مدنية وآياتها ٢٠٠ نزلت بعد الأنفال
نزل صدرها إلى نيف وثمانين آية لما قدم نصارى نجران المدينة المنورة يناظرون رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيسى عليه السلام.
ﰡ
مدنية وآياتها ٢٠٠ نزلت بعد الأنفال بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة آل عمران) نزل صدرها إلى نيف وثمانين آية لما قدم نصارى نجران المدينة المنوّرة يناظرون رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم في عيسى عليه السلام الم تقدّم الكلام على حروف الهجاء وقرأ الجمهور بفتح الميم هنا في الوصل لالتقاء الساكنين نحو من الناس، وقال الزمخشري: هي حركة الهمزة نقلت إلى الميم وهذا ضعيف لأنها ألف وصل تسقط في الدرج الْحَيُّ الْقَيُّومُ ردّ على النصارى في قولهم إنّ عيسى هو الله لأنهم زعموا أنه صلب، فليس بحيّ وليس بقيوم الْكِتابَ هنا هو القرآن بِالْحَقِّ أي تضمن الحق من الأخبار والأحكام وغيرها أو بالاستحقاق مُصَدِّقاً قد تقدّم في مصدّقا لما معكم بَيْنَ يَدَيْهِ الكتب المتقدّمة التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ أعجميان فلا يصح ما ذكره النحاة من اشتقاقهما ووزنهما وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ يعني القرآن وإنما كرر ذكره ليصفه بأنه الفارق بين الحق والباطل، ويحتمل أن يكون ذكره أولا على وجه الإثبات لإنزاله لقوله: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ، ثم ذكره ثانيا: على وجه الامتنان بالهدى به، كما قال في التوراة والإنجيل هدى للناس، فكأنه قال: وأنزل الفرقان هدى للناس ثم حذف ذلك لدلالة الهدى الأول عليه، فلما اختلف قصد الكلام في الموضعين لم يكن ذلك تكرارا، وقيل: الفرقان هنا كل ما فرق بين الحق والباطل من كتاب وغيره، وقيل: هو الزبور، وهذا بعيد لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ خبر عن إحاطة علم الله بجميع الأشياء على التفصيل، وهذه صفة لم تكن لعيسى، ولا لغيره، ففي ذلك ردّ على النصارى هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ برهان على إثبات علم الله المذكور قبل، وفيه ردّ على النصارى لأن عيسى لا يقدر على التصوير، بل كان مصوّرا كسائر بني آدم كَيْفَ يَشاءُ من طول، وقصر، وحسن، وقبح، ولون وغير ذلك
مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ المحكم من القرآن: هو البيّن المعنى، الثابت الحكم، والمتشابه: هو
المحكمات: الناسخات والحلال والحرام، والمتشابهات المنسوخات والمقدّم والمؤخر، وهو تمثيل لما قلنا هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ أي عمدة ما فيه ومعظمه فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ نزلت في نصارى نجران فإنهم قالوا للنبي صلّى الله عليه واله وسلّم: أليس في كتابك أن عيسى كلمة الله وروح منه؟ قال: نعم، قالوا: فحسبنا إذا، فهذا من المتشابه الذي اتبعوه، وقيل:
نزلت في أبي ياسر بن أخطب اليهودي وأخيه حيي ثم يدخل في ذلك كل كافر أو مبتدع، أو جاهل يتبع المتشابه من القرآن ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ أي ليفتنوا به الناس وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ أي:
يبتغون أن يتأوّلوه على ما تقتضي مذاهبهم، أو يبتغون أن يصلوا من معرفة تأويله إلى ما لا يصل إليه مخلوق وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ إخبار بانفراد الله بعلم تأويل المتشابه من القرآن، وذم لمن طلب علم ذلك من الناس وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مبتدأ مقطوع مما قبله، والمعنى أن الراسخين لا يعلمون تأويل المتشابه وإنما يقولون: آمنا به على وجه التسليم والانقياد والاعتراف بالعجز عن معرفته، وقيل: إنه معطوف على ما قبله، وأن المعنى أنهم يعلمون تأويله، وكلا القولين مروي عن ابن عباس، والقول الأول قول أبي بكر الصديق وعائشة، وعروة بن الزبير، وهو أرجح، وقال ابن عطية: المتشابه نوعان نوع انفرد الله بعلمه، ونوع يمكن وصول الخلق إليه. فيكون الراسخون ابتداء بالنظر إلى الأول، وعطفا بالنظر إلى الثاني كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا أي: المحكم والمتشابه من عند الله رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا حكاية عن الراسخين، ويحتمل أن يكون منقطعا على وجه التعليم والأوّل أرجح لاتصال الكلام، وأما قوله: وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ: فهو من كلام الله تعالى، لا حكاية قول الراسخين.
إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ استدلال على البعث، ويحتمل أن يكون من تمام كلام الراسخين.
أو منقطعا فهو من كلام الله كَدَأْبِ في موضع رفع أي دأب هؤلاء كدأب آلِ فِرْعَوْنَ وفي ذلك تهديد وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ عطف على آل فرعون، ويعني بهم قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم، والضمير عائد على آل فرعون بِآياتِنا البراهين أو الكتاب سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ قرئ بتاء الخطاب ليهود المدينة، وقيل لكفار قريش، وقرئ «١» بالياء إخبارا عن
قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ قيل: خطاب للمؤمنين وقيل: لليهود، وقيل: لقريش والأول أرجح أنه لبني قينقاع الذين قيل لهم: ستغلبون. ففيه تهديد لهم وعبرة كما جرى لغيرهم فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ المسلمون والمشركون يوم بدر يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ قرئ:
ترونهم بالتاء «١» خطابا لمن خوطب بقوله: قد كان لكم آية. والمعنى: ترون الكفار مثلي المؤمنين.
ولكن الله أيد المسلمين بنصره على قدر عددهم، وقرئ بالياء. والفاعل في يرونهم المؤمنون، والمفعول به هم المشركون. والضمير في مثليهم للمؤمنين والمعنى على حسب ما تقدم. فإن قيل:
إنّ الكفار كانوا يوم بدر أكثر من المسلمين فالجواب من وجهين أحدهما: أن الكفار كانوا ثلاثة أمثال المؤمنين، لأن الكفار كانوا قريبا من ألف، والمؤمنون ثلاثمائة وثلاثة عشر. ثم إنّ الله تعالى قلّل عدد الكفار في أعين المؤمنين حتى حسبوا أنهم مثلهم مرتين، ليتجاسروا على قتالهم، إذا ظهر لهم أنهم على ما أخبروا به من قتال الواحد للإثنين من قوله: فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [الأنفال: ٦٦]، وهذا المعنى موافق لقوله تعالى: وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا [الأنفال: ٤٤]، والآخر أنه رجع قوم من الكفار حتى بقي منهم ستمائة وستة وعشرون رجلا، وذلك قدر عدد المسلمين مرتين، وقيل: إنّ الفاعل في يرونهم ضمير المشركين، والمفعول ضمير المؤمنين. وأن الضمير في مثليهم يحتمل أن يكون للمؤمنين والمفعول للمشركين.
والمعنى على هذا أن الله كثر عدد المسلمين في أعين المشركين حتى حسب الكفار المؤمنين مثلي الكافرين أو مثلي المؤمنين. وهم أقل من ذلك وإنما كثرهم الله في أعينهم ليرهبوهم، ويرد هذا قوله تعالى، ويقللكم في أعينهم رَأْيَ الْعَيْنِ نصب على المصدرية، ومعناه معاينة ظاهرة لا شك فيها وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ أي أن النصر بمشيئة الله لا بالقلة ولا بالكثرة، فإن فئة المسلمين غلبت فئة الكافرين مع أنهم كانوا أكثر منهم
زُيِّنَ لِلنَّاسِ قيل: المزين هو الله وقيل الشيطان.
ولا تعارض بينهما فتزيين الله بالإيجاد والتهيئة للانتفاع، وإنشاء الجبلة على الميل إلى الدنيا. وتزيين الشيطان بالوسوسة والخديعة وَالْقَناطِيرِ جمع قنطار «٢»، وهو ألف ومائتا أوقية، وقيل: ألف
(٢). القنطار ١٢٠٠ أوقية. الأوقية: ٤٠ درهما، الدرهم: ٤ غرامات تقريبا:
إن قوله لِلَّذِينَ اتَّقَوْا متعلق بما قبله. وتمام الكلام في قوله: عند ربهم، فجنات على هذا خبر مبتدأ مضمر وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ زيادة إلى نعيم الجنة، وهو أعظم من النعيم حسبما ورد في الحديث «١» الَّذِينَ يَقُولُونَ نعت للذين اتقوا، ورفع بالابتداء، أو نصب بإضمار فعل الصَّادِقِينَ في الأقوال والأفعال وَالْقانِتِينَ العابدين والمطيعين وَالْمُسْتَغْفِرِينَ الاستغفار هو طلب المغفرة قيل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: كيف نستغفر؟ فقال: قولوا اللهم اغفر لنا وارحمنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم بِالْأَسْحارِ جمع سحر وهو آخر الليل يقال: إنه الثلث الأخير، وهو الذي ورد أن الله يقول حينئذ: «من يستغفرني فأغفر له» شَهِدَ اللَّهُ الآية: شهادة من الله سبحانه لنفسه بالوحدانية وقيل: معناها إعلامه لعباده بذلك وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ عطف على اسم الله أي هم شهداء بالوحدانية، ويعني بأولي العلم: العارفين بالله الذين يقيمون البراهين على وحدانيته قائِماً منصوب على الحال من اسم الله أو من هو أو منصوب على المدح بِالْقِسْطِ بالعدل لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إنما كرر التهليل لوجهين: أحدهما: أنه ذكر أولا الشهادة بالوحدانية، ثم ذكرها ثانيا بعد ثبوتها بالشهادة المتقدمة، والآخر: أن ذلك تعليم لعباده ليكثروا من قولها إِنَّ الدِّينَ بكسر الهمزة ابتداء، وبفتحها بدل من أنه، وهو بدل شيء من شيء، لأن التوحيد هو الإسلام وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ الآية: إخبار أنهم اختلفوا بعد معرفتهم بالحقائق من أجل البغي، وهو الحسد، والآية في اليهود، وقيل: في النصارى، وقيل: فيهما سَرِيعُ الْحِسابِ قد تقدّم معناه في البقرة وهو هنا تهديد، ولذلك وقع في جواب من يكفر
فَإِنْ حَاجُّوكَ أي جادلوك في الدين،
نزلت في اليهود والنصارى توبيخا لهم، ووعيدا على قبح أفعالهم، وأفعال أسلافهم الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ هم اليهود، والكتاب هنا التوراة، أو جنس يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ قال ابن عباس: دخل رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم على جماعة من اليهود فيهم النعمان بن عمرو والحارث بن زيد، فقالوا له على أي دين أنت؟ فقال لهم: على دين إبراهيم، فقالوا: إنّ إبراهيم كان يهوديا، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم:
فهلمّوا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم، فأبوا عليه فنزلت الآية، فكتاب الله على هذا التوراة، وقيل: هو القرآن: كان النبي صلّى الله عليه واله وسلّم يدعوهم إليه فيعرضون عنه ذلِكَ بِأَنَّهُمْ الإشارة إلى إعراضهم عن كتاب الله والباء سببية: والمعنى أن كفرهم بسبب اعتراضهم وأكاذيبهم، والأيام المعدودات قد ذكرت في البقرة فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ
أي: كيف يكون حالهم يوم القيامة، والمعنى: تهويل واستعظام لما أعدّ لهم اللَّهُمَّ منادى، والميم فيه عوض من حرف النداء عند البصريين، ولذلك لا يجتمعان، وقال الكوفيون: أصله يا الله أمّنا بخير فالميم عندهم من أمّنا مالِكَ الْمُلْكِ منادى عند سيبويه، وأجاز الزجاج أن يكون صفة لاسم الله وقيل إنّ الآية نزلت ردّا على النصارى في قولهم: إنّ عيسى هو الله «لأن هذه الأوصاف ليست لعيسى، وقيل: لما أخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن أمته يفتحون ملك كسرى وقيصر:
استبعد ذلك المنافقون، فنزلت الآية بِيَدِكَ الْخَيْرُ قيل: المراد بيدك الخير والشر، فحذف أحدهما لدلالة الآخر عليه، وقيل: إنما خص الخير بالذكر، لأنّ الآية في معنى دعاء ورغبة
تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ قال عبد الله بن مسعود: هي النطفة تخرج من الرجل ميتة وهو حي، ويخرج الرجل منها حيا وهي ميتة، وقال عكرمة: هي إخراج الدجاجة من البيضة، والبيضة من الدجاجة، وقيل: يخرج الكافر من المؤمن والمؤمن من الكافر، فالحياة والموت على هذا استعارة، وفي ذكر الحي من الميت المطابقة، وهي من أدوات البيان، وفيه أيضا القلب لأنه قدم الحيّ على الميت، ثم عكس بِغَيْرِ حِسابٍ بغير تضييق وقيل: بغير محاسبة لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الآية. عامة في جميع الأعصار، وسببها ميل بعض الأنصار إلى بعض اليهود، وقيل: كتاب حاطب إلى مشركي قريش فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ تبرؤ ممن فعل ذلك، ووعيد على موالاة الكفار، وفي الكلام حذف تقديره: ليس من التقرب إلى الله في شيء، وموضع في شيء نصب على الحال من الضمير في ليس من الله، قاله ابن عطية إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ إباحة لموالاتهم إن خافوا منهم، والمراد موالاة في الظاهر مع البغضاء في الباطن تُقاةً وزنه فعلة بضم الفاء وفتح العين. وفاؤه واو، وأبدل منها تاء، ولامه ياء أبدل منها ألف، وهو منصوب على المصدرية، ويجوز أن ينصب على الحال من الضمير في تتقوا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ تخويف يَوْمَ تَجِدُ منصوب على الظرفية، والعامل فيه فعل مضمر تقديره: أذكروا أو خافوا وقيل: العامل فيه قدير، وقيل: المصير، وقيل: يحذركم وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ مبتدأ خبره تودّ، أو معطوف أَمَداً أي مسافة وَاللَّهُ رَؤُفٌ ذكر بعد التحذير تأنيسا لئلا يفرط [في] الخوف، أو لأن التحذير والتنبيه رأفة فَاتَّبِعُونِي جعل اتباع النبي صلّى الله عليه وسلّم علامة على محبة العبد لله تعالى وشرط في محبة الله للعبد ومغفرته له، وقيل إنّ الآية خطاب لنصارى نجران ومعناها على العموم في جميع الناس
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى الآية: لما مضى صدر من محاجة نصارى نجران أخذ يبين لهم ما اختلفوا فيه، وأشكل عليهم من أمر عيسى عليه السلام، وكيفية ولادته وبدأ بذكر آدم ونوح عليهما السلام تكميلا للأمر لأنهما أبوان لجميع الأنبياء، ثم ذكر إبراهيم تدريجا إلى ذكر عمران والد مريم أم عيسى عليه السلام، وقيل: إنّ عمران هنا هو والد موسى، وبينهما ألف وثمانمائة سنة، والأظهر أن المراد هنا والد مريم، لذكر قصتها بعد ذلك
فَتَقَبَّلَها رَبُّها أي رضيها للمسجد مكان الذكر بِقَبُولٍ حَسَنٍ فيه وجهان: أحدهما: أن يكون مصدرا على غير المصدر، والآخر: أن يكون اسما لما يقبل به كالسعوط اسم لما يسعط به وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً عبارة عن حسن النشأة وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا «٣» أي ضمها إلى إنفاقه وحضانته، والكافل هو الحاضن، وكان زكريا زوج خالتها، وقرئ كفلها بتشديد الفاء، ونصب زكريا: أي جعله الله كافلها الْمِحْرابَ في اللغة: أشرف المجالس، وبذلك سمي موضع الإمام، ويقال: إنّ زكريا بنى لها غرفة في المسجد، وهي المحراب هنا، وقيل:
المحراب موضع العبادة وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً كان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة
(٢). أخرجه أحمد في مسنده عن أبي هريرة ج ٢ ص ٣٦٢.
(٣). وكفلها: بدون تشديد الفاء حسب قراءة المؤلف وهي قراءة نافع وغيره وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بالتشديد.
لقولهم: فلان يركب الخيل، أي جنس الخيل وإن كان فرسا واحدا يحيى اسم سماه الله تعالى به قبل أن يولد، وهو اسم بالعبرانية صادف اشتقاقا وبناء في العربية، وهو لا ينصرف، فإن كان في الإعراب أعجميا ففيه التعريف والعجمة، وإن كان عربيا فالتعريف ووزن الفعل مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ أي مصدقا بعيسى عليه السلام مؤمنا به، وسمي عيسى كلمة الله، لأنه لم يوجد إلّا بكلمة الله وحدها وهي قوله: كن لا بسبب آخر وهو الوالد كسائر بني آدم وَسَيِّداً السيد، الذي يسود قومه أي يفوقهم في الشرف والفضل وَحَصُوراً أي لا يأتي النساء فقيل: خلقه الله كذلك، وقيل: كان يمسك نفسه، وقيل: الحصور الذي لا يأتي الذنوب أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ تعجّب استبعاد أن يكون له ولد مع شيخوخته، وعقم امرأته، ويقال: كان له تسع وتسعون سنة، ولامرأته ثمان وتسعون سنة، وفاستبعد ذلك في العادة، مع علمه بقدرة الله تعالى على ذلك، فسأله مع علمه بقدرة الله، واستبعده لأنه نادر في العادة، وقيل: سأله وهو شاب، وأجيب وهو شيخ، ولذلك استبعده كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ أي مثل هذه الفعلة العجيبة، يفعل الله ما يشاء فالكاف لتشبيه أفعال الله العجيبة بهذه الفعلة، والإشارة بذلك إلى هبة الولد لزكريا، واسم الله مرفوع بالابتداء، أو كذلك خبره فيجب وصله معه، وقيل: الخبر يفعل الله ما يشاء، ويحتمل كذلك على هذا وجهين: أحدهما: أن يكون في موضع الحال من فاعل يفعل، والآخر: أن يكون في موضع خبر مبتدأ محذوف تقديره: الأمر كذلك، أو أنتما كذلك، وعلى هذا يوقف على كذلك والأول أرجح لاتصال الكلام، وارتباط قوله: يفعل ما يشاء مع ما قبله، ولأن له نظائر كثيرة في القرآن منها قوله: كَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ [هود: ١٠٢]
اجْعَلْ لِي آيَةً أي: علامة على حمل المرأة آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ أي علامتك أن
وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ اختلف، هل المراد جبريل أو جمع من الملائكة؟ والعامل في إذ مضمر اصْطَفاكِ أولا حين تقبلك من أمك وَطَهَّرَكِ من كل عيب في خلق وخلق ودين وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ يحتمل أن يكون هذا الاصطفاء مخصوصا بأن وهب لها عيسى من غير أب، فيكون على نساء العالمين عاما، أو يكون الاصطفاء عاما فيخص من نساء العالمين خديجة وفاطمة، أو يكون المعنى: على نساء زمانها وقد قيل:
بتفضيلها على الإطلاق، وقيل: إنها كانت نبية لتكليم الملائكة لها اقْنُتِي القنوت هنا بمعنى الطاعة والعبادة، وقيل: طول القيام في الصلاة وهو قول الأكثرين وَاسْجُدِي وَارْكَعِي أمرت بالصلاة فذكر القنوت والسجود لكونها من هيئة الصلاة وأركانها، ثم قيل لها: اركعي مع الراكعين بمعنى: ولتكن صلاتك مع المصلين، أو في الجماعة فلا يقتضي الكلام على هذا تقديم السجود على الركوع، لأنه لم يرد الركوع والسجود المنضمين في ركعة واحدة، وقيل أراد ذلك، وقدم السجود لأن الواو لا ترتب، ويحتمل أن تكون الصلاة في ملتهم بتقديم السجود على الركوع ذلِكَ إشارة إلى ما تقدم من القصص وهو خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ احتجاجا على نبوته صلّى الله عليه وسلّم لكونه أخبر بهذه الأخبار وهو لم يحضر معهم يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أي أزلامهم، وهي قداحهم، وقيل: الأقلام التي كانوا يكتبون بها التوراة اقترعوا بها على كفالة مريم، حرصا عليها وتنافسا في كفالتها، وتدل الآية على جواز القرعة، وقد ثبتت أيضا من السنة أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ مبتدأ وخبر في موضع نصب بفعل تقديره: ينظرون أيهم يَخْتَصِمُونَ يختلفون فيمن يكفلها منهم
إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ إذ بدل من إذ قالت، أو من إذ يختصمون، والعامل فيه مضمر اسْمُهُ أعاد الضمير المذكر على الكلمة، لأن المسمى بها ذكر الْمَسِيحُ قيل: هو مشتق من ساح في الأرض، فوزنه مفعل، وقال الأكثرون: من مسح لأنه مسح بالبركة فوزنه فعيل وإنما قال: عيسى ابن مريم والخطاب لمريم لينسبه إليها، إعلاما بأنه يولد من غير والد وَجِيهاً نصب على الحال، ووجاهته في الدنيا النبوة والتقديم على الناس، وفي الآخرة
صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ وابتداؤه من قوله: أني قد جئتكم، وكل ذلك يحتمل أن يكون مما
(٢). الحيتان المراد بها الأسماك عموما.
بأني قد جئتكم بآية من ربكم، ثم استمر كلامه إلى آخره
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى أي علم علما ظاهرا كعلم ما يدرك بالحواس مَنْ أَنْصارِي طلب للنصرة، والأنصار جمع ناصر إِلَى اللَّهِ تقديره: من يضيف أنفسهم «١» في نصرتي إلى الله فلذلك قيل: إلى هنا بمعنى مع أو يتعلق بمحذوف تقديره ذاهبا أو ملتجئا إلى الله الْحَوارِيُّونَ حواري الرجل صفوته وخاصته، ولذلك قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لكل نبيّ حواريّ وإن حواريّ الزبير» «٢» وقيل: إنّ الحواريين كانوا قصارين يحورون الثياب، أي: يبيضونها ولذلك سماهم الحواريين بِما أَنْزَلْتَ يريدون الإنجيل، والرسول هنا عيسى عليه السلام مَعَ الشَّاهِدِينَ أي مع الذين يشهدون بالحق من الأمم، وقيل: مع أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم لأنهم يشهدون على الناس وَمَكَرُوا الضمير لكفار بني إسرائيل ومكرهم أنهم وكلوا بعيسى من يقتله غيلة وَمَكَرَ اللَّهُ أي رفع عيسى إلى السماء، وألقى شبهه على من أراد اغتياله حتى قتل عوضا منه «٣»، وعبر عن فعل الله بالمكر مشاكلة لقوله مكروا وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ أي أقواهم وهو فاعل ذلك بحق، والماكر من البشر فاعل بالباطل إِذْ قالَ اللَّهُ العامل فيه فعل مضمر، أو يمكر إِنِّي مُتَوَفِّيكَ قيل: وفاة موت، ثم أحياه الله في السماء، وقيل: رفع حيا، ووفاة الموت بعد أن ينزل إلى الأرض فيقتل الدجال، وقيل: يعني وفاة نوم وقيل: المعنى قابضك من الأرض إلى السماء وَرافِعُكَ إِلَيَّ أي إلى السماء وَمُطَهِّرُكَ أي من سوء جوارهم الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ هم المسلمون، وعلوهم على الكفرة بالحجة وبالسيف في غالب الأمر وقيل: الذين اتبعوك النصارى، والذين كفروا اليهود، فالآية مخبرة عن عزة النصارى على اليهود وإذلالهم لهم ذلِكَ نَتْلُوهُ إشارة إلى ما تقدم من الأخبار مِنَ الْآياتِ المتلوّات أو المعجزات الذِّكْرِ القرآن الْحَكِيمِ الناطق بالحكمة.
(٢). أخرجه أحمد في مسنده عن جابر بن عبد الله ج ٣ ص ٤٦٤.
(٣). ذكر المؤلف في تفسير الآية ٥٨ من سورة النساء قولا آخر هو أرجح من هذا فانظره هناك. [.....]
وَهذَا النَّبِيُّ عطف على الذين اتبعوه: أي محمد صلّى الله عليه وسلّم أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لأنه على دينه وَالَّذِينَ آمَنُوا أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم وَدَّتْ طائِفَةٌ هم اليهود، دعوا حذيفة وعمارا ومعاذا إلى اليهودية وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ أي لا يعود وبال الإضلال إلّا عليهم وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ أي تعلمون أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم نبي لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ أي تخلطون: والحق نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم والباطل الكفر به آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ كان قوم من اليهود لعنهم الله أظهروا الإسلام أول النهار، ثم كفروا آخره ليخدعوا المسلمين فيقولوا: ما رجع هؤلاء إلّا عن علم، وقال السهيلي: إنّ هذه الطائفة هم عبد الله بن الصيف، وعدي بن زيد، والحارث بن عوف أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ يحتمل أن يكون من تمام الكلام الذي أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يقوله متصلا بقوله: إنّ الهدى هدى الله وأن يكون من كلام أهل الكتاب فيكون متصلا بقولهم: وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ، ويكون إنّ الهدى اعتراضا بين الكلامين، فعلى الأول يكون المعنى: كراهة أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم وقلتم ما قلتم، ودبرتم ما دبرتم من الخداع، فموضع أن يؤتى مفعول من أجله، أو منصوب بفعل مضمر تقديره: فلا تنكروا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من الكتاب والنبوة، وعلى الثاني فيكون المعنى. لا تؤمنوا أي لا تقروا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ واكتموا ذلك على من لم يتبع دينكم لئلا يدعوهم إلى الإسلام، فموضع أن يؤتى مفعول بتؤمنوا المضمن معنى تقروا، ويمكن أن يكون في موضع المفعول من أجله: أي لا تؤمنوا إلّا لمن تبع دينكم كراهية أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أَوْ يُحاجُّوكُمْ عطف على أن يؤتى، وضمير الفاعل للمسلمين، وضمير المفعول لليهود إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ ردّ على اليهود في قولهم: لم يؤت أحدا مثل ما أوتي بنو إسرائيل من النبوة والشرف
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ الآية: إخبار أن أهل الكتاب على قسمين: أمين، وخائن. وذكر القنطار مثالا للكثير فمن أدّاه: أدّى ما دونه، وذكر الدينار مثالا للقليل، فمن منعه منع ما فوقه بطريق الأولى قائِماً يحتمل أن يكون من القيام الحقيقي بالجسد، أو من القيام بالأمر، وهو
ما كانَ لِبَشَرٍ الآية: هذا النفي متسلط على ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ والمعنى: لا يدعي الربوبية من آتاه الله النبوّة، والإشارة إلى عيسى عليه السلام، ردّ على النصارى الذين قالوا:
إنه الله، وقيل: إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم، لأن اليهود قالوا يا محمد: تريد أن نعبدك كما عبدت النصارى عيسى؟ فقال: معاذ الله ما بذلك أمرت، ولا إليه دعوت رَبَّانِيِّينَ جمع رباني، وهو العالم، وقيل: الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره «١» بِما كُنْتُمْ الباء سببية وما مصدرية تُعَلِّمُونَ بالتخفيف تعرفون. [وهي قراءة نافع وغيره] وقرئ بالتشديد من التعليم وَلا يَأْمُرَكُمْ بالرفع: استئناف، والفاعل الله أو البشر المذكور، وقرئ بالنصب «٢» عطف على أن يؤتيه أو على ثم يقول، والفاعل على هذا البشر.
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ معنى الآية أنّ الله أخذ العهد والميثاق، على كل نبيّ أن يؤمن بمحمد صلّى الله عليه واله وسلّم، وينصره إن أدركه، وتضمن ذلك أخذ هذا الميثاق على أمم الأنبياء، واللام في قوله: لَما آتَيْتُكُمْ لام التوطئة، لأنّ أخذ الميثاق في
(٢). وهي قراءة عاصم وغيره.
قولوا. لأنّ على حرف استعلاء يقتضي النزول من علو. ونزوله على هذا المعنى مختص بالنبي صلّى الله عليه واله وسلّم. وإلى حرف غاية وهو موصل إلى جميع الأمّة وَمَنْ يَبْتَغِ الآية: إبطال لجميع الأديان غير الإسلام، وقيل: نسخت: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى [البقرة: ٦٢] الآية كَيْفَ سؤال، والمراد به هنا: استبعاد الهدى قَوْماً كَفَرُوا نزلت في الحرث بن سويد وغيره أسلموا ثم ارتدّوا ولحقوا بالكفار، ثم كتبوا إلى أهلهم هل لنا من توبة؟ فنزلة الآية إلى قوله: إلّا الذين تابوا، فرجعوا إلى الإسلام وقيل: نزلت في اليهود والنصارى شهدوا [ممن] بصفة النبي صلّى الله عليه واله وسلّم، وآمنوا به ثم كفروا به لما بعث، وشهدوا عطف على إيمانهم، لأنّ معناه بعد أن آمنوا، وقيل: الواو للحال، وقال ابن عطية: عطف على كفروا والواو لا ترتب وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ عموم بمعنى الخصوص في المؤمنين، أو على عمومه وتكون اللعنة في الآخرة خالِدِينَ فِيها الضمير عائد على اللعنة، وقيل: على النار وإن لم تكن ذكرت لأنّ
ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً قيل: هم اليهود كفروا بعيسى بعد إيمانهم بموسى، ثم ازدادوا كفرا بكفرهم بمحمد صلّى الله عليه وسلّم. وقيل: كفروا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن كانوا مؤمنين قبل مبعثه، ثم ازدادوا كفرا بعداوتهم له وطعنهم عليه وقيل: هم الذين ارتدّوا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ قيل: ذلك عبارة عن موتهم على الكفر: أي ليس لهم توبة فتقبل، وذلك في قوم بأعيانهم ختم الله لهم بالكفر، وقيل: لن تقبل توبتهم مع إقامتهم على الكفر، فذلك عامّ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ جزم بالعذاب لكل من مات على الكفر.
والواو في قوله: وَلَوِ افْتَدى بِهِ، قيل: زيادة وقيل: للعطف على محذوف، كأنه قال:
لن يقبل من أحدهم لو تصدّق به ولو افتدى به وقيل: نفى أولا القبول جملة على الوجوه كلها، ثم خص الفدية بالنفي كقولك: أنا لا أفعل كذا أصلا ولو رغبت إليّ.
لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ أي لن تكونوا من الأبرار، ولن تنالوا البر الكامل حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ من أموالكم ولما نزلت قال أبو طلحة: إنّ أحب أموالي إليّ بيرحاء، وإنها صدقة، وكان ابن عمر يتصدّق بالسكر ويقول: إني لأحبه. كُلُّ الطَّعامِ الآية إخبار أن الأطعمة كانت حلالا لبني إسرائيل إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ أبوهم يعقوب عَلى نَفْسِهِ وهو لحم الإبل ولبنها، ثم حرّمت عليهم أنواع من الأطعمة كالشحوم وغيرها، عقوبة لهم على معاصيهم، وفيها رد عليهم في قولهم: إنهم على ملة إبراهيم عليه السلام، وأن الأشياء التي هي محرمة كانت محرمة على إبراهيم، وفيها دليل على جواز النسخ ووقوعه لأن الله حرم عليهم تلك الأشياء بعد حلها، خلافا لليهود في قولهم: إنّ النسخ محال على هذه الأشياء، وفيها معجزة للنبي صلّى الله عليه وسلّم لإخباره بذلك من غير تعلم من أحد، وسبب تحريم إسرائيل لحوم الإبل على نفسه أنه مرض، فنذر إن شفاه الله. أن يحرم أحب الطعام إليه شكرا لله وتقرّبا إليه، ويؤخذ من ذلك أنه يجوز للأنبياء أن يحرموا على أنفسهم باجتهادهم فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ تعجيزا لليهود، وإقامة حجة عليهم، وروي أنهم لم يجسروا على إخراج التوراة فَمَنِ افْتَرى
أي: من زعم بعد هذا البيان أن الشحم وغيره، كان محرما على بني إسرائيل قبل نزول التوراة فهو الظالم المكابر بالباطل صَدَقَ اللَّهُ أي الأمر كما وصف، لا كما تكذبون أنتم. ففيه تعريض بكذبهم فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ إلزام لهم أن يسلموا، كما ثبت أن ملة
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ أي أول مسجد بني في الأرض، وقد سأل أبو ذر النبي صلّى الله عليه واله وسلّم، أي مسجد بني أول؟ قال: المسجد الحرام، ثم بيت المقدس «١»، وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: المعنى أنه أول بيت وضع مباركا وهدى وقد كانت قبله بيوتا بِبَكَّةَ قيل: هي مكة والباء بدل من الميم، وقيل: مكة الحرم كله، وبكة المسجد وما حوله مُبارَكاً نصب على الحال والعامل فيه على قول عليّ: وضع مُبارَكاً على أنه حال من الضمير الذي فيه، وعلى القول الأول: هو حال من الضمير المجرور. والعامل فيه العامل المجرور من معنى الاستقرار فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ آيات البيت كثيرة. منها الحجر الذي هو مقام إبراهيم، وهو الذي قام عليه حين رفع القواعد من البيت، فكان كلما طال البناء ارتفع به الحجر في الهواء حتى أكمل البناء، وغرقت قدم إبراهيم في الحجر كأنها في طين، وذلك الأثر باق إلى اليوم، ومنها أن الطيور لا تعلوه، ومنها إهلاك أصحاب الفيل، ورد الجبابرة عنه، ونبع زمزم لهاجر أم إسماعيل بهمز جبريل بعقبه، وحفر عبد المطلب بعد دثورها وأن ماءها ينفع لما شرب له، إلى غير ذلك مَقامُ إِبْراهِيمَ قيل: إنه بدل من الآيات أو عطف بيان، وإنما جاز بدل الواحد من الجمع لأن المقام يحتوي على آيات كثيرة لدلالته على قدرة الله تعالى، وعلى نبوة إبراهيم وغير ذلك، وقيل: الآيات مقام إبراهيم، وأمن من دخله، فعلى هذا يكون قوله: ومن دخله عطفا، وعلى الأول استئنافا، وقيل: التقدير منهن مقام إبراهيم، فهو على هذا مبتدأ، والمقام هو الحجر المذكور، وقيل: البيت كله، وقيل: مكة كلها كانَ آمِناً أي آمنا من العذاب، فإنه كان في الجاهلية إذا فعل أحد جريمة ثم لجأ إلى البيت لا يطلب، ولا يعاقب، فأما في الإسلام فإنّ الحرم لا يمنع من الحدود، ولا من القصاص، وقال ابن عباس وأبو حنيفة: ذلك الحكم باق في الإسلام إلّا أن من وجب عليه حدّ أو قصاص فدخل الحرم لا يطعم ولا يباع منه حتى يخرج، وقيل: آمنا من النار.
حِجُّ الْبَيْتِ بيان لوجوب الحج واختلف هل هو على الفور أو على التراخي؟ وفي الآية ردّ على اليهود لما زعموا أنهم على ملة إبراهيم. قيل لهم: إن كنتم صادقين فحجوا البيت الذي بناه إبراهيم ودعا الناس إليه مَنِ اسْتَطاعَ بدل من الناس، وقيل: فاعل بالمصدر، وهو حج وقيل: شرط مبتدأ أي: من استطاع فعليه الحج والاستطاعة عند مالك هي: القدرة على الوصول إلى مكة بصحة البدن، إما راجلا وإما راكبا، مع الزاد
لِمَ تَكْفُرُونَ توبيخ اليهود لِمَ تَصُدُّونَ توبيخ أيضا. وكانوا يمنعون الناس من الإسلام ويرومون فتنة المسلمين عن دينهم سَبِيلِ اللَّهِ هنا الإسلام تَبْغُونَها عِوَجاً الضمير يعود على السبيل، أي تطلبون لها الاعوجاج وَأَنْتُمْ شُهَداءُ أي تشهدون أن الإسلام حق إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً الآية: لفظها عام والخطاب للأوس والخزرج إذ كان اليهود يريدون فتنتهم وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ إنكار واستبعاد حَقَّ تُقاتِهِ قيل: نسخها فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، [التغابن/ ١٦] وقيل: لا نسخ إذ لا تعارض، فإنّ العباد أمروا بالتقوى على الكمال فيما استطاعوا تحرزا من الإكراه وشبهه وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ أي تمسكوا، والحبل هنا مستعار من الحبل الذي تشد عليه اليد، والمراد به هنا: القرآن، وقيل: الجماعة وَلا تَفَرَّقُوا نهي عن التدابر والتقاطع، إذ قد كان الأوس هموا بالقتال مع الخزرج، لما رام اليهود إيقاع الشر بينهم، ويحتمل أن يكون نهيا عن التفرق في أصول الدين، ولا يدخل في النهي الاختلاف في الفروع إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً كان بين الأوس والخزرج عداوة وحروب عظيمة، إلى أن جمعهم الله بالإسلام شَفا حُفْرَةٍ أي حرف حفرة وذلك تشبيه، لما كانوا عليه من الكفر والعداوة التي تقودهم إلى النار وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ الآية: دليل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب، وقوله: منكم: دليل على أنه فرض كفاية لأن من للتبعيض، وقيل: إنها لبيان الجنس، وأن المعنى: كونوا أمة. وتغيير المنكر يكون باليد وباللسان وبالقلب، على حسب الأحوال
كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا هم اليهود والنصارى، نهى الله المسلمين أن يكونوا مثلهم، وورد في الحديث أنه عليه السلام قال: افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ العامل فيه محذوف وقيل: عذاب عظيم أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ أي يقال لهم: أكفرتم؟ والخطاب لمن ارتد عن الإسلام، وقيل: للخوارج، وقيل: لليهود لأنهم آمنوا بصفة النبي صلّى الله عليه واله وسلّم المذكورة في التوراة ثم كفروا به لما بعث كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ كان هنا هي التي تقتضي الدوام كقوله وكان الله غفورا رحيما، وقيل:
كنتم في علم الله، وقيل: كنتم فيما وصفتم به في الكتب المتقدمة، وقيل: كنتم بمعنى أنتم، والخطاب لجميع المؤمنين، وقيل: للصحابة خاصة لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً أي بالكلام خاصة، وهو أهون المضرة يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ إخبار بغيب ظهر في الوجود صدقه ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ إخبار مستأنف غير معطوف على يولوكم، وفائدة ذلك أن توليهم الأدبار مقيد بوقت القتال، وعدم النصر على الإطلاق، وعطفت الجملة على جملة الشرط والجزاء، وثم لترتيب الأحوال لأن عدم نصرهم على الإطلاق أشد من توليهم الأدبار حين القتال إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ الحبل هنا العهد والذمة لَيْسُوا سَواءً أي: ليس أهل الكتاب مستويين في دينهم أُمَّةٌ قائِمَةٌ أي قائمة بالحق، وذلك فيمن أسلم من اليهود: كعبد الله بن سلام، وثعلبة بن سعيد وأخيه أسد وغيرهم وَهُمْ يَسْجُدُونَ يدل أن تلاوتهم للكتاب في الصلاة فَلَنْ يُكْفَرُوهُ [بالتاء حسب قراءة المؤلف] أي لن تحرموا ثوابه
َلُ ما يُنْفِقُونَ
الآية:
تشبيه لنفقة الكافرين بزرع أهلكته ريح باردة، فلن ينتفع به أصحابه. فكذلك لا ينتفع الكفار
أي بردرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ
أي عصوا الله فعاقبهم بإهلاك حرثهم ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ
الضمير للكفار، أو المنافقين، أو لأصحاب الحرث، والأول أرجح، لأن قوله أنفسهم يظلمون فعل حال يدل على أنه للحاضرين بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ أي أولياء من غيركم فالمعنى: نهي عن استخلاص الكفار وموالاتهم.
وقيل: لعمر رضي الله عنه إن هنا رجلا من النصارى لا أحد أحسن خطا منه، أفلا يكتب عنك: قال إذا أتخذ بطانة من دون المؤمنين لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا أي: لا يقصرون في إفسادكم، والخبال: الفساد وَدُّوا ما عَنِتُّمْ أي تمنوا مضرتكم، وما مصدرية وهذه الجملة والتي قبلها صفة للبطانة أو استئناف وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ أي بكل كتاب أنزله الله، واليهود لا يؤمنون بقرآنكم عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ عبارة عن شدة الغيظ مع عدم القدرة على إنفاذه، والأنامل: جمع أنملة بضم الميم وفتحها مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ تقريع وإغاظة، وقيل: دعاء إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ الحسنة هنا: الخيرات من النصر والرزق وغير ذلك، والسيئة ضدها لا يَضُرُّكُمْ من الضير بمعنى الضرّ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ
نزلت في غزوة أحد، وكان غزو رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم للقتال صبيحة يوم السبت وخرج من المدينة يوم الجمعة بعد الصلاة وكان قد شاور أصحابه قبل الصلاة تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ تنزلهم وذلك يوم السبت حين حضر القتال، وقيل: ذلك يوم الجمعة بعد الصلاة حين خرج من المدينة، وذلك ضعيف لأنه لا يقال: غدوت فيما بعد الزوال إلّا على المجاز، وقيل: ذلك يوم الجمعة قبل الصلاة حين شاور الناس وذلك ضعيف لأنه لم يبوئ حينئذ مقاعد للقتال إلّا أن يراد أنه بوأهم بالتدبير حين المشاورة مَقاعِدَ مواضع وهو جمع مقعد
طائِفَتانِ مِنْكُمْ هم بنو حارثة من الأوس وبنو سلمة من الخزرج، لما رأوا كثرة المشركين وقلة المؤمنين هموا بالانصراف فعصمهم الله ونهضوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أَنْ تَفْشَلا الفشل في البدن هو الإعياء، والفشل في الرأي هو العجز
كانت عمائمهم صفر، وكانت خيلهم مجزوزة الأذناب وقيل: كانوا على خيل بلق وَما جَعَلَهُ الضمير عائد على الإنزال، أو الإمداد وَلِتَطْمَئِنَّ معطوف على بشرى لأن هذا الفعل بتأويل المصدر، وقيل: يتعلق بفعل مضمر يدل عليه جعله لِيَقْطَعَ يتعلق بقوله:
ولقد نصركم الله أو بقوله: وما النصر لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ جملة اعتراضية بين المعطوفين، ونزلت لما دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الصلاة على أحياء قبائل من العرب فترك الدعاء عليهم أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ معناه يسلمون أَضْعافاً مُضاعَفَةً كانوا يزيدون كل ما حل عاما بعد عام
سارِعُوا بغير واو «١» استئناف، وبالواو عطف على ما تقدم
وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ المعنى أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم رسول كسائر الرسل قد بلغ الرسالة كما بلغوا فيجب عليكم التمسك بدينه في حياته وبعد موته، وسببها أنه صرخ صارخ يوم أحد: إنّ محمدا قد مات، فتزلزل بعض الناس أَفَإِنْ ماتَ دخلت
نصب على التمييز نُؤْتِهِ مِنْها في ثواب الدنيا، مقيد بالمشيئة بدليل قوله: عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ [الإسراء/ ١٨] وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ الفعل مسند، إلى ضمير النبيّ ومعه ربيون على هذا في موضع الحال، وقيل: إنه مسند إلى الربيين، فيكون ربيون على هذا مفعولا لما لم يسم فاعله فعلى الأوّل يوقف على قوله: قتل، ويترجح الأوّل: بما صرخ به الصارخ يوم أحد:
إنّ محمدا قد مات، فضرب لهم المثل بنبيّ قتل، ويترجح الثاني بأنه لم يقتل قط نبي في محاربة رِبِّيُّونَ علماء مثل ربانيين، وقيل: جموع كثيرة فَما وَهَنُوا الضمير لرِبِّيُّونَ على إسناد القتل للنبي، وهو لم يق منهم على إسناد القتل إليهم وَمَا اسْتَكانُوا أي: لم يذلوا للكفار قال بعض النحاة: الاستكان مشتق من السكون، ووزنه افتعلوا مطلت فتحة الكاف فحدث عن مطلها ألف وذلك كالإشباع، وقيل: إنه من كان يكون، فوزنه استفعلوا، وقوله تعالى فما وهنوا وما بعده:
تعريض لما صدر من بعض الناس يوم أحد وَثَبِّتْ أَقْدامَنا أي في الحرب ثَوابَ الدُّنْيا النصر ثَوابِ الْآخِرَةِ الجنة إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا هم المنافقون الذين قالوا في قضية أحد ما قالوا، وقيل: مشركوا قريش وقيل: اليهود
الرُّعْبَ قيل: ألقى الله الرعب في قلوب المشركين بأحد، فرجعوا إلى مكة من غير سبب، وقيل: لما كانوا ببعض الطريق هموا بالرجوع ليستأصلوا المسلمين، فألقى الله الرعب في قلوبهم «١»، فأمسكوا، والآية تتناول جميع الكفار
هو عفو عن الذنب إِذْ تُصْعِدُونَ العامل في إذ عفا، فيوصل إذ تصعدون مع ما قبله ويحتمل أن يكون العامل فيه مضمر وَلا تَلْوُونَ مبالغة في صفة الانهزام وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ كان رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم يقول: إليّ عباد الله، وهم يفرون فِي أُخْراكُمْ من خلفكم وفيه مدح للنبي صلّى الله عليه واله وسلّم فإنّ الأخرى هي موقف الأبطال فَأَثابَكُمْ أي جازاكم غَمًّا بِغَمٍّ قيل: أثابكم غما بسبب الغم الذي أدخلتموه على رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم وعلى المؤمنين إذ عصيتم وتنازعتم وقيل أثابكم غما متصلا بغم، وأحد الغمين: ما أصابهم من القتل والجراح والآخر: ما أرجف به من قتل رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم عَلى ما فاتَكُمْ من النصر والغنيمة وَلا ما أَصابَكُمْ من القتل والجراح والانهزام
أَمَنَةً نُعاساً قال ابن مسعود: نعسنا يوم أحد، والنعاس في الحرب أمان من الله يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ هم المؤمنون المخلصون، غشيهم النعاس تأمينا لهم وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ هم المنافقون كانوا خائفين من أن يرجع إليهم أبو سفيان، والمشركون غَيْرَ الْحَقِّ معناه
(٢). وهو أحد بني عمرو بن عوف وكان منافقا.
وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ الآية إخبار أن مغفرة الله ورحمته لهم إذا قتلوا وماتوا في سبيل الله خير لهم مما يجمعون من الدنيا وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ الآية إخبار أن من مات أو قتل فإنه يحشر إلى الله فَبِما رَحْمَةٍ ما زائدة للتأكيد لانفضوا أي تفرقوا فَاعْفُ عَنْهُمْ فيما يختص بك وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ فيما يختص بحق الله وَشاوِرْهُمْ المشاورة مأمور بها شرعا، وإنما يشاور النبي صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم الناس في الرأي في الحروب وغيرها، لا في الأحكام الشرعية، وقال ابن عباس: وشاورهم في بعض الأمر فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ التوكل هو الاعتماد على الله في تحصيل المنافع أو حفظها بعد حصولها، وفي دفع المضرات ورفعها بعد وقوعها، وهو من أعلى المقامات، لوجهين: أحدهما قوله إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ والآخر: الضمان الذي في قوله: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق/ ٣] وقد يكون واجبا لقوله تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة/ ٢٣] فجعله شرطا في الإيمان، والظاهر قوله جل جلاله، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران/ ١٢٢] فإن الأمر محمول على الوجوب.
وأعلم أن الناس في التوكل على ثلاثة مراتب: الأولى: أن يعتمد العبد على ربه، كاعتماد الإنسان على وكيله المأمون عنده الذي لا يشك في نصيحته له، وقيامه بمصالحه، والثانية: أن يكون العبد مع ربه كالطفل مع أمه، فإنه لا يعرف سواها، ولا يلجأ إلّا إليها، والثالثة: أن يكون العبد مع ربه: كالميت بين يدي الغاسل، قد أسلم نفسه إليه بالكلية، فصاحب الدرجة الأولى له حظ من النظر لنفسه، بخلاف صاحب الثانية، وصاحب الثانية له حظ من المراد والاختيار بخلاف صاحب الثالثة. وهذه الدرجات مبنيّة على التوحيد الخاص الذي تكلمنا عليه في قوله: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [البقرة/ ١٦٣] فهي تقوى بقوته، وتضعف بضعفه، فإن قيل: هل يشترط في التوكل ترك الأسباب أم لا؟ فالجواب: أن الأسباب على ثلاثة أقسام: أحدهما: سبب معلوم قطعا قد أجراه الله تعالى: فهذا لا يجوز تركه: كالأكل لدفع الجوع، واللباس لدفع البرد. والثاني: سبب مظنون: كالتجارة وطلب المعاش، وشبه ذلك، فهذا لا يقدم فعله في التوكل لأن التوكل من أعمال القلب، لا من أعمال البدن، ويجوز تركه لمن قوي عليه، «١» والثالث: سبب موهوم بعيد، فهذا يقدم فعله في التوكل،
وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ هو من الغلول وهو أخذ الشيء خفية من المغانم وغيرها، وقرئ «١» بفتح الياء وضم الغين، ومعناه تبرئة النبي صلّى الله عليه وسلّم من الغلول، وسببها أنه فقدت من المغانم قطيفة حمراء، فقال بعض المنافقين: لعل رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم أخذها، وقرأ نافع وغيره بضم الياء وفتح الغين، أي ليس لأحد أن يغل نبيا: أي يخونه في المغانم، وخص النبي بالذكر وإن كان ذلك محظورا من الأمر، لشنعة الحال مع النبي لأن المعاصي تعظم بحضرته، وقيل معنى هذه القراءة: أن يوجد غالا كما تقول أحمدت الرجل، إذا أصبته محمودا، فعلى هذا القول يرجع معنى هذه القراءة، إلى معنى فتح الياء وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ وعيد لمن غل بأن يسوق يوم القيامة على رقبته الشيء الذي غل، وقد جاء ذلك مفسرا في الحديث قال رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم: لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير لا ألفين أحدكم على رقبته فرس لا ألفين أحدكم على رقبته رقاع لا ألفين أحدكم على رقبته صامت، لا ألفين أحدكم على رقبته إنسان فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد بلغتك «٢» أَفَمَنِ اتَّبَعَ الآية: فقيل: إن الذي أتبع رضوان الله.
من لم يغلل، والذي باء بالسخط من غل، وقيل الذي أتبع الرضوان: من استشهد بأحد، والذي باء بالسخط: المنافقون الذين رجعوا عن الغزو هُمْ دَرَجاتٌ ذووا درجات، والمعنى تفاوت بين منازل أهل الرضوان وأهل السخط، أو التفاوت بين درجات أهل الرضوان فإن بعضهم فوق بعض، فكذلك درجات أهل السخط لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ الآية إخبار بفضل الله على المؤمنين ببعث رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم مِنْ أَنْفُسِهِمْ معناه في الجنس واللسان، فكونه من جنسهم يوجب الأنس به، وقلة الاستيحاش منه، وكونه بلسانهم يوجب حسن الفهم عنه، ولكونه منهم يعرفون حسبه وصدقه وأمانته صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم ويكون، هو صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم أشفق عليهم وأرحم بهم من الأجنبيين «٣» أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ الآية. عتاب للمسلمين على كلامهم فيمن
(٢). الحديث أخرجه أحمد بتفصيل عن أبي هريرة ج ٢ ص ٥٦٢.
(٣). الأشهر جمع أجنبي على أجانب والمراد: أغراب.
يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ أي جمع المسلمين والمشركين يوم أحد وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا الآية: كان رأي عبد الله بن أبي بن سلول أن لا يخرج المسلمون إلى المشركين، فلما طلب الخروج قوم من المسلمين، فخرج رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم: غضب عبد الله، وقال: أطاعهم وعصانا، فرجع ورجع معه ثلاثمائة رجل وخمسون فمشى في أثرهم عبد الله بن عمر بن حرام الأنصاري، وقال لهم: ارجعوا قاتلوا في سبيل الله، أو ادفعوا، فقال له عبد الله بن أبيّ: ما أرى أن يكون لو علمنا أنه يكون قتال لكنا معكم أَوِ ادْفَعُوا أي كثروا السواد، وإن لم تقاتلوا الَّذِينَ قالُوا بدل من الذين نافقوا، أو لإخوانهم في النسب، لأنهم كانوا من الأوس والخزرج قُلْ فَادْرَؤُا أي ادفعوا المعنى ردّ عليهم بَلْ أَحْياءٌ إعلام بأن حال الشهداء حال الأحياء من التمتع بأرزاق الجنة بخلاف سائر الأموات من المؤمنين، فإنهم لا يتمتعون بالأرزاق حتى يدخلوا الجنة يوم القيامة وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ المعنى: أنهم يفرحون بإخوانهم الذين بقوا في الدنيا من بعدهم لأنهم يرجون أن يستشهدوا مثلهم فينالوا مثل ما نالوا من الشهادة أَلَّا خَوْفٌ في موضع المفعول أو بدل من الذين يَسْتَبْشِرُونَ كرر ليذكر ما تعلق به من النعمة والفضل الَّذِينَ اسْتَجابُوا صفة للمؤمنين أو مبتدأ وخبره لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الآية، ونزلت في الذين خرجوا مع رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم في خلف المشركين بعد غزوة أحد، فبلغ بهم إلى «حمراء الأسد» وهي على ثمانية أميال من المدينة، وأقام بها ثلاثة أيام، وكانوا قد أصابتهم جراحات وشدائد، فتجلدوا وخرجوا فمدحهم الله بذلك
الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ الآية: لما خرج رسول الله صلّى الله عليه
كقولك ركبت الخيل إذا ركبت فرسا فَزادَهُمْ الفاعل ضمير المفعول، وهو إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، والصحيح أن الإيمان يزيد وينقص، فمعناه هنا قوة يقينهم وثقتهم بالله حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ كلمة يدفع بها ما يخاف ويكره وهي التي قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، ومعنى حسبنا الله: كافينا وحده فلا نخاف غيره، ومعنى: ونعم الوكيل: ثناء على الله وأنه خير من يتوكل العبد عليه ويلجأ إليه فَانْقَلَبُوا أي رجعوا بنعمة السلامة وفضل الأجر وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ بخروجهم مع رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم ذلِكُمُ الشَّيْطانُ المراد هنا أبو سفيان، أو نعيم الذي أرسله أبو سفيان أبو إبليس، وذلكم مبتدأ، والشيطان خبره وما بعده مستأنف، أو الشيطان نعت وما بعده خبر يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ أي يخوفكم أيها المؤمنون أولياءه وهم الكفار، فالمفعول الأول محذوف ويدل عليه قوله: فلا تخافوهم وقرأ ابن مسعود وابن عباس يخوفكم أولياءه، وقيل المعنى يخوف المنافقين وهم أولياؤه من كفار قريش، فالمفعول الثاني على هذا محذوف وَلا يَحْزُنْكَ «١» تسلية للنبي صلّى الله عليه واله وسلّم، وقرأ [الباقون ما عدا نافع] بفتح الياء وضم الزاي حيث وقع مضارعا من حزن الثاني، وهو أشهر في اللغة من أحزن الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ أي يبادرون إلى أقواله وأفعاله وهم المنافقون والكفار إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الآية هم المذكورون قبل أو على العموم في جميع الكفار أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ أي نمهلهم أن مفعول يحسبن، وما اسم أن فحقها أن تكتب منفصلة وخير خبر: إنما نملي لهم، ما هنا كافة والمعنى ردّ عليهم أي أن الإملاء لهم ليس خيرا لهم إنما هو استدراج ليكتسبوا الإثم
لَتُبْلَوُنَّ الآية: خطاب للمسلمين، والبلاء في الأنفس بالموت والأمراض، وفي الأموال
تحسبن بالتاء: فهو خطاب للنبي صلّى الله عليه واله وسلّم والذين يفرحون مفعول به، وبمفازة المفعول الثاني، وكرر فلا تحسبنهم: للتأكيد، ومن قرأ لا يحسبن بالياء من أسفل، فإنه حذف المفعولين، لدلالة مفعولي لا تحسبنهم عليهما وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ ذكر في البقرة قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ أي يذكرون الله على كل حال فكأن هذه الهيآت حصر لحال بني آدم، وقيل: إن ذلك في الصلاة: يصلون قياما فإن لم يستطيعوا صلوا قعودا، فإن لم يستطيعوا صلوا على جنوبهم رَبَّنا أي يقولون: ربنا ما خلقت هذا لغير فائدة بل خلقته وخلقت البشر، لينظروا فيه فيعرفونك سَمِعْنا مُنادِياً هو النبي صلّى الله عليه وسلّم ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ أي على ألسنة رسلك
مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى من لبيان الجنس، وقيل زائدة لتقدّم النفي بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ النساء والرجال سواء في الأجور والخيرات وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ هم المهاجرون آذاهم المشركون
(٢). قرأ بها الباقون.
(٢). أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة وأوله: ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات:
رواه النووي في فضائل الوضوء.