تفسير سورة يس

تفسير ابن جزي
تفسير سورة سورة يس من كتاب التسهيل لعلوم التنزيل المعروف بـتفسير ابن جزي .
لمؤلفه ابن جُزَيِّ . المتوفي سنة 741 هـ
سورة يس
مكية إلا آية ٤٥ فمدنية وآياتها ٨٣ نزلت بعد الجن

سورة يس
مكية إلا ٤٥ فمدنية وآياتها ٨٣ نزلت بعد الجن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة يس) قد تكلمنا في البقرة على حروف الهجاء وقيل: في يس إنه من أسماء النبي ﷺ وقيل: معناه يا إنسان تَنْزِيلَ بالرفع «١» خبر ابتداء مضمر وبالنصب مصدر أو مفعول بفعل مضمر لِتُنْذِرَ قَوْماً هم قريش ويحتمل أن يدخل معهم سائر العرب وسائر الأمم ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ ما نافية والمعنى: لم يرسل إليهم ولا لآبائهم رسول ينذرهم، وقيل المعنى: لتنذر قوما مثل ما أنذر آباؤهم، فما على هذا موصولة بمعنى الذي، أو مصدرية والأول أرجح لقوله فَهُمْ غافِلُونَ يعني أن غفلتهم بسبب عدم إنذارهم، وتكون بمعنى قوله: ما أتاهم من نذير من قبلك ولا يعارض هذا بعث الأنبياء المتقدمين، فإن هؤلاء القوم لم يدركوهم ولا آباؤهم الأقربون لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ أي سبق القضاء إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا الآية: فيها ثلاثة أقوال: الأول أنها عبارة عن تماديهم على الكفر، ومنع الله لهم من الإيمان، فشبههم بمن جعل في عنقه غل يمنعه من الالتفات، وغطى على بصره فصار لا يرى، والثاني أنها عبارة عن كفهم عن إذاية النبي ﷺ حين أراد أبو جهل أن يرميه بحجر، فرجع عنه فزعا مرعوبا، والثالث: أن ذلك حقيقة في حالهم في جهنم، والأول أظهر وأرجح لقوله قبلها «فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» وقوله بعدها «وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ الذقن هي طرف الوجه حيث تنبت اللحية، والضمير للأغلال، وذلك أن الغل حلقة في العنق، فإذا كان واسعا عريضا وصل إلى الذقن فكان أشدّ على المغلول، وقيل: الضمير للأيدي على أنها لم يتقدم لها ذكر، ولكنها تفهم من سياق الكلام، لأن المغلول تضم يداه في الغل إلى عنقه، وفي مصحف ابن مسعود: إنا جعلنا في أيديهم أغلالا فهي إلى الأذقان. وهذه القراءة تدل على هذا المعنى، وقد أنكره الزمخشري
(١). قرأ نافع بالرفع وقرأ آخرون بالنصب.
فَهُمْ مُقْمَحُونَ يقال قمح البعير إذا رفع رأسه، وأقمحه غيره إذا فعل به ذلك، والمعنى أنهم لما اشتدت الأغلال حتى وصلت إلى أذقانهم اضطرت رؤوسهم إلى الارتفاع، وقيل:
معنى مقمحون ممنوعون من كل خير.
وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا الآية: السد «١» الحائل بين الشيئين، وذلك عبارة عن منعهم من الإيمان فَأَغْشَيْناهُمْ أي غطينا على أبصارهم وذلك أيضا مجاز يراد به إضلالهم وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ الآية: ذكرنا معناها وإعرابها في [البقرة: ٦] إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ المعنى أن الإنذار لا ينفع إلا من اتبع الذكر وهو القرآن وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ معناه كقولك: إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وقد ذكرناه في [فاطر: ١٨] إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى أي نبعثهم يوم القيامة، وقيل: إحياؤهم إخراجهم من الشرك إلى الإيمان، والأوّل أظهر وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ أي ما قدموا من أعمالهم، وما تركوه بعدهم، كعلم علموه أو تحبيس [وقف] حبسوه، وقيل: الأثر هنا: الخطا إلى المساجد، وجاء ذلك في الحديث إِمامٍ مُبِينٍ أي في كتاب وهو اللوح المحفوظ أو صحائف الأعمال.
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا الضمير لقريش، ومثلا وأصحاب القرية مفعولان باضرب على القول بأنها تتعدى إلى مفعولين، وهو الصحيح والقرية أنطاكية إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ هم من الحواريين الذين أرسلهم عيسى عليه الصلاة والسلام، يدعون الناس إلى عبادة الله، وقيل:
بل هم رسل أرسلهم الله، ويدل على هذا قول قومهم: ما أنتم إلا بشر مثلنا، فإن هذا إنما يقال: لمن ادعى أن الله أرسله فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ أي قوينا الاثنين برسول ثالث، قيل: اسمه شمعون رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ إنما أكدوا الخبر هنا باللام لأنه جواب المنكرين، بخلاف الموضع الأول فإنه إخبار مجرد قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ أي تشاءمنا بكم، وأصل اللفظة من زجر الطير ليستدل على ما يكون من شر أو خير، وإنما تشاءموا بهم لأنهم جاءوهم بدين غير دينهم، وقيل: وقع فيهم الجذام لما كفروا، وقيل: قحطوا
قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أي قال الرسل لأهل القرية: شؤمكم معكم أي إنما الشؤم الذي أصابكم
(١). السد فيه لغتان قرأ نافع بالضم وقرأ الباقون بفتح السين.
بسبب كفركم لا بسببنا أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ دخلت همزة الاستفهام على حرف الشرط وفي الكلام حذف تقديره: أتطيرون أن ذكرتم يَسْعى أي يسرع بجده ونصيحته، وقيل: اسمه حبيب النجار اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ أي هؤلاء المرسلون لا يسألونكم أجرة على الإيمان، فلا تخسرون معهم شيئا من دنياكم، وترجون معهم الاهتداء في دينكم وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي المعنى أي شيء يمنعني من عبادة ربي؟ وهذا توقيف سؤال وإخبار عن نفسه قصد به البيان لقومه، ولذلك قال: وإليه ترجعون فخاطبهم إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ هذا وصف للآلهة، والمعنى: كيف أتخذ من دون الله آلهة لا يشفعون ولا ينقذونني من الضر إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي: إن اتخذت آلهة غير الله فإني لفي ضلال مبين إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ خطاب لقومه أي: اسمعوا قولي واعملوا بنصيحتي، وقيل: خطاب للرسل ليشهدوا له.
قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قيل: هنا محذوف يدل عليه الكلام، وروي في الأثر وهو أن الرجل لما نصح قومه قتلوه فلما مات قيل له: ادخل الجنة، واختلف هل دخلها حين موته كالشهداء؟ أو هل ذلك بمعنى البشارة بالجنة ورؤيته لمقعده منها؟ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي تمنّى أن يعلم قومه بغفران الله له على إيمانه فيؤمنون، ولذلك ورد في الحديث أنه نصح لهم حيا وميتا، وقيل: أراد أن يعلموا ذلك فيندموا على فعلهم معه وينفعهم ذلك وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ المعنى أن الله أهلكهم بصيحة صاحها جبريل، ولم يحتج في تعذيبهم إلى إنزال جند من السماء، لأنهم أهون من ذلك، وقيل: المعنى ما أنزل الله على قومه ملائكة رسلا كما قالت قريش: لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً [الفرقان: ٧] ولفظ الجند أليق بالمعنى الأول، وكذلك ذكر الصيحة بعد ذلك وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ ما كنا لننزل جندا من السماء على أحد فَإِذا هُمْ خامِدُونَ أي ساكنون لا يتحركون ولا ينطقون.
يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ نداء للحسرة كأنه قال: يا حسرة احضري فهذا وقتك، وهذا التفجع عليهم استعارة في معنى التهويل والتعظيم لما فعلوا من استهزائهم بالرسل، ويحتمل أن يكون من كلام الملائكة، أو المؤمنين من الناس، وقيل: المعنى يا حسرة العباد على أنفسهم أَلَمْ يَرَوْا الضمير لقريش أو للعباد على الإطلاق، والرؤية هنا بمعنى العلم وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا
181
مُحْضَرُونَ
قرئ لما بالتخفيف وهي لام التأكيد دخلت على ما المزيدة وإن على هذا مخففة من الثقيلة، وقرئ بالتشديد وهي بمعنى إلا «١»، وإن على هذا نافية وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ ما معطوفة على ثمره أي ليأكلوا من الثمر وما عملته أيديهم بالحرث والزراعة والغراسة، وقيل ما نافية وقرئ ما عملت من غير هاء «٢» وما على هذا معطوفة الْأَزْواجَ يعني أصناف المخلوقات ثم فسرها بقوله: مما تنبت الأرض وما بعده، فمن في المواضع الثلاثة للبيان وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ يعني أشياء لا يعلمها بنو آدم كقوله: وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ [النحل: ٨].
نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ أي نجرده منه وهي استعارة وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها أي لحد موقت تنتهي إليه من فلكها، وهي نهاية جريها إلى أن ترجع في المنقلبين الشتاء والصيف، وقيل: مستقرها: وقوفها كل وقت زوال، بدليل وقوف الظل حينئذ، وقيل:
مستقرها يوم القيامة حين تكوّر، وفي الحديث: مستقرها تحت العرش تسجد فيه كل ليلة بعد غروبها»، وهذا أصح الأقوال لوروده عن النبي ﷺ في الحديث المروي في البخاري عن أبي ذر «٣»، وقرئ لا مستقر لها أي لا تستقر عن جريها وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ قرأ نافع «٤» بالرفع على الابتداء أو عطف على الليل، وآخرون بالنصب على إضمار فعل، ولا بد في قدّرناه من حذف تقديره: قدرنا سيره منازل، ومنازل القمر ثمانية وعشرون ينزل القمر كل ليلة واحدة منها من أول الشهر، ثم يستتر في آخر الشهر ليلة أو ليلتين، وقال الزمخشري: وهذه المنازل هن مواضع النجوم وهي السرطان، البطين، الثريا، الدبران، الهقعة الهنعة، الذراع، النثرة، الطرف، الجبهة، الزبرة الصرفة، العوى، السماك، الغفر، الزباني، الإكليل، القلب، الشولة، النعائم، البلدة، سعد بلع، سعد الذابح، سعد السعود، سعد الأخبية، فرغ الدلو المقدم، فرغ الدلو المؤخر، بطن الحوت حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ العرجون هو غصن النخلة شبه القمر به إذا انتهى في نقصانه، والتشبيه في ثلاثة
(١). قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي: لمّا بالتشديد وقرأها الباقون بدون تشديد.
(٢). قرأها حمزة والكسائي وأبو بكر: ما عملت، وقرأ الباقون: وما عملته أيديهم.
(٣). انظر الجامع الصحيح للبخاري كتاب بدء الخلق ج ٤ ص ٧٥.
(٤). نافع وابن كثير وأبو عمرو والباقون: والقمر بالنصب.
182
أوصاف: وهي الرقة، والانحناء، والصفرة، ووصفه بالقديم لأنه حينئذ تكون له هذه الأوصاف
لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ المعنى لا يمكن الشمس أن تجتمع مع القمر بالليل فتمحو نوره، وهكذا قال بعضهم، ويحتمل أن يريد أن سير الشمس في الفلك بطيء، فإنها تقطع الفلك في سنة وسير القمر سريع، فإنه يقطع الفلك في شهر، والبطيء لا يدرك السريع وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ يعني أن كل واحد منهما جعل الله له وقتا موقتا واحدا معلوما لا يتعدّاه، فلا يأتي الليل حتى ينفصل النهار، كما لا يأتي النهار حتى ينفصل الليل، ويحتمل أن يريد أن آية الليل وهي القمر لا تسبق آية النهار وهي الشمس: أي لا تجتمع معه فيكون المعنى كالذي قيل في قوله «لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر» فحصل من ذلك أن الشمس لا تجتمع مع القمر وأن القمر لا يجتمع مع الشمس وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ذكر في [الأنبياء: ٣٣].
وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ معنى المشحون: المملوء، والفلك هنا يحتمل أن يريد به جنس السفن، أو سفينة نوح عليه السلام، وأما الذرية «١» فقيل: إنه يعني الآباء الذين حملهم الله في سفينة نوح عليه السلام، وسمى الآباء ذرية لأنها تناسلت منهم، وأنكر ابن عطية ذلك، وقال: إنه يعني النساء، وهذا بعيد، والأظهر أنه أراد بالفلك جنس السفن، فيعني جنس بن آدم، وإنما خص ذريتهم بالذكر لأنه أبلغ في الامتنان عليهم، ولأن فيه إشارة إلى حمل أعقابهم إلى يوم القيامة، وإن أراد بالفلك سفينة نوح فيعني بالذرية من كان في السفينة، وسماهم ذرية، لأنهم ذرية آدم ونوح، فالضمير في ذريتهم على هذا النوع بني آدم كأنه يقول الذرية منهم وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ إن أراد بالفلك سفينة نوح فيعني بقوله: من مثله سائر السفن التي يركبها سائر الناس، وإن أراد بالفلك جنس السفن فيعني بقوله من مثله الإبل وسائر المركوبات، فتكون المماثلة على هذا في أنه مركوب لا غير، والأول أظهر، لقوله وإن نشأ نغرقهم، ولا يتصور هذا في المركوبات غير السفن فَلا صَرِيخَ لَهُمْ أي لا مغيث لهم ولا منقذ لهم من الغرق إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا قال الكسائي: نصب رحمة على الاستثناء كأنه قال: إلا أن نرحمهم، وقال الزجاج: نصب رحمة على المفعول من أجله كأنه قال: إلا لأجل رحمتنا إياهم وَمَتاعاً إِلى حِينٍ يعني آجالهم.
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ الضمير لقريش، وجواب إذا محذوف تقديره: أعرضوا يدل عليه إلا كانوا عنها معرضين، والمراد بما بين أيديهم وما خلفهم: ذنوبهم المتقدّمة والمتأخرة، وقيل: ما بين أيديهم عذاب الأمم المتقدمة، وما
(١). قرأ ابن عامر ونافع. ذرياتهم بالجمع وقرأ الباقون: ذريتهم.
183
خلفهم عذاب الآخرة قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ كان النبي ﷺ والمؤمنون يحضون على الصدقات وإطعام المساكين فيجيبهم الكفار بهذا الجواب، وفي معناه قولان: أحدهما أنهم قالوا كيف نطعم المساكين ولو شاء الله أن يطعمهم لأطعمهم، ومن حرمهم الله نحن نحرمهم، وهذا كقولهم: كن مع الله على المدبر، والآخر أن قولهم رد على المؤمنين، وذلك أن المؤمنين كانوا يقولون: إن الأمور كلها بيد الله، فكأن الكفار يقولون لهم: لو كان كما تزعمون لأطعم الله هؤلاء فما بالكم تطلبون إطعامهم منا، ومقصدهم في الوجهين احتجاج لبخلهم، ومنعهم الصدقات واستهزاء بمن حضهم على الصدقات إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ يحتمل أن يكون من بقية كلامهم خطابا للمؤمنين، أو يكون من كلام الله خطابا للكافرين وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ يعنون يوم القيامة أو نزول العذاب بهم ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً أي ما ينتظرون إلا صيحة واحدة، وهي النفخة الأولى في الصور وهي نفخة الصعق تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ أي يتكلمون في أمورهم وأصل يخصمون «١» يختصمون، ثم أدغم، وقرئ بفتح الخاء وبكسرها واختلاس حركتها فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً أي لا يقدرون أن يوصوا بما لهم وما عليهم لسرعة الأمر وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ أي لا يستطيعون أن يرجعوا إلى منازلهم لسرعة الأمر.
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ هذه النفخة الثانية وهي نفخة القيام من القبور، والأجداث هي القبور، وينسلون يسرعون المشي، وقيل: يخرجون قالُوا يا وَيْلَنا الويل منادى أو مصدر مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا المرقد يحتمل أن يكون اسم مصدر أو اسم مكان، قال أبيّ بن كعب ومجاهد: إن البشر ينامون نومة قبل الحشر، قال ابن عطية هذا غير صحيح الإسناد، وإنما الوجه في معنى قولهم: من مرقدنا: أنها استعارة وتشبيه به يعني أن قبورهم شبهت بالمضاجع، لكونهم فيها على هيئة الرقاد، وإن لم يكن رقاد في الحقيقة هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ هذا مبتدأ وما بعده خبر وقيل:
إن هذا صفة لمرقدنا وما وعد الرحمن مبتدأ محذوف الخبر وهذا ضعيف، ويحتمل أن يكون هذا الكلام من بقية كلامهم، أو من كلام الله أو الملائكة أو المؤمنين يقولونها للكفار على وجه التقريع إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً يعني النفخة الثانية وهي نفخة القيام.
(١). فيها ثلاث قراءات: قرأ نافع يخصّمون وقرأ ورش: يخصّمون وعاصم: يخصّمون وقرأ حمزة: يخصمون.
184
إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ قرأ نافع وغيره شغل بسكون الغين وقرأ عاصم وآخرون بضم الغين، عام في الاشتغال باللذات فاكِهُونَ قرئ بالألف ومعناه أصحاب فاكهة، وبغير ألف وهو من الفكاهة بمعنى الراحة والسرور فِي ظِلالٍ جمع ظل، وبالضم جمع ظلة، عَلَى الْأَرائِكِ جمع أريكة وهي السرير وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ أي ما يتمنون، وقيل: معناه أن ما يدعون به يأتيهم سَلامٌ مبتدأ، وقيل بدل مما يدعون قَوْلًا مصدر مؤكد، والمعنى: أن السلام عليهم قول من الله بواسطة الملك أو بغير واسطة.
وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ أي انفردوا عن المؤمنين، وكونوا على حدة جِبِلًّا كَثِيراً الجبلّ الأمة العظيمة، وقال الضحاك: أقلها عشرة آلاف ولا نهاية لأكثرها، وقرأ عاصم ونافع جبلّا بكسر الجيم والباء وتشديد اللام، وبضمها مع التخفيف، وبضم الجيم وإسكان الباء، وهي لغات بمعنى واحد الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ أي نمنعهم من الكلام فتنطق أعضاؤهم يوم القيامة وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ هذا تهديد لقريش، والطمس على الأعين هو العمى، والصراط الطريق وأنى استفهام يراد به النفي. فمعنى الآية لو نشاء لأعميناهم فلو راموا أن يمشوا على الطريق لم يبصروه، وقيل: يعني عمى البصائر أي: لو نشاء لختمنا على قلوبهم، فالطريق على هذا استعارة بمعنى الإيمان والخير وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ هذا تهديد بالمسخ، فقيل: معناه المسخ قردة وخنازير وحجارة، وقيل: معناه لو نشاء لجعلناهم مقعدين مبطولين لا يستطيعون تصرفا، وقيل: إن هذا التهديد كله بما يكون يوم القيامة، والأظهر أنه في الدنيا عَلى مَكانَتِهِمْ المكانة المكان، والمعنى لو نشاء لمسخناهم مسخا يقعدهم في مكانهم فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ أي إذا مسخوا في مكانهم لم يقدروا أن يذهبوا ولا أن يرجعوا وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ «١» أي نحول خلقته من القوة إلى الضعف، ومن الفهم إلى البله «٢» وشبه ذلك كما قال تعالى
(١). قرأ أبو عمرو وابن عامر: جبلا بضم الجيم وسكون الباء. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي: جبلا بضمتين.
(٢). ننكسه في الخلق: قرأ عاصم وحمزة: ننكّسه: بتشديد الكاف وقرأ الباقون بدون تشديد. وسكون النون الثانية. وفي بقية الآية: أفلا يعقلون: قرأ نافع وابن عامر: أفلا تعقلون. والباقون بالياء.
ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً [الروم: ٥٤] وإنما قصد بذكر ذلك هنا للاستدلال على قدرته تعالى على مسخ الكفار، كما قدر على تنكيس الإنسان إذا هرم.
وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ الضميران لمحمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وذلك ردّ على الكفار في قولهم: إنه شاعر، وكان صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لا ينظم الشعر ولا يزنه، وإذا ذكر بيت شعر كسر وزنه، فإن قيل: قد روي عنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنه قال: أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب وروي أيضا عنه صلى الله عليه وسلم: هل أنت إلا إصبع دميت، وفي سبيل الله ما لقيت، وهذا الكلام على وزن الشعر فالجواب أنه ليس بشعر، وأنه لم يقصد به الشعر، وإنما جاء موزونا بالاتفاق لا بالقصد، فهو كالكلام المنثور، ومثل هذا يقال في مثل ما جاء في القرآن من الكلام الموزون، ويقتضي قوله «وما ينبغي له» تنزيه النبي ﷺ عن الشعر لما فيه من الأباطيل وإفراط التجاوز، حتى يقال: إن الشعر أطيبه أكذبه، وليس كل الشعر كذلك فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: «إن من الشعر لحكمة» «١» وقد أكثر الناس في ذم الشعر ومدحه، وإنما الإنصاف قول الشافعي الشعر كلام والكلام منه حسن ومنه قبيح إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ الضمير للقرآن يعني أنه ذكر لله أو تذكير للناس أو شرف لهم لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا «٢» أي حيّ القلب والبصيرة وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ أي يجب عليهم العذاب.
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً مقصد الآية تعديد النعم وإقامة الحجة، والأيدي هنا عند أهل التأويل عبارة عن القدرة، وعند أهل التسليم من المتشابه الذي يجب الإيمان به وعلمه عند الله فَمِنْها رَكُوبُهُمْ الركوب بفتح الراء هو المركوب وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ يعني الأكل منها والحمل عليها، والانتفاع بالجلود والصوف وغيره وَمَشارِبُ يعني الألبان لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ الضمير في يستطيعون للأصنام، وفي نصرهم للمشركين، ويحتمل العكس، ولكنّ الأول أرجح، فإنه لما ذكر أن المشركين اتخذوا الأصنام لينصروهم:
أخبر أن الأصنام لا يستطيعون نصرهم فخاب أملهم وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ الضمير الأول للمشركين والثاني للأصنام يعني أن المشركين يخدمون الأصنام ويتعصبون لهم حتى أنهم لهم كالجند، وقيل: بالعكس بمعنى أن الأصنام جند محضرون لعذاب المشركين في الآخرة والأول أرجح، لأنه تقبيح لحال المشركين
فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ تسلية للنبي ﷺ معللة لما بعدها.
(١). حديث رواه أحمد وأبو داود عن ابن عباس وأوله: إن من البيان لسحرا.
(٢). قرأ نافع وابن عامر: لتنذر من كان حيا. وقرأ الباقون: لينذر.
186
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ هذه الآية وما بعدها إلى آخر السورة براهين على الحشر يوم القيامة، ورد على من أنكر ذلك، والنطفة هي نطفة المني التي خلق الإنسان منها، ولا شك أن الإله الذي قدر على خلق الإنسان من نطفة قادر على أن يخلقه مرة أخرى عند البعث، وسبب الآية أن العاصي بن وائل جاء إلى النبي ﷺ بعظم رميم فقال: يا محمد من يحيي هذا؟ وقيل إن الذي جاء بالعظم أمية بن خلف وقيل: أبي بن خلف فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله يحييه ويميتك ثم يحييك ويدخلك جهنم فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ أي متكلم قادر على الخصام يبين ما في نفسه بلسانه وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا إشارة إلى قول الكافرين: من يحيي هذا العظم وَنَسِيَ خَلْقَهُ أي نسي الاستدلال بخلقته الأولى على بعثه، والنسيان هنا يحتمل أن يكون بمعنى الذهول أو الترك وَهِيَ رَمِيمٌ أي بالية متفتتة قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ استدلال بالخلقة الأولى على البعث وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ أي يعلم كيف يخلق كل شيء، فلا يصعب عليه بعث الأجساد بعد فنائها، والخلق هنا يحتمل أن يكون مصدرا أو بمعنى المخلوق الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً هذا دليل آخر على إمكان البعث، وذلك أن الذين أنكروه من الكفار والطبائعيين قالوا: طبع الموت يضاد طبع الحياة فكيف تصير العظام حية؟ فأقام الله عليهم الدليل من الشجر الأخضر الممتلئ ماء، مع مضادة طبع الماء للنار. ويعني بالشجر زناد العرب وهو شجر المرخ والعفار، فإنه يقطع من كل واحد منهما غصنا أخضر يقطر منه الماء، فيسحق المرخ على العفار فتنقدح النار بينهما: قال ابن عباس: ليس من شجرة إلا وفيها نار إلا العناب، ولكنه في المرخ والعفار أكثر.
أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ هذا دليل آخر على البعث، بأن الإله الذي قدر على خلق السموات والأرض على عظمهما وكبر أجرامهما قادر على أن يخلق أجساد بني آدم بعد فنائها، والضمير في مثلهم يعود على الناس وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ذكر في هذين الاسمين أيضا استدلال على البعث، وكذلك في قوله إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ لأن هذا عبارة عن قدرته على جميع الأشياء ولا شك أن الخلاق العليم القدير لا يصعب عليه إعادة الأجساد فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ في هذا استدلال على البعث، وتنزيه لله عما نسبه الكفار إليه من العجز عن البعث، فإنهم ما قدروا الله حق قدره، وكل من أنكر البعث فإنما أنكره لجهله بقدرة الله سبحانه وتعالى.
187
Icon