ﰡ
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (١)﴾ إعرابه كإعراب ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (١)﴾؛ أي: إذا انشقت وانفطرت وانفتحت بغمام أبيض.. يخرج منها، وهو نظير قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ﴾، والباء للآلة، كما في قولك: انشقت الأرض بالنبات.
وفي ذلك الغمام الملائكة ينزلون في أيديهم صحائف الأعمال، أو فيه ملائكة العذاب، وكان ذلك أشد وأفظع من حيث إنه جاء العذاب من موضع الخير، فيكون انشقاق السماء لنزول الملائكة بالأوامر الإلهية، وقيل: للسقوط والانتقاض، وقيل: لهول القيامة، وكيف لا تنشق وهي في قبضة قهره تعالى أقل من خردلة، ولا مانع من جميع هذه الأقوال، فإنها تنشق لهيبة الله تعالى، فتنزل الملائكة، ثم يؤول أمرها إلى الفساد والاختلال.
وعن علي رضي الله عنه: تنشق من المغيرة، وهي بفتح الميم بوزن المضرة باب السماء؛ أي: البياض المستطيل في وسط السماء من جانبها، وأهل الهيئة يقولون: إنها نجوم صغار مختلطة، غير متميزة في الحسن. اهـ من "القرطبي".
سميت بذلك لأنها كأثر المجر، والمجر: المحل الذي يجر عليه الحبل من البئر عند إلاستقاء. قيل: تنشق من ذلك الموضع، كأنه مفصل ملتئم، فتصدع منه
٢ - ﴿وَأَذِنَتْ﴾؛ أي: استمعت وأصغت ﴿لِرَبِّهَا﴾؛ أي: لأمر ربها إياها بالانشقاق، وأذعنت لتأثير قدرته تعالى فيها؛ حيث تعلقت قدرته بانشقاقها، وانقادت له انقياد المأمور المطواع إذا ورد عليه أمر الآمر المطاع، فهو استعارة تمثيلية متفرعة على المجاز المرسل، يعني: إذا أطلق الإذن، وهو: الاستماع في حق من له حاسة السمع، والاستماع بها: يراد بها الإجابة، والانقياد مجازًا، وإذا أطلق في حق نحو السماء مما ليس في شأنه الاستماع والقبول.. يكون استعارة تمثيلية، فقوله: ﴿أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ يدل على نفوذ القدرة في الإيجاد والإبداع من غير ممانعة أصلًا، وقوله: ﴿وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا﴾ يدل على نفوذ القدرة في التفريق والإعدام من غير ممانعة أصلًا والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إليها للإشعار بعلة الحكم ﴿وَحُقَّتْ﴾؛ أي:
٣ - ﴿وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (٣)﴾؛ أي: بسطت بإزالة جبالها وآكامها عن مقرها، وتسويتها بحيث صارت كالصحيفة الملساء، أو زيدت سعة وبسطة من أحد وعشرين جزءًا إلى تسعة وتسعين جزءًا، لوقوف الخلائق عليها للحساب، وإلا لم تسعهم، من مده: بمعنى: أمده؛ أي: زاده، وفي الحديث: "إذا كان يوم القيامة.. مد الله الأرض مد الأديم، حتى لا يكون لبشر من الناس إلا موضع قدميه"، يعني: لكثرة الخلائق فيها، وقوله: "مد الأديم"؛ لأن الأديم إذا مد زال عنه كل انثناء فيه واستوى، وفي بعض الروايات: "مد الأديم العكاظي"، قال في "القاموس": - هو كغراب - سوق بصحراء بين النخلة والطائف، كانت تقوم هلال ذي القعدة، وتستمر عشرين يومًا تجتمع قبائل العرب، فيتعاكظون؛ أي: يتفاخرون ويتناشدون، ومنه مد الأديم العكاظي. انتهى..
٤ - ﴿وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا﴾؛ أي: رمت ما في جوفها من الموتى والكنوز إلى ظاهرها، نظير قوله: ﴿وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (٢)﴾، وهو من الإسناد المجازي، وإلا فالإلقاء والإخراج لله تعالى.
فإن قلت: إخراج الكنوز يكون وقت خروج الدجال لا يوم القيامة؟
قلت: يوم القيامة وقت متسع يجوز اعتباره من وقت خروجه ولو مجازًا؛ لأنه من أشراطه الكبرى، فيكون إخراج الكنوز عند قرب الساعة، وإخراج الموتى عند البعث ﴿وَتَخَلَّتْ﴾؛ أي: وخلت عما فيها غاية الخلو حتى لا يبقى فيها شيء منه، كأنها تكلفت في ذلك أقصى جهدها، كما يقال: تكرم الكريم، وترحم الرحيم، إذا بلغا جهدهما في الكرم والرحمة، وتكلفا فوق ما في طبعهما.
٥ - ﴿وَأَذِنَتْ﴾ وانقادت ﴿لِرَبِّهَا﴾؛ أي: لأمر ربها في الإلقاء والتخلي. ﴿وَحُقَّتْ﴾؛ أي: جعلت حقيقة حرية بذلك الانقياد؛ أي: شأنها ذلك بالنسبة إلى القدرة الربانية، وذكره مرتين؛ لأن الأول متصل بالسماء، والثاني بالأرض، وإذا اتصل كل واحد بغير ما اتصل به
وهذا كله على تقدير: أن ﴿إذا﴾ شرطية، وقيل ليست شرطية، بل هي مجردة عن معنى الشرط منصوبة بفعل محذوف؛ أي: اذكر يا محمد للناس قصة وقت انشقاق السماء، وقصة وقت مد الأرض، وقيل غير ذلك مما لا طائل تحته، والأول أولى وأوضح.
وحاصل معنى الآيات (١): إذا انشقت السماء لفساد تركيبها، واختلال نظامها حينما يريد الله سبحانه خراب هذا العالم بحدث من الأحداث، كأن يمر كوكب في سيره بالقرب من كوكب آخر، فيتجاذبان ويتصادمان، فيضطرب نظام العالم العلوي بأسره، ويحدث من ذلك غمام يظهر في مواضع متفرقة من هذا الفضاء الواسع.
﴿وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا﴾؛ أي: استمعت، وانقادت لتأثير قدرته، وفعلت فعل المطواع الذي إذا أمر أنصت وأذعن وامتئل ما أمر به، وفي الحديث: "ما أذن الله لشيء إذنه لنبي يتغنى بالقرآن". ﴿وَحُقَّتْ﴾؛ أي: وحق لها أن تمتثل؛ لأنها مخلوقة من مخلوقاته، وهي في قبضته، فإن أراد تبديد نظامها.. فعل، ولم يكن لها أن تعصي إرادته.
﴿وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (٣)﴾؛ أي: وإذا اضطربت الأرض، ودكت جبالها،
﴿وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا﴾؛ أي: رمت ما في جوفها من الموتى والمعادن، وأخرجت كل ذلك إلى ظاهرها، ونحو هذا قوله تعالى: ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (١) وَأَخْرَجَت الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (٢)﴾ وقوله: ﴿وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (٤)﴾، وقوله: ﴿إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ﴾. ﴿وَتَخَلَّتْ﴾؛ أي: خلت من جميع ما في جوفها، وربما قذفته الحركة العنيفة إلى ما يبعد عن سطحها، فيخلو منه باطن الأرض وظاهرها، وهي في ذلك خاضعة لأوامر ربها، منقادة لمشيئته.
﴿وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (٥)﴾؛ أي: واستمعت وأطاعت أوامره؛ لأنها في قبضة القدرة الإلهية تصرفها في الفناء، كما صرفتها في الابتداء. وجواب ﴿إذا﴾ الذي صدرت به السورة محذوفة، كما مر آنفًا؛ لإرادة التهويل على المخاطبين، فكأنه قيل: إذا كان الأمر كذا وكذا مما تقدم ذكره.. ترون جزاء ما عملتم من خير أو شر، فاكدحوا واجتهدوا لعمل ذلك اليوم تفوزوا بالنعيم.
وقصارى ذلك (١): وصف أحوال العالم يوم القيامة، يوم يقوم الناس لرب العالمين، وأنه يكون على غير حاله التي هو عليها في هذه الحياة، فتبدل الأرض غير الأرض، والسموات غير السموات، ويبرز الناس للحساب على ما قدموا في حياتهم من عمل، فيجازيهم على الإحسان إحسانًا وعلى الإساءة سوءًا، وعلينا أن نؤمن بذلك كله، ونكل علم حقيقته ومعرفة كنهه إلى الله تعالى الذي لا يعجزه شي في الأرض ولا في السماء.
٦ - ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ﴾ المراد به: جنس الإنسان، فيشمل المؤمن والكافر، وقيل: هو الإنسان الكافر، والأول أولى لما سيأتي من التفصيل؛ أي: يا جنس الإنسان الشامل للمؤمن والكافر والعاصي، فالخطاب عام لكل مكلف على سبيل البدل، ويقال: هذا أبلغ من العموم؛ لأنه يقوم مقام التنصيص في النداء على مخاطبة كل
قال القتيبي: معنى الآية: إنك كادح؛ أي: إنك عامل ناصب في طلب معيشتك وكسبك عملًا شديدًا لا فترة فيه إلى لقاء ربك بالموت فملاقيه؛ أي: فأنت ملاقٍ ربك بعملك، فمجازيك عليه خيرًا أو شرًا، وقيل: فملاق كتاب عملك؛ لأن العمل قد انقضى؛ أي (٢): إنك يا ابن آدم متعب نفسك في العمل في دنياك تعبًا حتى ترجع به إلى ربك في الآخرة، فملاق ذلك العمل خيرًا كان أو شرًا في الكتاب الذي فيه بيانه.
وحاصل المعنى (٣): أي أيها الإنسان إنك عامل في هذه الحياة، ومجد في
(٢) المراح.
(٣) المراغي.
٧ - والناس حينئذٍ صنفان:
١ - ﴿فَأَمَّا مَنْ﴾ وهو المؤمن السعيد، و ﴿مَنْ﴾ موصولة، وهو تفصيل لما أجمل فيما قبله ﴿أُوتِيَ﴾ وأعطي؛ أي: يؤتى، وعبر بالماضي لتحققه. ﴿كِتَابَهُ﴾ المكتوب فيه أعماله التي كدح في كسبها ﴿بِيَمِينِهِ﴾؛ لكون كدحه بالسعي فيما يكتبه كاتب اليمين.
والحكمة في الكتابة مع أن الله سبحانه لا يخفى عليه شيء (١): أن المكلف إذا علم أن أعماله تكتب وتعرض على رؤوس الأشهاد.. كان أزجر عن المعاصي، وأن العبد إذا وثق بلطف سيده، واعتمد على عفوه وستره.. لم يحتشم احتشامه من خدمة المطلعين عليه.
٨ - ﴿فَسَوْفَ يُحَاسَبُ﴾ يوم القيامة بعد مدة مقدرة على ما تقتضيه الحكمة ﴿حِسَابًا يَسِيرًا﴾؛ أي: سهلًا لا مناقشة فيه، ولا اعتراض بما يسوءه ويشق عليه، كما يناقش أصحاب الشمال. والحساب: بمعنى المحاسبة، والمراد به: عد أعمال العباد، وإظهارها للمجازاة، وعن الصديقة رضي الله عنها: هو - أي الحساب اليسير - أن يعرف ذنوبه ثم يتجاوز عنه. يعني: أن يعرض عليه أعماله، ويعرف أن الطاعة منها هذه، والمعصية هذه، ثم يثاب على الطاعة، ويتجاوز عن المعصية، فهذا هو الحساب اليسير؛ لأنه لا شدة على صاحبه ولا مناقشة، ولا يقال له: لم فعلت هذا؟، ولا يطالب بالعذر ولا بالحجة عليه، فانه متى طولب بذلك.. لم يجد عذرًا ولا حجةً، فيفتضح. قالوا إنَّ عصاة المؤمنين داخلة في هذا القسم، فقوله: ﴿فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (٨)﴾ من وصف الكل بوصف البعض؛ أي: فالعصاة (٢)، وإن لم يكن لهم حساب يسير بالنسبة إلى المطيعين، لكن حسابهم كالعرض بالنسبة إلى مناقشة أصحاب الشمال، فأصحاب اليمين شاملة لهم، وقد
(٢) روح البيان.
٩ - ﴿وَيَنْقَلِبُ﴾؛ أي: يرجع المحاسب حسابًا يسيرًا بعد حسابه؛ أي: ينصرف ويرجع من مقام الحساب اليسير ﴿إِلَى أَهْلِهِ﴾ الذين هم في الجنة من عشيرته المؤمنين، أو إلى أهله الذين كانوا له في الدنيا من الزوجات والأولاد، أو إلى من أعده الله له في الجنة من الحور العين والولدان المخلدين، أو إلى جميع هؤلاء، أو إلى أهله الذين هم رفقاؤه في طريق السعادة والكرامة حال كونه ﴿مَسْرُورًا﴾؛ أي: مبتهجًا بحاله، وكونه من أهل النجاة مستبشرًا بما أوتي من الخير والكرامة، قائلًا: ﴿هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ﴾. قال صاحب "الروح": فهذا الانقلاب يكون في المحشر قبل دخول الجنة، لا كما قال في "عين المعاني" من أنه يدل على أن أهله يدخلون الجنة قبله. انتهى. ودعوة الناس إلى قراءة الكتاب علامة الفرح والنشاط وقوة العزيمة.
وحاصل المعنى (١): أي فأما من عرض عليه سجل أعماله، وتناوله بيمينه، فإنه يحاسب يسير الحساب؛ إذ تعرض عليه أعماله، فيعرف بطاعته وبمعاصيه، ثم يثاب على ما كان منها طاعة، ويتجاوز له عما كان منها معصية، وقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: "اللهم حاسبني حسابًا يسيرًا" قلت: وما الحساب اليسير؟ قال: "ينظر في كتابه، ويتجاوز عن سيئاته، فأما من نوقش.. فقد هلك".
ومن حوسب هذا الحساب اليسير.. يرجع إلى أهله المؤمنين مسرورًا مبتهجًا قائلًا: ﴿هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ﴾.
١١ - ﴿فَسَوْفَ يَدْعُو﴾؛ أي: إذا قرأ كتابه ﴿ثُبُورًا﴾؛ أي: هلاكًا، فيقول: يا ثبوراه، يا ويلاه؛ أي: يتمنى (٢) لنفسه الثبور، وهو الهلاك، ويدعوه: يا ثبوراه تعال فهذا أوانك، وأنى له ذلك، يعني: لما كان إيتاء الكتاب من غير يمينه علامة كونه من أهل النار.. كان كلامه: واثبوراه، ولا شك أن هذا قول المخذول الكاره لما عرض عليه. قيل: الثبور: مشتق من المثابرة على الشيء، وهو المواظبة عليه، وسمي هلاك الآخرة ثبورًا؛ لأنه لازم لا يزول، كما قال تعالى: ﴿لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (١٤)﴾.
١٢ - ﴿وَيَصْلَى سَعِيرًا (١٢)﴾؛ أي: يدخلها ويقاسي حرها وعذابها من غير حائل، وهذا يدل على أن دعاءهم بالثبور قبل الصلي، وبه صرح الإِمام، وأما قوله تعالى: ﴿وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (١٣)﴾ فيدل على أنه بعده، ولا منافاة في الجمع، فإنهم يدعونه أولًا وآخرًا بل دائمًا على أن الواو لمطلق الجمع لا للترتيب.
وقرأ قتادة وأبو جعفر وعيسى وطلحة والأعمش وعاصم وأبو عمرو وحمزة (٣): ﴿وَيَصْلَى﴾ بفتح الياء مبنيًا للفاعل، وباقي السبعة وعمر بن عبد العزيز وأبو الشعثاء والحسن والأعرج: بضم الياء، وفتح الصاد، واللام المشددة، وأبو الأشهب وخارجة عن نافع وأبان وعاصم وعيسى أيضًا والعتكي وجماعة عن أبي عمرو: بضم الياء ساكن الصاد مخفف اللام مبنيًا للمفعول من المتعدي بالهمزة،
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
والمعنى (١): أي وأما الذين أكثروا من ارتكاب الجرائم، واجتراح المعاصي، فيؤتون كتبهم بشمالهم من وراء ظهورهم، ومد اليسار إلى الكتاب دليل الكراهة، وأظهر في الدلالة على الكراهة، والنفور: أن يستدبره ويعرض عنه، فيكون من وراء ظهره.
وقصارى ما سلف: أن من عرض عليه كتابه، وقدم إليه ليأخذه، فاندفع إليه بعزيمة صادقة لشعوره بأنه مستودع الصالحات، وسجل البر والكرامات، فشأنه: كذا وكذا، ومن قدم إليه كتابه، وعرض عليه عمله، فخزيت نفسه وخارت عزيمته، فمد إليه يساره، أو أعرض عنه، فولاه ظهره لشعوره بأنه ديوان السيئات، وسجين المخازي، فأمره: كيت وكيت، يرشد إلى ذلك ما ورد من التفصيل في سورة الحاقة: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ﴾ إلخ.
والخلاصة: أن إيتاء الكتاب باليمين أو باليسار، أو من وراء الظهر تصوير لحال المطلع على أعماله في ذلك اليوم، فمن الناس من إذا كشف له عمله.. ابتهج واستبشر، وتناول كتابه بيمينه، ومنهم من إذا تكشفت له سوابق أعماله.. عبس وبسر، وأعرض عنها وأدبر، وتمنى لو لم تكشف له، وتناولها باليسار، أو من وراء الظهر، وحينئذٍ يدعو: واثبوراه؛ أي: يا هلاك أقبل، فإني لا أريد أن أبقى حيًا، علمًا منه بأن ذلك داعٍ إلى طول العذاب، وأنه سيدخل النار ويقاسي سعيرها.
١٣ - ثم ذكر سبحانه سببين في استحقاقه للعذاب في الآخرة، فقال:
١ - ﴿إِنَّهُ﴾؛ أي: لأن ذلك المعطى كتابه وراء ظهره، فالجملة (٢) مستأنفة مسوقة لبيان علة ما قبلها ﴿كَانَ﴾ في حياته الدنيا ﴿فِي أَهْلِهِ﴾؛ أي: فيما بين أهله وعشيرته أو معهم، على أنهم جميعًا كانوا مسرورين، كما يقال: جاءني فلان في جماعة، أي: معهم ﴿مَسْرُورًا﴾؛ أي: فرحًا بطرًا، لا يفكر في أمور الآخرة، ويقدم على المعاصي ظنًا منه أن لذاتها لا توجب الحسرة، ولا تورث التردي في نار
(٢) روح البيان.
والحاصل: أنه كان الكافر في الدنيا فارغًا عن همِّ الآخرة، وكان له مزمار في قلبه، فجوزي بالغم الباقي، بخلاف المؤمن، فإنه كان له نائحة في قلبه، فجوزي بالسرور الدائم.
٢ - ١٤ ﴿إِنَّهُ ظَنَّ﴾؛ أي: تيقن، كما في تفسير الفاتحة للفناري، وقال في "فتح الرحمن" الظن هنا على بابه بمعنى الحسبان، لا الظن الذي بمعنى اليقين، وهو تعليل لسروره في الدنيا؛ أي: إن هذا الكافر ظن في الدنيا. ﴿أَن﴾ مخففة من الثقيلة سادة مع ما في حيزها مسد مفعولي ﴿ظَنَّ﴾ أو أحدهما على الخلاف المشهور؛ أي: ظن أن الشأن والحال ﴿لَنْ يَحُورَ﴾ هو؛ أي: لن يرجع إلى ربه بالبعث.
والمعنى (١): أنه ظن أن لن يرجع إلى ربه، وأنه لن يبعث الخلق لحسابهم على ما قدموا، ولو علم أن الله يبدل سروره حزنًا وغمًا.. لأقلع عما هو فيه، ولترك هذا السرور العاجل السريع الفناء، وطلب من السرور ما يبقى ما بقيت الجنة التي لا يفنى نعيمها، ولا يزول سرور أهلها.
وفي الآية (٢) إيماء إلى أن المسخرين لشهواتهم، الساعين وراء لذاتهم، ليسوا بظانين فضلًا عن أن يكونوا مستيقنين بأنهم يرجعون إلى ربهم ليحاسبهم، بل الراجح عندهم: أنهم لا يحاسبون، وأن الله سبحانه مخلف وعده، وهذا هو الذي ينسيهم ذكره عند كل جرم يجرمونه، فهم وإن كانوا يزعمون الإيمان بالله، وبوعده ووعيده، فهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم،
١٥ - ثم رد عليه ظنه الخاطىء، فقال: ﴿بَلَى﴾ ايجاب لما بعد ﴿لَن﴾؛ أي: بلى ليحورن ألبتة، وليس الأمر كما يظن ﴿إِنَّ رَبَّهُ﴾ الذي خلقه ﴿كان به﴾، وبأعماله الموجبة للجزاء، والجار متعلق بقوله: ﴿بَصِيرًا﴾ بحيث لا يخفى منها خافية، فلا بد من رجعه وحسابه وجزائه عليها حتمًا؛ إذ لا
(٢) المراغي.
وحاصل المعنى (١): أي بلى ليحورن، وليبعثن، وليرجعن إلى ربه، وليحاسبنه على عمله حتى على النقير والقطمير، فيجزى على الخير خيرًا، وعلى الشر شرًا، فإن الذي يخلق الإنسان مستعدًا لما لا يتناهى من الكمال، وبما وهبه من العقل، لا ينشئه هذه النشأة الرفيعة، لتكون غايته غاية سائر الحيوان، بل تقتضي حكمته أن يجعل له حياة بعد هذه الحياة، ويثمر فيها أعماله، ويوافي فيها كماله.
١٦ - ﴿فَلَا أُقْسِمُ﴾ كلمة ﴿لا﴾ زائدة للتوكيد، كما مر مرارًا، و ﴿الفاء﴾: استئنافية؛ أي: فأقسم لكم أيها العباد ﴿بِاَلشَفَقِ﴾، وهي (٢) الحمرة التي تشاهد في أفق المغرب بعد الغروب، وبغيبوبتها يخرج وقت المغرب، ويدخل وقت العشاء عند عامة العلماء، أو البياض الذي يعقبها، ولا يدخل وقت العشاء إلا بزواله، سمي به على كل من المعنيين لرقته، لكن مناسبته لمعنى البياض أكثر، وهو من الشفقة التي هي عبارة عن رقة القلب، ولا شك أن الشمس - أعني: ضوءها - يأخذ في الرقة والضعف من غيبة الشمس إلى أن يستولي سواد الليل على الآفاق كلها. وعن عكرمة ومجاهد: الشفق: هو النهار، بناءً على أن الشفق هو أثر الشمس، وهو كوكب نهاري، وأثره هو النهار، فعلى هذا يقع القسم بالليل والنهار اللذين أحدهما معاش، والآخر سكن، وبهما قوام أمور العالم، وفي "المفردات": الشفق: أختلاط ضوء النهار بسواد الليل عند غروب الشمس.
١٧ - ﴿وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (١٧)﴾ قال الراغب: الوسق: جمع المتفردق؛ أي: وأقسم لكم بالليل وبما جمعه وما ضمه وستره بظلمته، فـ ﴿ما﴾ موصولة، يقال: وسقه فاتسق واستوسق، يعني: أن كلًّا منهما مطاوع لوسق؛ أي: جمعه فاجتمع.
و ﴿ما﴾ عبارة عما يجتمع بالليل، ويأوي إلى مكانه من الدواب والحشرات والهوام والسباع، وذلك أنه إذا أقبل الليل.. أقبل كل شيء إلى مأواه مما كان
(٢) روح البيان.
١٨ - ﴿وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (١٨)﴾؛ أي: اجتمع وتكامل وتم بدرًا ليلة أربع عشرة. قال في "فتح الرحمن": امتلأ في الليالي البيض. وقال الفراء؛ امتلاؤه، واجتماعه، واستواؤه ليلة ثالث عشر ورابع عشر إلى ست عشرة. أقسم (١) سبحانه بهذه الأشياء؛ لأن في كل منها تحولًا من حال إلى آخر، فناسبت المقسم عليها، يعني: أن الله تعالى أقسم بتغيرات واقعة في الأفلاك والعناصر على تغير أحوال الخلق، فإن الشفق حالة مخالفة لما قبلها، وهو ضوء النهار، ولما بعدها، وهو ظلمة الليل، وكذا قوله: ﴿وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (١٧)﴾ فإنه يدل على حدوث ظلمة بعد نور، وعلى تغير أحوال الحيوانات من اليقظة إلى النوم، وكذا قوله: ﴿وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (١٨)﴾ فإنه يدل على حصول كمال القمر بعد أن كان ناقصًا،
١٩ - وقوله: ﴿لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا﴾ مفعول ﴿تَرْكَبُنَّ﴾ ﴿عَنْ طَبَقٍ﴾؛ أي: بعد طبق، جواب القسم؛ أي: لتلاقن أيها العباد حالًا بعد حال، كل واحدة منها مطابقة لأختها في الشدة والفظاعة، يقال: ما هذا يطبق هذا؛ أي: لا يطابقه. قال الراغب: المطابقة من الأسماء المتضايقة، وهو أن يجعل الشيء فوق آخر بقدره، ومنه: طابقت النعل بالنعل، ثم يستعمل الطباق في الشيء الذي يكون فوق الآخر تارة، وفيما يوافق غيره أخرى. وقيل: الطبق: جمع طبقة، وهي المرتبة، وهو الأوفق للركوب المنبىء عن الاعتلاء.
والمعنى: لتركبن أحوالًا بعد أحوال هي طبقات في الشدة، بعضها أرفع من بعض، وهي الموت وما بعده من مواطن القيامة ودواهيها إلى حين المستقر في إحدى الدارين.
وقرأ عمر وعبد الله وابن عباس ومجاهد والأسود وابن جبير ومسروق والشعبي وأبو العالية وابن وثاب وطلحة وعيسى والأخوان - حمزة والكسائي - وابن كثير: ﴿لتركبَن﴾ بتاء الخطاب وفتح الباء، فقيل: هو خطاب للرسول الله - ﷺ -؛ أي: لتركبن يا محمد حالًا بعد حال في معالجة الكفار، فقال ابن عباس: لتركبن يا محمد سماعًا بعد سماع، وقيل: عدة له بالنصر؛ أي: لتركبن أمر العرب قبيلًا بعد
والمعنى: لتركبن أيها الناس الشدائد: الموت والبعث والحساب حالًا بعد حال، أو يكون الأحوال من النطفة إلى الهرم، كما تقول: طبقة بعد طبق، وقال نحوه عكرمة، واختار أبو عبيدة وأبو حاتم هذه القراءة، قال: لأن المعنى بالناس أشبه منه بالنبي - ﷺ -، وقال مكحول وأبو عبيدة: لتركبن سنن من قبلكم، وقال ابن زيد: المعنى: لتركبن الآخرة الأولى، وقرأ عمر أيضًا: ﴿ليركبن﴾ بياء الغيبة وضم الباء، قيل: أراد به الكفار، أي: يركبون حالًا بعد أخرى من المذلة والهوان في الدنيا والآخرة، وقرأ ابن مسعود وابن عباس: ﴿لتركبن﴾ بكسر التاء، وهي لغة تميم، قيل: والخطاب للرسول الله - ﷺ -، وقرىء بالتاء وكسر الباء الموحدة على خطاب النفس. ومحل ﴿عَنْ طَبَقٍ﴾ النصب على أنه صفة لـ ﴿طَبَقًا﴾؛ أي: طبقًا مجاوزًا لطبق، أو على الحال من ضمير ﴿لتركبن﴾؛ أي: مجاوزين، أو مجاوزًا. وطبق الشيء: مطابقه؛ لأن كل حال مطابقة للأخرى في الشدة، وعن مكحول: كل عشرين عامًا تجدون أمرًا لم تكونوا عليه.
والمعنى (١): أي أقسم بهذه الأشياء التي إذا تدبر الإنسان أمرها.. استدل
والخلاصة: لتركبن حالًا بعد حال، والحال الثانية تطابق الأولى؛ أي: لتكونن في حياة أخرى تماثل هذه الحياة التي أنتم فيها، وتطابقها من حيث الحس والإدراك، والألم واللذة، وإن خالفت في بعض شؤونها الحياة الأولى.
٢٠ - وبعد أن ذكر الأدلة القاطعة على صحة البعث والحساب. ، أنكر عليهم استبعادهم له، فقال: ﴿فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٢٠)﴾، والاستفهام للإنكار، والفاء لترتيب ما بعدها من الإنكار والتعجيب على ما قبلها من أحوال يوم القيامة، أو من غيرها على الاختلاف السابق، و ﴿ما﴾: مبتدأ، و ﴿لَهُمْ﴾: خبره، وجملة ﴿لَا يُؤْمِنُونَ﴾ حال من الضمير في ﴿لَهُمْ﴾.
والمعنى (١): إذا كان حالهم يوم القيامة كما ذكر، وأردت التعجب من حالهم.. فأقول لك؛ أي شيء لكفار مكة، وأيُّ مانع لهم حال كونهم غير مؤمنين بمحمد - ﷺ -، وبما جاء به من القرآن، مع وجود موجبات الإيمان بذلك؛ أي: أي شيء يمنعهم من الإيمان مع تعاضد موجباته،
٢١ - وقوله: ﴿وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآن﴾ جملة شرطية، وقوله: ﴿لَا يَسْجُدُونَ﴾ جوابها، والجملة الشرطية مع جوابها في محل النصب على الحال من ضمير ﴿لَهُمْ﴾ عطفاَ على جملة ﴿لَا يُؤمِنُونَ﴾؛ أي: أيُّ مانع لهم حال عدم سجودهم وخضوعهم واستكانتهم عند قراءة النبي - ﷺ -، أو واحد من أصحابه وأمته القرآن، فإنهم من أهل اللسان، فيجب عليهم أن يجزموا بإعجاز القرآن عند سماعه، وبكونه كلامًا إلهيًا، ويعلموا بذلك صدق محمد - ﷺ - في دعوى النبوة، فيطيعوه في جوامع الأوامر والنواهي، ويجوز أن يراد به نفس السجود عند تلاوة آية السجدة على أن يكون المراد بالقرآن آية السجدة بخصوصها لا مطلق القرآن، كما روي أنه - ﷺ - قرأ ذات يوم: ﴿وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾، فسجد هو ومن معه من
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله - ﷺ - سجد فيها، وكذا الخلفاء، وهي الثالثة عشرة من أربع عشرة سجدة تجب عندها السجدة عند الحنفية على التالي والسامع، سواء قصده أم لا، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ليس في المفصل سجدة، وكذا قال الحسن، وهي غير واجبة عند الأئمة الثلاثة، ثم إن الأئمة الثلاثة يسجدون عند قوله: ﴿لَا يَسْجُدُونَ﴾، والإمام مالك: عند آخر السورة.
وحاصل معنى قوله: ﴿فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٢٠)﴾؛ أي: فأي (١) شيء حدث لهم حتى جحدوا قدرة الله، وأنكروا صحة البعث، وكل شيء أمامهم ينادي بباهر قدرته، ويرشد إلي عظيم سلطانه.
وقصارى ذلك: أنه لا شبهة لهم يصح أن يستمسكوا بها على إنكار البعث والحساب.
ومعنى قوله: ﴿وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (٢١)﴾؛ أي: وما حدث لهم حتى صاروا إذا قرىء عليهم القرآن لا يعترفون بإعجازه، وبلوغه الغاية التي لا يمكن البشر أن يصلوا إليها، فأمرهم عجب، فهم أهل اللسان وأرباب البلاغة والبراعة، وذا يقتضي أن يعلموا إعجازه، ومتى علموه.. استكانوا وخضعوا له، وأدركوا صحة نبوة الرسول الذي جاء به، ووجبت عليهم طاعته.
٢٢ - ثم بين السبب في عدم إيمانهم به، وانقيادهم له، فقال: ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (٢٢)﴾ بألقرآن الناطق بما ذكر من أحوال القيامة وأهوالها، مع تحقق موجبات تصديقه، ولذلك لا يخضعون عند تلاوته، وهذا من (٢) وضع الظاهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بالكفر، والإشعار بما هو العلة في عدم خضوعهم للقرآن، وفي بعض التفاسير: إن المراد: التكذيب بالقلب بمعنى عدم التصديق، فيكون الإضراب هنا إضراب ترق، فإنَّ عدم الإيمان يكون بالشك أيضًا، والتكذيب من شدة الكفر، وقوة الإنكار الحاملة على الإضراب، وقال هنا: ﴿يُكَذِّبُونَ﴾، وفي سورة
(٢) روح البيان.
وقرأ الجمهور (١): ﴿يُكَذبوُنَ﴾ مشددًا، والضحاك وابن أبي عبلة مخففًا، وبفتح الياء.
ومعنى: ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (٢٢)﴾؛ أي: إن (٢) الدلائل الموجبة للإيمان جلية واضحة، لكنهم قوم معاندون مصرون على التكذيب؛ إما لأنهم يحسدون الرسول - ﷺ -. على ما أتاه الله من فضله، وإما لخوفهم من فوت المناصب الدينية والرياسات التقليدية، وإما لأنهم يأبون أن يخالفوا ما وجدوا عليه آباءهم من عقائد زائفة وأفعال مستهجنة.
٢٣ - ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ﴾؛ أي: بما يضمرونه في قلوبهم، ويجمعونه في صدورهم من الكفر والحسد والبغي والبغضاء، فيجازيهم على ذلك في الدنيا والآخرة، فـ ﴿ما﴾ موصولة، يقال: أوعيت الشيء: إذا جعلته في وعاء؛ أي: ظرف، ثم استعير هو والوعي لمعنى الحفظ، أو بما يجمعونه في صحفهم من أعمال السوء، ويدخرونه لأنفسهم من أنواع العذاب علمًا فعليًا تفصيليًا.
وقرأ أبو رجاء: ﴿بما يعون﴾ من وعى يعي.
والمعنى (٣): أي واللهُ سبحانه مطلع على ما في قلوبهم من أسباب الإصرار على الشرك، ودواعي العناد، والاستمرار على ما هم عليه.
٢٤ - ﴿فَبَشِّرْهُمْ﴾؛ أي: فبشر يا محمد الذين كفروا ﴿بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾؛ أي: مؤلم غاية الإيلام جزاء استمرارهم على التكذيب والجحود، وإصرارهم على سيء العمل، وفاسد الاعتقاد، لأن علمه تعالى بذلك على الوجه المذكور، موجب لتعذيبهم حتمًا، وهو استهزاء بهم وتهكم، كما قال تعالى: ﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾؛ لأن البشارة هي الإخبار بالخبر السار، وقد استعملت هنا في الخبر المؤلم.
٢٥ - وقوله: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ إيمانًا صادقًا استثناء منقطع من الضمير المنصوب في قوله: ﴿فَبَشِّرْهُمْ﴾ الراجع إلى ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، والمستثنى - وهم المؤمنون -
(٢) المراغي.
(٣) المراغي.
والمعنى: أي لكن الذين آمنوا بالله ورسوله، وخضعوا للقرآن الكريم، وعملوا بما جاء فيه، فأولئك لهم أجر لا ينقطع مدده، ولا ينقص منه، وفي هذا ترغيب في الطاعة، وزجر عن المعصية.
الإعراب
﴿إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (١) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (٢) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (٣) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (٤) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (٥)﴾.
﴿إذَا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان مضمن معنى الشرط، أو مجرد منه ﴿السَّمَاءُ﴾: فاعل بفعل محذوف يفسره المذكور، تقديره: إذا انشقت السماء انشقت، والجملة المحذوفة في محل الخفض بإضافة ﴿إِذَا﴾ إليها على كونها فعل شرط لها، وجملة ﴿انْشَقَّتْ﴾ مفسرة لا محل لها من الإعراب، وجواب ﴿إِذَا﴾ محذوف جوازًا، تقديره: إذا انشقت السماء لاقى كل إنسان عمله، وجملة ﴿إِذَا﴾ مستأنفة، وقيل: لا جواب لها؛ لأنها مجردة عن معنى الشرط، فهي منصوبة باذكر مقدرًا نصب المفعول به ﴿وَأَذِنَتْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿أذنَت﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على ﴿السَّمَاءُ﴾، معطوفة على ﴿انْشَقَّتْ﴾، ﴿لِرَبِّهَا﴾: متعلق بـ ﴿أذنَت﴾، ﴿وَحُقَّتْ﴾: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿السَّمَاءُ﴾، والجملة معطوفة على جملة ﴿انْشَقَّتْ﴾، وفي "الروح": وحق هذه الجملة أن تكون معترضة مقررة لما قبلها، لا معطوفة عليه، وقوله: ﴿وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (٣)﴾ معطوف على قوله: {إِذَا
﴿يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (٦) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (٧) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (٨) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (٩) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (١٠) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (١١) وَيَصْلَى سَعِيرًا (١٢)﴾.
﴿يَاأَيُّهَا﴾ ﴿يا﴾: حرف نداء، ﴿أي﴾: منادى نكرة مقصودة مبني على الضم، و ﴿الهاء﴾: حرف تنبيه زائد تعويضًا عما فات ﴿أيُّ﴾ من الإضافة. ﴿الْإِنْسَانُ﴾: بدل من ﴿أي﴾، وجملة النداء مستأنفة، ﴿إِنَّكَ كَادِحٌ﴾: ناصب واسمه وخبره ﴿إِلَى رَبِّكَ﴾: متعلق بـ ﴿كَادِحٌ﴾. ﴿كَدْحًا﴾: مفعول مطلق منصوب بـ ﴿كَادِحٌ﴾. وجملة ﴿إنَّ﴾ جواب النداء لا محل لها من الإعراب، ﴿فَمُلَاقِيهِ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿ملاقيه﴾: معطوف على ﴿كَادِحٌ﴾، ويجوز أن يكون خبرًا لمبتدأ محذوف؛ أي: فأنت ملاقيه، فعلى الأول يكون من عطف المفرد على المفرد، وعلى الثاني يكون من عطف الجمل، ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أن كل إنسان كادح إلى ربه فملاق عمله، وأردت بيان تفصيل أحوالهم في ذلك اليوم.. فأقول لك: ﴿أما من أوتي﴾: ﴿أما﴾: حرف شرط وتفصيل ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ ﴿أُوتِيَ﴾ فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾ الموصولة، ﴿كِتَابَهُ﴾: مفعول ثانٍ لـ ﴿أوتِىَ﴾: لأنه بمعنى: أعطي، ﴿بِيَمِينِه﴾ متعلق بـ ﴿أُوتِيَ﴾، ﴿فَسَوْفَ﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿أما﴾ واقعة في غير موضعها؛ لأن موضعها موضع ﴿أما﴾ ﴿سوف﴾: حرف استقبال، ﴿يُحَاسَبُ﴾: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾ الموصولة، ﴿حِسَابًا﴾: مفعول مطلق
﴿إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (١٣) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (١٤) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (١٥)﴾.
﴿إِنَّهُ﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿كَانَ﴾ خبره، وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها، ﴿فِي أَهْلِهِ﴾: حال من الضمير المستكن في ﴿مَسْرُورًا﴾، و ﴿مَسْرُورًا﴾: خبر ﴿كَانَ﴾، ﴿إِنَّهُ﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿ظَنَّ﴾ خبره، وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل جملة ﴿إن﴾ الأولى، والظن هنا بمعنى: العلم واليقين. ﴿إن﴾: مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، ﴿لَنْ﴾: حرف نصب واستقبال، ﴿يَحُورَ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر منصوب بـ ﴿لَن﴾، وجملة ﴿لَنْ يَحُورَ﴾ في محل الرفع خبر ﴿أَن﴾ المخففة وجملة ﴿أَن﴾ المخففة في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي
﴿فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (١٦) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (١٧) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (١٨) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (١٩)﴾.
﴿فَلَا﴾: ﴿الفاء﴾: استئنافية ﴿لا﴾: زائدة تأكيدًا للقسم، ﴿أُقْسِمُ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله سبحانه، وجملة القسم مستأنفة ﴿بِالشَّفَقِ﴾: متعلق بـ ﴿أُقْسِمُ﴾، ﴿وَاللَّيْلِ﴾: معطوف على ﴿الشفق﴾، ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل الجر معطوف على ﴿اللَّيْلِ﴾، ﴿وَسَقَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّيْلِ﴾، والجملة صلة ﴿مَا﴾ الموصولة، والعائد محذوف تقديره: وما وسقه الليل، ﴿وَالْقَمَرِ﴾: معطوف على ﴿الشفق﴾ أيضًا ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان مجرد عن معنى الشرط في محل النصب على الظرفية، متعلق بفعل القسم، ﴿اتَّسَقَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعل مستتر يعود على ﴿وَالْقَمَرِ﴾. ﴿وَالْقَمَرِ﴾ معطوفة على ﴿وَاللَّيْلِ﴾، والجملة في محل الخفض مضاف إليه لـ ﴿إذا﴾؛ أي: وأقسم بالقمر وقت اتساقه وكماله ﴿لَتَرْكَبُنَّ﴾: ﴿اللام﴾: موطئة للقسم ﴿تركبن﴾: فعل مضارع مرفوع لتجرده عن الناصب والجازم، وعلامة رفعه ثبات النون المحذوفة لتوالي الأمثال؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين فاعل، والنون نون التوكيد الثقيلة. ﴿طَبَقًا﴾: مفعول به ﴿عَنْ طَبَقٍ﴾: صفة ﴿طَبَقًا﴾، وعن: بمعنى: بعد؛ أي: لتركبن حالًا كائنًا بعد حال، كل واحدة منهما مطابقة لأختها في الشدة، يعني: أهوال يوم القيامة، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب.
﴿فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (٢١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (٢٢) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (٢٣) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٢٤) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٢٥)﴾.
﴿فَمَا﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر،
﴿إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (١)﴾؛ أي: تشققت وتصدعت.
﴿وَأَذِنَتْ﴾؛ أي: استمعت لأمر ربها، يقال: أذنت لك؛ أي: استمعت كلامك، ومن استعمال الإذن في الاستماع قول الشاعر:
صُمٌّ إِذَا سَمِعُوْا خَيْرًا ذُكِرْتُ بِهِ | وَإِنْ ذُكِرْتُ بِسُؤءٍ عِنْدَهُمْ أَذِنُوْا |
إِنْ يَأْذَنُوْا سُبَّةً طَارُوْا بِهَا فَرَحًا | مِنِّيْ وَمَا أَذِنُوْا مِنْ صَالِحٍ دَفَنُوْا |
﴿وَحُقَّتْ﴾؛ أي: حق لها أن تمتثل ذلك، والفاعل في الأصل هو الله تعالى؛ أي: حق الله تعالى عليها ذلك؛ أي: سمعه وطاعته؛ أي: أوجبه عليها، وألزمها به، واقتضت حكمته وجوده منها، وكلام البيضاوي، يقتضي أن نائب الفاعل هو ضمير السماء المستكن في الفعل من غير تقدير، ونصه: حقت؛ أي جعلت حقيقة بالاستماع والانقياد. اهـ. وقال صاحب "الروح": فحق هذه الجملة أن تكون اعتراضًا مقررةً لما قبلها، لا معطوفة عليه. اهـ. كما مرَّ.
﴿مُدَّتْ﴾ من مده بمعنى: أمده؛ أي: زاده.
﴿وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (٤)﴾ ووصفت الأرض بذلك؛ أي: بالإلقاء والتخلية توسعًا، وإلا فالتحقيق أن المخرج لما فيها هو الله تعالى. اهـ. "خطيب".
وقوله: ﴿ألقت﴾ فيه إعلال بالحذف، أصله: ألقي بوزن أفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ولما اتصلت بالفعل تاء التأنيث، الساكنة.. التقى ساكنان، فحذفت الألف.
﴿وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (٥)﴾ ليس تكرارًا مع مر؛ لأن الأول في السماء، وهذا في الأرض. اهـ "خطيب". ومعنى حقت، أي: حق لها أن تمتثل ذلك؛ أي: يجدر بها أن تكون كذلك، قال كثير:
فَإِنْ تَكُنِ الْعُتْبَى فَأَهْلًا وَمَرْحَبًا | وَحُقَّتْ لَهَا الْعُتْبَى لَدَيْنَا وَقَلَّتِ |
وَمَضَتْ بَشَاشَةُ كُلِّ عَيْشٍ | وَبَقِيْتُ أَكْدَحُ لِلْحَيَاةِ وَأَنْصَبُ |
﴿فَمُلَاقِيهِ﴾؛ أي: فملاق لعملك عقب ذلك؛ أي: لجزائه من خير أو شر.
﴿يَنقَلِبُ﴾؛ أي: يرجع ﴿إِلَى أَهْلِهِ﴾؛ أي: عشيرته المؤمنين، أو رفقائه في طريق السعادة والكرامة؛ أي: يرجع بنفسه من غير مزعج برغبة وقبول إلى أهله؛ أي: الذين أهل بهم في الجنة من الحور العين، والآدميات، والذريات، إذا كانوا مؤمنين. اهـ. "خطيب".
﴿فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (١١)﴾، أي: يتمنى هلاكًا وأنى له، ويقول: واثبوراه، أقبل فهذا أوانك، والثبور: الهلاك، قيل: الثبور مشتق من المثابرة على الشيء، وهو المواظبة عليه، وسمي هلاك الآخرة ثبورًا؛ لأنه لازم لا يزول، كما مر، وفي "المصباح": ثبر الله الكافر ثبورًا - من باب قعد -: أهلكه، وثبر هو ثبورًا: هلك، يتعدى، ولا يتعدى.
﴿وَيَصْلَى﴾: أي: يقاسي، أصله: يصلي بوزن يفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح.
وَمَا الْمَرْءُ إِلا كَالشِّهَابِ وَضَوْئِهِ | يَحُوْرُ رَمَادًا بَعْدَ إِذْ هُوَ سَاطِعُ |
﴿فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (١٦)﴾ هي الحمرة التي تشاهد في أفق المغرب بعد الغروب. وعبارة "القاموس": الشفق محركة: الحمرة في الأفق من الغروب إلى العشاء الآخرة، أو إلى قربها، أو إلى قريب العتمة، وهذا هو الصحيح، ومنه قول الشاعر:
قُمْ يَا غُلَامُ أَعِنِّيْ غَيْرَ مُرْتَبِكٍ | عَلَى الزَّمَانِ بِكَأْسٍ حَشْوُهَا شَفَقُ |
﴿وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (١٨)﴾؛ أي: اجتمع نوره واستوى ليلة أربع عشرة، وهو افتعل من الوسق، وهو الضم والجمع، كما تقدم، وأمر فلان متسق؛ أي: مجتمع على ما يسر، وأصله: إوتسق من الوسق، أبدلت الواو فاء الكلمة تاء، لمجيئها قبل تاء الافتعال، ثم أدغمت في تاء الافتعال، وإبل مستوسقة؛ أي: مجتمعة.
قال الشاعر:
إِنَّ لَنَا قَلَائِصًا حَقائِقَا | مُسْتَوْسِقَاتٍ لَمْ يَجِدْنَ سَائِقَا |
﴿طَبَقًا﴾ والطبق: الحال المطابقة لغيرها، قال الأقرع بن حابس:
إِنِّيْ امْرُؤٌ قَدْ حَلَبْتُ الدَّهْرَ اشْطُرَهُ | وَسَاقَنِيْ طَبَقٌ مِنْهُ إِلَى طَبَقِ |
﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (٢٣)﴾؛ أي: يجمعون في صدورهم من الإعراض والجحود والحسد والبغي، أصله: يوعيون بوزن يفعلون، استثقلت الضمة على الياء فحذفت، فلما سكنت التقى ساكنان؛ فحذفت الياء، ثم ضمت العين لمناسبة الواو، وحذفت همزة أفعل أيضًا، فوزنه: يفعون يقال: اْوعيت الشيء؛ أي: جعلته في وعاء؛ أي: ظرف، ثم استعير هو والوعي لمعنى الحفظ. كما مر.
﴿فَبَشِّرْهُمْ﴾: والبشارة: الإخبار بما يسر، واستعملت في العذاب تهكمًا.
﴿مَمْنُونٍ﴾؛ أي: مقطوع، من قولهم: منَّ فلان الحبل: إذا قطعه.
البلاغة
وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الاستعارة المكنية في قوله: ﴿وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (٥)﴾ فقد شبهت حال السماء في انقيادها لتأثير قدرة الله تعالى، حيث أراد انشقاقها بانقياد المستمع المطواع للأمر، ثم حذف المشبه به، واستعير لفظ الإذن والاستماع المستعمل في غايته.
وقيل: فيه استعارة تمثيلية متفرعة على المجاز المرسل، يعني: إذا أطلق الإذن؛ وهو الاستماع في حق من له حاسة السمع، والاستماع بها يراد بها: الإجابة والانقياد مجازًا، وإذا أطلق في حق نحو السماء مما ليس في شأنه الاستماع والقبول يكون: استعارة تمثيلية.
ومنها: الاستعارة المكنية في قوله: ﴿وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (٤)﴾ فقد شبهت حال الأرض بحال المرأة الحامل، تلقي ما في بطنها عند الشدة والهول، ثم حذف المشبه به، واستعير لفظ الإلقاء.
ومنها: الطباق بين لفظ: ﴿السَّمَاءُ﴾ و ﴿الْأَرْضُ﴾.
ومنها: الإسناد المجازي في قوله: ﴿وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (٤)﴾ لأن الإلقاء والإخراج حقيقةً لله سبحانه وتعالى، لا للأرض.
ومنها: التعبير بالماضي في قوله: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ﴾؛ أي: يؤتى إشعارًا بتحقق وقوعه، كما في "الشهاب".
ومنها: المقابلة بين قوله: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (٧)﴾، وقوله: ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (١٠)﴾.
ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (١٠)﴾؛ أي: تكرير كتابه بدون الاكتفاء بالإضمار، لتغاير الكتابين وأختلافهما بالاشتمال والحكم في المآل.
ومنها: فن الالتزام في قوله: ﴿وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (١٧) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (١٨)﴾ ويقال فيه: لزوم ما لايلزم، ومنهم من يسميه: الإعنات؛ وهو: أن يلتزم الشاعر في شعره، أو الناثر في نثره حرفًا أو حرفين فصاعدًا قبل حرف الروي على قدر طاقته مشروطًا بعدم الكلفة، فقد التزم هنا السين قبل القاف في الكلمتين، ولأبي العلاء المعري ديوان التزم فيه ما لا يلزم.
ومنها: الجناس الناقص بين كلمتي: ﴿وَسَقَ﴾ و ﴿اتَّسَقَ﴾.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (١٩)﴾؛ لأنه كنى به عن شدة الأهوال التي يلقاها الإنسان.
ومنها: استعارة عن لـ (بعد) في قوله: ﴿عَنْ طَبَقٍ﴾؛ لأن لفظ (عن) يفيد البعد والمجاوزة، فكان مشابهًا للفظ (بعد) فصح استعمال أحدهما بمعنى الآخر، قال
ومنها: الإظهار في موضع الإضمار في قوله: ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (٢٢)﴾؛ للتسجيل علهيم بالكفر، وللإشعار بما هو العلة في عدم خضوعهم للقرآن؛ أي: للإشعار بأنهم لا يؤمنون، ولا يسجدون عند قراءة القرآن عليهم؛ لأنهم كافرون مكذبون. اهـ "كرخي".
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (٢٣)﴾؛ لأن الإيعاء حقيقة في جعل الشيء في وعاء؛ أي: ظرف، ثم استعير لمعنى الحفظ على طريقة الاستعارة التصريحية التبعية.
ومنها: الأسلوب التهكمي في قوله: ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾؛ لأن البشارة حقيقة في الإخبار بالخبر السار، وقد استعملت هنا في الخبر المؤلم استهزاءً بهم وتهكمًا.
ومنها: توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآي مثل قوله: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (١) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (٢)﴾، وقوله: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (١٦) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (١٧) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (١٨) لَتَرْكَبُنّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (١٩)﴾؛ لأنه من المحسنات البديعية.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب
* * *
اشتملت هذه السورة على مقصدين:
١ - أن الإنسان يلاقي نتائج أعماله يوم القيامة، فيأخذ كتابه بيمينه، أو من وراء ظهره.
٢ - أن الناس في الدنيا يتنقلون في أحوالهم طبقة بعد طبقة؛ إما في نعيم مقيم، وإما في عذاب أليم.
وصلى الله سبحانه وتعالى وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين. آمين آمين (١).
* * *
سورة البروج مكية بلا خلاف، نزلت بعد سورة الشمس، وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنه قال: نزلت: ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (١)﴾ بمكة. وآياتها: اثنتان وعشرون آية. وكلماتها: مئة وتسع كلمات. وحروفها: أربع مئة وخمسة وستون حرفًا.
ومناسبتها لما قبلها من وجوه:
١ - اشتمالها على وعد المؤمنين، ووعيد الكافرين، مع التنويه بشأن القرآن وفخامته.
٢ - أنه ذكر في السورة السابقة أنه عليم بما يجمعون للرسول - ﷺ - والمؤمنين من المكر والخداع، وإيذاء من أسلم بأنواع من الأذى، كالضرب، والقتل، والإلقاء في حمارة القيظ، وذكر هنا أن هذه شنشنة من تقدمهم من الأمم، فقد عذبوا المؤمنين بالنار، كما فعل أصحاب الأخدود، وفي هذه السورة عظة لقريش، وتثبيت من يعذَّبون من المؤمنين.
ومما ورد في فضائل هذه السورة:
ما أخرجه أحمد بسنده عن أبي هريرة: أن رسول الله - ﷺ -: كان يقرأ في العشاء الآخرة بالسماء ذات البروج، والسماء والطارق.
وما أخرجه الطيالسي وابن أبي شيبة في "المصنف" وأحمد والدارمي وأبو داوود والترمذي وحسنه، والنسائي وابن حبان والطبراني والبيهقي في "سننه" عن جابر بن سمرة: أن النبي - ﷺ -: كان يقرأ في الظهر والعصر بالسماء والطارق، والسماء ذات البروج.
وما روي عن رسول الله - ﷺ -: "من قرأ سورة البروج.. أعطاه الله تعالى بعدد كل يوم جمعة وعرفة تكون في الدنيا عشر حسنات"، ولكنه لا أصل له.
وسميت سورة البروج: لذكر البروج فيها، وكلها محكمة لا ناسخ ولا منسوخ فيها.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (١) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (٢) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (٣) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (٤) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (٥) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (٦) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (٧) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٨) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٩) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (١٠) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (١١) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (١٢) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (١٣) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (١٤) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (١٥) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (١٦) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (١٧) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (١٨) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (١٩) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (٢٠) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (٢٢)﴾.المناسبة
قد تقدم لك بيان المناسبة بين هذه السورة والسورة التي قبلها، فبدأ هذه السورة بأنه أقسم فيها بما هو غيب وشهود، وهو السماء ذات البروج، فإن كوكبها مشهود نورها، مرئي ضوؤها معروفة حركتها في طلوعها وغروبها، وكذلك البروج نشاهدها وفيها غيب لا تعرفه الحس، وهو حقيقة الكواكب، وما أودع الله فيها من القوى، وما فيها من عوالم لا نراها ولا ندرك حقيقتها، وأقسم بما هو غيب صرف، وهو اليوم الموعود، وما يكون فيه من حوادث البعث والحساب والعقاب والثواب، وأقسم بما هو شهادة صرفة، وهو الشاهد؛ أي: ذو الحسِّ، والمشهود: وهو ما يقع عليه الحس، فأقسم سبحانه بكل ما سلف على أن من قبلهم من المؤمنين الموحدين ابتلوا ببطش أعدائهم بهم، واشتدادهم في إيذائهم حتى خدوا لهم الأخاديد، وملؤوها بالنيران، وقذفوهم فيها، ولم تأخذهم بهم رأفة، بل كانوا يتشفون برؤية ما يحل بهم، وهم مع ذلك قد صبروا، وانتقم الله تعالى من أعدائهم، وممن أوقع بهم، وأخذهم بذنوبهم أخذ عزيز مقتدر.
ولئن صبرتم أيها المؤمنون على الأذى ليوفينكم أجركم، وليأخذن أعداءكم، ولينزلن بهم ما لا قبَل لهم به، وقد حكى هذا القصص ليكون تثبيتًا لقلوب
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر قصة أصحاب الأخدود وبيَّن ما فعلوه من الإيذاء والتنكيل بالمؤمنين، وذيل ذلك بما يدل على أنه لو شاء لمنع بعزته وجبروته أولئك الجبابرة عن هؤلاء المؤمنين، وأنه إنْ أمهل هؤلاء الفجرة عن العقاب في الدنيا.. فهو لم يهملهم، بل أجَّل عقابهم ليوم تشخص فيه الأبصار.. ذكر ما أعد للكفار من العذاب الأليم جزاء ما اجترحت أيديهم من السيئات التي منها إيذاء المؤمنين، وما أعد للمؤمين من جميل الثواب، وعظيم الجزاء.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر وعيد الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات، ووعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ووصف ما أعد لهم من الثواب كفاء أعمالهم.. أردف ذلك كله بما يدل على تمام تدرته على ذلك؛ ليكون ذلك بمثابة توكيد لما سبق من الوعيد والوعد، فالملك لا يعظم سلطانه وهيبته في النفوس إلا بأمرين:
١ - الجود الشامل، والإنعام الكامل، وبذا يرجى خيره.
٢ - الجيوش الجرارة، والأساطيل العظيمة التي توقع بأعدائه، وتنكل بهم، وبذلك يهاب جنابه، وإليهما أشار بقوله فيما سلف: ﴿الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾، وهنا زاد الأمر إيضاحًا، بقوله: ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (١٢)﴾ الآية.
قوله تعالى: ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ...﴾ إلى آخر السورة، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر قصص أصحاب الأخدود وبين حالهم، ووصف ما كان من إيذائهم للمؤمنين.. أردف ذلك ببيان أن حال الكفار في كل عصر، وشأنهم مع كل نبي وشيعته جارٍ على هذا النهج، فهم دائمًا يؤذون المؤمنين ويعادونهم، ولم يرسل الله نبيًا إلا لقي من قومه مثل ما لقي هؤلاء من أقوامهم، والغرض من هذا كله تسلية النبي - ﷺ - وصحبه، وشد عزائمهم على التذرع بالصبر، وأن كفار قومه سيصيبهم مثل ما أصاب الجنود فرعون وثمود.