ﰡ
متاعب الإنسان وتزويده بمفاتيح الرشاد
الحياة مشحونة بالتعب، والإنسان خلق مغمورا بالتعب والهموم ومكابدة العيش، واغتر بالحياة ومباهجها، وظن أنه السيد على الأرض الذي لا يقدر عليه أحد. ولكن الله تعالى زود الإنسان بطاقات المعرفة، ومفاتيح البحث عن المعلومات، وطرق الوصول إلى الهداية والرشاد، والظفر بأسلوب النجاة، ولكنه قصر وأهمل في اقتحام العقبة، وهي تحرير الرقاب، وإطعام الطعام، وأدى ذلك إلى انقسام الناس فئتين: أصحاب الميمنة، وأصحاب المشأمة، كما يتضح من سورة البلد المكية في قول جمهور المفسرين:
[سورة البلد (٩٠) : الآيات ١ الى ٢٠]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (١) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (٢) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (٤)أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (٦) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (٧) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (٩)
وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (١٠) فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢) فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤)
يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (١٥) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (١٦) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (١٧) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (١٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (١٩)
عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (٢٠)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» «٨» «٩» «١٠»
(٢) خلقناه مغمورا في مكابدة المشاق والمتاعب، والكبد: المشقة. [.....]
(٣) كثيرا.
(٤) ذللناه وأرشدناه إلى سبيلي الخير والشر.
(٥) دخل بشدة وصعوبة.
(٦) الطريق الصعب، أي المشاق المصادفة.
(٧) إعتاقها.
(٨) مجاعة.
(٩) قرابة.
(١٠) ذا فقر، أي التصقت يده بالتراب كناية عن فقره.
المعنى: أقسم بهذا البلد: مكة المكرمة، تنبيها على حرمتها، وأنت أيها النبي حلال بهذا البلد، يحل لك فيه قتل من شئت، وكان هذا يوم فتح مكة. فقد جاء أهله بأعمال توجب إحلال حرمته. والمراد: أن مكة عظيمة القدر في كل حال، حتى في حال اعتقاد الكفار القرشيين أنك أيها النبي حلال، لا حرمة لك، وهذا تقريع وتوبيخ لهم. وهذا على رأي شرحبيل بن سعد فيما ذكره الثعلبي: أن معنى وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (٢) أي قد جعلوك حلالا مستحل الأذى والإخراج، والقتل لك لو قدروا.
والمقسم عليه هو: لقد خلقنا الإنسان في كبد أي لقد خلقنا الإنسان اسم الجنس كله مغمورا بالمشقة والمكابدة، أي يكابد أمر الدنيا وأمر الآخرة.
ولكن الإنسان اغتر بقوته، فقيل له: أيظن ابن آدم أن لن يقدر عليه أحد، ولا ينتقم منه أحد، فالله قادر على كل شيء.
نزلت هذه الآية في أبي الأشد بن كلدة الجمحي، الذي كان مغترا بقوته، واسمه:
أسيد بن كلدة الجمحي، كان يحسب أن أحدا لا يقدر عليه. وقيل: نزلت في غيره، مثل عمر بن عبد ود الذي قتله علي رضي الله عنه خلف الخندق، أو في الحارث بن عامر بن نوفل، فوبخهم القرآن على ذلك.
ثم ذم الله الإنسان على الإنفاق بقصد المراءاة، فإنه يقول يوم القيامة: أنفقت مالا كثيرا، مجتمعا بعضه على بعض، وهو الذي يسميه أهل الجاهلية مكارم أو معالي ومفاخر.
(٢) محيطة بهم.
وهذا القول منه إما استطالة بما أنفق، فيكون طغيانا منه، وإما أسفا عليه، فيكون ندما منه.
ثم عاب الله الإنسان على جهله، حيث قال الله عنه: أيظن الإنسان ومدعي النفقة في سبيل الله أن الله تعالى لم يطلع عليه، ولا يسأله عن ماله من أين اكتسبه، وأين أنفقه؟
ولكن الله تعالى لم يترك الإنسان سادرا في صنوف الجهالة، بل زوده بما يمكنه من التمييز بين الخير والشر، بخلق مفاتيح المعرفة لديه، من أعين ولسان وشفتين وعقل نيّر، حيث قال الله تعالى عنه: ألم أمنحك أيها الإنسان الجاهل، المغرور بقوتك عينين تبصر بهما، ولسانا تنطق به، وشفتين تغطي بهما ثغرك، وتستعين بهما على الكلام وأكل الطعام؟
ألم نبين لك وندلك على طريق الخير والشر، وجعلنا لك من العقل والفطرة ما تستطيع به إدراك محاسن الخير، ومفاسد الشر، وتختار لنفسك طريق النجاة؟! وسبيل النجاة: هو اختيار الأفضل، فهلا نشط الإنسان واخترق الموانع المانعة من طاعة الله تعالى، من وساوس الشيطان واتباع الأهواء؟ وهلا جاهد لاجتياز الطريق الصعب، وأي شيء أعلمك ما اقتحام العقبة؟ إنه يكون بإعتاق الرقبة وتحريرها، أو بإطعام في يوم مجاعة يتيما فقد أباه ذا قرابة، أو مسكينا محتاجا لا شيء له، ولا قدرة على كسب المال لضعفه وعجزه، كأنه ألصق يده بالتراب، لفقد المال.
والمسغبة: الجوع العام، وذا متربة معناه: مدقعا قد لصق بالتراب، وبه يتبين أن المسكين أشد فاقة من الفقير.
أولئك المتصفون بهذه الصفات: هم من أصحاب اليمين، وهم أصحاب الجنة، وأما أضداد هؤلاء فهم الذين جحدوا بآياتنا التنزيلية والكونية الدالة على قدرتنا، فهم أصحاب الشمال، وعليهم نار مغلقة محيطة بهم.
والميمنة: مفعلة، عن يمين العرش، وهو موضع الجنة، ومكان المرحومين من الناس، والمشأمة: الجانب الأشأم، وهو الأيسر، وفيه جهنم، وهو طريق المعذّبين، يؤخذ بهم ذات الشمال.