تفسير سورة الإسراء

لطائف الإشارات
تفسير سورة سورة الإسراء من كتاب تفسير القشيري المعروف بـلطائف الإشارات .
لمؤلفه القشيري . المتوفي سنة 465 هـ

السورة التي يذكر فيها بنو إسرائيل «١»
قوله تعالى وتقدّس: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كلمة ما سمعها عابد إلّا شكر عصمته، وما سمعها مالك إلا وجد رحمته، وما تحقّقها عارف إلّا تعطر قلبه بنسيم قربته، وما شهدها موحّد إلا تقطّر دمه لخوف فرقته.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١)
افتتح السورة بذكر الثناء على نفسه فقال: «سُبْحانَ الَّذِي..» : الحقّ سبّح نفسه بعزيز خطابه، وأخبر عن استحقاقه لجلال قدره، وعن توحّده بعلوّ نعوته.
ولمّا أراد أن يعرف العباد ما خصّ به رسوله- صلى الله عليه وسلم- ليلة المعراج من علوّ ما رقّاه إليه، وعظم ما لقّاه به أزال الأعجوبة بقوله: «أَسْرى»، ونفى عن نبيّه خطر الإعجاب بقوله: «بِعَبْدِهِ» لأنّ من عرف ألوهيته، واستحقاقه لكمال العزّ فلا يتعجّب منه أن يفعل ما يفعل. ومن عرف عبودية نفسه، وأنّه لا يملك شيئا من أمره فلا يعجب بحاله. فالآية أوضحت شيئين اثنين: نفى التعجّب من إظهار فعل الله عزّ وجل، ونفى الإعجاب فى وصف رسول الله عليه السلام.
ويقال أخبر عن موسى عليه السلام- حين أكرمه بإسماعه كلامه من غير واسطة-
(١) يقول السيوطي فى الإتقان: «وتسمى أيضا سورة الإسراء، وسورة سبحان وسورة بنى إسرائيل» الإتقان ط الحلبي سنة ١٩٥١ ح ١ ص ٥٤.
أما القاضي البيضاوي (ص ٣٧٠) فيقول: سورة بنى إسرائيل أو سورة «أَسْرى»
333
فقال: «وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا» «١»، وأخبر عن نبينا ﷺ بأنه «أَسْرى بِعَبْدِهِ» وليس من جاء بنفسه كمن أسرى به ربّه، فهذا متحمّل وهذا محمول، هذا بنعت الفرق وهذا بوصف الجمع، هذا مريد وهذا مراد.
ويقال جعل المعراج بالليل عند غفلة الرّقباء وغيبة الأجانب، ومن غير ميعاد، ومن غير تقديم أهبة واستعداد، كما قيل: «٢» ويقال جعل المعراج بالليل ليظهر تصديق من صدّق، وتكذيب من تعجّب وكذّب أو أنكر وجحد.
ويقال لما كان تعبّده ﷺ وتهجّده بالليل جعل الحقّ سبحانه المعراج بالليل ويقال:
ليلة الوصل أصفى... من شهور ودهور سواها
ويقال أرسله الحقّ- سبحانه- ليتعلّم أهل الأرض منه العبادة، ثم رقّاه إلى السماء ليتعلّم الملائكة منه آداب العبادة، قال تعالى في وصفه- صلى الله عليه وسلم-: «ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى» «٣»، فما التفت يمينا ولا شمالا، وما طمع فى مقام ولا فى إكرام تجرّد عن كلّ طلب وأرب.
قوله: «لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا» : كان تعريفه بالآيات ثم بالصفات ثم كشف بالذات.
ويقال من الآيات التي أراها له تلك الليلة أنه ليس كمثله- سبحانه- شىء فى جلاله وجماله، وعزّه وكبريائه، ومجده وسنائه ثم أراه من آياته تلك الليلة ما عرف به صلوات الله عليه- أنه ليس أحد من الخلائق مثله فى نبوته ورسالته وعلوّ حالته وجلال رتبته.
(١) آية ١٤٣ سورة الأعراف.
(٢) هنا شاهد شعرى مضطرب فى الكتابة، وأكثر أجزائه سلامة هو: والناس عما نحن فيه بمعزل.
(٣) آية ١٧ سورة النجم.
334
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٢]
وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (٢)
أرسل موسى عليه السلام بالكتاب كما أرسل نبينا صلى الله عليه وسلم، ولكنّ نبيّنا- صلوات الله عليه- كان أوفى- سماعا، فإنّ الشمس فى طلوعها وإشراقها تكون أقرب ممن طلعت له من حقائقها.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٣]
ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (٣)
أي يا ذرية من حملنا مع نوح- على النداء.. إنه كان عبدا شكورا.
والشكور الكثير الشكر وكان نوح قد لبث فى قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، وكان يضرب فى كل (... ) «١» كما فى القصة- سبعين مرة، وكان يشكر. كما أنه كان يشكر الله ويصبر على قومه إلى أن أوحى الله إليه: أنه لن يؤمن إلا من قد آمن، وأمر حين دعا عليهم فقال: «رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً «٢».
ويقال الشكور هو الذي يكون شكره على توفيق الله له لشكره، ولا يتقاصر عن شكره لنعمه.
ويقال الشكور الذي يشكر بماله، ينفقه فى سبيل الله ولا يدّخره، ويشكر بنفسه فيستعملها فى طاعة الله، ولا يبقى شيئا من الخدمة يدخره، ويشكر بقلبه ربّه فلا تأتى عليه ساعة إلا وهو يذكره.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٤]
وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (٤)
(١) مشتبهة.
(٢) آية ٢٦ سورة نوح ويكون المراد أنه لم يدع بإهلاكهم نتيجة نفاد صبره أو عدم شكره بل حسبما أمره الله، ولو وضعنا الفاصلة بعد (وأمر) يكون المعنى: إلا من قد آمن وأمر بالايمان. وهذا التأويل لا يتعارض مع المذهب العام للقشيرى، فكل شىء عنده بأمر الله وتوفيقه.
القضاء هاهنا بمعنى الإعلام، والإشارة فى تعريفهم بما سيكون فى المستأنف منهم وما يستقبلهم، ليزدادوا يقينا إذا لقوا ما أخبروا به، وليكون أبلغ فى إلزام الحجّة عليهم، وليحترزوا من مخالفة الأمر بجحدهم، وليعلموا أن ما سبق به القضاء فلا محالة يحصل وإن ظنّ التباعد عنه.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٥]
فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (٥)
إن الله سبحانه يعدّ أقواما لأحوال مخصوصة حتى إذا كان وقت إرادته فيهم كان هؤلاء موجودين.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٦]
ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (٦)
يدلّ على أنه مقدّر أعمال العباد، ومدبّر أفعالهم فإنّ انتصارهم على أعدائهم من جملة أكسابهم، وقد أخبر الحقّ أنه هو الذي تولّاه بقوله: «رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ... »
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٧]
إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (٧)
إن أحسنتم فثوابكم كسبتم، وإن أسأتم فعداءكم جلبتم- والحقّ أعزّ من أن يعود إليه من أفعال عباده زين أو يلحقه شين.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٨]
عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (٨)
كلمة «عَسى» فيها ترجية وإطماع، فهو- سبحانه- وقفهم على حد الرجاء والأمل، والخوف والوجل.
وقوله «عَسى» : ليس فيه تصريح بغفرانهم ورحمتهم، وإنما فيه للرجاء موجب قوىّ فبلطفه وعد أن يرحمكم.
قوله جل ذكره: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً أي إن عدتم إلى الزّلّة عدنا إلى العقوبة، وإن استقمتم فى التوبة عدنا إلى إدامة الفضل عليكم والمثوبة.
ويقال إن عدتم إلى نقض العهد عدنا إلى تشديد العذاب.
ويقال إن عدتم للاستجارة عدنا للإجارة.
ويقال إن عدتم إلى الصفاء عدنا إلى الوفاء.
ويقال إن عدتم إلى ما يليق بكم عدنا إلى ما يليق بكرمنا.
«وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً»، لأنهم (....) «١» وهم ناس كثير فهذه جهنم ومن يسكنها من الكافرين.
و «حَصِيراً» أي محبسا ومصيرا. فالمؤمن- وإن كان صاحب ذنوب وإن كانت كبيرة- فإنّ من خرج من دنياه على إيمانه فلا محالة يصل يوما إلى غفرانه.
(١) هنا بياض فى النسخة.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٩]
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (٩)
القرآن يدل على الحقّ والصواب. و «أَقْوَمُ» : هنا بمعنى المستقيم الصحيح كأكبر بمعنى الكبير فالقرآن يدل على الحق والصواب، ولكنّ الخلل من جهة المستدلّ لا الدليل، إذ قد يكون الدليل ظاهرا ولكنّ المستدلّ معرض، وبآداب النظر مخلّ، فيكون العيب فى تقصيره لا فى قصور الدليل «١».
القرآن نور من استضاء به خلص من ظلمات جهله، وخرج من غمار شكّه. ومن رمدت عيون نظره التبس رشده.
ويقال الحول ضرره أشدّ من العمى لأنّ الأعمى يعلم أنه ليس يبصر فيتبع قائده، ولكن الأحوال يتوهّم الشيء شيئين، فهو بتخيّله وحسبانه يمارى من كان سليما.. كذلك المبتدع إذا سلك طريق الجدل، ولم يضع النظر موضعه بقي فى ظلمات جهله، وصال بباطل دعواه على خصمه، كما قيل:
بأطراف المسائل كيف يأتى - ولا أدرى لعمرك- مبطلوها؟
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ١١]
وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (١١)
من الأدب فى الدعاء ألّا يسأل العبد إلّا عند الحاجة «٢»، ثم ينظر فإنّ كان شىء لا يعنيه ألا يتعرّض له فإنّ فى الخبر «٣» :«من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه». ثم من آداب الداعي إذا سأل من الله حاجته ورأى تأخيرا فى الإجابة ألا يتّهم الحقّ- سبحانه- ويجب أن يعلم
(١) هذا نموذج مصغر لأسلوب القشيري الجدلي.
(٢) وردت (نجاحه) وهى خطأ فى النسخ.
(٣) وردت (الخير) بالياء
أن الخير فى ألا يجيبه، والاستعجال- فيما يختاره العبد- غير محمود، وأولى الأشياء السكون والرضا بحكمه سبحانه، إن لم يساعده الصبر وسأل فالواجب ترك الاستعجال، والثقة بأنّ المقسوم لا يفوته، وأنّ اختيار الحقّ للعبد خير له من اختياره لنفسه.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ١٢]
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (١٢)
جعل الليل والنهار علامة على كمال قدرته، ودلالة على وجوب وحدانيته فى تعاقبهما وتناوبهما، وفى زيادتهما ونقصانهما.
ثم جعلهما وقتا صالحا لإقامة العبادة، والاستقامة على معرفة جلال إلهيته فالعبادة شرطها الدوام والاتصال، والوظائف حقّها التوفيق والاختصاص ولو وقع فى بعض العبادات تقصير أو حصل فى أداء بعضها تأخير تداركه بالقضاء حتى يتلافى التقصير.
ويقال من وجوه الآيات فى الليل والنهار إفراد النهار بالضياء من غير سبب، وتخصيص الليل بالظلام بغير أمر مكتسب «١»، ومن ذلك قوله تعالى: «فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً» : وهو اختلاف أحوال القمر فى إشراقه ومحاقه، فلا يبقى ليلتين على حال واحدة، بل هو فى كل ليلة فى منزل آخر، إما بزيادة أو بنقصان.
وأمّا الشمس فحالها الدوام.. والناس كذلك أوصافهم فأرباب التمكين الدوام شرطهم، وأصحاب التلوين التنقل «٢» حقّهم، قال قائلهم:
ما زلت أنزل من ودادك منزلا تتحير الألباب دون نزوله
(١) أي أن أفعال الله بمخلوقاته لا تخضع لعلة أو سبب، أو حيلة أو كسب.
(٢) يقصد بالتنقل هنا التقلب فى الأحوال.. وليس التنقل من مكان إلى مكان.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ١٣]
وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (١٣)
ألزم كلّ أحد ما لبس بجيده. فالذين هم أهل السعادة أسرج لهم مركب التوفيق، فيسير بهم إلى ساحات النجاة، والذين هم أهل الشقاوة أركبهم مطيّة الخذلان فأقعدتهم عن النهوض نحو منهج الخلاص، فوقعوا فى وهدة الهلاك.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ١٤]
اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (١٤)
من ساعدته العناية الأزلية حفظ عند معاملاته مما يكون وبالا عليه يوم حسابه، ومن أبلاه بحكمه ردّه وأمهله، ثم تركه وعمله، فإذا استوفى أجله عرف ما ضيّعه وأهمله، ويومئذ يحكّمه فى حال نفسه، وهو لا محالة يحكم بنفسه باستحقاقه لعذابه عند ما يتحقق من قبيح أعماله..
فكم من حسرة يتجرّعها، وكم من خيبة يتلقّاها! ويقال من حاسبه بكتابه فكتابه ملازمه فى حسابه فيقول: ربّ: لا تحاسبنى بكتابي..
ولكن حاسبني بما قلت: إنّك غافر الذّنب وقابل التوب.. لا تعاملنى بمقتضى كتابى ففيه بواري وهلاكى قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ١٥]
مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (١٥)
قضايا أعمال العبد مقصورة عليه إن كانت طاعة فضياؤها لأصحابها، وإن كانت زلّة فبلاؤها لأربابها. والحقّ غنىّ مقدّس، أحدى منزّه.
قوله جل ذكره: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا كلّ مطالب بجريرته. وكلّ نفس تحمل أوزارها لا وزر نفس أخرى.. «وَما كُنَّا
مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا»
: دلّ ذلك على أن الواجبات إنما تتوجّه من حيث السمع «١».
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ١٦]
وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (١٦)
إذا كثر أهل الفساد غلبوا، وقلّ أهل الصلاح وفقدوا فعند ذلك (يغمر) «٢» الله الخلق ببلائه، ولا يكون للناس ملجأ من أوليائه ليتكلموا فى بابهم، ولا فيهم من يبتهل إلى الله فيسمع دعاؤه، فيخترم «٣» أولياءه، ويبقى أرباب الفساد، وعند ذلك يشتدّ البلاء وتعظم المحن إلى أن ينظر الله تعالى إلى الخلق نظر الرحمة والمنّة.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ١٧]
وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (١٧)
فى الآية تسلية للمظلومين إذا استبطأوا هلاك الظالمين، و ( ) «٤» قصر أيديهم عنهم. فإذا فكّروا فيما مضى من الأمم أمثالهم وكيف بنوا مشيدا، وأمّلوا بعيدا..
فبادوا جميعا، يعلمون أنّ الآخرين- عن قريب- سينخرطون فى سلكهم، ويمتحلون بمثل شأنهم. وإذا أظلّتهم سحب الوحشة فاءوا إلى ظلّ شهود التقدير، فتزول عنهم الوحشة، وتطيب لهم الحياة، وتحصل الهيبة.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ١٨]
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (١٨)
(١) نظن أن القشيري يريد بذلك أن يرد على بعض أهل الكلام الذين يقولون إن الله يعذب الناس على ذنوبهم حتى ولو لم يبعث لهم رسولا لأن عقل الإنسان مطالب بالتكليف قبل سماع الرسل. [.....]
(٢) وردت (يعمر) بالعين والصواب أن تكون بالغين لأن السياق يتطلب ذلك.
(٣) وردت (فيحترم) بالحاء والسياق يتطلب أن الله (يخترم) أولياءه أي يأخذهم إليه.
(٤) مشتبهة، وترجح أنها كلمة تؤدى إلى معنى (وأحسوا) قصر أيديهم عن الظالمين.
من رضى بالحظ الخسيس من عاجل الدنيا بقي عن نفيس الآخرة، ثم لا يحظى إلا بقدر ما اشتمّه، ثم يكون آنس ما به قلبا وأشدّ ما يكون به سكونا.. ثم يختطف عن نعمته، ولا يخصه بشىء مما جمع من كرائمه، ويمنعه من قربه فى الآخرة.. ولقد قيل:
يا غافلا عن سماع الصوت إن لم تبادر فهو الفوت
من لم تزل نعمته عاجلا أزاله عن نعمته الموت
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ١٩]
وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (١٩)
علامة من أراد الآخرة- على الحقيقة- أن يسعى لها سعيها فإرادة الآخرة إذا تجرّدت عن العمل لها كانت مجرد إرادة، ولا يكون السعى مشكورا. قوله: «وَهُوَ مُؤْمِنٌ» : أي فى المآل كما أنه مؤمن فى الحال. ويقال وهو مؤمن أنّ نجاته بفضله لا بسببه.
«فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً» أي مقبولا، ومع القبول يكون التضعيف والتكثير فكما أن الصدقة يربيها كذلك طاعة العبد يكثّرها وينّميها.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٢٠]
كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (٢٠)
يجازى كلا بقدرة فلقوم نحاة ولقوم درجات، ولقوم سلامة ولقوم كرامة، ولقوم مثوبته، ولقوم قربته.
قوله جل ذكره
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٢١]
انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (٢١)
التفضيل على أقسام، فالعبّاد فضّل بعضهم على بعض ولكن فى زكاء أعمالهم، والعارفون فضّل بعضهم على بعض ولكن فى صفاء أحوالهم، وزكاء الأعمال بالإخلاص، وصفاء الأحوال
بالاستخلاص فقوم تفاضلوا بصدق القدم، وقوم تفاضلوا بعلوّ الهمم والتفضيل فى الآخرة أكبر: فالعبّاد تفاضلهم بالدرجات، قال صلى الله عليه وسلم: «إنكم لترون أهل علّيين كما ترون الكوكب الدرىّ فى أفق السماء وإن أبا بكر وعمر منهم» وأهل الحضرة تفاضلهم بلطائفهم من الأنس بنسيم القربة بما لا بيان يصفه ولا عبارة، ولا رمز يدركه ولا إشارة. منهم من يشهده ويراه مرة فى الأسبوع، ومنهم من لا يغيب من الحضرة لحظة، فهم يجتمعون فى الرؤية ويتفاوتون فى نصيب كلّ أحد، وليس كلّ من يراه يراه بالعين التي بها يراه صاحبه، وأنشد بعضهم «١» :
لو يسمعون- كما سمعت حديثها خرّوا لعزّة ركّعا وسجودا
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٢٢]
لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (٢٢)
الذي أشرك بالله أصبح مذموما من قبل الله، ومخذولا من قبل (من) «٢» عبده من دون الله.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٢٣]
وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (٢٣)
أمر بإفراده- سبحانه- بالعبادة، وذلك بالإخلاص فيما يستعمله العبد منها، وأن يكون مغلوبا باستيلاء سلطان الحقيقة عليه بما يحفظه عن شهود عبادته «٣» وأمر بالإحسان إلى الوالدين ومراعاة حقّهما، والوقوف عند إشارتهما، والقيام بخدمتهما،
(١) البيت لكثير صاحب عزة.
(٢) سقطت (من) والسياق يتطلبها، والخذلان ناجم عن أنّ أي معبود غير الله لا يملك لمن يعبده نفعا ولا يدفع عنه ضرا.
(٣) فاخلاص العبد فى التحقق يحفظه عن التقصير فى أمور الشريعة.
وملازمة ما كان يعود إلى رضاهما وحسن عشرتهما ورعاية حرمتهما، وألا يبدى شواهد الكسل عند أوامرهما، وأن يبذل المكنة فيما يعود إلى حفظ قلوبهما هذا فى حال حياتهما، فأمّا بعد وفاتهما فبصدّق الدعاء لهما، وأداء الصدقة عنهما، وحفظ وصيتهما على الوجه الذي فعلاه، والإحسان إلى من كان من أهل ودّهما ومعارفهما.
ويقال إنّ الحقّ أمر العباد بمراعاة حقّ الوالدين وهما من جنس العبد.. فمن عجز عن القيام بحقّ جنسه أنّى له أن يقوم بحقّ ربه؟
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٢٤]
وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (٢٤)
اخفض لهما جناح الذّلّ بحسن المداراة ولين المنطق، والبدار إلى الخدمة، وسرعة الإجابة، وترك البرم بمطالبهما، والصبر على أمرهما، وألا تدّخر عنهما ميسورا.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٢٥]
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (٢٥)
إذا علم الله صدق قلب عبد أمدّه بحسن الأمجاد، وأكرمه بجميل الامتداد «١»، ويسّر عليه العسير من الأمور، وحفظه عن الشرور، وعطف عليه قلوب الجمهور.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٢٦]
وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (٢٦)
إيتاء الحقّ يكون من المال ومن النّفس ومن القول ومن الفعل، ومن نزل على اقتضاء حقّه، وبذل الكلّ لأجل ما طالبه به من حقوق. فهو القائم بما ألزمه الحقّ سبحانه بأمره.
(١) أي الاستدامة والاستمرار دون وقفة أو فترة- وتلك من أعظم المنن فى نظر القشيري، وقد قال الرسول (ص) :«خير العمل أدومة وإن قل».
والتبذير مجاوزة الحدّ عمّا قدّره الأمر والإذن. وما يكون لحظّ النّفس- وإن كان سمسمة- فهو تبذير، وما كان له- وإن كان الوفاء بالنّفس- فهو تقصير.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٢٧]
إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (٢٧)
إنما كانوا إخوان الشياطين لأنهم أنفقوا على هواهم، وجروا فى طريقهم على دواعى الشياطين ووساوسهم، ولمّا أفضى بهم ذلك إلى المعاصي فقد دعاهم إخوان الشياطين.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٢٨]
وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (٢٨)
إن لم يساعدك الإمكان على ما طالبوك من الإحسان فاصرفهم عنك بوعد جميل إن لم تسعفهم بنقد جزيل. وإنّ وعد الكرام أهنأ من نقد اللئام «١».
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٢٩]
وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (٢٩)
لا تمسك عن الإعطاء فتكدى «٢»، ولا تسرف فى البذل بكثرة ما تسدى، واسلك بين الأمرين طريقا وسطا.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٣٠]
إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٣٠)
إذا بسط لا تبقى فاقة، وإذا قبض استنفد كلّ طاقة «٣».
(١) وردت (الأيام) وقد أثبتنا (اللئام) فيها يقوى المعنى وتستقيم المقابلة.
(٢) تكدى أي تبخل، قال تعالى: «وَأَعْطى قَلِيلًا وَأَكْدى».
(٣) واضح أن القشيري يوجه الإشارة إلى رزق الأحوال.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٣١]
وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (٣١)
من عرف أنّ الرازق هو الله خفّ عن قلبه همّ العيال «١» - وإن كثروا، ومن خفى عليه أنه قسّم- قبل الخلق- أرزاقهم تطوح فى متاهات مغاليطه، فيقع فيها بالقلب والبدن ثم لا يكون غير ما سبق به التقدير.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٣٢]
وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (٣٢)
ترجّح «٢» الزنا على غيره من الفواحش لأن فيه تضييع حرمة الحقّ، وهتك حرمة الخلق، ثم لما فيه من الإخلال بالنّسب، وإفساد ذات البين «٣» من مقتضى الأنفة والغضب.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٣٣]
وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (٣٣)
لا يجوز قتل نفس الغير بغير الحق، ولا للمرء أن يقتل نفسه أيضا بغير الحق. وكما أنّ قتل النّفس بالحديد وما يقوم مقامه من الآلات محرّم فكذلك القصد إلى هلاك المرء محرّم.
ومن انهمك فى مخالفة ربه فقد سعى فى هلاك نفسه. «وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً» : أي تسلطا على القاتل فى الاقتصاص منه، وعلى معنى الإشارة: إن النصرة من قبل الله ومنصور الحقّ لا تنكسر سنانه، ولا تطيش سهامه «٤».
(١) وردت (القيال) بالقاف وهى خطأ فى النسخ.
(٢) ترجح زاد وثقل.
(٣) وردت (اليمين) وهى خطأ فى النسخ
(٤) وردت (شهامه) بالشين وهى خطا فى النسخ [.....]
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٣٤]
وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (٣٤)
لمّا لم يكن لليتيم من يهتم بشأنه أمر- سبحانه- الأجنبيّ الذي ليس بينه وبين اليتيم سبب أن يتولّى أمره، ويقوم بشأنه، وأوصاه فى بابه فالصبيّ قاعد بصفة الفراغ والهوينى «١»، والولىّ ساع بمقاساة العنا..
فأمر الحقّ- سبحانه- للولىّ أحظى للصبيّ من شفقة آله عليه فى حال حياتهم «٢».
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٣٥]
وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٣٥)
كما تدين تدان، وكما تعامل تجازى، وكما تكيل يكال لك، وكما تكونون يكون عليكم، ومن وفى وفوا له، ومن خان خانوا معه، وأنشدوا:
أسأنا فساءوا.. عدل بلا حيف ولو عدلنا لخلّصنا من المحن
قوله جل ذكره
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٣٦]
وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (٣٦)
إذا غلبت عليك مجوّزات الظنون، ولم يطلعك الحقّ على اليقين فلا تتكلف الوقوف عليه من غير برهان، وإذا أشكل عليك شىء من أحكام الوقت فارجع إلى الله فإن لاح لقلبك وجه من الدليل على حدّ الالتباس فكل علمه إلى الله، وقف حيثما وقفت.
(١) الهوينى- الخفض والدعة
(٢) ما يقوله القشيري فى حالة اليتيم يتصرف- كما هو واضح- على حالة المريد بالنسبة لشيخه فالمريد يجد من شيخه مالا يجده عند ذويه، ذلك يربى الأرواح وهؤلاء يربون الأشباح.
ويقال الفرق بين من قام بالعلم وبين من قام بالحق أنّ العلماء يعرفون الشيء أولا ثم يعلمون بعلمهم، وأصحاب الحقّ يجرى عليهم بحكم التصريف شىء لا علم لهم به على التفصيل، وبعد ذلك يكشف لهم وجهه، وربما يجرى على ألسنتهم شىء لا يدرون وجهه، ثم بعد فراغهم من النطق به يظهر لقلوبهم برهان ما قالوه، ودليل ما نطقوا به من شواهد العلم «١».
قوله: «إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ... » هذه أمانة الحق- سبحانه- عند العبد، وقد تقدم فى بابها بما أوضحته ببراهين الشريعة.
ومن استعمل هذه الجوارح فى الطاعات، وصانها عن استعمالها فى المخالفات فقد سلّم الأمانة على وصف السلامة، واستحق المدح والكرامة. ومن دنّسها بالمخالفات فقد ظهرت عليه الخيانة، واستوجب الملامة.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٣٧]
وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (٣٧)
الخيلاء والتجبّر، والمدح والتكبّر- كل ذلك نتائج الغيبة عن الذكر، والحجبة عن شهود الحقّ فإنّ الله إذا تجلّى لشىء خشع له- بذلك ورد الخبر. فأمّا فى حال حضور القلب واستيلاء الذكر وسلطان الشهود. فالقلب مطرق، وحكم الهيبة غالب. ونعت المدح وصفة الزّهو وأسباب التفرقة- كل ذلك ساقط.
والناس- فى الخلاص من صفة التكبر- أصناف: فأصحاب الاعتبار إذ عرفوا أنهم مخلوقون من نطفة أمشاج، وما تحمله أبدانهم مما يترشح من مسامهم من بقايا طعامهم وشرابهم..
تعلو هممهم عن التضييق والتدنيق «٢»، ويبعد عن قلوبهم قيام أخطار للأشياء، ولا يخطر على داخلهم إلا ما يزيل عنهم التكبر، وينزع عنهم لباس التجبّر.
(١) من هذه الوصية وما جاء بعدها يتضح رأى القشيري فى التفرقة بين المعرفة عند أرباب العلوم والمعرفة عند أرباب الحقائق، ويذهب القشيري فى «رسالته» إلى أن باستطاعة كبار شيوخ أهل هذه الطريقة أن يفتوا في مسائل الفقه إفتاء يعتدّ به حتى لو كان أحدهم أميا (أنظر الرسالة ص ١٩٨ وقصة شيبان الراعي مع الشافعي وابن حنبل).
(٢) دنّق البخيل بالغ فى التضييق فى النفقة
وأمّا أرباب الحضور فليس فى طلوع الحق إلا انخناس النّفس، وفى معناه قالوا:
إذا ما بدا لى تعاظمته فأصدر فى حال من لم يرد
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٣٨ الى ٣٩]
كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (٣٨) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (٣٩)
إذا سعدت الأقدام بحضور ساحات الشهود، وعطرت الأسرار بنسيم القرب تجرّدت الأوقات عن الحجبة، واستولى سلطان الحقيقة، فيحصل التنقّي من هذه الأوصاف المذمومة.
وقال تعالى لنبيّه: «ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ» : بالوحى والإعلام، ولأوليائه تعريف بحكم الإلهام.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٤٠]
أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (٤٠)
جوّزوا أن يكون لله- سبحانه- ولد، وفكّروا فى ذلك، ثم لم يرضوا حتى جعلوا له ما استنكفوا منه لأنفسهم، فما زادوا فى تمرّدهم إلا عتوّا، وفى طغيانهم إلا غلوّا، وعن قبول الحقّ إلا نبوّا.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٤٢ الى ٤٣]
قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (٤٢) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (٤٣)
بيّن أنه لو كان الصانع أكثر من واحد لجرى بينهم تضادّ وتمانع، وصحّ عند ذلك فى صفتهم العجز، وذلك من سمات المحدثات.
ثم قال سبحانه- تنزيها له عن الشّريك والظهير، والمعين والنظير:

[سورة الإسراء (١٧) : آية ٤٤]

تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤٤)
الأحياء من أهل السماوات والأرض يسبّحون له تسبيح قالة «١»، وغير الأحياء يسبّح من حيث البرهان والدلالة. وما من جزء من الأعيان والآثار إلا وهو دليل على الربوبية، ولكنهم إذا استمعوا توحيدا للإله تعجبوا- لجهلهم وتعسّر إدراكهم- وأنكروا.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٤٥]
وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (٤٥)
أي أدخلناك فى إيواء حفظنا، وضربنا عليك سرادقات عصمتنا، ومنعنا الأيدى الخاطئة عنك بلطفنا.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٤٦]
وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (٤٦)
«٢» صرّح بأنه خالق ضلالتهم، وهو المثبت فى قلوبهم ما استكنّ فيها من فرط غوايتهم «٣» «وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ..» أحبوا أن تذكر آلهتهم، قد ختم الله على قلوبهم، فلا حديث يعجبهم إلّا ممّن لهم شكل ومثل.
(١) وردت (ماله) بالميم والصواب أن تكون (قالة) بمعنى أن تسبيح الأحياء بالقول والنطق.
(٢) يمكن أن تكون (نفورا) مصدرا من نفر ينفر أي ولىّ، ويمكن أن تكون جمع نافر كقاعد وقعود.
(٣) هذا رأى على جانب كبير عن الخطورة ينبنى على أصل فى مذهب القشيري- نوهنا به سابقا- وهو أن الله خالق كل شىء- على الحقيقة- حتى أكساب العباد، هى له حكما ولهم فعلا.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٤٧]
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٤٧)
لبّسوا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أحوالهم، وأظهروا الوفاق من أنفسهم، ففضحهم الله تعالى، وكشف أسرارهم، وبيّن مقابحهم، وهتك أستارهم، فما تنطوى عليه السريرة لا بدّ أن يظهر لأهل البصيرة بما يبدو على الأسرّة.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٤٨]
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٤٨)
عابوه بما ليس بنقيصة فى نفسه حيث قالوا: «إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً» أي ذا سحر. وأىّ نقيصة كانت له إذا كان- صلى الله عليه وسلم- من جملة البشر؟
والحقّ سبحانه وتعالى متول نصرته، ولم يكن تخصيصه ببنية، ولا بصورة، ولا بحرفة، ولم يكن منه شىء بسببه وإنما بان شرفه لجملة ما تعلّق به لطفه القديم- سبحانه- ورحمته.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٤٩]
وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٤٩)
أقرّوا بأنّ الله خلقهم، ثم أنكروا قدرته على إعادتهم بعد عدمهم، ولكن.. كما جاز أن يوجدهم أولا وهم فى كتم العدم ولم يكن لهم عين ولا أثر، ولكنهم كانوا فى متناول القدرة ومتعلق الإرادة، فمن حقّ صاحب القدرة والإرادة أن يعيدهم إلى الوجود مرة أخرى..
وهكذا إذا رمدت عين قلب لم يستبصر صاحبه.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٥٠ الى ٥١]
قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (٥٠) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (٥١)
«١» أخبر- سبحانه وتعالى- أنه لا يتعصّى عليه مقدور لأنه موصوف بقدرة أزلية، وقدرته عامّة التعلق فلا المشقة تجوز فى صفته ولا الرفاهية. فالخلق الأول والإعادة عليه سيّان لا من هذا عائد إليه ولا من ذاك، لأن قدمه يمنع تأثير الحدوث فيه.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٥٢]
يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (٥٢)
يدعوكم فتستجيبونه وأنتم حامدون. فالحمد بمعنى الشكر، وإنما يشكر العبد على النعمة والآية تدل على أنهم- وهم فى قبورهم- فى نعمته.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٥٣]
وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (٥٣)
القول الحسن ما يكون للقائل أن يقوله. ويجوز أن يكون الأحسن مبالغة من الحسن، فعلى هذا الأحسن من القول ما لا يجوز تركه. ويقال الأحسن من القول ما يخاف قائله من العقوبة على تركه. ويقال الأحسن من القول إقرار المحبّ بعبودية محبوبه.
ويقال أحسن قول من المذنبين الإقرار بالجرم، وأحسن قول من العارفين الإقرار بالعجز عن المعرفة، قال صلى الله عليه وسلم: سبحانك لا أحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك».
(١) يتغضون رءوسهم أي يحركونها تعجيا واستهزاء.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٥٤]
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (٥٤)
سدّ على كلّ أحد طريق معرفته بنفسه ليتعلّق كلّ قلبه بربه. وجعل العواقب على أربابها مشتبهة، فقال «رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ». ثم قدّم حديث الرحمة على حديث العذاب، فقال:
«إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ» وفى ذلك ترجّ للأمل أن يقوى.
ويوصف العبد بالعلم ويوصف الربّ بالعلم، ولكن العبد يعلم ظاهر حاله، وعلم الرب يكون بحاله وبمآله، ولهذا فالواجب على العبد أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله تعالى، وهذا معنى: «إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ» بعد قوله: «أَعْلَمُ بِكُمْ».
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٥٥]
وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (٥٥)
فضّل بعض الأنبياء على بعض فى النبوة والدرجة، وفى الرسالة واللطائف والخصائص.
وجعل نبيّنا- صلى الله عليه وسلم- أفضلهم فهم كالنجوم وهو بينهم بدر، وهم كالبدور وهو بينهم شمس، وهم شموس وهو شمس الشموس.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٥٦]
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (٥٦)
استعينوا فيما يستقبلكم «١» بالأصنام التي عبدتموها من دون الله حتى تتحققوا أنه لا تنفعكم عبادة شىء من دون الله، ولا يضركم ترك ذلك، ولقد قيل فى الخبر: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» «٢»
(١) أي ما يستقبلكم من البلايا
(٢) رواه أحمد وأبو يعلى والترمذي وابن ماجه عن أبى هريرة، وأحمد عن الحسين بن على والعسكري عن علىّ، وأوضحه الشيخان فى تخريج الأربعين.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٥٧]
أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (٥٧)
يعنى الذين يعبدونهم ويدعونهم- كالمسيح وعزير والملائكة- لا يملكون نفعا لأنفسهم ولا ضرّا، وهم يطلبون الوسيلة إلى الله أي يتقربون إلى الله بطاعتهم رجاء إحسان الله، وطمعا فى رحمته، ويخافون العذاب من الله... فكيف يرفعون عنكم البلاء وهم يرجون الله ويخافونه فى أحوال أنفسهم؟
ويقال فى المثل: تعلّق الخلق بالخلق تعلّق مسجون بمسجون.
ويقال: إذا انضمّ الفقير إلى الفقير ازدادا فاقة.
ويقال إذا قاد الضرير ضريرا سقطا معا فى البئر، وفى معناه أنشدوا:
إذا التقى فى حدب واحد... سبعون أعمى بمقادير
وسيّروا بعضهم قائدا... فكلّهم يسقط فى البير
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٥٨]
وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٥٨)
العذاب على أقسام: فالألم الذي يرد على النفوس والظواهر يتصاغر بالإضافة إلى ما يرد على القلوب والسرائر فعذاب القلوب لأصحاب الحقائق أحدّ فى الشّدّة ممّا يصيب أصحاب الفقر والقلة.
ثم إن الحقّ سبحانه أجرى سنّته بأن من وصلت منه إلى غيره راحة انعكست الراحة إلى موصلها، وبخلاف ذلك من وصلت منه إلى غيره وحشة عادت الوحشة إلى موصلها
ومن سام «١» الناس ظلما وخسفا فبقدر ظلمه يعذّبه الله- سبحانه وتعالى- فى الوقت بتنغيص العيش، واستيلاء الغضب من كلّ أحد عليه، وتترجّم ظنونه وتتقسّم أفكاره فى أحواله وأشغاله. ولو ذاق من راحة الفراغ وحلاوة الخلوة شظية لعلم ما طعم الحياة..
ولكنّ حرموا النّعم، وما علموا ما منوا به من النّقم.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٥٩]
وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (٥٩)
«٢» أجرى الله سنّته أنه إذا أظهر آية اقترحتها أمّة من الأمم ثم لم تؤمن بها بعد إظهارها أن يعجّل لها العقوبة، وكان المعلوم والمحكوم به ألا يجتاح العذاب القوم الذين كانوا فى وقت الرسول- عليه السلام- لأجل من فى أصلابهم من الذين علم أنهم يؤمنون فلذلك أخّر عنهم العذاب الذي تعجّلوه «٣».
وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً التخويف بالآيات ذلك من مقتضى تجمله فإنّ لم يخافوا وقع عليهم العذاب. ثم إنه علم أنه لا يفوته شىء بتأخير العقوبة عنهم فأخّر العذاب، وله أن يفعل ما يشاء بمقتضى حكمه وعلمه.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٦٠]
وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (٦٠)
(١) وردت (صام) بالصاد وهى خطأ فى النسخ.
(٢) اختار من الآيات التي اقترحها الأولون ناقة صالح (عم) لأن آثار هلاكهم قريبة من حدودهم يبصرها صادرهم وواردهم.
(٣) عن عائشة رضى الله عنها (... نادانى ملك الجبال فسلم علىّ ثم قال:
يا محمد، إن الله قد سمع قول قومك لك، وقد بعثني ربى إليك لتأمرنى بأمرك فما شئت؟ إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين (جبلين يحيطان بمكة) فقال النبي (ص) : بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا).
«١»
الإيمان بما خصصناك به امتحان لهم وتكليف، ليتميز الصادق من المنافق، والمؤمن من الجاحد فالذين تداركتّهم الحماية وقفوا وثبتوا، وصدّقوا بما قيل لهم وحققوا. وأما الذين خامر الشكّ قلوبهم، ولم تباشر خلاصة التوحيد أسرارهم، فما ازدادوا بما امتحنوا به إلا تحيّرا وضلالا وتبلّدا.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٦١]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (٦١)
امتنع الشقىّ وقال: لا أسجد لغيرك بوجه سجدت لك به، وكان ذلك جهلا منه، ولو كان بالله عارفا لكان لأمره مؤثرا، ولمحيط نفسه تاركا.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٦٢]
قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (٦٢)
لو علقت به ذرّة من المعرفة والتوحيد لم يحطب «٢» على نفسه بالإضلال والإغواء، لكنّه أقامه الحقّ بذلك المقام، وأنطقه بما هو لقلوب أهل التحقيق متّضح.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٦٣ الى ٦٤]
قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (٦٣) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (٦٤)
(١) الرؤيا المقصودة هى التي سبقت يوم بدر، وفيها بشر بالنصرة وبأنه سيهزم الجمع ويولون الدبر، فسخروا منه. وربما كانت رؤيا المعراج عند من قال إن المعراج كان فى المنام.
والشجرة الملعونة هى الزّقوم حيث قالوا كيف يزعم محمد أن الجحيم تحرق الحجارة ثم يقول إن بها تثبت شجرة! فجعلوها سخرية [.....]
(٢) حسطب- جنى على نفسه لعدم تفقد أمره وكلامه
هذا غاية التهديد، وفيه إشارة وبيان بألا مراء ولا تفويت، ولو، أخّر عقوبة قوم فإن ذلك إمهال لا إهمال، ومكر واستدراج لا إنعام وإكرام.
وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ: أي افعل ما أمكنك، فلا تأثير لفعلك فى أحد، فإنّ المنشئ والمبدع هو الله.. وهذا غاية التهديد.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٦٥]
إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (٦٥)
السلطان الحجة، فالآية تدل على العموم «١»، ولا حجة للعذر على أحد، بل الحجة لله وحده.
ويقال السلطان هو التّسلّط، وليس لإبليس على أحد تسلط إذ المقدور بالقدرة الحادثة لا يخرج عن محل القدرة الإلهية، فالحادثات كلها تحدث بقدرة الله فلا لإبليس ولا لغيره من المخلوقين تسلط من حيث التأثير فى أحد، وعلى هذا أيضا فالآية للعموم.
ويقال أراد بقوله: «عِبادِي» الخواص من المؤمنين الذين هم أهل الحفظ والرحمة والرعاية من قبل الله فإن وساوس الشيطان لا تضرّهم لالتجائهم إلى الله، ودوام استجارتهم بالله، ولهذا فإن الشيطان إذا قرب من قلوب أهل المعرفة احترق بضياء معارفهم.
ويقال إنّ فرار «٢» الشيطان من المؤمنين أشدّ من فرار المؤمنين، من الشيطان.
والخواص من عباده هم الذين لا يكونون فى أسر غيره، وأمّا من استعبده هواه،
(١) العموم هنا معناها الكافة أي الخواص وغير الخواص.
(٢) وردت (قرار) بالقاف وهى خطأ فى النسخ كما هو واضح من السياق.
واستمكنت منه الأطماع، واسترقته «١» كل خسيسة ونقيصة فلا يكون من جملة خواصه..
وفى الخبز «تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار» «٢» ويقال فى «عِبادِي» هم المتفيّئون فى ظلال عنايته، والمتبرّون عن حولهم وقوّتهم، المتفرّدون بالله بحسن التوكل عليه ودوام التعلّق به.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٦٦]
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٦٦)
تعرّف إلى عباده بخلقه وإنعامه، فما من حادث من عين أو أثر أو طلل أو غبر إلا وهو شاهد على وحدانيته، دالّ على ربوبيته.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٦٧]
وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (٦٧)
جبل الإنسان على أنه إذا أصابته نقمة، أو مسّته محنة فرع «٣» إلى الله لاستدفاعها، وقد يعتقد أنهم لن يعودوا بعدها إلى ما ليس فيه رضاء الله، فإذا أزال الله تلك النّقمة «٤» وكشف تلك المحنة عادوا إلى ما عنه تابوا، كأنهم لم يكونوا فى ضرّ مسّهم، وفى معناه أنشدوا:
فكم قد جهلتم ثم عدنا بحلمنا أحباءنا كم تجهلون! وتحلم!
(١) وردت (ويسرقة) ولا معنى لها هنا.
(٢) فى رسالة القشيري ص ٩٩ جاء هذا الخبر مضافا إليه (.. تعس عبد الخميصة).
(٣) وردت (فرغ) بالراء والأفضل أن تكون بالزاي.
(٤) وردت (النعمة) وهى خطأ فى النسخ.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٦٨ الى ٦٩]
أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (٦٨) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (٦٩)
الخوف ترقّب العقوبات مع مجارى الأنفاس- كذلك قال الشيوخ «١». وأعرفهم بالله أخوفهم من الله. وصنوف العذاب كثيرة فكم من مسرور أوّل ليله أصبح فى شدّة! وكم من مهموم بات يتقلب على فراشه أصبح وقد جاءته البشرى بكمال النّعم! وفى معناه قالوا:
إن من خاف البيات لا يأخذه السّبات. ووصفوا أهل المعرفة فقالوا:
مستوفزون على رجل كأنهمو يريدون أن يمضوا ويرتحلوا
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٧٠]
وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (٧٠)
المراد من قوله: «بَنِي آدَمَ» هنا المؤمنون لأنه قال فى صفة الكفار: «وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ» «٢». والتكريم التكثير من الإكرام، فإذا حرم الكافر الإكرام.
فمتى يكون له التكريم؟.
ويقال إنما قال: «كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ» ولم يقل المؤمنين أو العابدين أو أصحاب الاجتهاد
(١) هذه العبارة للجنيد كما جاء فى رسالة القشيري ص ٦٥ فى رواية أبى عبد الله الصوفي عن على بن ابراهيم العكبري.
(٢) آية ١٨ سورة الحج.
359
توضيحا بأن التكريم لا يكون مقابل فعل، أو معلّلا بعلة، أو مسببا باستحقاق يوجب ذلك التكريم.
ومن التكريم أنهم متى شاءوا وقفوا معه على بساط المناجاة.
ومن التكريم أنه على أي وصف كان من الطهارة وغيرها إذا أراد أن يخاطبه خاطبه، وإذا أراد أن يسأل شيئا سأله.
ومن التكريم أنه إذا تاب ثم نقض توبته ثم تاب يقبل توبته، فلو تكرر منه جرمه ثم توبته يضاعف له قبوله التوبة وعفوه.
ومن التكريم أنه إذا شرع فى التوبة أخذ بيده، وإذا قال: لا أعود- يقبل قوله وإن علم أنه ينقض توبته.
ومن التكريم أنه زيّن ظاهرهم بتوفيق المجاهدة، وحسّن باطنهم بتحقيق المشاهدة.
ومن التكريم أنه أعطاهم قبل سؤالهم، وغفر لهم قبل استغفارهم، كذا فى الأثر: «أعطيتكم قبل أن تسألونى، وغفرت لكم قبل أن تستغفرونى».
ومن تكريم جملتهم أنه قال لهم: «فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ» «١» ولم يقل ذلك للملائكة ولا للجن.
وكما خصّ بنى آدم بالتكريم خصّ أمة محمد- صلى الله عليه وسلم- منهم بتكريم مخصوص، فمن ذلك قوله تعالى: «يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ» «٢» و «رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ» «٣» وقوله «وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ» «٤».
ومن التكريم قوله: «وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً»
«٥».
(١) آية ١٥٢ سورة البقرة.
(٢) آية ٥٤ سورة المائدة.
(٣) آية ١١٩ سورة المائدة.
(٤) آية ١٦٥ سورة البقرة.
(٥) آية ١١٠ سورة النساء. [.....]
360
ومن التكريم ما ألقى عليهم من محبة الخالق حتى أحبوه.
ومن التكريم لقوم توفيق صدق القدم، ولقوم تحقيق علوّ الهمم. قوله: «وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ» : سخّر البحر لهم حتى ركبوا فى السفن، وسخّر البرّ لهم حتى قال:
«لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ».
ويقال محمول الكرام لا يقع، فإن وقع وجد من يأخذ بيده.
ويقال الإشارة فى حملهم فى البرّ ما أوصل إليهم جهرا «١»، والإشارة بحديث البحر ما أفردهم به من لطائف الأحوال سرّا.
ويقال لمّا حمل بنو آدم الأمانة «٢» حملناهم فى البر، فحمل هو جزاء حمل، حمل هو فعل من لم يكن «٣» وحمل هو فضل من لم يزل.
قوله: «وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ» : الرزق الطيب ما كان على ذكر الرازق فمن لم يكن غائبا بقلبه «٤» ولا غافلا عن ربّه استطاب كلّ رزق، وأنشدوا:
يا عاشقى إنى سعدت شرابا... لو كان حتى علقما أو صابا
قوله: «وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا» : أي الذين فضلناهم على خلق كثير، وليس يريد أن قوما بقوا لم يفضلهم عليهم، ولكن المعنى أنا فضلناهم على كلّ من خلقنا، وذلك التفضيل فى الخلقة. ثم فاضل بين بنى آدم فى شىء آخر هو الخلق الحسن، فجمعهم فى الخلقة- التي يفضلون بها سائر المخلوقات- ومايز بينهم فى الخلق.
ويقال: «كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ» : هذا اللفظ للعموم، والمراد منه الخصوص، وهم المؤمنون، وبذلك يفضل قوم على الباقين، ففضّل أولياءه على كثير ممن لم يبلغوا استحقاق الولاية.
(١) وردت (خيرا) والصواب أن تكون (جهرا) لتقابل سرا) وبذلك يقوى السياق ويتماسك.
(٢) وردت (الاهانة) بالهاء ومن المؤكد أن الميم التبست على الناسخ والمراد (الأمانة) إشارة إلى قوله تعالى: «إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ... الآية».
(٣) (من لم يكن) هو الإنسان و (من لم يزل) هو الرب سبحانه وتعالى.
(٤) غيبة القلب عن علم ما يجرى من أحوال الخلق لاشتغال الحس بما ورد عليه، ثم يغيب عن إحساسه بنفسه وغيره (الرسالة ص ٤٠).
361
ويقال فضّلهم بألّا ينظروا إلى نفوسهم بعين الاستقرار، وأن ينظروا إلى أعمالهم بعين الاستصغار.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٧١]
يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧١)
إمام كلّ أحد من يقتدى به، ولكن.. من إمام يهتدى به مقتديه، ومن إمام يتردّى به مقتديه.
«فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ» : لكمال صحوهم وقيادة عقلهم، والذين لا يؤتون كتابهم بيمينهم فهم لخوفهم وتردّدهم لا يقرأون كتابهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٧٢]
وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٧٢)
فى الآخرة أعمى عن معاينته ببصيرته.
فى الآخرة عذابه الفرقة وتضاف إليها الحرقة- لهذا فهو «أَضَلُّ سَبِيلًا».
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٧٣]
وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (٧٣)
ضربنا عليك سرادقات العصمة، وآويناك فى كنف الرعاية، وحفظناك عن خطر اتباعك هواك، فالزّلّة منك محال «١»، والافتراء فى نعتك لا يجوز.. ولو جنحت لحظة إلى الخلاف لتضاعفت عليك تشديدات البلاء، لكمال قدرك وعلوّ شأنك فإنّ من كان أعلى درجة فذنبه- لو حصل- أشدّ تأثيرا.
(١) وردت (مجال) بالجيم وهى خطأ فى النسخ، ومن قول القشيري يتضح أنه يؤيد عصمة الأنبياء من الزلات.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٧٤ الى ٧٥]
وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (٧٤) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (٧٥)
لو وكلناك ونفسك، ورفعنا عنك «١» ظلّ العصمة لألممت بشىء مما لا يجوز من مخالفة أمرنا، ولكننا أفردناك بالحفظ، فلا تتقاصر عنك آثاره، ولا تغرب عن ساحتك أنواره.
قوله: «إِذاً لَأَذَقْناكَ... الآية» هبوط الأكابر على حسب صعودهم، ومحن الأحبّة وإن قلّت جلّت، وفى معناه أنشدوا:
أنت عينى وليس من حقّ عينى غضّ أجفانها على الأقذاء
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٧٦]
وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (٧٦)
من ظنّ (أنه يستمتع بحياته بعد مضىّ الأعزّة) «٢» والأكابر غلط فى حسابه، وإن الحسود لا يسود:
وفى تعب من يحسد الشمس ضوءها (ويجهد أن يأتى لها) «٣» بضريب
والأرض كلها ملك لنا، ونقلّب أولياءنا فى ترددهم فى البلاد وتطوافهم فى الأقطار، ترددا على بساطنا، وتقلبا فى ديارنا فالبقاع لهم سواء، وأنشدوا:
(فسر أو أقم) «٤» وقف عليك محبتى مكانك من قلبى عليك مصون
(١) وردت (عليك) والملائم للسياق أن تكون (عنك).
(٢) ما بين القوسين مستدرك فى الهامش بخط ردئ.
(٣) ما بين القوسين مستدرك فى الهامش بخط ردئ.
(٤) ما بين القوسين مستدرك فى الهامش بخط ردىء.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٧٧]
سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (٧٧)
الحقّ أمضى سنّته مع الأولياء بالإنعام، ومع أعدائه بالإدغام «١»، فلا لهذه أو هذه تحويل.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٧٨]
أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (٧٨)
الصلاة قرع باب الرزق. والصلاة الوقوف فى محل المناجاة.
والصلاة اعتكاف القلب فى مشاهد التقدير.
ويقال هى الوقوف على بساط النجوى. وفرّق أوقات الصلاة ليكون للعبد عود إلى البساط فى اليوم والليلة مرات.
«إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً» : تشهده ملائكة الليل والنهار- على لسان العلم.
وأمّا على لسان القوم فإن قرآن الصبح- الذي هو وقت إتيانه- يبعد من النوم وكسل النفس فله هذه المزية.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٧٩]
وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (٧٩)
الليل لأحد أقوام: لطالبى النجاة وهم العاصون من جنح «٢» منهم إلى التوبة، أو لأصحاب الدرجات وهم الذين يجدّون فى الطاعات، ويسارعون فى الخيرات، أو لأصحاب المناجاة مع المحبوب عند ما يكون الناس فيما هم فيه من الغفلة والغيبة.
ويقال الليل لأحد رجلين: للمطيع والعاصي: هذا فى احتيال أعماله، وهذا فى اعتذاره عن قبيح أفعاله.
(١) أدغمه الله إدغاما أي سود وجهه وأذله (الوسيط).
(٢) وردت (نجح) وهى خطأ فى النسخ.
والمقام المحمود هو المخاطبة فى حال الشهود، ويقال الشهود.
ويقال هو الشفاعة لأهل الكبائر. ويقال هو انفراده يوم القيامة بما خصّ به- ﷺ «١» - بما لا يشاركه فيه أحد.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٨٠]
وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (٨٠)
أي أدخلنى إدخال صدق وأخرجنى إخراج صدق. والصدق أن يكون دخوله فى الأشياء بالله لله لا لغيره، وخروجه عن الأشياء بالله لله لا لغيره.
«وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً» : فلا ألاحظ دخولى ولا خروجى.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٨١]
وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (٨١)
أراد بالحقّ هاهنا الإسلام والدين، وأراد بالباطل الكفر والشّرك، والحقّ المطلق هو الموجود الحق، والحق المقيد ما كان حسنا فى الاعتقاد والفعل والنطق، والباطل نقيض الحق.
والله حقّ: على معنى أنه موجود وأنه ذو الحق وأنه محقّ الحق «٢».
ويقال الحقّ ما كان الله، والباطل ما كان لغير الله.
ويقال الحقّ من الخواطر ما دعا إلى الله، والباطل ما دعا إلى غير الله.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٨٢]
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (٨٢)
القرآن شفاء من داء الجهل للعلماء، وشفاء من داء الشّرك للمؤمنين، وشفاء من داء
(١) إضافة من جانبنا حتى يتضح السياق.
(٢) قارن ذلك بنظرية «وحدة الوجود» وما تراه في معنى «الوجود» و «الحق».
النكرة للعارفين، وشفاء من لواعج الشوق للمحبين، وشفاء من داء الشطط للمريدين والقاصدين، وأنشدوا:
وكتبك حولى لا تفارق مضجعى... وفيها شفاء للذى أنا كاتم
قوله: «وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً» : الخطاب خطاب واحد، والكتاب كتاب واحد، ولكنه لقوم رحمة وشفاء، ولقوم سخط وشقاء. قوم أنار بصائرهم بنور التوحيد فهو لهم شفاء، وقوم أغشى على بصائرهم بستر الجحود فهو لهم شقاء.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٨٣]
وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (٨٣)
إذا نزعنا عنه موجبات الخوف، وأرخينا له حبل الإمهال، وهيّأنا له أسباب الرفاهية اعترته مغاليط النسيان، واستولت عليه دواعى العصيان، فأعرض عن الشكر، وتباعد عن بساط الوفاق.
ويقال إعراضه فى هذا الموضوع نسيانه، ورؤية الفضل منه لا من الحقّ، وتوهمه أنّ ما به من النّعم فباستحقاق طاعة أخلصها أو شدة قاساها.. وهذا فى التحقيق شرك.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٨٤]
قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (٨٤)
كلّ يترشح بمودع باطنه، فالأسرّة تدل على السريرة، وما تكنّه الضمائر يلوح على السرائر، فمن صفا من الكدورة جوهره لا يفوح منه إلا نشر مناقبه، ومن طبعت على الكدورة طينته فلا يشمّ من يحوم حوله إلا ريح مثالبه.
ويقال حركات الظواهر تدلّ وتخبر عن بواطن السرائر.
ويقال حبّ (... ) «١» لا ينبت غضّ العود.
(١) مشتبهة. [.....]
ويقال من عجنت بماء الشّقوة طينته، وطبعت على النكرة جبلّته لا تسمح بالتوحيد قريحته، ولا تنطق بالتوحيد عبارته.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٨٥]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٥)
أرادوا أن يجادلوه ويغلّطوه فأمره أن ينطق بلفظ يفصح عن أقسام الروح لأنّ ما يطلق عليه لفظ «الروح» يدخل تحت قوله تعالى:
قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ويقال إن روح العبد لطيفة أودعها الله سبحانه فى القالب، وجعلها محل الأحوال اللطيفة والأخلاق المحمودة، (وكما يصح أن يكون البصر محلّ الرؤية والأذن محلّ السمع.. إلى آخره، والبصير والسامع إنما هو الجملة- وهو الإنسان- فكذلك محل الأوصاف الحميدة الروح، ومحل الأوصاف المذمومة النّفس، والحكم أو الاسم راجع إلى الجملة) «١» وفى الجملة الروح مخلوقة، والحق أجرى العادة بأن يخلق الحياة للعبد ما دام الروح فى جسده.
والروح لطيفة تفررت للكافة طهارتها ولطافتها، وهى مخلوقة قبل الأجساد بألوف من السنين. وقيل إنه أدركها التكليف، وإن لها صفاء التسبيح، وصفاء المواصلات، والتعريف من الحق.
«وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا» : لأن أحدا لم يشاهد الروح ببصره.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٨٦]
وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (٨٦)
(١) ما بين القوسين مضطرب اضطرابا شديدا فى النسخ، وقد عدنا إلى رسالة القشيري فاعتمدنا عليها فى تنظيم السياق بقدر الإمكان. (أنظر الرسالة ص ٤٨).
سنّة الحقّ- سبحانه- مع أحبائه وخواص عباده أن يديم لهم افتقارهم إليه، ليكونوا فى جميع الأحوال منقادين لجريان حكمه، وألا يتحرك فيهم عرق بخلاف اختياره، وعلى هذه الجملة خاطب حبيبه- صلوات الله عليه- بقوله: «وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ» :(فمن كان استقلاله بالله يقدّم) «١» مراد سيده- فى العزل والولاية- على مراد نفسه.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٨٧]
إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (٨٧)
والمقصود (من هذا إدامة تفرّد سرّه) «٢» ﷺ به- سبحانه- دون غيره.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٨٨]
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (٨٨)
(سائر الأنبياء) «٣» معجزاتهم باقية حكما، ونبيّنا- صلى الله عليه وسلم- معجزته باقية عينا، وهى القرآن (الذي نتلوه، والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه) «٤» ولا من خلفه.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٨٩]
وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٨٩)
لا شىء أحظى عند الأحباب من كتاب الأحباب، فهو شفاء من داء الضنى، وضياء لأسرارهم عند اشتداد البلاء، وفى معناه أنشدوا:
وكتبك حولى لا تفارق مضجعى وفيها شفاء للذى أنا كاتم
(١)، (٢)، (٣)، (٤) مدونة في أعلى الورقة بعلامات مميزة لمكانها من النص، وقد أثبتنا كلا فى موضعه.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٩٠ الى ٩٣]
وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (٩١) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (٩٢) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (٩٣)
اقترحوا الآيات بعد إزاحة العلّة وزوال الحاجة، فركضوا فى مضمار سوء الأدب، وحرموا الوصلة والقربة. ولو أجيبوا إلى ما طلبوا ما ازدادوا إلا جحدا، ونكرة، وقد قيل:
إنّ الكريم إذا حباك بودّه ستر القبيح وأظهر الإحسانا
وكذا الملول إذا أراد قطيعة ملّ الوصال وقال كان وكانا
«قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا» : قل يا محمد: سبحان ربى! من أين لى الإتيان بما سألتم من جهتى؟ فهل وصفي إلا العبودية؟ وهل أنا إلا بشر؟ قال تعالى:
َنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ»
«١» قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٩٤]
وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً (٩٤)
(١) آية ١٧٢ سورة النساء.
تعجّبوا «١» مما ليس بمحلّ شبهة، ولكن حملهم على ذلك فرط جهلهم، ثم أصرّوا على تكذيبهم وجحدهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٩٥]
قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (٩٥)
الجنس إلى الجنس أميل، والشكل بالشكل آنس، فقال سبحانه لو كان سكان الأرض ملائكة لجعلنا الرسول إليهم ملكا، فلمّا كانوا بشرا فلا ينبغى أن يستبعد إرسال البشر إلى البشر.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٩٦]
قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٩٦)
الحقّ- سبحانه- هو الحاكم وهو الشاهد، ولا يقاس حكمه على حكم الخلق، ولا يجوز فى صفة المخلوق أن يكون الحاكم هو الشاهد، فكما لا تشبه ذاته ذات الخلق لا تشبه صفته صفة الخلق.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٩٧]
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (٩٧)
من أراده بالسعادة فى آزاله استخلصه فى آباده بأفضاله، ومن علمه فى الأزل بالشقاء وسمه فى أبده بسمة الأعداء. فلا لحكمه تحويل، ولا لقوله تبديل.
(١) وردت (تعجلوا) والمعنى يقتضى (تعجبوا).
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٩٨]
ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٩٨)
لمّا أصرّوا على تكذيبهم جازاهم الحقّ بإدامة تعذيبهم، ولو ساعدهم التوفيق لوجد منهم التحقيق، لكنهم عدموا التأييد فحرموا التوحيد.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٩٩]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (٩٩)
مهد بهذه الآية طريق إثبات القياس «١»، فلم يغادر فى الكتاب شيئا من أحكام الدّين لم يؤيده بالدليل والبيان «٢»، فعلم الكلّ أن الركون إلى التقليد عين الخطأ والضلال.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ١٠٠]
قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (١٠٠)
إذ البخل غريزة الإنسان، والشحّ سجيته [ ( ) «٣» المعروف لا يعرف الخلقة] «٤»
(١) من هذا نعرف أن القشيري مؤمن بأهمية القياس العقلي ضمن ما هو معروف من مصادر الشريعة وفى هذا رد على من يتهم الصوفية بالتنكر للعقل، مع أنهم حريصون كل الحرص على تصحيح الإيمان فى مراحل البداية عن طريق الوسائل العقلية.
(٢) ربما كانت (البرهان) بدل (البيان)، فالبرهان أقرب إلى (الدليل) وإلى (القياس) كما أن البيان- فى مذهب القشيري المعرفى- مرحلة قلبية وليست عقلية.
ومع ذلك فقد يكون المقصود أن كتاب الله لم يغادر شيئا إلا أيده (بالدليل العقلي) و (البيان) القلبي.
(٣) هنا بياض فى الأصل.
(٤) ما بين القوسين الكبيرين ورد هكذا وفيه غموض ناتج عن سقوط ما سبق.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١٠١ الى ١٠٢]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (١٠١) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (١٠٢)
«١» هى أمارات كرامته وعلامات محبته.
قوله جل ذكره: فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً أنت- يا فرعون- سلكت طريق الاستدلال فعلمت أن مثل هذه الأشياء لا يكون أمرها إلا من قبل الله، ولكنّك ركنت إلى الغفلة فى ظلمات الجهل.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ١٠٣]
فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (١٠٣)
أراد فرعون إهلاك بنى إسرائيل واستئصالهم، وأراد الحقّ- سبحانه- نصرتهم وبقاءهم، فكان ما أراد الحقّ لا ما كاد اللعين.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ١٠٤]
وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (١٠٤)
أورثهم منازل أعدائهم، ومكّنهم من ذخائرهم ومساكنهم، واستوصى بهم شكر نعمته، وعرّفهم أنهم إن سلكوا في العصيان مسلك من تقدّمهم ذاقوا من العقوبة مثل عقوبتهم.
(١) عن ابن عباس أنها العصا واليد والجراد والقمل والضفادع والدم والحجر والبحر والطور الذي نتقه على بنى إسرائيل. وعن الحسن أنها الطوفان والسنون ونقص الثمرات مكان الحجر والبحر والطور.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١٠٦ الى ١٠٥]
القرآن حقّ، ونزوله بحق، ومنزّله حق، والمنزّل عليه حق، فالقرآن بحقّ نزل ومن حقّ نزل وعلى حقّ نزل، وقد فرّق القرآن ليهوّن عليه- صلوات الله عليه- حفظه، وليكثر تردد الرسول من ربّه عليه، وليكون نزوله فى كل وقت وفى كل حادثة وواقعة دليلا على أنه ليس مما أعان عليه غيره.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١٠٨ الى ١٠٧]
إن آمنتم حصل النفع لكم، وإن جحدتم ففى إيمان من آمن من أوليائنا عنكم خلف، وإنّ الضّرر عائد عليكم.
وإنّ من أضأنا عليهم شموس إقبالنا لتشرق أنوار معارفهم فإذا تليت عليهم آياتنا سجدوا بدل جحدهم، واستجابوا بدل تمردهم، وقابلوا بالتصديق ما يقال لهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ١٠٩]
وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (١٠٩)
تأثيره فى قلوب قوم يختلف فتأثير السماع فى قلوب العلماء بالتبصّر، وتأثير السماع
فى أنوار الموحّدين بالتحير «١» تبصّر العلماء بصحة الاستدلال، وتحيّر الموحدين فى شهود الجمال والجلال.
وبكاء كل واحد على حسب حاله: فالتائب يبكى لخوف عقوبته لما أسلفه من زلّته وحوبته، والمطيع يبكى لتقصيره فى طاعته، ولكيلا يفوته ما يأمله من منّته.
وقوم يبكون لاستبهام عاقبتهم وسابقتهم عليهم.
وآخرون بكاؤهم بلا سبب متعين. وآخرون يبكون تحسرا على ما يفوتهم من الحق.
والبكاء عند الأكابر معلول «٢»، وهو فى الجملة يدل على ضعف حال الرجل، وفى معناه أنشدوا:
خلقنا رجالا للتجلد والأسى وتلك الغواني للبكا والمآتم
قوله جل ذكره:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ١١٠]
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١١٠)
من عظيم نعمته- سبحانه- على أوليائه تنزّههم بأسرارهم فى رياض ذكره بتعداد أسمائه الحسنى من روضة إلى روضة، ومن مأنس إلى مأنس.
ويقال الأغنياء ترددهم فى بساتينهم، والأولياء تنزههم فى مشاهد تسبيحهم، يستروحون إلى ما يلوح لأسرارهم من كشوفات جلاله وجماله.
قوله جل ذكره: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا.
لا تجهر بجميعها، ولا تخافت بكلّها، وارفع صوتك فى بعضها دون بعض.
ويقال ولا تجهر بها جهرا يسمعه الأعداء، ولا تخافت بها حيث لا يسمع الأولياء.
«وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا» : يكون للأحباب مسموعا، وعن الأجانب ممنوعا.
(١) ليس (التحير) هنا ناجما عن الشك، وإنما ناجم عن شدة الوله وعنف الأخذ.
(٢) لأن الأكابر في حال التمكين لا التلوين.
Icon