تفسير سورة النّمل

معاني القرآن
تفسير سورة سورة النمل من كتاب معاني القرآن .
لمؤلفه الفراء . المتوفي سنة 207 هـ

ومن سورة النمل بسم الله الرحمن الرحيم :
قوله :﴿ تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ ١ ﴾ خَفْض ﴿ وكتابٍ مُبين ﴾ يريد : وآيات كتاب مبين، ولو قرئ ﴿ وكتابٌ مبينٌ ﴾ بالردّ على الآيات يريد : وذلك كتاب مبين. ولو كان نصباً على المدح كما يقال : مررت على رجل جميلٍ وطويلاً شَرْمَحا، فهذا وجه، والمدح مثل قوله :
إلى الملِك القَرْم وابنِ الهُمام وليْثَ الكَتيِبة في المزدَحَمْ
والمدح تُنصب معرفته ونكرته.
وقوله :﴿ هُدًى وَبُشْرَى٢ ﴾ رَفْع. وإن شئت نصبت. النَّصْبُ على القطع، والرفعُ على الاستئنافِ. ومثله في البقرة :﴿ هُدًى للمتَّقِين ﴾ في لقمان :﴿ هُدىً ورَحْمَةً لِلمُحْسِنِين ﴾ مثله.
وقوله :﴿ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ٧ ﴾
نوَّن عاصم والأعمش في الشهاب والقبس، وأضافه أهل المدينة :( بشهابِ قَبَسٍ ) وهو بمنزلة قوله :﴿ وَلَدَارُ الآخِرَةِ ﴾ مما يضاف إلى اسمه إذا اختلف أسماؤه.
وقوله :﴿ نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النارِ٨ ﴾ تجعل ( أَنْ ) في موضع نصب إذا أَضمرتَ اسم موسى في ﴿ نُودي ﴾ وإن لم تُضمر اسم موسى كانت ( أن ) في موضع رفع : نودىَ ذلكَ وفي حرف أُبَيّ :( أَنْ بُورِكتِ النارُ ) ﴿ وَمَنْ حَوْلَها ﴾ يعنى الملائكة. والعرب تقول : باركك الله وبارك فيك وبَارك عَليْك.
وقوله :﴿ إِنَّهُ أَنا اللَّهُ٩ ﴾ هذه الهاء هاء عِماد. وهو اسْم لا يظهر. وقد فسّر.
وقوله :﴿ كأنها جان ١٠ ﴾ الجان : الحية : التي ليست بالعظيمة ولا الصغيرة. وقوله :﴿ ولى مدبرا ولم يعقب ﴾ : لم يلتفت.
وقوله :﴿ إني لا يخاف لدي المرسلون ﴾.
ثم استثنى فقال :﴿ إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء ١١ ﴾ فهذا مغفور له. فيقول القائل. كيف صير خائفا ؟ قلت : في هذه وجهان : أحدهما أن تقول : إن الرسل معصومة مغفور لها آمنة يوم القيامة. ومن خلط عملا صالحا وآخر سيئا فهو يخاف ويرجو : فهذا وجه. والآخر أن تجعل الاستثناء من الذين تركوا في الكلمة ؛ لأن المعنى : لا يخاف المرسلون إنما الخوف على غيرهم.
ثم استثنى فقال : إلا من ظلم فإن هذا لا يخاف يقول : كان مشركا فتاب وعمل حسنا فذلك مغفور له ليس بخائف.
وقد قال بعض النحويين : إن ( إلا ) في اللغة بمنزلة الواو، وإنما معنى هذه الآية : لا يخاف لديّ المرسلون ولا من ظلم ثم بدل حسنا. وجعلوا مثله قول الله :( لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا ) أي ولا الذين ظلموا. ولم أجد العربية تحتمل ما قالوا، لأني لا أجيز قام الناس إلا عبد الله، وهو قائم، إنما الاستثناء أن يخرج الاسم الذي بعد إلا من معنى الأسماء قبل إلا. وقد أراه جائزا أن تقول : عليك ألف سوى ألف آخر، فإن وضعت ( إلا ) في هذا الموضع صلحت وكانت ( إلا ) في تأويل ما قالوا. فأما مجردة ١٣٥ ب قد استثنى قليلها من كثيرها فلا. ولكن مثله مما يكون في معنى إلا كمعنى الواو وليست بها.
قوله :﴿ خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك ﴾ هو في المعنى : إلا الذي شاء ربك من الزيادة. فلا تجعل إلا ( في منزلة ) الواو ولكن بمنزلة سوى. فإذا كانت سوى في موضع إلا صلحت بمعنى الواو، لأنك تقول : عندي مال كثير سوى هذا أي وهذا عندي : كأنك قلت : عندي مال كثير وهذا. وهو في سوى أنفذ منه في إلا لأنك قد تقول : عندي سوى هذا، ولا تقول : إلا هذا.
وقوله :﴿ واضْمُم يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ١٢ ﴾
معناه : افعل هذا فهي آية في تسع. ثم قال ﴿ إِلَى فِرْعَوْنَ ﴾ ولم يقل : مرسل ولا مبعوث لأنَّ شأنه مَعروف أنه مبعوث إلى فرعون. وقد قال الشاعر :
رأتني بحبليها فصَدَّت مخافةً وفي الحبل رَوْعاء الفؤاد فَرُوق
أراد : رأتني أقبلت بحبليها : بحبلي الناقة فأضمر فعلاً، كأنه قال : رأتني مقبلاً.
وقوله ﴿ وَإلَى ثَمودَ أَخَاهُمْ صَالحا ﴾ نَصْب بإضمار ﴿ أرسلنا ﴾.
وقوله :﴿ وَجَحَدُواْ بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنفُسُهُمْ ظُلْما وَعُلُوّاً١٤ ﴾
يقول : جحدوا بالآيات التسع بعدما استيقنتها أنفسهم أنها من عند الله، ظلما وعُلُوّاً. وفي قراءة عَبْدِ الله ( ظلما علياً ) مثل قوله :﴿ وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكِبَر عُتيّاً ﴾ وَ﴿ عِتِيّا ﴾.
وقوله :﴿ وَوَرِثَ سُلَيْمانُ دَاوُودَ١٦ ﴾ كان لداوود - فيما ذكروا - تسعة عشر ولداً ذكراً، وإنما خُصّ سُليمان بالوراثة ؛ لأنها وراثة المُلْك.
وقوله ﴿ عُلِّمْنا مَنطِقَ الطَّيْرِ ﴾ : مَعنى كلام الطير، فجعَله كمنطق الرجل إذ فُهم، وقد قال الشاعر :
عجبت لَها أنَّى يكُون غِناؤها رَفيعاً ولم تَفتح بمنطقها فما
فجعله الشاعر كالكلام لما ذهب به إلى أنها تبكى.
وقوله :﴿ وَحُشِرَ لِسْلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْس وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ١٧ ﴾
كانت هذه الأصْناف مع سُلَيمانَ إذا ركبَ ﴿ فَهُمْ يُوزَعُونَ ﴾ يُردّ أوَّلهم على آخرهم حتّى يجتمعوا. وهي من وَزَعت الرجل، تقول : لأزَعنَّكم عن الظلم فهذا من ذلكَ.
وَأما وقوله :﴿ أَوْزِعْنِي١٩ ﴾ فمعناه : ألهمني.
وقوله :﴿ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ٢٢ ﴾ قرأها الناس بالضمّ، وقرأها عاصم بالفتح : فَمَكَثَ. وهي في قراءة عبد الله ( فتمكَّث ) ومعنى ﴿ غَيْرَ بَعِيدٍ ﴾ غير طويل من الإقامة. والبعيد والطويل مقاربان.
وقوله ﴿ فَقَالَ أَحَطتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ ﴾ قال بعض العرب : أحَطُّ فأدخل الطاء مكانَ التّاء. والعربُ إذا لقيت الطاء التاء فسكنت الطاء قبلها صيَّروا الطاء تاء، فيقولون : أَحَتُّ، كما يحوّلونَ الظاء تَاء في قوله ﴿ أَوَعَتَّ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الواعِظِينَ ﴾ والذالَ والدال تاء مثل ﴿ أَخَتُّمْ ﴾ ورأيتُها في بعض مصاحف عبد الله ( وأَخَتُّمْ ) ومن العرب من يُحَول التاء إذا كانت بعد الطاء طاء فيقول : أَحَط.
وقوله ﴿ وجئْتُكَ مِنْ سبَأ بِنَبإٍ يَقِينٍ ﴾ القراء على إجرَاء ﴿ سَبأ ﴾ لأنه - فيما ذكروا - رجل وكذلك فأَجْرِه إن كان اسما لجبل. ولم يُجْرِهِ أبو عمرو بنُ العلاء. وزعم الرؤامسيّ أنه سأل أبا عمرو عنه فقال : ليس أدرى ما هو. وقد ذهب مذهباً إذ لم يَدْر ما هو ؛ لأنَّ العرب إذا سمَّتْ بالاسم المجهول تركوا إجراءه كما قال الأعشى :
وتدفنُ منه الصَّالحاتُ وإن يُسئْ يكن ما أساء النارَ في رأس كَبْكَبا
١٣٦ ا فكأنه جهل الكبكَب. وسَمعت أبا السَفّاح السَّلولىَ يقول : هذا أبو صُعْرورَ قد جاء، فلم يجره لأنه ليس من عادتهم في التسميَة.
قال الفرّاء : الصُعرور شبيه بالصَمْغ.
وقال الشاعر في إجْرائه :
الواردون وتيم في ذُرَا سَبَأٍ قد عضّ أعْناقَهم جلدُ الجواميسِ
ولو جَعلته اسما للقبيلة أن كانَ رجلا أو جعَلته اسما لما حَوله إن كان جبلاً لم تُجرِه أيضاً.
وقوله :﴿ أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ٢٥ ﴾ تقرأ ﴿ أَلاَّ يَسْجُدُواْ ﴾ ويكون ﴿ يَسجْدوا ﴾ في موضع نصب، كذلك قرأها حمزة. وقرأها أبو عبد الرحمن السُّلمى والحسن وحُميد الأعرج مخفّفة ( ألاَ يَسْجُدُوا ) على معنى أَلاَ يا هؤلاء اسْجُدُوا فيضمر هؤلاء، ويكتفي منها بقوله ( يا ) قال : وسَمعت بعض العرب يقول : أَلاَ يا ارحمانا، أَلاَ يا تصدَّقا علينا قال : يعنيني وزميلي.
وقال الشاعر - وهو الأخطل -
أَلاَ يا اسلمى يا هند هندَ بنى بَدْر وإن كان حَيَّانا عِدىً آخِر الدهر
حدثنا أبو العباس قال حدثنا محمد قال حدثنا الفراء قال حدثني بعض المشيخة - وهو الكسائي - عن عيسَى الهَمْداني قال : ما كنت أسْمع المشيخة يقرءونها إلاّ بالتخفيف على نيّة الأمر. وهي في قراءة عبد الله ( هَلاّ تسجدونَ لله ) بالتاء فهذه حُجّة لمنْ خفّف. وفي قراءة أُبَيَّ ( أَلاَ تسجدونَ لله الذي يعلم سِرَّكم وما تَعلِنُون ) وهو وجه الكلام لأنها سَجدة ومن قرأ ﴿ أَلاَّ يَسْجُدُوا ﴾ فشدَّد فَلاَ ينبغي لها أن تكون سَجدة ؛ لأن المَعْنَى : زين لهم الشيطان أَلاَّ يَسْجُدُوا والله أعلم بذلكَ.
وقوله ﴿ يُخْرِجُ الْخَبْءَ ﴾ مهموز. وهو الغيب غيبُ السَّموات وغيب الأرض. ويقال : هو الماء الذي يَنزل منَ السَّماء والنبت من الأرض وهي في قراءة عبد الله ( يخرج الخَبْءَ منَ السَّمواتِ ) وصلحت ( في ) مكان ( من ) لأنك تقول : لأستخرجنّ العِلم الذي فيكم منكم، ثم تحذف أيَّهما شئت أعنى ( من ) وَ ( في ) فيكونُ المعْنى قائما على حالِهِ.
وقوله :﴿ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ٢٨ ﴾ يقول القائل : كيف أمره أن يتولَّى عنهم وَقَدْ قَالَ ﴿ فانْظُرْ ماذَا يَرْجِعُونَ ﴾ وذلك في العربيَّة بيّن أنه استحثّه فَقَالَ : اذهبْ بكتابي هَذَا وعجِّل ثم أُخّر ﴿ فانظر ماذا يَرجعونَ ﴾ ومعناها التقديم. ويقال : إنه أمر الهدهد أن يُلقى الكتاب ثم يتوارى عنها ففعَل : ألقى الكتاب وطار إلى كُوَّة في مجلسها. والله أعلم بصواب ذلك.
وقوله :﴿ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ٢٩ ﴾ جَعلته كريما لأنه كانَ مختوما. كذلك حُدّثت. ويقال : وَصفت الكتاب بالكرم لقومها لأنها رأت كتاب مَلِكٍ عندها فجعلته كريما لكرم صاحِبه. ويقال : إنها قَالَتْ ( كريم ) قبل أن تعلم أنه من سُليمانَ. وَما يعجبني ذلكَ لأنها كانت قارئةً قد قرأت الكتاب قبل أن تخرج إلى ملئها.
وقوله :﴿ إِنَّهُ مِن سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمانِ الرَّحِيمِ٣٠ ﴾ مكسورتان أعنى إنّ وإنّ. ولو فُتحتا جميعاً كان جائزاً، على قولك : أُلقى إلَىّ أَنه مِن سليمان وأنّه بسم الله الرحمن الرحيم فموضعهما رفع على التكرير على الكتاب : ألقى إلىَّ أنه من سليمان وإن شئت كانتا في موضع نصب لسقوط الخافض منهما. وهي في قراءة أُبَىّ ( وأَنْ بِسمِ الله الرحمن الرحيم ) ففي ذلك حُجَّة لمن فتحهما ؛ لأنَّ ( أَن ) إذا فُتحت ألفُها مع الفعل أو ما يُحكى لم تكن إلاّ مخفّفة النون.
وقوله :﴿ أَلاَّ تَعْلُواْ٣١ ﴾ فألِفها مفتوحة لا يجوز كسرها. وهي في موضع رَفع إذا كررتها على ﴿ أُلْقِي ﴾ ونصب على : ألقِى إلىّ الكتاب بذا، وألقيت البَاء فنصبتَ. وهي في قراءة عبد الله ( وإنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ) فهذا يدلّ على الكسر ؛ لأنها معطوفة على : إني ألقى إلىّ وإنه من سليمان. ويكون في قراءة أُبَىّ أن تجعل ( أَن ) التي في بسم الله الرحمن الرحيم هي ( أن ) التي في قوله ﴿ أن لا تعلوا عليّ ﴾ كأنها في المعْنى. ألقِى إلىّ أن لا تعلوا عليّ. فلما وُضعت في ( بسمِ الله ) كُرِّرت على مَوْضعها في ﴿ أن لا تعلوا ﴾ كما قال الله ﴿ أَيَعِدُكُمْ أَنّكُمْ إذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَاباً وعِظَاما أَنَّكُمْ ﴾ فأنكم مكررة ومعناها واحد والله أعلم. ألا ترى أن المعنى : أيعدكم أنكم مخرجون إذا كنتم تراباً وعظاما.
وقوله :﴿ يا أَيُّها الْمَلأُ أَفْتُونِي٣٢ ﴾ جَعلت المشورة فُتْيا. وذلك جائز لسعةِ العربية.
وقوله ﴿ ما كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً ﴾ وفي قراءة عبد الله ( ما كنتُ قاضيةً أمراً ) والمعنى واحدْ تقول لا أقطع أمراً دونكَ، ولا أقضى أمراً دونك.
وقوله :﴿ قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً٣٤ ﴾ جواب لقولهم ﴿ نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وأولُو بأسٍ شَدِيدٍ ﴾ فقالت : إنهم إن دخلوا بلادكم أذلوكم وأنتم ملوك. فقال الله ﴿ وَكَذلك يَفْعَلُونَ ﴾.
وقوله :﴿ وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ٣٥ ﴾
نقصت الألف من قوله ( بم ) لأنها في معنى بأي شيء يرجع المرسلون وإذا كانت ( ما ) في موضع ( أي ) ثم وصلت بحرفٍ خافضٍ نُقصت الألف من ( ما ) ليعرف الاستفهام من الخبر. ومن ذلك قوله :﴿ فِيمَ كُنْتم ﴾ و ﴿ عَمَّ يتساءلُونَ ﴾ وإن أتممتها فصواب. وأنشدني المفضّل :
إنا قتلنا بقتلانا سَرَاتكم أهلَ اللوَاء ففيما يكثر القِيلُ
وأنشدني المفضَّل أيضاً :
على ما قام يشتمنا لَئِيمٌ كخنزير تمرَّغ في رمادِ
وقوله :﴿ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ ﴾ وهي تعنى سليمان كقوله ﴿ على خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهمْ ﴾ وَقَالَتْ ﴿ بِمَ يَرْجِعُ المُرْسَلُونَ ﴾ وكان رسولها - فيما ذكروا - امرأةً واحدةٍ فجمعَتْ وإنما هو رسول، لذلكَ قالَ ﴿ فلما جَاء سُلَيْمانَ ﴾ يريد : فلما جاء الرسولُ سليمانَ، وهي في قراءة عبد الله ( فلما جَاءوا سليمان ) لما قال ﴿ المرسَلونَ ﴾ صَلح ﴿ جَاءوا ﴾ وصلح ﴿ جاء ﴾ لأن المرسَل كان واحداً. يدلّ على ذلكَ قول سليمان ﴿ ارْجِعْ إليْهِمْ ﴾.
وقوله :﴿ أَتُمِدُّونَنِي بِمالٍ٣٦ ﴾ هي في قراءة عَبد الله بنونين وبَاء مثبتة. وقرأها حمزة. ( أَتُمِدُّونّي بمالٍ ) يريد قراءة عَبد الله فأدغم النونَ في النونِ فَشَدَّدَها. وقرأ عاصم بن أبى النّجُود ( أَتُمِدُّونَنِ بمالٍ ) بنونين بغير يَاء. وكل صوابٌ.
وقوله :﴿ فَما آتَانِيَ اللَّهُ ﴾ ولم يقل ﴿ فما آتانِيَ الله ﴾ لأنها محذوفةُ اليَاء من الكتاب. فمَنْ كانَ ممّن يَسْتجيز الزيادَة في القرآن. من الياء والواو اللاتي يحذفنَ مثل قوله ﴿ وَيَدْعُ الإنْسَان بالشَّرِّ ﴾ فيثبتُ الواو وليست في المصحف، أو يقول المنادى للمناد جَاز له أن يقول في ﴿ أتمدُّونَنِ ﴾ بإثبات اليَاء، وجاز له أن يُحّركها إلى ١٣٧ ا النصب كما قيل ﴿ وَمالِي لاَ أَعْبُدُ ﴾ فكذلك يجوز ﴿ فَما آتانِي الله ﴾ ولست أشتهي ذلكَ ولا آخذ به. اتّباعُ المصحف إذا وجدتُ له وجها من كلام العرب وقراءةِ القرّاء أحَبُّ إلىّ من خلافه. وقد كان أبو عَمْرٍو ويقرأ ( إنَّ هَذَيْنِ لسَاحِرَان ) ولست أجترئ على ذلك وقرأ ﴿ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُونَ ﴾ فزاد واواً في الكتاب. ولسْتُ أَسْتحبُّ ذلك.
وقوله :﴿ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ٣٧ ﴾ هذا من قول سليمان لرسولها، يعنى بِلقيسَ. وفي قراءة عبد الله ( ارجعوا إليهم ) وهو صَوَاب على ما فسّرت لك منْ قوله ﴿ يا أيُّها النَّبيّ إذا طلَّقْتُمُ النِّسَاء ﴾ من الذهاب بالواحد إلى الذينَ مَعَه، في كثير من الكلام.
وقوله :﴿ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِها٣٧ ﴾ وهي في مُصْحف عبد الله ( لَهُمْ بهم ) وهو سَواء.
وقوله :﴿ عِفْرِيتٌ مِّن الْجِنِّ أَنا آتِيكَ بِهِ٣٩ ﴾ والعِفريت : القويّ النافذ. ومن العرب من يقول للعفريت : عِفْرِية. فمن قال : عِفْرِية قال في جمعه : عَفَارٍ. ومنْ قَالَ : عِفريت قال : عفاريت وَجَاز أن يقول : عَفارٍ وفي إحدى القراءتين ( وَما أُهِلَّ بِهِ للطواغِي ) يريد جمع الطاغوت. وقوله ﴿ أَنا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ ﴾ يعني أن يقوم من مجلس القضَاء. وكان يجلس إلى نصف النهار. فقال : أريد أعجل ( من ذلك ).
وقوله :﴿ قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ٤٠ ﴾
يقول : قبل أن يأتيكَ الشيء من مدّ بصرك فقال ابن عباسٍ في قوله ( عِنْدهُ عِلْمٌ مِنَ الكتاب ) ﴿ يا حَيُّ يا قيُّوم ﴾ فذُكر أنّ عرشها غار في موضعه ثم نَبَع عند مجلس سليمان.
وأما قوله :﴿ نَكِّرُواْ لَها عَرْشَها٤١ ﴾ فإنه أمرهم بتوسعته ليمتحِنَ عقلها إذا جاءتْ. وكان الشياطين قد خافت أن يتزوَّجَها سليمان فقالوا : إن في عقلها شَيئاً، وإن رِجْلها كرجل الحمارِ : فأمر سليمان بتغيير العرش لذلكَ، وأمر بالماء فأَجرى من تحت الصَّرْح وفيه السمك. فلما جاءت قِيل لها ( أَهَكَذَا عَرْشُكِ ) فعرفت وأنكرت. فلم تقل، هو هو، ولا ليْسَ به. فقالتْ ( كَأنَّه هُوَ ) ثم رفعت ثوبَها عن سَاقيها، وظنَّت أنها تسلُك لُجَّة، والُّلجَّة : الماء الكثير فنظر إلى أحسن سَاقين ورجلين : وفي قراءة عبد الله ( وَكَشَفَ عَنْ رِجْليها ).
وقوله :﴿ وَصَدَّها ما كَانَت تَّعْبُدُ٤٣ ﴾ يَقولُ : هي عاقلة وإنما صَدها عن عبادة الله عبادة الشمس والقمر. وكان عَادة مِن دين آبائها، معنى الكلام : صدّها من أن تعبد الله ما كانت تعبدُ أي عبادتها الشمس والقمر. و ( ما ) في موضع رَفعٍ. وقد قبلَ :﴿ إن صدَّها ﴾ منعَها سليمان ما كانت تعبد. موضع ( ما ) نصب لأن الفعل لسليمان. وقال بعضهم : الفعل لله تعالى : صَدَّها الله ما كانت تعبد.
وقوله :﴿ إِنَّها كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ ﴾ كُسرت الألف على الاستِئناف. ولو قرأ قارئ ﴿ أنَّها ﴾ يردّهُ على موضع ( ما ) في رفعِهِ : صَدَّها عن عبادة الله أنَّها كانت من قومٍ كافرينَ. وهو كقولك : منعني من زيَارتك ما كنتُ فيه من الشُغُل : أنّى كنت أغدُو وأروح. فأنَّ مفسَّرة لمعنى ما كنت فيه من الشَغُل.
وقوله :﴿ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ٤٥ ﴾ ومعنى ﴿ يختصمُونَ ﴾ مختلفون : مؤمن ومُكذِّب.
وقوله :﴿ قَالَ طَائرُكُمْ عِندَ اللَّهِ٤٧ ﴾ يقول : في اللوح المحفوظِ عند الله. تشاءمون بي وتَطَيَّرُونَ بي، وذلك كلّه من عند الله. وهو بمنزلة قوله ﴿ قالوا طَائرُكُمْ مَعَكُمْ ﴾ أي لازم لكم ما كانَ منْ خَيرٍ أو شرٍّ فهو في رقابكم لازم. وقد بيَّنَه في قوله ﴿ وَكُلَّ إنْسَانٍ ألْزَمْناهُ طَائرَهُ في عُنُقِهِ ﴾.
وقوله :﴿ قَالُواْ تَقَاسَمُواْ بِاللَّهِ٤٩ ﴾ وهي في قراءة عبد الله ( تقاسَمُوا بالله ) ليسَ فيها ﴿ قالوا ﴾. وقوله :﴿ لَنُبَيِّتَنَّهُ ﴾ التاء والنون واليَاء كُلّ قد قُرئ به فمن قال ﴿ تقاسموا ﴾ فجعل ﴿ تقاسموا ﴾ خبراً فكأنه قال : متقاسمينَ :﴿ لَنُبَيِّتَنَّهُ ﴾ بالنون. ثم يجوز اليَاء على هَذَا المعنَى فتقول : قالوا ﴿ ليبيتُنَّه ﴾ بالياء، كما تقول : لَنَقومَنَّ ولَيَقُومُنَّ. ومن قال : تقاسَمُوا فجعَلها في موضع جَزْمٍ فكأنه قال : تحالفوا وأقسِمُوا لتبيّتُنه بالتاء والنونُ تَجُوز من هذا الوجه لأن الذي قال لهم تقاسَمُوا معهم في الفعل داخل، وإن كان قد أمرهم ؛ ألا ترى أنك تقول : قومُوا نذهبْ إلى فلان، لأنه أمرهم وهو معهم في الفعل. فالنون أعجبُ الوجوه إلىَّ، وإنّ الكسائي يقرأ بالتاء، والعوامّ على النون. وهي في قراءة عبد الله ( تقاسَمُوا ) ( ثم لنُقْسِمَنًّ ما شهِدْنا مَهْلك أهله ) وقد قال الله ﴿ تَعَالَوا نَدْعُ أَبْناءنا وأبْناءكُمْ ﴾ لأنهم دَعَوهم ليفعوا جميعاً ما دَعَوا إِليه. وقرأها أهل المدينة وعَاصم والحسن بالنون، وَأَصْحاب عبد الله بالتّاء. حدثنا أبو العباس قال حدثنا محمد قال حدثنا الفَراء قال حدَّثني سفيان ابن عُيَيْنَة عن حُمَيد الأعرج عن مجاهد أنه قرأ ( ليُبَيِّتُنَّه ) باليَاء.
وقوله :﴿ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنا دَمَّرْناهُمْ٥١ ﴾
تقرأ بالكسر على الاستئناف مثل قوله :﴿ فَلْيَنْظُرِ الإنسانُ إلَى طَعَامِهِ أنا صَبَبْنا الماء ﴾ يَستَأنف وهو يفسّر به ما قبله وإن ردّه على إعراب ما قبله قال ( أَنا ) بالفتح فتكون ( أَنا ) في مَوْضع رفع، تجعلها تابعة للعاقبة. وإن شئت جَعَلتها نصباً من جهتين : إحداهما أن تردَّها في موضع ( كيف ) والأخرى أن تَكُرَّ ( كان ) كأنّك قلت : كان عاقبة مكرهم تدميرنا إيَّاهم. وإن شئت جَعَلتها كلمةً واحدةً فجعلت ( أَنا ) في موضع نصبٍ كأنك قلت : فانظر كيف كَانَ عَاقبة مكرهم تدميرنا إياهم. وقوله :﴿ وأنتم تبصرونَ تعلمون أَن فاحشة ﴾.
وقوله :﴿ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلاَمٌ على عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى٥٩ ﴾
قيل للوط :﴿ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ﴾ على هَلاك مَن هلك ﴿ وَسَلاَمٌ على عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى ﴾ ﴿ آللَّهُ خَيْرٌ أَم ما يُشْرِكُونَ ﴾ يقول : أعِبادةُ الله خير أم عبادة الأصنام.
وقوله :﴿ فَأَنبَتْنا بِهِ حَدَائقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ٦٠ ﴾
فقال :﴿ ذاتَ ﴾ ولم يقل : ذوات وكلّ صواب. وإنما جَاز أن يقول ﴿ ذات ﴾ للحدائق وهي جمع لأنك تقول، هذه حَدَائق كما تقول : هذه حديقة. ومثله قول الله ﴿ وَلِلّهِ الأسْماء الحُسْنَى ﴾ ولم يقل الحسُنَ و( والقُرون الأولَى ) ولو كانت حدائق ذوات بهجة كان صوابا. وقال الأعشى في توحيدها :
فسوف يُعقبُنيهِ إن ظفرتَ به ربٌّ غفورٌ وبِيض ذات أطهار
ولم يقل : ذوات أطهار. وإنما يقال : حديقة لكل بستان عليه حائط. فما لم يكن عليْه حائط لم يُقَل له : حديقة.
وقوله :﴿ أَإله مَّعَ اللَّهِ ﴾ مردود على قوله ﴿ أَمْ مَنْ خَلَق ﴾ كذَا وكذا. ثم قال ﴿ أَإله مَّعَ اللَّهِ ﴾ خَلَقه. وإن شئت جعلت رفعه بمع ؛ كقولك : أمع الله ويلكم إله ! ولو جاء نصباً أَإِلها مع الله على أن تضمر فعلاً يكون به النصب كقولك : أتجعلون إلها مع الله، أو أتتَّخذونَ إلها مع الله.
والعرب تقول : أثعلباً وتفرّ كأنهم أرَادوا : أتُرَى ثعلباً وتفِرّ. وقال بعض الشعراء :
أَعبداً حلَّ في شُعَبى غريباً أَلُؤْما لا أبالكَ واغترابَا
يريد : أتجمع اللؤم والاغتراب. وسَمعت بعض العرب لأسير أسَرَهُ ليْلاً، فَلَما ١٣٨ ا أصْبح رَآه أسود، فقال أعبداً سَائر الليلة، كأنه قال : ألاَ أُراني أسَرْت عبداً منذ ليلتي. وقال آخر :
أجَخْفا تميميّاً إذا فتنة خَبَتْ وجُبْنا إذا ما المشرفيّة سُلَّت
فهذا في كل تعجُّب خاطَبُوا صاحبه، فإذا كَان يتعجّب من شيء ويخاطب غيره أَعملوا الفعل فقالُوا : أثعلب ورجل يفرّ منه، لأن هذا خطاب لغير صَاحب الثعلب. ولو نصب على قوله أيفر رَجُل من ثعلبٍ فتجعل العطف كأنه السَّابق. يُبْنَى على هذا. وسمعت بعض بنى عُقَيل ينشد لمجنون بنى عامر :
أألبرقَ أم نارا لليلى بدت لنا بمُنْخَرقٍ من سَارياتِ الجنائبِ
وأنشدني فيها :
بل البرقَ يبدو في ذَرَى دَفَئيَّة يضيء نَشَاصاً مشمخرّ الغَوارب
وأنشدني فيها :
ولو نار ليلى بالشريف بدت لنا لحبت إلينا نار من لم يصاقب
فنصب كل هذا وَمعه فعله على إضمار فعل منه، كأنه قَالَ : أأرى ناراً بل أرى البرق. وكأنه قَالَ : ولو رأيتُ نار ليلى. وكذلك الآيتان الأُخريَان في قوله ﴿ أَإله مَّعَ اللَّهِ ﴾.
وقوله :﴿ قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّماواتِ والأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ٦٥ ﴾
رفَعت ما بعد ( إلاّ ) لأن في الذي قبلَها جحداً وهو مرفوع. ولو نصب كان صَوَاباً. وفي إحدى القراءتين ﴿ ما فعَلوهُ إلا قليلاً منهم ﴾ بالنصب. وفي قراءتنا بالرَّفع. وكلّ صَوَاب، هَذا إذا كان الجحد الذي قبل إلا مع أسماء معرفة فإذا كانَ مع نكرة لم يقولوا إلا الاتباع لما قبل ( إلاّ ) فيقولون : ما ذهب أحد إلاّ أبوكَ، ولا يقولُونَ : إلا أباكَ. وذلكَ أن الأب خَلَفَ من أحَدٍ ؛ لأن ذا واحِدٌ وذا واحد فآثروا الإتباع، والمسْأَلة الأولى ما قبل ( إلاَّ ) جمع وَما بعد ( إلاّ ) وَاحد منه أو بعضه، وليسَ بكلّه.
وقوله :﴿ بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ٦٦ ﴾ معناه : لعَلَّهم تدارك علمهُم. يقول : تتابَعَ علمهم في الآخرة. يريد : بعلم الآخرة أنها تكون أوْ لاَ تكون، لذلكَ قال ﴿ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْها بَلْ هُم مِّنْها عَمُونَ ﴾ وهي في قراءة أُبَىّ ( أَمْ تداركَ عِلمُهُم في الآخرة ) بأَمْ. والعرب تجعل ( بل ) مكانَ ( أم ) و ( أم ) مكان ( بل ) إذا كان في أوَّل الكلام استفهام، مثل قول الشاعر :
فوالله ما أجرِى أسَلْمَى تَغَوَّلتْ أم النومُ أم كلّ إلى حَبِيبُ
فمعناهن : بل. وقد اختلف القراء في ﴿ ادّارك ﴾ فقرأ يحيى والحسَن وشَيبْة ونافع ( بل ادَّاركَ ) وقرأ مجاهد أبو جعفر المدني ( بَلْ أَدْرَكَ عِلْمُهُمْ في الآخِرة ) من أدركت وَمَعناه، كأنه قال : هل أدرك علمهم علم الآخرة. وبلغني عن ابن عبّاس أنه قرأ ( بَلَى أَدَّارك ) يستفهم ويشدّد الدال ويجعَل في ( بلى ) ياء. وهو وجه جيّد ؛ لأنه أشبه بالاسْتهزاء بأهْل الجحد كقولك للرَّجُل تكذّبه : بَلَى لعمرى لقد أدركْت السَلَف فأنت تروِى ما لا نروى وأنت تكذّبه.
وقر :﴿ أَئنا لَمُخْرَجُونَ٦٧ ﴾ و ﴿ إنَّنا ﴾ وهي في مصَاحف أهْل الشام ﴿ إنَّنا ﴾.
وقوله :﴿ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ٧٢ ﴾
جَاء في التفسير : دنا لكم بَعْضُ الذي تستعجلونَ، فكأن اللام دخلت إذْ كانَ المعنى دنا ؛ كما قال الشاعر :
١٣٨ ا فقلت لها الحاجَاتُ يطرحن بالفتى وهمٌّ تعَناني مُعَنّىً ركائبُهُ
فأدخل الباء في الفتى ؛ لأن معنى ﴿ يَطرحن ﴾ يرمين، وأنت تقول : رَميت بالشيء وطرحته، وتكون اللام داخلةً : والمعنى ردفكم كما قال بعض العرب : نفذت لها مائة وهو يريد : نفذتُها مائة.
وقوله :﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ على بَنِي إِسْرَائيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ٧٦ ﴾
وذلك أن بني اسرائيل اختلفوا حَتى لَعَنَ بعضهم بعضاً، فقال الله : إنّ هذا القرآن ليقصّ عليهم الهدى مما اختلفُوا فيه لو أَخَذوا به.
وقوله :﴿ وَما أَنتَ بِهادِي الْعُمْي عَن ضَلالَتِهِمْ٨١ ﴾
لو قلت بهادٍ العمىَ كان صَوَاباً. وقرَأ حمزة ( وما أنتَ تَهْدِي العُمْي عَن ضَلاَلتِهم ) لأنها في قراءة عبد الله ( وما إن تهدي العمي ) وهما جحدان اجتمعا كما قال الشاعر – وهو دَُرَيد بن الصِّمَّة - :
ما إن رَأيْتُ ولا سَمعتُ به كاليوم طالِي أينْقُ جُرْبِ
وقوله :﴿ وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم٨٢ ﴾
معناه إذا وجب السَّخَطُ عليهم هو كقوله ﴿ حَقَّ عليهم القَوْلُ ﴾ في موضع آخر. وقوله ﴿ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَآبَّةً مِّنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ ﴾ اجتمع القراء على تشديد ﴿ تكلّمهم ﴾ وهو من الكلام. وحدثني بعض المحدِّثينَ أنه قال ﴿ تُكَلِّمُهُمْ ﴾ و ﴿ تَكْلِمُهم ﴾ وقوله ( أَنَّ الناسَ ) تفتح وتكسر. فمن فتحَها أوقع عليها الكلام :﴿ تُكَلِّمُهُمْ بأَنَّ الناسَ ﴾. وموضعها نصب. وفي حرف عبد الله ﴿ بأن الناس ﴾ وفي حرف أُبَىّ ( تُنَبِّئهم أنّ الناسَ ) وهَما حُجَّة لمنْ فتح وأهل المديَنة ﴿ تُكَلِّمُهُمْ إِنَّ الناسَ ﴾ فتكون ( إنَّ ) خبراً مسْتأنفاً ولكنه معْنى وُقوع الكلام. ومثله ﴿ فَلْيَنْظُرِ الإنْسانُ إلى طعَامِهِ ﴾ من قال ( أَنا ) جَعَله مخفوضاً مردوداً على الطعَام إلى أَنا صَببنا الماء وَمَن كسره قال : إِنا أخبر بسبب الطعام كيف قدَّره الله.
وقوله :﴿ وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ٨٧ ﴾ ولم يقل فيفزعُ، فجعل فَعَل مردودة على يَفْعَل. وذلك أنه في المعْنى : وإذا نفخ في الصُّور ففزع ؛ ألا ترى أن قولكَ. أقوم يوم تقوم كقولك : أقوم إذا تقوم، فأجِيبتْ بفَعَل، لأن فعل ويفعل تصلحان مع إذا. فإن قلتَ فأن جَوَاب قوله ﴿ وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ ﴾ ؟ قلت : قد يكون في فَعَل مضمر مع الواو كأنه قال : وذلك يوم ينفخ في الصور. وإن شئتَ قلت : جوابه متروك كما قال ﴿ وَلَوْ تَرَى إذ فَزِعُوا فَلاَ فَوْتَ ﴾.
وقولُه :﴿ وَلَوْ يَرَى الذِينَ ظَلَموا ٨٧ ﴾ قد تُرك جَوابُه. والله أعلم.
وقوله ﴿ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ﴾ القُرّاء على تطويل الألف يريدونَ : فاعلوه. وقصرها حمزة حدَّثنا أبو العبَّاس قال حدثنا محمد قال حدثنا الفراء حدثني عدة منهم المفضل الضبي وقيسٌ وأبو بكر وكلهم عن جَحْش بن زياد الضبيّ عن تميم بن حَذْلَمٍ قال : قرأت على عبد الله بن مسعود ( وَكُلٌّ آتَوْهُ دَاخِرِينَ ) بتطويل الألِف. فقال ﴿ وَكُلٌّ أَتَوْهُ ﴾ بغير تطويل الألف وهو وجه حسن مردود على قوله ﴿ فَفَزِع ﴾ كما تقول في الكلام : رآني ففزّ وعَاد وهو صَاغر. فكان رَدُّ فَعَل على مثلها أعجبَ إلىّ مع قراءة عبد الله. حدثنا أبو العباس قال حدثنا محمد قال حدثنا الفراء قال وحدثني عبد الله بن إدريس عن الأعمش عن تميم عن عبد الله بمثل حديث أبي بكرٍ وَأصحابه.
وقوله :﴿ وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ٨٩ ﴾ قراءة القراء بالإضافة. فقالوا ﴿ وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ ﴾ و ﴿ يَوْمَئِذٍ ﴾ وقرأ عبد الله بن مسعود في إسْنادٍ بَعضُهم بعضُ الذي حدثتك ( مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ ) قرأها عليهم تميم هكذا ( وَهُمْ من فَزَعٍ يَوْمِئذٍ ) فأخذها بالتنوين والنصب. والإضافةُ أعجب إليَّ وإن كنت أقرأ بالنصب لأنه فَزَع معلوم، ألا ترى أنه قال ( لاَ يَحْزُنُهُمْ الفَزَعُ الأَكْبَرُ ) فصيَّرهُ ١٣٩ ا معرفةً. فأن أضِيفَهُ فيكونَ معرفةً أعجبُ إليّ. وهو صواب.
وقوله :﴿ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ٩٢ ﴾
وفي إحدى القراءتين ( وَأَنِ اتْلُ ) بغير واو مجزومةً على جهة الأمر. قد أُسقطت منها الواو للجزم على جهة الأمر ؛ كما قال ﴿ قُلْ إنّي أُمِرْت أَنْ أَكُون أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ ﴾ فجعل الواو مردودة بالنهي على حرفٍ قد نُصب بأن ؛ لأن المعنى يأتي في ( أمرت ) بالوجهين جَميعاً، ألا ترى أنك تقول : أَمَرت عبد الله أن يقوم، وَأَنْ قُمْ. وقالَ الله ﴿ وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالمينَ وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاَة ﴾ فهذا مِثْل قوله ﴿ وَأَنْ أَتْلُو القرآنَ ﴾.
Icon