تفسير سورة مريم

التفسير الحديث
تفسير سورة سورة مريم من كتاب التفسير الحديث المعروف بـالتفسير الحديث .
لمؤلفه محمد عزة دروزة . المتوفي سنة 1404 هـ

سورة مريم
في السورة تذكير بمعجزة الله تعالى في ولادة يحيى استطرادا إلى ذكر معجزة ولادة عيسى عليهما السلام، وتسفيه القول ببنوته لله. واستطرادا إلى ذكر بعض الأنبياء والتنويه بهم والدعوة إلى التأسي بهم. وفيها فصول احتوت مواقف وأقوالا للكفار وحملة عليهم وعلى عقائدهم وإنذارا لهم وبيانا لمصيرهم ومصير المؤمنين المتقين بالمقابلة.
ويبدو أن السورة قسمان. الأول إلى آخر سلسلة الأنبياء، والثاني من هنا إلى آخر السورة. وكلا القسمين متوازن ومقفى إجمالا مع اختلاف في القافية. وبينهما كذلك شيء من الترابط، وهذا من جهة، ونظم فصول السورة عامة من جهة أخرى يدلان على أنها نزلت متلاحقة حتى تمّت دون فصل. وقد روي أن الآيتين [٥٨ و ٧١] مدنيتان. واتصالهما بالسياق سبكا وموضوعا يسوّغ الشك في الرواية. وفي السورة آيتان تبدوان معترضتين وتحتويان صورة من صور التنزيل القرآني وهما [٦٤، ٦٥].

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة مريم (١٩) : الآيات ١ الى ١٥]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

كهيعص (١) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (٣) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (٤)
وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (٦) يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (٧) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (٨) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (٩)
قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (١٠) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (١١) يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (١٢) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (١٣) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (١٤)
وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (١٥)
141
(١) ذكر رحمة ربك عبده زكريا: ذكر هنا بمعنى خبر أو بمعنى تذكير.
وتأويل الآية هو خبر أو تذكير بما كان من رحمة الله لعبده زكريا. و (عبده) منصوب برحمة التي هي مصدر.
(٢) نداء خفيّا: دعا ربه سرّا وخفية عن الناس أو في سرّه.
(٣) وهن العظم: ضعف ورقّ من الكبر.
(٤) اشتعل الرأس شيبا: كناية عن كثرة الشيب. والاشتعال في الأصل انتشار شعاع النار.
(٥) لم أكن بدعائك ربّ شقيّا: لم يخب دعائي لك أو لم يكن لي به شقاء وحرمان.
(٦) الموالي: هنا بمعنى الورثة. وروح الآية تلهم أن المقصود هنا الورثة الذين من غير صلب زكريا وعصبته.
(٧) عاقر: عقيم.
(٨) رضيّا: مرضيّا عنه أو رضيّ الخلق.
(٩) يحيى: تعريب لاسم يوحنا الذي ذكرت أسفار العهد القديم أنه ابن زكريا. والراجح أن تعريب الاسم سابق لنزول القرآن.
142
(١٠) لم نجعل له من قبل سميّا: لم يسبق أن سمّي أحد بمثل اسمه.
(١١) عتيّا: حدّا بعيدا. وأصل الكلمة بمعنى اليبس والجفاف والنحول.
(١٢) آية: هنا بمعنى علامة يعلم بها حمل امرأته.
(١٣) ألّا تكلم الناس: أن ينحبس الكلام عنك فلا تستطيعه.
(١٤) المحراب: مكان العبادة. وقد سبق ذكره في سورة ص.
(١٥) أوحى: هنا بمعنى أشار أو أوعز بدون كلام.
(١٦) الحكم: الفهم والحكمة أو النبوة.
(١٧) وحنانا من لدنّا وزكاة: وجعلناه رحمة وتزكية لزكريا أو آتيناه الحنان والرحمة والطهارة.
(١٨) برّا: بارّا.
(١٩) جبارا: طاغيا قاسيا.
بدئت السورة بأحرف خمسة متقطعة. وتعددت الأقوال فيها منها أنها رموز لأسماء الله تعالى، وقسم رباني بالأسماء التي ترمز إليها، ومنها أنها للاسترعاء والتنبيه. وهذا ما نرجحه. وقد يكون تعدد الحروف بقصد التنبيه إلى خطورة الموضوع. ومطلع السورة من المطالع القليلة التي بدأت بحروف متقطعة ولم يعقبها ذكر القرآن والكتاب.
والسلسلة التي أعقبت الحروف الخمسة احتوت قصة ولادة يحيى بن زكريا عليهما السلام والمعجزة الربانية في هذه الولادة. وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر حينما يستعان بمعاني المفردات والجمل التي قدمناها. وقد تضمنت تنويها بزكريا وبيحيى عليهما السلام وما كان لهما عند الله تعالى من شأن وما نالاه من عنايته وتكريمه، كما تضمنت التنويه بالمعجزة الربانية في ولادة يحيى من أب هرم وأم عاقر.
تعليق على قصة ولادة يحيى عليه السلام
وبما أن هذه القصة أعقبت بقصة ولادة المسيح عليه السلام الخارقة، كما أن روح الآيات التالية تلهم أن ولادة المسيح هي المقصودة بالذات لتفنيد مزاعم
143
النصارى بأبوّة الله عز وجل للمسيح، وتقرير كون ولادته ليست إلّا معجزة ربانية فإنه يصح أن يقال إن ذكر قصة ولادة يحيى قبل قصة ولادة المسيح عليهما السلام هو من قبيل التمهيد والتدليل على أن ولادة المسيح قد سبقت بمعجزة ربانية من نوعها تقريبا، فلا يصح أن ينبني عليها ما قامت عليه العقيدة النصرانية بأبوّة الله للمسيح أو بنوّة المسيح لله بالمعنى الحرفي للأبوة أو البنوّة.
والإعجاز الرباني في ولادة يحيى كان معروفا ومسلّما به من قبل النصارى واليهود. وقد ورد بتفصيل مطابق لما ورد في السلسلة في إنجيل لوقا (الإصحاح الأول) كما ورد في الإصحاح نفسه أن ملاك الله ذكّر به مريم حينما بشرها بحلول روح القدس عليها والحبل بعيسى عليه السلام لأنها قالت له: كيف أحبل وأنا لا أعرف رجلا؟ فقال لها: إن إليصابات نسيبتك وزوجة زكريا حبلت أيضا بابن في شيخوختها مع أنها كانت عاقرا وأنه ليس أمر غير ممكن لدى الله.
وهكذا جاء التمهيد القرآني محكما ومفحما للنصارى الذين هم موضوع الحديث في ولادة عيسى عليه السلام الوارد في الآيات التالية.
ولقد ذكرت ولادة يحيى الإعجازية مرتين أخريين في القرآن. مرة في سورة الأنبياء المكية الآيات [٨٨- ٩١]. ومرة في سورة آل عمران المدنية الآيات [٣٢- ٥١]. وكان خبر الحبل بعيسى وولادته الإعجازية يذكر بعد كل من المرتين مثل ما هو في هذه السورة.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ١٦ الى ٣٦]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (١٦) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (١٧) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (١٩) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠)
قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (٢١) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (٢٢) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (٢٣) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (٢٥)
فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (٢٦) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (٢٧) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠)
وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (٣١) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣) ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥)
وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٣٦)
144
(١) انتبذت من أهلها: انفردت أو انعزلت عن مكان أهلها.
(٢) اتخذت من دونهم حجابا: احتجبت عنهم وتورات بقصد الاعتكاف والتعبد.
(٣) إن كنت تقيّا: إن كنت ممن يتقون الله.
(٤) زكيّا: طاهرا، وقال ابن عباس أريد بالكلمة نبيّا.
(٥) بغيّا: مومسا.
(٦) وكان أمرا مقضيا: تمّ أمر الله.
(٧) قصيّا: بعيدا.
(٨) أجاءها المخاض: ألجأتها أو اضطرتها أوجاع المخاض.
(٩) سريّا: قيل هو جدول الماء الساري الجاري. وقيل هو الشريف الرفيع،
145
والمعنى الأول متسق مع ذكر النخلة والرطب والأكل والشرب في الآية التالية حيث تريد الآيات أن تشير إلى معجزة أكرم الله بها مريم وابنها، فأحيا النخلة فحملت رطبا، وأجرى الماء عندها لتأكل وتشرب.
(١٠) تساقط: تتساقط.
(١١) رطبا جنيّا: تمرا مجنيا صالحا للأكل.
(١٢) نذرت: أوجبت على نفسي.
(١٣) صوما: هنا بمعنى صمتا أو إمساكا عن الكلام والصوم في اللغة هو الامتناع والكفّ عن الشيء.
(١٤) فريّا: شيئا عجيبا وبدعا ومختلقا.
(١٥) يا أخت هرون: كناية عمّا كانت تعرف به مريم من التقوى وتشبيها لها بهارون أخي موسى عليهما السلام الذي كان رئيس كهنة الله.
(١٦) يمترون: يشكون أو يجادلون.
في هذه الآيات أمر رباني للنبي ﷺ بذكر قصة مريم وولادة عيسى عليهما السلام. وعبارتها واضحة حينما يستعان عليها بشرح المفردات المتقدم، ولا تحتاج إلى أداء بياني آخر.
وهي معطوفة على سابقاتها حيث يصح أن يقال إنها سلسلة متصلة. وقد احتوت الآيات [٣٤- ٣٦] التي جاءت عقب آيات القصة تقريرا تعقيبيا بأن ما جاء في القصة هو الحق والحقيقة في ولادة عيسى عليه السلام، وشخصيته التي يتمارى الناس فيها ويتجادلون، وبأن الله تعالى منزه عن اتخاذ الأولاد لأن ذلك غير لائق بعظمته وصفة ربوبيته، وبأن قدرته كافية لحصول كل ما يريد بمجرد أن تتعلق إرادته به. وقد وجّه الخطاب في الآية الأخيرة منها إلى مخاطبين سامعين أو قريبين هاتفة بهم بأن الله تعالى هو ربّ الجميع وأن عليهم أن يعبدوه وحده لأن ذلك هو الحق الذي يجب أن يتبعوه والصراط المستقيم الذي يجب أن يسيروا عليه.
146
ولقد قال أكثر المفسرين «١» إن الآية الأخيرة أي الآية [٣٦] استمرار لحكاية كلام عيسى عليه السلام. وهذا محتمل قياسا على مثل ذلك محكي عنه في آيات أخرى مثل آية سورة المائدة هذه لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٧٢) ومثل آيات سورة الزخرف هذه وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (٦٣) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦٤) ومع ذلك فمن المحتمل أن تكون الآية خطابا أمر النبي ﷺ بتوجيهه للسامعين أيضا تعقيبا على قصة مريم وعيسى عليهما والسلام التي أمر بذكرها لهم.
وقد ذكر هذا الاحتمال بعض المفسرين أيضا «٢».
تعليق على قصة ولادة عيسى وأهدافها
ولم نطلع على رواية تذكر سبب نزول هذه الآيات ولا التي قبلها. غير أن بدءها بالأمر للنبي ﷺ بذكر مريم وقصة ولادة عيسى عليهما السلام، واحتواء الآية [٣٥] ما يدل على أن قصد إيراد القصة هو تقرير الحق فيما يمتري الناس السامعون فيه، يمكن أن يكون قرينة أو دليلا على نزول الآيات في مناسبة موقف جدلي واقعي بين النبي ﷺ والعرب، أو بينه وبين النصارى، أو في مجلس كان فيه فريق من هؤلاء وفريق من هؤلاء، أو بناء على سؤال ورد على النبي ﷺ عن حقيقة أمر عيسى عليه السلام وولادته، وأن حكمة التنزيل اقتضت ذكر قصة ولادة يحيى عليه السلام كتمهيد أو مقدمة تدعيمية. وقد تكرر مثل هذا ولنفس القصد ونفس التدعيم في فصل طويل جاء في سورة آل عمران الآيات [٣٣- ٦٨]
(١) انظر تفسيرها في تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والكشاف مثلا.
(٢) انظر تفسير الآية في مجمع البيان للطبرسي.
147
روى المفسرون «١» أنه نزل في مناسبة مجلس مناظرة انعقد بين النبي ﷺ ووفد من نصارى نجران بعد الهجرة، مما يمكن أن يستأنس به بأن مثل هذا المجلس قد انعقد بين النبي ﷺ وبين فريق من النصارى في مكة وأن فصل سورة مريم الذي نحن في صدده قد نزل في صدد ذلك.
فآيات سورة مريم وروحها والآيات العديدة الواردة في السور الأخرى في شأن عيسى وولادته وعقيدة النصارى فيه، وموقف العرب من ذلك، تدل على أن عيسى عليه السلام وشخصيته كانا موضع جدل ونقاش وأخذ ورد قبل نزول الآيات. فالعرب كانوا أو كان منهم من ينقدون اختلاف الكتابيين ونزاعهم ويقطعون على أنفسهم العهد أن يكونوا أهدى منهم لو جاءهم نذير، ونزل بلغتهم كتاب على ما حكته آيات سورة فاطر التي سبقت هذه السورة مباشرة. وكانوا أو كان منهم من يرون أن عقيدة النصارى في المسيح قائمة على منطق غير سليم كما حكت ذلك آيات سورة الزخرف هذه: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (٥٧) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (٥٨) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (٦٠) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٢) وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (٦٣) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦٤) واليهود كانوا يرمون مريم بالبهتان ويكفرون بعيسى وينعتونه بالكذب والسحر مما أشارت إليه بعض آيات القرآن مثل آيات سورة النساء هذه: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (١٥٥) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (١٥٦) ومثله آية سورة المائدة هذه: إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ
(١) انظر تفسير هذه الآيات في تفسير ابن كثير مثلا.
148
وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (١١٠). وكان النصارى فرقا اشتد بينها الخلاف منهم من كان يعتقد أن عيسى ابن الله، أو أنه أحد أقانيم الله الثلاثة، أو أنه هو الله كما حكت آية سورة النساء هذه يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا (١٧١)، وآية سورة المائدة هذه لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧)، وآية سورة المائدة أيضا هذه لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣). ومنهم من كان يعتقد أن المسيح ذو طبيعتين أو مشيئتين لاهوتية وناسوتية، وأن طبيعته اللاهوتية مساوية لطبيعة الأب الإله وهو والحالة هذه في زعمهم إله كامل وإنسان كامل. وأنه جاء إلى الدنيا بصفته الثانية. وأن ما كان من مقتضيات إنسانيته من ولادة وحياة وأكل وشرب وموت غير متناف مع صفته الأولى. ومنهم من كان يعتقد أن الطبيعتين اللاهوتية والناسوتية امتزجتا فيه فصار ذا طبيعة واحدة، وليس هو متساويا مع الله مساواة كاملة. ومنهم من لم يكن يعتقد أنه ابن الله وإنما هو بشر حلّ فيه روح الله أو روح القدس فغدا بذلك هيكل الله. وإن مريم إنما حبلت ببشر ولا يجوز أن تسمّى أم الله. ومنهم من كان يعتقد أنه إنسان ولد ولادة طبيعية من مريم ويوسف النجار وكان نبيا. ومنهم من كان يعتقد أنه إنسان ولد بمعجزة من مريم العذراء وكان نبيا وأنه كان يبشر بسيدنا محمد ﷺ وأنه لم يصلب ولم يقتل ولكن شبّه به،
149
وهذا ما أشارت إليه بعض آيات القرآن أيضا مثل آية سورة الصف هذه وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ... [٦]، وآية سورة النساء هذه وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ... [١٥٧] ومنهم من كان يرفع مريم إلى درجة الألوهية مما أشارت إليه آيات سورة المائدة هذه وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (١١٦) ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧) «١» فأنزل الله الآيات بمناسبة مجلس جدل أو استفسار في شأن المسيح لتضع الأمور في نصابها. فولادة عيسى عليه السلام تمّت بمعجزة وقد سبقت بمعجزة ربانية مقاربة وهي ولادة يحيى عليه السلام من أب هرم وأم عاقر. واليهود والنصارى يعرفون ذلك فلا يقتضي هذا أن يكون عيسى إلها أو جزءا من الإله أو ابنا لله دون يحيى، ولا أن ترمى مريم بالبهتان ولا أن ترفع إلى درجة اللاهوتية. وعيسى والحالة هذه عبد من عباد الله الصالحين ونبي من أنبيائه أرسله الله ليدعو إليه وحده ويحثّ على مكارم الأخلاق ويحذر من سيئاتها. وله من أجل ذلك حقّ التكريم ولأمّه حقّ التنزيه في نطاق عبوديتهما لله.
وبهذا تهيىء الآيات الطريق أمام غلاة النصارى للرجوع عن غلوّهم وتفتح الباب لهم وللذين تتقارب عقيدتهم إلى هذه التقريرات ليدخلوا منه إلى الإسلام ويتخلصوا مما هم فيه من شكوك وخلاف ونزاع. وتسدّ على كفار العرب طريق
(١) في إنجيل برنابا نصوص كثيرة جدا تتطابق مع ما جاء في القرآن وفي تاريخ سورية للمطران الدبس المجلد ٣ والجزء ٢ ص ٥٥٦- ٦٣٥ والمجلد ٤ الجزء ٢ ص ٨٠- ٩٠ و ٢٣٠- ٢٣٩ و ٢٦١- ٢٧٤ و ٣٧٦- ٤١٦ و ٥٢٦- ٥٢٨ نبذ كثيرة عن المقالات التي ظهرت في صدد المسيح وأصحابها منذ القرن الأول إلى القرن السادس الميلادي، احتوت المذاهب التي أشرنا إليها. انظر أيضا رسالة (الشهداء الحميريون) في الوثائق السريانية نشر بطرك السريان في سورية سنة ١٩٦٦ حيث جاء فيها إشارات إلى معظم هذه الصور عن المسيح وأمه، مما كان يعتقده طوائف النصارى المختلفة قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم.
150
الاحتجاج والمماحكة، وتلزم اليهود حدّهم فيما كانوا يرسلونه من مطاعن شنيعة في عيسى وأمه عليهما السلام.
ويلفت النظر إلى أن الآيات لم تكتف بوضع الأمور في نصابها الحقّ، وهي تقرر ما تقرره، بل اشتملت على تعقيب تدعيمي في الدعوة إلى الله وحده التي بعث النبي ﷺ للدعوة إليها سواء أفي الآية الأخيرة من السلسلة أم في ما تلاها من الآيات على ما يأتي شرحه. وهكذا يتسق هدف هذه القصة مع هدف القصص القرآني العام كما هو واضح.
ومن الجدير بالذكر أنه بالإضافة إلى التقارب والتطابق بين ما جاء في القرآن وما جاء في إنجيل لوقا من قصة البشارة بيحيى وعيسى ومعجزة ولادتهما على ما أوردناه قبل قليل فإن في هذا الإنجيل والأناجيل الثلاثة الأخرى المتداولة اليوم والمعترف بها من النصارى، والتي كتبت لتكون ترجمة لحياة عيسى عليه السلام، واحتوت أقوالا وأفعالا كثيرة منسوبة إليه، ونصوصا كثيرة جدا متطابقة متقاربة لما حكي عن لسان عيسى عليه السلام، وأفعالا كثيرة منسوبة إليه ونصوصا تتطابق بصراحة لما حكى القرآن عن لسانه. ومن ذلك قوله أن الله هو الذي أرسله وأنه لا يستطيع أن يقول ويفعل شيئا إلا بأمره وأنه ابن البشر وأن الله ربّ السموات والأرض وأنه كان يصلي الله وحده ويأمر الناس أن يصلوا له وحده، ويقدسوه وحده ويطلبوا منه الغفران وحده وأنه كان يقول إن من يؤمن به فإنه في الحقيقة يؤمن بالذي أرسله. وهذا بالإضافة إلى نصوص كثيرة جدا لا تخرج عن مدى ذلك، ومن ذلك ما كان يوجهه إلى الله من نداءات وأدعية واستغاثات إلخ مما يلهم بأن الذين كانوا لا يعتقدون بألوهية المسيح أو ببنوّته لله أو بجزئيته منه أو الذين يعتقدون بناسوتيته أو ببنوّته على ما ذكرناه قبل، إنما كانوا يستندون إلى هذه الأقوال. ومما يجعل فكرة اختصاص المسيح ببنوّة الله أو ما في نطاقها أو في ألوهيته وربوبيته أو جزئيته الإلهية غير قائمة على أساس وثيق. وفي كل هذا ما فيه من إلزام، ومن إبراز كون الغلوّ في أمر عيسى عليه السلام ليس في الكتب المتداولة وإنما في عدم تأويلها تأويلا سليما، وعدم فهمها فهما صحيحا.
151
نقول هذا ونحن نعرف أن النصارى منذ أن استقرت عقائدهم الحاضرة في المسيح نتيجة لقرارات مجمعية متعاقبة أخذت تنعقد منذ القرن الرابع بعد الميلاد بسبب ما كان من خلاف شديد بين رجال الدين النصراني يؤولون الأقوال المروية عن لسان عيسى عليه السلام مما ذكرناه وما لم نذكره تأويلات متّسقة مع عقائدهم.
ولكن التمعن والإنصاف لا يمكن إلا أن يجعل للمدى المستلهم من أقوال عيسى عليه السلام صحته ووجاهته.
وإلى هذا فإن في كتب التاريخ المسيحية القديمة ما يفيد أنه كان في أيدي النصارى الأولين الذين كانوا يعتقدون بعقائد متفقة مع هذا المدى أناجيل يستندون إليها أبيدت. وأنهم كانوا يصفون الأناجيل الأخرى بالتحريف والتزوير «١». وأنه كان في هذه الأناجيل صراحة وتطابق أكثر مع ما جاء القرآن.
والدليل القطعي على ذلك ما حكته بعض آيات القرآن المكية والمدنية من إيمان أهل الكتاب وأهل العلم والنصارى ومنهم قسيسون ورهبان بنبوة النبي ورسالته وصدق القرآن وكونه منزلا من الله عز وجل مما أوردناه في سياق تفسير آية سورة الأعراف [١٥٧]. وقد جاء في بعضها أنهم آمنوا لأنهم سمعوا من النبي ما عرفوا أنه الحق.
ولقد كانت محتويات الأناجيل التي كان النصارى يتداولونها في عصر النبي وما قبله معروفة لدى السامعين العرب أو نبهائهم على الأقل، لأنه كان في مكة جاليات كتابية ونصرانية تتداولها، كما كان الذين يقومون بالرحلات الصيفية والشتوية يتصلون بالكتابيين والنصارى في الأقطار التي كانت النصرانية سائدة فيها مثل بلاد الشام ومصر والعراق واليمن فيعرفونها عن طريقهم أيضا.
وهكذا يتسق أسلوب القصة القرآنية مع أسلوب القرآن العام في إيراد ما هو معروف من الأحداث لتكون الحجة أقوى وألزم. وهذا في فصل سورة مريم الذي نحن في صدده أشد قوة حيث تهيب الآيات التعقيبية الأخيرة بالسامعين إلى وجوب
(١) انظر المجلد ٤ الجزء ٢ من كتاب تاريخ سورية للمطران الدبس.
152
تفهم ما هو معروف ومدون تفهما صحيحا وتأويله تأويلا سليما وتنبههم إلى أن ذلك هو الطريق المستقيم إلى الحق والحقيقة.
ومعجزة كلام عيسى عليه السلام في طفولته المبكرة لم ترد في الأناجيل الأربعة المعترف بها. غير أننا نعتقد أنها كانت متداولة مأثورة عند النصارى أو واردة في بعض الأناجيل والقراطيس وغير مجهولة عند العرب أيضا. وليست الأناجيل الأربعة هي كل الأناجيل على ما نبهنا عليه في سياق شرح آية الأعراف [١٥٧]. وقد ذكر بعض الباحثين أنها واردة في بعض الأناجيل «١».
والقرآن كان يتلى علنا ويسمعه النصارى ومنهم من آمن فلا يمكن أن يكون ما جاء فيه إلا واقعا حقا عندهم أيضا. وهذا ما يصح أن يقال فيما يمكن أن يكون من خلاف بين ما ذكره القرآن في سياق ولادة عيسى وبين ما هو وارد في الأناجيل المتداولة. ومن ذلك أقوال المسيح لأمه عقب ولادته، وأقواله لبني إسرائيل حينما حملته أمه وقدمت به عليهم، وأقوالهم لها إلخ.
ولقد أورد المفسرون بيانات وشروحا في سياق هذه الآيات عن ظروف ولادة عيسى عليه السلام ونشأته وكلامه معزوة إلى علماء السير والأخبار، منها ما هو مطابق لما ورد في الأناجيل المتداولة، ومنها ما ليس متطابقا. وليس في إيرادها طائل في صدد القصة وأهدافها «٢». وفيها قسط غير يسير من التزيّه والتخمين. غير أنها تدل على كثرة ما كان متداولا في بيئة النبي ﷺ وعصره وبعده حول هذه القصة.
(١) ذكر ذلك فيليب حتّي في كتابه مختصر تاريخ العرب المترجم الى العربية ص ٩٥ وذكره أيضا طاهر التنير في كتابه العقائد الوثنية في الديانة النصرانية ص ١٤١. ومما ذكره هذا اسم إنجيلين هما إنجيل الطفولة وإنجيل ولادة يسوع. وقال إنهما ذكرا خبر كلام عيسى حين ولادته.
(٢) انظر تفسير الآيات وتفسير مثيلتها في سورة آل عمران في تفسير ابن كثير والطبري والطبرسي والخازن والمنار مثلا.
153
ولقد احتوى القرآن آيات عديدة مكية ومدنية نوهت بالذين أوتوا العلم والكتاب، وبتصديقهم بالنبي ﷺ والقرآن واعتناقهم والإسلام وإعلانهم انطباق ما جاء في القرآن على ما عرفوا من الحق أوردناها في سياق تفسير آية سورة الأعراف [١٥٧]. وهذا يسوغ القول إن النصارى الذين كانوا في مكة وفي المدينة أو الذين وفدوا على مكة والمدينة من أنحاء أخرى ليستطلعوا خبر النبي ﷺ ويستمعوا منه ويناظروه قد وجدوا في ما قرره القرآن عن شخصية عيسى عليه السلام تفسيرا معقولا صحيحا متطابقا لما كانوا عليه أو مقاربا، ومنقذا لهم مما هم فيه من بلبلة وخلاف وتشاد، فكان ذلك سببا في استجابتهم للدعوة باندفاع وفرح وخشوع، وتأييدهم لها على ما جاء في الآيات القرآنية. بل إن فيما قيده التاريخ من مسارعة كثير من النصارى في بلاد الشام والعراق ومصر في أدوار الفتح الإسلامي الأولى إلى اعتناق الإسلام عن طيبة خاطر، واستمرار ذلك بدون انقطاع عبر قرون التاريخ الإسلامي، ما يمكن أن يكون قرينة على هذا أيضا. والثابت تاريخا أن غالبية نصارى بلاد الشام ومصر والعراق من اليعقوبيين والنسطوريين الذين كانوا يعتقدون بأن المسيح ذو طبيعة واحدة مزيجة من الناسوتية واللاهوتية، وأنه غير متساو لذلك مع الله الأب. أو أنه إنسان حلّ فيه اللاهوت، فصار هيكلا لله، وأنه لا يجوز بسبب ذلك أن تسمى مريم أمّا لله إلخ. وكانوا موضع اضطهاد ومطاردة من السلطات الرومانية التي كانت صاحبة الحكم وكانت تدين بعقيدة ثنائية الطبيعة في المسيح. فكان التقارب بين ما يقرره القرآن وما يعتقده غالب النصارى في هذه البلاد مما سهل عليهم التحول إلى الإسلام حيث انضوى إليه أكثريتهم الساحقة خلال القرنين الأول والثاني الهجريين «١».
والدليل على أن ذلك تمّ بطيبة خاطر ورغبة وقناعة هو في احتفاظ من أراد
(١) انظر كتاب الدعوة إلى الإسلام تأليف أرنولد توماس وترجمة حسن إبراهيم وعبد المجيد عابدين طبعة ثانية ص ٦٣- ١٥٣ والصحف التي ذكرناها من المجلدين ٣ و ٤ من تاريخ سورية للمطران الدبس وكتاب فتح مصر لبتر تعريب فريد أبو حديد ص ٣٨٤، ٣٨٥ وتاريخ الجنس العربي للمؤلف الجزء ٢ ص ٣٣٣ وما بعدها والجزء ٤ ص ٣١٦ وما بعدها.
154
أن يحتفظ بنصرانيته من أبناء هذه النحلة ثم من أبناء النحلة الأخرى صاحبة عقيدة الطبيعتين، حيث كان لهم ما أرادوا وعاشوا في كتل صغيرة متناثرة هناك وهناك وهنالك عبر القرون العديدة التي كان السلطان الإسلامي فيها قويا وشاملا عملا بالمبدأ القرآني المحكم بأن لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ على ما شرحناه في سياق سورة (الكافرون). وما يزعم المبشرون والمستشرقون من أنهم أسلموا بالسيف أو هربا من الجزية زيف لم يعد يأخذ به أحد أمام تلك الحقائق. وما ذكره المؤرخون المنصفون من النصارى توكيدا لها. ثم أمام حقيقة كبرى أخرى وهي أن الجزية كانت ضئيلة، وكانت تكاليف الإسلام أكثر منها أضعافا مضاعفة.
وفي صدد نعت مريم عليها السلام بصفة (أخت هرون) روى المفسرون عن القرظي وهي من مسلمي اليهود أنها كانت فعلا أخت موسى وهرون «١». وتصيّد المستشرقون هذه الرواية الإسرائيلية وغمزوا النبي، وكانوا سخفاء في غمزهم. لأن المتبادر أن يكونوا أكثر إدراكا لكون النبي صلى الله عليه وسلم- ونقول هذا من قبيل المساجلة- لا يجهل المسافة بين مريم وهرون عليهما السّلام.
وهناك حديث صحيح يضع الأمر في نصاب الحق رواه الترمذي ومسلم جاء فيه «إن النبي ﷺ أرسل المغيرة بن شعبة إلى نجران في أمر، فقال له نصاراها كيف يزعم نبيّك أن مريم أخت هارون. فلمّا رجع أخبر النبي ﷺ بما قالوه فقال له ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمّون بأنبيائهم والصالحين قبلهم» «٢».
ونقول أخيرا إن من واجب المسلم الإيمان بما ورد في الآيات من أخبار ووقائع سواء منها المتطابق مع ما في الأناجيل المتداولة وغير المتطابق. والإيمان بأن ما فيها من خوارق للعادة هو في نطاق قدرة الله تعالى. وإيكال ما لم يدركه العقل من ذلك إلى علم الله مع الإيمان بأنه لا بد أن يكون لذكره بالأسلوب الذي ورد به من حكمة. ومن الحكمة الملموحة في ذلك وضع الأمر في شأن عيسى
(١) انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير.
(٢) التاج ج ٤ ص ١٥٤. [.....]
155
عليه السلام في نصابه الحق. وهو أن ولادته هي معجزة ربانية لا تقتضي أن يكون بها إلها أو أن يسمى تسمية إلهية ما. وأنه عبد الله ورسوله أرسله للدعوة إليه وحده وإلى مكارم الأخلاق والأعمال الصالحة والتحذير من الانحراف.
وقد انطوى فيما جاء متطابقا بين القرآن وبين ما في أيدي النصارى من أسفار قصد الإفحام والإلزام، وإخراجهم من الانحراف إلى صراط الله المستقيم. أما ما جاء متباينا بين ما في القرآن والأسفار فيكون من جهة النظر الإسلامية تحريفا. والله تعالى أعلم.
ونقطة أخرى يحسن الإلمام بها في هذه الخاتمة وهي ما ذكر في القرآن من نفخ الله تعالى في فرج مريم من روحه ومن أن عيسى عليه السلام كلمة الله ألقاها إلى مريم وروح منه، كما جاء في آيات النساء [١٧١] والأنبياء [٩١] والتحريم [١٢]. ويتبادر لنا أن هذا تعبير آخر لما جاء في آيات سورة مريم التي نحن في صددها إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا
(١٩) وأن العبارات القرآنية من نوع المتشابهات وأنها قد قصدت إلى تقرير كون حبل مريم وهي عذراء بعيسى عليهما السلام هو معجزة ربانية. وعلى المسلم كما قلنا أن يكل تأويل ما لا يدركه عقله إلى ربّه تعالى، ويستشف الحكمة منه وهي ما تبادر لنا ونبهنا عليه، والله تعالى أعلم.
ولقد وقف مبشر سمّى نفسه (الأستاذ حداد) عند الآيات [٣٤- ٣٦] والآيات [٣٧- ٤٠] التي بعدها حينما رأى الرويّ السبكي فيها مختلفا عما قبلها وبعدها فقال إنها مقحمة على السياق. ويستفاد من كتبه أنه يقصد بكلمة مقحمة أحيانا أنها مدنية وضعت في السياق المكي فيما بعد. وأحيانا أنها مزيدة بعد النبي لتدعيم الكلام. وموضوع الآيات تكرر في آيات مكية مثل آيات الزخرف [٦٣- ٦٥] التي أوردناها قبل. وهناك آيات عديدة مكية أخرى تنفي الولد عن الله وتدعو إلى عبادة الله وحده. وتنوع الرويّ في السور المكية ليس بدعا. وقد مرّت أمثلة عديدة منه. ومن ذلك مثلا الفصل الأخير في سورة ص. ولو سلّمنا جدلا أنها آيات مدنية
156
- وليس هناك أي رواية تذكر ذلك- فمناسبتها مع السياق قائمة. ولا يغير وصفها منه في العهد المدني المدى التعقيبي المراد منها. أما إذا كان قصد المبشر هو أنها مزيدة بعد النبي للتدعيم فهو متهافت وزور معا. ففي القرآن المكي والمدني عشرات من الآيات المتساوقة مع ما في الآيات بما في ذلك الآية [٣٦] سواء أكانت من كلام عيسى عليه السلام أو تقريرا مطلقا التي تنفي عن الله عز وجل الولد وتدعو إلى عبادة الله وحده وتهدي إلى صراطه المستقيم، وتأمر بعد الإقراء في أمر عيسى وكونه كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فكان، وتحكي كلامه بأنه عبد الله ورسوله ودعوته لبني إسرائيل بعبادة الله وحده وتنديده بالمشركين به، وتنصله من دعوى ألوهيته هو وأمه إلخ إلخ فلم يكن من ضرورة والحالة هذه لزيادة هذه الآيات بعد النبي للتدعيم. وهذا فضلا عن أن ذلك قد دعم بما سجلته آيات كثيرة مكية من إيمان النصارى بالنبي والقرآن لما سمعوه وعرفوه من الحق، وكون بعثة النبي هي تحقيق لوعد الله وبشارة عيسى ولما عاينوه من أعلام النبوة.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٣٧ الى ٤٠]
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٣٧) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٨) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٩) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٤٠)
(١) الأحزاب: بمعنى الفرق والشيع والجماعات.
(٢) أسمع بهم وأبصر: ما أشد سمعهم وبصرهم، حين يأتون إلى الله يوم القيامة.
هذه الآيات كما هو المتبادر جاءت معقبة على الآيات السابقة جريا على الأسلوب القرآني في المناسبات المماثلة. وقد احتوت إشارة إلى ما كان من اختلاف الناس شيعا وأحزابا ومذاهب في شأن عيسى عليه السلام، وإنذارا للكافرين المنحرفين عن الحق بمشهد اليوم الأخروي العظيم، وما سوف ينالهم
157
فيه وذكرت في معرض التبكيت أن الظالمين الضالين إذا كانوا في ضلال مبين في الدنيا لانصرافهم عن سماع كلمة الحق والانصياع لحجته ورؤية معالمه فسوف يكونون في الآخرة أقوياء السمع والبصر، فيعرفون ذلك الحق معرفة يقينية، ولكنهم يكونون قد فوّتوا على أنفسهم الفرصة في الدنيا. وأمرت النبي ﷺ بإنذارهم بهول ذلك اليوم الذي سوف يتحسرون فيه على فوات الفرصة وعدم الإيمان وعلى الغفلة التي كانوا مرتكسين فيها، وقررت في النهاية أن الله عز وجل هو الباقي الوارث للأرض ومن عليها، والمتصرف فيها والذي يرجع إليه الناس أولا وآخرا.
والتعقيب والإنذار والتبكيت قوي نافذ. وقد استهدف فيما استهدف إثارة الخوف والارعواء في نفوس السامعين كما هو المتبادر.
تعليق على جملة فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ
وبمناسبة هذه الجملة التي تعني على الأرجح أحزاب أهل الكتاب وشيعهم وبخاصة النصارى نقول إن هذه هي المرة الأولى التي تذكر اختلاف أحزاب أهل الكتاب في صدد عيسى بخاصة وفي الشؤون الدينية بعامة. ثم تكرر ذلك مرارا في السور المكية والمدنية. وقد كان هذا تسجيلا للحقيقة التي كانت قائمة راهنة في زمن نزول القرآن ممتدة إلى ما قبل ذلك والتي كان الأمر يصل فيها إلى الاقتتال على ما سجلته أيضا آية سورة البقرة هذه تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (٢٥٣) وفي أكثر من مرة سجل القرآن علة الخلاف الذي كان ينشب بينهم وهي كونه نتيجة من نتائج البغي فيما بينهم الذي يعني التعمد في التنافس على المآرب الخاصة ولا يمتّ إلى الحق والحقيقة كما جاء في آيات عديدة منها آيات سورة البقرة [٢١٢] وآل عمران [١٩] ويونس [٩٣] والشورى [١٤] والجاثية [١٧].
158
ونعتقد أن ذلك من أسباب ما جعل الكتابيين في مكة ينضوون إلى الإسلام تحت راية القرآن والنبي لأنهم رأوا في ذلك خلاصا مما هم مرتكسون فيه، بالإضافة إلى ما عرفوه من الحق وعاينوه من أعلام النبوة.
ولا شك في أن سامعي القرآن من العرب كانوا يعلمون ويرون مصداق ما سجله القرآن. وما حكته عنهم آية سورة فاطر هذه وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ. [٤٢] دليل على ذلك. ولعل الحكمة في ما جاء في صدد ذلك في القرآن تنبيه سامعي القرآن العرب إلى الحقيقة التي يعرفونها حتى لا يتأثروا بمواقف المكابرة والمناوأة التي قد يقفها بعضهم لرسالة النبي والقرآن ويظنوا أن ذلك منهم عن علم وحق أولا، وحتى يتعظ المؤمنون فلا يرتكسوا فيما ارتكس فيه أهل الكتاب من انحراف وشذوذ لمارب لا تمت إلى الحق والحقيقة.
ولقد قلنا في سياق شرح الآيات السابقة إن المبشر الذي سمى نفسه (الأستاذ حداد) قال عن هذه الآيات أيضا إنها مقحمة لاختلاف رويها عن ما بعدها وقبلها.
وقال إن الاختلاف إنما كان في العهد المدني. وقد فندنا دعوى الإقحام في سياق التعليق على الآيات السابقة ونقول في صدد دعوى الاختلاف في العهد المدني إنه يغالط في الكلام. فالاختلاف المذكور في الآية ليس هو الاختلاف الذي نشب بين النبي وأهل الكتاب وبخاصة اليهود في المدينة وإنما هو الاختلاف الذي كان بين أهل الكتاب ونحلهم فيما بينهم. وكان هذا أمرا مشهورا مشهودا ممتدا إلى ما قبل بعثة النبي. وقد تكررت الإشارة إليه في القرآن المكي كما جاء في آيات سورة يونس [٩٣] والنحل [٦٤ و ١٢٤] والمؤمنون [٥١ و ٥٢] والنمل [٧٦] والسجدة [٢٥] والشورى [١٤] والزخرف [٦٤ و ٦٥] والجاثية [١٧].
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٤١ الى ٥٨]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٤١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (٤٢) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (٤٣) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (٤٤) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (٤٥)
قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (٤٦) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (٤٧) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (٤٨) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (٤٩) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (٥٠)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥١) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (٥٢) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (٥٣) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥٤) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (٥٥)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٥٦) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (٥٧) أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (٥٨)
159
(١) أراغب أنت عن آلهتي: هل أنت منصرف عن آلهتي ومستغن عنها.
(٢) مليّا: زمنا طويلا أو بعدا كبيرا.
(٣) حفيّا: من الحفاوة أي العناية والرعاية والاهتمام والتلطف.
(٤) وقربناه نجيّا: أدنيناه منّا وناجيناه.
(٥) إسرائيل: هو اسم ثان ليعقوب عليه السلام. وقد ذكر في الإصحاح (٣٢) من سفر التكوين.
(٦) اجتبينا: اصطفينا.
تعليق على سلسلة الأنبياء بعد قصتي يحيى وعيسى عليهما السلام
جاءت هذه السلسلة تعقيبا على الآيات السابقة لها مباشرة التي احتوت حملة على الظالمين والكافرين والمدّعين باتخاذ الله تعالى ولدا، جريا على الأسلوب
160
القرآني. ويتبادر لنا أنها استهدفت فيما استهدفته سلك عيسى عليه السلام في سلك غيره من الأنبياء الذين كانوا أيضا من قبله مظهر عناية الله ورحمته وحفاوته، بحيث انطوى فيها تقرير بأن عناية الله بعيسى عليه السلام ليست شيئا خاصّا به ولا بدعا.
فتكون والحالة هذه متصلة بالسياق السابق. ولقد تكرر الأمر «اذكر» في قصة مريم ثم في قصص السلسلة حيث يكون هذا قرينة على ذلك فضلا عن وحدة النظم.
وقد احتوت السلسلة تنويها بإبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى وهارون وإسماعيل وإدريس عليهم السلام. وعبارتها واضحة لا تحتاج هي الأخرى إلى أداء آخر.
وقد عممت الآية الأخيرة التنويه بحيث شمل المذكورين وغيرهم من أنبياء الله الذين كانوا مظهر هداية الله واصطفائه. وذكرت كيف كانوا إذا تتلى عليهم آيات الله يخرّون ساجدين له، باكين من خشيته، كأنما أرادت أن تقول إن هذا الفناء في الله تعالى والإخلاص له من أسباب ما نالوه من عناية الله وتنويهه وكأنما أرادت أن تقول كذلك إن هذه الدرجة يستطيع أن ينالها عند الله تعالى من يحذون حذو هؤلاء في الفناء والإخلاص، وأن تهيب بالسامعين إلى التأسي بهم. وفي هذا ما فيه من تلقين مستمر المدى. ويلحظ أن كل حلقة في السلسلة قد احتوت إشارة إلى ما كان من إخلاص النبي الذي ذكر فيها الله تعالى. وهذا من دعائم وعلائم الهدف الذي استهدفته السلسلة والذي نبهنا عليه.
ولعل في الآية الأخيرة التي جاء فيها جملة وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إشارة إلى الذين هداهم الله واجتباهم فصدّقوا برسالة النبي ﷺ وساروا على طريقة الأنبياء السابقين وصاروا مثلهم، إذا تليت عليهم آيات الرحمن خرّوا سجدا وبكيّا. وقد سلكتهم في صف أنبياء الله. وفي هذا ما فيه من تطييب قلب وتسكين روع وتشجيع وتثبيت وتنويه كما هو واضح.
ويمكن أن يلمح في السلسلة جميعها بالإضافة إلى ما قلناه قصد الإشارة إلى
161
أنه إذا كان الكفار يقفون من النبي ﷺ ودعوته هذا الموقف ويغفلون عن الحق ويصرون على الضلال فإن لله عبادا صالحين إلى درجة النبوة يعبدونه ويخضعون له ويتفانون في الإخلاص له وينبذون آباءهم وأقوامهم في سبيله، وإذا تتلى عليهم آياته خرّوا ساجدين باكين من خشيته.
ولقد ذكر المصحف الذي اعتمدنا عليه أن الآية الأخيرة [٥٨] مدنية. ويلحظ أنها متصلة بالسياق اتصالا تامّا سبكا وموضوعا، وهذا ما يجعلنا نشكّ في الرواية.
ويلحظ أن جمع إبراهيم وإسحق ويعقوب في الآيات وانفراد إسماعيل عنهم عليهم السلام جاء أقوى مما جاء في سورة ص. ومع ذلك فإن التعليل الذي خطر لنا لهذا الجمع والانفراد وأوردناه في سياق سورة ص يمكن أن يظل واردا. ولقد روى بعضهم «١» أن إسماعيل المذكور هو غير إسماعيل بن ابراهيم. غير أنه ليس هناك خبر وثيق ما عن نبّى اسمه إسماعيل غير إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام.
ولذلك نعتقد أنه هو المقصود في الآيات، والله تعالى أعلم.
تعليق على مغزى التفصيل في قصة إبراهيم عليه السلام
ويلحظ شيء من التفصيل في موقف إبراهيم عليه السلام من أبيه. ومما هو جدير بالذكر في هذه المناسبة أن ما ورد في القرآن- هنا وفي السور الأخرى- من قصص إبراهيم عليه السلام مع أبيه وقومه- وقد تكرر ذلك بأساليب متنوعة في سور عديدة- لم يرد في سفر التكوين المتداول اليوم الذي احتوى إصحاحات عديدة فيها ترجمة حياة إبراهيم وأخباره وأولاده وذريته إلى آخر عهد يعقوب
(١) روى هذا المفسر الشيعي الطبرسي عن أبي عبد الله في سياق يبدو عليه التكلف والهوى الحزبي. ومما جاء في الرواية أن إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام مات في حياة أبيه.
وسفر التكوين المتداول الذي هو أصل المعارف القديمة عن إبراهيم وحياته وذريته يذكر أن إسماعيل عاش بعد أبيه..
162
ويوسف عليهما السلام. ونحن نعتقد أن هذه القصص قد وردت في أسفار وقراطيس كانت متداولة بين أيدي اليهود في زمن النبي ﷺ وانفقدت.
وفي كتب التفسير بيانات كثيرة معزوة إلى علماء الأخبار من أهل القرنين الأول والثاني في صدد ولادة إبراهيم وتوحيده ربه وتمرده على عبادة الأصنام، وما كان بينه وبين أبيه وقومه والملك نمرود من مواقف. ومفارقته لقومه قد يكون فيها بعض الإغراب، ولكنها تدل على أن قصص إبراهيم في نطاق ما جاء في القرآن ومنها ما لم يذكر في سفر التكوين مما كان متداولا في بيئة النبي ﷺ وعصره.
ولقد ذكرنا في سياق تفسير سورة الأعلى أن العرب أو العدنانيين سكان الحجاز منهم كانوا يتداولون بينهم تقليد نسبتهم بالأبوة إلى إبراهيم عليه السلام وأن ذلك مما أشير إليه إشارة تأييدية في آيات سورة البقرة [١٢٤- ١٢٩] وآية الحج [٧٨] التي أوردناها في ذلك السياق. فالذي يتبادر لنا أن ما جاء في هذه السلسلة والسور الأخرى من ذلك قد استهدف فيما استهدف لفت نظر السامعين من العرب إلى ما كان من استنكار أبيهم الأكبر من أبيه ما يستنكره النبي ﷺ من أهله وقومه. والهتاف بهم بأن فخر الانتساب إلى إبراهيم لا يكون في محلّه إلا إذا ساروا على طريقته فنبذوا عبادة الأصنام وتصامموا عن وسوسة الشيطان.
تعليق على شخصية إدريس عليه السلام
وإدريس عليه السلام يذكر هنا لأول مرة. وقد ذكر مرة ثانية في سورة الأنبياء في آية واحدة مع إسماعيل وذي الكفل عليهما السلام.
ولقد تعددت الروايات التي يرويها المفسرون في صدده. من ذلك أنه من أجداد نوح عليه السلام. وأن اسمه أخنوخ. وهذا الاسم ورد في الإصحاح الخامس من سفر التكوين المتداول بصفة جد من أجداد نوح. ولقد جاء عنه في هذا الإصحاح (وعاش أخنوخ خمسمائة وستين سنة. وسلك مع الله. وإن الله أخذه) وقد يكون في هذا ما يفيد أنه كان نبيا وأن الله رفعه. وبعبارة ثانية قد يكون في تطابق مع ما جاء في الآية [٥٧] من سلسلة الآيات. ويكون ذلك مما كان
163
متداولا في أوساط الكتابيين، ومما كان يعرفه السامعون من العرب أو بعضهم.
ومما قاله المفسرون دون عزو إلى مصدر أن أخنوخ سمي إدريسا لكثرة دراسته لكتب الله. وأنه أول من خط بالقلم وأول من خاط الثياب ولبس الثياب المخيطة. وكان الناس قبله يلبسون الجلود. وأنه أول من اتخذ السلاح وقاتل الكفار. وأول من نظر في علم النجوم والحساب، وأنه أنزل عليه ثلاثون صحيفة.
ونحن نرجح أن اسم (إدريس) كان الاسم المتداول قبل الإسلام لنبي من الأنبياء. وقد يكون أخنوخ المذكور في سفر التكوين. وقد يكون ما ذكر عنه من كثرة دراسته وعلومه مما كان متداولا عنه. وكلمة (إدريس) كما يبدو عربية الجذر والصيغة وهذا ما قاله اللغوي المشهور ابن منظور في لسان العرب فيكون العرب قبل الإسلام هم الذين أطلقوا الاسم على هذا النبي بسبب ما سمعوا من صفاته.
وفي صدد رفعه إلى السماء روى الطبري عن أبي هريرة وعن أنس عن النبي ﷺ أنه رآه ليلة المعراج في السماء الرابعة. وروى عن ابن عباس أنه رفع إلى السماء السادسة ومات فيها. وعن مجاهد أنه رفع كما رفع عيسى ولم يمت. وقال الطبري تعقيبا على ذلك أن حياته وموته مختلف فيهما. ومع ذلك فالمفسرون يوردون أقوالا أخرى عن معنى جملة وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا منها أن المكان العلي هو في الجنة في اليوم الآخر. ومنها أن الجملة تعني علوّ الرتبة والشأن مطلقا أو في الدنيا. حيث يبدو من القائلين أنهم لم يأخذوا بما روي من أمر رفعه إلى السماء ووجوده فيها.
وإلى هذا ففي الطبري في صدد رفعه إلى السماء رواية طويلة مروية عن كعب الأحبار فيها كثير من الخيال والمفارقة. فلم نر طائلا في إيرادها ولا سيما أنها لا تتصل بموضوع السلسلة وهدفها.
ومهما يكن من أمر فنبوّة إدريس عليه السلام وكرامته وشفعته عند الله مما هو وارد في القرآن. واسمه مما يدل على أنه كان معروفا قبل الإسلام كنبي من أنبياء الله في أوساط العرب. وأن الهدف من ذكره في سلسلة الأنبياء هو نفس الهدف
164
الذي استهدف في إيراد هذه السلسلة والذي شرحناه قبل، وأن الأولى الوقف عند ذلك بدون تزيد ولا تخمين. والله تعالى أعلم.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٥٩ الى ٦٣]
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (٥٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (٦٠) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (٦١) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (٦٢) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (٦٣)
(١) يلقون غيا: بعض المؤولين أولوا الجملة بمعنى الخسران والشرّ. وروى بعضهم عن النبي ﷺ حديثا يذكر أن (غيا) بئر في جهنّم فيه صديد. وهذا الحديث لم يرد في الصحاح «١».
(٢) لا يظلمون شيئا: لا يبخسون ولا ينقص من عملهم الصالح شيء حيث يوفون جزاء جميع أعمالهم.
(٣) بالغيب: هذه الكلمة تكررت في القرآن في مثل هذا المقام وفي مقام التنويه بالمؤمنين الذين يؤمنون بالغيب والذين يخشون ربهم بالغيب. وقال المفسرون إن معناها في مقامها هنا (التي وعدهم الله بها وإخبارا بأمر مغيب عنهم) وإن معناها في المقام الثاني (الذين صدقوا بالأمور المغيبة عنهم التي أخبرهم بها القرآن) وكل هذا وجيه «٢».
(٤) إنه كان وعده مأتيا: إن وعده آت ونافذ لا ريب فيه.
في الآيات إشارة تأنيبية إلى الذين خلفوا النبيين وخالفوا طريقتهم فضلّوا عن طريق الهدى وأضاعوا الصلوات واتبعوا الشهوات. ووعيد رباني لهم بأنهم سوف
(١) انظر تفسيرها في الطبري وابن كثير.
(٢) انظر تفسيرها وتفسير آية البقرة [٣] وآية الأنبياء [٤٩] في تفسير الطبري وابن كثير والطبرسي والكشاف.
165
يلقون سوء عاقبة ضلالهم وانحرافهم وخسرانا وعذابا. وقد استثني الذين يرعوون عن ضلالهم ويتوبون إلى الله فيؤمنون ويعملون العمل الصالح. ووعد هؤلاء بالجنة ووفاء جزاء أعمالهم لهم بدون نقص وبخس ما حيث يجري عليهم رزقهم باستمرار. ولا يسمعون فيها لغوا وكل ما يسمعونه التحية والسلام. وانتهت الآيات بتقرير كون هذه الجنة هي مصير الأتقياء من عباد الله.
تعليق على الآية فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ والآيات الثلاث التالية لها
روى الطبرسي أن الآية الأخيرة منها نزلت ردا على أحد زعماء المشركين الذي قال لو كانت الجنة التي يذكرها محمد حقا لكانت أولى بي من أولئك الصعاليك الذين آمنوا به. والآية معطوفة على الآيات السابقة لها ومنسجمة معها كل الانسجام. والمتبادر أن الآيات جميعها جاءت معقبة على الآيات السابقة لها وأنها متصلة بها هدفا وموضوعا. وهذا لا ينفي أن يكون صدر من الزعيم المشرك ما روي عنه. ولقد روي عن ابن عباس والسدي أن الآية الأولى عنت اليهود.
وروي عن الأوزاعي أنها في حق الذين يؤخرون الصلاة عن مواقيتها أو أن هذا ما تعنيه جملة أَضاعُوا الصَّلاةَ وروي عن مجاهد أنها في حقّ جماعة في آخر الزمان يتركون الصلاة وينزون على بعضهم في الأزقة كالحيوانات «١».
ويتبادر لنا أن هذه الأقوال من قبيل الاجتهاد والتطبيق، وأن روح الآية تلهم أنها عامة الشمول وبسبيل النعي على كل من بدّل وحرّف وانحرف عن طريقة الأنبياء والصالحين من أخلافهم وقصروا في عبادة الله تعالى وأوغلوا في الشهوات وإنذارهم. والاستثناء الوارد في الآية الثانية قرينة على ذلك وهو بسبيل دعوة السامعين إلى الله تعالى، والإهابة بالمنحرفين إلى التوبة والرجوع إلى الله وعمل الصالحات وتشويقهم بأسعد مصير في الآخرة.
(١) انظر تفسير ابن عباس رواية الكلبي وتفسير ابن كثير.
166
ووصف حياة الجنة شيق جدا يبعث الاغتباط في المؤمنين الصالحين ويحفز على الرغبة فيها بالإرعواء والتوبة إلى الله وهو ما استهدفته الآيات فيما استهدفته كما هو المتبادر. وكل ذلك مستمر المدى والتلقين كما هو المتبادر أيضا.
ويلفت النظر إلى التلازم بين إضاعة الصلوات واتباع الشهوات. مما يمكن أن يفيد أن اتباع الشهوات هو نتيجة لإهمال عبادة الله وذكره. وقد جاء هذا المعنى بصراحة أكثر في آية سورة العنكبوت هذه اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (٤٥) والتوبة التي ورد بها الاستثناء في الآيات تشمل على ما هو المتبادر من الكافرين والمقصرين في طاعة الله والمتبعين للشهوات معا على ما يفيده فحوى الآية. وفيها تدعيم لمبدأ التوبة المحكم الذي شرحناه ونوهنا به في سياق سورة البروج.
ولقد أورد ابن كثير حديثا رواه ابن أبي حاتم والإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري أنه سمع رسول الله يقول «يكون خلف بعد ستين سنة أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا. ثم يكون خلف يقرأون القرآن لا يعدو تراقيهم. ويقرأ القرآن ثلاثة: مؤمن ومنافق وفاجر» وروى عن أبي سعيد معقبا على الحديث «المؤمن يؤمن به والمنافق كافر به. والفاجر يأكل به» وأورد كذلك حديثا آخر عن الإمام أحمد عن عقبة بن عامر أنه سمع رسول الله ﷺ يقول «إني أخاف على أمتي اثنتين القرآن واللين. أما اللين فيتبعون الزيف والشهوات ويتركون الصلاة وأما القرآن فيتعلمه المنافقون فيجادلون به المؤمنين». فإن صح الحديثان فليسا تفسيرا للآية الأولى وإنما فيهما نبوءة نبوية بما يمكن أن يظهر من بين المسلمين من فئات تنطبق عليهم. وأنهما استهدفا على ما هو المتبادر التنبيه والتحذير. والله أعلم.
167

[سورة مريم (١٩) : الآيات ٦٤ الى ٦٥]

وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (٦٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (٦٥)
(١) هل تعلم له سميّا: السؤال إنكاري يتضمن النفي حيث يسأل السامع سؤال من يعرف أن جوابه بالنفي عما إذا كان يعلم أو يستطيع أن يذكر مماثلا ونظيرا له بالاسم والقدرة والعظمة والربوبية الشاملة.
تبدو هاتان الآيتان معترضتين في السياق. وكأنهما لا ارتباط بينهما وبين ما سبقهما وما لحقهما. ومن جهة أخرى فإن صيغتهما صيغة خطاب موجه للنبي ﷺ من غير الله كأن أشخاصا غير الله يخاطبونه. وعبارتهما واضحة. وهما في صدد تقرير انحصار الأمر والعلم والتصرف في كل شيء في الله تعالى ربّ السموات والأرض وما بينهما الذي لا مثيل له ولا نظير في عظمته وقدرته وربوبيته الشاملة، وقد أمر النبي ﷺ في ثانيتهما بالثبات في عبادته والخضوع له.
تعليق على آية وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ
لقد تعددت الأحاديث والروايات التي يرويها المفسرون في صدد هذه الآيات «١» منها حديث عن ابن عباس رواه البخاري والترمذي عن النبي ﷺ قال لجبريل «ما يمنعك أن تزورنا أكثر ممّا تزورنا فنزلت» ومنها حديث عن مجاهد جاء فيه «إن النبي ﷺ قال لجبريل لقد رثت عليّ حتّى ظنّ المشركون كلّ ظنّ. فنزلت» وحديث عن قتادة جاء فيه «إن النبي ﷺ قال لجبريل حينما جاء بعد انحباس ما جئت حتّى اشتقت إليك فنزلت». ومما رواه المفسرون أن احتباس جبريل كان ثنتي
(١) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والخازن والطبرسي والكشاف.
168
عشرة ليلة وفي رواية خمسا وأربعين. كما رووا أن الاحتباس كان عند ما سأله الكفار بإيعاز من اليهود عن أصحاب الكهف وذي القرنين وعن الروح فقال النبي لهم غدا أجيبكم ولم يقل إن شاء الله. ومع كل هذه الأحاديث والروايات فكان رواية عن مسلم رواها الطبرسي أن الآيتين حكاية لقول المتقين الذين ذكروا في الآيات السابقة حينما ينزلون منازلهم وباستثناء الحديث الذي يرويه البخاري والترمذي فالأحاديث الأخرى من المراسيل.
والعبارة القرآنية لا تتسق فيما يبدو مع القول بأن الآيتين حكاية لأقوال المتقين حينما ينزلون منازلهم في الجنة وهي أكثر اتساقا مع الأحاديث والروايات التي تذكر أنها حكاية لقول جبريل. مع ما يلحظ مع ذلك أن صيغة المتكلم في الآية صيغة جمع في حين أن الأحاديث والروايات تذكر جبريل وحده الذي سأله النبي ﷺ ونزل عليه بالآية. ولما كان من الحقائق الإيمانية أن جميع ما في القرآن صادر من الله عز وجل وأن الملك الذي يبلغه ليس إلّا واسطة فقد خرّج المفسرون الكلام الصادر ظاهرا عن الملك بصيغة الجمع على أنه تبليغ رباني عن لسان الملك أو الملائكة.
ويلحظ أن هناك آيات عديدة يكون فيها الكلام موجها من قبل النبي ﷺ مباشرة ولم يسبق بأمر له بقول ذلك كما جاء في آيات سورة هود هذه الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (٣) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤) وفي آية سورة الأنعام هذه قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (١٠٤) وأن هناك آيات يكون الكلام فيها صادرا في الظاهر عن غير الله كما جاء في آيات سورة الصافات هذه وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (١٦٦) وقد خرّجت هذه الآيات بمثل التخريج الذي خرجت به الآيات التي نحن في صددها.
ولما كان سرّ الوحي القرآني مما لا تدرك ماهيته فالأولى أن يوقف في هذه
169
المسألة الإيمانية الغيبية وأمثالها عند ما وقف عنده القرآن من ناحيتها الذاتية وكنهها وأن يقال آمنّا به كل من عند ربّنا.
وهذا لا يمنع من القول إن هاتين الآيتين وأمثالهما صورة من صور الوحي القرآني تبدوا أولا في صيغة الجمع وثانيا في حكاية كلام مباشر عن الملائكة حينا وعن النبي ﷺ حينا. ولعل مما يمكن أن يضاف إلى هذا أن الآيات التي تجمع الروايات على أنها كانت جوابا على تساؤل من النبي ﷺ قد تكون نزلت بعد نزول الآيات السابقة لها، فأمر النبي ﷺ بتدوينها فور نزولها بعدها ولو لم يكن بينها ارتباط بحيث يصح أن تشبه بآيات سورة القيامة [١٦- ١٩] من ناحية فورية النزول والتدوين والمناسبة وعدم الارتباط بما سبقها وبما لحقها على ما شرحناه في سياقها.
ومما يرد على البال أن يكون ذكر الأنبياء وما حظوا به من عناية ربانية وذكر مريم وظهور الملك لها كان هو المناسبة القريبة للتساؤل عن كيفية نزول الملائكة بأوامر الله فأوحى بهاتين الآيتين عن لسانهم بعد أن تم سياق الكلام في الآيات السابقة. وإذا صح هذا فإنه يوجد ترابطا بين الآيتين وبين السياق السابق كما هو واضح، وإن كان يتناقض مع الروايات المروية عن سؤاله ﷺ لجبريل عليه السلام.
على أن الاختلاف في روايات النزول مما يسوغ التوقف في الروايات الواردة من حيث الأصل، والله تعالى أعلم.
هذا، ويتراءى لنا فيما احتوته الآيتان من إعلان اعتراف الملائكة بحدودهم إزاء العزة الربانية وتقريرهم بإحاطة الله سبحانه بكل شيء وقدرته على كل شيء وعدم طروء ما يطروأ على البشر من غفلة ونسيان عليه، ونفي أي مشابهة له في الأسماء والصفات والقدرة الشاملة، وتوكيدهم على النبي ﷺ وجوب التزام عبادته والخضوع له هدف تدعيمي للتقريرات القرآنية والدعوة الربانية في مختلف فصول القرآن في بيئة يتخذ غالب أهلها الملائكة أولياء وأربابا وشركاء قادرين على النفع والضرر. بل لعل الآيتين قد استهدفتا هذا الهدف بصورة رئيسية والله تعالى أعلم.
170

[سورة مريم (١٩) : الآيات ٦٦ الى ٧٢]

وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (٦٦) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (٦٧) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (٦٨) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (٦٩) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (٧٠)
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (٧١) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (٧٢)
(١) جثيّا: جاثين على ركبهم كناية عن الخضوع والذل.
(٢) عتيّا: تمرّدا وتكبرا وعصيانا.
(٣) صليّا: إصلاء بالنار وإلزاما لها.
في الآية الأولى حكاية لتساؤل الإنسان تساؤل المستغرب أو المنكر عما إذا كان حقّا سيبعث حيا بعد موته؟ وفي الثانية ردّ على الجواب بصيغة التساؤل الإنكاري أيضا عما إذا كان هذا المنكر لا يذكر ولا يعترف بأن الله تعالى خلقه من العدم حتى يشك في قدرة الله على إحيائه بعد موته. أما الآيات التالية للآيتين فقد جاءت للاستطراد والتعقيب واحتوت إنذارا ووعيدا للكافرين المكذبين عامة ولأشدهم تمردا وعصيانا بصورة خاصة. فقد أقسم الله بعزته أنه سيحشرهم ومعهم شياطينهم وسيجمعهم حول جهنم أذلّاء صاغرين وأنه سيختص بالعذاب الأشد أشدهم عصيانا لله وتمردهم عليه. ولقد روى الطبرسي بدون ذكر راو أن الإنسان الذي حكت الآية الأولى قوله وردت الآية الثانية عليه هو أبيّ بن خلف أحد زعماء المشركين الأشداء في مناوأة النبي ﷺ وإنكار البعث. والروايات محتملة، لأنه ليس كل إنسان يقول هذا القول، حتى تؤخذ العبارة على مداها المطلق.
والإنذار في الآيات قوي رهيب، ولا سيما للفئات الأشد مناوأة للنبي ﷺ وتمردا على الله تعالى، ومتناسب مع مواقفهم في معارضة الدعوة إلى الله تعالى وتعطيل رسالة رسوله فضلا عن كفرهم.
171
والرواية تذكر موقفا للزعيم الكافر ولا تذكر أن الآيات نزلت بسببه. ولا يذكر المفسرون الآخرون مناسبة لنزولها. ويتبادر لنا أنها ليست منفصلة عن السياق السابق. ففي هذا السياق تنديد بالذين أضاعوا الصلوات واتبعوا الشهوات فجاءت هذه الآيات لتذكر موقفا من مواقف هؤلاء الجحودين بالآخرة.
على أننا نلحظ من ناحية أخرى أن الآيات الآتية احتوت حكاية بعض أقوال ومواقف الكفار مثلها بحيث يسوغ القول أيضا أن هذه الآيات بداية الشطر الثاني من السورة من حيث إن الشطر الأول تناول ذكر الأنبياء والتعقيب عليه، في حين أن هذه الآيات وما بعدها تناولت أقوال ومواقف كفار العرب والتعقيب عليها. هذا مع التنبه أولا على أننا نرجح أن هذه الآيات وما بعدها لم تنزل منفصلة عن بعضها وفور صدور كل موقف وقول حكتهما عن الكافر وإنما احتوت عرضا لهذه المواقف والأقوال جملة واحدة، لأن وحدة روي الفصول تلهم أنها نزلت متلاحقة. وثانيا: إن قولنا إن الآيات بداية لشطر ثان للسورة لا يعني أن الشطرين منفصلان عن بعضهما أيضا حيث يلمح التساوق بينهما من حيث إن الشطر الأول حكى قصص الأنبياء وأخلافهم والشطر الثاني حكى مواقف الكفار وقصصا متناسبة مع مواقف أولئك الأخلاف. ووحدة الروي إلى هذا جامعة بين الشطرين. ومع أن الإنذار الموجه لهذه الفئة بخاصة ولكفار العرب في زمن النبي بعامة فإن المتبادر أن ما احتوته الآيات من تقرير وتنديد وإنذار هو عام التوجيه مستمر المدى لكل متمرد على الله ورسالة رسوله ومناوئ لها وصادّ عنها وكافر بها. وقد استثني المتقون من المصير الرهيب المنذر به. ومع ما في هذا الاستثناء من تطمين وبشرى للذين استجابوا للدعوة النبوية في زمن النبي فهو كذلك عام مستمر المدى لكل مؤمن متّق.
ونقول هنا ما قلناه في مناسبة سابقة إن الآيات تسجل واقع الكفار وزعمائهم حين نزولها. وإن الإنذار الرهيب إنما يظل قائما بالنسبة لمن أصرّ ومات على كفره وتمرده منهم.
172
واختصاص الذين اتقوا بالنجاة ذو مغزى كبير سواء في تطمين هذه الفئة وبثّ الاغتباط فيها أم في الحث على التقوى التي هي أبرز مظاهر الإيمان. لأنها تجعل المؤمن مراقبا لله في جميع أعماله وتعصمه من الوقوع في الأمم على ما شرحناه في سياق سورة العلق.
تعليق على جملة وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها
لقد تعددت الأحاديث والروايات والتأويلات في كتب التفسير في صدد هذه الجملة.
ففي معنى كلمة (الورود) إنها بمعنى الدخول وإن الضمير في كلمة (واردها) يرجع إلى جهنم. أو إنها بمعنى المرور عليها دون الدخول فيها.
وفي مدى جملة وَإِنْ مِنْكُمْ إنها خطاب لجميع الناس أبرارهم وفجارهم.
ومؤمنيهم وكافريهم، وقد استدل القائلون بدخول جميع الناس جهنم بالآية [٧٢] آخر الآيات التي نحن في صددها، وبأحاديث نبوية عديدة منها حديث رواه الطبري عن حفصة قالت «قال رسول الله ﷺ لا يدخل النار أحد شهد بدرا والحديبية. قالت فقلت يا رسول الله أليس الله يقول وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها. فقال رسول الله أفلم تسمعيه يقول ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا» وهذا الحديث لم يرد في كتب الصحاح. وهناك أحاديث أخرى يوردها المفسرون من بابه لم ترد كذلك في هذه الكتب. وهناك قولان متناقضان معزوان إلى ابن عباس: واحد مؤيد للقول السابق، وواحد يفيد أن الخطاب في (منكم) للكفار ومنكري البعث. وأن المؤمنين لا يردون النار. وأورد بعض المفسرين اعتراضا على القول الأول بآية سورة الأنبياء هذه إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (١٠١) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (١٠٢) وأجابوا على الاعتراض بأن القصد يمكن أن يكون ذلك وهم في الجنة أو يمكن أن يكون القصد من ذلك أن
173
النار تكون عليهم حينما يردونها بردا وسلاما.
وهناك أحاديث عديدة نبوية تفيد أن الناس جميعهم يمرون على صراط فوق جهنّم يهوي فيها من يستحقها وينجو المتقون. من هذه الأحاديث ما لم يرد في كتب الصحاح ومنها الوارد في هذه الكتب. ومما ورد في هذه الكتب حديثان طويلان في الشفاعة، روى واحدا الشيخان عن أبي هريرة عن النبي ﷺ جاء فيه «ثمّ يضرب الصّراط بين ظهراني جهنّم فأكون أول من يجوز من الرسل بأمّته، ولا يتكلم أحد يومئذ إلا الرسل. وكلام الرسل اللهمّ سلّم اللهمّ سلّم» «١». وروى ثانيهما مسلم عن أبي هريرة عن النبي ﷺ جاء فيه «وترسل الأمانة والرحم فتقومان جنبي الصراط يمينا وشمالا فيمرّ أوّلكم كالبرق. ثم كمرّ الريح. ثم كمرّ الطير.
وتجري بالرجال أعمالهم، حتى تعجز أعمال العباد حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفا. قال وفي حافتي الصراط كلاليب معلّقة مأمورة تأخذ من أمر الله بأخذه. فمخدوش ناج ومكدوس في النار»
«٢».
ولقد صوب الطبري تأويل الورود في الآية بالمرور على الصراط فوق النار فيسقط الظالمون وينجو المتقون بناء على هذه الأحاديث.
والمستفاد من أحاديث الشفاعة المشار إليها أن الذين في قلوبهم إيمان لا يخلدون في النار إذا ارتكبوا آثاما. فهم يسقطون فيها عن الصراط ليقضوا مدة عذابهم ثم يخرجون إلى الجنة بشفاعة النبي ﷺ ولا يخلد في النار من الساقطين فيها إلا الكفار.
ومهما يكن من أمر فالإيمان واجب بما جاء في القرآن وبما صحّ عن النبي ﷺ من المشاهد الأخروية. مع تكرار القول أنها من المتشابهات التي يجب إيكال تأويلها إلى الله تعالى واستشفاف ما في ذكرها بالأسلوب الوارد من حكمة.
والملموح من الآيات والأحاديث أن من هذه الحكمة الترهيب للكفار والآثمين
(١) التاج ج ٥ ص ٣٤٢- ٣٥٠.
(٢) المصدر نفسه.
174
والترغيب للمؤمنين المتقين وحفز الأولين على الارعواء عن كفرهم آثامهم، والآخرين على الاستكثار من الأعمال الصالحة المنجية واجتناب الآثام.
ولسنا نرى هذا مانعا من القول بالنسبة للعبارة القرآنية ذاتها إن القول المعزو إلى ابن عباس بأنها خطاب للكفار لا يخلو من وجاهة. قد يؤيدها مجموع الآيات روحا ونصا. ولا سيما أن الآيات الثلاث الأخيرة قد جاءت بمثابة تعقيب استطرادي على الآيتين اللتين تحكيان قول الزعيم المشرك وتردان عليه. والله تعالى أعلم.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٧٣ الى ٧٤]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (٧٣) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (٧٤)
(١) النديّ: مجلس القوم ومجتمعهم.
(٢) أحسن أثاثا: أحسن متاعا.
(٣) رئيا: منظرا وهيئة وحالا.
في الآية الأولى حكاية لموقف آخر من مواقف الكفار حيث كانوا حينما تتلى عليهم آيات القرآن يبدون استكبارا وزهوا وخيلاء على المسلمين الذين كانت غالبيتهم ضعفاء وفقراء، ويسألونهم سؤال المعتدّ المزهوّ عن الأفضل مركزا، والأحسن حياة ومقاما ومجتمعا من الفريقين.
وقد ردت الآية الثانية ردّا إنذاريّا قويّا عليهم فلقد أهلك الله قبلهم كثيرا من الأمم والأجيال الذين كانوا أحسن منظرا وأكثر مالا ومتاعا منهم كأنما تريد أن تقول لهم إن الله الذي قدر على هؤلاء هو قادر عليكم وإن ما تتبجحون وتزهون به ليس برادّ عنكم قدر الله وعذابه.
والصلة ملموحة بين هذه الآيات وسابقاتها في حكاية موقف الكفار وأقوالهم وفي وحدة السبك والروي. ولم نطّلع على رواية تذكر مناسبة نزول هذه الآيات.
ونرجح مع ذلك أن الآية الأولى تحكي موقفا تجادل فيه بعض الكفار مع بعض المسلمين، فقال الكفار ما حكته الآية على سبيل التفاخر والتبجح وردت الثانية عليهم بردها القوي.
وواضح من هذا أن الكفار والمؤمنين في مكة كانوا يختلطون وكان يقع بينهم نتيجة لذلك مشادّات ومناظرات ومماحكات ومفاخرات متنوعة مما حكته آيات عديدة أخرى.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٧٥ الى ٧٦]
قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (٧٥) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (٧٦)
(١) فليمدد له الرحمن مدّا: فليتمتع في الحياة ما شاء الرحمن له أن يتمتع.
(٢) مردّا: عاقبة.
الآيات استمرار للسياق كما هو المتبادر. والمتبادر كذلك أن الآية الأولى احتوت ردّا آخر على تبجح الكفار المحكي عنهم في الآيات السابقة وتحديا حيث أمرت النبي ﷺ بأن يقول لهم على سبيل التحدي: ليمدد الله تعالى من كان منا ومنكم في الضلالة وليجعله يتمتع بما شاء له أن يتمتع، وحينما يحل وقت تحقيق وعيد الله للضالين بالعذاب الدنيوي أو الأخروي سيرون من هو شرّ مكانا ومنزلة ومن هو أضعف جندا وناصرا. وقد تكرر هذا المعنى في آيات عديدة منها آيات سورة سبأ هذه قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٢٥)
176
قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ
(٢٦). وواضح من روح الآية أنه انطوى في التحدي يقين بأن الكفار هم الضالون الذين سوف يكونون شرّا مكانا وأضعف جندا، وأن هذا هو ما أشعرهم به التحدي حيث ينطوي في ذلك تنديد وإنذار لاذعان. أما الآية الثانية فهي تعقيب على الأولى وتوكيد لما انطوى فيها. فالكفار هم الذين ارتكسوا في الضلالة، دون المؤمنين الذين يكونون موضع رحمة الله فيزدادون بإيمانهم بآيات الله المتجددة وبأعمالهم الصالحة المتجددة هدى على هدى.
وقد انطوت الفقرة الأخيرة منها على تحريض قوي على صالح الأعمال بأسلوب مطلق، كأنما تهتف بالناس جميعهم أن كل شيء إلى زوال إلا العمل الصالح، فهو الباقي كل البقاء النافع كل النفع. وفي هذا ما فيه من نداء وتلقين مستمري المدى.
تعليق على جملة وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ
ولقد روى المفسرون عن أهل التأويل من أصحاب رسول الله وتابعيهم أقوالا عديدة في مدى هذه الجملة «١». منها أنها في معنى الأعمال الصالحة وطاعة الله إطلاقا، ويدخل في ذلك الحج والصلاة والزكاة والجهاد إلخ. ومنها أنها في معنى الصلوات المكتوبة وحسب. ومنها أنها ذكر الله وتسبيحه وحمده. ورووا في صدد القول الأخير أحاديث عديدة منها الوارد في كتب الصحاح ومنها غير الوارد. فمن غير الوارد في هذه الكتب حديث عن أبي سعيد الخدري عن النبي ﷺ قال «استكثروا من الباقيات الصّالحات. قيل وما هي يا رسول الله قال التّكبير والتّهليل والتّسبيح والحمد ولا قوّة إلّا بالله» ومنها حديث عن عبد الرحمن بن عوف عن النبي ﷺ قال «إنّ قول لا إله إلّا الله والحمد لله وسبحان الله تحطّ الخطايا كما تحطّ ورق هذه الشّجرة الرّيح. خذهنّ يا أبا الدرداء قبل أن يحال بينك وبينهنّ. هنّ
(١) انظر تفسيرها وتفسير مثيلتها في سورة الكهف في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن.
177
الباقيات الصّالحات، وهنّ من كنوز الجنّة» «١» ومما ورد في كتب الصحاح حديث رواه الترمذي عن أبي هريرة عن النبي قال «أكثر من قول لا حول ولا قوّة إلّا بالله فإنّها كنز من كنوز الجنّة» «٢» وننبه على أن الأحاديث الواردة في كتب الصحاح لا تذكر الصيغ التي وردت فيها أنها الباقيات الصالحات أو هي منها.
ومهما يكن من أمر فإن الأسلوب المطلق الذي جاءت به الجملة يسوّغ القول إنها تعني كل عمل صالح مع القول إن تسبيح الله وحده وتكبيره من جملة ذلك.
ونقول من جهة أخرى إن المتبادر على ضوء الآيات والأحاديث أن الخطايا التي يمكن أن يكفرها التسبيح والتهليل وذكر الله هي التي تكون من نوع الهفوات واللمم دون الآثام والفواحش والكبائر والبغي. وهناك حديث رواه مسلم عن عثمان بن عفان قال «سمعت رسول الله ﷺ يقول ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلّا كانت كفّارة لما قبلها من الذّنوب ما لم يأت كبيرة». حيث يصح أن يكون ذلك ضابطا والله أعلم.
ويتبادر لنا كذلك أن من الحكمة المنطوية في الأحاديث النبوية جعل المؤمنين يكثرون من ذكر الله تعالى لما يؤدي ذلك إليه من مراقبتهم الله ووقوفهم عند حدود أوامره ونواهيه، وابتغائهم الوسيلة إلى رضائه. وفي ذلك ما فيه من أسباب الخير والفوائد الجليلة، والله تعالى أعلم.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٧٧ الى ٨٠]
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (٧٧) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٧٨) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (٧٩) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (٨٠)
(١) أطلع الغيب: هل اطلع على الغيب وعلم علمه.
(١) في كتب التفسير أحاديث أخرى من باب هذه الأحاديث.
(٢) التاج ج ٥ ص ٩٠ وهناك أحاديث أخرى في كتب الصحاح من باب هذا الحديث.
(٢) ونرثه ما يقول: نرث ما له من مال وولد لأنه سيهلك والله هو الباقي.
في الآيات صورة لموقف لأحد الكفار حيث قال بصيغة التأكيد إنه سيكون له المال والولد. فردت عليه متسائلة تساؤلا استنكاريّا عما إذا كان اطلع على الغيب أم أخذ من الله عهدا حتى يقول ما يقول ثم هتفت مكذّبة قوله بقوة وحسم، وقررت أن الله سيسجل عليه قوله ويجعل عذابه ممدودا غير منقطع. وسيهلك دون ماله وولده ويبقى الله تعالى. وسيأتي إليه يوم القيامة فردا مجردا من كل شيء.
ولقد روى الشيخان والترمذي حديثا جاء فيه «قال خبّاب كنت قينا بمكة- أي حدّاد أو صانع سيوف- فعملت للعاص بن وائل سيفا فجئت أتقاضاه فقال لا أعطيك حتى تكفر بمحمد فقلت والله لا أكفر حتى يميتك الله ثم يبعثك. قال فذرني حتى أموت ثم أبعث فسوف أوتى مالا وولدا فأقضيك فنزلت الآيات» «١».
والذي يتبادر لنا أن الآيات فصل مماثل للفصول السابقة. واستمرار للسياق بسبيل حكاية مواقف الكفار وأقوالهم والتنديد بهم والرد عليهم. ويجوز أن يكون الحادث المروي قد وقع قبل نزولها فشاءت حكمة التنزيل أن يشار إليه، وقد جاء التنديد قويّا مترافقا بإنذار شديد متناسب مع القول المنسوب إلى الكافر، وجاء بأسلوب مطلق ليكون التنديد والإنذار مستمري التوجيه إلى كل جاحد متمرد على ما هو المتبادر.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٨١ الى ٨٧]
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (٨١) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (٨٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (٨٣) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (٨٤) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (٨٥)
وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (٨٦) لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٨٧)
(١) التاج ج ٤ ص ١٥٦ وفي تفسير الطبري أحاديث أخرى من باب هذا الحديث بعضها يذكر العاص وبعضها يذكر رجالا من المشركين بدون أسماء.
179
(١) ضدّا: عدوا وشرّا وبلاء أو خلافا وعونا عليهم.
(٢) أزّا: الأزّ هو الإزعاج والهزّ أو الإغراء بشدة. والكلمة في الآية بمعنى أن الشياطين يجرّون الكفار إليهم جرّا ويحركونهم أو يسيّرونهم أو يغرونهم بشدة ليسقطوهم في الشرك والضلال.
(٣) إنما نعدّ لهم عدا: بمعنى إنما نمهلهم ونحصي عليهم أعمالهم.
(٤) وفدا: أوّلها المؤولون بمعنى ركبانا. والمتبادر أن القصد من التعبير هو أنهم يأتون إلى الله مكرمين كما تكون الوفود التي تفد على الملوك فتحاط بالعناية والترحيب.
في الآيات تقريع وتبكيت للكافرين وإنذار لهم وخطاب للنبي ﷺ بسبيل التثبيت والتطمين: فلقد اتخذ الكفار آلهة غير الله للانتصار والاعتزاز بهم ولكنهم سوف يتنصلون منهم وينكرون عبادتهم ويقفون منهم موقف الضد والعداء والخلاف والخذلان. ولقد كان من أمرهم أن اختاروا الكفر على الإيمان والشرك على التوحيد، فتركهم الله للشياطين يجرونهم بقوة إلى الارتكاس فيما يزينونه لهم من طرق الغواية والضلال. وليس من موجب للاستعجال في أمرهم فإذا كان الله تعالى لا يعجل بعذابهم فليس ذلك عن إهمال وإنما هو إمهال يحصي خلاله عليهم أنفاسهم وأعمالهم ليحاسبهم عليها في اليوم الذي يفد فيه المتقون على الله تعالى محاطين بالرعاية والتكريم بينما يساق المجرمون فيه إلى جهنم عطاشا متعبين، وتكون لهم المقام الذي ينزلون والمنهل الذي يردون ولن تنفع الشفاعة يومئذ، إلّا الذين عاهدوا الله من قبل على الإيمان والخضوع ووفوا بعهده.
والآيات غير منقطعة عن السياق السابق كما هو المتبادر، وإنما فيها انتقال من الخاص إلى العام. فالفصول السابقة حكت مواقف وأقوالا خاصة للكفار فأتبعت بهذه
180
الآيات وما بعدها استطرادا إلى موقفهم الأصلي الذي تفرعت عنه تلك المواقف والأقوال.
وفحوى الآيتين [٨١ و ٨٢] يدل على أن المقصود من الآلهة هم الملائكة الذين كان العرب يشركونهم مع الله ويتخذونهم شفعاء فيكونون يوم القيامة ضدهم وخاذلين لهم. وقد جاء هذا بصراحة في آيات سورة الفرقان [١٧- ١٩] التي سبق تفسيرها.
ولقد أورد الزمخشري في صدد (العهد) الذي يتخذه الإنسان عند الله الوارد في الآية [٨٧] حديثا عن ابن مسعود عن النبي ﷺ فيه صيغة دعاء وعهد يقطعه العبد لربّه بالطاعة والعبادة وطلب الرحمة، وفيه حثّ للمسلمين على تكرار الصيغة صبحا ومساء. والحديث ليس من الصحاح. والذي يتبادر لنا أن المقصود بالعهد هو كما قلنا في الشرح الإيمان بالله وحده وطاعته ومراقبته والتزام أوامره ونواهيه قولا وفعلا. وليس صيغة يكررها الإنسان ودعاء يدعو به. والله تعالى أعلم.
ولقد أورد ابن كثير في صدد وفادة المتقين على الله المذكورة في الآية [٨٥] حديثا عن علي بن أبي طالب عن النبي ﷺ يذكر حالات التكريم والعناية التي سوف يلقاها المتقون يوم القيامة عند ما يخرجون من قبورهم متجهين إلى الله ثم إلى الجنة. والحديث ليس من الصحاح. ومعنى التكريم على كل حال ملموح في العبارة القرآنية بالنسبة للمتقين حين وفادتهم على الله تعالى بعد البعث.
ومع واجب الإيمان بما جاء في الآيات [٨٥ و ٨٦] من مشهد أخروي في كيفية إحضار كل من المجرمين والمتقين، فالمتبادر أن من مقاصد ذلك بث الاغتباط في نفوس المتقين والخوف في نفوس المجرمين ليثبت الأول على تقواهم ويرعوي الآخرون عن إجرامهم.
تعليق على الآية أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (٨٣)
وقد أوّلنا الآية [٨٣] بما أوّلنا لأن ذلك هو المتسق مع روح الآيات ومضمونها. وقد قررت آيات سورة ص [٨٢- ٨٥] التي سبق تفسيرها، وآيات
181
عديدة أخرى أن الشياطين إنما يتسلطون على الغاوين الذين يستحبون الضلال على الهدى دون المخلصين.
وبهذا التأويل يتسق فحوى النصوص القرآنية ولا يبقى محل للتوهم فيها.
وهذا التأويل مؤيد بآيات عديدة أوردناها وشرحناها في مناسبات مماثلة. فالله لا يضل إلّا الظالمين والفاسقين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل، ويفسدون في الأرض، على ما جاء في آية سورة إبراهيم [٢٧] وآيات سورة البقرة [٢٦، ٢٧] وكثير مثلهما. وفي سورة الزخرف آيات مؤيدة أيضا، ذكر فيها تسليط الله الشيطان على الذين يعشون عن ذكر الله وحسب، وهي هذه وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (٣٦) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٧) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (٣٨) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٩) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٠).
وهذا فضلا عما في الآية من تقريع لاذع للكفار فيه إزالة للتوهّم. فهم إنما يقفون موقفهم بتأثير الشياطين الذين لا يتسلطون إلّا على أمثالهم من فاسدي النية والخلق.
وضمير المخاطب في الآية التي نحن في صددها والتالية لها عائد إلى النبي ﷺ على الأرجح بقصد تثبيته وتطمينه. فإذا كان الكفار يندفعون في طريق الغواية فإنما هم مساقون بيد الشياطين فلا موجب للاغتمام والاستعجال، وعليه أن يوطن النفس على الصبر قليلا، وإذا كان الله لم يعجل بعذابهم فليس ذلك إهمالا وغفلة وإنما هو إمهال. وفي هذا أيضا ينطوي تصويب للشرح الذي شرحناه.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٨٨ الى ٩٦]
وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (٨٨) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (٨٩) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (٩١) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (٩٢)
إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (٩٣) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (٩٤) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (٩٥) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (٩٦)
(١) إدّا: عظيما أو شديدا أو فظيعا أو منكرا.
(٢) يتفطرن: يتشققن ويتصدعن.
(٣) تخر: تسقط.
(٤) ودّا: محبة وبرّا.
في الآيات حكاية لعقيدة القائلين باتخاذ الله ولدا وحملة تكذيبية وتقريعية عليهم. فهذا القول منكر شديد تكاد السموات والأرض تنشقّ والجبال تنهدّ من فظاعته. لأن الله أجل وأعظم من أن ينسب إليه هذا النقص. فكل من في السموات والأرض هم عبيده الخاضعون له. قد أحاط بهم إحاطة شاملة. وسيردون عليه يوم القيامة أفرادا مجردين من كل قوة فيقضي فيهم بحكمه القضاء النافذ ويكون للمؤمنين الصالحين عنده البر والرحمة والرعاية.
وتعبير «وقالوا» يلهم أن القصد من القائلين هم العرب الذين هم موضوع الكلام في الفصل السابق وما سبقه من فصول. وقد حكت آيات قرآنية عديدة أن العرب كانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله على ما شرحناه في سياق سورة المدثر والنجم والفرقان.
وهكذا تكون الآيات استمرارا في السياق السابق وفصلا مماثلا للفصل السابق له مباشرة.
ومما ورد على البال أن يكون أريد بهذا الفصل أن يشمل في الحملة النصارى الذين اعتقدوا بنوّة المسيح لله تعالى عودا على بدء السورة حين ختامها بالإضافة إلى العرب. فإذا صح هذا ففيه صورة من صور النظم القرآني.
هذا، والمتبادر أن الآية الأخيرة بالإضافة إلى ما تضمنته من وعد رباني برعاية الذين آمنوا وعملوا الصالحات قد تضمنت قصد التنويه بهم وبث الاغتباط في نفوسهم ليستمروا ويزدادوا فيما هم عليه.
ولقد أورد ابن كثير حديثا أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال «قال النبي ﷺ إذا أحبّ الله عبدا نادى جبريل إنّي قد أحببت فلانا فأحبّه. فينادي في السّماء ثم ينزل له المحبة في أهل الأرض. فذلك قول الله عزّ وجلّ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (٩٦) ».
والحديث لم يرد في كتب الصحاح «١». وإذا صح فيكون فيه تطبيق لمدى الآية. ولا يخلّ بالشرح الذي شرحناه آنفا من كونها بسبيل التنويه بالرعاية التي تكون للمؤمنين الصالحين يوم القيامة وبسبيل بثّ الاغتباط في نفوسهم في الدنيا.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٩٧ الى ٩٨]
فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (٩٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (٩٨)
(١) يسرناه بلسانك: الضمير للقرآن ومعنى الجملة جعلناه ميسور الفهم لأننا أنزلناه بلغتك التي هي لغة المخاطبين به وهي العربية كما جاء في آيات عديدة أخرى.
(٢) لدّا: أشداء في الخصومة والعداء.
(٣) ركزا: الصوت الخفي. أو الهمس والنأمة.
هاتان الآيتان جاءتا معقبتين على السياق السابق جميعه وخاتمة قوية
(١) هناك حديث صحيح رواه الشيخان عن أبي هريرة فيه مماثلة لهذا الحديث مع بعض الزيادات. ولكنه لا يربط بين ما جاء فيه وبين الآية كما ربط ذلك حديث ابن أبي حاتم (انظر التاج ج ٥ ص ٧٢).
184
للسورة. وقد تجمعت في أولاهما أهداف الرسالة المحمدية في تقريرها أن القرآن إنما أنزل بلسان النبي العربي ليكون ميسور الفهم على الذين خوطبوا به لأول مرة وهم العرب، فيبشر الذين آمنوا واتقوا حتى يهنأوا ويطمئنوا، ولينذر الذين اتخذوا الخصومة والعناد والمكابرة ديدنا حتى يرتدعوا ويندمجوا في الرعيل المؤمن الصالح المتقي. وفي الآية على ما يتبادر معنى من معاني التسلية والتطمين للنبي ﷺ تكرر في آيات كثيرة، وهو أنه ليس مسؤولا عن الناس وهدايتهم وليس عليه إلّا التبشير والإنذار. أما الآية الثانية فقد أريد بها تذكير الكفار بأمثالهم الكثيرين من قبلهم الذين أهلكهم الله فلم يتحرك أحد منهم بحركة ولم ينبعث من أحد منهم صوت، كأنما أرادت الآية أن تقول إن هلاكهم كان شاملا جارفا. وتلهم روح الآية أن هذا لم يكن مجهولا عند السامعين.
والآية الأولى دليل من الأدلة القرآنية القاطعة على أن لغة القرآن هي لغة العرب الموجودين في عصر النبي ﷺ وأنها كانت مألوفة ومفهومة كل الإلفة والفهم من سوادهم الأعظم وهذا هو الذي يتسق مع مهمة الرسول التي تتناول خطاب جميع الطبقات والاتصال بهم.
185
Icon