلام كان شديدَ الحِرْص على إيمان قومه فكان إذا سألوا آيةً يودّ أن يُنزِلها الله تعالى طمعاً في إيمانهم فنزلت فقوله تعالى إِعْرَاضُهُمْ مرتفعٌ بكبُرَ وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ عليهِ لما مر مرارا من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخرة والجملة في محل النصب على أنها خبر لكان مفسرة لاسمها الذي هو ضميرُ الشأنِ ولا حاجة إلى تقدير قد وقيل اسم كان إعراضُهم وكبر جملة فعلية في محل النصب على أنها خبر لها مقدم على اسمها لأنه فعلٌ رافع لضميرٍ مستتركا هو المشهور وعلى التقديرين فقوله تعالى ﴿فَإِن استطعت﴾ الخ شرطيةٌ أخرى محذوفةُ الجواب وقعتْ جواباً للشرط الأول والمعنى إن شق عليك إعراضُهم عن الإيمان بما جئت به من البينات وعدمُ عدِّهم لها من قبيل الآيات وأحببتَ أن تجيبهم إلى ما سألوه اقتراحاً فإن استطعت ﴿أَن تَبْتَغِىَ نَفَقاً﴾ أي سَرَباً ومنفَذاً ﴿فِى الارض﴾ تنفُذ فيه إلى جَوفها ﴿أَوْ سُلَّماً﴾ أي مصعداً ﴿فِى السماء﴾ تعرج به فيها ﴿فتأتيهم﴾ منهما ﴿بآية﴾ مما اقترحوه فافعلْ وقد جُوِّز أن يكون ابتغاؤهما نفسَ الإتيان بالآية فالفاء في فتأتيَهم حينئذ تفسيرية وتنوينُ آية للتفخيم أي فإن استطعت أن تبتغيَهما فتجعلَ ذلك آيةً لهم فافعل والظرفان متعلقان بمحذوفين هما نعتات لِنفقاً وسلماً والأول لمجرد التأكيد إذ النفقُ لا يكون إلا في الأرض أو تبتغي وقد جُوِّز تعلقُهما بمحذوفٍ وقعَ حالاً من فاعل تبتغي أي أن تبتغي نفقاً كائناً أنت في الأرض أو سلماً كائناً في السماء وفيه من الدلالة على تبالُغِ حِرْصِه عليه الصلاة والسلام على إسلام قومه وتراميه إلى حيث لو قدَر على أن يأتيَ بآيةٍ من تحت الأرض أو من فوق السماء لفعل رجاء لإيمائهم ما لا يخفى وإيثار الابتغاءِ على الاتخاذ ونحوه للإيذانِ بأنَّ ما ذُكر من النفق والسُلّم مما لا يُستطاع ابتغاؤه فكيف باتخاه ﴿وَلَوْ شَاء الله لَجَمَعَهُمْ على الهدى﴾ أي ولو شاء الله تعالى أن يجمعهم على ما أنتُم عليهِ من الهدى لفعله بأن يوفقهم للإيمان فيؤمنوا معكم ولكن لم يشأ لعد صَرفِ اختيارِهم إلى جانب الهُدى مع تمكنِّهم التامِّ منه في مشاهدتهم للآياتِ الداعية إليه لا أنه تعالى لم يوفقهم له مع توجُّهِهِم إلى تحصيله وقيل لو شاء الله لجمعهم عليه بأن يأتيَهم بآيةٍ ملجئةٍ إليه ولكن لم يفعلْه لخروجه عن الحِكْمة وقوله تعالى ﴿فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الجاهلين﴾ نهي لرسول الله ﷺ عما كان عليه من الحرصِ الشديدِ على إسلامِهم والميل إلى إتيان ما يقترحونه من الآيات طمعاً في إيمائهم مرتَّبٌ على بيان عدمِ تعلقِ مشيئتِه تعالى بهدايتهم والمعنى وإذا عرفت أنه تعالى لم يشأ هدايتهم وإيمائهم بأحد الوجهين فلا تكونَنَّ بالحرص الشديدِ على إسلامهم أو الميلِ إلى نزول مقترحاتِهم من الجاهلين بدقائق شئونه تعالى التي من حملتها مَا ذُكر من عدمِ تعلقِ مشيئتِه تعالى بإيمائهم أما اختياراً فلعدم توجُّههم إليه وأما اضطراراً فلخُروجه عن الحكمة التشريعيةِ المؤسسةِ على الاختيار ويجوز أن يُرادَ بالجاهلين على الوجه الثاني المقترِحون ويُراد بالنهْي منعه عليه الصلاة والسلام من المساعدة على اقتراحهم وإيرادُهم بعُنوان الجهل دون الكفر ونحوِه لتحقيق مَناطِ النهْي الذي هو الوصفُ الجامع بينه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وبينهم
129
﴿إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الذين يَسْمَعُونَ﴾
129
تقريرٌ لما مرَّ منْ أنَّ على قلوبهم أكنةً مانعة من الفقه وفي آذانهم وَقراً حاجزاً من السماع وتحقيقٌ لكونهم بذلك من قبيل الموتى لا يُتصور منهم الإيمانُ البتةَ والاستجابةُ الإجابةُ المقارنة للقَبول أي إنما يَقبلُ دعوتَك إلى الإيمان اللذين يسمعون ما يلقى إليهم سماع تفهم وتدبر جون الموتى الذين هؤلاء منهم كقوله تعالى إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى وقوله تعالى ﴿والموتى يَبْعَثُهُمُ الله﴾ تمثيلٌ لاختصاصه تعالى بالقدرة على توفيقهم للإيمان باختصاصه تعالى بالقدرة على بعث الموتى من القبور وقيل بيانٌ لاستمرارهم على الكفر وعدمِ إقلاعهم عنه أصلاً أن الموتى من القبور وقيل بيان مستعارٌ للكفرة بناءً على تشبيه جهلهم بموتهم أي وهؤلاء الكفرة يبعثهم الله تعالى من قبورهم ﴿ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾ للجزاء فحينئذ يستجيبون وأما قبل ذلك فلا سبيل إليه وقرىء يَرْجِعون على البناءِ للفاعلِ منْ رجَع من رجوعا والمشهورة أو في بحق المقام لإنبائه عن كون مرجِعِهم إليه تعالى بطريق الاضطرار
130
﴿وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ آية مّن رَّبّهِ﴾ حكايةٌ لبعضٍ آخَرَ من أباطيلهم بعد حكايةِ ما قالُوا في حقِّ القرآن الكريم وبيانِ ما يتعلّق به والقائلون رؤساء قريش وقيل الحرث بن عامر بن نوفل وأصحابُه ولقد بلغت بهم الضلالةُ والطغيان إلى حيث لم يقتنعوا بما شاهدوا من البينات التي تخِرُّ لها صمُّ الجبال حتى اجترءوا على ادِّعاء أنها ليست من قبيل الآياتِ وإنما هي ما اقترحواه من الخوارقِ الملجئةِ أو المُعْقِبة للعذاب كما قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هَذا هُوَ الحقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماءِ الآية والتنزيل بمعنى الإنزال كما ينبىءُ عنْهُ القراءةُ بالتخفيف فيما سيأتي وما يفيده التعرضَ لعنوان ربوبيتِه تعالى له عليه الصلاة والسلام من الإشعار بالعلّية إنما هو بطريق التعريض بالتهكّم من جهتهم وإطلاق الآيةِ في قوله تعالى ﴿قل إِنَّ الله قَادِرٌ على أن ينزل آية﴾ مع أن المرادَ بها ما هو من الخوارق المذكورةِ لا آيةٌ ما من الآيات لفساد المعنى مجاراةً معهم على زعمهم ويجوزُ أنْ يُرادَ بها آيةٌ مُوجبةٌ لهلاكهم كإنزال ملائكةِ العذاب ونحوه على أن تنوينها للتفخيم والتهويل كما أن إظهارَ الاسمِ الجليل لتربية المهابةِ مع ما فيه من الإشعار بعِلّة القُدرة الباهرةِ والاقتصار في الجواب على بيانِ قدرتِهِ تعالَى على تنزيلِها مع أنها ليست في حيز الإنكار للإيذان بأن عدم تنزيله تعالى إياها مع قدوته عليه لحكمةٍ بالغة يجب معرفتها وهم عنها غافلون كما ينبىء عنه الاستدراكُ بقوله تعالى ﴿ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أي ليسوا من أهل العلم على أن المفعول مطروحٌ بالكلية أو لا يعلمونَ شيئاً على أنه محذوفٌ مدلولٌ عليه بقرينةِ المقام والمعنى أنَّه تعالى قادرٌ على أن ينزل آيةً من ذلك أو آيةً أيَّ آية ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ فلا يدرون أن عدمَ تنزيلِها مع ظهور قدرته عليه لما أفي تنزيلها قلْعاً لأساسِ التكليف المبنيِّ على قاعدة الاختيار أو استئصالاً لهم بالكلية فيقترحونها جهلاً ويتخذون عدم تنزيلها ذريعةً إلى التكذيب وتخصيصُ عدم العلم بأكثرهم لما أن بعضَهم واقفون على حقيقة
130
الأنعام آية ٣٨ ٣٩
الحال وإنما يفعلون ما يفعلون مكابرةً وعناداً وقوله تعالى
131
﴿وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الارض﴾ إلخ كلامٌ مستأنفٌ مَسوق لبيان كمال قدرتِه عز وجل وشمول علمه وسعةِ تدبيرِه ليكون كالدليل على أنَّه تعالى قادرٌ على تنزيل الآية وإنما لا يُنزِّلُها محافظةً على الحِكَم البالغةِ وزيادةُ من لتأكيد الاستغراق وفي متعلقةٌ بمحذوفٍ هو وصفٌ لدابة مفيد لزيادة التعميم كأنه قيل وكا فردٌ من أفراد الدوابِّ يستقرّ في قُطر من أقطارِ الأرضوكذا زيادةُ الوصف في قوله تعالى ﴿وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ﴾ مع ما فيه من زيادة التقرير أي ولا طائرٍ من الطيور يطير في ناحية من نواحي الجو بجناحيه كما هو المشاهَدُ المعتاد وقرىء ولا طائرٌ بالرَّفعِ عطفاً عَلى محلِّ الجار والمجرور كأنه قيل وما مِنْ دابة ولا طائر ﴿إِلاَّ أُمَمٌ﴾ أي طوائفُ متخالفةٌ والجمع باعتبارِ المَعْنى كأنَّه قيلَ وما مِنْ دوابَّ ولا طيرٍ إلا أممِ ﴿أمثالكم﴾ أي كلُّ أمة منها مثلُكم في أن أحوالها محفوظةٌ وأمورَها مقنَّنة ومصالحَها مرعيةٌ جاريةٌ على سَنن السَّداد ومنتظمةٌ في سلك التقديرات الإلهية والتدبيراتِ الربانية ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِى الكتاب مِن شَىْء﴾ يقال فرط الشيء ألأي ضيَّعه وتركه قال ساعدة بن حُوَية معه سِقاءٌ لا يُفرِّط حملَه أي لا يتركه ولا يفارقه ويقال فرّط في الشيء أي أهمل ما ينبغي أن يكون فيه وأغفله فقوله تعالى فِى الكتاب أي في الرقى ن على الأول ظرفُ لغوٍ وقوله تعالى مِن شَىْء مفعول لفرطنا ومن مزيدة للاستغراق أي ما تركنا في القرآن شيئاً من الأشياء المُهمّة التي من جُملتِها بيانُ أنه تعالى مراعٍ لمصالحِ جميعِ مخلوقاته على ما ينبغي وعلى الثاني مفعول للفعل ومن شيء في موضع المصدر أي ما جعلنا الكتاب مفرَّطاً فيه شيئاً من التفريط بل ذكرنا فيه كلَّ ما لا بد من ذكره وأيا ما كان فالجملةُ اعتراضٌ مقررٌ لمضمونِ ما قبلها وقيل الكتابُ اللوْح فالمراد بالاعتراضِ الإشارة إلى أن أحوالَ الأمم مستقصاةٌ في اللوح المحفوظ غيرُ مقصورة على هذا القدر المُجمل وقرىء فَرَطنا بالتخفيف وقوله تعالى ﴿ثُمَّ إلى رَبّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ بيانٌ لأحوال الأمم المذكورة في الآخرةِ بعد بيانِ أحوالها في الدنيا وإيرادُ ضميرها على صيغة جمع العقلاء لإجرائها مُجراهم والتعبير عنها بالأمم أي إلى مالك أمورهم يحشرون يوم القيامة كدأبكم لا إلى غيره فيجازيهم فيُنصِفُ بعضَهم من بعض حتى يبلُغ من عدله أن يأخذ للجّماءِ من القَرْناء وقيل حشرُها موتها ويأباه مقامُ تهويل الخطب وتفظيع الحال وقوله تعالى
﴿والذين كذبوا بآياتنا﴾ متعلق بقوله تعالى مَّا فَرَّطْنَا فِى الكتاب مِن شَىْء والموصول عبارةٌ عن المعهودِين في قوله تعالى وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ الايات ومحلُه الرفعُ على الابتداء خبرُه ما بعده أي أوردنا في القرآن جميعَ الأمور المهمة وأزَحْنا به العلل ة والأعذارَ والذين كذبوا بآياتنا
131
الأنعام آية ٤٠ ٤١
التي هي منه ﴿صُمٌّ﴾ لا يسمعونها سمعَ تدبرٍ وفهمٍ فلذلك يسمّونها أساطيرَ الأولين ولا يعدّونها من الآيات ويقترحون غيرها ﴿وَبُكْمٌ﴾ لا يقدِرون على أن ينطِقوا بالحق ولذلك لا يستجيبون دعوتك بهَا وقولُهُ تعالَى ﴿فِى الظلمات﴾ أي في ظلمات الكفر أو ظلمات الجهل والعناد والتقليد إما خبر ثان للمبتدأ على أنه عبارةٌ عن العمى كما في قوله تعالى صم بكم عمي وإما متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من المستكنِّ في الخبر كأنه قيل ضالون كائنين في الظلمات أو صفةً لبكْم أي بُكم كائنون في الظلمات والمراد به بيانُ كمالِ عراقتهم في الجهل وسوء الحال فإن الأصمَّ الأبكمَ إذا كان بصيراً ربما يَفهم شيئاً بإشارةِ غيرِه وإن لم يفهَمْه بعبارته وكذا يُشعِرُ غيرَه بما في ضميره بالإشارة وإن كان معزولاً عن العبارة وأما إذا كان مع ذلك أعمى أو كان في الظلمات فينسدّ عليه بابُ الفهم والتفهيم بالكلية وقوله تعالى ﴿مَن يَشَإِ الله يُضْلِلْهُ﴾ تحقيقٌ للحق وتقريرٌ لما سبق ممن حالهم ببيانِ أنهم من أهل الطبْعِ لا يتأتَّى منهمْ الإيمانُ أصلاً فمَنْ مبتدأ خبره ما بعد ومفعولُ المشيئة محذوفٌ على القاعدة المستمرَّة من وقوعها شرطاً وكونِ مفعولِها مضمونَ الجزاءِ وانتفاءِ الغرابةِ في تعلقها به أي من يشأ الله إضلالَه أي أن يخلُق فيه الضلالَ يضلِلْه أي يخلُقه فيه لكن لا ابتداءً بطريق الجَبْرِ من غير أن يكونَ له دخلٌ ما في ذلك بل عند صَرْفِ اختياره إلى كَسْبه وتحصيلِه وقِسْ عليه قولُه تعالَى ﴿وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ على صراط مُّسْتَقِيمٍ﴾ لا يضِلُّ من ذهب إليه ولا يزِلُّ من ثبَت قدمُه عليه
132
﴿قُلْ أَرَأَيْتُكُم﴾ أمرٌ لرسول الله ﷺ بأن يُبكِّتَهم ويُلقِمَهم الحجرَ بما لا سبيلَ لهم إلى النكير والكاف حرف جيء به لتأكيد الخطاب لا محلَّ له من الإعراب ومبنى التركيب وإن كان على الاستخبار عن الرؤية قلبية كانت أو بصَرية لكنّ المرادَ به الاستخبارُ عن مُتعلَّقِها أي أخبروني ﴿إِنْ أتاكم عَذَابُ الله﴾ حسبما أتى الأممَ السابقةَ من أنواع العذاب الدنيوي ﴿أَوْ أَتَتْكُمْ الساعة﴾ التي لا محيصَ عنها البتة ﴿أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ﴾ هذا مناطُ الاستخبار ومحطّ التبكيت وقوله تعالى ﴿إِن كُنتُمْ صادقين﴾ متعلق بأرأيتكم مؤكِّد للتبكيت كاشفٌ عن كذبهم وجوابُ الشرط محذوفٌ ثقة بدِلالة المذكورِ عليهِ أيْ إِن كُنتُمْ صادقين في أن أصنامكم آلهةٌ كما أنها دعواكم المعروفةُ أو إن كنتم قوماً صادقين فأخبروني أغيرَ الله تدعون إن أتاكم عذابُ الله الخ فإن صدقهم بأيِّ معنى كان من موجبات إخبارِهم بدعائهم غيرَه سبحانه وأما جعلُ الجواب ما يدلُّ عليه قولُه تعالى أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ أعني فادعوه على أن الضميرَ لغير الله فمُخِلٌّ بجزالة النظمِ الكريم كيف لا والمطلوبُ منهم إنما هو الإخبارُ بدعائهم غيرَه تعالى عند إتيانِ ما يتأتى لا نفسُ دعائهم إياه وقوله تعالى
﴿بَلْ إياه تَدْعُونَ﴾ عطفٌ على جملة منفيةٍ ينْبىء عنها الجملةُ التي تعلقَ بها الاستخبارُ إنباءً جلياً كأنه قيل لا غيرَه تعالى تدعون بل غياه تدعون وقوله تعالى ﴿فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ﴾ أي إلى كشفه عطفٌ على تدعون أي فيكشفه إثرَ دعائِكم وقولُه تعالَى ﴿إِن شَاء الله﴾ أي أنْ شاء كشفَه لبيانِ أن قبولَ دعائِهم غيرُ مطَّردٍ بل هو تابع
132
الأنعام آية ٤٢ ٤٤
لمشيئته المبنيةِ على حِكَمٍ خفية وقد استأثر الله تعالى بعلمها فقد يقبلُه كما في بعض دعواتهم المتعلقةِ بكشف العذاب الدنيوي وقد لا يقبله كما في بعض آخَرَ منها وفي جميع ما يتعلق بكشف العذابِ الأخرويِّ الذي من جملته الساعةُ وقوله تعالى ﴿وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ﴾ أي تتركون ما تشركونه به تعالى من الأصنامِ تركاً كلياً عطفٌ على تدعون أيضاً وتوسيطُ الكشفِ بينهما مع تقارنهما وتأخُرِ الكشف عنهما لإظهار كمال العناية بشأن الكشفِ والأيذان بترتّبه على الدعاء خاصةً وقولُه تعالى
133
﴿ولقد أرسلنا﴾ مكلام مستأنفٌ مسوقٌ لبيانِ أن منهم ة من لا يدعو الله تعالى عند إتيانِ العذاب أيضاً لتماديهم في الغيِّ والضلال لا يتأثرون بالزواجر التنزيلة وتصديرُه بالجملة القَسَمية لإظهار مزيدِ الاهتمام بمضمونه ومفعول أرسلنا محذوف لما أنَّ مُقتضى المقام بيانُ حال المرسَل إليهم لا حالِ المرسلين أي وبالله لقد أرسلنا رسلاً ﴿إلى أُمَمٍ﴾ كثيرة ﴿مِن قَبْلِكَ﴾ أي كائنة من زمان قبلَ زمانك ﴿فأخذناهم﴾ أي فكذبوا رسلهم فأخذناهم ﴿بالبأساء﴾ أي بالشدة والفقر ﴿والضراء﴾ أي الضر والآفات وهما صيغنا تأنيثٍ لا مذكر لهما ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ﴾ أي لكي يدعوا الله تعالة في كشفها بالتضرّع والتذلل ويتوبوا إليه من كفرهم ومعاصيهم
﴿فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ﴾ أي فلم يتضرعوا حينئذ مع تحقق ما يستدعيه ﴿ولكن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ استدراكٌ عما قبله أي فلم يتضرعوا إليه تعالى برقةِ القلب والخضوع مع تحقق ما يدعوهم إليه ولكن ظهر منهم نقيضُه حيث قستْ قلوبُهم أي استمرتْ على ما هي عليه من القساوة أو ازدادَتْ قساوةً كقولك لم يُكرِمْني إذ جئتُه ولكن أهانني ﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان ما كانوا يعملون﴾ من الكفر والمعاصي فلم يُخْطِروا ببالهم أنّ ما اعتراهم من البأساء والضراء ما اعتراهم إلا لأجله وقيل الاستدراك لبيان أنَّه لم يكُن لهم في ترك التضرُّع عذرٌ سوى قسوةِ قلوبهم والإعجابِ بأعمالهم التي زيَّنها الشيطانُ لهم وقوله تعالى
﴿فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ به﴾ عطف على مقدَّرٍ ينساقُ إليه النظمُ الكريمُ أي فانهمَكوا فيه ونسُوا ما ذُكَّروا به من البأساء والضّراء فلما نسوه ﴿فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَىْء﴾ من فنون النَّعْماء على منهاج الاستدراج لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال مُكِر بالقوم ورب الكعبة وقرىء فتّحنا بالتشديد للتكثير وفي ترتيب الفتح على النسيان المذكور إشعارٌ بأن التذكر في الجملة غير خالٍ عن النفع وحتى في قولِه تعالى ﴿حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ﴾ هي التي يُبتدأ بها الكلامُ دخلتْ على الجملةِ الشرطية كما في قوله تعالى حتى إِذَا جَاء أَمْرُنَا الآية ونظائرِه وهي
133
الأنعام آية ٤٥ ٤٧
مع ذلك غاية لقوله تعالى فَتَحْنَا أو لما يدل هو عليه كأنه قيل ففعلوا ما فعلوا حتى إذا اطمأنوا بما أتيح لهم وبطِروا وأشِروا ﴿أخذناهم بَغْتَةً﴾ أي نزل بهم عذابنا فجأةً ليكون أشدَّ عليهم وقعا وأفظع هو لا ﴿فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ﴾ متحسِّرون غاية الحسرة آيسون من كل هير واجمون وفي الجملة الاسميةِ دلالة على استقرارهم على تلك الحالة الفظيعة
134
﴿فَقُطِعَ دَابِرُ القوم الذين ظَلَمُواْ﴾ أي آخِرُهم بحيث لم يبقَ منهم أحد من دبره دبرا ودبورا أي تبعه ووضعُ الظاهر موضعَ الضميرِ للإشعارِ بعلةِ الحُكم فإن هلاكهم بسبب زلمهم الذي هو وضعُ الكفر موضعَ الشكر وإقامةُ المعاصي مُقامَ الطاعات ﴿والحمد للَّهِ رَبّ العالمين﴾ على ما جرى عليهم من النَّكال فإن إهلاك الكفار والعصاة من حيث أنه تخليصٌ لأهل الأرض من شؤم عقائدِهم الفاسدة وأعمالهم الخبيثة نعمةٌ جليلة مستجلِبةٌ للحمد لا سيما مع ما فيه من إعلاءِ كلمةِ الحق التي نطقَت بها رسلُهم عليهم السلام
﴿قل أرأيتم﴾ أمر لرسول الله ﷺ بتكرير التبكيت عليهم وتثنيةِ الإلزامِ بعد تكملةِ الإلزامِ الأولِ ببيان أنه أمرٌ مستمرٌ لم يزَلْ جارياً في الأمم وهذا أيضاً استخبارٌ عن متعلَّق الرؤية وإن كان بحسب الظاهر استخباراً عن نفسِ الرؤية ﴿إِنْ أَخَذَ الله سَمْعَكُمْ وأبصاركم﴾ بأن أصَمّكم وأعماكم بالكلية ﴿وَخَتَمَ على قُلُوبِكُمْ﴾ بأن غطى عليها بما لا يبقى لكم معه عقلٌ وفهمٌ أصلاً وتصيرون مجانين ويجوز أن يكون الختمُ عطفاً تفسيرياً للأخذ المذكور فإن السمعَ والبصر طريقان للقلب منهما يرِدُ ما يرِدُه من المدرَكات فأخذهما سد لبابه وهو السرُّ في تقديم أخذِهما على ختمها وأما تقديمُ السمع على الإبصار فلأنه مورِدُ الآياتِ القرآنية وإفرادُه لما أن أصله مصدَرٌ وقوله تعالى ﴿مِنْ إله﴾ مبتدأ وخبر ومن استفهامية وقوله تعالى ﴿غَيْرُ الله﴾ صفةٌ للخبر وقوله تعالى ﴿يَأْتِيكُمْ بِهِ﴾ أي بذاك على أن الضميرَ مستعارٌ لاسم الإشارة أو بما أَخَذ وخَتَم عليه صفةٌ أخرى له والجملة متعلَّقُ الرؤية ومناطُ الاستخبار أي أخبروني إنْ سلب الله مشاعرَكم من إله غيرُه تعالى يأتيكم بها وقوله تعالى ﴿انظر كَيْفَ نُصَرّفُ الايات﴾ تعجيبٌ لرسول الله ﷺ من عدم تأثُّرِهم بما عاينوا من الآيات الباهرةِ أي انظر كيف نكرِّرها ونقرِّرها مصروفةً من أسلوب إلى أسلوب تارةً بترتيب المقدِّمات العقلية وتارةً بطريق الترغيب والترهيب وتارةً بالتنبيه والتذكير ﴿ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ﴾ عطفٌ على نصرِّف داخلٌ في حُكمه وهو العُمدة في التعجيب وثم لاستبعاد صدوفهم أي إعراضِهم عن تلك الآيات بعد تصريفها على هذا النمط البديعِ الموجبِ للإقبال عليها
﴿قُلْ أَرَأَيْتُكُم﴾ تبكيتٌ آخَرُ لهم بإلجائهم إلى الاعترافِ باختصاص للعذاب بهم ﴿إِنْ أتاكم عَذَابُ الله﴾ أي
134
الأنعام آية ٤٨
عذابُه العاجلُ الخاصُّ بكم كما أتى مَنْ قبلكم من الأممِ ﴿بَغْتَةً﴾ أي فجأةً من غير أن يظهرَ منه مخايِلُ الإتيان وحيثُ تضمّن هذا معنى الخُفية قوبل بقوله تعالى ﴿أَوْ جَهْرَةً﴾ أي بعد ظهورِ أماراتِه وعلائمه وقيل ليلاً أو نهاراً كما في قوله تعالى بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا لما أن الغالبَ فيما أتى ليلاً البغتةُ وفيما أتى نهاراً الجهرةُ وقرىء بغتة أو جهرة وهما في موضع المصدر أي إتيانَ بغتةٍ أو إتيانَ جهرة وتقديمُ البغتة لكونها أهولَ وأفظعَ وقوله تعالى ﴿هَلْ يُهْلَكُ﴾ متعلَّق الاستخبار والاستفهام للتقرير أي قل لهم تقريراً لهم باختصاص الهلاكِ بهم أخبروني إن أتاكم عذابه تعالى حسبما تستحقونه هل يُهلك بذلك العذاب إلا أنتم أي هل يُهلك غيرُكم ممن لا يستحقه وإنما وُضع موضعَه ﴿إِلاَّ القوم الظالمون﴾ تسجيلاً عليهم بالظلم وإيذاناً بأن مناطَ إهلاكهم ظلمُهم الذي هو وضعُهم الكفرَ موضعَ الإيمان وقيل المرادُ بالظالمين الجنسُ وهو داخلون في الحكم دجخولا أولياً قال الزجاج هل يُهلك إلا أنتم ومن اشبهكم ويأباه تخصيص افتيان بهم وقيل الاستفهامُ بمعنى النفي فمتعلَّق الاستخبارِ حينئذ محذوفٌ كأنه قيل أخبروني إن أتاكم عذابه تعالى بغتة أو جهرة مذا يكون الحال ثم قيل بياناً لذلك ما يُهلك إلا القومُ الظالمون أي ما يُهلك بذلك العذاب الخاصِّ بكم إلا أنتم فمن قيَّد الهلاكَ بهلاك التعذيب والسُخط لتحقيق الحصْرِ بإخراج غيرِ الظالمين لِما أنه ليس بطريقِ التعذيب والسَّخَطِ بل بطريق الإثابة ورفع الدرجة فقد أهمل ما يُجْديه واشتغل بما لا يعينه وأخلَّ بجزالة النظم الكريم وقرىء هل يَهلِك من الثلاثي
135
﴿وَمَا نُرْسِلُ المرسلين﴾ كلامٌ مستأنفٌ مَسوقٌ لبيانِ وظائفِ منْصِبِ الرسالة على الإطلاق وتحقيقِ ما في عُهدة الرسلِ عليهم السلام وإظهارُ أن ما يقترحه الكفرةُ عليه عليه السلام ليس مما يتعلقُ بالرسالة أصلاً وصيغةُ المضارع لبيانِ أن ذلك أمرٌ مستمرٌّ جرتْ عليه العادةُ الإلهية وقوله تعالى ﴿إِلاَّ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ﴾ حالات مقدّرتان من المُرْسلين أي ما نرسِلُهم إلا مقدَّراً تبشيرُهم وإنذارُهم ففيهما معنى العلة الغائبة قطعاً أي ليبشروا قومَهم بالثواب على الطاعة وينذروهم بالعذاب على المعصية أي ليُخبروهم بالخبر السار والخبرِ الضارّ دنيويا كان أو أخرويا من غير أن يكون لهم دخلٌ ما في وقوع المخبَر به أصلاً وعليه يدور القصر والإ لزم أن لا يكون بيان الشرائع والأحكام من وظائف الرسالة والفاء في قوله تعالى ﴿فمن آمن وَأَصْلَحَ﴾ لترتيب ما بعدها على ما قبلها ومن موصوله والفاء في قوله تعالى ﴿فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ لشَبَه الموصول بالشرط أي لا خوف عليهم من العذاب الذي أُنذِروه دنيوياً كان أو أخروياً ولا هم يحزنون بفوات ما بُشِّروا به من الثواب العاجل والآجل وتقديمُ نفْيِ الخوفِ على نفْيِ الحُزْن لمراعاة حقِّ المقام وجمعُ الضمائر الثلاثة الراجعة إلى مَنْ باعتبارِ معناها كما أنَّ إفرادَ الضميرَيْن السابقين باعتبار لفظها أي لا يعتريهم ما يوجب ذلك لا أنه يعتريهم لكنهم لا يخافون ولا يحزنون والمرادُ بيانُ دوام انتفاءِ دوامِهما كما يُوهمه كونُ الخبرِ في الجملة الثانية مضارعا
135
الأنعام آية ٤٩ ٥٠
لما تقرر في موضعه من أن النفيَ وإن دخل على نفس المضارع يُفيد الدوام والاستمرارَ بحسب المقام ألا يُرى أن الجملةَ الاسميةَ تدلُّ بمعونة المقام على استمرار الثبوت فإذا دخل عليها حرفُ النفي دلت على استمرار الانتفاءِ لا على انتفاء الاستمرار كذلك المضارعُ الخاليَ عن حرف النفي يفيد استمرار الثبوت فإذا دخل عليه حرفُ النفي يفيد استمرارَ الانتفاء لا انتفاء الاستمرار ولا بُعْد في ذلكَ فإن قولك ما زيداً ضربت مفيدٌ لاختصاص النفي لا نفي الاختصاص كما بُيّن في محله وقوله عز وجل
136
﴿الذين كانوا﴾ عطفٌ على مَنْ آمن دالخل في حكمه قوله تعالى ﴿بآياتنا﴾ إشارى ة إلى أن ما ينطِقُ به الرسلُ عليهم السَّلامُ عند التبشير والإنذار ويبلّغونه إلى الأمم ى ياته تعالى وأن من آمن به فقد آمن بآياته تعالى ومن كذب به فقد كذب بها وفيهِ من الترغيبِ في الإيمان به والتحذيرِ عن تكذيبه ما لا يخفى والمعنى ما نرسل المرسلين إلا ليُخبروا أممهم من جهتنا بما سيقع منا من الأمور السارّة والضارّة لا ليُوقعوها استقلالاً من تلقاء أنفسهم أو استدعاءً من قِبَلِنا حتى يقترحوا عليهم ما يقترحون فإذا كان الأمرُ كذلك فمن ى من بما أَخبروا به من قبلنا تبشيراً أو إنذاراً في ضمن آياتنا وأصلح ما يجب إصلاحُه من أعماله أو دخل في الصلاح فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هم يحزنون والذين كذبوا بآياتنا التي بُلِّغوها عند التبشير والإنذار ﴿يَمَسُّهُمُ العذاب﴾ أي العذاب الذي أُنذِروه عاجلاً أو آجلاً أو حقيقةُ العذاب وجنسُه المنتظمُ له انتظاماً أولياً ﴿بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ﴾ أي بسبب فسقهم المستمر الذي هو الإصرارُ على الخروج عن التصديق والطاعة
﴿قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ الله﴾ استئنافٌ مبنيٌّ على ما أسِّسَ من السنة الإلهية في شأنِ إرسالِ الرسل وإنزالِ الكتب مسوق لإظهار تبرئه ﷺ عما يدورُ عليه مقترحاتُهم أي قل للكفرة الذين يقترحون عليك تارةً تنزيلَ الآياتِ وأخرى غيرَ ذلك لا أدَّعي أن خزائنَ مقدوراتِه تعالى مُفوَّضةٌ إلي أتصرف فيهما كيفما شاء استقلالاً أو استدعاءً حتى تقترحوا عليّ تنزيلَ الآياتِ أو إنزالَ العذاب أو قلبَ الجبال ذهباً أو غير ذلك مما لا يليق بشأني وجعلُ هذا تبرُّؤاً عن دعوى الإلهية مما لا وجهَ لَهُ قطعاً وقوله تعالى ﴿وَلاَ أَعْلَمُ الغيب﴾ عطفٌ على محلَّ عندي خزائنُ الله أي ولا أدّعي أيضاً أني أعلم الغيبَ من أفعاله تعالى حتى تسألوني عن وقت الساعة أو وقت نزول العذاب أو نحوهما ﴿وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنّى مَلَكٌ﴾ حتى تكلفوني من الأفاعيل الخارقةِ للعادات ما لا يطيق به البشرُ من الرُقيِّ في السماء ونحوه أو تعدوا عدمَ اتّصافي بصفاتهم قادحاً في أمري كما ينبىء عنه قولهم مال هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِى فِى الاسواق والمعنى إني لا أدعي شيئا من هذه الأشياء الثلاثة حتنى تقترحوا عليَّ ما هو من آثارها وأحكامها وتجعلوا عدمَ إجابتي إلى ذلك دليلا على عد صحةِ ما أدَّعيه من الرسالة التي لا تعلُّقَ لها بشيء مما ذُكر قطعاً بل إنما هي
136
الأنعام آية ٥١
عبارةٌ عن تلقِّي الوحْي من جهةِ الله عزَّ وجل والعملِ بمقتضاه فحسْب حسْبما ينبيء عنه قوله تعالى ﴿إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَىَّ﴾ لا على معنى تخصيص اتباعه ﷺ بما يوحى إليه دون غيرِه بتوجيِه القَصْر إلى المفعول بالقياس إلى مفعولٍ آخرَ كما هو الاستعمالُ الشائعُ الواردُ على توجيه القصْر إلى ما يتعلَّق بالفعلِ باعتبار النفي في الأصل والإثبات في القيد بل على معنى تخصيص حاله ﷺ باتباع ما يوحى إليه بتوجيه القصرِ إلى نفسِ الفعلِ بالقياس إلى ما يغرّه من الأفعالِ لكن لا باعتبار النَّفي والإثباتِ معاً في خصوصية فإن ذلك غيرُ ممكنٍ قطعاً بل باعتبار النفي فيما يتضمنه من مطلق القعل والإثباتِ فيما يقارنه من المعنى المخصُوص فإنَّ كلَّ فعلٍ من الأفعال الخاصَّةِ كنصر مثلاً ينحلُّ عند التَّحقيقِ إلى معنى مطلقٍ هو مدلولُ لفظِ الفعلِ وإلى معنى خاص يقومه فإن معناه فصل النصْرَ يُرشدك إلى ذلك قولُهم معنى فلانٌ يُعطي ويَمنعُ يفعلُ الإعطاءَ والمنعَ فموردُ القصرِ في الحقيقةِ ما يتعلق بتوجيه النفي إلى الأصل والإثباتِ إلى القيد كأنه قيل ما أفعلُ إلا اتباعَ ما يُوحَى إليَّ من غير أن يكون لي مدخَلٌ ما في الوحي أو في الموحى بطريق الاستدعاء أو بوجهٍ آخرَ من الوجوه أصلاً ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الأعمى والبصير﴾ مثل للضال والمهتدي على الإطلاق والاستفهام إنكاري والمراد إنكاري استواءِ مَنْ لا يعلم ما ذُكر من الحقائق ومن يعلمُها وفيه من الإشعار بكمالِ ظهورِها ومن التنفير عن الضلالِ والترغيب في الاهتداء ما لا يَخْفى وتكريرُ الأمر لتثنية التبكيتِ وتأكيدِ الإلزام وقوله تعالى ﴿أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ﴾ تقريعٌ وتوبيخٌ داخلٌ تحت الأمر والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي لا تَسْمَعُونَ هذا الكلامَ الحقَّ فلا تتفكرون فيم أو أتسمعون فلا تتفكرون فيه فمناطُ التوبيخِ في الأول عدمُ الأمرَيْنِ معاً وفي الثَّانِي عدمُ التفكر مع تحقق ما يوجيه
137
﴿وَأَنذِرْ بِهِ الذين يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إلى رَبّهِمْ﴾ بعد ما حكَى لرسول الله ﷺ أن من الكفرة قوماً لا يتعظون بتصريف الآيات الباهرة ولا يتأثرون بمشاهدة المعجزات القاهرة قد إيفت مشاعرُهم بالكلية والتحقوا بالأموات وقرَّر ذلك بأن كرَّر عليهم من فنون التبكيت والإلزام ما يُلقِمُهم الحجرَ أي غلقام فأبَوا إلا الإباءَ والنكيرَ وما نجَع فيهم عِظةٌ ولا تذكير ة وما أفادهم الإنذارُ إلا افصرار على الإنكار أُمرَ عليه الصلاةُ والسلامُ بتوجيه الإنذار إلى مَنْ يتوقعُ منهم التأثرَ في الجملة وهم المحجوزون منهم للحشر على الوجه الآتي سواء كانوا جازمين بأصله كأهل الكتاب وبعضِ المشركين المعترفين بالبعث المتردِّدين في شفاعة آبائهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كالأولين أو في شفاعة الأصنام كالآخِرين أو متردّدين فيهما معاً كبعض الكفرة الذين يُعلم من حالهم أنهم إذا سمعوا بحديث البعث يخافون أن يكون حقاً وأما المنكرون للحشر رأساً والقائلون به القاطعون بشفاعة آبائهم أو بشفاعة الأصنام فهم خارجون ممن أمر بإنذارهم وقد قيل هم المفرِّطون في الأعمال من المؤمنين ولا يساعدُه سِباقُ النَّظم الكريمِ ولا سياقه بل فيه ما يقضي باستحالة صحته كما ستقف عليه
137
الأنعام آية ٥٢
والضميرُ المجرورُ لما يوحى أو لما دَلَّ هو عليهِ من القرآن والمفعولُ الثاني للإنذار إما العذابَ الأخرويَّ المدلولَ عليه بما في حيز الصلة وإما مطلقَ العذابَ الذي وردَ به الوعيدُ والتعرّضُ لعنوان الربوبية المنبشة عن المالكية المطلقة والتصرف اكلي لتربية المهابة وتحقيق المخافة وقوله تعالى ﴿لَيْسَ لَهُمْ مّن دُونِهِ وَلِىٌّ وَلاَ شفيع﴾ في حين النصب على الحالية من ضمير يحشروا ومن متنعلقة بمحذوفٍ وقعَ حالاً من اسم ليس لأنَّه في الأصلِ صفةٌ له فلما قد عليه انتصب حالاً خلا أن الحال الأولى لإخراج الحشر الذي لم يقيد بها عن حيز الخوف وتحقيقِ أن ما نيط به الخوفُ هو الحشر على تلك الحالة لا الحشرُ كيفما كان ضرورةَ أن المعترفين به الجازمين بنُصرة غيرِه تعالى بمنزلةِ المنكرين له في عدم الخوفِ الذي عليه يدورُ أمرُ الإنذار وأما الحالُ الثانية فليست لإخراج الوليِّ الذي لم يقيد بها عن حيز الانتفاء لفساد المعنى لاستلزام ثبوتِ ولايتِه تعالى لهم كما في قوله تعالى ومالكم من دُونِ الله مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ بل لتحقيق مدارِ خوفهم وهو فُقدان ما علّقوا به رجاءَهم وذلك إنما هو ولايةُ غيرِه سبحانه وتعالى في قوله تعالى وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِىَ الله فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِى الارض وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء والمعنى أنذر به الذين يخافون أن يحشروا غيرَ منصورين من جهة أنصارهم على زعمهم ومن هذا اتضح أن لا سبيلَ إلى كون المرادِ بالخائفين المفرِّطين من المؤمنين غذ ليس لهم والي سواه تعالى ليخافوا الحشرَ بدون نصرته وإنما الذي يخافونه الحشرَ بدون نُصرته وإنما الذي يخافونه الحشر بدون نصرته عزَّ وجلَّ وقولُه تعالَى ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ تعليل للأمر أي أنذرهم مرجواً منهم التقوى
138
﴿وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشى﴾ لما أمر ﷺ بإنذار المذكورين لينتظموا في سلك المتقين نهي ﷺ عن كون ذلك بحيث يؤدي إلى طردهم رُوي أن رؤساءَ من المشركين قالوا لرسول الله ﷺ لو طردتَ هؤلاء الأعبُدَ وأرواحَ جبابهم يعنون فقراءَ المسلمين كعمارٍ وصهيبٍ وخبابٍ وسَلمانَ وأضرابهم رضي الله تعالى عنهم جلسنا إليك وحادثناك فقال ﷺ ما أنا بطارد المؤمنين فقالوا فأقِمْهم عنا إذا جئنا فإذا قُمنا فأقعِدْهم معك إن شئت قال ﷺ نعم طمعاً في إيمانهم ورُوي أن عُمر رضي الله تعالى عنه قالَ لَهُ عليهِ الصَّلاةُ والسلام لو فعلتَ حتى تنظرَ إلى ما يصيرون وقيل إن عُتبةَ بنَ ربيعةَ وشيبةَ بنَ ربيعةَ ومُطعِمَ بن عدي والحرث بنَ نوفل وقرصةَ بنَ عبيد وعمروَ بنَ نوفل وأشرافَ بني عبد مناف من أهل الكفر أتَوا أبا طالب فقالوا يا أبا طالب لو أن ابنَ أخيك محمداً يطرُد موالينا وحلفاءناوهم عبيدنا وتقاؤنا كان أعظمَ في صدورنا وأدنى لاتّباعنا إياه فأتى أبو طالب إلى النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم فحدثه بالذي كلموه فقال عمرُ رضي الله عنه لو فعلتَ ذلك حتى ننظر ما الذي يريدون إلى ما يصيرون وقال سلمان وخباب فينا نزلت هذه الآية جاء الأقرعُ بنُ حابسٍ التميميث وعُيَيْنةُ بنُ حِصْنٍ الفزاريُّ وعباس بن مرداس وذو وهم من المؤلفة قلوبهم
138
الأنعام آية ٥٣
فوجدوا النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم جالساً مع أناسٍ من ضعفاءِ المؤمنين فلما رأوهم حوله ﷺ حقروهم فأتوه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فقالُوا يا رسولَ الله لو جلستَ في صدر المجلس ونفَيْتَ عنا هؤلاء وأرواحَ جبابهم فجالسناك وحادثناك وأخذنا عنك فقال ﷺ ما أنا بطارد المؤمنين قالوا فإنا نحب أن تجعل لنا معك مجلساً تعرِفْ لنا به العربُ فضلَنا فإن وفودَ العرب تأتيك فنستحي أن ترانا مع هؤلاء الأعبُد فإذا نجحن جئناك فأقمهم عنا فإذا نحن فرغنا فعد معهم إن شئت قال ﷺ نعم قالوا فاطكتب لنا كتاباً فدعا بالصحيفة وبعليَ رضي الله تعالى عنه ليكتبَ ونحن قعود ي ناحية فنزلَ جبريلُ عليه السَّلامُ بالآية فرمى عليه السلام بالصحيفة ودعانا فأتيناه وجلسنا عنده وكنا ندنو منه حتى تمس ركبتنا رُكبتَه وكان يقوم عنا إذا أراد القيام فنزلت واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم فترك القيام عنا إلى أن نقوم عنه وقال الحمد لله الذي لم يتمنى حتى أمرني أن أصبِرَ نفسي مع قومٍ من أمتي معكم المحيا ومعكم الممات والمرادُ بذكر الوقتين الدوامُ وقيل صلاةُ الفجر والعصر وقرىء بالغُدوة وقوله تعالى ﴿يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ حال من ضمير يدعون أي يدعونه تعالى مخلصين له فيه وتقييدُه به لتأكيد علِّيتِه للنهي فإن الإخلاصَ من أقوى موجبات الإكرام المضادِّ للطرد وقوله تعالى ﴿مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَىْء﴾ اعتراضٌ وُسِّط بين النهي وجوابه تقريراً له ودفعاً لما عسى يُتوَهم كونُه مسوِّغاً لطردهم من أقاويلِ الطاعنين في دينهم كدأب قوم نوحٍ حيث قالوا مَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أراذلنا بادجى الرأى أي ما عليك شيءٌ ما مِنْ حساب إيمانهم وأعمالِهم الباطنة حتى تتصدى له وتبنى على ذلك ما تراه من الأحكام وإنما وظيفتُك حسبما هو شأنُ منصِبِ النبوة اعتبارُ ظواهرِ الأعمال وإجراءُ الأحكام على موجبها وأما بواطنُ الأمور فحسابُها على العليم بذات الصدور كقوله تعالى إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ على رَبّى وذكرُ قوله تعالى ﴿وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مّن شَىْء﴾ مع أن الجوابَ قد تم بما قبله للمبالغةِ في بيانِ انتفاءِ كون حسابهم عليه ﷺ بنظمه في سلك ما لا شُبهة فيه أصلاً وهو انتفاءُ كونِ حسابه ﷺ عليهم على طريقة قولِه تعالى لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ وأما ما قيل من أن ذلك لتنزيل الجملتين منزلةَ جملةٍ واحدةٍ لتأدية معنى واحدٍ على نهج قوله تعالى وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى فغيرُ حقيقٍ بجلالة شأن التنزيل وتقديم عليك في الجملة الأولى للقصدج إلى إيراد النفي على اختصاص حسابهم به ﷺ إذ هو الجاعي إلى تصدية ﷺ لحسابهم وقيل الضميرُ للمشركين والمعنى أنك لا تؤاخَذُ بحسابهم حتى يُهمَّك إيمانُهم ويدعُوَك الحِرْصُ عليه إلى أن تطرُدَ المؤمنين وقوله تعالى ﴿فَتَطْرُدَهُمْ﴾ جواب النفي وقوله تعالى ﴿فَتَكُونَ مِنَ الظالمين﴾ جواب النهي وقد جُوِّز عطفُه على فتطردَهم على طكريقة التسبيب وليس بذاك
139
﴿وكذلك فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾ استئنافٌ مبينٌ لما نشأ عنه ما سبق من النهي وذلكَ إشارةٌ إلى مصدرِ ما بعده من الفعل الذي هو عبارةٌ عن تقديمه لفقراء المؤمنين في أمر الدين بتوفيقهم للإيمان
139
الأنعام آية ٥٤
مع ما هم عليه في أمر الدنيا من كمال سوء الحال وما فيه من معنى البُعدِ للإيذانِ بعلوِّ درجتِه المُشَارِ إليهِ وبُعْدِ منزلتِه في الكمال والكاف مُقحَمَةٌ لتأكيد ما أفاده اسمُ الإشارةِ من الفخامة ومحلُها في الأصلِ النصبُ على أنه نعتٌ لمصدرٍ مؤكّدٍ محذوف والتقدير فتنا بعضَهم ببعض فتوناً كائناً مثلَ ذلك الفتون ثم قُدّم على الفعلِ لإفادة القصِر المفيدِ لعدم القصور فقط واعتُبرت الكافُ مُقحَمةً فصار نفسَ المصدرِ المؤكدِ لا نعتاً له والمعنى ذلك الفتونَ الكاملَ البديعَ فتنّا أي ابتلَينا بعضَ الناس ببعضهم لا فتوناً غيره حيث قدمنا الآخِرين في أمر الدينِ على الأولين المتقدَّمين عليهم في أمر الدنيا تقدماً كلياً واللام في قوله تعالى ﴿لّيَقُولواْ﴾ للعاقبة أي ليقول البعضُ الأولين مُشيرين إلى الآخِرين محقِّرين لهم نظراً إلى ما بينهما من التفاوت الفاحشِ الدنيوي وتعامياً عما هو مَناطُ التفضيلِ حقيقةً ﴿أَهَؤُلاء مَنَّ الله عَلَيْهِم مّن بَيْنِنَا﴾ بأن وفّقهم لإصابة الحق ولما يصعجهم عنده تعالى من دوننا ونحن المقدَّمون والرؤساء وهم العبيدُ والفقراء وغرضُهم بذلك إنكارُ وقوعِ المنِّ رأساً على طريقة قولِهم لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ لا تحقيرُ الممنونِ عليهم مع الاعتراف بوقوعه بطريق الاعتراضِ عليه تعالى وقولُه تعالى ﴿أَلَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بالشاكرين﴾ ردٌّ لقولهم ذلك وإبطال له وإشارةٌ إلى أن مدارَ استحقاقِ الإنعامِ معرفةُ شأنِ النعمةِ والاعترافُ بحق المُنعِم والاستفهامُ لتقرير علمه البالغِ بذلك أي أليس الله بأعلمَ بالشاكرين لِنِعَمِه حتى تستبعِدوا إنعامَه عليهم وفيه من الإشارة إلى أن أولئك الضعفاءَ عارفون بحقِّ نِعَم الله تعالى في تنزيل القرآنِ والتوفيقِ للإيمان شاكرون له تعالى على ذلك مع التعريض بأن القائلين بمعزلٍ من ذلك كله ما لا يخفى
140
﴿وَإِذَا جَاءكَ الذين يُؤْمِنُونَ بآياتنا﴾ هم الذين نُهيَ عن طردهم وُصِفوا بالإيمان بآيات الله عزَّ وجلَّ كما وُصفوا بالمداومة على عبادته تعالى بالإخلاص تنبيهاً على إحرازهم لفضيلتَي العلم والعمل وتأخيرُ هذا الوصفِ مع تقدمه على الوصف الأولِ لما أن مدارَ الوعدِ بالرحمة والمغفرة هو الإيمانُ بها كما أن مناطَ النهْي عن الطرد فيما سبق هو المداومةُ على العبادة وقوله تعالى ﴿فَقُلْ سلام عَلَيْكُمْ﴾ أمرٌ بتبشيرهم بالسلام عن كل مكروهٍ بعد إنذارِ مُقابليهم وقيل بتبليغ سلامِه تعالى إليهم وقيل بأن يبدأَهم بالسلام وقوله تعالى ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة﴾ أي قضاها وأوجبَها على ذاته المقدسةِ بطريق التفضّل والإحسانِ بالذات لا بتوسُّط شيءٍ ما أصلا تبشير لهم بسَعَة رحمتِه تعالى وبنيل المطالبِ إثرَ تبشيرِهم بالسلامة عن المكاره وقبولِه التوبة منهم وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافةِ إلى ضميرِهم إظهارُ اللطفِ بهم والإشعارُ بعلّة الحُكْم وقيل إن قوماً جاءوا إلى النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم فقالوا إنا أصبْنا ذُنوباً عظاما فلم يرد على أنه تفسيرٌ للرحمة بطريق الاستئناف وقوله تعالى ﴿بِجَهَالَةٍ﴾ حال من فاعل عمل أي عمله وهو جاهلٌ بحقيقة ما يتبعه من المضارِّ والتقييدُ بذلك للإيذان بأن المؤمنَ لا يباشر ما يعلمُ أنه
140
الأنعام آية ٥٥ ٥٧
يؤدي إلى الضرر أو عمله ملتبسا بجهالة ﴿ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ﴾ أي من بعد مله أو من بعد سَفَهِه ﴿وَأَصْلَحَ﴾ أي ما أفسده تدارُكاً وعزْماً على أن لا يعودَ إليه أبداً ﴿فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي فأمرُه أنه غفور رحيم أو فله أنه غفور رحيم وقُرىء فإنَّه بالكسرِ على أنه استئنافٌ وقع في صدر الجملة الواقعةِ خبراً لمن على أنَّها موصولةٌ أو جوابا لها على أنها شرطية
141
﴿وَكَذَلِكَ نفَصّلُ الايات﴾ قد مر آنفاً ما فيه من الكلام أي هذا التفصيلِ البديعِ نُفَصّلُ الآيات في صفة أهل الطاعةِ وأهل الإجرام المُصرِّين منهم والأوابين ﴿وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المجرمين﴾ بتأنيث الفعلِ بناءً على تأنيث الفاعل وقرىء بالتذكير بناءً على تذكيره فإن السبيلَ ممَّا يُذكِّرُ ويُؤنَّثُ وهو عطفٌ على علة محذوفةٍ للفعل المذكورِ لم يُقصَدْ تعليلُه بها بعينها وإنما قُصد الإشعارُ بأن له فوائدَ جمّةً مِنْ جُمْلتها ما ذُكر أو علةٌ لفعل مقدرٍ هو عبارة عن المذكور فيكون مستأنَفاً أي ولتستبين سبيلَهم نفعلُ ما نفعل من التفصيل وقرىء بنصب السبيلَ على أن العف متعدَ وتاؤُه للخطاب أي ولتستوضح أنت يا محمد سبيلَ المجرمين فتعامِلَهم بما يليق بهم
﴿قُلْ إِنّى نُهِيتُ﴾ أُمر ﷺ بالرجوع إلى مخاطبة المُصِرّين على الشرك إثرَ ما أُمر بمعاملة مَنْ عداهُم من أهلِ الإنذار والتبشيرِ بما يليق بحالهم أي قل لهم قطعاً لأطماعهم الفارغة عن ركونه ﷺ إليهم وبياناً لكون ما هم عليه من الدين هوىً محضاً وضلالاً بحتاً إني صُرفتُ وزُجِرْت بما نُصب لي من الأدلة وأُنزل علي من الآيات في أمر التوحيد ﴿أَنْ أَعْبُدَ الذين تَدْعُونَ﴾ أي عن عبادة ما تعبدونه ﴿مِن دُونِ الله﴾ كائناً ما كان ﴿قُلْ﴾ كَرر الأمرَ مع قرب العهد اعتناء بشأن المأمور به أو غيذانا باختلاف المَقولَيْن من حيث إن الأولَ حكايةٌ لِما منْ جهتِه تعالَى منْ النهي والثاني حكايةٌ لما من جهته ﷺ من الانتهاء عما ذُكر من عبادة ما يعبدونه وإنما قيل ﴿لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ﴾ استجهالاً لهم وتنصيصاً على أنهم فيما هم فيه تابعون لأهواءَ باطلةٍ وليسوا على شيء مما ينطلق عليه الدين أصلاً وإشعاراً بما يوجب النهيَ والانتهاءَ وقوله تعالى ﴿قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً﴾ استئنافٌ مؤكِّد لانتهائه عما نهي عنه مقرِّر لكونهم في غاية الضلال والغَواية أي إن اتبعتُ أهواءكم فقد ضللت وقولُه تعالَى ﴿وَمَا أَنَاْ مِنَ المهتدين﴾ عطفٌ على ما قبله والعدولُ إلى الجُملةِ الاسميَّةِ للدلالة على الدوام والاستمرار رأي دوامِ النفْي واستمرارِه لا نفْيِ الدوام والاستمرار كما مرَّ مراراً أي ما أنا في شيء من الهدى حين أكون في عِدادهم وقوله تعالى
﴿قُلْ إِنّى على بَيّنَةٍ﴾ تحقيقٌ للحق الذي عليه رسول الله ﷺ وبيان لاتباعه غياه إثر إبطال الباطل الذي عليهالكفرة وبيان عدم
141
٢ -
الأنعام آية ٥٨
اتباعه والبينةُ الحجةُ الواضحةُ التي تفصِلُ بين الحق والباطل والمرادُ بها القرآنُ والوحْيُ وقيل هو الحججُ العقلية أو ما يعمُّها ولا يساعدُه المقامُ والتنوينُ للتفخيم وقولُه تعالى ﴿مّن رَّبّى﴾ متعلقٌ بمحذوفٍ هو صفةٌ لبينة مؤكدة لما أفادَه التنوينُ من الفخامةِ الذاتيةِ بالفخامةِ الإضافيةِ وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره ﷺ من التشريفِ ورفعِ المنزلة ما لا يخفى وقوله تعالى ﴿وَكَذَّبْتُم بِهِ﴾ إما جملةٌ مستأنفة أو حاليةٌ بتقدير قد أو بدونه جىء بها الاستقباح مضمونها واستيعاد وقوعِه مع تحقق ما يقتضي عدمَه من غاية وضوحِ البينة والضميرُ المجرورُ اللبينة والتذكير باعتبار المعنى لمراد والمعنى إني على بينةٍ عظيمة كائنةٍ من ربي وكذبتم بها وبما فيها من الأخبار التي من جملتها الوعيدُ بمجيء العذاب وقولُه تعالى ﴿مَا عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ﴾ استئنافٌ مبينٌ لخطئهم في شأن ما جعلوه منشأً لتكذيبهم بها وهو عدمُ مجيءِ ما وَعد فيها من العذابِ الذي كانُوا يستعجلونه بقولهم متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صادقين بطريق الاستهزاءِ أو بطريق الإلزامِ على زعمهم أي ليس ما تستعجلونه من العذاب الموعودِ في القرآنِ وتجعلون تأخُّرَه ذريعةً إلى تكذيبه في حُكمي وقدرتي حتى أَجيءَ به وأُظهرَ لكم صِدْقَه أو ليس أمرُه بمُفوَّضٍ إلي ﴿إِنِ الحكم﴾ أي ما الحكمُ في ذلك تعجيلاً وتأخيراً أو ما الحكمُ في جميع الأشياء فيدخُل فيه ما ذُكر دخولاً أولياً ﴿إِلاَ لِلَّهِ﴾ وحده من غير أن يكون لغيره دخْلٌ ما فيه بوجه من الوجوه وقولُه تعالى ﴿يَقُصُّ الحق﴾ أي يتبعه بيان لشئونه تعالى في حكم المعهودِ أو في جميع أحكامِه المنتظمةِ له انتظاماً أولياً أي لا يَحكُم إلا بما هو حقٌّ فيُثبتُ حقيقة التأخير وقرىء يقضي فانتصابُ الحقَّ حينئذٍ على المصدية أي يقضي القضاءَ الحقَّ أو على المفعولية أي يصنعُ الحقَّ ويدبرُه من قولهم قضى الدِّرعَ إذا صنعها وأصلُ القضاءِ الفصلُ بتمام الأمرِ وأصلُ الحُكمِ المنعُ فكأنه يمنعُ الباطل عن معارَضةِ الحقِّ أو الخصمِ عن التعدِّي على صاحبه ﴿وَهُوَ خَيْرُ الفاصلين﴾ اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله مشيرٌ إلى أن قص الحق ههنا بطريق خاصَ هو الفصلُ بين الحقِّ والباطلِ هذا هُو الذي تستدعيهِ جزالة التنزيلِ وقد قيل إن المعنى إني من معرفة ربي وأنه لا معبود سواه على حجةٍ واضحةٍ وشاهدِ صدقٍ وكذبتم به أنتم حيث أشركتم به تعالى غيرَه وأنت خبيرٌ بأن مساق النظم الكرين فيما سبقَ وما لحقَ على وصفهم بتكذيب آياتِ الله تعالى بسبب عدمِ مجيءِ العذاب الموعودِ فيها فتكذيبُهم به سبحانه في أمر التوحيد مما لا تعلُّقَ له بالمقامِ أصلاً
142
﴿قُل لَّوْ أَنَّ عِندِى﴾ أي في قدرتي ومِكْنتي ﴿مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ﴾ من العذابَ الذي وردَ به الوعيد بأن يكون أمرُه مفوّضاً إلي من جهته تعالى ﴿لَقُضِىَ الامر بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ﴾ أي بأن ينزِلَ ذلك عليكم إثرَ استعجالِكم بقولكم متى هذا الوعد ونظائرِه وفي بناء الفعل للمفعول من الإيذان بتعيُّن الفاعِلِ الذي هو الله تعالى وتهويلِ الأمر ومراعاةِ حسنِ الأدب ما لا يخفى فما قيل في تفسيره لأهلكتُكم عاجلاً غضباً لربي ولتخلصْتُ منكم سريعاً بمعزلٍ من تَوْفِيةِ المقام حقَّه وقولُه تعالى ﴿والله أَعْلَمُ بالظالمين﴾ اعتراضٌ مقرِّرٌ لِما أفادتْه الجملةُ الامتناعية من انتفاءِ كونِ أمرِ العذاب مفوضا إليه ﷺ المستتبِع لانتفاء قضاءِ الأمر وتعليل له والمعنى
142
الأنعام ٥٩ ٦٠
والله تعالى أعلم بحال الظالمين وبأنهم مستحقون للإمهال بطريق الاستدراج لتشديد العذاب ولذلك لم يفوِّضِ الأمرَ إليّ فلم يقضِ الأمرَ بتعجيل العذاب والله أعلم
143
﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب﴾ بيانٌ لاختصاص المقدوراتِ الغيبية به تعالى من حيثُ العلم غثر بيانِ اختصاصِ كلِّها به تعالى من حيثُ القدرةُ والمفاتحُ إما جمعُ مفتَح بفتح الميم وهو المخزَن فهو مستعارٌ لمكان الغيب كأنها مخازِنُ خُزِنت فيها الأمورُ الغيبيةُ يُغلق عليها ويُفْتَح وإما جمعُ مفتِح بكسرها وهو المفتاح ويُؤيده قراءةُ مَنْ قرأَ مفاتيحُ الغيب فهو مستعارٌ لما يُتوصَّلُ به إلى تلك الأمورِ بناءً على الاستعارة الأولى أي عنده تعالى خاصةُ خزائنِ غُيوبِه أو ما يُتوصّل به إليها وقولُه عز وجل ﴿لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ﴾ تأكيدٌ لمضمونِ ما قبله وإيذانٌ بأن المرادَ هو الاختصاصُ من حيث العلمُ لا من حيث القدرةُ والمعنى أن ما تستعجلونه من العذاب ليس مقدوراً لي حتى أُلزِمَكم بتعجيله ولا معلوماً لديّ لأُخبرَكم وقتَ نزولِه بل هو مما يَختصُّ به تعالى قدرة وعلما فينزله حسبما تقتضيه مشيئتُه المبنيةُ على الحِكَم والمصالح وقولُه تعالى ﴿وَيَعْلَمُ مَا فِى البر والبحر﴾ بيان لتعلّق علمِه تعالى بالمشاهَدات إثرَ بيان تعلُّقِه بالمغيَّباتِ تكملةً له وتنبيهاً على أن الكلَّ بالنسبة إلى علمِه المحيطِ سواءٌ في الجَلاءِ أي يعلمُ مَا فِيهمَا مِنَ الموجودات مُفصّلةً على اختلاف أجناسِها وأنواعِها وتكثُّرِ أفرادِها وقولُه تعالى ﴿وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا﴾ بيانٌ لتعلُّقه بأحوالها المتغيَّرةِ بعد بيانِ تعلقِه بذواتها فإن تخصيصَ حالِ السقوطِ بالذكر ليس إلا بطريق الاكتفاءِ بذكرها عن ذكر سائر الأحوال كما أن ذكرَ حالِ الورقةِ وما عُطفَ عليها خاصةً دون أحوالِ سائرِ ما فيهما من فنونِ الموجودات الفائتة للحصر باعتبارِ أنها أُنموذَجٌ لأحوال سائرِها وقولُه تعالى ﴿وَلاَ حَبَّةٍ﴾ عطفٌ على ورقةٍ وقولُه تعالى ﴿فِى ظلمات الارض﴾ متعلقٌ بمحذوفٍ هو صفةٌ لحبة مفيدة لكما نفوذِ علمِه تعالى أي ولا حبةٍ كائنةٍ في بطونِ الأرض إلا يعلمها وكذا قوله تعالة ﴿وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ﴾ معطوفان عليها داخلان في حُكمها وقولُه تعالى ﴿إِلاَّ فِى كتاب مُّبِينٍ﴾ بدلٌ من الاستثناءِ الأول بدلَ الكلِّ على أن الكتابَ المُبِينَ عبارةٌ عن علمه تعالى أو بدلَ الاشتمالِ على أنه عبارةٌ عن اللوحِ المحفوظ وقرىء الأخيران بالرَّفعِ عطفاً عَلى محلِّ من ورقة وقيل رفعُهما بالابتداء والخبرُ إِلاَّ فِى كتاب مُّبِينٍ وهو الأنسبُ بالمقام لشمول الرطبِ واليابس حينئذ لِما ليس من شأنه السقوطُ وقد نُقل قراءةُ الرفعِ في ولا حبةٌ أيضاً
﴿وهو الذي يتوفاكم بالليل﴾ أي يُنيمُكم فيه على استعارة التوفِّي من الإماتة للإنامة لما بين الموتِ والنومِ من المشاركة في زوال الإحساس والتمييز وأصله قبضُ الشيء بتمامه ﴿وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار﴾ أي ما كسبتم
143
الأنعام آية ٦١
فيه المراد بالليل والنهار الجنسُ المتحقِّق في كل فردٍ من أفرادهما بالتوفي والبعث الوجدين فيها يتحققُ قضاءُ الأجلِ المسمَّى المترتبِ عليها لا في بعضِها والمرادُ بعلمه تعالى ذلك علمُه قبل الجَرْحِ كما يلوحُ به تقديمُ ذكره على البعث أي يعلم ما تجرَحون بالنهار وصيغة الماضي الجلالة على التحقّق وتخصيصُ التوفي بالليل والجَرْحِ بالنهار مع تحقّق كلَ منهما فيما خُصَّ بالآخر للجَرْي على سَنن العادة ﴿ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ﴾ أي يوقظكم في النهار عطفٌ على يتوفاكم وتوسيطُ قوله تعالى وَيَعْلَمَ الخ بينهما لبيان ما في بعثهم من عظيمِ الإحسانِ إليهم بالتنبيه على أن ما يكتسبونه من السيئات مع كونها موجبةً لإبقائهم على التوفّي بل لإهلاكهم بالمرة يُفيض عليهم الحياة ويُمهلُهم كما ينبىء عنه كلمةُ التراخي كأنه قيل هو الذي يتوفاكم في جنس الليالي ثم يبعثكم في جنس النهر مع علمه بما ستجرَحون فيها ﴿ليقضى أَجَلٌ مّسَمًّى﴾ معين لكل فرد بحيث لايكاد يتخطى أحدٌ ما عُيِّن له طرفةَ عينٍ ﴿ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ﴾ أي رجوعُكم بالموت لا إلى غيره أصلاً ﴿ثُمَّ يُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ بالمجازاة بأعمالكم التي كنتم تعملونها في تلكَ الليالِي والأيامِ وقيل الخطابُ مخصوصٌ بالكفرة والمعنى أنكم مُلقَوْن كالجيف بالليل كاسبون للآثام بالنهار وأنه تعالى مطّلعٌ على أعمالكم يبعثكم الله من القبور في شأن ما قطعتم به أعمارَكم من النوم بالليل وكسْبِ الآثامِ بالنهار ليقضى الأجلُ الذي سماه وضَرَبه لبعث الموتى وجزائِهم على أعمالهم وفيه ما لا يَخفْى من التكلف والإخلالِ لإفضائه إلى كون البعث معلَّلاً بقضاء الأجلِ المضروب له
144
﴿وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ﴾ أي هو المتصرِّفُ في أمورهم لاغيره يفعل بهم ما ييشاء إيجاداً وإعداماً وإحياءً وإماتة وتعذيباً وإثابةً إلى غير ذلك ﴿وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم﴾ خاصة أيها المكلفون ﴿حَفَظَةً﴾ من الملائكة وهم الكرام الكاتبون وعليكم متعلقٌ بيُرسل لما فيه من معنى الاستيلاء وتقديمُه على المفعولِ الصريحِ لما مر مرارا من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر وقيل متعلقٌ بمحذوفٍ هو حال من حفظة إذ لو تأخر لكان صفة أي كائنين عليكم وقيل متعلق بحفظةً والمحفوظُ محذوفٌ على كل حال أي يرسل عليكم ملائكةً يحفظون أعمالَكم كائنةً ما كانت وفي ذلك حكمةٌ جميلةٌ ونعمةٌ جليلة لما أن المكلفَ إذا عَلم أن أعماله تحفظ وتعرض على رءوس الأشهادِ كان ذلك أزجرَ له عن تعاطي المعاصي والقبائحِ وأن العبد إذا وثِقَ بلُطف سيّدِه واعتمد على عفوه وسَترِه لم يحتشمه احتشامه من خدمه الواقفين على أحواله وحتى في قولِه تعالى ﴿حتى إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الموت﴾ هي التي يُبتدأ بها الكلام وهي مع ذلك تَجعلُ ما بعدها من الجملة الشرطية غايةً لما قبلها كأنه قيل ويُرسلُ عليكم حفظة يحفَظون أعمالَكم مدةَ حياتكم حتى إذا انتهت مدة أحدم كائناً مَنْ كان وجاءه أسبابُ الموت ومباديه ﴿تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا﴾ الآخرون المفوَّضُ إليهم ذلك وهم ملكُ الموتِ وأعوانُه وانتهى هناك حِفظُ الحفظة وقرىء توفاه ماضياً أو مضارعاً بطرح إحدى التامين ﴿وَهُمْ﴾ أي الرسل ﴿لاَ يُفَرّطُونَ﴾ أي بالتواني والتأخير وقرىء مخففاً من الإفراط أي
144
الأنعام آية ٦٢ ٦٤
لا يجاوزون ما حدا بهم بزيادة أو نقصان والجملة حال من رسلنا وقيل مستأنَفةٌ سيقت لبيان اعتنائِهم بما أُمروا به وقوله تعالى
145
﴿ثُمَّ رُدُّواْ﴾ عطفٌ على توفته والضمير للكلِّ المدلول عليه بأحدكم وهو السرُّ في مجيئه بطريق الالتفات تغليباً والإفرادُ أولاً والجمعُ ى خرا لوقوع التوفِّي على الانفراد والردِّ على الاجتماع أي ثم ردوا بعد البعث بالحشر ﴿إِلَى الله﴾ ٦ أي إلى حُكمه وجزائه في موقف الحساب ﴿مولاهم﴾ أي مالكُهم الذي يلي أمورَهم على الإطلاق لا ناصرُهم كما في قوله تعالى وَأَنَّ الكافرين لاَ مولى لَهُمْ ﴿الحق﴾ الذي لا يقضي إلا بالعدل وقرى بالنصب على المدح ﴿أَلاَ لَهُ الحكم﴾ يومئذ صورةً ومعنى لا لأحد غيرِه بوجهٍ من الوجوه ﴿وَهُوَ أَسْرَعُ الحاسبين﴾ يحاسب جميعَ الخلائق في أسرعِ زمانٍ وأقصره لا يشغَله حسابٌ عن حسابٌ ولا شأنٌ عن شأنٍ وَفِي الحديثِ إِنَّ الله تعالى يحاسب الكلَّ في مقدار حلْبِ شاة
﴿قُلْ مَن يُنَجّيكُمْ مّن ظلمات البر والبحر﴾ أي قل تقريراً لهم بانحطاط شركائِهم عن رتبةِ الإلهية مَنْ ينجِّيكم من شدائدهما الهائلةِ التي تُبطل الحواسَّ وتدهش العقولَ ولذلك استُعير لها الظلماتُ المبطلةُ لحاسةِ البصَر يقال لليوم الشديد يومٌ مظلم ويومٌ ذو كواكبَ أو من الخسف في البر والغرقِ في البحر وقرىء ينْجيكم من الإنجاء والمعنى واحد وقوله تعالى ﴿تَدْعُونَهُ﴾ نصبٌ على الحالية من مفعول ينجِّيكم والضميرُ لمن أي مَن ينجّيكم منها حال كونكم داعين له أو من فاعلِه أي من ينجيكم منها حال كونه مدعواً من جهتكم وقوله تعالى ﴿تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾ إما حالٌ من فاعل تدعونه أو مصدرٌ مؤكِّد له أي تدعونه متضرعين جِهاراً ومُسِرِّين أو تدعونه دعاءَ إعلانٍ وإخفاء وقرىء خفية بكسر الخاس وقوله تعالى ﴿لئن أنجيتنا﴾ حال من الفاعل أيضاً على تقدير القولِ أي تدعونه قائلين لئن أنجيتنا ﴿مِنْ هذه﴾ الشدة والورطة االتي عبر عنها بالظلمات ﴿لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين﴾ أي الراسخين في الشكر المداومين عليه لأجل هذه النعمةِ أو جميع النعماءِ التي من جُمْلتِها هذهِ وقرىء لئن أنجانا مراعاة لقوله تعالى تَدْعُونَهُ
﴿قُلِ الله يُنَجّيكُمْ مّنْهَا وَمِن كُلّ كَرْبٍ﴾ أُمر ﷺ بتقرير الجواب مع كونه من وظائفهم للإيذان بأنه متعيِّنٌ عندهم ولبناءِ قولِه تعالى ﴿ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ﴾ عليه أي الله تعالى وحده ينجيكم مما تدعونه إلى كشفه من الشدائد المذكورةِ وغيرِها من الغموم والكُرَبِ ثم أنتم بعد ما تشاهدون هذه النعمَ الجليلةَ تشركون بعبادته تعالى غيرَه وقرىء يُنْجيكم بالتخفيف
145
الأنعام آية ٦٥ ٦٦
146
وقوله تعالى ﴿قُلْ هُوَ القادر على أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُم عَذَاباً﴾ استئنافٌ مَسوقٌ لبيان أنه تعالى هو القادرُ على إلقائهم في المهالك إثرَ بيانِ أنه هو المُنْجي لهم منها وفيه وعيدٌ ضمنيٌّ بالعذاب لإشراكهم المذكورِ على طريقة قوله عز وجل أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ البر إلى قوله تعالى أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أخرى الآية وعليكم متعلقٌ بيبعثَ وتقديمُه على مفعوله الصريح للاعتناء به والمسارعةِ إلى بيان كون المبعوثِ مما يضرُّهم ولتهويل أمْرِ المؤخرِ وقوله تعالى ﴿مّن فَوْقِكُمْ﴾ متعلقٌ به أيضاً أو بمحذوف وقع صفةٌ لعذاباً أي عذاباً كائناً من جهة الفوق كما فَعَل بمن فَعَل من قومِ لوطٍ وأصحابِ الفيلِ وأضرابِهم ﴿أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ أو من جهة السُفلِ كما فعل بفِرْعونَ وقارونَ وقيل مِنْ فوقكم أكابركم ورؤسائكم ومن تحت أرجلِكم سفلتُكم وعبيدُكم وكلمة أَوْ لمنعِ الخُلوّ دونَ الجمع فلا منْعَ لما كان من الجهتين معاً كما فُعل بقوم نوحٍ ﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً﴾ أي يخلطَكم فِرَقاً متحزّبين على أهواءَ شتّى كلُّ فرقةٍ مشايعةٌ لإمامٍ فينشَبُ بينكم القتالُ فتختلطوا في الملاحم كقول الحَماسي... وكتيبةٍ لبَّستُها بكتيبة حتى إذا التَبَسَتْ نفضْتُ لها يدي ﴿وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾ عطفٌ على يبعثَ وقرىء بنون العظمةِ على طريقة الالتفات لتهويل الأمرِ والمبالغةِ في التحذير والبعضُ الأولُ الكفارُ والآخَرُ المؤمنون ففيه وعدٌ ووعيد عن رسول الله ﷺ أنه قال عند قوله تعالى عَذَاباً مّن فَوْقِكُمْ أعوذ بوجهك وعند قوله تعالى أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أعوذ بوجهك وعند قوله تعالى أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ هذا أهونُ أو هذا ايسر وعنه ﷺ أنه قال سألتربي أن لا يبعثَ على أمتي عذاباً من فوقهم أو من تحت أرجلِهم فأعطاني ذلك وسألته أن لا يجعلَ بأسهم بينهم فمنعني ذلك ﴿انظر كَيْفَ نُصَرّفُ الايات﴾ من حال إلى حال ﴿لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ﴾ كي يفقَهوا ويقِفوا على جلية الأمر فيرجعوا عمَّا هُم عليهِ من المكابرة والعِناد
﴿وَكَذَّبَ بِهِ﴾ أي بالعذاب الموعود أو القرآنِ المجيد الناطقِ بمجيئه ﴿قَوْمِكَ﴾ أي المعاندون منهم ولعل إيرادَهم بهذا العنوانِ للإيذان بكمالِ سوءِ حالِهم فإن تكذيبَهم بذلك مع كونهم من قومه ﷺ مما يقضي بغاية عَتُوِّهم ومكابرتهم وتقديم الجار والمجرور على الفاعلِ لما مرَّ مراراً من إظهار الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخرة وقوله تعالى ﴿وَهُوَ الحق﴾ حالٌ منَ الضميرِ المجرورِ أي كذبوا به والحال أنه الواقعُ لا محالة أو إ هـ الكتابُ الصادقُ في كل ما نطقَ به وقيل هو استئنافٌ وأيا ما كان ففيه دلالة على عظيم جنايتِهم ونهاية قُبْحِها ﴿قُلْ﴾ لهم منبِّهاً على ما يئول إليه أمرُهم وعلى أنك قد أديتَ ما عليك من وظائف الرسالة ﴿لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ﴾ بحفيظٍ وُكِّلَ إلى أمركم لا منعكم من التكذيب وأُجبِرَكم على التصديق إنما أنا منذرٌ وقد خرجتُ عن العُهدة حيث أخبرتُكم بما سترَونه
146
الأنعام ى ية ٦٧ ٦٩
147
﴿لّكُلّ نَبَإٍ﴾ أي لكل شيءٍ يُنبَأُ به من الأنباء التي من جملتها عذابُكم أو لكلِّ خبرٍ من الأخبار التي من جملتها خبرُ مجيئِه ﴿مُّسْتَقِرٌّ﴾ أي وقتُ استقرارٍ ووقوعٍ البتة ووقت استقرارٍ بوقوعِ مدلولِه ﴿وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ أي حالَ نَبئِكم في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما معاً وسوف للتأكيد كما في قوله تعالى وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ
﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ في آياتنا﴾ أي بالتكذيب والاستهزاءِ بها والطعنِ فيها كما هو دأْبُ قريشٍ ودَيدَنُهم ﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ بترك مُجالستهم والقيامِ عنهم وقولُه تعالى ﴿حتى يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾ غايةٌ للإعراض أي استمِرَّ على الإعراضِ إلى أن يخوضوا في حديثٍ غيرِ ى ياتنا والتذكيرُ باعتبار كونها حديثاً فإن وصفَ الحديثِ بمغايرتها مشيرٌ إلى اعتبارها بعُنوان الحديثية وقيل باعتبار كونِها قرآناً ﴿وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشيطان﴾ بأن يشغَلَك فتنسى النهْيَ فتُجالِسَهم ابتداءً أو بقاءً وقرىء يُنَسِّينَّك من التَنْسِية ﴿فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذكرى﴾ أي بعد تذكُّرِ النهي ﴿مَعَ القوم الظالمين﴾ أي معهم فوضَعَ المُظهرَ موضعَ المُضمر نعياً عليهم أنهم بذلك الخوضِ ظالمون واضعون للتكذيب والاستهزاءِ موضِعَ التصديق والتعظيم راسخون في ذلك
﴿وَمَا عَلَى الذين يَتَّقُونَ﴾ روي عن ابن عباس رضيَ الله عنهما أنَّ المسلمين حين نُهوا عن مجالستهم عند خوضِهم في الآيات قالوا لئن كنا نقول كلما استهزءوا بالقرآن لم نستطِعْ أن نجلِسَ في المسجد الحرام ونطوفَ بالبيت فنزلت أي ما على الذين يتقون قبائحَ أعمالِ الخائضين وأحوالَهم ﴿مِنْ حِسَابِهِم﴾ أي مما يُحاسَبون عليه من الجرائر ﴿من شىء﴾ أي شيء ما على أنه في محلِ الرفعِ على أنه مبتدأ وما تميمية أو اسم لها وهي حجازية ومن مزيدة للاستغراق ومن حسابهم حال منه وعلى الذين يتقون في محلِ الرفعِ على أنه خبر للمبتدأ أو لما الحجازية على رأي مَن لا يُجيز إعمالَها في الخبر المقدَّم مطلقاً أو في محلِّ النصبِ على رأي من يجوِّز إعمالَها في الخبر المقدّم عند كونه ظرفاً أو حرفَ جر ﴿ولكن ذكرى﴾ استدراك من النفي السابق أي ولكن عليهم أن يذكِّروهم ويمنعوهم عمَّا هُم عليهِ من القبائح بما أمكن من العِظة والتذكير ويُظهروا لهم الكراهَةَ والنكيرَ ومحل ذكرى إما النصبُ على أنَّه مصدرٌ مؤكِّد للفعل المحذوف أي عليهم أن يذكّروهم تذكيراً أو الرفعُ عَلى أنَّه مبتدأٌ محذوفُ الخبرِ أيْ ولكن عليهم ذكرى ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ أي يجتنبون الخوضَ حياءً أو كراهةً لمسَاءتهم وقد جُوِّز كونُ الضمير للموصول أي يذكّروهم رجاءَ أن يثبُتوا على تقواهم أو يزدادوها
147
الأنعام آية ٧٠
148
﴿وَذَرِ الَّذِينَ اتخذوا دِينَهُمْ﴾ الذين كُلِّفوه وأُمروا بإقامة مواجبِه ﴿لَعِباً وَلَهْواً﴾ حيث سخِروا به واستهزءوا أو بنَوْا أمرَ دينهم على ما لا يكاد يتعاطاه العاقلُ بطريق الجِدّ وإنما يصدُر عنه لو صدَر بطريق اللعِبِ واللهوِ كعبادة الأصنام وتحريمِ البحائرِ والسوائبِ ونحوِ ذلك والمعنى أعرضْ عنهم ولا تُبالِ بأفعالهم وأقوالهم وقيل هو تهديدٌ لهم كقوله تعالى ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ الآية ﴿وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا﴾ واطمأنوا بها حتى زعموا أنْ لا حياةَ بعدها أبداً ﴿وَذَكّرْ بِهِ﴾ أي بالقرآنِ من يصلُح للتذكير ﴿أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ﴾ أي لئلا تُبْسَلَ كقوله تعالى أَن تَضِلُّواْ الآية أو مخافةَ أن تُبسَل أو كراهةَ أن تبسل نفوسٌ كثيرة كما في قوله تعالى عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ وتُرتَهنَ لسوء عملِها وأصلُ الإبسالِ والبَسْل المنعُ ومنه أسد باسلٌ لأن فريستَه لا تُفلت منه أو لأنه ممتنَعٌ والباسل الشجاع لامتناعه من قِرْنه وهذا بَسْلٌ عليك أي حرام ممنواع وقد جوز أن يكون الضمير المجرور في به راجعها إلى الإبسال مع عدم جرَيانِ ذكرِه كما في ضمير الشأن وتكون الجملةُ بدلاً منه مفسِّراً له في الإبهام أولاً والتفسيرِ ثانياً من التفخيم وزيادةِ التَّقريرِ كما في قولِه... على جودِه لَضَنَّ بالماء حانم بجر حانم على أنه بدل من ضمير جوده فالمعنى وذكر بارتهان النفوس وحبسها بما كسبت وقوله تعالى ﴿لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ الله وَلِىٌّ وَلاَ شَفِيعٌ﴾ استئنافٌ مَسوقٌ للإخبار بذلك وقيل في محل النصب على أنه حالٌ من ضمير كسبت وقيل في محلِ الرفعِ عَلى أنَّه وصفٌ لنفسٌ والأظهرُ أنَّه حالٌ من ف = نفسٌ فإنه في قوة نفسٌ كافرةٌ أو نفوسٌ كثيرة كما في قوله تعالى عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ ومن دون الله متعلقٌ بمحذوف هو حال من وليٌّ كما بُيّن في تفسيرِ قولِه تعالى وَأَنذِرْ بِهِ الآية وقيل هو خبرٌ لليس فيكون لها حينئذٍ متعلقاً بمحذوفٍ على البيان ﴿وَإِن تَعْدِلْ﴾ أي إن تَفْدِ تلك النفسُ ﴿كُلَّ عَدْلٍ﴾ أي كلَّ فِداءٍ على أنَّه مصدرٌ مُؤكدٌ ﴿لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا﴾ على إسنادِ الفعلِ إلى الجار والمجرور لا إلى ضمير العدل كما في قوله تعالى وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ فإنه المَفْدِيُّ به لا المصدرُ كما نحن فيه ﴿أولئك﴾ إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيزِ الصلةِ وما فيهِ من معنى البعد للإيذان ببعدِ درجتِهم في سُوءِ الحال ومحلُه الرفعُ على الابتداء والخبر في قوله تعالى ﴿الذين أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ﴾ والجملةُ مستأنفةٌ سيقت إثرَ تحذيرِهم من الإبسال المذكور لبيان أنهم المبتَلَوْن بذلك أي أولئك المتخِذون دينَهم لعباً ولهواً المغترون بالحياة الدنيا هم الذين أُبسِلوا بما كسبوا وقولُه تعالى ﴿لَهُمْ شَرَابٌ مّنْ حَمِيمٍ﴾ استئناف آخَرُ مُبينٌ لكيفية الإبسال المذكور وعاقبتِه مبنيٌّ على سوء نشأَ من الكلامِ كأنَّه قيل ماذا لهم حين أُبسلوا بما كسبوا فقيل لهم شرابٌ من ماءٍ مغليَ يتجَرْجَرُ في بطونهم وتتقطَّعُ به أمعاؤهم ﴿وَعَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ بنار تشتعل بأبدانهم ﴿بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ﴾ أي بسبب كفرهم المستمر في الدنيا وقد جُوِّز أن يكون لهم شراب الخ حالاً من ضمير أبسلوا وترتيب
148
الأنعام آية ٧١
ما ذُكر من العذابَيْن على كفرهم مع أنهم معذبون بسائر معاصيهم أيضاً حسبما ينطِق به قوله تعالى بِمَا كَسَبُواْ لأنه العُمدةُ في إيجاب العذاب والأهمُ في باب التحذير أو أريد بكفرهم ما هو أعمُّ منه ومن مستتْبِعاته من المعاصي والسيئات هذا وقد جوِّز أنْ يكون أولئك إشارةً إلى النفوس المدلولِ عليها بنفسٌ محلُه الرفعُ بالابتداء والموصولُ الثاني صفتُه أو بدلٌ منه ولهم شراب الخ خبرُه والجملة مَسوقةٌ لبيان تبعة الإبسال
149
﴿قل أندعو مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا﴾ قيلَ نزلتْ في أبي بكرٍ رضيَ الله عنْهُ حين دعاه ابنه عبدُ الرحمن إلى عبادة الأصنام فتوجيهُ الأمر إلى رسول الله ﷺ حينئذ للإيذان بما بينهما من الاتصال والاتحادِ تنويهاً لشأن الصديقَ رضي الله تعالى عنه أي أنعبد متجاوزين عبادةَ الله الجامعِ لجميعِ صفاتِ الألوهيةِ التي من جملتها القدرةُ على النفع والضر ما لا يقدر على نفعنا إذا عبدناه ولا على ضَرِّنا إذا تركناه وأدنى مراتبِ المعبوديةِ القُدرةُ على ذلك وقوله تعالى ﴿وَنُرَدُّ على أعقابنا﴾ عطفٌ على ندعوا إذا حل في حكم الإنكارِ والنفْي أي ونُرَدّ إلى الشرك والتعبير عنه بالرد غعلى الأعقاب لزيادة تقبيحِه بتصويره بصورةِ ما هو عَلَمٌ في القُبح مع ما فيه من الإشارة إلى كون الشركِ حالةً قد تُركت ونُبذتْ وراءَ الظهر وإيثارُ نرد على نرتد لتوجيه الإنكار إلى الارتداد بردِّ الغير تصريحاً بمخالفة المُضلِّين وقطعاً لأطماعهم الفارغةِ وإيذاناً بأن الارتدادَ من غير رادَ ليس في حيِّزِ الاحتمال ليُحتاجَ إلى نفيه وإنكاره وقولُه تعالى ﴿بَعْدَ إِذْ هدانا الله﴾ أي إلى الإسلام وأنقذنا من الشرك متعلقٌ بنرُدّ مَسوقٌ لتأكيد النكيرِ لا لتحقيق معنى الرد وتصويرِه فقط وإلا لكفى أن يقالَ بعد إذ اهتدينا كأنه قيل ونُرَدّ إلى الشرك بإضلال المضِلّ بعد إذ هدانا الله الذي لا هاديَ سواه وقوله تعالى ﴿كالذى استهوته الشياطين﴾ في محل النصب على أنه حالٌ من مرفوع نرد أي نُرد أي أنرد على أعقابنا مشبَّهين بالذي استهوته مَرَدةُ الجن واستغوته إلى المهامه أو المهالك أو على أنه نعتٌ لمصدر محذوف أي أنُرد رداً مثلَ ردِّ الذي استهوته الخ والاستهواءُ استفعال من هَوَى في الأرض إذا ذهَب فيها كأنها طلبت هُويَّه وحرصت عليه وقرىء استهواه بألف مما له وقوله تعالى ﴿فِي الأرض﴾ إما متعلق باستهوته أو بمحذوفٍ هو حالٌ من مفعوله أي كائناً في الأرضَ وكذا قوله تعالى ﴿حَيْرَانَ﴾ حال منه على أنها بدلٌ من الأولى أو حال الثنية عند من يجيزها أو من الذي أو من المستكنّ في الظرف أي تائهاً ضالاً عن الجادة لا يدري ما يصنع وقوله تعالى ﴿لَهُ أصحاب﴾ جملة في محل النصب على أنها صفةٌ لحيران أو حال من الضمير فيه أو مستأنفةٌ سيقت لبيان حالِه وقوله تعالى ﴿يَدْعُونَهُ إِلَى الهدى﴾ صفةٌ لأصحاب أي لذلك المستهوى رفقةٌ يهدونه إلى الطريق المستقيم تسميةٌ له بالمصدر مبالغةً كأنه نفس الهدى ﴿ائتنا﴾ على إرادةِ القولِ على أنه بدل ممن يدونه أو حالٌ من فاعلِه أي يقولون ائتنا وفيه إشارة
149
الأنعهام آية ٧٢ ٧٣
إلى أنهم مهتدون على الطريق المستقيم وأن من يدعونه ليس ممن يعرف الطريق المستقيم ليدعى إلى إتيانه وإنما يُدرك سمتَ الداعي ومورِدَ النعيق فقط ﴿قُلْ إِنَّ هُدَى الله﴾ الذي هدانا إليه وهخو الإسلام ﴿هُوَ الهدى﴾ وحدَه وما عداه ضلال محضٌ وغيٌّ بحتٌ كقوله تعالى فَمَاذَا بَعْدَ الحقِّ إِلاَّ الضلال ونحوِه وتكريرُ الأمر للاعتناء بشأن المأمورِ به ولأن ما سبق للزجْرِ عن الشرك وهذا حثٌّ على الإسلام وهو توطِئةٌ لما بعده فإن اختصاصَ الهُدى بهُداه تعالى مما يوجبُ الامتثالَ بالأوامر الواردةِ بعده ﴿وَأُمِرْنَا﴾ عطفٌ على إن هُدى الله هو الهدى داخلٌ تحت القول واللام في ﴿لِنُسْلِمَ لِرَبّ العالمين﴾ لتعليل الأمر المَحْكيِّ وتعيينِ ما أريد به كمن الأوامر الثلاثة كما في قوله تعالى قُل لّعِبَادِىَ الذين آمنوا يُقِيمُواْ الصلاة وَيُنْفِقُواْ الآية كأنه قيل أمرنا وقيل لنا اسلموا لأجل أنم نسلَمَ وقيل هي بمعنى الباء أي أمرنا بأن نُسلم وقيل زائدة أي أُمرنا أن نُسلم على حذف الباء وقوله تعالى
150
﴿وَأَنْ أَقِيمُواْ الصلاة واتقوه﴾ أي الله تعالى في مخالفةِ أمرهِ عطفٌ على نُسلم على الوجوه الثلاثة على أنّ أنْ المصدريةَ إذا وصلت بالأمر بتجرد هو عن معنى الأمر نحوُ تجردِ الصلةِ الفعليةِ عن معنى المضي والاستقبال فالمعنى على الأول أمرنا أي قيل لنا أسلموا وأقيموا الصلاة واتقوا الله لأجل أن نُسلمَ ونُقيمَ الصلاة ونتّقِيَه تعالى وعلى الأخيرين أمرنا بأن نسلمَ ونقيم الصلاة ونتقيه تعالى والتعرضُ لوصف ربوبيته تعالى للعالمين لتعليل الأمرِ وتأكيدِ وجوبِ الامتثالِ به كما أن قوله تعالى
﴿وَهُوَ الذى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ جملةٌ مستأنفةٌ موجِبةٌ للامتثال بما أُمر به من الأمور الثلاثة ﴿وَهُوَ الذى خلق السماوات والارض﴾ أُريد بخلقهما خلقُ ما فيهما أيضاً وعدمُ التصريح بذلك لظهور اشتمالهما على جميع العُلويات والسُفليات وقوله تعالى ﴿بالحق﴾ متعلقٌ بمحذوفٍ هو حالٌ من فاعلِ خلقَ أوْ منْ مفعولِه أو صفةٌ لمصدرِه المؤكِّد له أي قائماً بالحق أو متلبسه بالحق أو خلقا متلبساً به وقوله تعالى ﴿وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الحق﴾ استئنافٌ لبيانِ أنّ خلقَه تعالى لِما ذُكر من السمواتِ والأرضِ ليس مما يَتوقَّفُ على مادّةٍ أو مُدّة بل يتَمّ بمحض الأمرِ التكوينيِّ من غير توقفٍ على شيءٍ آخَرَ أصلاً وأن ذلك الأمرَ المتعلِّقَ بكل فردٍ فردٌ من أفراد المخلوقات في حينٍ معينٍ من أفراد الأحيان حقٌّ في نفسه متضمنٌ للحكمة ويومَ ظرفٌ لمضمون جملةِ قولُه الحقُّ والواو بحسب المعنى داخلٌ عليها وتقديمُه عليها للاعتناءِ به من حيث إنه مدارُ الحقّيةِ وتركُ ذكرِ المقولِ له للثقةِ بغاية ظهوره والمرادُ باالقول كلمةُ كن تحقيقاً أو تمثيلاً كما هو المشهورُ فالمعنى وأمرُه المتعلقُ بكل شيءٍ يريد خلقَه من الأشياء في حينِ تعلّقِه به لا قبلَه ولا بعده من أفراد الأحيان الحقُّ أي المشهودُ له بالحقّية المعروفُ بها هذا وقد قيلَ قولُه مبتدأ والحق صفته ويوم يقول خبره مقدما عليه كقولك يومَ الجمعةِ القتالُ وانتصابه بمعنى الاستقرار وحاصلُ المعنى قولُه الحقُّ كائنٌ
150
الأنعام آية ٧٤ ٧٥
حينَ يقول لشيءٍ من الأشياء كنْ فيكونُ ذلك الشيءُ وقيل يوم منصوبٌ بالعطف على السمواتِ أو على الضمير في واتقوه أو بمحذوف دل عليه بالحق وقوله الحق مبتدأ وخبر أو فاعلُ يكون على معنى حين يقول لقوله الحق أي لقضائه الحقِّ كن فيكون والمرادُ حين يكوِّن الأشياءَ ويُحدِثُها أو حين تقومُ القيامةُ فيكونُ التكوينُ حشرَ الأجساد وإحياءَها فتأملْ حقَّ التأمل ﴿وَلَهُ الملك يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصور﴾ تقييدُ اختصاصِ المُلك بهِ تعالَى بذلك اليومِ مع عموم الاختصاصِ لجميع الأوقات لغاية ظهورِ ذلك بانقطاعِ العلائقِ المجازيةِ الكائنةِ في الدنيا المصحِّحة للمالكيةِ المجازية في الجملة كقوله تعالى لّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الواحد القهار ﴿عالم الغيب والشهادة﴾ أي هو عالمُهما ﴿وَهُوَ الحكيم﴾ في كلِّ ما يفعله ﴿الخبير﴾ بجميعِ الأمور الجليّة والخفيّة
151
﴿وَإِذْ قَالَ إبراهيم﴾ منصوبٌ على المفعوليةِ بمضمرِ خوطب به النبي عليه الصلاةَ والسلام معطوف على قل أندعو لا على أقيموا كما قيل لفساد المعنى أي واذكر لهم بعد ما أنكرتَ عليهم عبادةَ ما لا يقدِرُ على نفعٍ وضُرَ وحققتَ أن الهدى هو هدى الله وما يتبعه من شئونه تعالى وقتَ قولِ إبراهيمَ الذي يدّعون أنهم على ملته موبخا ﴿لأبيه آزر﴾ على عبادة الأصنام فإن ذلك مما يبكِّتُهم وينادي بفساد طريقتِهم وتوجيهُ الأمرِ بالذكر إلى الوقت دون ما وقع فيه من الحوادث مع أنها المقصودةُ لما مر مرارا من المبالغة في إيجاب ذكرِها وآزرُ بزنةِ آدم وعابَر وعازَر وفالَغ وكذلك تارَحُ ذكره محمد بن إسحق والضحاكُ والكلبيُّ وكان من قريةٍ من سَواد الكوفة ومُنعَ صَرْفُه للعُجمة والعَلَمية وقيل اسمُه بالسريانية تارَحُ وآزَرُ لقبُه المشهورُ وقيل اسمُ صنمٍ لُقِّب هو به للزومه عبادتَه فهو عطف بيان لأبيه وبدل منه وقال الضحاك معناه الشيخ الهرم وقال الزجاج المُخطىء وقال الفراءُ وسليمانُ التيمي المعوَجُّ فهو نعتٌ له كما إذا جُعل مشتقاً من الأزْرِ أو الوز وأريد به عابدُ آزرَ على حذفِ المضافِ وإقامةِ المضافِ إليه مُقامَه وقرىء آزرُ على النداء وهو دليلُ العَلَمية إذ لا يُحذف حرفُ النداء إلا من الأعلام ﴿أَتَتَّخِذُ﴾ متعدَ إلى مفعولين هما ﴿أَصْنَاماً آلِهَة﴾ أي أتجعلُها لنفسك آلهةً على توجيه الإنكارِ إلى اتخاذ الجنس من غير اعتبار الجمعية وإنما إيرادُ صيغةِ الجمع باعتبار الوقوعِ وقرىء أاَزْراً بفتح الهمزة وكسرها بعج همزة الاستفهام وزاءٍ ساكنةٍ وراءٍ منونةٍ منصوبةٍ وهو اسمُ صنم ومعناه أتعبدُ آزرا ثم قيل تتخذ أصناماً آلهة تثبيتاً لذلك وتقريراً وهو داخل تحت الإنكار لكونه بيانا له وقيل الأزرُ القوة والمعنى ألأجل القوة والمظاهَرَةِ تتخذ أصناماً آلهة إنكاراً لتعزُّزِه بها على طريقة قوله تعالى أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العزة ﴿إِنّى أَرَاكَ وَقَوْمَكَ﴾ الذين يتبعونك في عبادتها ﴿فِى ضلال﴾ عن الحق ﴿مُّبِينٌ﴾ أي بيِّنٌ كونُه ضلالاً لا اشتباهَ فيه أصلاً والرؤيةُ إما علميةٌ فالظرفُ مفعولُها الثاني وإما بصَرية فهو حال من المفعول والجملة تعليلٌ للإنكار والتوبيخ
﴿وَكَذَلِكَ نُرِى إبراهيم﴾ هذه الإرادة من الرؤية البصَريةِ المستعارةِ للمعرفة ونظرِ البصيرة أي عرفاناه
151
٢ -
الأنعام آية ٧٦
وبصَّرناه وصيغةُ الاستقبال حكايةٌ للحال الماضيةِ لاستحضار صورتِها وذلكَ إشارةٌ إلى مصدرِ نُري لا إلى إراءةٍ أخرى مفهومةٍ من قوله إني أراك وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو درجة المُشَارِ إليهِ وبُعدِ منزلتِه في الفضل وكمال تميزه بذلك وانتظامِه بسببه في سلك الأمور المشاهَدة والكافُ لتأكيد ما أفاده اسمُ الإشارةِ من الفخامة ومحلُها في الأصلِ النصبُ على أنَّه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ وأصل التقدير نُري إبراهيم إراءةً كائنة مثلَ تلك الإراءة فقُدّم على الفعلِ لإفادةِ القصِر واعتُبرت الكافُ مقحمةً للنكتة المذكورة فصار المشارُ إليه نفسَ المصدرِ المؤكدِ لا نعتاً له أي ذلك التبصيرَ البديعَ نبصِّره عليه السلام ﴿مَلَكُوتَ السماوات والارض﴾ أي ربوبيته تعالى ومالكيته لهما وسلطانَه القاهرَ عليهما وكونَهما بما فيهما مربوباً ومملوكاً له تعالى لا تبصيراً آخَرَ أدنى منه والملكوتُ مصدرٌ على زنة المبالغة كالرَهَبوت والجَبَروت ومعناه الملك العظيم والسلطان القاهرُ ثم هل هو مختصٌّ بمُلك الله عزَّ سلطانه أو لا فقد قيل وقيل والأول هو الأظهر وبه قال الراغب وقيل ملكوتهما وعجائبهما وبدائعهما روي أنه كُشف لع عليه السلام عن السموات والأرض حتى العرشُ وأسفلُ الأرضين وقبل ى ياتهما وقيل ملكوتُ السموات الشمسُ والقمرُ والنجومُ وملكوتُ الأرض الجبالُ والأشجار والبحارُ وهذه الأقوالُ لا تقتضي أن تكون الإراءَةُ بصَريةً إذ ليس المرادُ بإراءةِ ما ذُكر منَ الأمورِ الحسية مجردَ تمكينِه عليه السلام من إبصارها ومشاهدتها في أنفسها بل إطلاعه عليه السلام على حقائقها وتعريفَها من حيث دلالتها على شئونه عز وجل لا ريبَ في أن ذلك ليس مما يُدرَك حسا كما يُنبىء عنه اسمُ الإشارة المُفصِحُ عن كون المشار إليه أمراً بديعاً فإن الإراءة البصرية المعتادو بمعزلٍ من تلك المثابة وقرىء تُري بالتاء وإسنادُ الفعل إلى الملكوت أي تُبصِره عليه السلام دلائل الربوبية واللام في قوله تعالى ﴿وَلِيَكُونَ مِنَ الموقنين﴾ متعلقةٌ بمحذوفٍ مؤخر والجملةُ مقرِّر لما قبلها أي وليكون من زُمرة الرَّاسخين في الإيقان البالغين درجةَ عينِ اليقين من معرفة الله تعالى فعلنَا مَا فعلنَا منْ التبصير البديعِ المذكورِ لا لأمرٍ آخرَ فإن الوصولَ إلى تلك الغاية القاصيةِ كمالٌ مترتبٌ على ذلك التبصير لا ينه وليس القصرُ لبيان انحصار فائدتِه في ذلك كيف لا وإرشادُ الخلق وإلزامُ المشركين كما سيأتي من فوائده بلا مرْية بل لبيان أنه الأصلُ الأصيلُ والباقي من مستَتْبِعاته وقيل هي متعلقة بالفعل السابق والجملةُ معطوفةٌ على علةٍ أخرى محذوفةٍ ينسحبُ عليها الكلام أي يستدل بها وليكونَ الخ فينبغي أن يُرادَ بملكوتهما بدائعُهما وآياتُهما لأن الاستدلالَ من غاياتِ إراءَتِها لا من غايات إراءةِ نفسِ الربوبية وقوله تعالى
152
﴿فلما جن عليه الليل﴾ على الأول وهو الحق المبين عطفٌ على قال إبراهيم دجاخل تحت ما أُمر بذكره بالأمرِ بذكرِ وقتِه وما بينهما اعتراض مقررلما سبق وما لحِق فإن تعريفَه عليه السلام ربوبيتَه ومالكيتَه للسمواتِ والأرض وما فيهما وكونَ الكلِّ مقهوراً تحت ملكوتِه مفتقِراً إليه في الوجود وسائرِ ما يترتبُ عليه من الكمالات وكونَه من الراسخين في معرفة شئونه تعالى الواصلين إلى ذُروة عينِ اليقين مما يقضي بأن يَحكُم عليه السلام باستحالة إلهية ما سواه
152
الأنعام آية ٧٧ ٧٨
سبحانه من الأصنام والكواكب وعلى الثاني هو تفصيلٌ لما ذُكر من إراء ملكوتِ السموات والأرض وبيانٌ لكيفية استدلالِه عليه السلام ووصولِه إلى رتبة الإيقان ومعنى جبن عليه الليل ستره بظلامهوقوله تعالى ﴿رَأَى كَوْكَباً﴾ جوابُ لمّا فإن رؤيتَه إنما تتحقق بزوال نورِ الشمس عن الحسّ وهذا صريحٌ في أنه لم يكن في ابتداءِ الطلوع بل كان غَيبتُه عن الحس بطريق الاضمحلال بنور الشمس والتحقيقُ أنه كان قريباً من الغروب كما ستعرفه قيل كان ذلك الكوكبُ هو الزُّهُرَة وقيل هو المشتري وقوله تعالى ﴿قَالَ هذا ربي﴾ اسئناف مبني على سؤال نشأ من الشرطيةِ السابقةِ المتفرعة على بيان إراءتِه عليه السلام ملكوتَ السمواتِ والأرض فإن ذلك مما يحمِلُ السامعَ على استكشاف ماظهر منه عليه السَّلام من آثار تلك الإراءةِ وأحكامِها كأنه قيل فماذا صنعَ عليه السلام حين رأى الكوكب فقيل قال على سبيل الوضْع والفرضِ هذا ربي مجاراةً مع أبيه وقومِه الذين كانوا يعبُدون الأصنامَ والكواكب فإن المستدِلَّ على فساد قولٍ يحكيه على رأي خصمِه ثم يَكُرُّ عليه بالإبطال ولعل سلوكَ هذه الطريقة في بيان استحالةِ ربوبيةِ الكواكب دون بيانِ استحالةِ إلهية الأصنام لما أن هذا أخفى بُطلاناً واستحالةً من الأول فلو صدَعَ بالحق من أول الأمرِ كما فعله في حقّ عبادةِ الأصنام لتمادَوْا في المكابرة والعِناد ولجُّوا في طُغيانهم يعمهونوقيل قال عليه السلام على وجه النظر والاستدلال وكان ذلك في زمان مراهقتِه وأولِ أوانِ بلوغه وهو مبنيٌّ على تفسير الملكوتِ بآياتهما وعطف قوله تعالى لكون على ما ذكر من العلة المقدرة وجَعْلِ قوله تعالى فَلَمَّا جَنَّ الخ تفصيلاً لما ذُكر من الإراءة وبياناً لكيفية الاستدلال وأنت خبير بأن كلَّ ذلك مما يُخِلُّ بجزالة النظمِ الجليل وجلالةِ منصِبِ الخليل عليه الصلاة والسلام ﴿فَلَمَّا أَفَلَ﴾ أي غرٍب ﴿قَالَ لا أُحِبُّ الافلين﴾ أي الأرباب المنتقلين من مكان إلى مكان المتغير من حال إلى حال المحتجبين بالأستار فإنهم بمعزل من استحقاق الربوبية
153
﴿فَلَمَّا رَأَى القمر بَازِغاً﴾ أي مبتدئاً في الطلوعِ إثرَ غروبِ الكوكب ﴿قَالَ هذا رَبّى﴾ على الأسلوب السابق ﴿فَلَمَّا أَفَلَ﴾ كما أفل النجم ﴿قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِى رَبّى﴾ إلى جناابه الذي هو الحق لا محيدَ عنه ﴿لاَكُونَنَّ مِنَ القوم الضالين﴾ فإن شيئاً مما رأيته لا يليق بالربوبية وهذا مبالغةٌ منه عليه السلام في إظهار النَّصَفة ولعله عليه السلام كان إذ ذاك فيموضع كان في جانبه الغربيِّ جبلٌ شامخ يستتر به الكوكب والقمر وقت الظهر من النهار أو بعدجه بقليل وكان الكوكب قريباً منه وأُفقُه الشرقيُّ مكشوفٌ أولاً وإلا فطلوعُ القمر بعد أفولِ الكوكب ثم أفوله قل طلوع الشمس كما ينبىء عنه قوله تعالَى
﴿فَلَماَّ رَأَى الشمس بَازِغَةً﴾ أي مبتدئةً في الطلوع مما لا يكاد يُتصور ﴿قَالَ﴾ أي على النهج السابق
153
الأنعام آية ٧٩ ٨٠
﴿هذا رَبّى﴾ وإنما لم يؤنِّثْ لَمَا أنَّ المشارَ إليهِ والمحكومَ عليه بالربوبية هو الجِرمُ المشاهَدُ من حيث هو لا من حيث هو مسمّىً باسمٍ من الأسامي فضلاً عن حيثيةِ تسميتِه بالشمس أو لتذكير الخبر وصيانةِ الربِّ عن وَصْمة التأنيث وقوله تعالى ﴿هذا أَكْبَرُ﴾ تأكيدٌ لما رامه عليه السلام من إظهار النَّصَفة مع إشارةٍ خفيةٍ إلى فساد دينهم من جهة أخرى ببيان أن الأكبرَ أحقُّ بالربوبية من الأصغر ﴿فَلَمَّا أَفَلَتْ﴾ هي أيضاً كما أفل اكوكب والقمرُ ﴿قَالَ﴾ مخاطباً للكلِّ صادِعاً بالحق بين أظهُرِهم ﴿يا قوم إنى برىء مما تشركون﴾ أي من الذي تشركونه من الأجرام المُحْدَثةِ المتغيرةِ من حالة إلى أخرى المسخَّرة لمحدِثها أو من إشراككم وترتيبُ هذا الحكمِ ونظيرَيْه على الأفول دون البزوغِ والظهور من ضروريات سَوْق الاحتجاجِ على هذا المَساق الحكيم فإن كلاًّ منهما وإن كان في نفسه انتقالاً منافياً لاستحقاق معروضِه للربوبية قطعاً لكن لما كان الأولُ حالةً موجبةً لظهور الآثارِ والأحكامِ ملائمةً لتوهُّم الاستحقاقِ في الجملة رتب عليها الحمكم الأول على الطريقة الم ١ كورة وحيث كان الثاني حالة مقتضِيةً لانطماس الآثار وبطلان الأحكام المنافيين للاستحقاق المذكور منافاةً بيّنةً يكاد يعترف بها كلُّ مكابرٍ عنيدٍ رُتّب عليها ما رتب ثم تبرأ عليه السلام منهم توجَّه إلى مبدعِ هذي المصنوعات ومُنشئها فقال
154
﴿إِنّى وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فطر السماوات والأرض﴾ التي هي الأجرامُ التي تعبدونها من أجزائها ﴿والارض﴾ التي تغيب هي فيها ﴿حَنِيفاً﴾ أي مائلا عن الأديان الباطلة والعقائدِ الزائغة كلِّها ﴿وَمَا أَنَاْ مِنَ المشركين﴾ في شيء من الأفعال والأقوال
﴿وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ﴾ أي شرَعوا في مغالبته في أمر التوحيد ﴿قَالَ﴾ استئنافٌ وقع جوابا عن سؤالٍ نشأَ من حكايةِ مُحاجَّتهم كأنَّه قيلَ فماذَا قالَ عليه السلام حين حاجّوه فقيل قال منكرا لما اجترءوا عليه من مُحاجَّته مع قصورهم عن تلك الرُتبة وعِزّةِ المطلب وقوةِ الخصم ﴿أَتُحَاجُّونّى فِى الله﴾ بإدغام نون الجمع في نون الوقاية وقرىء بحذف الأولى وقوله تعالى ﴿وَقَدْ هَدَانِ﴾ حال من ضمير المتكلم مؤكِّدة للإنكار فإن كونه عليه السلام مَهدِياً من جهة الله تعالى ومؤيَّداً من عنده مما يوجب استحالةَ مُحاجَّتِه عليه السلام أي أتجادلونني في شأنه تعالى ووحدانيّتِه والحال أنه تعالى هداني إلى الحق بعد ما سلكت طريقتك بالفرض والتقدير وتبيَّن بُطلانُها تبيناً تاماً كما شاهدتموه وقوله تعالى ﴿وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ﴾ جوابٌ عما خوّفوه عليه السلام في أثناء المُحاجّة من إصابة مكروهٍ من جهة أصنامِهم كما قال لهودٍ عليه السلام قومُه إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعتراك بَعْضُ آلهتنا بِسُوء ولعلهم فعلوا ذلك حين فعل عليه السلامُ بآلهتهم ما فعل وما موصولةٌ اسميةٌ حُذف عائدُها وقوله تعالى ﴿إَّلا أَن يَشَاء رَبّى شَيْئاً﴾ استثناءٌ مفرغ من أعم الأوقات أي لا أخاف ما تشركونه به سبحانه من معبوداتكم في وقتٍ من الأوقاتِ إلا في وقتِ مشيئته
154
٤ - الأنعام آية ٨١
تعالى شيئاً من إصابة مكروه من جهتها وذلك إنما هو منْ جهتِه تعالَى منْ غير دَخْلٍ لآلهتكم فيه أصلاً وفي التعرُّض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام إظهارٌ منه لانقيادِه لحُكمه سبحانه وتعالى واستسلام لأمره واعتراف بكَوْنه تحتَ ملَكوتِه ورُبوبيتِه وقوله تعالى ﴿وَسِعَ رَبّى كُلَّ شَىْء عِلْماً﴾ كأنه تعليلٌ للاستثناء أي أَحَاطَ بِكُلّ شيءٍ عِلْمَا فلا يبعُد أنْ يكونَ في علمه تعالى أنْ يَحيقَ بي مكروهٌ مِنْ قِبَلها بسببٍ من الأسباب وفي الإظهار في موضع الإضمار تأكيدٌ للمعنى المذكور واستلذاذٌ بذكره تعالى ﴿أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ﴾ أي أتُعرضون عن التأمل في أن آلهتَكم جماداتٌ غيرُ قادرةٍ على شيء ما من نفه ولا ضر فلا تتذكرون أنها غيرُ قادرة على إضراري وفي إيراد التذكّرِ دون التفكر ونظائره غشارة إلى أن أمرَ أصنامِهم مركوزٌ في العقول لا يتوقف إلى على التذكر وقوله تعالى
155
﴿وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ﴾ استئنافٌ مَسوقٌ لنفي الخوفِ عنه عليه السلام بحسَب زعمِ الكفَرةِ بالطريق الإلزاميِّ كما سيأت بعد نفيه عنه بسبب الواقع ونفسِ الأمر والاستفهامُ لإنكار الوقوعِ ونفيِه بالكليةِ كما في قولِه تعالى كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عند الله الآية لإنكار الواقعِ واستبعادِه مع وقوعِه كما في قوله تعالى كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله إلخ في توجيه الإنكارِ إلى كيفية الخوفِ من المبالغة ما ليس في توجيهه إلى نفسه بأن يقالَ أأخافُ لِما أن كلَّ موجودٍ يجب أن يكون وجودُه على حال من الأحوال وكيفيةٍ من الكيفيات قطعاً فإذا انتفى جميعُ أحواله وكيفياتِه فقد انتفى وجودُه من جميع الجهات بالطريق البرهاني وقوله تعالى ﴿وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بالله﴾ حال من ضمير أخاف بتقدير مبتدأ والواوُ كافة في الربط منْ غيرِ حاجةٍ إلى الضميرالعائد إلى ذي الحال وهو مقرِّرٌ لإنكار الخوفِ ونفيِه عنه عليه السلام ومُفيدٌ لاعترافهم بذلك فإنهم حيث لم يخافوا في محلِّ الخوف فلأَنْ لا يَخافُ عليه السلام في محل الأمنِ أولى وأحرى أي وكيف أخافُ أنا ما ليس في حيز الخوفِ أصلاً وأنتم لا تخافون غائلةَ ما هو أعظم المخوفات وأهولُها وهو إشراكُكم بالله الذي ليسَ كمثلِه شيءٌ في الأرض ولا في السماء ما هو من جملة مخلوقاته وإنما عبّر عنه بقوله تعالى ﴿مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ﴾ أي بإشراكه ﴿عَلَيْكُمْ سلطانا﴾ على طريقة التهكّم مع الإيذان بأن الأمورَ الدينية لا يُعوَّل فيها إلا على الحُجة المنزلةِ من عند الله تعالى وفي تعليق الخوفِ الثاني بإشراكهم من المبالغة مراعاة حسنِ الأدب ما لا يخفى هذا وأمَّا مَا قيلَ مِنْ أنَّ قولَه تعالى وَلاَ تَخَافُونَ الخ معطوفٌ على أخاف داخل معه في حكم الإنكار والتعجيب فمما لا سبيلَ إليه أصلاً لإفضائه إلى فساد المعنى قطعاً كيف لا وقد عرفت أن الإنكارَ بمعنى النفي بالكلية فيؤول المعنى إلى نفي الخوف عنه عليه الصلاة والسلام ونفي نفيه عنهم وأنه بيِّنُ الفساد وحملُ الإنكارِ في الأول على معنى نفي الوقوعِ وفي الثاني على استبعاد الواقع مما لا مَساغَ له على أنَّ قولَه تعالى ﴿فَأَىُّ الفريقين أَحَقُّ بالامن﴾ ناطقٌ ببُطلانه حتماً فإنه كلام مرتَّبٌ على إنكار خوفِه عليه الصلاة
155
الأنعام آية ٨٢ ٨٣
والسلام في محل الأمن مع تحقق عدم خوفهم في محل الخوف مَسوقٌ لإلجائهم إلى الاعتراف باستحقاقه عليه الصلاة والسلام لما هو عليه من الأمن وبعدم استحقاقِهم لما هم عليه وإنما جيءَ بصيغة التفضيلِ المُشعِرَةِ باستحقاقهم له في الجملة لْاستنزالهم عن رُتبة المكابرةِ والاعتسافِ بسَوْق الكلام على سَنن الإنصاف والمرادُ بالفريقين الفريقُ الآمنُ في محل الأمن والفريقُ الآمنُ في محلِّ الخوف فإيثارُ مَا عليهِ النظمُ الكريمُ على أن يُقال فأيُّنا أحقُّ بالأمن أنا أم أنتم لتأكيد الإلجاءِ إلى الجواب الحقِّ بالتنبيه على علّة الحُكم والتفادي عن التصريح بتخطئتهم لا لمجردِ الاحترازِ عن تزكية النفس ﴿إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ المفعولُ إما محذوفٌ تعويلاً على ظهوره بمعونه المقام أي إن كنتم تعملون من أحقُّ بذلك أو قصداً إلى التعميم أي إنْ كنتُم تعلمون شيئاً وإما متروكٌ بالمرة أي إن كنتم مِنْ أوُلي العلم وجوابُ الشرطِ محذوفٌ أي فأخبروني
156
﴿الذين آمَنُواْ﴾ استئنافٌ من جهتِه تعالى للجواب الحقِّ الذي لا محيد عنه أي الفريقين الذين آمنوا ﴿وَلَمْ يَلْبِسُواْ إيمانهم﴾ ذلك أي لم يخلِطوه ﴿بِظُلْمٍ﴾ أي بشركٍ كما يفعله الفريق المشكون حيث يزعُمون أنهم يؤمنون بالله عز وجل وأن عبادتَهم للأصنام من تتماتِ إيمانهم وأحكامِه لكونها لأجْل التقريبِ والشفاعة كما قالوا مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى وهذا معنى الخلْطِ ﴿أولئك﴾ إشارةٌ إلى الموصول من حيثُ اتصافُه بما في حيز الصلة وفي الإشارة إليه بعدَ وصْفِه بما ذُكر إيذانٌ بأنهم تميَّزوا بذلك عن غيرهم وانتظموا في سلك الأمور المشاهدة وما فيه من معنى البُعد للإشعار بعلوّ درجتِهم وبُعد منزلتِهم في الشرف وهو مبتدأٌ ثانٍ وقولُه تعالى ﴿لَهُمُ الامن﴾ جملةٌ من خبرٍ مقدمٍ ومبتدأ مؤخَّرٍ وقعت خبراً لأولئك وهو مع خبره للمبتدأ الأول الذي هو الموصول ويجوز أن يكونَ أولئك بدلاً من الموصول أو عطفُ بيان له خبراً للموصول والأمنُ فاعلاً للظرف لاعتماده على المبتدأ ويجوزُ أن يكون لهم خبراً مقدماً والأمنُ مبتدأً والجملةُ خبراً للموصول ويجوز أن يكون أولئك مبتدأً ثانيا ولهم خبره والأمن فاعلاً له والجملة خبر للموصولِ أي أولئك الموصوفينَ بما ذُكر من الإيمان الخالصِ عو شَوْب الشرك لهم الأمنُ فقط ﴿وَهُمْ مُّهْتَدُونَ﴾ إلى الحق ومَنْ عداهم في ضلال مبين رُوي أنَّه لمَّا نزلتْ الآيةُ شقَّ ذلك على الصحابة رضوانُ الله علهم وقالوا أينا لم يظْلِمْ نفسه فقال عليه الصلاة والسلام ليس ما تظنون إنما هو قال لقمانُ لابنه يا بني لا تُشرِكْ بالله إِنَّ الشرْكَ لظُلم عَظِيمٌ وليس الإيمانُ به أن يُصَدِّقَ بوجود الصانعِ الحكيم ويخلِطَ بهذا التصديق الإشراكَ به وليس من قضية الخلطِ بقاءُ الأصلِ بعد الخلطِ حقيقةً وقيل المرادُ بالظلم المعصيةُ التي تُفسِّق صاحبَها والظاهرُ هو الأولُ لوروده موردَ الجواب عن حالة الفريقين
﴿وَتِلْكَ﴾ إشارةٌ إلى ما احتج به إبراهيمُ عليه السَّلامُ من قوله تعالى فَلَمَّا جَنَّ وقيل من قوله أتحاجونيإلى قوله مُّهْتَدُونَ وما في إسمِ الإشارةِ من معنى البُعد لتفخيم شأن المُشار إليه والإشعارِ بعلو طبقته وسمو منزلته
156
الأنعام آية ٨٤
في الفضل وهو مبتدأ وقوله تعالى ﴿حُجَّتُنَا﴾ خبرُه وفي إضافتها إلى نونِ العظمةِ من التفخيم ما لا يخفى وقوله تعالى ﴿آتَيْنَاهَا إبراهيم﴾ أي أرشدناه إليها وعلمناه إياها في محل النصب على أنه حال من حجتُنا والعاملُ فيها معنى الإشارةِ كما في قوله تعالى فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بماظلموا أو في محلِ الرفعِ على أنه خبرٌ ثانٍ أو هو الخبر وحدجبتنا بدل أو بيان المبتدأ وإبراهيم مفعولٌ أولٌ لآتينا قُدِّم عليه الثاني لكونه ضميراً وقوله تعالى ﴿على قَوْمِهِ﴾ متعلِّقٌ بحجتُنا إن جُعل خبراً لتلك أو بمحذوفٍ إن جُعل بدلاً أي آتينا إبراهيمَ حجةً على قومه وقيل بقوله آتينا ﴿نَرْفَعُ﴾ بنون العظمةِ وقرىء بالباء على طريق الالتفات وكذا الفعل الآتي ﴿درجات﴾ أي رتباً عظيمةً عالية من العلم والحكمة وانتصابُها على المصدرية أو الظرفية أو على نزع الخافض أي إلى درجات أو على التمييز والمفعولُ قوله تعالى ﴿من نشاء﴾ وتأخيرُه على الوجوه الثلاثةِ الأخيرةِ لما مرَّ من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخَّر ومفعولُ المشيئة محذوفٌ أي من نشاء رفعَه حسبما تقتضيه الحكمة وتستدعيه المصلحةُ وإيثارُ صيغةِ الاستقبالِ للدلالةِ عَلى أنَّ ذلكَ سُنةٌ مستمرَّة جاريةٌ فيما بين المُصطَفَيْنَ الأخيارِ غيرُ مختصةٍ بإبراهيمَ عليه السلام وقرىء بالإضافة إلى من والجملةُ مستأنَفة مقرِّرةٌ لما قبلها لا محلَّ لها من الإعراب وقيل هي في محل النصب على أنها حالٌ من فاعل آتينا أي حال كوننا رافعين الخ ﴿إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ﴾ في كلِّ ما فعل من رفْعٍ وخفضٍ ﴿عَلِيمٌ﴾ بحال من يرفعُه واستعدادِه له على مراتبَ متفاوتة والجملةُ تعليلٌ لما قبلها وفي وضع الرَّبِّ مُضافاً إلى ضميرِه عليهِ السَّلامُ موضِعَ نونِ العظمةِ بطريق الالتفاتِ في تضاعيف بيان أحوال غبراهيم عليه السلام إظهارٌ لمزيد لُطفٍ وعنايةٍ به عليه السلام
157
﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ﴾ عطف على قوله تعالى وَتِلْكَ حُجَّتُنَا الخ فإن عطفَ كلَ من الجملة الفعلية والاسميةِ على الأخرى مما لا نزاعَ في جوازه ولا مساغَ لعطفه على آتيناها لأن له محلاً من الإعراب نصْباً ورفعاً حسبما بُيِّن من قبلُ فلو عُطف هذا عليه لكان في حُكمه من الحالية والخبرية المستدعيتين للرابط ولا سبيلَ إليه ههنا ﴿كَلاَّ﴾ مفعولٌ لِمَا بعده وتقديمه للقصر لكن لا بالنسبة إلى غيرهما مطلقاً بل بالنسبة إلى أحدهما أي كلُّ واحدٍ منهما ﴿هَدَيْنَا﴾ لا أحدَهما دون الآخَر وتركُ ذكر المهدى إليه لظهور أنه الذي أوتيَ إبراهيمُ وأنهما مقتدِيان به ﴿وَنُوحاً﴾ منصوبٌ بمضمر يفسِّره ﴿هَدَيْنَا مِن قَبْلُ﴾ أي من قبلِ إبراهيمَ عليه السلام عَدَّ هُداه نعمةً على إبراهيمَ عليه السلام لأن شرفَ الوالدِ سارٍ إلى الولد ﴿وَمِن ذُرّيَّتِهِ﴾ الضمير لإبراهيمَ لأن مَساقَ النظمِ الكريمِ لبيانِ شئونه العظيمةِ من إيتاءِ الحجةِ ورفع الدرحات وهبةِ الأولادِ الأنبياءِ وإبقاءِ هذه الكرامةِ في نسله إلى يوم القيامة كلُّ ذلك الإلزام مَنْ ينتمي إلى ملتِه عليه السلامُ من المشركين واليهود وقيل لنوحٍ لأنه أقربُ ولأن يونُسَ ولوطاً ليسا من ذرِّية إبراهيمَ فلو كان الضميرُ له لاختصَّ بالمعدودين في هذه الآية التي بعدها وأما المذكورون في الآية الثالثةِ فعطفٌ على نوحاً ورُوي عن ابن عبَّاسٍ أن هؤلاءِ الأنبياءَ كلَّهم مُضافون إلى ذرِّية إبراهيم وإن كان
157
الأنعام آية ٨٥ ٨٦
منهم من لم يلْحَقه بولادةٍ من قِبَلِ أمَ ولا أب لأن لوطاً ابنُ أخي إبراهيم والعربُ تجعل العمَّ أباً كما أخبر الله تعالى عن أبناءِ يعقوبَ أنهم قالوا نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ غبراهيم وغسماعيل وأسحق مع إن إسمعيل عم يعقوب ﴿داود وسليمان﴾ منصوبان بمُضمرٍ مفهومٍ مما سبق وكذا ما عكف عليهما وبه يتعلق من ذريته وتقديمه على المفعول في الصريح للاهتمام بشأنه مع ما في المفاعيلِ من نوع طكول ربما يُخلُّ تأخيرُه بتجاوب النظم الكريم أي وهدينا من ذريته داودَ وسليمان ﴿وَأَيُّوبَ﴾ هو ابنُ أموصَ من أسباطِ عيصِ بنِ إسحاقَ ﴿وَيُوسُفَ وموسى وهارون﴾ أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً من المذكورين أي وهديناهم حال كونهم من ذريته ﴿وكذلك﴾ إشارةٌ إلى ما يُفهم من النظم الكريم من جزاءِ إبراهيمَ عليه السلام ومحلُّ الكافِ النصبُ على أنه تعت لمصدر محذوف وأصل التقدير ﴿نَجْزِى المحسنين﴾ جزاءً مثلَ ذلك الجزاءِ والتقديمُ للقصر وقد مرَّ تحقيقُه مراراً والمراد بالمحسنين لجنس وبمماثلة جزائِهم لجزائه عليه السلام مطلقُ المشابهةِ في مقابلةِ الإحسانِ بالإحسان والمكافأةِ بين ألعمال والأجْزِية من غير بخسٍ لا المماثلةُ من كل وجه ضرورةَ أن الجزاءَ بكثرةِ الأولاد الأنبياءِ مما اختص به إبراهيمُ عليه السلام والأقربُ أن لامَ المحسنين للعهد وذلكَ إشارةٌ إلى مصدرِ الفعل الذي بعده وهو عبارةٌ عما أوتيَ المذكورون من فنُون الكرامات وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو صفته للإيذان بعلو طبقته والطاف لتأكيد ما أفاده اسمُ الإشارةِ من الفخامة ومحلها في الأصلِ النصبُ على أنَّه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ وأصل التقدير ونجزي المحسنين المذكورين جزاء كائناً مثل ذلك الجزاء فقُدّم على الفعلِ لإفادةِ القصِر واعتُبرت الكافُ مقحمةً للنكتة المذكورة فصار المشارإليه نفسَ المصدرِ المؤكدِ لا نعتاً له أي وذلك الجزاءَ البديعَ نجزي المحسنين المذكورين لا جزاءً آخرَ أدنى منه والإظهارُ في موضعِ الإضمارِ للثناء عليهم بالإحسان الذي هو عبارةٌ عن الإتيان بالأعمال الحسنة على لا الوجه اللائقِ الذي هو حسنهال الوصفيُّ المقارِنُ لحُسنها الذاتي وقد فسَّره عليهِ الصَّلاة والسَّلام بقولِه أنْ تعبدَ الله كأنَّك تراهُ فإنْ لم تكرن تراهُ فإنَّهُ يَرَاكَ والجملةُ اعتراض لما قبلها
158
﴿وزكريا﴾ هو ابنُ آذَنَ ﴿ويحيى﴾ ابنُه ﴿وَعِيسَى﴾ هو ابنُ مريم وفيه دليلٌ على أنَّ الذرية تتناول أولادَ البنات ﴿وَإِلْيَاسَ﴾ قيل هو إدريسُ جدُّ نوحٍ فيكونُ البيانُ مخصوصاً بمِنْ في الآية الأولى وقيل هو من اسباط هرون أخِي مُوسى عليهما السلامُ ﴿كُلٌّ﴾ أي كلَّ واحدٍ من أولئك المذكورين ﴿مّنَ الصالحين﴾ أي من الكاملينَ في الصلاحِ الذي هو عبارةٌ عن الإتيان بما ينبغي والتحرُّز عما لا ينبغي والجملةُ اعتراضٌ جيءَ به للثناءِ عليهم بالصلاح
﴿وإسماعيل واليسع﴾ هو ابنُ أخطوبَ بنِ العجوز وقرىء واليسع وهو على القراءتين على أعجميٌّ أُدخل عليه اللام ولا اشتقاق له ويقال إنه يوشَعُ بنُ نون وقيل إنه منقولٌ من مضارعِ وسِعَ واللام كما في يزيد في قول من قال أرأيت الوليدَ بنَ اليزيدَ مُبارَكاً شديداً بأعباءِ الخِلافة كاهلُه ﴿ويونس﴾
158
الأنعام آية ٨٧ ٨٩
هو ابن متى ﴿وَلُوطاً﴾ هو ابن هاران بنِ أخي إبراهيمَ عليه السلام ﴿وَكُلاًّ﴾ أي وكلَّ واحدٍ من أولئك المذكورين ﴿فضلنا﴾ بالن لا بعضهم دون أخي ﴿عَلَى العالمين﴾ على عالَمي عصرهم والجملة اعتراض كأختها وقوله تعالى
159
﴿ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم﴾ إما متعلقٌ بما تعلقَ بهِ من ذريته ومن ابتدائية والمفعول محذوف أي وهدجينا من آبائهم وذرياتهم وإخوانهم جماعاتٍ كثيرةً وإما معطوف على كلاًّ ومن تبعيضية أي وفضلنا بعضَ آبائهم الخ ﴿واجتبيناهم﴾ عطفٌ على فضلنا أي اصطفيناهم ﴿وهديناهم إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ﴾ تكريرٌ للتأكيدِ وتمهيدٌ لبيان ما هُدوا إليه
﴿ذلك﴾ إشارة إلى ما يُفهم من النظم الكريم من مصادرِ الأفعال المذكورة وقيل إلى ما دانوا به وما في ذلك من معنى البُعد لما مر مراراً ﴿هدى الله﴾ الإضافة للشريف ﴿يَهْدِى بِهِ مَن يشاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ وهم المستعدّون للهداية وافرشاد وفيه إشارةٌ إلى أنَّه تعالى متفضِّلٌ بالهداية ﴿وَلَوْ أَشْرَكُواْ﴾ أي هؤلاءِ المذكورون ﴿لَحَبِطَ عَنْهُمْ﴾ مع فضلهم وعلوِّ طبقاتِهم ﴿مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ من الأعمال المَرْضيّة الصالحة فكيف بمَنْ عداهم وهم هم وأعمالهم أعمالهم
﴿أولئك﴾ إشارةٌ إلى المذكورين من الأنبياء الثمانيةَ عشَرَ والمعطوفين عليهم عليهم السلام باعتبار اتصافهم بما ذكر من الهداية وغيرِها من النعوت الجليلةِ الثابتةِ لهم وما فيه من معنى البُعد لما مرَّ غيرَ مرة من الإيذان بعلوِّ طبقتهم وبُعد منزلَتهِم في الفضلِ والشرف وهو مبتدأٌ خبرُه قولُه تعالى ﴿الذين آتيناهم الكتاب﴾ أي جنسَ الكتابِ المتحقِّقِ في ضمن أيِّ فردٍ كان من أفراد الكتب السماوية والمراد بإيتائه التفهيمُ التام بما فيه من الحقائق والتمكينُ من الإحاطةِ بالجلائلِ والدقائق أعمُّ من أن يكون ذلك بالإنزال ابتداءً أو بالإيراث بقاءً فإن المذكورين لم يُنْزَلْ على كلِّ واحدٍ منهم كتاب معين ﴿الحكم﴾ أي الحِكمةَ أو فصلَ الأمر على ما يقتضيه الحقُّ والصواب ﴿والنبوة﴾ أي الرسالة ﴿فَإِن يَكْفُرْ بِهَا﴾ أي بهذه الثلاثة أو بالنبوة الجامعة للباقين ﴿هَؤُلاء﴾ أي كفارُ قريشٍ فإنهم بكفرهم برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم وما أنزل عليه من القرآن كافرون بما يصدِّقه حميعا وتقديم الجار والمجرور على الفاعلِ لما مرَّ مراراً من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخّر ﴿فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا﴾ أي أمَرْنا بمراعاتها ووفَّقْنا للإيمان بها والقيامِ بحقوقها ﴿قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بكافرين﴾ أي في وقتٍ من الأوقاتِ بل مستمرون على الإيمان بها فإن الجملةَ الاسميةَ الإيجابية كما تفيد دوامَ الثبوت كذلك السلبيةُ تُفيدُ دوامَ النَّفيِ بمعونةِ المقامِ لا نفْيِ الدوام كما حقق مقامه قال ابنُ عباس ومجاهدٌ رضي الله تعالى عنهما الأنصارُ وأهلُ المدينة وقيل أصحاب النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وقيل كل مؤمن من بني آدمَ وقيل الفرس فإن
159
الأنعام ٩٠ ٩١
كلاًّ من هؤلاء الطوائف موَفّقون للإيمان بالأنبياء وبالكتب المُنْزَلة إليهم عاملون بما فيها من أصول الشرائعِ وفروعِها الباقية في شريعتنا وبه يتحقق الخروجُ عن عهدة التوكيل دون المنسوخة منها فإنها بانتساخها خادة عن كونها من أحكامها وقد مرَّ تحقيقُه في تفسير سورة المائدة وقيل هم الأنبياءُ المذكورون فالمرادُ بالتوكيل الأمرُ بما هو أعمُّ من إجراء أحكامِها كما هو شأنهم في حق كتابهم ومِنِ اعتقاد حقِّيتِها كما هو في شأنهم في حق سائرِ الكتبِ التي من جملتها القرآنُ الكريم وقيل هم الملائكةُ فالتوكيل هو الأمرُ بإنزالها وحفظها واعتقاد حقيتها وأياً ما كان فتنكيرُ قوماً للتفخيم والباء الأولى صلة لكافرين قدمت عليه محافظةً على الفواصل والثانية لتأكيد النفي وأما تقديم صلة وكلنا على مفعوله الصريح فلِما ذكر آنفاً من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر ولأن فيه نوعَ طولٍ ربما يؤدِّي تقديمُه إلى الإخلال بتجاوب النظم الكريم أو إلى الفصلِ بين الصفةِ والموصوف وجوابُ الشرط محذوفٌ يدلُّ عليه المذكور أي فإن يكفُرْ بها هؤلاءِ فلا اعتدادَ به أصلاً فقد وفّقنا للإيمان بها قوماً فِخاماً ليسوا بكافرين بها قطعاً بل مستمرون على الإيمان بها والعملِ بما فيها ففي إيمانهم بها مندوحةٌ عن إيمان هؤلاء ومن هذا تبيّن أن الوجه أن يكونَ المرادُ بالقوم إحدى الطوائف المذطورة إذْ بإيمانهم بالقرآن والعملِ بأحكامه تتحقّقُ الغُنية عن إيمان الكَفَرة به والعملِ بأحكامه وأما الأنبياءُ والملائكةُ عليهم السلام فإنما به ليس من قبيل إيمانِ آحادِ الأمةِ كما أشير إليه
160
﴿أولئك﴾ إشارة إلى ألنبياء المذكورين وما فيه من معنى البُعد للإيذانِ بعلوِّ رُتبتهم وهو مبتدأٌ خبرُه قولُه تعالى ﴿الذين هَدَى الله﴾ أي إلى الحق والنهج المستقيم والالتفاتُ إلى الإسم الجليل للإشعار بعلة الهداية ﴿فَبِهُدَاهُمُ اقتده﴾ أي فاختصَّ هداهم بالاقتداء ولا تقتَدِ بغيرهم والمرادُ بهداهم طريقتُهم في الأيمان بالله تعالى وتوحيدِه وأصولِ الدين دون الشرائعِ القابلةِ للنسخ فإنها بعد النسخ لا تبقى هُدىً والهاء في اقتده للوقف حقها أنم تسقط في الدّرْج واستُحسن إثباتُها فيه أيضاً إجراءً له مُجرى الوقفِ واقتداءً بالإمام وقرىء بإشباعها على أنها كناية المصدر ﴿قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ﴾ أي على القُرآنِ أو على التبليغ فإن مَساقَ الكلامِ يدل عليهما وإن لم يجْرِ ذكرُهما ﴿أَجْراً﴾ من جهتكم كما لم يسألْه مَنْ قبلي من الأنبياءِ عليهم السلام وهذا من جملة ما أمر ﷺ بالاقتداء بهم فيه ﴿إِنْ هُوَ﴾ أي مَا القرآنُ ﴿إِلاَّ ذكرى للعالمين﴾ أي عظةٌ وتذكيرٌ لهم كافةً من جهته سبحانه فلا يختَصُّ بقوم دون آخرين
﴿وَمَا قَدَرُواْ الله﴾
160
لما بيَّن شأنَ القرآنِ العظيم وأنه نعمةٌ جليلةٌ منه تعالى على كافة الأمم حسبما يتعلق به قولُه تعالى وَمَا أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين عقّب ذلك ببيان غمْطِهم إياها وكفرِهم بها على وجْهٍ سرَى ذلك إلى الكفر بجميع الكتب الإلهية وأصلُ القدْر السبْرُ والحزْرُ يقال قدَر الشيء يقدرُه بالم قدْراً إذا سبَره وحزَره ليعرِف مقداره ثم استُعمل في معرفة الشيء في مقداره وأحوالِه وأوصافِه وقوله تعالى ﴿حَقَّ قَدْرِهِ﴾ نُصب على المصدرية وهو في الأصل صفةٌ للمصدر أي قدْرَه الحقَّ فلما أضيف إلى موصوفه انتصبَ على ما كان ينتصبُ عليه موصوفُه أي ما عرفوه تعالى حقَّ معرفتِه في اللُطف بعباده والرحمةِ عليهم ولم يُراعوا حقوقَه تعالى في ذلك بل أخلّوا بها إخلالاً ﴿إِذْ قَالُواْ﴾ منكرين لبِعثة الرسلِ وإنزالِ الكتُب كافرين بنعمته الجليلةِ فيهما ﴿مَا أَنزَلَ الله على بشر من شىء﴾ فنفي معرفتهم لقره سبحانه كنايةً عن حطِّهم لقدرة الجليل ووصفهو له تعالى بنقيضِ نعتِه الجميل كما أنَّ نفيَ المحبةِ في مثل إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الكافرين كنايةٌ عن البغضِ والسُّخطِ وإلا فنفيُ معرفةِ قدرِه تعالى يتحقق مع عدم التعرُّض لحطِه بل مع السعْي في تحصيل المعرفةِ كما في قول من يناجي مستقصِراً لمعرفته وعبادته سبحانك ما عرَفناك حقَّ معرفتِك وما عبدناك حقَّ عبادتك وما عرفوه حقَّ معرفتِه في السخط على لكفار وشدّةِ بطشِه تعالى بهم حسبما نطقَ به القرآنُ حين اجترءوا على التفوُّه بهذه العظيمةِ الشنعاءِ فالنفيُ بمعناه الحقيقي والقائلون هم اليهودُ وقد قالوه مبالغةً في إنكار إنزالِ القرآنِ على رسولِ الله ﷺ فأُلزِموا بما لا سبيلَ لهم في إنكاره أصلاً حيث قيل ﴿قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب الذي جاءَ به موسَى﴾ أي قل لهم ذلك على طريقة التبكيت وإلقامِ الحجر وروي أن مالكَ بنَ الصيف من أحبار اليهودِ ورؤسائِهم قال له رسول الله ﷺ أنشُدُك الله الذي أنزل التوراةَ على موسى هل تجد فيها أن الله يُبغض الحِبرَ السمين فأنت الحِبرُ السمين قد سمِنْتَ من مالك الذي تُطعمُك اليهود فضحك القومُ فغضبَ ثم التفت إلى عمرَ رضي الله عنه فقال ما أنزل الله على بشر من شىء فنزعوه وجعلوا مكانه كعبَ بن الأرشف وقيل هم المشركون وإلزامُهم إنزالُ التوراة لما أنه كان عندهم من المشاهير الذائعةِ ولذلك كانوا يقولون لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الكتاب لَكُنَّا أهدى مِنْهُمْ ووصفُ الكتاب بالوصول إليهم لزيادة التقريعِ وتشديدِ التبكيت وكذا تقييدُه بقوله تعالى ﴿نُوراً وَهُدًى﴾ فإن كونَه بيّناً بنفسه ومبيِّناً لغيره مما يؤكد الإلزامَ أيَّ تأكيدٍ وانتصابُهما على الحاليَّةِ من الكتابِ والعامل أَنزل أو من الضميرِ في به والعامل جاء واللام في قوله تعالى ﴿لِلنَّاسِ﴾ إما متعلقٌ بهدىً أو بمحذوف هو صفةٌ له أي هدى كائناً للناس وليس المرادُ بهذا مجردَ إلزامِهم بالاعتراف بإنزال التوراةِ فقط بل بإنزال القرآنِ أيضاً فإن الاعترافَ بإنزالها مستلزِمٌ للاعتراف بإنزاله قطعاً لما فيها من الشواهد الناطقةِ به وقد نعى عليهم ما فعلوا بها من التحريف والتغييرِ حيث قيل ﴿تَجْعَلُونَهُ قراطيس﴾ أي تضعونه في قراطيسَ مقطعة وورقات مفرقة بحذ الجارِّ بناءً على تشبيه القراطيس بالظرف المُبْهم أو تجعلونه نفسَ القراطيس المقطعة وفيه زيادةُ توبيخٍ لهم بسوء سنيعهم كأنهم أخرجوه من جنس الكتاب ونزّلوه منزلةَ القراطيسِ الخاليةِ عن الكتابة والجملة حالٌ كما سبق وقوله تعالى ﴿تُبْدُونَهَا﴾ صفةٌ لقراطيسَ وقوله تعالى ﴿وَتُخْفُونَ كَثِيراً﴾
161
الأنعام آيو ٩٢
معطوفٌ عليه والعائدُ إلى الموصول محذوفٌ أي كثيراً منهم وقيل كلامٌ مبتدأ لا محلَّ له من الإعراب والمرادُ بالكثير نعوتُ النبيِّ عليهِ الصلاةَ والسلام وسائرُ ما كتموه من أحكام التوراة وقرىء الأفعالُ الثلاثةُ بالياء حملاً على قالوا وما قدروا وقوله تعالى ﴿وَعُلّمْتُمْ مَّا لَمْ تعلموا أنتم ولا آباؤكم﴾ قيل هو حالٌ من فاعل تجعلونه بإضمار أو بدونِه على اختلافِ الرأيين قلت فينبغي أن يجعل ما عبارةً عما أخذوه من الكتاب من العلوم والشرائعِ ليكون التقييدُ بالحال مفيداً لتأكيد التوبيخِ وتشديدِ التشنيع فإن ما فعلوه بالكتاب من التفريق والتقطيعِ لما ذُكر من الإبداءِ والإخفاءِ شناعةٌ عظيمة في نفسها ومع ملاحظة كونه مأخذاً لعلومهم ومعارفِهم أشنعَ وأعظمَ لا عما تلقَّوْه من جهة النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم زيادةٍ على ما في التوراة وبياناً لما التَبَس عليهم وعلى ى بائهم من مشكلاتها حسْبما ينطِق به قوله تعالى إن هذا القرآن يقص على بني غسرائل أَكْثَرَ الذى هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ كما قالوا لأنّ تلقَّيَهم لذلك من القرآن الكريم ليس مما يزجُرهم عما صنعوا بالتوراة أما ما ورد فيه زيادةً على ما فيها فلأنه لا تعلّقَ له بها نفياً ولا إثباتاً وأما ما ورد بطريق البيانِ فلأن مدارَ ما فعلوا بها من التبديل والتحريفِ ليس ما وقع فيها من التباس الأمرِ واشتباهِ الحال حتى يُقلِعوا عن ذلك بإيضاحه وبيانِه فتكونَ الجملةُ حينئذ خاليةً عن تأكيد التوبيخ فلا تستحق أن تقعَ موقع الحال بل الوجهُ حينئذٍ أن تكون استئنافاً مقرِّراً لما قبلها من مجيءِ الكتابِ بطريق التكملةِ والاستطراد والتمهيدِ لما يعقُبه من مجيءِ القرآن ولا سبيل إلى جعل ما عبارةً عما كتموه من أحكام التوراةِ كما يفصحُ عنه قولُه تعالى قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ كَثِيراً مّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكتاب فإن ظهورَه وإن كان مزْجَرةً لهم عن الكتم مخافةَ الافتضاح ومصحِّحاً لوقوعِ الجملة في موقع الحالِ لكن ذلك مما يعلمه الكاتمون حتماً هذا وقد قيل الخطابُ لمن آمن من قريش كما في قوله تعالى لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ آباؤهم وقوله تعالى ﴿قُلِ الله﴾ أمر لرسول الله ﷺ بأن يُجيبَ عنهم إشعاراً بتعيُّن الجوابِ بحيث لا محيدَ عنه وإيذاناً بأنهم أُفحموا ولم يقدِروا على التكلم أصلاً ﴿ثُمَّ ذَرْهُمْ فِى خَوْضِهِمْ﴾ في باطلهم الذي يخوضون فيه ولا عليك بعد إلزامِ الحجة وإلقامِ الحجر ﴿يَلْعَبُونَ﴾ حال من الضمير الأول والظرفُ صلة للفعل المقدّم أو المؤخر أو متعلقٌ بمحذوفٍ هو حال من مفعولِ الأولِ أو من فاعل الثاني أو الضمير الثاني لأنه فاعلٌ في الحقيقة والظرفُ متَّصل بالأول
162
﴿وهذا كتاب أنزلناه﴾ تحقيقٌ لنزول القرآن الكريم بعدج تقرير إنزال ما بَشَّر به من التوراة وتكذيبٌ لهم في كلمتهم الشنعاءِ إثرَ تكذيبٍ ﴿مُّبَارَكٌ﴾ أي كثيرُ الفوائد وجمُّ المنافع ﴿مُّصَدّقُ الذى بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ من التوراة لنزوله حسبما وُصِف فيها أو الكتُبِ التي قبله فإنه مصدِّقٌ للكل في إثبات التوحيد والأمرِ به ونفي الشرْك والنهي عنه وفي سائر أصولِ الشرائعِ التي لا تُنسخ ﴿وَلِتُنذِرَ أُمَّ القرى﴾ عطفٌ على ما دل عليه مبارك أي للبركات وإنذارك أهل مكة إنما ذُكرت باسمها المُنبىءِ عن كونها أعظم القرآ شأناً وقِبْلةً لأهلها قاطبةً إيذاناً بأن إنذارَ أهلِها أصلٌ مستتبِعٌ لإنذار أهلِ الأرض كافة وقرىء
162
الأنعام آية ٩٣ ٩٤
لينذرَ بالياءِ على أنَّ الضمير للكتاب ﴿وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ من أهل المدَر والوبَر في المشارق والمغارب ﴿والذين يُؤْمِنُونَ بالأخرة﴾ وبما فيها من أفانين العذاب ﴿يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ أي بالكتاب لأنهم يخافون العاقبةَ ولا يزال الخوف يحملهم على النظرة والتأمُّل حتى يؤمنوا به ﴿وَهُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾ تخصيصُ محافظتِهم على الصلاة بالذكر من بين سائر العبادات التي لا بد للمؤمنين من أدائها للإيذان بإنافتِها من بين سائر الطاعات وكونِها أشرفَ العباداتِ بعد الإيمان
163
﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً﴾ فزعَم أنه تعالى بعثه نبياً كمسيلِمةَ الكذابِ والأسودِ العنسيِّ أو اختلق عليه أحكاماً من الحِلِّ والحُرمة كعَمْرِو بنِ لُحَيَ ومتابعيه أيْ هُو أظلمَ منْ كل ظالم وإنْ كانَ سبكُ التركيبِ على نفيِ الأظلمِ منه وإنكارِه من غيرِ تعرضٍ لنفْي المساوي وإنكارِه فإن الاستعمالَ الفاشيَ في قولك مَنْ أفضلُ من زيدٍ أو لا أكرمَ منه على أنه أفضلُ من كل فاضلٍ وأكرمُ من كل كريم وقد مرَّ تمامُ الكلامِ فيه ﴿أَوْ قَالَ أُوْحِى إِلَىَّ﴾ من جهته تعالى ﴿وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ﴾ أي والحال أنه لم يوح إليه ﴿شَىْء﴾ أصلاً كعبد اللَّه بنِ سعدِ بنِ أبي سَرْح كان يكتُب للنبي ﷺ فلما نزلت وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سلالة مّن طكين فلما بلغ ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقَاً آخَر قال عبد اللَّه تبارك الله أحسنُ الخالقين تعجباً من تفصيل خلقِ الإنسان ثم قال ﷺ اكتُبها كذلك فشك عبدُ اللَّه وقال لئن كان محمد صادقاً فقد أُوحيَ إلي كما أوحيَ إليه ولئن كان كاذباً فقد قلت كما قال ﴿وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ الله﴾ كالذين قالوا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هذا ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظالمون﴾ حُذف مفعولُ ترى لدِلالة الظرفِ عليه أي ولو ترى الظالمين إذ هم ﴿فِى غَمَرَاتِ الموت﴾ أي شدائده من غَمَره إذا غشيه ﴿والملائكة بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ﴾ بقبض أرواحِهم كالمتقاضي الملظ المُلِحّ يبسُط يدَه إلى من عليه الحقُّ ويعنِّف عليه في المطالبة من غير إمهالٍ وتنفيسٍ أو باسطوها بالعذاب قائلين ﴿أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ﴾ أي أخرجوا أرواحَكم إلينا من أجسادكم وخلصوا أنفسكم من العذاب ﴿اليوم﴾ أي وقتَ الإماتة أو الوقتَ الممتدّ بعده إلى ما لا نهاية له ﴿تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهون﴾ أيْ العذابَ المتضمِّنَ لشدةٍ وإهانةٍ فإضافتُه إلى الهون وهو الهوانُ لعراقته فيه ﴿بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى الله غَيْرَ الحق﴾ كاتخاذ الولد له ونسبةِ الشريك إليه وادعاء انبوة والوحيِ كاذباً ﴿وَكُنتُمْ عَنْ آياته تَسْتَكْبِرُونَ﴾ فلا تتأملون فيها ولا تؤمنون بها
﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا﴾ للحساب ﴿فرادى﴾
163
الأنعام آية ٩٥ ٩٦
منفردين عن الأموال والأولاد وغير ذلك مما ى ثرتموه من الدنيا أو عن الأعوان والأصنامِ التي كنتم تزعمون أنها شفعاؤكم وهم جمع فَرْد والألفُ للتأنيث ككسالى وقرىء فرادا كرخال وفَرادَ كثلاثَ وفَرْدَى كسَكْرى ﴿كَمَا خلقناكم أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ بدل من فرادى أي على الهيئة التي ولدتم عليها في الانفراد أو حال ثانية عند من يجوِّزُ تعددَها أو حال من الضمير في فرادى أي مشبهن ابتداءَ خلقِكم عُراةً حُفاة غر لابهما أو صفةُ مصدرِ جئتمونا أي مجيئاً كخلقنا لكم أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴿وَتَرَكْتُمْ مَّا خولناكم﴾ تفضّلناه عليكم في الدنيا فشُغِلتم به عن الآخرة ﴿وَرَاء ظُهُورِكُمْ﴾ ما قدمتم منه شيئاً ولم تحملو نقيراً ﴿وَمَا نرى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الذين زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء﴾ أي شركاءُ الله تعالى في الربوبية واستحقاقِ العبادة ﴿لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ﴾ أي وقع التقطعُ بينكم كما يقال جمع بين الشيئين أي أوقع الجمع بينهما وقرىء بينكمك بالرفع على إسنادِ الفعلِ إلى الظرف كما يقال قوتل أمامُكم وخلفُكم أو على أن البينَ اسمٌ للفصل والوصل أي تقطع وصلُكم وقرىء ما بينَكم ﴿وَضَلَّ عَنكُم﴾ أي ضاع أو غاب ﴿مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ أنها شفعاؤكم أو أنْ لا بعثَ ولا جزاء
164
﴿إِِنَّ الله فَالِقُ الحب والنوى﴾ شروعٌ في تقرير بعضِ أفاعيلِه تعالى الدالةِ على كمال علمه وقدرته ولطفِ صُنعِه وحِكمتِه إثرَ تقريرِ أدلةِ التوحيد والفَلْقُ الشَقُّ بإبانةٍ أي شاقُّ الحبِّ بالنبات والنوى بالشجر وقيل المرادُ به الشِقُّ الذي في الحبوب والنَّوى أي خالقُهما كذلك كما في قولُك ضَيِّقْ فمَ الرَّكِيةِ ووسِّعْ أسفلَها وقيل الفلْقُ بمعنى الخلق قال الواحدي ذهبوا بفالقُ مذهبَ فاطر ﴿يُخْرِجُ الحى مِنَ الميت﴾ أي يُخرج ما ينمومن الحيوان والنبات مما لا ينمو من النطفة والحبِّ والجملة مستأنفة مبنية لما قبلَها وقيلَ خبرٌ ثان لأن وقوله تعالى ﴿وَمُخْرِجُ الميت﴾ كالنطفة والحب ﴿مِنَ الحى﴾ كالحيوان والنبات عطفٌ على فالقُ الحب لا على يُخرج على الوجه الأول لأن إخراج الميِّتِ من الحيِّ ليس من قبيل فلقِ الحب والنوى ﴿ذلكم﴾ القادرُ العظيمُ الشأنِ هو ﴿الله﴾ المستحِقّ للعبادة وحده ﴿فأنى تُؤْفَكُونَ﴾ فكيفَ تُصرَفون عن عبادتِه إلى غيره ولا سبيل إليه أصلاً
﴿فَالِقُ الإصباح﴾ خبرٌ آخَرُ لأنَّ أو لمبتدإٍ محذوفٍ والإصباحُ مصدرٌ سمِّي به الصبحُ وقُرِىءَ بفتح الهمزة على أنه جمعُ صُبْح أي فالقُ عمودِ الفجر عن بياضِ النهار وإسفارِه أو فالق ظلمةِ الإصباحِ وهي الغَبَشُ الذي يلي الصبحَ وقرىء فالقَ بالنصب على المد ﴿وجعل الليل سَكَناً﴾ يسكُن إليه التعِبُ بالنهار لاستراحته فيه من سَكَن إليه إذا اطمأن إليه استئناساً به أو يسكن فيه الخلقُ من قوله تعالى لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وقرىء جاعلُ الليل فانتصابُ سكناً بفعل دل عليه جاعل وقيل بنفسه على أن المرادَ به الجعلُ المستمرُّ في الأزمنة المتجددة حسَب تجدّدِها لا الجعلُ الماضي فقط وقيل اسمُ الفاعل من الفعل المتعدِّي إلى اثنينِ يعملُ في الثاني وإن كان بمعنى الماضي لأنه لما أُضيف إلى الأول تعيّن نصبُه للثاني لتعذّر الإضافة بعد ذلك
164
الأنعام آية ٩٧ ٩٨
﴿والشمس والقمر﴾ معطوفان على الليل وعلى القراءة الأخيرة قيل هما معطوفان على محله والأحسنُ نصبُهما حينئذ بفعل مقدرٍ وقد قُرئا بالجرِّ وبالرفعِ أيضاً على الابتداء والخبرُ محذوفٌ أي مجعولان ﴿حُسْبَاناً﴾ أي على أدوار مختلفة يُحسبُ بها الأوقاتُ التي نيط بها العباداتُ والمعاملاتُ أو محسوبان حُسباناً والحُسبانُ بالضم مصدرُ حسَب كما أن الحسابَ بالكسر مصدر حسَب ﴿ذلك﴾ إشارة إلى جعلهما كذلك وما فيه من معنى البُعْدِ للإيذان بعلوِّ رُتبةِ المُشار إليهِ وبُعْدِ منزلتِه أي ذلك التيسير البديع ﴿تقدير﴾ البديع تَقْدِيرُ ﴿العزيز﴾ الغالب القاهرِ الذي لا يستعصي عليه شيءٌ من الأشياء التي من جملتها تسييرُهما على الوجه المخصوص ﴿العليم﴾ بجميعِ المعلوماتِ التي مِنْ جملتها ما في ذلك التسييرِ من المنافعِ والمصالحِ المتعلقةِ بمعاش الخلق ومَعادِهم
165
﴿وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ النجوم﴾ شروعٌ في بيان نعمتِه تعالى في الكواكب إثرَ بيانِ نعمتِه تعالى في النَّيِّرَيْنِ والجَعلُ متعدٍ إلى واحد واللامُ متعلقةٌ به وتأخيرُ المفعول الصريح عن الجار والمجرور لما مرَّ غيرَ مرَّةٍ من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر أي أنشأها وأبدعها لأجلكم فقوله تعالى ﴿لِتَهْتَدُواْ بِهَا﴾ بدلٌ من المجرور بإعادة العامل بدلَ اشتمال كما قي قوله تعالى لجعلنا لمكن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً والتقدير جعلَ لكم النجومَ لاهتدائكم لكن لا على أن غايةَ خلقِها اهتداؤُهم فقط بل على طريقة إفراد بعضِ منافعِها وغاياتها بالذكر حسبما يقتضيه المقام وقد جوز أن يكون مفعولاً ثانياً للجعل وهو بمعنى التصييرِ أي جعلها كائنةً لاهتدائكم في أسفاركم عند دخولكم المافوز أو البحارَ كما ينبىء عنه قولُه تعالى ﴿فِى ظلمات البر والبحر﴾ أي في ظلمات الليل في البر والبحر وإضافتُها إليهما للملابسة فإن الحاجة إلى الاهتداء بها إنما يتحقق عند ذلك أو في مشتَبِهات الطرقِ عبّر عنها بالظلمات على طريق الاستعارة ﴿قَدْ فَصَّلْنَا الآيات﴾ أي بيّنا الآياتِ المتلُوَّةَ المذكِّرةَ لنِعَمه التي هذه النعمةُ من جملتها أو الآياتِ التكوينيةِ الدالةِ على شئونه تعالى مفصّلةً ﴿لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ أي معانِيَ الآياتِ المذكورةِ ويعلمون بموجبها أو يتفكرون في الآيات التكوينية فيعلمون حقيقةَ الحال وتخصيصُ التفصيل بهم مع عمة ومه للكلِّ لأنَّهم المنتفعونَ بِه
﴿وَهُوَ الذى أَنشَأَكُم مّن نَّفْسٍ واحدة﴾ تذكيرٌ لنعمةٍ أخرى من نعمه تعالى دالة على عظم قدرتِه ولطيفِ صُنعه وحكمتِه أي أنشأكم مع كثرتكم من نفسُ آدمَ عليه السَّلامُ ﴿فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ﴾ أي فلكم استقرارٌ في الأصلاب أو فوق الأرض واستيداعٌ في الأرحام أو تحت الأرض أو موضعُ استقرارٍ واستيداعٍ فيما ذكر والتعبيرُ عن كة ونهم ي الأصلاب أو فوق الأرض بالاستقرار لأنهما مقرُّهم الطبيعيُّ كما أنَّ التعبيرَ عن كونهم في الأرحام أو تحت الأرض بالاستيداع لِما أنَّ كلاً منهُمَا ليس ليس بمقرِّهم الطبيعيِّ وقد حُمل الاستيداعُ على كونهم في الأصلاب وليس بواضح وقرىء فمستقِر بكسر القاف أي فمنكم مستقِرٌ ومنكم مستوْدَعٌ فإن الاستقرارَ منّا
165
الأنعام آية ٩٩
بخلاف الاستيداع ﴿قَدْ فَصَّلْنَا الآيات﴾ المبينةَ لتفاصيل خلقِ البشرِ من هذه الآية ونظائرِها ﴿لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ﴾ غوامضَ الدقائقِ باستعمال الفِطنة وتدقيقِ النظر في لطائف صنع الله عزَّ وجلَّ في أطوار تخليقِ بني آدمَ مما تحارُ في فهمه الألبابُ وهو السرُّ في إيثارِ يفقهون على يعلمون كما ورد في شأن النجوم
166
﴿وَهُوَ الذى أَنزَلَ مِنَ السماء مَاء﴾ تذكيرٌ لنعمةٍ أخرى من نعمه تعالى مُنَبِّئةٍ عن كمالِ قدرتِه تعالى وسَعة رحمتِه أي أنزل من السحاب أو من سَمْتِ السماء ماءً خاصاً هو المطر وتقديمُ الجار والمجرور على المفعول الصريح لما مر مرارا ﴿فأخرجنا به﴾ التفت إلى التكلم إظهاراً لكمال العناية بشأن ما أُنزل الماءُ لأجله أي فأخرجنا بعظمتِنا بذلك الماءِ مع وِحْدته ﴿نَبَاتَ كُلّ شَىْء﴾ من الأشياء التي من شأنها النمو من أصنافالنجم والشجر وأنواعهما المختلفة في الكم والكيف والخواص والآثار اختلافا متفاوتها في مراتبِ الزيادة والنقصان حسبما يُفصح عنه قولُه تعالى يسقى بِمَاء واحد وَنُفَضّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِى الاكل وقولُه تعالى ﴿فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً﴾ شروعٌ في تفصيل ما أجمل من الإخراج وقد بُدِىء بتفصيل حال النجم أي فأخرجنا من النبات الذي لا ساقَ له شيئاً غضّاً أخضرَ يقال شيءٌ أخضَرٌ وخضِرٌ كأعوَرَ وعَوِرٍ وأكثرُ ما يُستعمل الخضِرُ فيمال تكون خُضرتُه خَلْقية وهو ما تشعّب من أصل النبات الخارج من الحبة وقوله تعالى ﴿نُّخْرِجُ مِنْهُ﴾ صفة لخضرا أو صيغة المضارع لاستحضار الصور لما فيها من الغرابة أي نخرج من ذلك الخضِرِ ﴿حَبّاً مُّتَرَاكِباً﴾ هو السنبل المنتظم الحبوب المتراكبة بعضُها فوق بعض على هيئة مخصوصةٍ وقرىء يخرج منه حب متراكب وقوله تعالى ﴿وَمِنَ النخل﴾ شروع في تفصيل حال الشجر إثرَ بيانِ حال النجم فقوله تعالى مِنْ النخل خبرٌ مقدم وقوله تعالى ﴿مِن طَلْعِهَا﴾ بدلٌ منه بإعادة العامل كما في قوله تعالى لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو الله الخ والطَّلْعُ شيء يخرُج من النخل كأنه نعلانِ مُطبَقانِ والحِمْلُ بينهما منضود وقوله تعالى ﴿قنوان﴾ مبتدأ أي وحاصلةٌ من طلع النخل قنوانٌ ويجوز أن يكون الخبرُ محذوفاً لدلالة أخرجنا عليه أي ومُخرِجةٌ من طلع النخل قنوانٌ ومَنْ قرأ يخرُجُ منه حبٌّ متراكبٌ كان قنوانٌ عنده معطوفاً على حبٌّ وقيل المعنى وأخرجنا من النخل نخلاً من طلعها قنوانٌ أو ومن النخل شيءٌ من طلعها قنوان وهو جمع قِنْوٍ وهو عنقودُ النخلة كصِنْوٍ وصِنْوان وقرىء بضم القاف كذِئبٍ وذؤبان وبفتحها أيضاً على أنه اسمُ جمعٍ لأن فَعلان ليس من أبنية الجمع ﴿دَانِيَةٌ﴾ سهلةُ المُجتَنى قريبةٌ من القاطففإنها وإن كانت صغيرةً ينالها القاعدُ تأتي بالثمر لا يُنتظَرُ الطولُ أو ملتفةٌ متقاربة والاقتصارُ على ذكرها لدلالتها على مقابلتها كقولِه تعالى سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر ولزيادة النعمة فيها ﴿وجنات مّنْ أعناب﴾ عطفٌ على نباتَ كل شيء أي وأخرجنا به جناتٍ كائنةً من أعناب وقرىء جناتٌ بالرَّفعِ على الابتداءِ أي ولكم
166
الأنعام آية ١٠٠
أو ثَمةَ جناتٌ وقد جوِّز عطفُه على قنوان كأنه قيل وحاصلةٌ أو مخجة من النخل قنوانٌ وجناتٌ من نباتٍ وأعناب ولعل زيادة الجنات ههنا من غير اكتفاءٍ بذكر اسمِ الجنس كما فيما تقدم وما تأخر لما أن الانتفاعَ بهذا الجنس لا يتأتى غالباً إلا عند اجتماع طائفةٍ من أفراده ﴿والزيتون والرمان﴾ منصوبان على الاختصاص لعزة هذين الصنفين عندهم أو على العطف على نباتَ وقوله تعالى ﴿مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ متشابه﴾ حال من الزيتون اكتُفي به عن حال ما عطف عليه كما يكتفى بخبر المعطوف عليه عن خبر لمعطوف في نحوِ قولِه تعالى والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ وتقديرُه والزيتونَ مشتبهاً وغيرَ متشابه والرمانَ كذلك وقد جوز أن يكون حالاً من الرمان لقُربه ويكون المحذوفُ حالَ الأول والمعنى بعضُه متشابهاً وبعضُه غير مكتشابه في الهيئة والمقدار واللون والطعم وغيرِ ذلك من الأوصاف الدالة على كمال قدرة صانعِها وحكمةِ مُنشئِها ومبدعِها ﴿انظروا إلى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ﴾ أي انظروا إليه نظرَ اعتبارٍ واستبصارٍ إذا أخرج ثمرَه كيف يُخرجه ضئيلاً لا يكاد يُنتفعُ به وقرىء إلى ثمره ﴿وَيَنْعِهِ﴾ أي وإلى حال نضجه كيف يصر إلى كماله اللائق به ويكون شيئاً جامعاً لمنافِعَ جمّةٍ واليَنْعُ في الأصل مصدر ينعت الثمر إذا أدركت وقيل جمعُ يانع كتاجر وتجْرٍ وقرىء بالضمِّ وهي لغةٌ فيه وقرىء يانِعِهِ ﴿إِنَّ فِى ذلكم﴾ إشارةٌ إلى ما أُمر بالنظر إليه وما في إسمِ الإشارةِ من معنى البعد للإيذان بعلوِّ رُتبةِ المُشار إليهِ وبعد منزلته ﴿لايات لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ أي لآيات عظيمة أوثيرة دالةً على وجود القادر الحكيم ووحدته فإن حدوت هاتيك الأجناسِ المختلفة والأنواع المتشعبة من أصل واحدٍ وانتقالَها من حال إلى حال على نمط بديع يحار في فهمه الألباب لا يكاد يكون إلا بإحداث صانعٍ يعلم تفاصيلَها ويرجّح ما تقتضيه حكمتُه من الوجوه الممكنة على غيره ولا يَعوُقه عن ذلك ضد يناويه أو ند يفاويه ولذلك عقّب بتوبيخِ من أشرك به والردِّ عليه حيث قيل
167
﴿وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء﴾ أي جعلوا في اعتقادهم لله الذي شأنُه ما فُصّل في تضاعيفِ هذه الآياتِ الجليلةِ شركاءَ ﴿الجن﴾ أي الملائكةَ حيث عبدوهم وقالوا الملائكةُ بناتُ الله وسُمُّوا جنا لاجتنابهم تحقير لشأنهم بالنسبة إلى مَقام الألوهية أو الشياطينَ حيث أطاعوهم كما أطاعوا الله تعالى أو عبدوا الأوثانَ بتسويلهم وتحريضِهم أو قالوا الله خالقُ الخير وكلِّ نافعٍ والشيطانُ خالقُ الشرِّ وكلِّ ضارَ كما هو رأي التنويه ومفعولا جعلوا قوله تعالى شُرَكَاء الجن قُدِّم ثانيهما على الأول لاستعظام أن يتخذ الله سبحانه شريكٌ ما كائناً ما كان ولله متعلق بشركاء قدم عليه للنكتة المذكورة وقيل هما لله شركاء والجنَّ بدلٌ من شركاءَ مفسِّرٌ له نَصَّ عليه الفراءُ وأبو إسحاقَ أو منصوبٌ بمضمرٍ وقعَ جوابا على سؤالٍ مقدَّرٍ نشأ من قوله تعالى وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء كأنه قيل مَنْ جعلوه شركاءَ لله تعالى فقيل الجنَّ أي جعلوا الجن ويؤيده قراءةُ أبي حيوة ويزيدَ بن قطيب الجن بالرفع على تقديرهم الجنُّ في جواب من قال مَن الذين جعلوهم شركاءَ لله تعالى وقد قرىء بالجر على أن الإضافة للتبيين
167
الأنعام آية ١٠١
﴿وَخَلَقَهُمْ﴾ حالٌ من فاعل جعلوا بتقدير قد أو بدونه على اختلاف الرأيين مؤكدةٌ لما في جَعْلهم ذلك من كمال القباحة والبُطلان باعتبار علمِهم بمضمونها أي وقد علموا أنه تعالى خالقُهم خاصة وقيل الضميرُ للشركاءِ أي والحالُ أنَّه تعالى خلق الجنَّ فكيف يجعلون مخلوقَه شريكاً له تعالى وقرىء خَلْقَهم عطفاً على الجنَّ أي وما يخلقونه من الأصنام أو على شركاءَ أي وجعلوا له اختلافهم الإفكَ حيث نسبوه إليه تعالى ﴿وَخَرَقُواْ لَهُ﴾ أي افتعلوا وافترَوْا له يقال خلقَ الإفكَ واختلقه وخَرَقه واخترقه بمعنى وقرىء خرّقوا بالتشديد للتكثير وقرىء وحرّفوا له أي زوّروا ﴿بَنِينَ وَبَنَاتٍ﴾ فقالت اليهودُ عزيرٌ ابنُ الله وَقَالَتِ النصارى المسيحُ ابنُ الله وقالت طائفة من العربِ الملائكةُ بناتُ الله ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ أي بحقيقة ما قالوه من خطأ أو صوابٍ بل رميا بقول عن عمى وجهالة من غير فكرٍ ورويّة أو بغير علم بمرتية ما قالوه وأنه من الشناعة والبطلان بحيث لا يقادَرُ قدرُه والباءُ متعلقةٌ بمحذوفٍ هو حالٌ من فاعل خرقوا أو نعتٌ لمصدرٍ مؤكدٍ لهُ أي خرقوا ملتبسين بغير علم أو خرقاً كائناً بغير علم ﴿سبحانه﴾ استئناف مسوق لتتنزيهه عز وجل عما نسَبوه إليه وسبحانه علمٌ للتَّسبيحِ الذي هو التبعيدُ عن السُّوءِ اعتقاداً وقولاً أي اعتقادَ البعدِ عنه والحكمَ به مِنْ سبَح في الأرضِ والماءِ إذا أبعدَ فيهما وأمعنَ ومنه فرسٌ سَبُوحٌ أي واسعُ الجرْي وانتصابُه على المصدريّةِ ولا يكاد يُذكر ناصبُه أي أُسبِّحُ سبحانَه أي أنزّهُه عمَّا لا يليقُ به عقْداً وعملاً تنزيها خاصا به حقيقة بشأنِه وفيه مبالغةٌ من جهةِ الاشتقاقِ من السَّبْح ومن جهة النَّقلِ إلى التَّفعيلِ ومن جهة العدولِ عن المصدرِ الدَّالِ على الجنسِ إلى الاسمِ الموضوع له خاصَّة لا سيِّما العلمُ المشيرُ إلى الحقيقةِ الحاضرةِ في الذِّهنِ ومن جهة إقامتهِ مُقامَ المصدرِ مع الفعلِ وقيل هو مصدرٌ كغُفرانٍ لأنه سُمع له فعلٌ من الثلاثي كما ذُكر في القاموس أُريد به التنزُّهُ التامُّ والتباعدُ الكُلي ففيه مبالغةٌ من حيث إسنادُ التنزهِ إلى ذاتِه المقدسةِ أي تنزه بذاته تنزهال لائقاً به وهو الأنسبُ بقوله سبحانه ﴿وتعالى﴾ فإنمه معطوفٌ على الفعل المُضمر لا محالة ولِمَا في السُّبحان والتعالي من معنى التباعُد قيل ﴿عَمَّا يَصِفُونَ﴾ أي تباعد عما يصفونه من أن له شريكاً أو ولدا
168
﴿بديع السماوات والارض﴾ أي مُبدِعُهما ومخترِعُهما بلا مثالٍ يَحتذيه ولا قانونٍ ينتحيه فإن البديعَ كما يطلق على المُبدِع نصَّ عليه أئمة اللغة كالصريخ بمعنى المُصرِخ وقد جاء بَدَعَه كمنعه بمعنى أنشأه كابتدعه على ما ذُكر في القاموس وغيرِه ونظيرُه السميعُ بمعنى المسمِع في قوله... أَمِنْ رَيْحانَةَ الدَّاعي السميعُ وقيل هو من إضافة الصفةِ المشبّهةِ إلى الفاعل للتخفيف بعد نصبِه تشبيهاً لها باسم الفاعِلِ كما هو المشهورُ أي بديعُ سمواتِه وأرضِه من بَدَع إذا كان على نمطٍ عجيبٍ وشكلٍ فائق وحُسنٍ رائقٍ أو إلى الظرف كما في قولهم ثبت الغدر بمعنى أنه عديم اتلنظير فيهما والأولُ هو الوجه والمعنى أنه تعالى مبدعٌ لقطري العالم العلويِّ والسفليِّ بلا مادة فاعلٍ على الإطلاق منزَّه عن الانفعال بالمرة والوالدُ عنصرُ الولد منفعل
168
٩ -
الأنعام آية ١٠٢
بانتقال مادتِه عنه فكيف يمكنُ أن يكونَ له ولد وقرىء بديعَ بالنصبَ على المدح وبالجرِّ على أنه بدلٌ من الاسم الجليل أو منَ الضميرِ المجرورِ في سبحانه على رأي من يُجيزه وارتفاعُه في القراءة المشهورة على أنه خبر مبتدأ محذوف أو فاعلُ تعالى وإظهارُه في موضعِ الإضمارِ لتعليلِ الحكمِ وتوسيطُ الظرفِ بينه وبين الفعل للاهتمام ببيانه أو مبتدأٌ خبرُه قوله تعالى ﴿أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ﴾ وهو على الأولَيْن جملة مستقلة مسوقة كما قبلها لبيان استحالةِ ما نسبوه إليه تعالى وتقرير تنزُّهِه عنه وقوله تعالى ﴿وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صاحبة﴾ حال مؤكدةٌ للاستحالة المذكورة فإن انتفاءَ أن يكون له تعالى صاحبةٌ مستلزمٌ لانتفاءِ أن يكونَ له ولدٌ ضرورةَ استحالة وجودِ الولدِ بلا والدة وإن أمكن وجودُه بلا والد وانتفاءُ الأولِ مما لا ريبَ فيه لأحد فمن ضرورته انتفاءُ الثاني أي من أين أو كيف يكون له ولد كما زعموا والحالُ أنه ليس له على زعمهم أيضاً صاحبةٌ يكون الولدُ منها وقرىء لم يكنْ بتذكير الفعل للفصل أو لأن الاسمَ ضميرُه تعالى والخبرُ هو الظرفُ وصاحبةٌ مرتفعٌ به على الفاعليةِ لاعتماده على المبتدإ أو الظرفُ خبرٌ مقدمٌ وصاحبةٌ مبتدأٌ مؤخرٌ والجملةُ خبرٌ للكون وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون الاسمُ ضميرَ الشأنِ لصلاحية الجملةِ حينئذ لأن تكونَ مفسِّرةً لضمير الشأنِ لا على الوجه الأولِ لما بُيِّن في موضعِه أن ضميرَ الشأنِ لا يفسَّر إلا بجملة صريحةٍ وقوله تعالى ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَىْء﴾ إما جملةٌ مستأنفةٌ أخرى سيقت لتحقيق ما ذُكر من الاستحالة أو حالٌ أخرى مقرِّرةٌ لها أي أنى يَكُونُ لَهُ ولدٌ والحالُ أنه خلق كلَّ شيءٍ انتظمه التكوينُ والإيجادُ من الموجودات التي من جملتها ما سمَّوْه ولداً له تعالى فكيفَ يتُصورُ أن يكونَ المخلوقُ ولداً لخالقه ﴿وَهُوَ بِكُلّ شَىْء﴾ مِنْ شأنه أن يُعلم كائناً ما كان مخلوقاً أو غيرَ مخلوق كما ينبىء عنه ترك افضمار إلى الإظهار ﴿عَلِيمٌ﴾ مبالغٌ في العلمِ أزلاً وأبداً حسبما يعرب عنه العجول إلى الجملة الاسميةِ فلا يخفى عليه خافيةٌ ممَّا كانَ وما سيكونُ من الذوات والصفاتِ والأحوالِ التي من جملتها ما يجوز عليه تعالى ما لا يجوز من المُحالات التي ما زعموه فردٌ من أفرادها والجملةُ استئنافٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبلها من الدلائل القاطعة ببطلان مقالته الشنعاء التي اجترءوا عليها بغير علم
169
﴿ذلكم﴾ إشارةٌ إلى المنعوتُ بما ذُكر من جلائل النعوتِ وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو شأنِ المُشَارِ إليهِ وبُعْدِ منزلتِه في العظمة والخطابُ للمشركين المعهودين بطريق الالتفاتِ وهو مبتدأُ وقولُه تعالى ﴿الله رَبُّكُمْ لا إله إِلاَّ هُوَ خالق كُلّ شَىْء﴾ أخبارٌ أربعةٌ مترادفةٌ أي ذلك الموصوفُ بتلك الصفاتِ العظيمةِ هو الله المستحِقُّ للعبادة خاصةً مالكُ أمرِكم لا شريك له أصلاً خالقُ كلِّ شيءٍ مما كانَ ومما سيكون فلا تكرارَ إذ المعتبرُ في عنوان الموضوعِ إنما هو خالقيتُه لما كان فقط كما يُنبىء عنه صيغةُ الماضي وقيل الخبرُ هو الأولُ والبواقي أبدالٌ وقيل الاسمُ الجليلُ بدلٌ من المبتدأ والبواقي أخبارٌ وقيل يقدر لكلَ من الأخبار الثلاثةِ مبتدأٌ وقيل يُجعل الكلُّ بمنزلة اسمٍ واحد وقولُه تعالى ﴿فاعبدوه﴾ حكم مترتبٌ على مضمون الجملة فإن مَنْ جمع هذه الصفاتِ كان هو المستحقُّ للعبادة خاصة وقولُه تعالى ﴿وَهُوَ على كُلّ شَىْء وَكِيلٌ﴾ عطفٌ على الجملة
169
الأنعام ١٠٣ ١٠٥
المتقدمة أي هو مع ما فُصل من الصفاتِ الجليلةِ متولي أمورِ جميعِ مخلوقاتِه التي أنتم من جملتها فكِلوا أمورَكم إليه وتوسلوا بعبادته إلى نجاح مآربِكم الدنيويةِ والأخروية
170
﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الابصار﴾ البصرُ حاسةُ النظرِ وقد تطلق على العين من حيث أنها محلُّها وإدراكُ الشيءِ عبارةٌ عن الوصول إليه والإحاطةِ به أي لا تصِل إليه الأبصارُ ولا تُحيط به كما قال سعيدُ بنُ المسيِّب وقال عطاء كانت أبصارُ المخلوقين عن الإحاطة به فلا مُتمسَّك فيه لمنكري الرؤيةِ على الإطلاق وقد رُوي عن ابن عباس ومقاتل رضي الله عنهم لا تدركه الأبصارُ في الدنيا وهو يُرى في الآخرة ﴿وَهُوَ يُدْرِكُ الابصار﴾ أي يحيطُ بها علمُه إذ لا تَخفى عليهِ خافيةٌ ﴿وَهُوَ اللطيف الخبير﴾ فيدركه ما لا تدركه الأبصارُ ويجوز أن يكون تعليلاً للحُكمين السابقين على طريقة االف أي لا تدركه الأبصارُ لأنه اللطيفُ وهو يدرك الأبصارَ لأنه الخبيرُ فيكون اللطيفُ مستفاداً من مقابل الكثيفِ لما لا يُدرك بالحاسة ولا ينطبع فيها وقولُه تعالى
﴿قَدْ جَاءكُمْ بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ﴾ استئنافٌ وارد على لسان النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم والبصائرُ جمعُ بصيرةٍ وهي النورُ الذي به تستبصِرُ النفسُ كما أنَّ البصرَ نورٌ به تبصِرُ العين والمرادُ بها الآيةُ الواردةُ ههنا أو جميع الآيات المنتظمةِ لها انتظاماً أولياً ومِنْ لابتداء الغايةِ مجازاً سواءٌ تعلقت بجاء أو بمحذوف هو صفة لبصائر والتعرضُ لعنوانِ الربوبيةِ مع الإضافةِ إلى ضميرِ المخاطبينَ لإظهار كمل اللطف بهم أي أي قد جاءكم من جهة مالككم ومبلِّغِكم إلى كمالكم اللائقِ بكم من الوحي الناطقِ بالحق والصوابِ ما هو كالبصائر للقلوب أو قد جاءكم بصائرُ كائنةٌ من ربكم ﴿فَمَنْ أَبْصَرَ﴾ أي الحقَّ بتلك البصائرِ وآمن به ﴿فَلِنَفْسِهِ﴾ أي فلنفسه أبصر أو فإبصارُه لنفسه لأن نفعَه مخصوصٌ بها ﴿وَمَنْ عَمِىَ﴾ أي ومن لم يبصر الحقَّ بعد ما ظهر له بتلك البصائرِ ظهوراً بيِّناً وضلَّ عنه وإنما عبّر عنه بالعمى تقبيحاً له وتنفيراً عنه ﴿فَعَلَيْهَا﴾ أي فعليهات عمِي أو فعَماهُ عليها أو وبال عماه ﴿وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ﴾ وإنما أنا منذر والله هو الذي يحفظ أعمالَكم ويجازيكم عليها
﴿وكذلك نُصَرّفُ الايات﴾ أي مثلَ ذلك التصريفِ البديعِ نصرِّف الآياتِ الدالةَ على المعاني الرائقةِ الكاشفةِ عن الحقائق الفائقةِ لا تصريفاً أدنى منه وقوله تعالى ﴿وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ﴾ علةٌ لفعل قد حُذف تعويلاً على دلالة السباق عليه أي وليقولوا درست نفعلُ ما نفعل من التصريفِ المذكورِ واللامُ للعاقبة والواو اعتراضيةٌ وقيل هي عاطفةٌ على علة محذوفةٍ واللام متعلقةٌ بنُصرِّف أي مثلَ ذلك التصريفِ نصرِّف الآياتِ لنُلزِمَهم الحجةَ وليقولوا الخ وقيل اللام لامُ الأمرِ وتنصُره القراءةُ بسكون اللامِ كأنه قيل وكذلك نصرف الآياتِ وليقولوا هم ما يقولون فإنه لا احتفالَ بهم ولا اعتدادَ بقولهم وهذا أمرٌ معناه الوعيدُ والتهديدُ وعدمُ الاكتراثِ بقولهم ورُدَّ عليه بأن ما بعده يأباه ومعنى درست قرأتَ وتعلمات وقُرىء دارسْتَ أي دارستَ العلماء ودرست أي قدمت
170
الأنعام آية ١٠٦ ١٠٨
هذه الآياتُ وعفَت كما قالُوا أساطيرُ الأوَّلينَ ودَرُسَت بضم الراءِ مبالغةً في درَست أي اشتد دروسُها ودُرست على البناء للمفعول بمعنى قُرئت أو عُفِيت ودارَسَتْ وفسروها بدارست اليهودُ محمدا ﷺ وجاز الإضمارُ لاشتهارهم بالدراسة وقد جُوز إسنادُ الفعل إلى الآيات وهو في الحقيقة لأهلها أي دارسَ أهلُ الآيات وحَمَلتُها محمداً ﷺ وهم أهلُ الكتاب ودرَسَ أي درَسَ محمدٌ ودارِسات أي هي دارساتٌ أي قديمات أو ذاتُ دَرْسٍ كعيشة راضية وقوله تعالى ﴿وَلِنُبَيّنَهُ﴾ عطفٌ على ليقولوا واللام على الأصل لأن التبيينَ غايةُ التصريفِ والضميرُ للآيات باعتبار المعنى أو للقرآن وإن لم يُذكر أو للمصدر أي ولِنفعلَ التبيينَ واللامُ في قوله تعالى ﴿لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ متعلقةٌ بالتبيين وتخصيصُه بهم لما أنهم المنتفِعون بِهِ قال ابنُ عبَّاسٍ هم أولياؤُه الذين هداهم إلى سبيل الرشادِ ووصفُهم بالعلم للإيذان بغاية جهلِ الأولين وخلوِّهم عن العلم بالمرة
171
﴿اتبع مَا أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِنَ رَّبّكَ﴾ لما حُكي عن المشركين قدحُهم في تصريف الآياتِ عُقِّب ذلك بأمره ﷺ بالثبات على ما هو عليه وبعدم الاعتدادِ بهم وبأباطيلهم أي دُمْ على ما أنت عليه من اتباع مَا أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِنَ الشرائع والأحكامِ التي عُمدتُها التوحيدُ وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره ﷺ من إظهار اللطفِ به ما لا يَخْفى وقوله تعالى ﴿لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾ اعتراضٌ بين الأمرين المتعاطفَين مؤكِّدٌ لإيجاب اتباعِ الوحي لا سيِّما في أمرِ التوحيدِ وقد جُوز أن يكون حالاً من ربك أي منفرداً في الألوهية ﴿وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين﴾ لا تحتفِلْ بهم وبأقاويلهم الباطلةِ التي من جُملتِها ما حُكي عنهم آنفاً ومن جعله منسوخاً بآية السيفِ حَمل الإعراضَ على ما يعُمّ الكفَّ عنهم
﴿وَلَوْ شَاء الله﴾ أي عدمَ إشراكِهم حسبما هو القاعدةُ المستمرةُ في حذفِ مفعولِ المشيئةِ من وقوعها شرطاً وكونِ مفعولِها مضمونَ الجزاء ﴿مَا أَشْرَكُواْ﴾ وهذا دليلٌ على أنَّه تعالى لا يريد إيمانَ الكافرِ لكنْ لا بمعنى أنَّه تعالى يمنعه عنه مع توجّهِه إليه بل بمعنى أنه تعالى لا يريده منه لعدم صرفِ اختيارِه الجزئيِّ نحوَ الإيمان وإصرارِه على الكفر والجملةُ اعتراضٌ مؤكد للإعراض وكذا قولُه تعالى ﴿وَمَا جعلناك عَلَيْهِمْ حَفِيظاً﴾ أي رقيباً مهيمناً مِنْ قِبلنا تحفظ عليهم أعمالَهم وكذا قولُه تعالى ﴿وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ﴾ من جهتهم تقوم بأمورهم وتدبر مصالِحَهم وعليهم في الموضعين متعلقٌ بما بعده قد عليه للاهتمام به أو لرعاية الفواصل
﴿وَلاَ تَسُبُّواْ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله﴾ أي لا تشتُموهم من حيث عبادتُهم لآلهتهم كأن تقولوا تباً لكم ولما تعبُدونه مثلاً ﴿فَيَسُبُّواْ الله عَدْواً﴾ تجاوزاً عن الحق إلى الباطل بأن يقولوا لكم مثلَ قولِكم لهم ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ أي بجهالة بالله تعالى وبما يجب أن يذكر
171
الأنعام آية ١٠٩
به وقرىء عُدُوّاً يقال عدا يعدو وعُدُوّاً وعِداء وعُدْواناً روي أنهم قالُوا لرسول الله ﷺ عند نزول قوله تعالى إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ لتنتهِيَنَّ عن سب آلهتِنا ولنهجون إلهك وقيل كان المسلمون يسبّونهم فنُهوا عن ذلك لئلا يستتبِعَ سبُّهم سبَّه سبحانه وتعالى وفيه أن الطاعةَ إذا أدتْ إلى معصية راجحةٍ وجب تركُها فإن ما يؤدي إلى الشر شرٌّ ﴿كذلك﴾ أي مثلَ ذلك التزيينِ القويِّ ﴿زَيَّنَّا لِكُلّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ﴾ من الخير والشر بإحداث ما يُمكّنهم منه ويحمِلُهم عليه توفيقاً أو تخذيلاً ويجوز أن يُراد بكل أمة أمم الكفرة إذا الكلامُ فيهم وبعملهم شرُّهم وفسادُهم والمشبَّه به تزيينُ سبِّ الله تعالى لهم ﴿ثُمَّ إلى رَبّهِمْ﴾ مالك أمره ﴿مرجعهم﴾ أي رجوعهم بالبعث بعد الموت ﴿فَيُنَبّئُهُمْ﴾ من غير تأخير ﴿بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ في الدنيا على الاستمرار من السيئات المزيَّنةِ لهم وهو وعيدٌ بالجزاء والعذاب كقول الرجل لمن يتوعده سأخبرك بما فعلت وفيه نكتةٌ سِرّية مبنيةٌ على حِكمة أبيةٍ وهي أن كلَّ ما يظهر في هذه النشأةِ من الأعيان والأعراضِ فإنما يظهر بصورة مستعارةٍ مخالفةٍ لصورته الحقيقية التي بها يظهر في النشأة الآخرة فإن المعاصي سمون قاتلةٌ قد برزت في الدنيا بصورةٍ ما تستحسنها نفوسُ العصاة كما نطقت به هذه الآيةُ الكريمة وكذا الطاعاتُ فإنها مع كونها أحسن الأحاسن قد ظهرت عندهم بصورة مكروهةٍ لذلك قال ﷺ حُفّتِ الجنَّةُ بالمكاره وحُفّتِ النارُ بالشهواتِ فأعمال الكفرةِ قد برزت لهم في النشأة بصورة مزيَّنةٍ يستحسنها الغُواةُ ويستحبّها الطغاةُ وستظهر في النشأة الآخرةِ بصورتها الحقيقيةِ المنكرةِ الهائلةِ فعند ذلك يعرِفون أن أعمالهم ماذا عبر عن إظهارها بصورها الحقيقة بالإخبار بها لمَا إنَّ كُلاًّ منهُمَا سببٌ للعلم بحقيقتها كما هي فلْيُتدبر قولِه تعالى
172
﴿وَأَقْسَمُواْ بالله﴾ روي أن قريشاً اقترحوا بعضَ آيات فقال رسول الله ﷺ فإن فعلت بعذ ما تقولون أتصدّقونني فقالوا نعم وأقسموا لئن فعلتَه لنؤمنن جميعاً فسأل المسلمون رسولَ الله ﷺ أن ينزلها طمعاً في إيمانهم فهم ﷺ بالدعاء فنزلت وقوله تعالى ﴿جَهْدَ أيمانهم﴾ مصدرٌ في موقعِ الحالِ أي أقسمُوا به تعالى جاهدين في أيمانهم ﴿لئن جاءتهم آية﴾ من مقترحاتهم أو من جنس الآياتِ وهو الأنسبُ بحالهم في المكابرة والعناد وترامي أمرِهم في العتو والفساد حيث كانوا لا يعُدّون ما يشاهدونه من المعجزات الباهرةِ من جنس الآيات ﴿لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا﴾ وما كان مَرْمى غرضِهم في ذلك لا التحكمَ على رسُولِ الله صَلَّى الله عليه وسلم في طلب المعجزةِ وعدم الاعتدادِ بما شاهدوا منه من البينات الحقيقةِ بأن تُقطعَ بها الأرضُ وتُسيَّر بها الجبالُ ﴿قُلْ إِنَّمَا الايات﴾ أي كلُّها فيدخُل فيها ما اقترحوه دخولاً أولياً ﴿عَندَ الله﴾ أي أمرُها في حُكمه وقضائِه خاصةً يتصرف فيها حسبَ مشيئتِه المبنيةِ على الحكم البالغةِ لا تتعلق بها ولا بشأن من شئونها قُدرةُ أحدٍ ولا مشيئتُه لا استقلالاً ولا اشتراكاً بوجه من الوجوه حتى يُمكِنَني أن أتصدّى لاستنزالها بالاستدعاء وهذا كما ترى سدٌّ لباب الاقتراحِ على أبلغ وجه وأحسنه
172
الأنعام آية ١١٠
ببيان علوِّ شأن الآياتِ وصعوبةِ منالِها وتعاليها من أن تكون عُرضةً للسؤال والاقتراحِ وأما ما قيل من أن المعنى إِنَّمَا الآياتُ عِندَ الله تعالَى لاَ عندي فكيف أُجيبكم إليها وآتيكم بها وهو القادِرُ عليها لا أنا حتى آتِيَكم بها فلا مناسبةَ له بالمقام كيف لا وليس مقترَحُهم مجيئها بغير قدرةِ الله تعالى وغرادته حتى يجابوا بذلك وقوله تعالى ﴿وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إذا جاءت لا يؤمنون﴾ كلامٌ مستأنفٌ غيرُ داخلٍ تحت الأمرِ مَسوقٌ من جهتِه تعالَى لبيان الحكمةِ الداعيةِ إلى ما أشعر به الجوابُ السابقُ من عدم مجيءِ الآياتِ خوطب به المسلمون إما خاصةً بطريق التلوينِ لمّا كانوا راغبين في نزولها طمعاً في إسلامهم وإما معه ﷺ بطريق التعميم لما روي عنه ﷺ من الهم بالدعاء وقد بُيّن فيه أن أيْمانَهم فاجرةٌ وإيمانُهم مما لا يدخلُ تحتَ الوجودِ وإن أجيب إلى ما سألوه وما استفهاميةٌ إنكاريةٌ لكن لا على أن مرجِعَ الإنكارِ هو وقوعُ المشعَرِ به بل هو نفسُ الإشعارِ مع تحقق المشعَرِ به في نفسه أي وأيُّ شيءٍ يُعلِمُكم أن الآيةَ التي يقترحونها إذا جاءت لا يؤمنون بل يبقَوْن على ما كانُوا عليهِ من الكفر والعناد أي لا تعلمون ذلك فتتمنّون مجيئها طمعاً في إيمانهم فكأنه بسطُ عذرٍ من جهة المسلمين في تمنيهم نزولَ الآياتِ وقيل لا مزيدةٌ فيتوجه الإنكارُ إلى الإشعار والمشعر به جميعاً أي أيُّ شيءٍ يعلمكم إيمانَهم عند مجيءِ الآياتِ حتى تتمنَّوا مجيئها طمعاً في إيمانهم فيكونُ تخطئةً لرأي المسلمين وقيل أنّ بمعنى لعل يقال ادخُل السوقَ أنك تشتري اللحمَ وعنك وعلّك ولعلك كلُّها بمعنى ويؤيده أنه قرىء لعلها إذا جاءت لا يؤمنون على أنَّ الكلامَ قد تمّ قبله والمفعولُ الثاني ليُشعرَكم محذوفٌ كما في قوله تعالى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يُزَكّى والجملة استئنافٌ لتعليل الإنكار وتقريرِه أي أيُّ شيءٍ يعلمكم حالَهم وما سيكون عند مجيءِ الآياتِ لعلها إذا جاءت لا يؤمنون بها فمالكم تتمنون مجيئها فإن تمنيته إنما يليقُ بما إذا كان إيمانُهم بها محقَّقَ الوجودِ عند مجيئِها لا مرجوَّ العدم وقرىء إنها بالكسر على أنه استئنافٌ حسبما سبق مع زيادة تحقيقٍ لعدم إيمانِهم وقرىء لا تؤمنون بالفوقانية فالخطابُ في وما يشعركم للمشركين وقرىء وما يشعرهم أنها إذا جاءتهم لا يؤمنون فمرجِعُ الإنكارِ إقدامُ المشركين على الإقسام المذكورِ مع جهلهم بحال قلوبِهم عند مجيءِ الآياتِ وبكونها حينئذٍ كما هي الآن
173
﴿وَنُقَلّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وأبصارهم﴾ عطفٌ على لا يؤمنون داخلٌ في حكم ما يشعركم مقيدٌ بما قُيِّد به أي وما يُشعرُكم أنا نقلّب أفئدتَهم عن إدراك الحقِّ فلا يفقهونه وأبصارَهم عن اجتلائه فلا يُبصرونه لكن لا مَعَ توجهها إليها واستعدادِها لقبوله بل لكمال نُبوِّها عنه وإعراضِها بالكلية ولذلك أخِّر ذكرُه عن ذكر عدمِ إيمانِهم إشعاراً بأصالتهم في الكفر وحما لتوهُّم أن عدم إيمانِهم ناشىءٌ من تقليبه تعالى مشاعرَهم بطريق الإجبار ﴿كَمَا لم يُؤْمِنُواْ بِهِ﴾ أي بما جاء من الآيات ﴿أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ أي عند ورودِ الآياتِ السابقةِ والكافُ في محل النصب على أنَّه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ منصوبٌ بلا يؤمنون وما مصدريةٌ أي لا يؤمنون بل يكفرون كفراً كائناً ككفرهم أولَ مرةٍ وتوسيطُ تقليبِ الأفئدةِ والأبصارِ بينهما لأنه من متمّمات عدمِ إيمانهم ﴿ونذرهم﴾ عكف على لا يؤمنون داخلٌ في حكم الاستفهامِ الإنكاريِّ مقيدٌ بما قُيِّد به مبيِّنٌ لما هو المرادُ بتقليب الأفئدة
173
الأنعام آية ١١١
والأبصار ومعْرِبٌ عن حقيقته بأنه ليس على ظاهره بأن يُقلِّب الله سبحانه مشاعِرَهم عن الحق مع توجههم إليه واستعدادِهم له بطريق الإجبارِ بل بأن يُخلِّيَهم وشأنَهم بعد ما عُلم فسادُ استعدادِهم وفرطُ نفورِهم عن الحق وعدمُ تأثيرِ اللطفِ فيهم أصلاً ويطبَعُ على قلوبهم حسبما يقتضيه استعدادُهم كما أشرنا إليه وقوله تعالى ﴿فِي طغيانهم﴾ متعلِّقٌ بنذرهم وقوله تعالى ﴿يَعْمَهُونَ﴾ حالٌ من الضميرِ المنصوبِ في نذرهم أي ندعُهم في طغيانهم متحيِّرين لا نهديهم هدايةَ المؤمنين أو مفعولٌ ثانٍ لنذرُهم أي نصيِّرهم عامِهين وقرىء يُقلِّب ويَذَرُ بالياءِ على إسنادِهما إلى ضمير الجلالةِ وقرىء تُقلَّبُ بالتاء والبناءِ للمفعول على إسناده إلى أفئدتهم
174
﴿وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الملائكة﴾ تصريحٌ بما أَشعَرَ به قولُه عزَّ وجلَّ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ منَ الحكمةِ الداعيةِ إلى ترك الإجابةِ إلى ما اقترحُوه من الآيات إثرَ بيانِ أنها في حكمه تعالى وقضائه المبنيِّ على الحِكَم البالغةِ لا مدخلَ لأحد في أمرها بوجه من الوجوه وبيانٌ لكذبهم في أيْمانهم الفاجرةِ على أبلغِ وجهٍ وآكَدِه أي ولو أننا لم نقتصِرْ على إيتاء ما اقترحوه ههنا من آية واحدةٍ من الآيات بل نزلنا إليهم الملائكةَ كما سألوه بقولهم لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا المَلائِكَةُ وقولِهم لَّوْ مَا تَأْتِينَا بالملائكة ﴿وَكَلَّمَهُمُ الموتى﴾ وشهدوا بحقية الإيمانِ بعد أن أحييناهم حسبما اقترحوه بقولهم فأتوا بأبائنا ﴿وحشرنا﴾ أي جميعا ﴿عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْء قُبُلاً﴾ بضمتين وقرىء بسكون الباء أي كفلاء بصحة الأمر وصدق النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم على أنه جمع قبيل بمعنى الكفيل كرغيف ورُغُف وقضيب وقُضُب وهو الأنسبُ بقولِه تعالى أَوْ تَأْتِىَ بالله والملائكة قَبِيلاً أي لو لم نقتصر على ما اقتحوه بل زدنا على ذلك بأ أحضرنا لديهم كلَّ شيءٍ يتأتّى منه الكفالةُ والشهادةُ بما ذُكر لا فرادى بل بطريق المعيةِ أو جماعاتٍ على أنه جمعُ قبيل وهو الأوفق لعموم كلِّ شيءٍ وشمولِه للأنواع والأصنافِ أي حشرنا كلَّ شيء نوعاً نوعاً وصنفاً صنفاً وفوجاً فوجاً وانتصابُه على الحالية وجمعيتُه باعتبار الكل المجموعيِّ اللازمِ للكل الإفراديِّ أو مقابلةً وعِياناً على أنه مصدرٌ كقِبَلا وقد قرىء كذلك وانتصابُه على الوجهين على أنه مصدرٌ في موقعِ الحالِ وقد نقل عن المبرِّد وجماعةٍ من أهل اللغة أن الأخيرَ بمعنى الجهة كما في قولك لي قِبَلَ فلانٍ حقٌّ وأن انتصابَه على الظرفية ﴿مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ﴾ أي ما صح وما استقام لهم الإيمانُ لتماديهم في العصيان وغلوِّهم في التمرد والطُّغيانِ وأما سبق القضاءُ عليهم بالكفر فمن الأحكامِ المترتبةِ على ذلك حسبما ينبيء عنه قوله عز وجل وَنَذَرُهُمْ فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ وقوله تعالى ﴿إَّلا أَن يشاء الله﴾ استثناءٌ مفرَّغٌ من أعم الأحوالِ والالتفاتُ إلى الإسم الجليل لتربية المهابةِ وإدخالِ الروعة أي ما كانوا ليؤمنوا بعد اجتماعِ ما ذُكِرَ منَ الأمورِ الموجبةِ للإيمان في حالٍ من الأحوالِ الداعيةِ إليه المتمِّمة لموجباته المذكورةِ إلا في حال مشيئتِه تعالى لإيمانهم أو من أعمِّ العللِ أي ما كانوا ليؤمنوا لعلة من العلل المعدودةِ وغيرِها إلا لمشيئته تعالى له وأيا ما كان فليس المرادُ بالاستثناء بيانَ أن إيمانَهم على خطر الوقوعِ بناءً على كون مشيئته
174
الأنعام آية ١١٢
تعالى أيضاً كذلك بل بيانَ استحالةِ وقوعِه بناءً على استحالة وقوعِها كأنه قيل ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله وهيهات ذلك وحالهم حال بدليل ما سبقَ من قولِه تعالى وَنُقَلّبُ أَفْئِدَتَهُمْ الآية كيف لا وقولُه عز وجل ﴿ولكن أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ﴾ استدراكٌ من مضمون الشرطيةِ بعد ورودِ الاستثناءِ لا قبله ولا ريب في أن الذي يجهلونه سواءٌ أريد بهم المسلمون وهو الظاهرُ أو المُقسِمون ليس عدمَ إيمانِهم بلا مشيئة الله تعالى كما هو اللازمُ من حمل النظمِ الكريمِ على المعنى الأولِ فإنه ليس مما يعتقده الأولون ولا مما يدّعيه الآخَرون بل إنما هو عدمُ غيمانهم لعدم مشيئته غيمانهم ومرجعه إلى جهلهلم بعدم مشيئته غياه فالعمنى أن حالَهم كما شُرح ولكن أكثر المسلمين يجهلون عدم غيمانهم عند مجيء الآيات لجهلهم عدمَ مشيئتِه تعالى لإيمانهم فيتمنَّوْن مجيئَها طمعاً فيما لا يكون فالجملةُ مقرِّرةٌ لمضمون قوله تعالى وَمَا يُشْعِرُكُمْ الخ على القراءة المشهورة أو ولكن أكثرَ المشركين يجهلون عدمَ إيمانِهم عند مجيء الآيات لجهلهم عدمَ مشيئتِه تعالى لإيمانهم حينئذ فيقسمون بالله جهد أيمانهم على ما لا يكاد يكونُ فالجملةُ على القراءة السابقةِ بيانٌ مبتدأٌ لمنشأ خطأ المقسِمين ومناطِ إقسامهم وتقريرٌ له على قراءة لا تؤمنون بالتاء الفوقانية وكذا على قراءة ما يشعرهم أنها إذا جاءتهم لا يؤمنون
175
﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِىّ عَدُوّاً﴾ كلامٌ مبتدأٌ مَسوقٌ لتسليةِ رسولِ الله ﷺ عما كان يشاهده من عداوة قريش له عليه الصلاة والسلام وما بنَوْا عليها مما لا خير فيه من الأقاويل والأفاعيلِ ببيان أن ذلك ليس مختصاً بك بل هو أمرٌ ابتُليَ به كلُّ من سبَقك من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ومحلُّ الكافِ النصبُ على أنَّه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ أشير إليه بذلك منصوب بفعله المحذوف مؤكذا لما بعده وَذَلِكَ إشارةٌ إلى ما يفهم مما قبله أي جَعَلْنَا لِكُلّ نبيَ عَدُوّاً والتقديمُ على الفعل المذكورِ للقصر المفيدِ للمبالغة أي مثلَ ذلك الجعلِ الذي جعلنا في حقك حيث جعلنا لك عدواً يُضادُّونك ويضارُّونك ولا يؤمنون ويبغونك الغوائلويدبرون في إبطال أمرِك مكايدَ جعلنا لكل نبيَ تقدمَك عدواً فعلوا بهم ما فعل بك أعداؤُك لا جعلاً أنقصَ منه وفيه دليلٌ على أنَّ عداوةَ الكفرةِ للأنبياء عليهم السلام بخلقه تعالى للابتلاء ﴿شياطين الإنس والجن﴾ أي مَرَدةَ الفريقين على أن الإضافةَ بمعنى مِنْ البيانية وقيل هي إضافةُ الصفةِ إلى الموصوف والأصلُ الإنسُ والجنُّ الشياطين وقيل هي بمعنى اللام أي الشياطين التي للإنس والتي للجن وهو بدلٌ من عدواً والجَعلُ متعدٍ إلى واحد أو إلى اثنين وهو أولُ مفعوليْه قُدِّم عليه الثاني مسارعةً إلى بيان العداوةِ واللام على التقديرين متعلقةٌ بالجعل أو بمحذوفٍ هو حالٌ من عدواً وقوله تعالى ﴿يوحى بعضهم إلى بعض﴾ كلامٌ مستأنفٌ مسوقٌ لبيانِ أحكامِ عداوتِهم وتحقيقُ وجهِ الشبهِ بين المشبهِ والمشبَّه به أو حالٌ من الشياطين أو نعتٌ لعدواً وجمعُ الضميرِ باعتبار المعنى فإنه عبارةٌ عن الأعداء كما في قوله... إذَا أنا لم أنفعْ صديقي بودّه فإن عدوِّي لم يضُرَّهمو بغضي والوحيُ عبارةٌ عن الإيماء والقول السريعِ أي يلقى
175
الأنعام ١١٣ ١١٤
ويوسوس شياطينُ الجنِّ إلى شياطينِ الإنسِ أو بعضُ كلَ من الفريقين إلى بعض آخَرَ ﴿زُخْرُفَ القول﴾ أي المموَّهَ منه المزيَّنَ ظاهرُه الباطلَ باطنُه من زخرفه إذ زيّنه ﴿غُرُوراً﴾ مفعول له ليوحي أي ليغرهم أو مصدرٌ في موقعِ الحال أي غارّين أو مصدر مؤكد لفعل مقدر هو حال من فاعل يوحى أي يغرونغرورا ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ﴾ رجوعٌ إلى بيان الشئون الجارية بينه ﷺ وبين قومِه المفهومةِ من حكايةِ ما جَرَى بينَ الأنبياء عليهم السلام وبيم أُممِهم كما يُنْبىءُ عنه الالتفاتُ والتعرضُ لوصفِ الربوبيةِ مع الإضافةِ إلى ضميره ﷺ المُعرِبة عن كمال اللطفِ في التسلية أي ولو شاء ربُّك عدمَ الأمورِ المذكورةِ لا إيمانَهم كما قيل فإن القاعدةَ المستمرةَ أن مفعولَ المشيئةِ إنما يحذف عند وقوعِها شرطاً وكونِ مفعولِها مضمونَ الجزاء وهو قوله تعالى ﴿مَّا فَعَلُوهُ﴾ أي ما فعلوا ما ذكر من عداوتك وإيحاءِ بعضهم إلى بعض مزخرفاتِ الأقاويلِ الباطلةِ المتعلقةِ بأمرك خاصة لا بما يعمّه وأمورَ الأنبياءِ عليهم السلام أيضاً كما قيلَ فإنَّ قولَه تعالى ﴿فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾ صريحٌ في أنَّ المرادَ بهم الكفرةُ المعاصرون له عليه الصلاة والسلام أي إذا كان ما فعلوه من أحكام عداوتِك من فنون المفاسد بمشيئته تعالى فاترُكْهم وافتراءَهم أو وما يفترونه من أنواع المكايدِ فإن لهم في ذلك عقوباتٍ شديدةً ولك عواقبُ حميدةٌ لابتناء مشيئتِه تعالى على الحِكَم البالغة البتة
176
﴿ولتصغى إِلَيْهِ﴾ أي إلى زُخرُفِ القولِ وهو على الوجه الأولِ علة أخرى للإيحاء معطوفةٌ على غروراً وما بينهما اعتراضٌ وإنما لم ينصَبْ لفقد شرطِه إذ الغرورُ فعلُ الموحي وصغْوُ الأفئدةِ فعلُ الموحى إليه أي يوحي بعضُهم إلى بعض زُخْرفَ القولِ ليغرهم به ولتميل إليه ﴿أَفْئِدَةُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالأخرة﴾ إنما خصَّ بالذكر عدمُ إيمانِهم بالآخرة دون ما عداها من الأمور التي يجب الإيمانُ بها وهم بها كافرون إشعاراً بما هو المدارُ في صغْو أفئدتِهم إلى ما يُلقى إليهم فإن لذّاتِ الآخرةِ محفوفةٌ في هذه النشأةِ بالمكاره وآلامُها مزينةٌ بالشهوات فالذين لا يؤمنون بها وبأحوال ما فيها لا يدرون أن وراءَ تلك المكاره لذات ودون الشهواتِ آلاماً وإنما ينظُرون إلى ما بدا لهم في الدنيا بادي الرأي فهم مضطرون إلى حبّ الشهواتِ التي من جملها مزخْرَفاتُ الأقاويلِ ومُموَّهاتُ الأباطيل وأما المؤمنون بها فحيث كانوا واقفين على حقيقة الحالِ ناظرين إلى عواقب الأمورِ لم يُتصوَّر منهم الميلُ إلى تلك المزخرَفاتِ لعلهم ببطلانها ووخامة عاقبتِها وأما على الوجهين الأخيرين فهو علةٌ لفعلٍ محذوف يدلُّ عليه المقامُ أي ولكون ذلك جعلنا ما جعلنا والمعتزلةُ جعلوا اللامَ لامَ العاقبةِ أو لام القسَم أو لامَ الأمر وضعفُه في غاية الظهور ﴿وَلِيَرْضَوْهُ﴾ لأنفسم بعد ما مالت إليه أفئدتهم ﴿وَلِيَقْتَرِفُواْ﴾ أي يكتسبوا بموجب ارتضائِهم له ﴿مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ﴾ له من القبائح التي لا يليق ذكرُها
﴿أَفَغَيْرَ الله أَبْتَغِى حَكَماً﴾ كلامٌ مستأنفٌ واردٌ على إرادة القول والهمزة
176
الأنعام آية ١١٤
للإنكار والفاء للعطف على مقدر يقتضيه الكلامُ أي قل لهم أأمِيلُ إلى زخارف الشياطينِ فأبتغيَ حكماً غيرَ الله يحكمُ بيننا ويفصل المحِقَّ منا من المبْطِل وقيل إن مشركي قريشٍ قالُوا لرسولِ الله ﷺ اجعل بيننا وبينك حكما من أحبار اليهود أو من أساقفة النصارى ليخبرَنا عنك بما في كتابهم من أمرك فنزلت وإسنادُ الابتغاءِ المنكرِ إلى نفسه ﷺ لا إلى المشركين كما في قوله تعالى أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ مع أنهم الباغون لإظهار كمالِ النَّصَفةِ أو لمراعاة قولِهم اجعل بيننا وبينك حكما وغيرَ إما مفعولُ أبتغي وحكَماً حالٌ منه وإما بالعكس وأياً ما كان فتقديمُه على الفعل الذي هو المعطوفُ بالفاء حقيقةً كما أشير إليه للإيذان بأن مدارالإنكار هو ابتغاءُ غيرِه تعالى حكماً لا مطلقُ الابتغاء وقيل حكماً تمييزٌ لما في غيرَ من الإبهام كقولهم إن لنا غيرَها إبلاً قالوا الحكَمُ أبلغُ من الحاكمِ وأدلُّ على الرسوخ لما أنه لا يُطلق إلا على العادل وعلى مَنْ تكرَّر منه الحكمُ بخلاف الحاكم وقوله تعالى ﴿وَهُوَ الذى أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الكتاب﴾ جملةٌ حاليةٌ مؤكدةٌ لإنكارِ ابتغاءِ غيرِه تعالى حكماً ونسبةُ الإنزالِ إليهم خاصةً مع أن مقتضى المقامِ إظهارُ تساوي نسبته إلى المتحاكمين لاستمالتعهم نحوَ المُنْزَل واستنزالِهم إلى قبول حكمه بإبهام قوةِ نسبتِه إليهم أي أغيرَه تعالى أبتغي حكَماً والحالُ أنه هو الذي أنزل غليكم وأنتم أمِّية لا تدرون ما تأتونَ وما تذرونَ القرآنَ الناطقَ بالحق والصوابِ الحقيقُ بأن يُخصَّ به اسمُ الكتاب ﴿مُفَصَّلاً﴾ أي مبيناً فيه الحقُّ والباطلُ والحلالُ والحرامِ وغيرُ ذلك من الأحكام بحيث لم يبْقَ في أمور الدينِ شيءٌ من التخليط والإبهامِ فأيُّ حاجة بعد ذلك إلى الحكم وهذا كما ترى صريحٌ في أن القرآنَ الكريمَ كافٍ في أمر الدينِ مغنٍ عن غيره ببيانه وتفصيلِه وأما أن يكون لإعجازه دخْلٌ في ذلك كما قيل فلا وقوله تعالى ﴿والذين آتيناهم الكتاب يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مّن رَّبّكَ بالحق﴾ كلامٌ مستأنفٌ غيرُ داخلٍ تحت القولِ المقدَّر مَسوقٌ من جهته سبحانه لتحقيق حقِّيةِ الكتابِ الذي نيط به أمرُ الحَكَمية وتقريرِ كونِه منزلا من عنده عزَّ وجلَّ ببيانِ أنَّ الذين وثِقوا بهم ورضوا بحَكَميّتهم حسبما نُقل آنفاً من علماء اليهودِ والنصارى عالمون بحقيته ونزولِه من عنده تعالى وفي التعبير عن التوراة والإنجيلِ باسم الكتابِ إيماءٌ إلى ما بينهما وبين القرآنِ من المجانسة المقتضيةِ للاشتراك في الحقية والنزولِ من عنده تعالى مع ما فيه من الإيجاز وإيراد الطائفتين بعنون إيتاءِ الكتابِ للإيذان بأنهم علِموه من جهة كتابِهم حيث وجدوه حسبما نُعت فيه وعاينوه موافِقاً له في الأصول ما لا يختف من الفروع ومُخبِراً عن أمور لا طريقَ إلى معرفتها سوى الوحي والمرادُ بالموصول إما علماءُ الفريقين وهو الظاهرُ فالإيتاءُ هو التفهيمُ بالفعل وإما الكلُّ وهم داخلون فيه دخولا أولياً فهو أعمُّ مما ذكر ومن التفهيم بالقوة ولا ريب في أن الكل متمكنون من ذلك وقبل المرادُ مؤمنوا أهلِ الكتاب وقرىء مُنْزلٌ من الإنزال والتعرضُ لعنوانِ الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضميره ﷺ لتشريفه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ والباء في قوله تعالى بالحق متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من الضَّمير المستكنِّ في مُنزّلٌ أي ملتبساً بالحق ﴿فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين﴾ أي في أنهم يعلمون ذلك لما لا تشاهِد منهم آثارَ العلم وأحكام المعرفة فالفاء لترتيب النهي على الإخبار بعلم أهل الكتاب بشأن القرآنِ أو في أنه منزلٌ من ربك بالحق فيكونُ منْ بابِ التَّهييج والإلهابِ كقوله تعالى وَلاَ تَكُونَنَّ من
177
الأنعام آية ١١٥ ١١٦
المشركين وقيل الخطابُ في الحقيقة للأمة وإن كان له ﷺ صورةً وقيلَ الخطابُ لكلِّ أحدٍ على معنى أن الأدلةَ قد تعاضدت وتظاهرت فلا ينبغي لأحد أن يمتريَ فيه والفاءُ على هذه الوجوهِ لترتيب النهي على نفس علمِهم بحال القرآن
178
﴿وتمت كلمة رَبّكَ﴾ شروعٌ في بيان كمالِ الكتابِ المذكورِ من حيث ذاتُه إثرَ بيانِ كمالِه من حيث إضافتُه إليه تعالى بكونه منزلاً منه بالحق وتحقيقُ ذلك بعلم أهلِ الكتاب به وإنما عبر عنه بالكلمة لأنها الأصلُ في الاتصاف بالصدق والعدلِ وبها تظهر الآثارُ من الحكم وقرىء كلماتُ ربك ﴿صِدْقاً وَعَدْلاً﴾ مصدران نصبا على الحال وقيل على التمييز وقيل على العلة وقوله تعالى ﴿لاَ مُبَدّلَ لكلماته﴾ إما استئنافٌ مبينٌ لفضلها على غيرها إثرَ بيانِ فضلِها في نفسها وإما حالٌ أخرى من فاعلِ تمت على أن الظاهرَ مغنٍ عن الضمير الرابطِ والمعنى أنها بلغت القاصيةَ صدقاً في الإخبار والمواعيدِ وعدلاً في الأقضية والأحكامِ لا أحدَ يبدل شيئاً من ذلك بما هو أصدقُ وأعدلُ ولا بما هو مثلُه فكيف يُتصوّر ابتغاءُ حكمٍ غيرِه تعالى ﴿وَهُوَ السميع﴾ لكل ما يتعلق به السميع ﴿العليم﴾ بكل ما يمكن أن يُعلم فيدخُلُ في ذلك أقوالُ المتحاكمين وأحوالُهم الظاهرةُ والباطنةُ دخولاً أولياً هذا وقد قيل المعنى لا أحدَ يقدِر على أن يحرِّفها كما فُعل بالتوراة فيكونُ ضماناً لها من الله عز وجل بالحفظ كقوله تعالى إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون أو لا نبيَّ ولا كتابَ بعدها ينسخها
﴿وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى الارض﴾ لما تحقق اختصاصهتعالى بالحكمية لاستقلاله بما يوجبها من إنزال الكتابِ الكاملِ الفاصلِ بين الحقِّ والباطلِ وتمامِ صدقِ كلامِه وكمالِ عدالةِ أحكامِه وامتناعِ وجودِ من يبدل شيئاً منها واستبدادِه تعالى بالإحاطة التامةِ بجميع المسموعات والمعلومات عقّب ذلك ببيان أن الكفرةَ متصفون بنقائض تلك الكمالاتِ من النقائض التي هي الضلالُ والإضلالُ واتباعُ الظنونِ الفاسدةِ الناشىءُ من الجهل والكذبِ على الله سبحانه وتعالى إبانةً لكمال مباينةِ حالِهم لما يرومونه وتحذيراً عن الرّكون إليهم والعملِ بآرائهم والمرادُ بمن في الأرض الناسُ وبأكثرهم الكفارُ وقيل أهلُ مكةَ والأرضُ أرضُها أي إن تُطِعهم بأن جعلتَ منهم حكَماً ﴿يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ الله﴾ عن الطريق الموصلِ إليه أو عن الشريعة التي شرعها لعباده ﴿إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن﴾ وهو ظمنهم أن آباءَهم كانوا على الحق فهم على آثارهم يهتدون أو جهالاتُهم وآراؤهم الباطلةُ على أن المرادَ بالظن ما يقابل العلم والجملةُ استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال نشأ من الشرطية كأنه قيل كيف يضلون فقيل لا يتبعون في أمور دينِهم إلا الظنَّ وإنّ الظنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ الحق شيئاً فيضلون ضلالاً مبيناً ولا ريبَ في أن الضالَّ المتصدّيَ للإرشاد إنما يُرشد غيرَه إلى مسلك نفسه فهو ضالون مضِلّون وقوله تعالى ﴿وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ﴾ عطف على ما قبله داخلٌ في حُكمهِ أيْ يكذِبون على الله سبحانه فيما ينسُبون إليه تعالى كاتخاذ الولد وجعل
178
الأنعام آية ١١٧ ١١٩
عبادةِ الأوثانِ ذريعةً إليه تعالى وتحليل الميتة زوتحريم البحائرِ ونظائرِها أو يقدّرون أنهم على شيء وأنّى لهم ذلك ودونه مناطُ العَيُّوقِ وحقيقتُه ما يقال عن ظن وتخمين
179
﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين﴾ تقريرٌ لمضمون الشرطيةِ وما بعدها وتأكيدٌ لما يفيده من التحذير أي هو أعلمُ بالفريقين فاحذر أن تكون من الأولين ومَن موصولةٌ أو موصوفةٌ في محل النصبِ لا بنفس أعلمُ فإن أفعلَ التفضيلِ لا ينصِبُ الظاهرَ في مثل هذه الصور بل بفعل دلَّ هو عليه أو استفهاميةٌ مرفوعة بالابتداء والخبرُ يَضِلّ والجملةُ معلقٌ عنها الفعلُ المقدر وقرىء يُضِل بضم الياء على أن من فاعلٌ ليُضِل ومفعولُه محذوفٌ ومحلها النصب بما ذكر من الفعل المقدر أي هو أعلم يعلم من يُضِل الناسَ فيكون تأكيد للتحذير عن طاعة الكفرةِ وأما أن الفاعلَ هو الله تعالى ومَنْ منصوبةٌ بما ذكر أي يعلم مَنْ يُضِلّه أو مجرورةٌ بإضافة أعلمإليها أي أعلمُ المُضِلّين مِنْ قوله تعالى مَن يُضْلِلِ الله أو من قولك أضللتُه إذا وجدتُه ضالاً فلا يساعده السباقُ والسياقُ والتفضيلُ في العلم بكثرته وإحاطتِه بالوجوه التي يمكن تعلّقُ العلمِ بها ولزومُه وكونُه بالذات لا بالغير
﴿فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ﴾ أمرٌ مترتبٌ على النهي عن اتباع المُضلّين الذين من جملة إضلالهم تحليل الحلال وتحريم الحرام وذلك أنهم كانوا يقولولن للمسلمين إنكم تعبدون الله فما قتله الله أحقُّ أن تأكُلوه مما قتلتم أنتم فقيل للمسلمين كلوا ممّا ذُكر اسمُه تعالى خاصة على ذبحه لا مما ذكر عليه اسمُ غيرِه فقط أو مع اسمه تعالى أو مات حتفَ أنفِه ﴿إِن كُنتُم بآياته﴾ التي منْ جُملتها الآياتُ الواردةُ في هذا الشأن ﴿مُّؤْمِنِينَ﴾ فإن الإيمانَ بها يقتضي استباحةَ ما أحله الله والاجتنابِ عما حرمه وجوابُ الشرطِ محذوفٌ لدلالة ما قبله عليه
﴿وما لكم ألا تأكُلوا مما ذكر اسم الله عَلَيْهِ﴾ إنكارٌ لأنْ يكونَ لهُم شيءٌ يدعوهم إلى الاجتناب عن أكل ما ذُكر عليه اسمُ الله تعالى من البحائر والسوائبِ ونحوِها وقوله تعالى ﴿وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم﴾ الخ جملةٌ حاليةٌ مؤكدةٌ للإنكار كما في قوله تعالى وَمَا لَنَا أَن لا نقاتل فِى سَبِيلِ الله وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن ديارنا وأبناءئنا أي وأيُّ سببٍ حاصلٍ لكُم في أَن لا تَأْكُلُواْ مِمَّا ذكر اسم الله عليه أو وأيُّ غرضٍ يحمِلُكم على أن لا تأكلوا ويمنعُكم من أكله والحالُ أنه قد فصل لكم ﴿مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ﴾ بقوله تعالى قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوْحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا الخ فبقي ما عدا ذلك على الحِلّ لا بقوله تعالى حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة الخ لأنها مدنية وأما التأخرُ في التلاوة فلا يوجبُ التأخّرَ في النزول وقُرِىءَ الفعلانِ على البناءِ للمفعول وقرىء الأول على البناء للفاعل والثاني للمفعول ﴿إِلاَّ مَا اضطررتم إِلَيْهِ﴾ مما حرّم فإنه أيضاً حلالٌ حينئذ ﴿وَإِنَّ كثيرا﴾ أي من
179
الأنعام آية ١٢٠ ١٢٢
الكفار ﴿لَّيُضِلُّونَ﴾ الناسَ بتحريم الحلالِ وتحليلِ الحرام كعمرو بن لحى وأضرا به وقرىء ﴿يَضِلّون﴾ بِأَهْوَائِهِم الزائغةِ وشهواتِهم الباطلة ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ مقتبسٍ من الشريعة الشريفة مستندٍ إلى الوحي ﴿إِنَّ رَّبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بالمعتدين﴾ المتجاوزين لحدود الحقِّ إلى الباطل والحلالِ إلى الحرام
180
﴿وَذَرُواْ ظاهر الإثم وَبَاطِنَهُ﴾ أي ما يُعلن من الذنوب وما يُسَرّ أو ما يعمل منها بالجوارح وما بالقلب وقيل الزنا في الحوانيت واتخاذ الأخدان ﴿إِنَّ الذين يَكْسِبُونَ الإثم﴾ أي يكتسبونه من الظاهر والباطن ﴿سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ﴾ كائناً ما كان فلا بد من اجتنابهما والجملةُ تعليلٌ للأمر
﴿وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ﴾ ظاهرٌ في تحريم متروكِ التسميةِ عمْداً كان أو نسياناً وإليه ذهب داودُ وعن أحمد بن جنبل مثلُه وقال مالك والشافعي بخلافهلقوله ﷺ ذبيحةُ المسلم حلالٌ وإن لم يذكر اسم الله عليه وفرق أبو حنيفة بين العمْد والنسيانِ وأوّله بالميتة أو بما ذكر عليه اسمُ غيرِه تعالى لقوله ﴿وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ﴾ فإن الفسقَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله والضميرُ لما ويجوز أن يكون للأكل المدلولِ عليه بلا تأكلوا والجملةُ مستأنفةٌ وقيل حالية ﴿وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَائِهِمْ﴾ المرادُ بالشياطين إبليسُ وجنودُه فإيحاؤهم وسوستُهم إلى المشركين وقيل مرَدةُ المجوسِ فإيحاؤهم إلى أولياؤهم ما أَنْهَوا إلى قريشٍ بالكتاب أن محمداً وأصحابَه يزعُمون أنهم يتبعون أمرَ الله ثم يزعُمون أن ما يقتلونه حلالٌ وما يقتله الله حرام ﴿ليجادلوكم﴾ أي بالوساوس الشيطانيةِ أو بما نقل من أباطيلِ المجوسوهو يؤيد التأويلَ بالميتة ﴿وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ﴾ في استحلالِ الحرامِ وساعدتموهم على أباطيلهم ﴿إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ ضرورةَ أن من ترك طاعةَ الله إلى طاعة غيرِه واتبعه في دينه فقد أشركه به تعالى بل آثرَه عليه سبحانه
﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا﴾ وقرىء ميِّتاً على الأصل ﴿فأحييناه﴾ تمثيلٌ مَسوقٌ لتنفير المسلمين عن طاعة المشركينإثر تحذريهم عنها بالإشارة إلى أنهم مستضيئون بأنوار الوحي الإلهي والمشركون خابطون في ظلمات الكفرِ والطغيانِ فكيف يُعقل إطاعتُهم لهم والهمزةُ للإنكارِ والنَّفيِ والواوُ لعطف الجملةِ الاسميةِ على مثلها الذي يدل عليه الكلامُ أي أأنتم مثلُهم ومَنْ كان ميتاً فأعطيناه الحياةَ وما يتبعُها منَ القوى المُدْرِكة والمحرِّكة ﴿وَجَعَلْنَا لَهُ﴾ مع ذلك من الخارج ﴿نُوراً﴾ عظيماً ﴿يَمْشِي بِهِ﴾ أي بسببه والجملةُ استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال نشأَ من الكلامِ كأنَّه قيل فماذا يصنع بذلك النورِ فقيل يَمْشِي بِهِ ﴿فِى الناس﴾ أي فيم بينهم آمِناً من جهتهم أو صفةٌ له ﴿كَمَن مَّثَلُهُ﴾ أي صفتُه العجيبةُ وهو مبتدأُ وقولُه تعالى ﴿فِى الظلمات﴾ خبرُه على أن
180
الأنعام آية ١٢٣
المرادَ بهما اللفظُ لا المعنى كما في قولك زيدٌ صفتُه اسمرُ وهذه الجملةُ صلةٌ لمن وهي مجرورةٌ بالكاف وهي مع مجرورها خبرٌ لمن الأولى وقوله تعالى ﴿لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا﴾ حالٌ من المستكن في الظرف وقيل من الموصول أي غيرُ خارجٍ منها بحال وهذا كما ترى مثل ما أريد به من بقي في الضلالة بحيث لا يفارقها أصلاً كما أن الأولَ مثَلٌ أريد به مَنْ خَلقه الله تعالى على فطرة الإسلامِ وهداه بالآيات البينةِ إلى طريق الحقِّ يسلُكه كيف يشاء لكن لا على أن يدل على كل واحدٍ من هذه المعاني بما يليقُ بهِ من الألفاظ الواردةِ في المثَلين بواسطة تشبيهِه بما يناسبه من معانيها فإن ألفاظَ المثَلِ باقيةٌ في معانيها الأصلية بل على أنه قد انتُزعت من الأمور المتعددةِ المعتبرةِ في كلِّ واحدٍ من جانبي الممثلين هيئة على حدة ومن الأمور المتعددة المذكورة في كل كل واحدٍ من جانبي المَثَلين هيئةٌ على حِدَة فشبهت بهما الأوليان زنزلنا منزلتيهما فاستُعمل فيهما ما يدل على الأُخْريين بضرب من التجوّز وقد أشير في تفسيرِ قولِه تعالى خَتَمَ الله على قُلُوبِهِمْ الآية إلى أن التمثيلَ قسمٌ برأسه لا سبيل إلى جعله من باب الاستعارةِ حقيقةً وأن الاستعارةَ التمثيليةَ من عبارات المتأخرين نعم قد يجري ذلك على سنن الاستعارةِ بأن لا يُذكرَ المشبّه كهذين التمثيلين ونظائرِهما وقد يجري على منهاج التشبيه كما في قوله... وما الناسُ إلا كالديار وأهلُها بها يوم حلوها وغدوابلاقع ﴿كذلك﴾ أي مثلَ ذلك التزيينِ البليغ ﴿زُيّنَ﴾ أي من جهة الله تعالى بطريق الخلق عند إيحاءِ الشياطينِ أو من جهة الشياطين بطريق الزخرفةِ والتسويلِ ﴿للكافرين﴾ التابعين للوساوس الشيطانيةِ الآخذين بالمُزخْرَفات التي يوحونها إليهم ﴿مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ ما استمرّوا على عمله من فنون الكفر والمعاصي التي من جملتها ما حُكي عنهُم من القبائحِ فإنها لو لم تكن مُزينةً لهم لما أصروا عليها ولما جادلوا بها الحقَّ وقيل الآية نزلت في حمزةَ رضي الله عنه وأبي جهلٍ وقيل في عمر أو عمار رضي الله عنهما وأبي جهل
181
﴿وكذلك﴾ قيل معناه كما جعلنا في مكةَ أكابرَ مجرميها ليمكروا فيها ﴿جَعَلْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ﴾ من سائر القرى ﴿أكابر مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا﴾ ومفعولا جعلنا أكابرَ مجرميها على تقديم المفعولِ الثاني والظرفُ لغو أو هما الظرف وأكبر على أن مجرميها بدلٌ أو مضافٌ إليه فإنَّ أفعلَ التفضيلِ إذا أُضيف جاز الإفرادُ والمطابقةُ ولذلك قرىء أكبرَ مجرميها وقيل أكابرَ مجرميها مفعولُه الأولُ والثاني ليمكروا فيها ولا يخفى أن أيَّ معنى يراد من هذه المعاني لا بد أن يكون مشهود التحققِ عند الناسِ معهوداً فيما بينهم حتى يصلُحَ أن تُصرَفَ الإشارةُ عن سياق النظمِ الكريمِ وتوجَّهَ إليه ويُجعلَ مقياساً لنظائره بإخراجه مُخرجَ المصدرِ التشبيهيِّ وظاهرٌ أنْ ليس الأمرُ كذلك ولا سبيلَ إلى توجيهها إلى ما يُفهم من قولِه تعالَى كَذَلِكَ زُيّنَ للكافرين مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وإن كان المرادُ بهم أكابرَ مكةَ لأن مآلَ المعنى حينئذ بعد اللتيا والتي كما جعلنا أعمالَ أهل مكة مزينة لهكم جعلنا في كل قرية أكابرَ مجرميها الخ فإذن الأقربُ إِنَّ ذلك إشارةٌ إلى الكفَرة المعهودين باعتبار اتصافِهم بصفاتهم والإفرادُ بتأويل الفريقِ أو المذكور ومحلُّ الكافِ النصبُ على أنه المفعولُ الثاني لجعلنا قدم
181
الأنعام آية ١٢٤
عليه لإفادة التخصيصِ كما في قوله تعالى كذلك كُنتُمْ مّن قَبْلُ الآية والأولُ أكابرَ مجرميها والظرف لغو أي ومثلَ أولئك الكفرةِ الذين هم صناديدُ مكةَ ومجرموها جعلنا في كل قريةٍ أكابرَها المجرمين أي جعلناهم متصفين بصفات المذكورين مزيَّناً لهم أعمالُهم مُصِرّين على الباطل مجادلين به الحقَّ ليمكروا فيها أي ليفعلوا المكرَ فيها وهذا تسلية لرسول الله ﷺ وقوله تعالى ﴿وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ﴾ اعتراضٌ على سبيل الوعدِ لرسول الله ﷺ والوعيدِ للكفرة أي وما تحيقُ غائلةُ مكرِهم إلا بهم ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ حال من ضمير يمكرون مع اعتبار ورود الاستثناء على النفي أي إنما يمكرون بأنفسهم والحالُ أنهم ما يشعُرون بذلك أصلاً بل يزعُمون أنهم يمكرون بغيرهم وقوله تعالى
182
﴿وإذا جاءتهم آية﴾ رجوعٌ إلى بيان حالِ مجرمي أهلِ مكةَ بعد ما بُيِّن بطريق التسليةِ أن حالَ غيرِهم أيضاً كذلك وأن عاقبةَ مكرِ الكلِّ ما ذُكر فإن العظيمةَ المنقولةَ إنما صدَرت عنهم لا عن سائر المجرمين أي إذا جاءتهم آية بواسطة الرسول ﷺ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حتى نؤتى ﴿مثل ما أوتى رسل الله﴾ قال ابن عباس رضي الله عنهما حتى يوحيَ إلينا ويأتيَنا جبريلُ عليه السلام فيخبرَنا أن محمداً صادق كما قالوا أَوْ تَأْتِىَ بالله والملائكة قَبِيلاً وعن الحسن البصْري مثلُه وهذا كما ترى صريحٌ ي أن ما عُلّق بإيتاء ما أوتيَ الرسلُ عليهم الصلاة والسلام هو إيمانُهم برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم وبما أنزل إليه إيماناً حقيقياً كما هُو المتبادَرُ منه عند الإطلاقِ خلا أنه يستدعي أن يُحمل ما أوتى رسل الله على مطلق الوحي ومخاطبةِ جبريلُ عليهِ السَّلامُ في الجملة ة وأن تُصرفَ الرسالةُ في قوله تعالى ﴿الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ عن ظاهرها وتُحملَ على رسالة جبريلَ عليه السلام بالوجه المذكور ويُرادَ بجعلها تبليغُها إلى المرسَل إليه لا وضعُها في موضعها الذي هو الرسول ليتأتّى كونُه جوبا عن اقتراحهم ورداً له بأن يكونَ معنى الاقتراحِ لن نؤمنَ بكون تلك الآيةِ نازلةً من عند الله تعالى إلى الرسول حتى يأتينا بالذات عينانا كما يأتي الرسولُ فيخبرُنا بذلك ومعنى الردّ الله أعلم مَنْ يليقُ بإرسال جبريلَ عليه السلام إليه لأمر من الأمور إيذاناً بأنهم بمعزل من استحقاق ذلك التشريفِ وفيه من التمحُّل ما لا يخفى وقال مقاتلٌ نزلتْ في أبي جهلٍ حين قال زاحَمْنا بني عبدِ منافٍ في الشرف حتى إذا صِرْنا كفرَسَيْ رهانٍ قالوا أمنا نبيٌّ يوحى إليه والله لا نرضى به ولا نتّبعه أبداً حتى يأتيَنا وحيٌ كما يأتيه وقال الضحاك سأل كلُّ واحد من القوم أن يُخَصّ بالرسالة والوحي كما أخبر الله تعالى عنْهُم فِي قوله بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امرىء مّنْهُمْ أَن يؤتى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً ولا يخفى أنَّ كلَّ واحدٍ من هذين القولين وإن كان مناسباً للرد المذكورِ لكنه يقتضي أن يراد بالإيمان المُعلَّقِ بإيتاء ما أوتيَ الرسلُ مجردُ تصديقِهم برسالته عليه الصلاة والسلام في الجملة من غير شمولٍ لكافة الناس وأن تكون كلمةُ حتى في قول اللعينِ حتى يأتيَنا وحيٌ كما يأتيه الخ غايةً لعدم الرضا لا لعدم الاتباعِ فإنه مقررٌ على تقديرَيْ إيتاءِ الوحي وعدمِه فالمعنى لن نؤمنَ برسالته أصلاً حتى نؤتى نحن من الوحي والنبوة مثل ما أوتى رسل الله أو
182
الأنعام آية ١٢٥
إيتاءً مثلَ إيتاءِ رسلِ الله وأما ما قيل من أن الوليدَ بنَ المغيرةِ قال لرسول الله ﷺ لو كانت النبوةُ حقاً لكنتُ أولى بها منك لأني أكبرُ منك سناً وأكثرُ منك مالاً وولداً فنزلت فلا تعلُّقَ له بكلامهم المردودِ إلا أن يرادَ بالإيمان المعلَّقِ بما ذكر مجردُ الإيمانِ بكون الآيةِ النازلةِ وحياً صادقاً لا الإيمانِ بكونها نازلةً إليه عليه الصلاة والسلام فيكون المعنى وإذا جاءتهم آيةٌ نازلةٌ إلى الرسول قالوا لن نؤمنَ بنزولها من عند الله حختى يكونَ نزولُها إلينا لا إليه لأنا نحن المستحقون دونه فإن مُلخّصَ معنى قولِه لو كانت النبوةُ حقاً الخ لو كان ما تدّعيه من النبوة حقاً لكنتُ أنا النبيَّ لا أنت وإذ لم يكُنِ الأمرُ كذلكَ فليست بحق وماله تعليقُ الإيمانِ بحقية النبوةِ بكون نفسِه نبياً ومثلَ ما أُوتيَ نُصب على أنه نعت لمصدر محذوف وما مصدرية أي حتنى نؤتاها إيتاءً مثلَ إيتاءِ رسلِ الله وإضافةُ الإيتاءِ إليهم لأنهم منكِرون لإيتائه ﷺ وحيث نُصب على المفعولية توسعاً لا بنفس أعلمُ لما عرفتَ من أنَّه لا يعمل في الظاهر بل يفعل دلَّ هو عليه أي هو أعلمُ يعلم الموضِعَ الذي يضعها فيه والمعنى أن منصِبَ الرسالةِ ليس مما ينال بكثرة المالِ والولدِ وتعاضُدِ الأسبابِ والعدد وإنما يُنال بفضائلَ نفسانيةٍ يخُصّها الله تعالى بمن يشاء من خُلّص عبادِه وقرىء رسالاتِه ﴿سَيُصِيبُ الذين أَجْرَمُواْ﴾ استئنافٌ آخرُ ناعٍ عليهم ما سيلقونه من فنون الشر بعد مانعى عليهم حِرمانَهم مما أمّلوه والسين للتأكيد ووضعُ الموصولِ موضعَ الضميرِ للإشعار بأن إصابةَ ما يصيبهم لإجرامهم المستتبِعِ لجميع الشرورِ والقبائحِ أي يصيبهم البتةَ مكانَ ما تمنَّوْه وعلّقوا به أطماعَهم الفارغةَ من عزة النبوة وشرفِ الرسالة ﴿صَغَارٌ﴾ أي ذلة وحقارة بعد كِبْرِهم ﴿عَندَ الله﴾ أي يوم القيامة وقيل من عند الله ﴿وَعَذَابٌ شَدِيدٌ﴾ في الآخرةِ أو في الدنيا ﴿بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ﴾ أي بسبب مكرِهم المستمرِّ أو بمقابلته وحيث كان هذا من معظم موادِّ إجرامِهم صُرّح بسببيته
183
﴿فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ﴾ أي يُعرِّفه طريقَ الحقِّ ويوفِّقَه للإيمان ﴿يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسلام﴾ فيتسعَ له وينفتح وهو كنايةٌ عن جعل النفس قابلةً للحق مهيئة لحلوله فيها مصفّاةً عما يمنعه وينافيه وإليه أشارَ عليه الصَّلاةُ والسلامُ حين سئل فقال نورٌ يقذِفه الله في قلب المؤمن فينشرح له وينفتح فقالوا هل لذلك من أمارة يُعرف بها فقال نعم الإنابةُ إلى دارِ الخُلودِ والإعراضُ عن دار الغرورِ والاستعدادُ للموت قبل نزوله ﴿وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ﴾ أي يخلُقَ فيه الضلالَ بصرفِ اختيارِه إليه ﴿يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً﴾ بحيث ينبو عن قَبول الحقِّ فلا يكاد يدخله الإيمانُ وقرىء ضَيْقاً بالتخفيف وحرِجاً بكسر الراء أي شديد الضيق والأولُ مصدرٌ وُصف به مبالغةً ﴿كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ﴾ ما هذه مُهيِّئةٌ لدخول كأنّ على الجمل الفعلية ﴿فِى السماء﴾ شِبْهٌ للمبالغة في ضيق صدرِه بمن يزاول ما لا يكادُ يُقدر عليه فإن صعودَ السماءِ مثلٌ فيما هو خارجٌ عن دائرة الاستطاعة وفيه تنبيه على أن الإيمانَ يمتنع منه كما يمتنع منه الصعودُ وقيل معناه كأنما يتصاعد إلى السماء نبُوّاً عن الحق وتباعداً في الهرب منه وأصلُ يصعّد يتصعّد وقدقرىء به وقرىء يصّاعد وأصله يتصاعد ﴿كذلك﴾ أي مثلَ ذلك الجعلِ الذي هو جعل الصدر حرجا
183
الأنعام آية ١٢٦ ١٢٨
على الوجه المذكور ﴿يَجْعَلُ الله الرجس﴾ أي العذابَ أو الخِذلانَ قال مجاهدٌ الرجس مالا خيرَ فيه وقال الزجاج الرجسُ اللعنةُ في الدنيا والعذابُ في الآخرة ﴿عَلَى الذين لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ أي عليهم ووضعُ الموصول موضعَ المضمرِ للإشعار بأن جعلَه تعالى معلَّلٌ بما في حيز الصلة من كمال نبُوِّهم عن الإيمان وإصرارِهم على الكفر
184
﴿وهذا﴾ أي البيانُ الذي جاء به القرآنُ أو الإسلامُ أو ما سبق من التوفيق والخذلان ﴿صراط رَبّكَ﴾ أي طريقُه الذي ارتضاه أو عادتُه وطريقتُه التي اقتضتها حِكمتُه وفي التعرض لعنوان الربيوبية إيذانٌ بأن تقويمَ ذلك الصراطِ للتربية وإفاضةِ الكمال ﴿مُّسْتَقِيماً﴾ لا عِوَج فيه أو عادلا مطردا وهو حالٌ مؤكدة كقوله تعالى وَهُوَ الحق مُصَدّقًا والعاملُ فيها معنى الإشارةِ ﴿قَدْ فصلنا الآيات﴾ ببناها مفصلةً ﴿لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ﴾ يتذكرون ما في تضاعيفها فيعلمون أن كلَّ ما يحدُث من الحوادث خيرا كان أو شرا فإنما يحدُث بقضاء الله تعالى وخلقِه وأنه تعالى عالمٌ بأحوال العبادِ حكيمٌ عادلٌ فيما يفعل بهم وتخصيصُ القومِ المذكورين بالذكر لأنهم المنتفِعون بتفصيل الآيات
﴿لَهُمْ دَارُ السلام﴾ أي للمتذكرين دارُ السلامة من كل المكاره وهي الجنة ﴿عِندَ رَبّهِمْ﴾ أي في ضمانه أو ذخيرةٌ لهم عنده لا يعلم كُنهَها غيرُه تعالى ﴿وَهُوَ وَلِيُّهُم﴾ أي مولاهم وناصرُهم ﴿بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ بسبب أعمالِهم الصالحةِ أو متولِّيهم بجزائها يتولى إيصالَه إليهم
﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً﴾ منصوبٌ بمضمر إما على المفعولية أو الظرفية وقرىء بنون العظمةِ على الالتفاتِ لتهويل الأمرِ والضميرُ المنصوبُ لمن يُحشر من الثقلين أي واذكر يوم الحشر الثقلين قائلاً ﴿يَا مَعْشَرَ الجن﴾ أو ويوم يحشرهم يقول يا معشرَ الجنِّ أو ويوم يحشرهم ويقول يا معشرَ الجن يكونُ من الأحوال والأهوالمال لا يساعده لفظاعته والمعشرُ الجماعةُ والمرادُ بمعشر الجنِّ الشياطينُ ﴿قَدِ استكثرتم مّنَ الإنس﴾ أي من إغوائهم وإضلالِهم أو منهم بأن جعلتموهم أاتباعكم فحُشِروا معكم كقولهم استكثر الأمير من أي من الجنود وهذا بطريق التوبيخِ والتقريع ﴿وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم﴾ أي الذين أطاعوهم ومِنْ في قولِه تعالَى ﴿مّنَ الإنس﴾ إما لبيان الجنسِ أي أولياؤُهم الذين هم الإنسُ أو متعلقةٌ بمحذوفٍ هو حالٌ من أولياؤهم أي كاتئنين من الإنس ﴿رَبَّنَا استمتع بَعْضُنَا بِبَعْضٍ﴾ أي انتفع الإنسُ بالجن بأن دلُّوهم على الشهوات وما يُتوصَّل به إليها وقيل بأن ألقوا إليهم من الأراجيف والسِّحر والكهانة والجن بالإنس بأ أطاعوهم وحصّلوا مرادَهم بقَبول ما ألقوه إليهم وقيل استمتاعُ الإنسِ بهم أنهم كانوا يعوذون بهم في المفاوز
184
الأنعام آية ١٢٩ ش ٣٠
والمخاوفِ واستمتاعُهم بالإنس اعترافُهم بأنهم قادرون على إجازتهم ﴿وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الذى أَجَّلْتَ لَنَا﴾ وهو يومُ القيامة قالوه اعترافاً بما فعلوه من طاعة الشياطينِ واتباعِ الهوى وتكذيبِ البعث وإظهاراً للندامة عليها وتحسراً على حالهم واستسلاماً لربهم ولعل الاقتصارَ على حكاية كلامِ الضالّين للإيذان بأن المُضلِّين قد أُفحموا بالمرة فلم يقدروا على التكلم أصلاً ﴿قَالَ﴾ استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال نشأ من حكاية كلا منهم كأنَّه قيلَ فماذَا قالَ الله تعالى حينئذ فقيل قال ﴿النار مَثْوَاكُمْ﴾ أي منزِلُكم أو ذاتُ ثوُائِكم كما أن دارَ السلام مثوى المؤمنين ﴿خالدين فِيهَا﴾ حال والعاملُ مثواكم إن جُعل مصدراً ومعنى الإضافة إن جُعل مكاناً ﴿إِلاَّ مَا شَاء الله﴾ قال ابن عباس رضي الله عنهما استثنى الله تعالى قوماً قد سبق في علمه أنهم يُسلمون ويصدِّقون النبيَّ صلَّى الله عليهِ وسلم وهذا مبنيٌّ على أن الاستثناءَ ليس من المحكيّ وما بمعنى مَنْ وقيل المعنى إلا الأوقاتَ التي يُنقلون فيها من النار إلى الزمهرير فقد رُوي أنهم يدخُلون وادياً فيه من الزمهرير ما يميِّزُ بعضَ أوصالِهم من بعض فيتعاوَوْن ويطلُبون الردَّ إلى الجحيم وقيل يفتح لهم وهم في النار بابٌ إلى الجنة فيُسرعون نحوه حتى إذا صاروا إليه سُدَّ عليهم الباب وعلى التقديرين فالاستثناءُ تهكّمٌ بهم وقيل إلا ما شاء الله قبل الدخولِ كأنه قيل النارُ مثواكم أبداً إلا ما أمهلكم ولا يخفى بعدُه ﴿إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ﴾ في أفاعيله ﴿عَلِيمٌ﴾ بأحوال الثقلين وأعمالِهم وبما يليق بها من الجزاء
185
﴿وكذلك﴾ أي مثلَ ما سيق من تمكين الجنِّ من إغواء الإنسِ وإضلالِهم ﴿نُوَلّى بَعْضَ الظالمين﴾ من الإنس ﴿بَعْضًا﴾ آخرَ منهم أي نجعلهم بحيث يتولَّوْنهم بالإغواء والإضلالِ أو نجعل بعضَهم قرناءَ بعضٍ في العذاب كما كانوا كذلك في الدنيا عند اقترافِ ما يُؤدِّي إليه من القبائح ﴿بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ بسبب ما كانوا مستمرِّين على كسبه من الكفر والمعاصي
﴿يَا مَعْشَرَ الجن والإنس﴾ شروعٌ في حكاية ما سيكون من توبيخ المعشَرَين وتقريعِهم بتفريطهم فيما يتعلق بخاصة أنفسِهم إثرَ حكايةِ توبيخِ معشر الجنِّ بإغواء الإنسِ وإضلالِهم وبيانِ مآلِ أمرِهم ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ﴾ أي في الدنيا ﴿رُسُلُ﴾ أيْ مِنْ عندِ الله عز وجل ولكن لا على أن يأتيَ كلُّ رسولٍ كلَّ واحدة من الأمم بل على أن يأتي كلَّ أمة رسولٌ خاصٌّ بها أي ألم يأتِ كلَّ أمة منكم رسولٌ معين وقوله تعالى ﴿مّنكُمْ﴾ متعلقٌ بمحذوف وقع صفةٌ لرسلٌ أي كائنةٌ من جملتكم لكن لا على أنهم من جنس الفريقين معاً بل من الإنس خاصةً وإنما جُعلوا منهما إما لتأكيد وجوبِ اتباعِهم والإيذانِ بتقاربهما ذاتاً واتحادِهما تكليفاً وخطاباً كأنّهما جنسٌ واحد ولذلك تمكن أحدُهما من إضلال الآخَر وإما لأن المرادَ بالرسل ما يعمُّ رسلَ الرسلِ وقد ثبت أن الجن قد استمعوا القرآن وأنذروا به قومَهم حيث نطق به قوله تعالى وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً من الجن يستمعون الرقآن
185
الأنعام آية ١٣١
إلى قوله تعالى وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ وقوله تعالى ﴿يقصون عليكم آياتي﴾ صفةٌ أخرى لرسلٌ محققةٌ لما هو المرادُ من إرسال الرسل من التبليغ والإنذارِ وقد حصل ذلك بالنسبة إلى الثقلين ﴿وَيُنذِرُونَكُمْ﴾ بما هو في تضاعيفها من القوارع ﴿لِقَاء يَوْمِكُمْ هذا﴾ يومِ الحشرِ الذي قد عاينوا فيه ما أُعدَّ لهم من أفانين العقوباتِ الهائلة ﴿قالوا﴾ استئناف مبني على سؤال نشأ من الكلام السابقِ كأنه قيل فماذا قالوا عند ذلك التوبيخِ الشديد فقيل قالوا ﴿شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا﴾ أي بإتيان الرسلِ وإنذارِهم وبمقابلتهم إياهم بالكفر والتكذيب وباستحقاقهم بسبب ذلك للعذاب المخلّد حسبما فصل ي حكاية جوابِهم عن سؤال خَزَنةِ النار حيث قالوا بلى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ الله مِن شَىْء إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِى ضلال كَبِيرٍ وقد أجمل ههنا في الحكاية كما أُجمل في حكاية جوابِهم حيث قالوا بلى ولكن حَقَّتْ كَلِمَةُ العذاب عَلَى الكافرين وقوله تعالى ﴿وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا﴾ معَ ما عُطف عليه اعتراضٌ لبيان ما أداهم في الدنيا إلى ارتكابهم للقبائح التي ارتكبوها وألجأهم بعد ذلك في الآخرة إلى الاعتراف بالكفر واستيجاب العذابِ وذمٌّ لهم بذلك أي واغتروا في الدنيا بالحياة الدنيئةِ واللذات الخسيسةِ الفانية وأعرضوا عن النعيم المقيم الذي بشرت به الرسل واجترءوا على ارتكاب ما يجُرّهم إلى العذاب المؤبَّد الذي أنذروهم إياه ﴿وَشَهِدُواْ﴾ في الآخرة ﴿عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ﴾ في الدُّنيا ﴿كافرين﴾ أي بالآيات والنذر التي أتى بها الرسلُ على التفصيل المذكورِ آنفاً واضطُرّوا إلى الاستسلام لأشد العذابِ كما ينبىء عنه ما حُكيَ عنُهم بقولِه تعالى وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِى أصحاب السعير وفيه من تحسيرهم وتحذيرِ السامعين عن مثل صنيعِهم ما لا مزيدَ عليه
186
﴿ذلك﴾ إشارة إلى ما ذُكر من شهادتهم على أنفسهم بالكفر واستيجاب العذاب والخطاب للرسول ﷺ بطريق التلوين وهو مبتدأٌ خبرُه قولُه تعالى ﴿أَن لم يكن ربك مهلك القرى﴾ بحذف اللام ى أَنَّ أنْ مصدريةٌ أو مخففةٌ من أنَّ وضميرُ الشأن الذي هو اسمُها محذوفٌ وقوله تعالى ﴿بِظُلْمٍ﴾ متعلقٌ إما بمهلك أي بسبب ظلمٍ أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً من القُرى أي ملتبسةً بظلم فإن مكلابسة أهلِها للظلم ملابسةٌ للقرية له بواسطتهم وأما كونُه حالاً من ربك أو من ضميرِه في مُهلكَ كما قيل فيأباه أن غفلةَ أهلِها مأخوذةٌ في معنى الظلمِ وحقيقتِه لا محالة فلا يحسُن تقييدُه بقوله تعالى ﴿وَأَهْلُهَا غافلون﴾ والمعنى ذلك ثابتٌ لانتفاء كونِ ربِّك أو لأن الشأنَ لم يكن ربك مهلك القرى بسبب أي ظلم فعلوه من أفراد الظلم قيل أن يُنْهَوْا عنه ويُنَبَّهوا على بُطلانه برسول وكتابٍ وإن قضَى به بديهةُ العقولِ ويُنذَروا عاقبةَ جناياتِهم أو لولا انتفاءُ كونِه تعالى معذباً لهم قبل إرسالِ الرسلِ وإنزالِ الكتبِ لَما أمكن التوبيخُ بما ذُكر ولَما شهِدوا على أنفسهم بالكفر واستيجابِ العذاب ولا اعتذروا بعدم إتيانِ الرسل كما في قوله تعالى وَلَوْ أَنَّا أهلكناهم بِعَذَابٍ مّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فنتبع آياتك مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ ونخزى وإنما عُلّل ما ذُكر بانتفاء التعذيبِ الدنيويِّ الذي هو إهلاكُ القرى قبل الإنذارِ مع أن التقريبَ في تعليله بانتفاء مطلقِ التعذيب من غير بعث الرسلِ أتمُّ على ما نطقَ به قولُه تعالى وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً لبيان كمال
186
الأنعام آية ١٣٢ ١٣٤
نزاهتِه سبحانه وتعالى عن كلا التعذيبين الدنيوي والأخروي معاً من غير إنذارٍ على أبلغِ وجهٍ وآكدِه حيث اقتُصِر على نفي التعذيبِ الدنيوي عنه تعالى ليثبُتَ نفيُ التعذيبِ الأخروي عنه تعالى على الوجه البرهانيّ بطريق الأولوية فإنه تعالى حيث لم يعذِّبهم بعذاب يسيرٍ منقطعٍ بدون إنذارٍ فلأن لا يعذِّبَهم بعذاب شديد مخلدٍ أولي وأجلي ولو عُلل بما ذكر من نفي التعذيبِ لا نصرف بحسب المقام إلى ما فيه الكلامُ من نفي التعذيب الأخروي ونفي التعذيب الدنيوي وغير متعرَّضٍ له لا صريحاً ولا دَلالةً ضرورةَ أن نفي الأعلى لا يدل على نفي الأدنى ولأن ترتب العذاب الدنيويِّ على الإنذار عند عدمِ تأثرِ المنذَرين منه معلومٌ مشاهدٌ عند السامعين فيستدلون بذلك على أن التعذيبَ الأخرويَّ أيضاً كذلك فينزجرون عن الإخلال بمواجب الإنذارِ أشدَّ انزجارٍ هذا هُو الذي تستدعيهِ جزالة النظمِ الكريم وأما جعلُ ذلك إشارةً إلى إرسال الرسلِ عليهم السلام وإنذارِهم وخبرُ المبتدأ محذوفٌ كما أطبقَ عليه الجمهورُ فبمعزل من مقتضى المقامِ والله سبحانه أعلم
187
﴿وَلِكُلّ﴾ أي من المكلفين من الثقلين ﴿درجات﴾ متفاوتةٌ وطبقاتٌ متباينة ﴿مّمَّا عَمِلُواْ﴾ من أعمالهم صالحةً كانت أو سيئةً فإن أعمالَهم درجاتٌ في أنفسها أو من جزاء أعمالِهم فإن كلَّ جزاءٍ مرتبةٌ معينةٌ لهم أو من أجل أعمالِهم ﴿وَمَا رَبُّكَ بغافل عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ فيخفى عليه عملٌ من أعمالهم أو قدْرُ ما يستحقون بها من ثواب أو عقاب وقرىء بالتاء تغليباً للخطاب على الغَيْبة
﴿وَرَبُّكَ الغنى﴾ مبتدأٌ وخبرٌ أي هو المعروفُ بالغني عن كلِّ ما سواهُ كائنا من كان وكا كان فيدخُل فيه غناه عن العباد وعن عبادتهم في التعرُّض لوصف الربوبيةِ في الموضعين لا سيما في الثاني لكونه موقعَ الإضمار مع الإضافة إلى ضميره ﷺ من إظهار اللطفِ به ﷺ وتنزيهِ ساحتِه عن توهم شمولِ الوعيدِ الآتي لها أيضاً ما لا يخفى وقوله تعالى ﴿ذُو الرحمة﴾ خبرٌ آخرُ أو هو الخبرُ والغنيُّ صفةٌ أي يترحم عليهم بالتكليف تكميلاً لهم ويُمهلهم على المعاصي وفيه تنبيه على أن ما سلف ذكرُه من الإرسال ليس لنفعه بل لترحمه على العباد وتمهيدٌ لقوله تعالى ﴿إِن يَشَأْ يذهبكم﴾ أي مابه حاجةٌ إليكم إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا العصاةُ وفي تلوين الخطابِ من تشديد الوعيد ما لا يخفى ﴿وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم﴾ أي من بعد إذهابِكم ﴿مَا يَشَاء﴾ من الخلق وإيثارُ مَا على مَنْ لإظهار كمالِ الكبرياءِ وإسقاطِهم عن رتبة العقلاءِ ﴿كَمَا أَنشَأَكُمْ من ذرية قوم آخرين﴾ أي من نسل قومٍ آخرين لم يكونوا على مثل صفتِكم وهم أهلُ سفينة نوحٌ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لكنه أبقاكم ترحماً عليكم وما في كما مصدريةٌ ومحلُّ الكافِ النصبُ على أنه مصدر تشبيهي على غير الصدر فإن يستخلف في معنى ينشىء كأنه قيل وينشىء إنشاءً كائناً كإنشائكم الخ أو نعتٌ لمصدر الفعل المذكور أي يستخلف استخلافاً كائناً كإنشائكم الخ والشرطيةُ استئنافٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبلها من الغنى والرحمة
﴿إن ما توعدون﴾
187
الأنعام آية ١٣٥ ١٣٦
أي الذي توعدونه من البعث وما يتفرَّع عليه من الأمور الهائلةِ وصيغةُ الاستقبال للدِلالة على الاستمرار التجددي ﴿لأَتٍ﴾ لواقعٌ لا محالة كقوله تعالى إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لواقع وإيثارُه عليه لبيان كمالِ سرعةِ وقوعِه بتصويره بصورة طالبٍ حثيثٍ لا يفوته هاربٌ حسبما يُعرب عنه قوله تعالى ﴿وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ﴾ أي بفائتين ذلك وإن ركِبتم في الهرب متنَ كلِّ صَعْبٍ وذَلولٍ كما أن إيثارَ صيغةِ الفاعلِ على المستقبل للإيذان بكمال قربِ الإتيان والمرادُ بيانُ دوامِ انتفاءِ الإعجازِ لا بيانُ انتفاءِ دوامِ الإعجاز فإن الجملة الاسميةَ كما تدل على دوام الثبوتِ تدل بمعونة المقام إذا دخل عليها حرف النفي على دوام الانتفاءِ لا على انتفاء الدوامِ كما حُقّق في موضعه
188
﴿قل يا قوم اعملوا على مَكَانَتِكُمْ﴾ إثرَ ما بيّن لهم حالَهم ومآلَهم بطريق الخطاب أُمر رسول الله ﷺ بطريق التلوينِ بأن يواجِهَهم بتشديد التهديد وتكريرِ الوعيد ويظهر لهم ما هو عليه غاية التصلب في الدين ونهايةِ الوثوقِ بأمره وعدم المبالاةِ بهم أي اعملوا على غاية تمكنكم واستطاعتك يقال نمكن مكانةً إذا تمكّن أبلغَ التمكّن أو على جهتكم وحالتِكم التي أنتمُ عليها من قولهم مكان ومكانة كمقامٌ ومقامة وقرىء مكاناتِكم والمعنى اثبتوا على كفرهم ومعاداتكم ﴿إِنّى عامل﴾ ما أُمرت به من الثبات على الإسلام والاستمرارِ على الأعمال الصالحةِ والمصابرةِ وإيرادُ التهديد بصيغة الأمرِ مبالغةٌ في الوعيد كأن المهددَ يريد تعذيبَه مجمِعاً عليه فيحمِله بالأمر على ما يؤدي إليه وتسجيلٌ بأن المهدِّد لا يتأتّى منه إلا الشرُّ كالذي أُمر به بحيث لا يجد إلى التقصّي عنه سبيلاً ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عاقبة الدار﴾ سوف لتأكيد مضمونِ الجملة والعلمُ عرفاني ومن إما استفهامية معلقة لفعل العلم محلُّها الرفعُ على الابتداءِ وتكون باسمها وخبرها خبرٌ لها وهي مع خبرها في محل نصبٍ لسدها مسدَّ مفعول تعلمون أي فسوف تعلمون أيُّنا تكون له العاقبةُ الحسنى التي خلق الله تعالى هذه الديار لها وإما موصولةٌ فمحلُّها النصبُ على أنَّها مفعولٌ لتعلمة ون أي فسوف تعلمون الذي له عاقبةُ الدارِ وفيه مع الإنذار إنصافٌ في المقال وتنبيهٌ على كمال وثوقِ المنذِرِ بأمره وقرىء بالياء لأن تأنيثَ العاقبةِ غيرُ حقيقي ﴿إِنَّهُ﴾ أي الشأنَ ﴿لاَ يُفْلِحُ الظالمون﴾ وُضع الظلمُ موضِعَ الكفرِ إيذاناً بأن امتناعَ الفلاحِ يترتب على أي فردٍ كان من أفراد الظلمِ فما ظنُّك بالكفر الذي هو أعظمُ أفرادِه
﴿وَجَعَلُواْ﴾ شروعٌ في تقبيح أحوالِهم الفظيعةِ بحكاية أقوالِهم وأفعالهم الشنيعة مشركوا العربِ كانوا يُعيِّنون أشياءَ من حرث ونتاج لله تعالى وأشياءَ منهما لآلهتهم فإذا رأوا ما جعلوه لله تعالى زاكياً نامياً يزيد في نفسه خيراً رجَعوا فجعلوه لآلهتهم وإذا زكا ما جعلوه لآلهتهم تركوه معتلين بأن اللع تعالى غنيٌّ وما ذاك إلا لحب آلهتِهم وإيثارِهم لها والجعلُ إما متعدَ إلى واحد فالجارّان في قوله تعالى
188
الأنعام آية ١٣٧
﴿لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ﴾ متعلقان به ومِنْ في قولِه تعالَى ﴿مِنَ الحرث والانعام﴾ بيانٌ لما وفيه تنبيهٌ على فرط جهالتِهم حيث أشركوا الخالقَ في خلقه جماداً لا يقدِر على شيءٍ ثم رجّحوه عليه بأن جعلوا الزكيَّ له أي عيَّنوا له تعالى مما خلقه من الحرث والأنعام ﴿نَصِيباً﴾ يصرِفونه إلى الضِيفان والمساكينِ وتأخيرُه عن المجرورَيْن لما مرَّ مرارا من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر وإما إلى مفعولين أولُهما مما ذرأ على أن من تبعيضية أي جعلوا بعضَ ما خلقه نصيباً له وما قيل من أن الأولَ نصيباً والثاني لله لا يساعده سَدادُ المعنى وحكايةُ جعلِهم له تعالى نصيباً تدل على أنهم جعلوا لشركائهم أيضاً نصيباً ولم يُذْكر اكتفاءً بقوله تعالى ﴿فَقَالُواْ هذا لِلَّهِ﴾ بِزَعْمِهِمْ ﴿وهذا لِشُرَكَائِنَا﴾ وقُرىء بضم الزاءِ وهو لغةٌ فيه وإنما قُيِّد به الأولُ للتنبيه على أنه في الحقيقة ليس يجعل الله تعالى غيرُ مستتبِعٍ لشيء من الثواب كالتطوعات التي يُبتغى بها وجهُ الله تعالى لا لما قيلَ من أنه للتنبيه على أن ذلك مما اخترعوه لم يأمرهم الله تعالى به فإن ذلك مستفادٌ من الجعل ولذلك لم يقيَّدْ به الثاني ويجوزُ أنْ يكونَ ذلكَ تمهيداً لما بعده على معنى أن قولَهم هذا لله مجرَّدُ زعمٍ منهم لا يعملون بمقتضاه الذي هو اختصاصُه به تعالى فقوله تعالى ﴿فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى الله وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إلى شُرَكَائِهِمْ﴾ بيانٌ وتفصيلٌ له أي فما عيَّنوه لشركائهم لا يُصرَف إلى الوجوه التي يُصرف إليها ما عيّنوه لله تعالى من قِرى الضِيفان والتصدقِ على المساكين وما عيَّنوه لله تعالى إذا وجدوه زاكياً يُصرف إلى الوجوه التي يُصرف إليها ما عيّنوه لآلهتهم من إنفاق عليها وذبحِ نسائِكَ عندها والإجراءِ على سَدَنتها ونحو ذلك ﴿سَاء مَا يَحْكُمُونَ﴾ فيما فعلوا من إيثار ى لهتهم على الله تعالى وعملهم بما لم يُشرَعْ لهم وما بمعنى الذي والتقديرُ ساء الذي يحكُمون حكمَهم فيكون حكمُهم مبتدأً وما قبله الخبرُ وحُذف لدِلالة يحكُمون عليه
189
﴿وكذلك﴾ ومثلَ ذلك التزيينِ وهو تزيينُ الشرك في قسمة القُربانِ بين الله تعالى وبين آلهتهم أو مثل ذلك التزيين البليغ المعهودِ من الشياطين ﴿زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مّنَ المشركين قَتْلَ أولادهم﴾ بوأدهم ونحْرِهم لآلهتهم كان الرجل يحلِف في الجاهلية لئن وُلد له كذا غلاماً لينحَرَنّ أحدهم كما حلف عبدُ المطلب وهو مشهور ﴿شُرَكَاؤُهُمْ﴾ أي أولياؤهم من الجن أو من السَّدَنة وهو فاعلُ زَيَّن أُخِّر عن الظرف والمفعولِ لما مر غيرَ مرةٍ وقُرِىءَ على البناءِ للمفعولِ الذي هو القتلُ ونصبِ الأولاد وجرِّ الشركاء بإضافة القتلِ إليه مفصولاً بينهما بمفعوله وقُرِىءَ على البناءِ للمفعولِ ورفعِ قتل وجرِّ أولادِهم ورفعِ شركاؤهم بإضمار فعلٍ دلَّ عليه زُيِّن كأنه لما قيل زُيِّن لهم قتلُ أولادِهم قيل مَنْ زيَّنه فقيل زينه شركاؤهم ﴿ليردوهم﴾ أي يهلكوهم بالإغواء ﴿وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ﴾ وليخلِطوا عليهم ما كانوا عليه من دين إسمعيل عليه السلام أو ما وجب عليهم أن يتدينوا به واللامُ للتعليل إن كان التزيينُ من الشياطين وللعاقبة إن كان من السدنة ﴿وَلَوْ شَاء الله﴾ أي عدمَ فعلهم ذلك ﴿مَّا فَعَلُوهُ﴾ أي ما فعل المشركون ما زُيّن لهم من القتل أو الشركاء التزيين أو الإرداء واللبس أو الفريقان جميعَ ذلك على إجراء الضميرِ مُجرى اسمِ الإشارةِ ﴿فَذَرْهُمْ وَمَا يفترون﴾ الفاء
189
الأنعام آية ١٣٨ ١٣٩
فصيحةٌ أي إذا كان ما فعلوه بمشيئة الله تعالى فدعهم وافتراءَهم أو وما يفترونه من الإفك فإن فيما شاء الله تعالى حِكَماً بالغة إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إثماً ولهم عذاب مهين وفيه من شدة الوعيدِ ما لا يخفى
190
﴿وَقَالُواْ﴾ حكايةٌ لنوعٍ آخرَ من أنواع كفرِهم ﴿هذه﴾ غشارة إلى ما جعلوه لآلهتهم والتأنيثُ للخبر ﴿أنعام وَحَرْثٌ حِجْرٌ﴾ أي حرام فِعْلٌ بمعنى مفعول كالذِبح يستوي فيه الواحد والكثير والذكر والأنثى لأن أصله المصدر ولذلك وقع صفةً لأنعامٌ وحرثٌ وقرىء حُجُر بالضم وبضمتين وحَرَجٌ أي ضيق وأصله حرج وقيل هو مقلوب من حجر ﴿لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نَّشَاء﴾ يعنون خدنم الأوثانِ من الرجال دون النساءِ والجملةُ صفةٌ أخرى لأنعامٌ وحرثٌ بِزَعْمِهِمْ متعلقٌ بمحذوف هو حال من فاعل قالوا أي قالوه ملتبسين بزعمهم الباطلِ من غير حجة ﴿وأنعام﴾ خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ والجملةُ معطوفةٌ على قولِه تعالى هذه أنعام الخ أي قالوا مشيرين إلى طائفةٍ أُخرى من أنعامهم وهذه أنعامٌ ﴿حُرّمَتْ ظُهُورُهَا﴾ يعنون بها البحائرَ والسوائبَ والحواميَ ﴿وأنعام﴾ أي وهذه أنعام كما مرَّ وقوله تعالى ﴿لاَّ يذكرون اسم الله عليها﴾ صفةٌ لأنعام لكنه غيرُ واقعٍ في كلامهم المحكيِّ كنظائره بل مَسوقٌ من جهتِه تعالَى تعييناً للموصوف وتمييزاً له عن غيره كما في قوله تعالى وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولَ الله على أحد التفاسير كأنه قيل وأنعامٌ ذُبحت على الأصنام فإنها التي لا يُذكر عليها اسمُ الله وإنما يُذكر عليها اسمُ الأصنام وقيل لا يحجّون عليها فإن الحجَّ لا يعرى عن ذكرِ الله تعالى وقال مجاهد كانت لهم طائفة ما أنعامهم لا يذكرون اسمَ الله عليها ولا في شيء من شأنها لا إن ركِبوا ولا إن حلبوا ولا إن ننجوا ولا إن باعوا ولا إن حمَلوا ﴿افتراء عَلَيْهِ﴾ نُصب على المصدر إما على أن ما قالوه تقوُّلٌ على الله تعالى وإما على تقدير عاملٍ من لفظه أي افترَوا افتراءً والجارُّ متعلقٌ بقالوا أو بافترَوا المقدّر أو بمحذوف هو صفة له لا بافتراءً لأن المصدرَ المؤكد لا يعمل أو على الحالِ من فاعل قالوا أي مفترين أو على العلة أي للافتراء فالجارُّ متعلق به ﴿سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾ أي بسببه أو بدله وفي غبهام الجزاءِ من التَّهويلِ ما لا يخفى
﴿وَقَالُواْ﴾ حكايةٌ لفن آخرَ من فنون كفرِهم ﴿مَا فِى بُطُونِ هذه الانعام﴾ يعنون به أجنة البحائرِ والسوائبِ ﴿خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا﴾ حلالٌ لهم خاصة والناء للنقل إلى الاسمية أو للمبالغة أو لأن الخالصة مصدرٌ كالعافية وقع موقعَ الخالصِ مبالغةً أو بحذف المضاد أي ذو خالصة أو للتأنيث بناء على أنَّ ما عبارةٌ عن الأجنة والتذكير في قوله تعالى ﴿وَمُحَرَّمٌ على أزواجنا﴾ أي جنس أزواجِنا وهن الإناثُ باعتبار اللفظ وفيه كما ترى حملٌ للنظم الكريم على خلاف المعهودِ الذي هو الحملُ على اللفظ ولا على المعنى ثانياً كما في قوله تعالى وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ الخ ونظائرِه وإما العكس فقد
190
الأنعام آية ١٤٠ ١٤١
قالوا إنمه لا نظيرَ له في القرآن وهذا الحكمُ منهم إن وُلد ذلك حيا وهو الظاهر المعتادُ ﴿وَإِن يَكُن مَّيْتَةً﴾ أي إن ولدت ميتة ﴿فَهُمُ﴾ أي الذكورُ والإناث ﴿فِيهِ﴾ أي فيما في بطون الأنعامِ وقيل المرادُ بالميتة ما يعُمّ الذكرَ والأنثى فغلب الأولُ على الثاني ﴿شُرَكَاء﴾ يأكلون منه جميعاً وقرىء خالصةً بالنصب على أنَّه مصدرٌ مُؤكدٌ والخبرُ لذكورنا أو حال من الضمير الذي في الظرف لا من الذي في ذكورنا ولا من الذكور لأنه لا يتقدم على العامل المعنويِّ ولا على صاحبه المجرورِ وقرىء خالصُهُ بالرفع والإضافة إلى الضمير على أنه بدل من ما أو مبتدأٌ ثانٍ ﴿سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ﴾ أي جزاءَ وصفِهم الكذبَ على الله تعالى في أمر التحليل والتحريم من قوله تعالى وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكذب ﴿إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾ تعليلٌ للوعيد بالجزاء فإن الحكيمَ العليمَ بما صدر عنهم لا يكاد يترك جزاءَهم الذي هو من مقتضَيات الحكمة
191
﴿قَدْ خَسِرَ الذين قَتَلُواْ أولادهم﴾ جوابُ قسمٍ محذوفٍ وقرىء بالتشديد وهم ربيعةُ ومضرُ وأضرابُهم من العرب الذين كانوا يئِدون بناتِهم مخافةَ السبْي والفقر أي خسِروا دينَهم ودنياهم ﴿سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ متعلقٌ بقتلوا على أنه علة له أي لخِفة عقلهم وجهلِهم بأن الله هو الرزاقُ لهم ولأولادهم أو نُصب على الحال ويؤيده أنه قرىء سفهاءَ أو مصدر ﴿وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ الله﴾ من البحائر والسوائب ونحوهما ﴿افتراء عَلَى الله﴾ نُصب على أحد الوجوه المذكورة وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موقع الإضمارِ لإظهار كمالِ عُتوِّهم وطغيانهم ﴿قَدْ ضَلُّواْ﴾ عن الطريق المستقيم ﴿وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ﴾ إليه وإن هُدوا بفنون الهدايات أو وما كانوا مهتدين من الأصل لسوء سيرتِهم فالجملةُ حينئذ اعتراضٌ وعلى الأول عطف على ضلوا
﴿وَهُوَ الذى أَنشَأَ جنات معروشات﴾ تمهيدٌ لما سيأتي من تفصيل أحوال الأنعامِ أي هو الذي أنشأهن من غير شركة لأحد في ذلك بوجهٍ من الوجوه والمعروشاتُ من الكروم المرفوعاتُ على ما يحملها ﴿وَغَيْرَ معروشات﴾ وهن المُلْقَياتُ على وجه الأرض وقيل المعروشاتُ ما غرسه الناسُ وعرّشوه وغيرُ المعروشات ما نبت في البوادي والجبال ﴿والنخل والزرع﴾ عطفٌ على جناتٍ أي أنشأهما ﴿مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ﴾ وقرىء أُكْله بسكون الكاف أي ثمرُه الذي يُؤكل في الهيئة والكيفية والضميرُ إما للنخل والزرعُ داخلٌ في حكمه أو للزرع والباقي مَقيسٌ عليه أو للجميع على تقدير أكل ذلك أو كلِّ واحد منهما ومختلفا مقدرة إذ ليس كذلك وقت الإنشاء ﴿والزيتون والرمان﴾ أي أنشأهما وقوله تعالى ﴿متشابها وَغَيْرَ متشابه﴾ نُصب على الحالية أي يتشابه بعض
191
الأنعام آية ١٤٢ ١٤٣
أفرادِهما في اللون والهيئةِ أو الطعم ولا يتشابه بعضها ﴿كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ﴾ أي من ثمر كل واحدٍ من ذلك ﴿إِذَا أَثْمَرَ﴾ وإن لم يدرك ولم يينع بعد وقيل فائدته رخصة المالك في الأكل منه قبل أداء حق الله تعالى ﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ أريد به ما كان يُتصدَّق به يوم الحصاد بطريق الوجوب من غير تعيين المقدارِ لا الزكاةُ المقدرةُ فإنها فُرِضت بالمدينة والسورةُ مكية وقيل الزكاةُ والآيةُ مدنيةٌ والأمر بإيتائها يوم الحصادِ لِيُهتمَّ به حينئذ حتى لا يؤخَّر عن وقت الأداء وليعلم أن الوجوبَ بالإدراك لا بالتصفية وقرىء يوم حصاده بمكسر الحاء وهو لغةٌ فيه ﴿وَلاَ تُسْرِفُواْ﴾ أي في التصدق كما رُوي عن ثابت بن قيس أنه صرَم خمسَمائة نخلةٍ ففرَّق ثمرَها كلِّها ولم يُدخل منه شيئاً إلى منزله كقوله تعالى وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط الآية ﴿إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين﴾ أي لا يرتضي إسرافَهم
192
﴿وَمِنَ الانعام حَمُولَةً وَفَرْشًا﴾ شروع في تفصيل حال الأنعامِ وإبطالِ ما تقوَّلوا على الله تعالى في شأنها بالتحريم والتحليل وهو عطفٌ على مفعول أنشأ ومِنْ متعلقةٌ به أي وأنشأ من الأنعام ما يُحمل عليه الأثقالُ وما يُفرش للذبح أو ما يُفرش المصنوعُ من شعره وصوفِه ووبرِه وقيل الكبارُ الصالحةُ للحمل والصغارُ الدانيةُ من الأرض كأنها فُرشٌ مفروشٌ عليها ﴿كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله﴾ ما عبارةَ عما ذُكر من الحَمولة والفَرْش ومِنْ تبعيضيةٌ أي كلوا بعضَ ما رزقكم الله تعالى أي حلالَه وفيه تصريحٌ بأن إنشاءَها لأجلهم ومصلحتِهم ﴿وَلاَ تَتَّبِعُواْ﴾ في أمر التحليل والتحريم بتقليد أسلافِكم المجازفين في ذلك من تلقاء أنفسِهم المفترين على الله سبحانه ﴿خطوات الشيطان﴾ فإن ذلك منهم بإغوائه واستتباعِه إياهم ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾ ظاهرُ العداوة
﴿ثمانية أزواج﴾ الزوجُ ما معه آخَرُ من جنسه يُزاوجُه ويحصُل منهما النسلُ والمرادُ بها الأنواعُ الأربعةُ وإيرادُها بهذا العنوان وهذا العددِ تمهيدٌ لما سيق له الكلامُ من الإنكار المتعلّقِ بتحريم كلِّ واحدٍ من الذكر والأنثى وبما في بطنها وهو بدلٌ من حَمولةً وفرشاً منصوبٌ بما نَصَبهما وجعلُه مفعولاً لكلوا على أنَّ قولَه تعالى وَلاَ تَتَّبِعُواْ الآية معترض بينهما أو حالا مِنْ ما بمعنى مختلفةً أو متعددةً يأباه جزالةُ النظمِ الكريم لظهور أنه مَسوقٌ لتوضيح حالِ الأنعام بتفصيلها أولاً إلى حمولةٍ وفرْشٍ ثم بتفصيلها إلى ثمانية أزواجٍ حاصلةٍ من تفصيل الأولى إلى الإبل والبقر وتفصيلِ الثاني إلى الضأن والمَعَز ثم تفصيلِ كلَ من الأقسام الأربعة إلى الذكر والأنثى كلُّ ذلك لتحرير الموادِّ التي تقوّلوا فيها عليه سبحانه وتعالى بالتحليل والتحريم ثم تبكيتهم بإظهار كذبهم وافترائهم في كل مادة من تلك المواد بتوجيه الإنكار إليها مفصلة واثنين في قوله سبحانه وتعالى ﴿مّنَ الضأن اثنين﴾ بدلٌ من ثمانيةَ أزواج منصوبٌ بناصبه وهو العاملُ في مِنْ أي أنشأ من الضأن زوجين الكبشَ والنعجة
192
الأنعام آية ١٤٤
وقرىء اثنان على الابتداء والضأنُ اسمُ جنس كالإبل وجمعُه ضَئين كأمير أو جنمع ضائن كتاجر وتجْرٍ وقرىء بفتح الهمزة ﴿وَمِنَ المعز اثنين﴾ عطفٌ على مثله شريكْ له في حكمه أي وأنشأ من المعز زوجين التيسَ والعنز وقرىء بفتح العين وهو جمعُ ماعز كصاحب وصحْب وحارس وحرَس وقرىء ومن المِعْزى وهذه الأزواجُ الأربعةُ تفصيلٌ للفَرْش ولعل تقديمَها في التفصيل مع تأخر أصلِها في الإجمال لكون هذين النوعين عرضةً للأكل الذي هو معظمُ ما يتعلق به الحِلُّ والحُرمة وهو السرُّ في الاقتصار على الأمر به في قوله تعالى كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله من غير تعرضٍ للانتفاع بالحمل والركوب وغيرِ ذلك مما حرموه في السائبة وأخواتِها ﴿قُلْ﴾ تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى رسول الله ﷺ إثرَ تفصيلِ أنواعِ الأنعامِ التي أنشأها قُلْ تبكيتا لهم وإظهارا لانقطاعهم عن الجواب ﴿آلذكرين﴾ من ذَيْنك النوعين وهما الكبشين والتيسُ ﴿حَرَّمَ﴾ أي الله عزَّ وجلَّ كما تزعُمون أنه هو المحرم ﴿أم الأنثيين﴾ هما النعجة والعنز نصب الذكرين والأنثيين بحَرَّم وهو مؤخر عنهمات بحسب المعنى وإن توسط بينهما صورةً وكذا قوله تعالى ﴿أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنثيين﴾ أي ما حملت إناثُ النوعين حَرَّم ذكراً كان أو أنثى وقوله تعالى ﴿نَبّئُونِي بِعِلْمٍ﴾ الخ تكريرٌ للإلزام وتثنيةٌ للتبكيت والإفحام أي أخبروني بأمر معلومٍ من جهة الله تعالى من الكتاب أو أخبارِ الأنبياءِ يدل على أنه تعالى حرم شيئاً مما ذُكر أو نبئوني تنبئةً ملتبسةً بعلم صادرةً عنه ﴿إِن كُنتُمْ صادقين﴾ أي في دعوى التحريمِ عليه سبحانه وقوله تعالى
193
﴿وَمِنَ الإبل اثنين﴾ عطفٌ على قوله تعالى من الضأن اثنين أي وأنشأ من الإبل اثنين هما الجمل والناقة ﴿وَمِنَ البقر اثنين﴾ ذكر واثنى ﴿قُلْ﴾ إفحاماً لهم في أمر هذين النوعين أيضاً ﴿آلذكرين﴾ منهما ﴿حَرَّمَ أَمِ الانثيين أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الانثيين﴾ من ذينك النوعين والمعنى إنكارُ أن الله سبحانى حرَّم عليهم شيئاً من الأنواع الأربعة ة إظهار كذبِهم في ذلك وتفصيلُ ما ذكر من الذكور والإناثِ وما في بطونها للمبالغة في الرد عليهم بإيراد الإنكارِ على كل مادةٍ من موادّ افترائِهم كانوا يحرمون من ذكر الأنعام تارة وأولادَها كيفما كانت تارة أخرى مسندين ذلك كلَّه إلى الله سبحانه وإنما عُقّب تفصيلُ كلِّ واحدٍ من نوعي الصغارِ ونوعي الكبارِ بما ذكر من الأمر بالاستفهام والإنكارِ مع حصول التبكيتِ بإيراد الأمر عقيب تفصيل أنواع الأربعةِ بأن يقال قل آلذكور حرم أو الإناثَ أم ما اشتملت عليه أرحامُ الإناث لما في التثنية والتكري من المبالغة في التبكيت والإلزام وقوله تعالى ﴿أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء﴾ تكريرٌ للإفحام كقوله تعالى نَبّئُونِي بِعِلْمٍ وأمْ منقطعة ومعنى الهمزةِ الإنكارُ والتوبيخُ ومعنى بل الإضراب بما ذُكر إلى التَّوبيخِ بوجه
193
الأنعام آية ١٤٥
أخرى بل كنتم حاضرين مشاهدين ﴿إِذْ وصاكم الله بهذا﴾ أي حين وصاكم بهذا الترحيم إذ أنتم لا تؤمنون بنبيَ فلا طريقَ لكم حسبما يقود إليه مذهبُكم إلى معرفة أمثالِ ذلك إلا المشاهددة والسماعُ وفيه من تركيك عقولِهم والتهكمِ بهم ما لا يَخفْى ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا﴾ فنسبَ إليه تحريمَ ما لم يحرم والمرادكبراؤهم والمقررون لذلك أو عمر بنُ لُحيِّ بنِ قُمعةَ وهو المؤسسُ لهذا الشرِّ أو الكلُّ لاشتراكهم في الافتراءعليه سبحانه وتعالى فأي طريق أظلمُ من فريقٍ افتروا الخ ولا يقدح في أظلمية الكلِّ كونُ بعضِهم مخترعينله وبعضِهم مقتدين بهم والفاءُ لترتيب ما بعدها على ما سبق من تبكيتهم وإظهارِ كذِبهم وافترائِهم أيْ هُو أظلمَ منْ كل ظالمٍ وإن كان المنفيُّ صريحا الأظلمية دون المساواةِ كما مر غيرَ مرة ﴿لِيُضِلَّ الناس﴾ متعلق بالافتراء ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من فاعل افترى أي افترى عليه تعالى بصدور التحريم منه تعالى وإنما وصفوا بعد العلمِ بذلك مع أنهم عالمون بعدم صدورِه عنه تعالى إيذانا بخروجهم في الظالم عن الحدود والنهاياتِ فإن من افتلاى عليه تعالى بغير علم بصدوره عنه تعالى مع احتمال الصدورِ عنه إذا كان أظلمَ منْ كلِّ ظالمٍ فما ظنُّك بمن افترى عليه تعالى وهو يعلم أنه لم يصدُرْ عنه ويجوزُ أنْ يكونَ حالاً من فاعليصل أي ملتبساً بغير علم بما يؤدي بهم إليه ﴿إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين﴾ كائناً من كان إلى ما فيه صلاحٌ حالهم عاجلاً أو آجلاً وإذا كان هذا حالُ المتصفين بالظلم في الجملة فما ظنُّك بمن هو في أقصى غاياتِه
194
﴿قُلْ﴾ أُمرَ رسولُ الله ﷺ بعد إلزامِ المشركين وتبكيتِهم وبيانِ أن ما يتقوّلونه في أمر التحريمِ افتراءٌ بحتٌ لا أصلَ له قطعاً بأن يُبيِّن لهم ما حرّمه عليهم وفي قوله تعالى ﴿لا أَجِدُ فِيمَا أُوْحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا﴾ إيذانٌ بأن مناطَ الحلِّ والحُرمةِ هو الوحيُ وأنه ﷺ قد تتبع في جميعَ ما أوحيَ إليه وتفحّص عن المحرمات فلم يجد غيرَ ما فُصِّل وفيه مبالغةٌ في بيان انحصارها في ذلك ومحرما صفةٌ لمحذوف أي لا أجد ريثما تصفحْتُ ما أوحي إلي كعاما محرماً من المطاعم التي حرَّموها ﴿على طَاعِمٍ﴾ أي أيِّ طاعمٍ كان من ذَكَرٍ أَوْ أنثى رداً على قولهم مُحَرَّمٌ على أزواجنا وقوله تعالى لزيادة التقريرِ ﴿إِلا أَن يَكُونَ﴾ أي ذلك الطعامُ ﴿ميتة﴾ وقرىء تكون بالتء لتأنيث الخبرِ وقرىء ميتةٌ بالرفعِ على أنَّ كانَ تامةٌ وقوله تعالى ﴿أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا﴾ حينئذ عطفٌ على أنْ مع ما في حيزه أي إلا وجودَ ميتةٍ أو دماً مسفوحاً أي مصبوباً كالدماء التي في العروقلا كالطحال والكبِد ﴿أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ﴾ أي الخنزيرَ ﴿رِجْسٌ﴾ أي لحمُه قذرٌ لتعوه أكل النجاسات أوخبيث ﴿أَوْ فِسْقًا﴾ عطف على لحمَ خنزيرٍ وما بينهما اعتراضٌ مقرِّر لحرمته ﴿أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ﴾ صفةٌ له من ضحة أي ذُبح على اسم الأصنامِ وإنما سُمِّي ذلك فسقاً لتوغله في الفسق ويجوز أن يكون فسقاً مفعولاً له لأُهِلَّ وهو عطف على يكون والمستكن راجعٌ إلى ما رجع إليه المستكن في يكون ﴿فمن اضطر﴾ أي
194
الأنعام آية ١٤٦
أصابه الضَّرورةُ الداعيةُ إلى أكل الميتة بوجه من الوجة وه المضطرة ﴿غَيْرَ بَاغٍ﴾ في ذلك على مضطرمثله ﴿وَلاَ عَادٍ﴾ قدرَ الضرورة ﴿فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ مبالِغٌ في المغفرةِ والرحمةِ لا يؤاخذه بذلك وليس التقييدُ بالحال الأولى لبيان أنه لو لم يوجَد القيدُ لتحققت الحرمة المبحوثُ عنها بل للتحذير من حرام آخر هو آخذخ حقِّ مضطرٍ آخرَ فإن من أخذ لحمَ الميتة من يد مضطرٍ آخرَ فأكله فإن حرمتَه ليست باعتبا كونِه لحمَ الميتة بل باعتبار كونه حقاً للمضطر الآخر وأما الحال الثاني فلتحقيق زوالِ الحرمةِ المبحوثِ عنها قطعاً فإن التجاوزَ عن القدر الذي يُسدّ به الرمقُ حرامٌ من حيث إنه لحمُ الميتة وفي التعرض لوصفي المغفرةِ والرحمةِ إيذانٌ بأن المعصيةَ باقيةٌ لكنه تعالى يغفرُ له ويرحمه والآيةُ محكمةٌ لأنها تدل على أنه ﷺ لم يجد فيما أوحيَ إليه في تلك الغاية غيرَه ولا ينافيه ورودُ التحريمِ بعد ذلك في شيء آخرَ فلا يصِحُّ الاستدلالُ بها على نسخ الكتابِ بخبر الواحدِ ولا على حل الأشياءِ التي هي غيرُها إلا مع الاستصحاب
195
﴿وعلى الذين هادوا﴾ خاصة لا على من عجاهم من الأولين والآخِرين ﴿حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ﴾ أي كلَّ ما له أصبَعٌ من الإبل والسباعِ والطيورِ وقيل كلَّ ذي مِخْلبٍ وحافرٍ وسُمِّيَ الحافرُ ظفُراً مجازاً والمسبَّبُ عن الظلم هو تعميمُ التحريمِ حيث كان بعضُ ذواتِ الظفرِ حلالاً لهم فلما ظلموا عم التحريمُ كلَّها وهذا تحقيقٌ لما سلف من حصر المحرمات فيما فصل بلإبطال ما يخالفه من فرية اليهود وتكذيبهم في ذلك فإنهم كانوا يقولون لسنا أولَ من حُرِّمتْ عليه وإنما كانت محرمةً على نوح وإبراهيم من بعدَهما حتى انتهى الأمرُ إلينا ﴿وَمِنَ البقر والغنم حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا﴾ لا لحومَهما فإنها باقيةٌ على الحل والشحومُ الثروبُ وشحومُ الكلى والإضافةُ لزيادة الربطِ ﴿إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا﴾ استثناء من الشحوم ومخرج لما علِق من الشحم بظهورهما عن حكم التحريم ﴿أَوِ الحوايا﴾ عطفٌ على ظهورهما أي ما حملته الحوايا وهي جمعُ حاوية أو حاوِياء كقاصِعاء وقواصِعَ أو حوية كسفينة وسفائن ﴿أَوْ مَا اختلط بِعَظْمٍ﴾ عطف على ما حمَلَتْ وهو شحمُ الأَلْيةِ واختلاطُه بالعظم اتصالُه بعُجْب الذنب وقيل هو كلُّ شحمٍ متصلٍ بالعظم من الأضلاع وغيرِها ﴿ذلك﴾ إشارة إلى الجزاء والتحريم فهو على الأول نُصب على أنَّه مصدرٌ مُؤكدٌ لما بعده وعلى الثَّاني على أنَّه مفعولٌ ثان لهأي ذلك التحريمُ ﴿جزيناهم بِبَغْيِهِمْ﴾ بسبب ظلمِهم وهو قتلُهم الأنبياءَ بغير حق وأكلُهم الربا وقد نهو عنه وَأَكْلِهِمْ أموالَ الناس بالباطل كقوله تعالى فَبِظُلْمٍ مّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طيبات أُحِلَّتْ لَهُمْ وكانوا كلما أتَوْا بمعصية عُوقبوا بتحريم شيءٍ مما أحل لهم وهم ينكرون ذلك ويدّعون أنها لم تزَلْ محرمةً على الأمم فرد ذلك عليهم وأكذ بقوله تعالى ﴿وِإِنَّا لصادقون﴾ أي في جميع أخبارِنا التي من حملتها هذا الخبرُ ولقد ألقمهم الحجر قوله تعالى كُلُّ الطعام كَانَ حِلاًّ لّبَنِى إسرائيلَ إلا ما حرم إسرائيل على نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التوراة قُلْ فَأْتُواْ بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين روي أنه ﷺ لما قال لهم ذلك بهتوا ولم يجسروا أن
195
الأنعام آية ١٤٧ ١٤٩
يخرجوا التوراة وكيف وقد بُيِّن فيها جميعُ ما يحذرون وأوضح بيان
196
﴿فَإِن كَذَّبُوكَ﴾ قيل الضمير لليهود لأنهم أقربُ ذِكراً ولذكر المشركين بعد ذلك بعنوان الإشراك وقيل للمشركين فالمعنى على الأول إن كذبتْك اليهودُ في الحكم المذكورِ وأصروا على ما كانُوا عليهِ من ادعاء قِدَم التحريم ﴿فَقُلْ﴾ لهم ﴿ربكم ذو رحمة واسعة﴾ لا يؤاخذكم لكل ما تأتونه من المعاصي ويُمهلكم على بعضها ﴿وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ﴾ بالكلية ﴿عَنِ القوم المجرمين﴾ فلا تنكروا ما وقع منه تعالى من تحريمِ بعضِ الطيبات عليكم عقوبةً وتشديداً وعلى الثاني فإن كذبك المشركون يما فُصل من أحكام التحليل والتحريمِ فقل لهم ربُكم ذو رحمة واسعة لا يعاجلكم بالعقوبة على تكذيبكم فلا تغتروا بذلك فإنَّه إمهالٌ لا إهمالٌ وقيل ذو رحمةٍ للمطيعين وذو بأس شديد على المجرمين فأقيم مُقامَه قوله تعالى وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ الخ لتضمنه التنبيهَ على إنزال البأسِ عليهم مع الدلالة أنه لا حقّ بهم اُلبتةَ منْ غيرِ صارفٍ يصرِفه عنهم أصلاً
﴿سَيَقُولُ الذين أَشْرَكُواْ﴾ حكاية لفنَ آخرَ من كُفرِهم وإخبارُه قبل وقوعِه ثم وقوعُه حسبما أُخبر به كما يحكيه قوله تعالى عند وقوعِه وَقَالَ الذين أَشْرَكُواْ لَوْ شَآء الله ما عبدنا مِن دُونِهِ مِن شَىْء صريحٌ في أنَّه من عندِ الله ﴿لو شآء الله ما أَشْرَكْنَا﴾ أي لو شاء خلافَ ذلك مشيئةَ ارتضاءٍ لما فعلنا الإشراك نحن ﴿ولا آباؤنا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَىْء﴾ أرادوا به أنَّ ما فعلُوه حقٌّ مرضيٌّ عندَ الله تعالَى لاَ الاعتذارَ من ارتكاب هذه القبائحِ بإرادة الله تعالى إياها منهم حتى ينتهضَ ذمُّهم به دليلا للمعتزل ألايرى إلى قوله تعالى ﴿كذلك كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ﴾ أي مثلَ ما كذّبك هؤلاءِ في أنه تعالى منَع من الشرك ولم يحرِّم ما حرموه كذّب متقدموهم الرصل فإنه صريحٌ فيما قلنا وعهطف آباؤنا على الضمير للفصل بلا ﴿حتى ذَاقُواْ بَأْسَنَا﴾ الذي أنزلنا عليهم بتكذيبهم ﴿قُلْ هَلْ عِندَكُم مّنْ عِلْمٍ﴾ من أمر معلوم يصِحّ الاحتجاجُ به على ما زعمتم ﴿فَتُخْرِجُوهُ لَنَا﴾ أي فتُظهروه لنا ﴿إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن﴾ أي ما تتبعون في ذلكَ إِلاَّ الظنَّ الباطلَ الذي لاَ يُغْنِى مِنَ الحق شيئاً ﴿وَإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ﴾ تكذِبون على الله عزَّ وجلَّ وليس فيه دلالةٌ على المنع من اتباع الظنِّ على الإطلاق بل فيما يعارضه قطعي
﴿قُلْ فَلِلَّهِ الحجة البالغة﴾ الفاء جواب شرطمحذوف أي قد ظهر أن لا حجةَ لكم فللَّه الحجةُ البالغة أي البينةُ الواضحة التيبلغت غايةَ المتانةِ والثباتِ أو بلغ بها صاحبُها صحةَ دعواه والمرادُ بها الكتابُ والرسولُ والبيانُ وهي من الحجج بمعنى القصدَ كأنها تقصُد إثباتَ الحُكم وتطلُبه ﴿فَلَوْ شَاء﴾ هدايتَكم جميعاً ﴿لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ بالتوفيق لها والحملِ عليها لكن
196
الأنعام آية ١٥٠ ١٥١
لم يشأْ هدايةَ الكلِّ بل هدايةَ البعضِ الصارفين هِممَهم إلى سلوك طريقِ الحقِّ وضلالَ آخرين صرفوا اختيارَهم إلى خلاف ذلك من غير صارف يلويهم ولا عاطفٍ يَثْنيهم
197
﴿قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ﴾ أي أحضِروهم وهو اسمُ فعلٍ لا يتصرَّف على لغة أهلِ الحجاز وفعلٌ يؤنث ويُجمع على لغة بني تميم على رأي الجمهور وقد خالفهم البعض في فعليته وليس بشيء وأصلُه عند البصريين هالُمّ من لَمّ إذا قصَد حُذفت الألفُ لتقدير السكون في اللام فإنه الأصل وعند الكوفيين هلْ أُمَّ فحذفت الهمزةُ بإلقاء حركتِها على اللام وهو بعيد لأن هل تدخل الأمر ويكون متعدياً كما في الآية ولازما كمال في قوله تعالى هَلُمَّ إِلَيْنَا ﴿الذين يَشْهَدُونَ أَنَّ الله حَرَّمَ هذا﴾ وهم قدوتُهم الذين ينصُرون قولَهم وإنما أُمروا باستحضارهم ليُلزِمَهم الحجة ويظهربانقطاعهم ضلالتَهم وأنه لا متمسَّكَ لهم كمن يقلدهم ولذلك قُيّد الشهداءُ بالإضافة ووُصفوا بما يدل على أنهم شهداءُ معروفون بالشهادة لهم وبنُصرة مذهبهم ﴿فَإِن شَهِدُواْ﴾ بعد ما حضَروا بأن الله حرم هذا ﴿فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ﴾ أي فلا تصدقْهم فإنه كذِبٌ بحتٌ وافتراءٌ صِرْفٌ وبيِّنْ لهم فسادَه فإن تسليمَه منهم موافقة لهم في الهادة الباطلة ﴿وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الذين كَذَّبُواْ بآياتنا﴾ من وُضع المُظْهر مقامَ المُضْمَر للدِلالة على أن من كذَّب بآياتِ الله تعالى وعدَل به غيرَه فهو متبع للهوى لا غيرُ وأن من اتبع الحجةَ لا يكون إلا مصدقاً بها ﴿والذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالاخرة﴾ كعبدة الأوثان عطفٌ على الموصول الأولِ بطريق عطفِ الصفةِ على الصفة مع اتحاد الموصوف كما في قولِه... إلى الماجد القَرْمِ وابنِ الهما م وليثِ الكتائبِ في المزْدَحَمْ فإن من يكذب بآياته تعالى لا يؤمن بالآخرة وبالعكءس ﴿وَهُم بِرَبِهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ أي يجعلون له عديلا بلا عطفٌ على لا يؤمنون والمعنى لا تتبع أهواءَ الذين يجمعون بين تكذيبِ آياتِ الله وبين الكفرِ بالآخرة وبين الإشراكِ به سبحانه لكن لا على أن يطكون مدارُ النهي الجمعُ المذكورُ بل على أن أولئك جامعون لها متصفون بكلها
﴿قُلْ تَعَالَوْاْ﴾ لما ظهر بُطلانُ ما ادعَوْا من أن إشراكَهم وإشراكَ آبائِهم وتحريمَ ما حرموه بأمر الله تعالى ومشيئتِه بظهور عجْزِهم عن إخراج شيءٍ يُتمسّك به في ذلك وإحضارِ شهداءَ يشهدون بما ادعَوْا في أمر التحريم بعد ما كُلّفوه مرةً بعد أخرى عجزاً بيناً أمر رسول الله ﷺ بأن يبين لهم من المحرمات ما يقتضي الحالُ بيانَه على الأسلوب الحكيم إيذاناً بأن حقَّهم الاجتنابُ عن هذه المحرماتِ وأما الأطعمةُ المحرمةُ فقد بُينت بقوله تعالى قُل لا أجد الآية وتعالى أمرٌ من التعالي والأصلُ فيه أن يقله من في مكان
197
الأنعام آية ١٥١
عالٍ لمن هو في أسفلَ منه ثم اتُّسع فيه بالتعميم كما أن الغنيمة في الأصل إصابةُ الغَنَم من العدو ثم استعملت في إصابة كلِّ ما يُصاب منهم اتساعاً في الفوز بكل مكلب من غير مشقة ﴿اتل﴾ جوابُ الأمر وقوله تعالى ﴿مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ﴾ منصوبٌ به على أن ما موصولةٌ والعائدُ محذوفٌ أي اقرأْ الذي حرمه ربُّكم أي الآياتِ المشتمِلةَ عليه أو مصدريةٌ أي الآياتِ المشتملة على تحريمه أو يحرم على أنها استفهاميةٌ والجملةُ مفعول لأتنل لأتن التلاوةَ من باب القول كأنه قيل أقُلْ أيُّ شيءٍ حرم ربكم ﴿عَلَيْكُمْ﴾ متعلقٌ بحرّم على كل حال وقيل بأتلُ والأول أنسبُ بمقام الاعتناءِ بإيجاب الانتهاءِ عن المحرمات المذكورةِ وهو السر في التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم فإن تذكيرَ كونِه تعالى رباً لهم ومالكاً لأمرهم على الإطلاق من أَقْوى الدَّواعي إلى انتهائهم عما نهاهم عنه أشدَّ انتهاءٍ وأنْ في قولِه تعالَى ﴿إِلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ﴾ مفسرةٌ لفعل التلاوةِ المعلَّقِ بما حرم ولا ناهيةٌ كما ينبىء عنه عطفُ ما بعده من الأوامر والنواهي عليه وليس من ضرورة كونِ المعطوفِ عليه تفسير تلاوة المحرمات بحسب منطوقه كونُ المعطوفاتِ أيضاً كذلك حتى يمتنع انتظامُ الأوامر في سلك العطفِ عليه بل يكفي في ذلك كونُها تفسيراً لها باعتبار لوازمِها التي هي النواهي المتعلقةُ بأضداج ما تعلقت به فإن الأمرَ بالشيء مستلزمٌ للنهي عن ضده بل هو عينُه عند البعض كأن الأوامرَ ذُكرت وقُصد لوازمُها فإن عطفَ الأوامرِ على النواهي الواقعةِ بعد أن المفسرة لتلاوة المحرماتِ مع القطع بأن المأمورَ به لا يكون محرماً دليلٌ واضحٌ على أن التحريمَ راجعٌ إلى الأضداد على الوجهالمذكور فكأنه قيل أتلُ ما حرم ربكم أن لا تشركوا ولا تُسيئوا إلى الوالدين خلا أنه قد أُخرج مُخرجَ الأمرِ بالإحسان إليهما بين النهيَين المكتنِفين له للمبالغة في إيجاب مراعاةِ حقوقِهما فإن مجرَّدَ تركِ الإساءةِ إليهما غيرُ كافٍ في قضاء حقوقِهما ولذلك عُقّب به النهيُ عن الإشراك الذي هو أعظمُ المحرماتِ وأكبرُ الكبائرِ ههنا وفي سائر المواقعِ وقيل أن ناصبةٌ ومحلُّها النصبُ بعليكم على أنه للإغراء وقيل النصبُ على البدلية مما حرم وقيل من عائدها المحذوفِ على أن لا زائدة وقيل الجرُّ بتقدير اللام وقيل الرفع بتقدير المتلو أن لا تشركو أو المحرَّمُ أن لا تشركوا بزيادة لا وقيل والذي عليه التعويلُ هو الأول لأمور من جملتها أن في إخراج المفسَّرِ على صورة النهي مبالغةً في بيان التحريمِ وقوله تعالى ﴿شَيْئاً﴾ نُصب على المصدرية أو المفعولية أي لا تشركوا به شيئاً من الإشراك أو شيئاً من الأشياء ﴿وبالوالدين﴾ أي وأحسِنوا بهما ﴿إحسانا﴾ وقد مر تحقيقه ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ﴾ تكليفٌ متعلق بحقوق الأولادِ عقّب به التكليفَ المتعلقَ بحقوق الوالدين أي لا تقتلوهم بالوأد ﴿مّنْ إملاق﴾ أي من أجل فقرٍ كما في قوله تعالى خَشْيَةَ إملاق وقيل هذا في الفقر الناجزِ وذا في المتوقَّع وقوله تعالى ﴿نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ﴾ استئنافٌ مَسوقٌ لتعليل النهي وإبطالِ سببيةِ ما اتخذوه سبباً لمباشرة المنهيعنه وضمانٌ منه تعالى لأرزاقهم أي نحن نرزق الفريقين لا أنتم فلا تخافوا الفقرَ بناءً على عجزكم عن تحصيل الرزق وقوله تعالى ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ الفواحش﴾ كقوله تعالى وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً الآية إلا أنه جىء ههنا بصيغة الجمعِ قصداً إلى النهي عن أنواعها ولذلك أُبدل عنها قولُه تعالى ﴿ما ظهرَ منها وما بَطَنَ﴾ أي ما يُفعل منها علانية في الحوانيت كما هو دأَبُ أراذلِهم وما يفعل سراً باتخاذ الأخدانِ كما هو عادةُ أشرافِهم وتعليقُ النهي بقُربانها إما للمبالغة في الزجر
198
الأنعام آية ١٥٢
عنها لقوة الدواعي إليها وإما لأن قربانَها داعٍ إلى مباشرتها وتوسيطُ النهي عنها بين النهي عن قتل الأولادِ والنهي عن القتلِ مطلقاً كما وقعَ في سورةِ بني إسرائيل باعتبار أنها مع كونها في نفسها جنايةً عظيمةً في حكم قتلِ الأولادِ فإن أولادَ الزنا في حكم الأموات وقد قال ﷺ في حق العزلِ إن ذاك وأدٌ خفيٌّ ومن ههنا تبين أن حملَ الفواحشِ على الكبائر مطلقاً وتفسير ما ظهرَ منها وما بطن بما فُسِّر به ظاهِرُ الإثمِ وباطنُه فيما سلف من قبيل الفصلِ بين الشجر ولِحائِه ﴿وَلاَ تقتلوا النفس التى حَرَّمَ الله﴾ أي حرم قتلَها بأن عصمها بالإسلام أو بالعهد فيخرُج منها الحربيُّ وقوله تعالى ﴿إِلاَّ بالحق﴾ استثناءٌ مفرغٌ من أعم الأحوالِ أيْ لا تقتلوها في حالٍ من الأحوالِ إلا حالَ ملابستِكم بالحق الذي هو أمرالشرع بقتلها وذلك بالكفر بعد الإيمان والزنا بعد الإحصان وقتلِ النفسِ المعصومةِ أو من أعمِّ الأسباب أي لا تقتلوها بسب من السباب إلا بسبب الحقِّ وهو ما ذكر أو من أعمِّ المصادر أي لا تقتُلوها قتلاً ما إلا قتلاً كائناً بالحق وهو القتلُ بأحد الأمور المذكورة ﴿ذلكم﴾ إشارةٌ إلى ما ذكر من التكاليف الخمسةِ وما في ذلك من معنى البعد للإيذان بعلو طبقاتها من بين التكاليف الشرعية وهو مبتدأُ وقولُه تعالى ﴿وصاكم بِهِ﴾ أي أمركم به ربكم أمراً مؤكداً خبرُه والجملة استئنافٌ جيء به تجديدا للعهد وتأكيدا لإيجا بالمحافزظة على ما كُلِّفوه ولما كانت الأمورُ المنهيُّ عنها مما تقضي بديهةُ العقول بقبيحها فُصِّلت الآيةُ الكريمة بقوله تعالى ﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ أي تستعملون عقولَكم التي تعقِل نفوسَكم وتحبِسُها عن مباشرة القبائحِ المذكورة
199
﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم﴾ توجيهُ النهي إلى قُربانه لما مر من المبالغةُ في النَّهيِ عن أكله ولإخراج القُربان النافعِ عن حكم النهي بطريق الاستثناء أي لا تتعرضوا له بوجهٍ من الوجوه ﴿إِلاَّ بالتى هِىَ أَحْسَنُ﴾ إلا بالخَصلة التي هي أحسنُ ما يكونُ من الحِفظ والتئمير ونحو ذلك والخطابُ للأولياء والأوصياء لقوله تعالى ﴿حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ﴾ فإنه غايةٌ لما يُفهم من الاستثناء لا للنهي كأنه قيل احفظوه حتى يصيرَ بالغاً رشيداً فحينئذ سلّموه إليهِ كما في قولِه تعالى فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم والأشُدُّ جمع شِدّة كنعمة وأنعم أو شَدّ ككلب وأكلُب أو شد كصر وآصر وقيل هو مفرد كلآنك ﴿وَأَوْفُواْ الكيل والميزان بالقسط﴾ أي بالعدل والتسوية ﴿لاَ نُكَلّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ إلا ما يسعُها ولا يعسُر عليها وهو اعتراضٌ جيء به عَقيبَ الأمرِ بالعدل للإيذان بأن مراعاةَ العدلِ كما هو عسيرٌ كأنه قيل عليكم بما في وسعكم وما وراءه معفوٌّ عنكم ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ﴾ قولاً في حكومة أو شهادة أو نحوِهما ﴿فاعدلوا﴾ فيه ﴿وَلَوْ كَانَ﴾ أي المقولُ له أو عليه ﴿ذَا قربى﴾ أذ ذا قرابةٍ منكم ولا تميلوا نحوهم أصلاٌ وقد مر تحقيق معنى لو في مثل هذا الموضعِ مراراً ﴿وَبِعَهْدِ الله أَوْفُواْ﴾ أي ما عَهد إليكم من الأمور المعدودةِ أو أيِّ عهدٍ كان فيدخُل فيه ما ذُكر
199
الأنعام آية ١٥٣ ١٥٤
دخولا أوليا أو منا عاهدتم الله عليه من الإيمان والنذور وتقديمُه للاعتناء بشأنه ﴿ذلكم﴾ إشارةٌ إلى ما فُصِّل من التكاليف ومعنى البُعد لما ذكر فيما قبل ﴿وصاكم بِهِ﴾ أمركم به أمراً مؤكداً ﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ تتذكرون ما في نضاعيفه وتعلمون بمقتضاه وقرىء بمقتضاه وقرىء بتشديد الذالِ وهذه أحكامٌ عشَرةٌ لا تختلف باختلاف الأممِ والأعصار عن ابن عباس رضي الله عنهما هذه آياتٌ محكماتٌ لم ينسَخْهن شيء من جميع الكتُب وهن محرماتٌ على بني آدم كلِّهم وهن أمُّ الكتابِ من عمِل بهن دخلَ الجنة ومن تركهن دخلَ النار وعن كعب الأحبارِ والذي نفسُ كعبٍ بيده إن هذه الآياتِ لأولُ شيءٍ في التوراة بسم الله الرحمن الرحيم قل تعالَوا الآيات
200
﴿وَأَنَّ هذا صراطي﴾ إشارةٌ إلى ما ذكر في الآيتين من الأمر والنهي قاله مقاتل وقيل إلى ما ذكر في السورة فإنها بأسرها في إثبات التوحيدِ والنبوة وبيانِ الشريعة وقرىء صراطيَ بفتح الياء ومعنى إضافتِه إلى ضميره ﷺ انتسابه إليه ﷺ من حيث السلوكُ لا من حيث الوضعُ كما في صراط اللهوالمراد بيان أن ما فضل من الأوامر والنواهي غيرُ مختصةٍ بالمتلو عليهم بل متعلقة به ﷺ أيضا وأنه ﷺ مستمرٌّ على العمل بها ومراعاتِها وقوله تعالى ﴿مُّسْتَقِيماً﴾ حالٌ مؤكدةٌ ومحل أن مع ما في حيزها بحذف لام العلة أي ولأن هذا صراطي أي مسلكي مستقيماً ﴿فاتبعوه﴾ كقوله تعالى وَأَنَّ المساجدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَداً وتعليلُ إتباعِه بكونه صراطه ﷺ لا بكونه صراطَ الله تعالى مع أنه في نفسه كذلك من حيث أن سلوكه ﷺ فيه داعٍ للخلق إلى الاتّباع إذ بذلك يتضح عندهم كونُه صراطَ الله عزَّ وجلَّ وقُرىء بكسر الهمزة على الاستئناف وقرىء أنْ هذا مخففةً من أنّ على أن اسمَها الذي هو ضميرُ الشأنِ محذوفٌ وقرىء سراطي وقرىء هذا صراطي وقرىء هذا صراطُ ربِّكم وهذا صراطُ ربِّك ﴿وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل﴾ الأديانَ المختلفةَ أو طرقَ البدع والضلالات ﴿فَتَفَرَّقَ بِكُمْ﴾ بحذف إحدى التاءين والباء للتعدية أي فتفرِّقَكم حسَبَ تفرُّقِها أياديَ سبا فهو كما ترى أبلغُ من تفرقكم كما قيل من أن ذهَبَ به لما فيه من الدلالة على الاستصحاب أبلغُ من أذهبه ﴿عَن سَبِيلِهِ﴾ أي سبيل الله الذي لا عِوَجَ فيهِ ولا حرج وهو دين الإسلام الذي ذُكر بعضُ أحكامه وقيل هو اتباعُ الوحي واقتفاءُ البرهان وفيه تنبيه على أن صراطه ﷺ عينُ سبيل الله تعالى ﴿ذلكم﴾ غشارة إلى ما مرَّ من اتباع سبيلِه تعالى وتركِ اتباعِ سائر السبل ﴿وصاكم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ اتباعَ سبُلِ الكفر والضلالة
﴿ثم آتينا مُوسَى الكتاب﴾ كلامٌ مسوقٌ من جهتِه تعالى تقريراً للوصية وتحقيقاً لها وتمهيداً لما يعقُبه منْ ذكر إنزال القرآنِ المجيد كما ينبىء عنه تغيرر الأسلوب بالالتفات إلى التكلم معطوفٌ على مقدر يقتضيه المقامُ ويستدعيهِ النظامُ كأنَّه قيل بعد قوله تعالى ذلكم
200
الأنعام آية ١٥٥ ١٥٦
وصاكم بِهِ بطريق الاستئنافِ تصديقاً له وتقريراً لمضمونه فعلنا ذلك ثم آتينا الخ كما أن قوله تعالى وَنَطْبَعُ على قُلُوبِهِمْ معطوفٌ على ما يدلُّ عليهِ معنى أَوَ لَمْ يَهْدِ الخ كأنه قيل يغفُلون عن الهداية وتطيع الخ وأما عطفُه على ذلكم وصاكم به ونظمُه معه في سلك الكلامِ الملقّن كما أجمع عليه الجمهورُ فمما لا يليق بجزال النظمِ الكريم فتدبر وثم للتراخي في الإخبار كما في قولك بلغني ما صنعتَ اليوم ثم ما صنعتَ أمسِ أعجبُ أو للتفاوت في الرتبة كأنه قيل ذلكم وصاكم به قديماً وحديثاً ثم أعظمُ من ذلك أنا آتينا موسى التوراةَ فإن إيتاءَها مشتملةً على الوصية المذكورةِ وغيرِها أعظمُ من التوصية بها فقط ﴿تَمَامًا﴾ للكرامة والنعمة أي إتماماً لهما على أنه مصدرٌ من أتمّ بحذف الزوائد ﴿عَلَى الذى أَحْسَنَ﴾ أي على مَنْ أحسن القيامَ به كائناً مَنْ كان ويؤيده أنه قرىء على الذين أحسنوا وتماماً على المحسنين أو على الذي أحسن تبليغَه وهو مُوسى عليه السلامُ أو تماماً على ما أحسنه موسى عليه السلام أي أجاده من العلم والشرائعِ أي زيادةً على علمه على وجه التتميم وقرىء بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي على الذي هو أحسن دين وأرضاه وآتينا موسى الكتاب تماماً أي تاماً كاملاً على أحسنِ ما يكون عليه الكتُب ﴿وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَىْء﴾ وبياناً مفصلاً لكلِّ مَا يُحتاج إليهِ في الدين وهو عطفٌ على تماماً ونصبُهما إما على العلية وعلى المصدرية كمَا أُشير إليهِ أو على الحالية وكذا قوله تعالى ﴿وَهُدًى وَرَحْمَةٌ﴾ وضمير ﴿لعلهم﴾ لبني إسرائي المدلولِ عليهم بذكر موسى وإيتاءِ الكتاب والباء في قوله تعالى ﴿بِلَقَاء رَبّهِمْ يُؤْمِنُونَ﴾ قدمت عليه محافظةً على الفواصل قال ابن عباس رضي الله عنهما كي يؤمنوا بالبعث ويصدّقوا بالثواب والعذاب
201
﴿وهذا﴾ أي الذي تُليت عليكم أوامرُه ونواهيه أي القرآن ﴿كِتَابٌ﴾ عظيمُ الشأنِ لا يقادَر قدرُه وقوله تعالى ﴿أنزلناه مُبَارَكٌ﴾ أي كثيرُ المنافع ديناً ودنيا صفتان لكتابٌ وتقديمُ وصفِ الإنزال مع كونه غيرَ صريحٍ لأن الكلام مع منكريه أو خبرانِ آخرانِ لاسمِ الإشارة أي أنزلناه مشتملاً على فنون الفوائدِ الدينية والدنيوية التي فُصِّلت عليكم طائفةٌ منها والفاء في قوله تعالى ﴿فاتبعوه﴾ لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن عِظمَ شأنِ الكتابِ في نفسه وكونَه منزلاً من جنابِه عزَّ وجلَّ مستتبعاً للمنافع الدينية والدنيوية موجبٌ لاتباعه أيَّ إيجاب ﴿واتقوا﴾ مخالفتَه ﴿لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ بواسطة اتباعِه والعمل بموجبه
﴿أَن تَقُولُواْ﴾ علةٌ لأنزلناه المدلولِ عليه بالمذكور لا لنفسه للزوم الفصلِ حينئذ بين العامل والمعمولِ بأجنبيّ هو مباركٌ وصفاً كان أو خبراً أي أنزلناه كذلك كراهةَ أن تقولوا يوم القيام لو لم تُنْزِله ﴿إِنَّمَا أُنزِلَ الكتاب﴾ الناطقُ بتلك الأحكام العامة لكل الأمم ﴿على طائفتين﴾ كمائنتين ﴿مِن قَبْلِنَا﴾ وهما اليهودُ والنصارى وزتخصيص الإنزال بكتابيهما لأنهما الذي اشتهر حينئذ فيما بين الكتب السماويةِ بالاشتمال على الأحكام لا سيما الأحكامِ المذكورة ﴿وإن كنا﴾
201
الأنعام آية ١٥٧
أنْ هيَ المخففةُ منَ إن واللام فارقةٌ بينهما وبين النَّافيةِ وضميرُ الشَّأنِ محذوفٌ ومرادُهم بذلك دفعُ ما يرد عليهم من أن نزولَه عليهما لا ينافي عمومَ أحكامِه فلمَ لمْ تعملوا بأحكامه العامة أي وإنه كنا ﴿عَن دِرَاسَتِهِمْ لغافلين﴾ لا ندري ما في كتابهم إذ لم يكن على لغتنا حتى نتلقّى منه تلك الأحكامَ العامة ونحافظَ عليها وإن لم يكن منزلاً علينا وبهذا تبيّن أن معذرتَهم هذه مع أنهم غيرُ مأمورين بما في الكتابين لاشتمالهما على الأحكام المذكورة المتناولة الأممِ كما أن قطعَ تلك المعذرةِ بإنزال القرآنِ لاشتماله أيضاً عليها لا على سائر الشرائعِ والأحكام فقط
202
﴿أَوْ تَقُولُواْ﴾ عطفٌ على تقولوا وقرىء كلاهما بالياء على الالتفات من خطاب فاتبعوه واتقوا ﴿لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الكتاب﴾ كما أنزل عليهم ﴿لَكُنَّا أهدى مِنْهُمْ﴾ إلى الحقِّ الذي هو المقصِدُ الأقصى أو إلى ما في تضاعيفِه من جلائل الأحكام والشرائع ودقائقِها لحِدّة أذهانِنا وثَقابةِ أفهامنا ولذلك تلقّفنا من فنون العلم كالقصص والأخبار والخُطب والأشعار ونحوِ ذلك طرفاً صالحاً ونحن أمّيون وقوله تعالى ﴿فَقَدْ جَاءكُمْ﴾ متعلِّق بمحذوفٍ يُنبىء عنه الفاءُ الفصيحةُ إما معللٌ به أي لا تعتذروا بذلك فقد جاءكم الخ وإما شرطٌ له أي إن صدقتم فيما كنتم تعدّون من أنفسكم من كونكم أهدى من الطائفتين على تقدير نزولِ الكتابِ عليكم فقد حصل ما فرضتم وجاءكم ﴿بينة﴾ وأي بينة أي حجة واضحة لا يُكتَنهُ كنهها وقوله تعالى ﴿من رَّبّكُمْ﴾ متعلق بجاءكم أو بمحذوف هو صفةٌ لبينة أي بينةٌ كائنا منه تعالى وأيا ما كان ففيه دلالة على فضلها الإضافي كما أن في تنوينها التفخيميِّ دلالةٌ على فضلها الذاتي وفي التعرُّض لوصفِ الربوبيةِ مع الإضافةِ إلى ضميرِهم مزيدُ تأكيدٍ لإيجاب الاتباع ﴿وَهُدًى وَرَحْمَةٌ﴾ عطفٌ على بينةٌ وتنوينُهما أيضاً تفخيميٌّ عبّر عن القرآن بالبينة إيذاناً بكمال تمكنِهم من دراسته ثم بالهدى والرحمة تنبيهاً على أنه مشتملٌ على ما اشتمل عليه التوراةُ من هداية الناس ورحمتِهم بل هو عينُ الهداية والرحمة ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ﴾ الفاءُ لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن مجيءَ القرآن المشتمل على الهدى والرحمة موجبٌ لغاية أظلمية مَنْ يكذّبه أي وإذَا كانَ الأمرُ كذلك فَمَنْ أَظْلَمُ ﴿مِمَّن كَذَّبَ بآيات الله﴾ وُضع الموصولُ موضعَ ضميرِهم بطريق الالتفات تنصيصاً على اتصافهم بما في حيزلصلة وإشعارا بعلة التحكيم وإسقاطاً لهم عن رتبة الخطابِ وعبّر عما جاءهم بآيات الله تهويلاً للأمر وتنبيهاً على أن تكذيبَ أي آيةٍ كانت من آياتِ الله تعالى كافٍ في الأظلمية فما ظنكتكذيب القرآن المنطوي على الكل والمعنى إنكارُ أن يكون أحد ظلم ممن فعل ذلك أو مساوياً له وإن لم يكن سبكُ التركيب متعرضاً لإنكار المساواة أو نفيها فإذا قيل مَنْ أكرمُ من فلان أو لا أفضل منه فالمراد به حتماً بحكم العرف الفاشي والاستعمال المطرد أنه أكرمُ من كل كريم وأفضل من كل فاضل وقد مر مراراً ﴿وَصَدَفَ عَنْهَا﴾
202
الأنعام آية ١٥٨
أي صرَفَ الناس عنها فجمعَ بين الضلال والإضلالِ ﴿سَنَجْزِى الذين يَصْدِفُونَ﴾ الناسَ ﴿عَنْ آياتنا﴾ وعيدٌ لهم ببيان جزاء إضلالِهم بحيث يُفهم منه جزاءُ ضلالهم ايضا ووضعُ الموصول موضعَ المضمرِ لتحقيق مناطِ الجزاء ﴿سُوء العذاب﴾ أي العذابَ السيءَ الشديدَ النكاية ﴿بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ﴾ أي بسببِ ما كانُوا يفعلون الصَّدْف والصرْف على التجدد والاستمرارِ وهذا تصريحٌ بما أَشعَرَ به إجراءُ الحُكم على الموصول من عِلِّيَّةِ مَا في حيزِ الصِّلةِ له
203
﴿هَلْ يَنظُرُونَ﴾ استئنافٌ مَسوقٌ لبيان أنَّه لا يتأتَّى منهمْ الإيمانُ بإنزال ما ذكر من اللبينات والهدى وأنهم لا يرعوون عن التمادي في المكابرة واقتراحِ ما ينافي الحكمةَ التشريعية من الآيات المُلجئة وأن الإيمانَ عند إتيانها مما لا فائدةَ له أصلاً مبالغةً في التبليغ والإنذار وإزاحةِ العلل والأعذار أي ما ينتظرونَ ﴿إِلا أَن تَأْتِيهُمُ الملائكة أَوْ يَأْتِىَ رَبُّكَ﴾ حسبما اقترحوا بقولهم لول أُنزِلَ عَلَيْنَا المَلائِكَةُ أَوْ نرى رَبَّنَا وبقولهم أو تأتي بالله والملائكة قَبِيلاً وبقولهم لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ونحو ذلك أو إلا أن تأتيهم ملائكةُ العذاب أو يأتيَ أمرُ ربك بالعذاب والانتظارُ محمولٌ على التمثيل كما سيجيء وقرىء يأتيَهم بالياء لأن تأنيثَ الملائكة غيرُ حقيقي ﴿أو يأتي بعضُ آيات ربِّكَ﴾ أي غيرُ ما ذكركما اقترحوا بقولهم أَوْ تُسْقِطَ السماء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا ونحوِ ذلك من عظائمِ الآياتِ التي علّقوا بها إيمانَهم والتعبيرُ عنها بالبعض للتهويل والتفخيم كما أن إضافةَ الآياتِ في الموضعين إلى اسم الربِّ لمنبىء عن المالكية الكليةِ لذلك وإضافته إلى ضميره ﷺ للتشريف وقيل المرادُ بالملائكة ملائطكة الموت وبإتيانه سبحانه وتعالى إتيانُ كل آياتِه بمعنى آياتِ القيامةِ والهلاكُ الكليُّ بقرينة ما بعده من إتيان بعضِ آياتِه تعالى على أن المرادَ به أشراطُ الساعةِ التي هي الدخانُ ودابةُ الأرضِ وخسفٌ بالمشرق وخسف بماغرب وخسف بجزيرة العرب والدجالوطلوع الشمس من مغربها ويأجوجُ ومأجوجُ ونزولُ عيسى عليه السلام ونارٌ تخرج من عَدَنَ كما نطق به الحديثُ الشريفُ المشهورُ وحيث لم يكن إتيانُ هذه الأمورِ مما ينتظرونه كإتيان ما اقترحوه من الآيات فإن تعليقَ إيمانِهم بإتيانها انتظارٌ منهم له ظاهراً حُمل الانتظارُ على التمثيل المبنيِّ على تشبيه حالِهم في الإصرار على الكفر والتمادي في العناد إلى أن تأتيَهم تلك الأمورُ الهائلةُ التي لا بد لهم من الإيمان عند مشاهدتِها البتةَ بحال المنتظرين لها وأنتَ خبيرٌ بأنَّ النظمَ الكريمَ بسباقه المُنبىءِ عن تماديهم في تكذيبِ آياتِ الله تعالى وعدمِ الاعتدادِ بها وسياقِه الناطقِ بعدم نفع الإيمانِ عند إتيان ما ينتظرونه يستدعي أن يُحملَ ذلك على أمور هائلةٍ مخصوصةٍ بهم إما بأن تكونَ عبارةً عما اقترحوه أو عن عقوبات مترتبةٍ على جناياتهم كإتيان ملائكةِ العذاب وإتيانِ أمرِه تعالى بالعذاب وهُو الأنسبُ لما سيأتِي من قوله تعالى قُلِ انتظروا إِنَّا مُنتَظِرُونَ وأما حملُه على ما ذكر من إتيان ملائكةِ الموتِ وإتيانِ كل آياتِ القيامةِ وظهورِ أشراطِ الساعة مع شمول إتيانها
203
الأنعام آية ١٥٨
لكل ر وفاجر واشتمالِ غائلتِها على كل مؤمن وكافرٍ فمما لا يساعده المقامُ على أن بعضَ أشراطِ الساعةِ ليس مما ينسدّ به بابُ الإيمان والطاعة نعم يجوزُ حملُ بعضِ الآياتِ في قولِه عزَّ وجلَّ ﴿يوم يأتي بعضُ آيات ربِّكَ﴾ على ما يعم مقترحاتِهم وغيرها من الدواهي العاظام السالبةِ للاختيار الذي عليه يدجور فلكُ التكليفِ فإنه بمنزلة الكبرى من الشكل الأولِ فيتم التقريبُ عند وقوعِها جوابَ القسم وقرىء يومُ بالرفع على الابتداء والخبرُ هو الجملةُ والعائدُ محذوفٌ أي لا ينفع فيه ﴿نَفْساً﴾ من النفوس ﴿إيمانها﴾ حينئذ لانكشاف وكون الأمرِ عياناً ومدارُ قَبولِ الإيمان أن يكون بالغيب كقوله تعالى فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إيمانهم لَمَّا رأو بَأْسَنَا وقُرِىءَ لا تنفعُ بالتاءِ القوقانية الاكتساب الإيمانِ من ملابسة المضاف إليه تأنيثاً وقوله تعالى ﴿لم تكن آمنت مِن قَبْلُ﴾ أي من قبل إتيان بعض الآيات صفى ة لنفساً فصل بينهما بالفاعل لاشتماله على ضمير الموصوفِ ولا ضيرَ فيه لأنه غيرُ أجنبيَ منه لاشتراكهما في العامل ﴿أَوْ كَسَبَتْ فِى إيمانها خَيْرًا﴾ عطفٌ على آمنت بإيراد الترديدِ على النفي المفيدِ لكفاية أحد النفيين في عدم النفعِ والمعنى أنه لا ينفع الإيمانُ حينئذ نفساً لم تقدم إيمانَها أو قدّمتْه ولم تكسِبْ فيه خيراً ومن ضرورته اشتراطُ النفعِ بتحقق الأمرين أي الإيمانِ المقدَّمِ والخير المكسوف فيه معاً بمعنى أن النافعَ هو تحققُهما والإيمانُ المؤخرُ لغوٌ وتحصيلٌ للحاصل لا أنه هو النافعُ وتحققُهما شرطٌ في نفعه كما لو كان المقدَّمُ غيرَ المؤخرِ بالذات فإن قولَك لا ينفع الصومُ والصدقةُ مَنْ لم يؤمِنْ قبلَهما معناه أنهما ينفعانه عند وقوعِهما بعد الإيمان وقد استدل به أهلُ الاعتزالِ على عدم اعتبارِ الإيمانِ المجردِ عن الأعمال وليس بناهض ضرورةَ صحةِ حملِه على نفي الترديدِ المستلزِمِ لعمومه المفيدِ بمنطوقه لاشتراط عدمِ النفع بعدم الأمرين معاً وبمفهومه لاشتراط النفعِ بتحقق أحدِهما بطريق منعِ الخلوِّ دون الانفصالِ الحقيقي فالمعنى أنه لا ينفع الإيمانُ حينئذ نفساً لم يصدُرْ عنها من قبلُ أحدُ الأمرين أما الإيمانُ المجردُ أو الخيرُ المكسوبُ فيه فيتحقق النفعُ بأيهما كان حسبما تنطِقُ به النصوصُ الكريمةُ من الآيات والأحاديث وما قيل من أن عدم افيمان السابقِ مستلزمٌ لعدم كسب الخيرِ فيه بالضرورة فيكون ذكرُه تكراراً بلا فائدة على أن الموجبَ للخلود في النار هو العدمُ الأولُ من غير أن يكون للثاني دخلٌ ما في ذلك قطعاً فيكون ذكرُه بصدد بيانِ ما يوجب الخلودَ لغواً من الكلام لغو من الكلام مبني على توهم أن المقصودَ بوصف النفسِ بالعدمين المذكورين مجرد بيان غيجابهما للخلود فيها وعدمِ نفعِ الإيمان الحادثِ في إنجائها عنه وليس كذلك إلا لكفى في البيان أن يقال لا ينفعُ نفساً إيمانُها الحادثُ بل المقصِدُ الأصليُّ من وصفها بذينك العدمين في أثناء بيانِ عدم نفعِ الإيمان الحادثِ تحقيقُ أن موجبَ النفع إحدى ملكيتهما أعني الإيمانَ السابقَ والخيرَ المكسوبَ فيه بما ذكر من الطريقة والترغيبِ في تحصيلهما في ضمن التحذيرِ من تركهما ولا سبيلَ إلى أن يقال كما أن عدمَ الأولِ مستقلٌّ في إيسجاب الخلود في النار فيلغو ذكرُ عدمِ الثاني كذلك وجوده مستقل في إيجاب الخلاصعنها فيكون ذكرُ الثاني لغواً لما أنه قياسٌ مع الفارق كيف لا والخلود فيها أمرٌ لا يُتصوَّر فيه تعددُ العللِ وأما الخلاصُ عنها مع دخولِ الجنةِ فله مراتبُ بعضُها مترتبٌ على نفس الإيمان وبعضها على فروعه
204
الأنعام آية ١٥٩
المتفاوته كما وكيفما وإنما لم يقتصِرْ على بيان ما يوجب أصلَ النفع وهو الإيمان السابق مع أنه هو المقابلُ لما لا يوجبه أصلاً أعني الإيمانَ الحادثَ بل قرَنَ به ما يوجب النفع الوائد أيضاً إرشاداً إلى تحرّي الأعلى وتنبيهاً على كفاية الأدنى وإقناطاً للكفرة عمَّا علَّقوا به أطماعَهم الفارغةَ من أعمال البِرّ التي عمِلوها في الكفر من صلة الأرحام وإعتاق الرقاب وفك العُناةِ وإغاثةِ الملهُوفين وقِرى الأضيافِ وغير ذلك ممَّا هو من باب المكارم ببيان أن كل ذلك لغوٌ بحتٌ لابتنائه على غير أساسٍ حسبما نطق به قوله تعالى والذين كَفَرُواْ أعمالهم كَرَمَادٍ اشتدت بِهِ الريح الآية ونحوُ ذلك من النصوص الكريمة وأن افيمان الحادثَ كما لا ينفعهم وحده لا ينفعهم بانضمام أعمالِهم السابقةِ واللاحقة ولك أن تقول المقصودُ بوصف النفسِ بما ذُكر من العدمين التعريضُ بحال الكفرة في تمردهم وتفريطِهم في كلِّ واحدٍ من الأمرين الواجبين عليهم وإن كان وجوبُ أحدِهما منوطاً بالآخر كما في قوله عز وجل فلا صدق ولا صلى تسجيلاً بكمال طغيانِهم وإيذاناً بتضاعف عقابِهم لما تقرَّر من أنَّ الكفارَ مخاطَبون بفروع الشرائعِ في حق المؤاخذخ كما ينبىء عنه قوله تعالى فويل لّلْمُشْرِكِينَ الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكاة إذا تححققت هذا وقفتَ على أن الآيةَ الكريمة أحقُّ بأن تكون حجةً على المعتزلة من أن تكون حجةً لهم هذا وقد قيل إنها من باب اللف التقديريِّ أي لا ينفع نفساً إيمانُها ولا كسبُها في الإيمان لم تكن آمنت من قبل أو كسبت فيه وليس بواضح فإن مبنى اللفِّ التقديريِّ أن يكون المقدرُ من متمّمات الكلامِ ومقتَضَيات المقام قد ترك ذكرَه تعويلاً على دِلالة الملفوظِ عليه واقتضائِه إياه كما مرَّ في تفسيرِ قولِه عز وجل وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ ويستكبر فيحشرهم إِلَيهِ جَمِيعاً فإنه قد طُوي في المفصل ذكرُ حشر المؤممنين ثقةً بإنباء التفصيل عنه أعني قوله تعالى فَأَمَّا الذين آمنوا الآية ولا ريب في أن ما قدر ههنا ليس مما يستدعيه قوله تعالى أَوْ كَسَبَتْ فِى إيمانها خَيْرًا ولا هو من مقتضيات المقامِ لأنه ليس ممنا وُعِدوه وعلّقوه بإتيان ما ذُكر من الآيات كالإيمان حتى يرِدَ عليهم ببيان عدمِ نفعِه إذ ذاك على أن ذلك مشعرٌ بأن لهم بعد ما أصابهم من الدواهي ما أصابهم بقاء على السلاة وزماناً يتأتى منهم الكسبُ والعملُ فيه وفيه من الإخلال بمقام تهويلِ الخطبِ وتفظيعِ الحالِ ما لا يخفى وقد أُجيب عن الاستدلال بوجوه أُخَرَ قصارى قصارى أمرِها إسقاطُ الآية الكريمةِ عن رتبة المعارضةِ للنصوص القطعية المنون القويةِ الدلالةِ على ما ذُكر من كفاية الإيمان المجردِ عن العمل في الإنجاء الخالدِ ولو بعد اللتيا والتي لِما تقرَّر من أنَّ الظنيَّ بمعزل من معارضة القطعي ﴿قُلْ﴾ لهم بعد بيانِ حقيقةِ الحالِ على وجه التهديد ﴿انتظروا﴾ ما تنتظرونه من إتيان أحدِ الأمورِ الثلاثةِ لترَوا أيَّ شيء تنتظرون ﴿إِنَّا مُنتَظِرُونَ﴾ لذلك لنشاهدَ ما يحِلُّ بكم من سوء العاقبة وفيه تأييدٌ لكون المرادِ بما ينتظرونه إتيانَ ملائكةِ العذابِ أو إتيانَ أمرِه تعالى بالعذاب كما اشير غليه وعِدَةٌ ضمنيةٌ لرسول الله ﷺ والمؤمنين بمعاينتهم لما يَحيق بالكفرة من العقاب ولعل ذلك هو الذي شاهدوه يوم بدر والله سبحانه أعلم
205
﴿إِنَّ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ﴾ استئناف
205
الأنعام آية ١٦٠ ١٦١
لبيان أحوالِ أهلِ الكتابين إثرَ بيانِ حالِ المشركين أي بدّدوه وبعّضوه فتمسك بكل بعضٍ منه فِرقةٌ منهم وقرىء فارقوا أي باينوا فإن تركَ بعضِه وإن كان بأخذ بعضٍ منه تركٌ للكل ومفارقةٌ له ﴿وَكَانُواْ شِيَعاً﴾ أي فِرقاً تشيّع كلُّ فِرقةٍ إماتما لها قال ﷺ افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقةً كلهم في الهاوية إلا واحدة وافترقت النصارى اثنتين وسبعين فرقةً كلهم في الهاوية إلا واحدة وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقةً كلهم في الهاوية إلا واحدة واستثناء الواحدة من فِرَق كلَ من أهل الكتابين إنما هو باتلنظر إلى العصر الماضي قبل النسخِ وأما بعده فالكلُّ في الهاوية وإن اختلفت أسبابُ دخولِهم فمعنى قوله تعالى ﴿لَّسْتَ مِنْهُمْ فِى شَىْء﴾ لست من البحث عن تفرقهم والتعرّضِ لمن يعاصرك منهم بالمناقشة والمؤاخذة وقيل من قتالهم في شيء سوى تبليغِ الرسالةِ وإظهارِ شعائرِ الدين الحقِّ الذي أُمرت بالدعوة إليه فيكون منسوخاً بآية السيف وقوله تعالى ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى الله﴾ تعليلٌ للنفي المذكورِ أي هو يتولى وحده أمر أولاهم وأخراهم ويدبره كيف يشاء حسبما تقتضيه الحكمة يؤاخذهم في الدنيا متى شاء ويأمر بقتالهم إذا أراد وقيل المفرقون أهل البدع والأهواء الزائغة من هذه الأمة ويرده أنه ﷺ مأمور بمؤاخذتهم والاعتذار بأن معنى لست منهم في شيء حينئذ أنت بريء منهم ومن مذهبهم وهم برآء منك يأباه التعليل المذكور ﴿ثُمَّ يُنَبّئُهُم﴾ أي يوم القيامة ﴿بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ﴾ عبر عن إظهاره بالتنبئة لما بينهما من الملابسة في أنهما سببان للعلم تنبيهاً على أنهم كانوا جاهليل بحال ما ارتكبوه غافلين عن سوء عاقبته أي يظهر لهم على رءوس الأشهاد ويعلمهم أي شيء شنيع كانوا يفعلونه في الدنيا على الاستمرار ويرتب عليه ما يليقُ به من الجزاء وقوله تعالى
206
﴿مَن جَاء بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾ استئناف مبين لمقادير أجزية العاملين وقد صدر ببيان أجزية المحسنين المدلول عليهم بذكر أضدادهم ال عطاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهم يريد من عمل من المصدقين حسنة كتبت له عشر حسنات أي من دجاء يوم القيامة بالأعمال الحسنة من المؤمنين إذلا حسنة بغير غيمان فله عشر حسنات أمثالها تفضلا من الله عز وجل وقرىء عشر بالتنوين وأمثالها بالرفع على الوصف وهذا أقل ما وعد من الأضعاف وقد جاء الوعد بسبعين وبسبعمائة وبغير حساب ولذلك قيل المراد بذكر العشر بيان الكثرة لا الحصر في العدد الخاص ﴿وَمَن جَاء بالسيئة﴾ أي بالأعمال السيئة كائنا من كان من العاملين ﴿فَلا يَجْزِى إِلاَّ مِثْلَهَا﴾ بحكم الوعد واحدة بواحدة ﴿وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ بنقصِ الثواب وزيادة العقاب
﴿قُلْ إِنَّنِى هَدَانِى رَبّى﴾ أمر رسول الله ﷺ بأن يبين لهم ما هُو عليه من الدين الحق الذين يدعون أنهم عليه وقد فارقوه بالكلية وتصديرُ الجملة بحرفِ التَّحقيقِ لإظهار كمال الاعتناء بمضمونها والتعرضُ لعنوانِ الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضميره ﷺ لمزيد تشريفه أي قل لأولئك المفرقين أرشدني ربي بالوحي وبما نصب في الآفاق والأنفسِ من الآيات التكوينية ﴿إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ﴾ موصل إلى الحق
206
الأنعام آيو ١٦٢ ١٦٤
وقوله تعالى ﴿دِينًا﴾ بدلٌ من إلى صراط فإن محله النصبُ كما في قوله تعالى وَيَهْدِيَكَ صراطا مُّسْتَقِيماً أو مفعولٌ لفعل مُضمر يدلُّ عليه المذكورُ ﴿قَيِّماً﴾ مصدرٌ نُعت به مبالغة والقياسُ قِوَماً كعِوَض فاعل لإعلال فعلِه كالقيام وقرىء قيما وهو فعيل من قام كسيّد من ساد وهو أبلغُ من المستقيم باعتبار الزنة وإن كان هو أبلغَ منه باعتبار الصيغة ﴿مِلَّةِ إبراهيم﴾ عطفُ بيانٍ لديناً ﴿حَنِيفاً﴾ حال من غبراهيم أي مائلاً عن الأديان الباطلةِ وقوله تعالى ﴿وَمَا كَانَ مِنَ المشركين﴾ اعتراضٌ مقرر لنزاهته ﷺ عما عليه المفرِّقون لدينه من عقْد وعَمَل أي ما كان منهم في أمر من أمور دينهم أصلا وفرعا صرح بذلك رداً على الذين يدَّعُون أنَّهم على ملته عليه السَّلامُ من أهل مكةَ واليهود والمشركين بقولهم عزيرا ابنُ الله والنصارى المشركين بقولهم المسبح ابنُ الله
207
﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى﴾ أعيد الأمر لماأن المأمور به متعلِّقٌ بفروع الشرائعِ وما سبق أصولها أي عبادتي كلَّها وقيل وذبحي جُمع بينه وبين الصلاة كما في قوله تعالى فَصَلّ لِرَبّكَ وانحر وقيل صلاتي وحجّي ﴿وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى﴾ أي وما أنا عليه في حياتي وما أكونُ عليه عند موتي من الإيمان والطاعةِ أو طاعات الحياة الخيرات المضافة إلى الممات كالوصية والتدبير وقرىء محيايْ بسكون الياء إجراءً للوصل مُجرى الوقفِ ﴿للَّهِ رَبّ العالمين﴾
﴿لاَ شَرِيكَ لَهُ﴾ خالصةً له لا أُشرِك فيها غيرَه ﴿وبذلك﴾ إشارةٌ إلى الإخلاص وما فيه من معنى البُعدِ للإشعارِ بعلوِّ رتبتِه وبُعدِ منزلتِه في الفضل أي بذلك الإخلاصِ ﴿أُمِرْتُ﴾ لا بشيء غيرِه وقوله تعالى ﴿وَأَنَاْ أَوَّلُ المسلمين﴾ لبيان مسارعتِه عليه السَّلامُ إلى الامتثال بما أُمر به وأن ما أُمر به ليس من خصائصِه عليه السَّلامُ بل الكلُّ مأمورون به ويقتدي به عليه السلام من أسلم منهم
﴿قُلْ أَغَيْرَ الله أَبْغِى رَبّا﴾ فأُشرِكَه في العبادة ﴿وَهُوَ رَبُّ كُلّ شَىْء﴾ جملةٌ حالة مؤكدةٌ للإنكار أي والحالُ أنَّ كلَّ ما سواهُ مربوبٌ له مثلي فكيفَ يُتصوّر أن يكونَ شريكاً لي في المعبودية ﴿وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا﴾ كانوا يقولون للمسلمين اتبعوا سبيلنا ولتنحمل خطاياكم إما بمعنى لِيُكْتَبْ علينا ما عمِلتم من الخطايا لا عليكم وإما بمعنى لنحمِلْ يوم القيامة ما كُتب عليكم من الخطايا فهذا ردٌّ له بالمعنى الأول أي لا تكونُ جنايةُ نفسٍ من النفوس إلا عليها ومُحالٌ أن يكون صدورُها عن شخص وقرارُها على شخص آخرَ حتى يتأتى ما ذكرتم وقولُه تعالى ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى﴾ ردٌّ له بالمعنى الثاني أي لا تحمِلُ يومئذ نفسٌ حاملةٌ حِمْلَ نفسٍ أخرى حتى يصِحّ قولُكم ﴿ثُمَّ إلى رَبّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ﴾ تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى الكل لتأكيد الوعدِ وتشديد الوعيد أي إلى مالك أمورِكم ورجوعِكم يوم القيامة ﴿فَيُنَبّئُكُمْ﴾ يومئذ ﴿بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ ببيان الرُّشدِ من الغيِّ وتمييزِ الحق من الباطل
207
الأنعام آية
208
١٦٥ - ٣ ﴿وَهُوَ الذى جَعَلَكُمْ خلائف الأرض﴾ حيث خلقتم الأممَ السالفة أو يخلُف بعضُكم بعضاً أو جعلكم خلفاءَ الله تعالى في أرضه تتصرفون فيها على أن الخطابَ عام ﴿وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ﴾ في الشرف والغنى ﴿فَوْقَ بَعْضٍ درجات﴾ كثيرةٍ متفاوتة ﴿ليبلوكم في ما آتاكم﴾ من المال والجاهِ أي ليعاملكم معاملة من يبتليكم لينظر مذا تعملون من الشكر وضدَّه ﴿إِنَّ رَبَّكَ﴾ تجريدُ الخطابِ لرسول الله ﷺ مع إضافة اسم الربِّ إلى ضميره ﷺ لإبراز مزيدِ اللطفِ به ﷺ ﴿سَرِيعُ العقاب﴾ أي عقابُه سريعُ الإتيان لمن لم يُراعِ حقوقَ ما آتاه الله تعالى ولم يشكُرْه لأن كلَّ آتٍ قريبٌ أو سريعُ التمامِ عند إرادتِه لتعاليه عن استعمال المبادي والآلات ﴿وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ لمن راعاها كما ينبغي وفي جعل خبرِ هذه الجملةِ من الصفات الذاتيةِ الواردةِ على بناء المبالغةِ مؤكداً باللام مع جعل خبرِ الأولى صفةً جاريةً على غيرِ مَنْ هيَ له في من التنبيه على أنه تعالى غفور رحيم بالذات مبالغ فيعما فاعلٌ للعقوبة بالعَرَض مسامحٌ فيها ما لا يَخْفى والله أعلم عن رسولِ الله ﷺ أنزلت عليَّ سورةُ الأنعام جملةً واحدةً يشيِّعها سبعونَ ألفَ ملكٍ لهم زَجَلٌ بالتسبيح والتحميد فمن قرأ الأنعامَ صلَّى عليه واستغفرَ له أولئك السبعونَ الف ملك بعدد كل آية من سورة الأنعام يوماً وليلة والله تعالى أعلم
208
الأعراف آية ١ ﴿
سورة الأعراف
مكية غير ثماني آيات من قوله واسألهم إلى قوله وإذ نتقنا الجبل وآيها مائتان وخمس
{بسم الله الرحمن الرحيم﴾
209
Icon