تفسير سورة الصافات

اللباب
تفسير سورة سورة الصافات من كتاب اللباب في علوم الكتاب المعروف بـاللباب .
لمؤلفه ابن عادل الحنبلي . المتوفي سنة 775 هـ
سورة الصافات
مكية١. وهي مائة واثنتان وثمانون آية، وثمانمائة وستون كلمة، وثلاثة آلاف وثمانمائة وستة وعشرون حرفا.
١ في قول الجميع قرره القرطبي ١٥/٦١ وابن الجوزي في زاد المسير ٧/٤٤، والبغوي في معالم التنزيل ٦/١٧..

قوله تعالى: ﴿والصافات صَفَّا﴾ قرأ أبو عمرو وحمزة بإدغام التاء من «الصَّافَّاتِ» و «الزَّاجرَاتِ» و «التَّاليَاتِ» في صاد «صفاً» وزاي «زجراً» وذال «ذكراً» وكذلك فعلا في ﴿والذاريات ذَرْواً﴾ [الذاريات: ١] وفي ﴿فالملقيات ذِكْراً﴾ [المرسلات: ٥]، وفي ﴿والعاديات ضَبْحاً﴾ [العاديات: ١] بخلافٍ عن خَلاَّدٍ في الأخيرين وأبو عمرو جار على أصله في إدغام المتقاربين كما هو المعروف من أصله وحمزة خارج عن أصله والفرق بين مذهبيهما أن أبا عمرو يجيز الروم وحمزة لا يجيزه وهذا كما اتفقا في إدْغَام ﴿بَيَّتَ طَآئِفَةٌ﴾ [النساء: ٨١] وإن كان ليس من أصل حمزة إدغام مثله وقرأ الباقون بإظهار جميع ذلك.
قال الواحدي: إدغام التاء في الصاد حسن مقاربة الحرفين، ألا ترى أنهما من
270
طَرَف اللسان وأصول الثنايا يسمعان في الهمس والمدغم فيه يزيد على المدغم بالإطباق والصّفير وإدغام الأنقص في الأزيد حسن ولا يجوز أن يدغم الأزيد صوتاً في الأنقص.
وأيضاً إدغام التاء في الزاي في قوله: ﴿فالزاجرات زَجْراً﴾ حسن لأن التاء مهموسة والزاي مجهورة وفيها زيادة صفير كما كان في الصاد وأيضاً حَسُنَ إدغام التاء في الذال في قوله: ﴿فالتاليات ذِكْراً﴾ لاتفاقهما في أنهما من طَرَفِ اللسان وأصول الثنايا. وأما من قرأ بالإظهار فلاختلاف المَخَارج ومفعول «الصَّافَّاتِ» «والزَّاجِرَاتِ» غير مراد إذ المعنى الفاعلات لذلك وأعرب أبو البقاء «صَفًّا» مفعولاً به على أنه قد يقع على المصفوف وهذا ضعيف وقيل: وهو مراد والمعنى والصافات أنفسها وهم الملائكة، أو المجاهدون أو المصلون أو الصفات أجنحتها وهي الطير، كقوله: ﴿والطير صَآفَّاتٍ﴾ [النور: ٤١] والزاجرات: السحاب أو العصاة إن أريد بهم العلماء، والزجر الدفع بقوة وهو قوة التصويت وأنشد:
٤١٨٩ - زَجْر أبِي عُرْوَةَ السِّبَاعَ إِذَا أشْفَق أَنْ يَخْتَلِطْنَ بالغَنَم
وَزَجرت الإبلَ والغَنَمَ إذَا فَزِغَتْ مِنْ صَوْتِكَ وأما «والتَّالِيَاتِ» فيجوز أن يكون «ذكراً» مفعوله، والمراد بالذكر القرآن وغيره من تسبيح وتحميدٍ، ويجوز أن يكون «ذكراً» مصدراً أيضاً من معنى التَّالِيَاتِ، وهذا أوفق لما قبله قال الزمخشري: الفاء في «فالزاجرات» (وفي) فالتاليات إما أن تدل على ترتيب معانيهما في الوجود كقوله:
271
٤١٩٠ - يَا لَهْفَ زيَّابَة لِلْحَارِث الصْ صَابِحِ فَالغَانِم فَالآيِب
أي الذي صبح فغنم فآب، وإما على ترتبها في التفاوت من بعض الوجوه كقولك: خذ الأفضل فالأكمل واعمل الأحسن فالأجمل، وإما على ترتب موصوفاتها في ذلك كقوله (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ) :«رَحِمَ اللَّهُ المُحَلِّقِينَ فَالمُقَصِّرِينَ» فأما هنا فإن وجدت الموصوف كانت للدلالة على ترتب الصفات في التفاضل، فإذا كان الموحد الملائكة فيكون الفضل للصف ثم للزجر، ثم للتلاوة وعلى العكس وإن ثَلَّثْتَ الموصوف فترتب في الفضل، فيكون «الصافات» ذوات فضل والزجرات أفضل (والتاليات أبهر فضلاً أو على العكس يعني بالعكس فيال موضعين أنك ترتقي من أفضل) إلى فاضل إلى مفضول أو تبدأ بالأدنى ثم بالفاضل ثم بالأفضل.
والواو في هذه للقسم، والجواب قوله: ﴿إِنَّ إلهكم لَوَاحِدٌ﴾.
وقد ذكر الكلام في الواو (و) الثانية والثالثة هي للقسم أو للعطف.

فصل


قال ابن عباس والحسن وقتادة: والصَّافَّات صفًّا هم الملائكة في السماء يصفون كصوفوف الخلق في الدنيا للصلاة وقال - عليه (الصلاة و) السلام -: «أَلاَ تَصُفُّونَ تَصُفُّ المَلاَئِكَةُ عِنْدَ رَبِّهِمْ» ؟ قُلْنَا: وَكَيْفَ تصفُّ المَلاَئِكَةُ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ: يُتمُّونَ الصُّفُوفَ المُقَدَّمة وَيَتَرَاصُّون في الصَّفِّ «وقيل: هم الملائكة تصُفُّ أجْنِحَتَهَا في الهواء واقفة
272
حتى يأمر (ها) الله بما يريد، وقيل: هي الطير لقوله تعالى» والطّير صَافَّاتِ «» فالزاجرات زجراً «يعني الملائكة تزجر السحاب وتسوقه، وقال قتادة: هي زواجر القرآن تنهي وتزجر عن القبيح» فالتاليات ذكراً «هم الملائكة يتلون ذكر الله وقيل: هم جماعة قُرَّاء القرآن، وهذا كله قسم، وقيل: فيه إضمار، أي ورَبَّ الصّافّاتِ والزاجرات والتاليات.

فصل


قال أبو مسلم الأصفهاني لا يجوز حمل هذه الألفاظ على الملائكة لأنها مُشْعِرَةٌ بالتأنيث والملائكة مبرأون عن هذه الصفة، وأجيب بوجهين:
الأول: أن الصافات جمع الجمع فإنه يقال جماعة صافة، ثم يجمع على صافات.
والثاني: أنهم مبرأون عن التأنيث المعنوي وأما التأنيث اللفظي فلا وكيف وهم يسمون بالملائكة مع أن علامة التأنيث حاصلة.

فصل


اختلف الناس ههنا في المقسم به على قولين:
أحدهما: أن المقسم به خالق هذه الأشياء لِنَهْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن الحلف بغير الله تعالى ولأن الحلف في مثل هذا الموضع تعظيم للمحلوف به، ومثل هذا التعظيم لا يليق إلا بالله تعالى ومما يؤكِّد هذا أنه تعالى صرح به في قوله: ﴿والسمآء وَمَا بَنَاهَا والأرض وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا﴾ [الشمس: ٥ - ٧]
الثاني: أن المقسم به هو هذه الأشياء لظاهر اللفظ فالعدول عنه خلافُ الدليل وأما قوله تعالى: ﴿وَمَا بَنَاهَا﴾ فإنه علق لفظ القسم بالسماء ثم عطف عليه القسم بالباء في السماء ولو كان لامراد من القسم بالسماء القسم بمن بنى السماء لزم التَّكرار في موضع واحد وأنه لا يجوز وأيضاً لا يبعد أن تكون الحكمة في قسم الله تعالى بهذه الأشياء التنبيه على شرف ذَوَاتِهَا.
273
فإن قيل: ذكر الحَلِف في هذا الموضع غير لائق وبيانه من وجوه:
الأول: أن المقصود من هذا القسم إما إثبات هذا المطلوب عند المؤمن أو عند الكافر. والأول باطل لأن المؤمن مُقرٌّ به من غير حلق.
والثاني: باطل لأن الكافر لا يقر به سواء حصل الحلق أو لم يحصل فهذا الحلق عديم الفائدة على كلّ تقدير.
الثالث: أنه تعالى أقسم في أول هذه السورة على أن الإله واحد وأقسم في أول سورة الذاريات على أن القيامة حق فقال: ﴿والذاريات ذَرْواً﴾ [الذاريات: ١] إلى قوله: ﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدين لَوَاقِعٌ﴾ [الذاريات: ٥، ٦] وإثبات هذه المطالب العالية الشريفة على المخالفين من الدهرية وأمثالهم بالحلف لايليق بالعقلاء.
فالجواب: من وجوه:
الأول: أنه قَرَّر التوحيد وصحة البعث والقيامة في سائر السور بالدلائل اليقينية فلما تقدم ذكر تلك الدلائل لم يبعد تقريرها بذكر القسم تأكيداً لم تقدم لا سيما والقرآن أنزل بلغة العرب وإثبات المطالب بالحلق واليمين طريقة مألوفة عند العرب.
الثاني: أنه تعالى لما أقسم بهذه الأشياء على صحة قوله تعالى: «إن إلهكم لواحد» ذكر عقيبه ما هو الدليل اليقيني في كون الإله واحداً وهو قوله تعالى: ﴿رَّبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ المشارق﴾ وذلك لأنه تعالى بين في قوله: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا﴾ [الانبياء: ٢٢] أنَّ انتظام أحوال السماوات والأرض يدل على أن الإله واحدٌ فههنا لما قال: «إنَّ إلهكم لواحد» أردفه: «رَبِّ السموات والأرض وما بينهما ورب المشارق» كأنه قيل: بيَّنَّا أن النظر في انتظام هذه العالم يدل على كون الإله واحداً فتأملوا ليحصل لكم العلم بالتوحيد.
الثالث: أن المقصود من هذا الكلام الرد على عبدة الأصنام في قولهم: بأنها آلهة فكأنه قيل: إن هذا المذهب قد بلغ في السقوط والرَّكَاكَة إلى حيث يكفي في إبطاله مثلُ هذه الحُجَّة.
قوله: ﴿رَّبُّ السماوات﴾ يجوز، يكون خبراً ثانياً، وأن يكون بدلاً من «لَوَاحِدٌ» وأن يكون خبر مبتدأ مضمر، وجمع المشارق والمغارب باعتبار جميع
274
السنة فإن للشمس ثلثمائةٍ وستين مشرقاً وثلثمائة وستين مغرباً، وأما قوله: «المَشْرِقَيْنِ والمَغْرِبَيْنِ» فباعتبار الصَّيْفِ والشِّتَاءِ، وقيل: المراد بالمشارق مشارق الكواكب، لأن لكل كوكب مشرقاً ومغرباً، (وقيلك كل موضع شرقت عليه الشمس فو مشرق ولك موضع غربت عليه الشمس فهو مغرب كأنه أراد رب جميع ما شرقت عليه الشمسُ وغربت)
فإن قيل: لم اكتفى بذكر المشارق؟.
فالجواب: من وجهين:
الأول: أراد المشارق والمغارب كما قلا في موضع آخر ﴿فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبِّ المشارق والمغارب﴾ [المعارج: ٤٠] وأنه اكتفى بذكر المشارق كقوله: ﴿تَقِيكُمُ الحر﴾ [النحل: ٨١].
والثاني: أن الشروق قوى حالاً من الغروب وأكثر نفعاً من الغروب فذكر المشرق بيهما على كثرة إحسان الله تعالى على عباده. ولهذه الدقيقة استدل إبراهيم - عليه (الصلاة و) السلام - بالمشرق فقال: ﴿فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق﴾ [البقرة: ٢٥٨].

فصل


دَلّ قوله تعالى: ﴿رَّبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ على كونه تعالى خالقاً لأعمال العباد، لأن أَعْمَالَ العباد موجودة فيما بين السموات والأرض وهذه الأية دلت على أن كل ما حصل بين السموات والأرض فاللَّه ربه ومالكه وهذا يدل على أن فعل العبد حصل بخلق الله.
فإن قيل: الأعراض لا يصح وصفها بأنها حصلت بين السموات والأرض لأن هذا الوصف إنما يكون حاصلاً في حَيِّزٍ وجهةٍ والأعراض ليست كذلك.
قلنا: إنها لما كانت حاصلة في الأجسام الحاصلة بين السماء والأرض فهي أيضاً حالصة بين السموات والأرض.
275
قوله :﴿ رَّبُّ السماوات ﴾ يجوز أن يكون١ خبراً ثانياً، وأن يكون بدلاً من «لَوَاحِدٌ »٢ وأن يكون خبر٣ مبتدأ مضمر، وجمع المشارق والمغارب باعتبار جميع السنة فإن للشمس ثلثمائةٍ وستين مشرقاً وثلثمائة وستين مغرباً، وأما قوله :«المَشْرِقَيْنِ والمَغْرِبَيْنِ » فباعتبار الصَّيْفِ والشِّتَاءِ، وقيل : المراد بالمشارق مشارق الكواكب، لأن لكل كوكب مشرقاً ومغرباً، ( وقيل٤ : كل موضع شرقت عليه الشمس فهو مشرق وكل موضع غربت عليه الشمس فهو مغرب كأنه أراد رب جميع ما شرقت عليه الشمسُ وغربت )٥.
فإن قيل : لم اكتفى بذكر المشارق ؟.
فالجواب : من وجهين :
الأول : أراد المشارق والمغارب كما قال في موضع آخر :﴿ فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبِّ المشارق والمغارب ﴾ [ المعارج : ٤٠ ] وأنه اكتفى بذكر المشارق كقوله :﴿ تَقِيكُمُ الحر ﴾ [ النحل : ٨١ ].
والثاني : أن الشروق قوى حالاً من الغروب وأكثر نفعاً من الغروب فذكر المشرق بينهما على كثرة إحسان الله تعالى٦ على عباده. ولهذه الدقيقة استدل إبراهيم - عليه ( الصلاة و ) السلام- بالمشرق فقال :﴿ فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق ﴾ [ البقرة : ٢٥٨ ].

فصل


دَلّ قوله تعالى :﴿ رَّبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا ﴾ على كونه تعالى خالقاً لأعمال العباد، لأن أَعْمَالَ العباد موجودة فيما بين السموات والأرض وهذه الآية دلت على أن كل ما حصل بين السموات والأرض فاللَّه ربه ومالكه وهذا يدل على أن فعل العبد حصل بخلق الله.
فإن قيل : الأعراض لا يصح وصفها بأنها حصلت بين السموات والأرض لأن هذا الوصف إنما يكون حاصلاً في حَيِّزٍ وجهةٍ والأعراض ليست كذلك.
قلنا : إنها لما كانت حاصلة في الأجسام الحاصلة بين السماء والأرض فهي أيضاً حاصلة بين السموات٧ والأرض.
١ الكشاف ٣/٣٣٤ والقرطبي ١٥/٦٣ والسمين ٤/٥٣٨..
٢ القرطبي والسمين وأبو البقاء ١٠٨٧..
٣ الكشاف ٣/٣٣٤ والمراجع السابقة..
٤ ما بين الأقواس سقط من ب..
٥ انظر البغوي ٦/١٨..
٦ انظر الرازي ٢٦/١١٨..
٧ نقله الإمام الرازي في التفسير الكبير ١١٨ و ١١٩ ج ٢٦..
قوله: ﴿إِنَّا زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِزِينَةٍ الكواكب﴾ قرأ عاصم براية أبي بكر: «بِزينَةٍ» منونة ونصب «الكواكب» وفيه وجهان:
275
أحدهما: أن تكون الزنية مصدراً وفاعله محذوف بأن زين الله الكواكب في كونها مضيئةً حسنةً في أنفسها.
والثاني: أن الزينة اسم لما يزان به كاللِّيقَةِ اسم لما يُلاَقُ به الدَّوَاة فتكون الكواكب على هذا منصوبة بإضمار أعني أو يكون بدلاً من (ال) سَّمَاء الدُّنْيَا بدل اشتمال أي كواكبها أو من محل «بزينَةٍ» وحَمْزةُ وحفصٌ كذلك إلا أنهما خفضا الكواكب على أن يراد بزينة ما يزان به، والكواكب بدل أو بيان للزينة وهي قراءة مسروق بن الأجدع قال الفراء: وهو رد معرفة على نكرة كقوله: «بالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ» فرد نكرة على معرفة وقال الزجاج: الكواكب بدل من الزينة لأنها هي كقولك: «مَرَرْتُ بأَبِي عَبْد اللَّه زَيْدٍ» والباقون بإضالة زينَة إلى الكواكب وهي تحتمل ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون إضافة أعم إلى أخص فتكون للبيان نحو: ثَوْبُ خَزَّ.
الثاني: أنها مصدر مضاف لفاعله أي بأن زَيَّنَتِ الكَوَاكِبُ السَّمَاءَ بضَوْئِهَا.
والثالث: أنه مضاف لمفعوله أي بأن زينها الله بأن جعلها مشرقة مضئية في نفسها وقرأ ابن عباس وابن مسعود بتنوينها وبرفع الكواكب فإن جَعَلْتَهَا مصدراً
276
ارتفع الكواكب به، وإن جعلتها اسماً لما يزان به فعلى هذا ترفتع «الكواكب» بإضمار مبتدأ أي هي الكواكب. وهي في قوة البدل ومنع الفراء إعمال المصدر المنون ورغم أنه لم يُسْمعْ وهو غلط لقوله تعالى: ﴿أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ﴾ [البلد: ١٤] كما سيأتي إن شَاءَ اللَّهُ. قوله: «وَحِفْظاً» منصوب على المصدر، بإضمار فعل أي حَفِظْنَاهَا حِفظاً، وإما على المفعول من أجله على زيادة الواو والعامل فيه زَيَّنَّا أو على أن يكون العامل مقدراً أي لحِفْظِهَا زَيَّنَّا أو على الحمل على المعنى المتقدم أي: إنا خلقنا السماء الدينا زينةً وحفظاً، و «مِنْ كُلّ» ويجوز أن يكون صفةً «لِحفْظاً» قال المبرد: إذا ذكرت فعلاً ثم عطفت عليه مصرد فعل آخر نصبت المصدر لأنه قد دل على فعله كقولك: أفْعَلُ وكَرَامَةً لما قال أفعل علم أن الأسماء لا تعطف فكان المعنى أفْعَل ذَاكَ واُكْرِمُكَ كَرَامَةً.

فصل


قال ابن عباس «زينا السماء الدينا» بضوء الكواكب «وحفظناها من كل شيطان مارد» متمرد يرمون بها، وتقدم الكلام على المارد عن قوله: ﴿مَرَدُواْ عَلَى النفاق﴾ [التوبة: ١٠١] واعمل أنه تعالى بين أنه زين السماء لمنفعتين:
إحداهما: تحصل الزينة.
والثانية: الحفظ من الشيطان المارد.
فإن قيل: ثبت في علم الهيئة أن هذه الكواكب الثوابت مركوزة في الكرة الثامنة وأن السيارات مركوزة في الكرات السِّتَّةِ المحيطة بسماء الدنيا فكيف يصح قوله: إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب؟.
277
فالجواب: أن الناس الساكنين على سطح كرة الأرض إذا نظروا إلى السماء فإنهم يشاهدو (نَ) هَا مزينة بهذه الكواكب فصح قوله تعالى: ﴿إِنَّا زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِزِينَةٍ الكواكب﴾ وأيضاً فكون هذه الكواكب مركوزة في الفلك الثامن لم يتم دليل الفلاسفة عليه.
فن قيل: هذه الشهب التي يرمى بها هل هي من الكواكب التي زين الله المساء بها أم لا؟ والأول باطل لأن هذه الشهب تَبْطُل وتَضْمَحِّل فلو كانت هذه الشهب تلك الكواكب الحقيقة لوجب أن يظهر نقصان كثير في أعداد كواكب السماء ولم يوجد ذلك فإن أعداد كواكب السماء باقية لم تتغير ألبتة وأيضاً فجعلها رجوماً للشياطين مما يوجب وقوع النقصان في زينة السماء فكان الجمع بين هذين المقصودين كالمتناقض وإن كانت هذه الشهب جنساً آخر غير الكواكب المركوزة في الفلك فهو أيضاً مُشْكِل لأنه تعالى قال في سورة الملك: ﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ﴾ [الملك: ٥] فالضمير في قوله: «وَجَعَلْنَاهَا» عائد إلى المصابيح فوجب أن تكون تلك المصابيح هي الرجوم بأعينها.
فالجواب: أن الشهبَ غير تلك الكواكب الثاتبة وأما قوله تعالى: «ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين» فنقو (ل) كل نير يحصل في الجو العالي فهو مصباح لأهل الأرض إلا أن تلك المصابيح منها باقية على وجه الأرض آمنة من التغير والفساد ومنها ما لا يكون كذلك وهي هذه الشهب التي يحدثها الله تعالى ويجعلها رجوماً للشياطين إلى حيث يعلمون وبهذا يزول الإشكال.
فإن قيل: كيف يجوز أن تذهب الشياطين حيث يعلمون أن الشهب تحرقهم ولا يصلون إلى مقصودهم البتة وهل يمكن أن يصدر (مثل) هذا الفعل عن عاقل فكيف من الشياطين الذين لهم مَزِيَّة في معرفة الحِيل الدقيقة؟.
فالجواب: أن حصول هذه الحال ليس له موضع معين وإلا لم يذهبوا إليه وإنما يمنعون من المصير إلى مواضع الملائكة ومواضعها مختلفة فربما صاروا إلى موضع تصيبهم الشهب وربما صاروا إلى غيره ولا صادفوا الملائكة ولا تصيبهم الشهب فلما هلكوا في بعض الأوقات وسلموا في بعض الأوقات جاز ان يصيروا إلى مواضع يغلب على ظنونهم أنهم لا تصيبهم الشهب فيما كما يجوز فيمن سَلَك البَحْرَ أن يسلكه في موضع يغلب على ظنه يغلب على ظنه حصول النجاة. هذا ما ذكره أبو عَلِيٍّ الجُبَّائي في الجواب عن (
278
هذا) السؤال في تفسيره وفي هذا الجواب نظر فإن السموات ليس فيها موضع خال من الملائكة لقوله - عليه (الصلاة و) السلام -: «أَطَّتِ السَّمَاءُ وَحَقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ مَا فِيهَا مَوْضِعُ قَدَمٍ إلاَّ وَفيهِ مَلَكٌ قَائِمٌ أَوْ سَاجِدٌ»
قال ابن الخطيب ولقائل أن يقول: إنهم إذا صعدوا إما أن يَصِلوا إلى مواضع (الملائكة) وإلى غير (تلك) المواضع فإن وصلوا إلى مواضع الملائكة احترقوا وإن وصلوا إلى غير مواضع الملائكة لم يفوزوا بمقصود أصلاً وعلى كلا التقديرين فالمقصود غير حاصل. وإذا كان الفوز بالمقصود محالاً وجب أن يمتنعوا عن هذا الفعل وألا يقدموا عليه أصلاً بخلاف حال المسافر في البحر فإن الغالب عليهم السلامة والفوز بالمقصود وأما ههنا فالشيطان الذي يسلم من الإحراق إنما يسلم إذا لم يصل إلى مواضع الملائكة وإذا لم يصل إلى ذلك الموضع لم يفز بالمقصود فوجب أن لا يعود إلى هذا العمل البتة والأقرب في الجواب أن يقال هذه الواقعة إنما تتفق في الندرة فلعلها لا تشتهر بسبب نُدْرَتِهَا فيما بين الشياطين. والله أعلم فإن قيل: دلتنا التواريخ المتواترة على أن حدوث الشهب كان حاصلاً قبل مجيء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (ولذلك) فإن الحكماء الذين كانوا موجودين قبل مجيء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بزمان طويل ذكروا ذلك وتكلموا في سبب حدوثه وإذا ثبت أن ذلك كان موجوداً قبل مجيء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - امتنع حمله على مجيء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أجاب القاضي بأن الأقرب أنَّ هذه الحالة كانت موجودة قبل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولكنها كثرت في زمان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فصارت بسبب الكثرة معجزةً.
فإن قيل: الشيطان مخلوق من النار كما حكي عن قول إبليس ﴿خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ﴾ [الأعراف: ١٢] وقال: ﴿والجآن خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السموم﴾ [الحجر: ٢٧] ولهذا السبب يقدر على الصعود إلى السموات وإذا كان كذلك فكيف يعقل إحراق النار بالنار؟.
فالجواب: يحتمل أن الشياطين وإن كانوا من النِّيران إلا أنَّها نيران ضعيفة ونيران الشهب أقوى حالاً منهم ولا جَرَمَ صار الأقوى للأضعف مبطلاً، ألا ترى أن السراج
279
الضعيف إذا وضع في النار القوية فإنه ينطفئ فكذلك ههنان.
قوله: ﴿لاَّ يَسَّمَّعُونَ﴾ قرأ الأخوان وَحفصٌ بتشديد السين (فالميم) والصل يَسْتَمِعُونَ فأدغم، والباقون بالتخفيف فيهما. واختار أبو عُبَيْدٍ الأولى وقال: لو كان مخففاً لم يتعد بإِلى. وأجيب عنه بأن معنى الكلام لا يسمعون إلى الملأ، وقال مكي: لأنه رجى مجرى مُطَاوِعِهِ وهو يسّمعون فكما كان يسمع يتعدى «بإلى» تعدى سَمِع بإلى، وفَعِلْتُ وافْتَعَلْتُ في التعيدي سواء فتسع مطاوع سمع واستع أيضاً مطاوع سمع فتعدى سمع تعدّي مطاوعه وهذه الجملة منقطعة عما قلها ولا يجوز فيها أن تكون صفة لشيطان على المعنى إذ يصير التقدير: مِنْ شَيْطَانٍ مَارِدٍ غير سامع أو مستمع وهو فاسد، ولا يجوز أن يكون جواباً لسؤال سائل: لم تحفظ من الشياطين؟ إذ يفسد معنى ذلك وقال بعضهم: وأصل الكلام لئلا يسمعوا فحذفت «اللام وأن» فارتفع الفعل وفيه تعسف وقَدْ وَهِمَ أبو البقاء فيجوَز أن تكون صفة وأن تكون حالاً وأن تكون مستأنفة فالأولان ظاهِرَا الفساد والثَّالث إنْ غني به الاستنئاف البياني فهو فاسد أيضاً.
وإن أراد الانقطاع على ما تقدم فهو صحيح.

فصل


واحتجوا لقراءة التخفيف بقوله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ عَنِ السمع لَمَعْزُولُونَ﴾ [الشعراء: ٢١٢] وروى مجاهد عن ابن عباس: أن الشياطين يسمعون إلى الملأ الأعلى ثم يمنعون ولا يسمعون وللأولين أن يجيبوا فيقولوا التنصيص على كونهم معزولين عن السمع لا يمنع من كونهم معزولين أيضاً عن التسمع بدلالة هذه الآية بل هذا أقوى في رَدْع الشياطين ومنعهم من استماع أخبار السماء فإن الذي منع من الاستماع بأن يكون ممنوعاً
280
عن السمع أولى واعلم أن الفرق بين قوله: سَمِعْتُ حَدِيثَ فُلاَن وبين قولك: سمِعْتُ إلى حَدِيثه أنّ قولك: سِمِعْتُ حديثَه يفيد الإدراك وسمعت إلى حديثه يفيد الإصفاء مع الإدراك وفي قوله: «لا يسمعون إلى الملأ الأعلى» قولان أشهرهما: أن تقدير الكلام لئلا يسمعوا، فلما حذف الناصب صار كقوله: ﴿يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ﴾ [النساء: ١٧٦] وقوله: ﴿رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ﴾ [النحل: ١٥] قال الزمخشري: حذف اللام وإن كل واحد منهما جائز بانفراده وأما اجتماعهما فمن المنكرات التي يجب صون القرآن عنها، قال الزمخشري: إنه كلام منقطع عما قبله وهو حكاية المُسْتَرِقِينَ السمع وأنهم لا يقدرون أن يسمعوا إلى كلام الملائكة ويسمعوا وهم مقذوفون بالشهب مدحورون عن المقصود. والملأ الأعلى هم الملائكة الكتبة سكان السموات ومعنى يُقْذَفُونَ يُرْمَوْنَ من كل جانب من آفاق السماء.
قوله: ﴿دُحُوراً﴾ العامة على ضم الدال وفي نصبه أوجه:
أحدهما: المفعول له أي لأجل الطرد.
الثاني: مصدر ليقذفون أي يُدْحَرُونَ دُحُوراً أو يُقْذَفُون قذفاً فالتجوز إما في الأول وإما في الثاني.
الثالث: أنه مصدر لمقدر أي يُدْحَرُونَ دُحُوراً.
الرابع: أنه في موضع الحال أي ذَوِي دُحُورٍ أو مَدْحُورِينَ وقيل: هو جمع دَاحِر قَاعِد وقُعُودٍ فيكون حالاً بنفس من غير تأويل قال مجاهد: دحوراً مطرودين. وروي عن أبي عمرو أنه قرأ ويَقْذِقُونَ مبنياً للفاعل وقرأ علِيُّ والسُّلَمِّي وابنُ أَبِي عَبْلَةَ دَحْوراً بفتح الدال وفيها وجهان:
281
أحدهما: أنه صفة لمصدر مقدر أي قَذْفاً دَحُوراً. وهو كالصَّبُور والشَّكُورِ.
والثاني: أنه مصدر كالقبُول والوَلُوع وقد تقدم أنه محصور في ألفظ، والدُّحُور قال المبرد: أشد الصغار والذل. وقال ابن قتيبة: دَحَرْتُهُ دُحُوراً ودَحْراً أي دَفَعْتُهُ وطَرَدْتُهُ وتقدم في الأعراف عند قوله: ﴿مَذْءُوماً مَّدْحُوراً﴾ [الأعراف: ١٨].
قوله: ﴿وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ﴾ قال مقاتل: دائم إلى النفخة الأولى وتقدم في سورة النحل في قوله: ﴿وَلَهُ الدين وَاصِباً﴾ [النحل: ٥٢].
قوله: ﴿إِلاَّ مَنْ خَطِفَ﴾ فيه وجهان:
أحدهما: أنه مرفوع المحل بدلاً من ضمير «لا يَسَّمَّعُونَ» وهو أحسن لأنه غير موجب.
والثاني: أنه منصوب على أصل الاستثناء، والمعنى: أن الشياطين لا يسمعون الملائكة إلا من خطف قال شهاب الدين: ويجوز أن يكون «من» شرطية وجوابها: «فَأَتْبَعَهُ» أو موصولة وخبرها «فَأَتْبَعَهُ» وهو استثناء منقطع وقد نصوا على أن مثل هذه الجملة تكون استثناء منقطعاً كقوله: ﴿لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ إِلاَّ مَن تولى وَكَفَرَ﴾ [الغاشية: ٢٢، ٢٣] والخَطْفَةُ مصدر معرف بأل الجنسية أو العهدية، وقرأ العامة خَطِفَ بفتح الخاء وكسر الطاء مخففة، وقتادةُ والحسنُ بكسرهما وتشديد الطاء وهي لغة تميم بن مُرة وبكرة بن وائل وعنهما أيضاً وعن عيسى: بفتح الخاء وكسر الطاء مشددة وعن الحسن (أيضاً) خطف كالعامة وأصل القراءتين اختطف
282
فلما أريد الإدغام سكنت التاء وقبلها الخاء ساكنة فكسرت الخاء لالتقاء الساكنين ثم كسرت الطاء إتبعاً لحركة الخاء وهو مفقود وقد وجه على التَّوَهُّم وذلك أنهم لما أرادوا الإدغام نقوا حركة التاء إلى الخاء ففتحت وهم يتوهمون أنهم مكسورة لالتقاء الساكنين - كما تقدم تقريره - فاتبعوا الطاء لحركة الخاء المتوهمة، وإذا كانوا قد فعلوا ذلك في مقتضيات الإعراب فلأن يَفْعَلُوه في غيره أولى. وبالجملة فهو تعليل شذوذ وقرا ابنُ عَبَّاسٍ خِطِفَ بكسر الخاء والطاء خفيفةً وهو إتباع كقولهم: نِعِمْ بكسر النون والعين وقرئ فاتَّبعه بالتشديد.

فصل


ومعنى الخطف أي اختلس الكلمة من كلام الملائكة مسارقةً «فأتبعه» أي لحقه شهاب ثاقب كوكب مضيء قوي لا يخطئه يقلته أو يحرقه قيل: سمي ثاقباً لأنه يَثْقُبُ بنوره سَبْع سمواتٍ. وقال عطاء: سمي النجم الذي يرمي به الشياطين ثاقباً لأنه يَثْقُبُهُمْ وإنما يعودون إلى استراق السمع مع علمهم بأنهم لا يصلون إليه طمعاً في السلامة ونيل المراد كراكب البَحْر.
قوله: ﴿فاستفتهم﴾ يعني كفار مكة أي سَلْهُمْ «أهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنَا» يعني السموات والأرض والجبال. وهو استفهام بمعنى التقرير أي هذه الأشياء أشد خلقاً كقوله: ﴿لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس﴾ [غافر: ٥٧] وقوله: ﴿أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السمآء بَنَاهَا﴾ [النازعات: ٢٧] (وقيل: معنى) أَمَّنْ خَلَقْنَا (يعني) : من الأمم الخالية لأن مَن تذكر لمن يعقل والمعنى أن هؤلاء ليسوا بأحكَم خلقاً من غيرهم من الأمم وقد أهلكناهم في ذنوبهم فما الذين يُؤمِّنُ هؤلاء من العذاب.
قوله: ﴿أَم مَّنْ خَلَقْنَآ﴾ العامة على تشديد الميم الأصل أَمْ مَنْ وهي «أَمْ» المتصلة
283
عطفت «من» على «هم» وقرأ الأعمش بتخفيفها وهو استفهام ثانٍ فالهمزة للاستفهام أيضاً و «مَنْ» مبتدأ وخبره محذوف أي الذين خلقناهم أشد، فهما جملتان مستلقتان وغلب من يعقل على غيره ولذلك أتى «بمن» قوله: ﴿إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ﴾ أي جيّد حر لاصق يعْلِقُ باليد. واللازبُ والازمُ بمعنى وقد قرئ: لاَزمٌ لأنه يلزم اليد، وقيل: اللازِبُ اللَّزج.
وقال مجاهد والضحاك: مُنْتِن، وأكثر أهل اللغة على أن الباء في اللازب بدل من الميم.

فصل


وجه النظم: أنه قد تقرر أن المقصود الأعظم من القرآن إثبات الأصول الأربعة وهي الإلهيّات والمَعَاد والنُّبُوة وإثبات القَضَاء والقدر فافتتح تعالى هذه السورة بإثبات ما يدل على وُجُود الصانع وعلى علمه وقدرته وحكمته ووحدانيته وهو خالق السموات والأرض وما بينهما وَربّ المشارق، ثم فرع عليها إثبات الحشر والنشر والقيامة وهو أن نم قدر على ما هو أصعب وأشق وجب أن يقدر على ما هو دونه وهو قوله: ﴿فاستفتهم أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَآ﴾ فمن قدر على ما هو أشد وأصعب فبِأن يكونَ قادراً على إعادة الحياة في هذه الأجساد كان أولى. وأيضاً فقوله: «إنا خلقناهم من طين لازب» يعني أن هذه الأجساد قابلة للحياة إذ لو تكن قابلةً للحياة لما صارت حية في المرة الأولى والمراد بقوله: ﴿إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ﴾ يعني أصلهم وهو آدم - عليه (الصلاة و) السلام - رُوِيَ أنَّ القوم قالوا: كيف يعقل تولد الإنسان لا من أبوين ولا من نطفة؟ فكأنه تعالى قال لهم: إنكم لما أقررتم بحُدوثِ العَالَم واعترفتم بأن السموات والأرض وما
284
بينهما إنما حصل بتخليق الله تعالى وتكوينه فلا بد وأن يعترفوا بأن الإنسان الأول إنما حدث لا من الأبوين فإن اعْتَرَفْتُمْ به فقد سقط قولكم: إن الإنسان كيف يحث من غير نطفة ومن غير الأبوين؟ وأيضاً فقد اشتهر عند الجمهور أن آدم مخلوق من طين لازب ومن قدر على خلق الحياة من الطين اللازب كيف يعجز عن إعادة الحياة إلى هذه الذوات ويمكن أن يكون المراد بقوله: «إنا خلقناهم من طين لازب» أي كل الناس ووجهه أن الحيوان إنما يتولد من المَنِي ودَم الطَّمْثِ والمني إنما يتولد من الدَّم فالحيوان إنما يتولد من الدم والدم إنما يتولد من الغِذَاء، والغذاء إما حيوانيّ وإما نباتيّ، وأما تولد الحيوان الذي صرا غذاءً فالكلام في كيفية تولده كالكلام في تولد الإنسان فثبت أن الأصل في الأغذية هو النبات والنبات إنما تولد من امتزاد الأرض بالماء وهو الطين اللازب فظهر أن كل الخلق (منه) مُتَوَلِّدُونَ من الطِّينِ اللازب وهو قابل للحياة والله تعالى قادر عليها. وهه القابلية والقادرية واجبة البقاء فوجب بقاء هذه الصفة في كل الأوقات، وهذه بيانات ظاهرة.
285
قوله :﴿ لاَّ يَسَّمَّعُونَ ﴾ قرأ الأخوان وَحفصٌ بتشديد السين ( فالميم )١ والأصل يَسْتَمِعُونَ فأدغم، والباقون بالتخفيف٢ فيهما. واختار أبو عُبَيْدٍ الأولى وقال : لو كان مخففاً لم يتعد بإِلى٣. وأجيب عنه بأن معنى الكلام لا يسمعون إلى الملأ، وقال مكي : لأنه جرى مجرى مُطَاوِعِهِ وهو يسّمعون فكما كان يسمع يتعدى٤ «بإلى » تعدى سَمِع بإلى، وفَعِلْتُ وافْتَعَلْتُ في التعدي سواء فتسمع مطاوع سمع واستمع أيضاً مطاوع سمع فتعدى سمع تعدّي مطاوعه٥. وهذه الجملة منقطعة عما قبلها ولا يجوز فيها أن تكون صفة لشيطان على المعنى إذ يصير٦ التقدير : مِنْ كل شَيْطَانٍ مَارِدٍ غير سامع أو مستمع وهو فاسد، ولا يجوز أن يكون جواباً لسؤال سائل : لم تحفظ من الشياطين ؟ إذ يفسد معنى ذلك٧. وقال بعضهم : أصل الكلام لئلا يسمعوا فحذفت «اللام وأن » فارتفع الفعل وفيه تعسف٨. وقَدْ وَهِمَ أبو البقاء فيجوَز أن تكون صفة وأن تكون حالاً وأن تكون مستأنفة٩ فالأولان ظاهِرَا الفساد والثَّالث إنْ عني به الاستئناف١٠ البياني فهو فاسد أيضاً. وإن أراد الانقطاع على ما تقدم فهو صحيح١١.

فصل


واحتجوا لقراءة التخفيف بقوله تعالى :﴿ إِنَّهُمْ عَنِ السمع لَمَعْزُولُونَ ﴾ [ الشعراء : ٢١٢ ]. وروى مجاهد عن ابن عباس : أن الشياطين يسمعون إلى الملأ الأعلى ثم يمنعون ولا يسمعون وللأولين أن يجيبوا فيقولوا التنصيص على كونهم معزولين عن السمع لا يمنع من كونهم معزولين أيضاً عن التسمع١٢ بدلالة هذه الآية بل هذا أقوى في رَدْع الشياطين ومنعهم من استماع أخبار السماء فإن الذي منع من الاستماع بأن يكون ممنوعاً عن السمع أولى١٣ واعلم أن الفرق بين قولك : سَمِعْتُ حَدِيثَ فُلاَن وبين قولك : سمِعْتُ إلى حَدِيثه أنّ قولك : سِمِعْتُ حديثَه يفيد الإدراك وسمعت إلى حديثه يفيد الإصفاء مع الإدراك١٤، وفي قوله :«لا يسمعون إلى الملأ الأعلى » قولان أشهرهما : أن تقدير الكلام لئلا يسمعوا، فلما حذف الناصب صار كقوله :﴿ يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ ﴾ [ النساء : ١٧٦ ] وقوله :﴿ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ ﴾ [ النحل : ١٥ ]. قال الزمخشري : حذف١٥ اللام وإن كل واحد منهما جائز بانفراده وأما اجتماعهما فمن المنكرات التي يجب صون القرآن عنها، قال الزمخشري : إنه كلام منقطع عما قبله وهو حكاية المُسْتَرِقِينَ السمع وأنهم لا يقدرون أن يسمعوا إلى كلام الملائكة ويتسمعوا وهم مقذوفون بالشهب مدحورون عن المقصود١٦. والملأ الأعلى هم الملائكة الكتبة سكان السموات ومعنى يُقْذَفُونَ يُرْمَوْنَ من كل جانب من آفاق السماء١٧.
١ سقط من ب..
٢ من القراءات المتواترة انظر: السبعة ٥٤٧ والإتحاف ٣٦٨، والقرطبي ١٥/٦٥ والنشر ٢/٣٥٦ ومعاني الفراء ٢/٣٨٣..
٣ القرطبي ١٥/٦٥ والسمين ٤/٥٣٩..
٤ في ب: تعدى..
٥ قاله في مشكل إعراب القرآن ٢/٢٣٤، وانظر أيضا الكشف له ٢/٢٢٢..
٦ في ب: يعتبر..
٧ هذا توجيه الزمخشري في الكشاف ٣/٣٣٥ و ٣٣٦ وأبي حيان في البحر ٧/٢٥٢ و ٣٥٣ وانظر: الدر المصون ٤/٥٣٩..
٨ نقلته المراجع الثلاثة السابقة..
٩ التبيان ١٠٨٨..
١٠ هو أن تكون الثانية –أي الجملة الثانية- بمنزلة جواب لسؤال اقتضته الجملة الأولى، الإيضاح للقزويني ١١٥-١١٧ وهذا ليس منه بالطبع..
١١ الكشاف ٣/٣٣٦ والدر المصون ٤/٥٤٠..
١٢ في ب: التسميع..
١٣ الرازي ٢٦/١٢٢..
١٤ الكشاف ٣/٣٣٦. والرازي ٢٦/١٢٢..
١٥ سبق أنه في ٣/٣٣٦..
١٦ المرجع السابق..
١٧ انظر: البغوي ٦/١٩ وزاد المسير لأبي الفرج ابن الجوزي ٧/٤٧ والقرطبي ١٥/٦٥..
قوله :﴿ دُحُوراً ﴾ العامة على ضم الدال. وفي نصبه أوجه :
أحدها : المفعول له أي١ لأجل الطرد.
الثاني : مصدر ليقذفون أي يُدْحَرُونَ دُحُوراً أو يُقْذَفُون قذفاً فالتجوز إما في الأول وإما٢ في الثاني.
الثالث : أنه مصدر لمقدر أي يُدْحَرُونَ دُحُوراً٣.
الرابع : أنه في موضع الحال أي ذَوِي دُحُورٍ أو مَدْحُورِينَ٤. وقيل : هو جمع دَاحِر نحو قَاعِد وقُعُودٍ فيكون حالاً بنفسه من غير تأويل٥. قال مجاهد : دحوراً مطرودين. وروي عن أبي عمرو أنه قرأ ويَقْذِقُونَ مبنياً للفاعل٦ وقرأ علِيُّ والسُّلَمِّي وابنُ أَبِي عَبْلَةَ دَحْوراً بفتح٧ الدال وفيها وجهان :
أحدهما : أنه صفة لمصدر مقدر أي قَذْفاً دَحُوراً. وهو كالصَّبُور والشَّكُورِ.
والثاني : أنه مصدر كالقبُول والوَلُوع٨ وقد تقدم أنه محصور في ألفاظ، والدُّحُور قال المبرد : أشد الصغار٩ والذل. وقال ابن قتيبة : دَحَرْتُهُ دُحُوراً ودَحْراً أي دَفَعْتُهُ وطَرَدْتُهُ١٠. وتقدم في الأعراف عند قوله :﴿ مَذْءُوماً مَّدْحُوراً ﴾ [ الأعراف : ١٨ ].
قوله :﴿ وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ ﴾ دائم١١، قال مقاتل : دائم إلى النفخة الأولى١٢. وتقدم في سورة النحل في قوله :﴿ وَلَهُ الدين وَاصِباً ﴾ [ النحل : ٥٢ ].
١ هذا رأي الكشاف وصاحبه ٣/٣٣٦..
٢ قاله أيضا صاحب الكشاف ونقله أبو حيان في البحر ٧/٣٥٢ قال صاحب الكشاف: أو لأن القذف والطرد متقاربان في المعنى فكأنه قيل: يدحرون (دحورا أو يقذفون) قذفا. الكشاف ٣/٣٣٦ وهذا رأي قال به أبو البقاء أيضا هو وسابقه. التبيان ١٠٨٨..
٣ قاله في البيان في غريب إعراب القرآن ٢/٣٠٣ وأما المشكل في الإعراب ٢/٢٣٥ فقد جعله مصدرا ليقذفون التوجيه السابق. وأورد هذا الرأي أيضا التبيان ١٠٨٨..
٤ الكشاف والتبيان المرجعان السابقان..
٥ قاله أبو البقاء ١٠٨٨ وانظر في هذا كله السمين ٤/٥٤٠..
٦ البحر ٧/٣٥٣ والسمين ٤/٥٤٠ ونسبها في المختصر إلى السلمي ١٢٨..
٧ المحتسب ٢/٢١٩ وابن خالويه ١٢٧ والكشاف ٣/٣٣٦ والفراء ٢/٣٨٣..
٨ قال بالوجهين الزمخشري في الكشاف ٣/٣٣٦ وبالثاني فقط ابن جني في المحتسب ٢/٢١٩ وأجاز الفراء وابن جني في نصبه أن يكون على نزع الخافض أي ويقذفون من كل جانب بداحر..
٩ الرازي ٢٦/١٢٣..
١٠ غريب القرآن ٣٦٩..
١١ قاله ابن قتيبة في غريب القرآن ٣٦٩ وأبو عبيدة في المجاز ٢/١٦٦ و ١٦٧..
١٢ البغوي ٦/١٩..
قوله :﴿ إِلاَّ مَنْ خَطِفَ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنه مرفوع المحل بدلاً من ضمير «لا يَسَّمَّعُونَ »١ وهو أحسن لأنه غير موجب.
والثاني : أنه منصوب على أصل الاستثناء، والمعنى : أن الشياطين لا يسمعون الملائكة إلا من خطف٢، قال شهاب الدين : ويجوز أن يكون «من » شرطية وجوابها :«فَأَتْبَعَهُ »٣ أو موصولة٤ وخبرها «فَأَتْبَعَهُ ». وهو استثناء منقطع وقد نصوا على أن مثل هذه الجملة تكون استثناء منقطعاً كقوله :﴿ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ إِلاَّ مَن تولى وَكَفَرَ ﴾٥ [ الغاشية : ٢٢، ٢٣ ] والخَطْفَةُ مصدر معرف بأل الجنسية أو العهدية٦، وقرأ العامة خَطِفَ بفتح الخاء وكسر الطاء مخففة، وقتادةُ والحسنُ بكسرهما وتشديد الطاء٧. وهي لغة تميم بن مُرة وبكرة بن وائل٨. وعنهما أيضاً وعن عيسى : بفتح الخاء وكسر الطاء٩ مشددة وعن الحسن ( أيضاً )١٠ خطف كالعامة١١. وأصل القراءتين اختطف فلما أريد الإدغام سكنت التاء وقبلها الخاء ساكنة فكسرت الخاء لالتقاء الساكنين ثم كسرت الطاء إتباعاً لحركة الخاء وهذه [ الأولى ] واضحة. وأما الثانية١٢ فمشكلة جدا لأن كسر الطاء إنما كان لكسر الخاء وهو مفقود. وقد وجه على التَّوَهُّم وذلك أنهم لما أرادوا الإدغام نقوا حركة التاء إلى الخاء ففتحت وهم يتوهمون أنهم مكسورة لالتقاء الساكنين - كما تقدم تقريره- فأتبعوا الطاء لحركة١٣ الخاء المتوهمة، وإذا كانوا قد فعلوا ذلك في مقتضيات الإعراب فلأن يَفْعَلُوه في غيره أولى. وبالجملة فهو تعليل شذوذ١٤ وقرا ابنُ عَبَّاسٍ خِطِفَ بكسر الخاء والطاء خفيفةً١٥. وهو إتباع كقولهم : نِعِمْ بكسر النون والعين وقرئ فاتَّبعه بالتشديد١٦.

فصل


ومعنى الخطف أي اختلس الكلمة من كلام الملائكة مسارقةً «فأتبعه » أي لحقه شهاب ثاقب كوكب مضيء قوي لا يخطئه يقتله١٧ أو يحرقه، قيل : سمي ثاقباً لأنه يَثْقُبُ بنوره سَبْع١٨ سمواتٍ. وقال عطاء : سمي النجم الذي يرمى به الشياطين ثاقباً لأنه يَثْقُبُهُمْ وإنما يعودون إلى استراق السمع مع علمهم بأنهم لا يصلون إليه طمعاً في السلامة ونيل المراد كراكب البَحْر.
١ قال بذلك الزمخشري في الكشاف ٣/٣٣٦ والبحر ٧/٣٥٣ والسمين في الدر ٤/٥٤٠..
٢ أي إن الاستثناء في تلك الحال متصل وفيه الوجهان المعهودان النصب على الاستثناء والرفع على البدلية أو الإتباع عامة إذا كان تاما منفيا كآيتنا هذه. وقال بالوجه الأول والأخير أيضا أبو البقاء في التبيان ١٠٨٨ وانظر: البحر والكشاف والدر المراجع السابقة أيضا..
٣ فتكون في محل جزم..
٤ مبتدأ..
٥ الدر المصون للسمين ٤/٥٤٠..
٦ قاله أبو البقاء ٢/١٠٨٨..
٧ من الأربع فوق العشرة المتواترة انظر: الإتحاف ٣٦٨ والكشاف ٣/٣٣٦..
٨ البحر ٧/٣٥٣..
٩ البحر ٧/٣٥٣ والكشاف ٣/٣٣٦..
١٠ سقط من ب..
١١ ابن خالويه ١٢٧ ويقصد بالقراءتين خطف وخطف السابقين وانظر تلك القراءات كلها في الدر المصون ٤/٥٤١..
١٢ يقصد بفتح الخاء وكسر الطاء مشددة خطف..
١٣ في ب: بحركة..
١٤ قاله في البحر ٧/٣٥٣ والسمين في الدر ٤/٥٤١ والبناء في إتحاف فضلاء البشر ٣٦٨..
١٥ من القراءات الشاذة غير المتواترة وانظرها في مختصر ابن خالويه ١٢٧ والبحر ٧/٣٥٣ والسمين ٤/٥٤١ ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤/٤١٢..
١٦ لم يعزها كل من أبي حيان والزمخشري في مرجعيهما السابقين وقد عزاها صاحب الشواذ- شواذ القرآن- إلى قتادة والحسن وانظره ص ٢٠٥..
١٧ في ب: فيقتله..
١٨ رأي الرازي ٢٦/٢٤..
قوله :﴿ فاستفتهم ﴾ يعني كفار مكة أي سَلْهُمْ «أهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنَا » يعني السموات والأرض والجبال. وهو استفهام بمعنى التقرير أي هذه الأشياء أشد خلقاً١ كقوله :﴿ لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس ﴾ [ غافر : ٥٧ ] وقوله :﴿ أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السمآء بَنَاهَا ﴾ [ النازعات : ٢٧ ]. ( وقيل٢ : معنى ) أَمَّنْ خَلَقْنَا ( يعني٣ ) : من الأمم الخالية لأن مَن تذكر لمن يعقل. والمعنى أن هؤلاء ليسوا بأحكَم خلقاً من غيرهم من الأمم وقد أهلكناهم في ذنوبهم فما الذين يُؤمِّنُ هؤلاء من العذاب٤.
قوله :﴿ أَمَّنْ خَلَقْنَآ ﴾ العامة على تشديد الميم. الأصل أَمْ مَنْ وهي «أَمْ » المتصلة عطفت «من » على «هم »٥ وقرأ الأعمش بتخفيفها٦ وهو استفهام ثانٍ٧، فالهمزة للاستفهام أيضاً و «مَنْ » مبتدأ وخبره محذوف أي الذين خلقناهم أشد، فهما جملتان مستقلتان٨، وغلب من يعقل على غيره ولذلك أتى «بمن »٩ قوله :﴿ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ ﴾ أي جيّد حر لاصق يعْلِقُ باليد. واللازبُ واللازمُ بمعنى١٠. وقد قرئ : لاَزمٌ١١، لأنه يلزم اليد، وقيل : اللازِبُ اللَّزج١٢.
وقال مجاهد والضحاك : مُنْتِن١٣، وأكثر أهل اللغة على أن الباء في اللازب بدل من الميم١٤.

فصل


وجه النظم١٥ : أنه قد تقرر أن المقصود الأعظم من القرآن إثبات الأصول الأربعة وهي الإلهيّات والمَعَاد والنُّبُوة وإثبات القَضَاء والقدر فافتتح تعالى هذه السورة بإثبات ما يدل على وُجُود الصانع وعلى علمه وقدرته وحكمته ووحدانيته وهو خالق السموات والأرض وما بينهما وَربّ المشارق، ثم فرع عليها إثبات الحشر والنشر والقيامة وهو أن من قدر على ما هو أصعب وأشق وجب أن يقدر على ما هو دونه وهو قوله :﴿ فاستفتهم أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَآ ﴾ فمن قدر على ما هو أشد وأصعب فبِأن يكونَ قادراً على إعادة الحياة في هذه الأجساد كان أولى. وأيضاً فقوله :«إنا خلقناهم من طين لازب » يعني أن هذه الأجساد قابلة للحياة إذ لو تكن قابلةً للحياة لما صارت حية في المرة الأولى والمراد بقوله :﴿ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ ﴾ يعني أصلهم وهو آدم - عليه ( الصلاة و ) السلام - رُوِيَ أنَّ القوم قالوا : كيف يعقل تولد الإنسان لا من أبوين ولا من نطفة ؟ فكأنه تعالى قال لهم : إنكم لما أقررتم بحُدوثِ العَالَم واعترفتم بأن السموات والأرض وما بينهما إنما حصل بتخليق الله تعالى وتكوينه فلا بد وأن يعترفوا بأن الإنسان الأول إنما حدث لا من الأبوين فإن اعْتَرَفْتُمْ به فقد سقط قولكم : إن الإنسان كيف يحدث من غير نطفة ومن غير الأبوين ؟ وأيضاً فقد اشتهر عند الجمهور أن آدم مخلوق من طين لازب ومن قدر على خلق الحياة من الطين اللازب كيف يعجز عن إعادة الحياة إلى هذه الذوات ويمكن أن يكون المراد١٦ بقوله :«إنا خلقناهم من طين لازب » أي كل الناس ووجهه أن الحيوان إنما يتولد من المَنِي ودَم الطَّمْثِ والمني إنما يتولد من الدَّم فالحيوان إنما يتولد من الدم والدم إنما يتولد من الغِذَاء، والغذاء إما حيوانيّ وإما نباتيّ، أما تولد الحيوان الذي صار غذاءً فالكلام في كيفية تولده كالكلام في تولد الإنسان فثبت أن الأصل في الأغذية هو النبات والنبات إنما يتولد من امتزاج الأرض بالماء وهو الطين اللازب فظهر أن كل الخلق ( منه )١٧ مُتَوَلِّدُونَ من الطِّينِ اللازب وهو قابل للحياة والله تعالى قادر عليها. وهذه القابلية والقادرية واجبة البقاء فوجب بقاء هذه الصفة في كل الأوقات، وهذه بيانات ظاهرة. ١٨
١ انظر: معالم التنزيل للبغوي ٦/١٩..
٢ سقطا من نسخة ب..
٣ سقطا من نسخة ب..
٤ نقله الإمام البغوي في تفسيره أيضا ٦/١٩ كما نقله الخازن في لباب التأويل عن البغوي ٦/١٩ أيضا..
٥ من قوله تعالى: ﴿أهم أشد خلقا﴾..
٦ أي أمن ولم ترو هذه القراءة عنه إلا في الشواذ فلم أجدها في الكتب المتواترة ونسبها إليه أبو حيان والسمين ولم ينسبها الزمخشري. انظر: البحر ٧/٣٥٤ والدر ٤/٥٤١ والكشاف ٣/٣٣٧..
٧ يقصد بالأول: أهم أشد خلقا وبالثاني: أم من خلقنا..
٨ قاله الزمخشري في المرجع السابق والسمين في الدر ٤/٥٤١..
٩ المرجعين السابقين..
١٠ قاله أبو إسحاق الزجاج في المعاني ٤/٢٩٩..
١١ نقلها صاحب الكشاف قراءة لا لغة انظر: الكشاف ٣/٣٣٧ وانظرها كقراءة في الدر المصون ٤/٥٤١..
١٢ نقله الرازي في تفسيره ٢٦/١٢٥..
١٣ السابق وانظر البغوي ٦/١٩..
١٤ لتقارب المخارج وانظر مجاز القرآن ٢/١٦٧ وغريب القرآن ٣٦٩ والقرطبي ١٥/٦٨ و ٦٩. وحكى الفراء عن قيس أنهم يقولون لازب ولاتب. واللاتب الثابت. المعاني ٢/٣٨٤ وانظر: اللسان :"ل ز ب" ٤٠٢٦ و "ل ز م" ٤٠٢٧ ولزب أفصح من لزم..
١٥ قال بهذا الإمام الرازي في التفسير الكبير ٢٦/١٢٤..
١٦ في ب: من قوله..
١٧ زيادة من "أ" لا معنى لها..
١٨ وانظر في هذا كله تفسير الرازي ٢٦/١٢٤ و ١٢٥..
قوله: ﴿بَلْ عَجِبْتَ﴾ قرأ الأَخَوَانِ بضم التاء والباقون بفتحها فالفتحُ ظاهر وهو ضمير الرسول أو كل من يصح منه ذلك وأما الضم فعلى صرفه للمخاطب أي قُلْ يا محمد بل عَجِبْتُ أنا، أو على إسناده للباري تعالى على ما يليق به وقد تقدم هذا في البقرة وما ورج منه في الكتابِ والسنة. وعن شُرَيْحٍ أنه أنركها وقال: اللَّهُ لا يَعجَبُ فبلغت إبْرَهِيمَ النَّخَعِيِّ فقال: إنَّ شريحاً كان مُعْجَباً برأيه قرأها مَنْ هو أعلم (منه) ؛
285
يعني عبد اللَّهِ بن مسعود وابن عباس والعَجَبُ من الله ليس كالتَّعَجُّب من الآدميين كما قال: ﴿فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ الله مِنْهُمْ﴾ [التوبة: ٧٩] وقال: ﴿نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ﴾ [التوبة: ٦٧] فالعجب من الآدميين إنكاره وتعظيمه والعُجْب من الله تعالى قد يكون بمعنى الإنكار والذَّمِّ وقد يكون بمعنى الاستحسان والرضا كما جاء في الحديث: «عَجِبَ رَبُّكُمْ مِنْ شَابِّ لَيْسَتْ لَهُ صَبْوَةٌ» وقوله: «عَجِبَ رَبُّكُمْ مِن إِلِّكُمْ وقُنُوطِكِمْ وسُرْعَةِ إجَابتِهِ إيَّاكُمْ» وسُئِلَ جُنَيْدٌ من هذه الآية فقال: إن الله لا يعجب من شيءولكن اللَّهَ وافق رسولَه لمَّا عِجِبَ رسولُهُ وقال: ﴿وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ﴾ أي هو كما تقوله.
قوله: ﴿وَيَسْخُرُونَ﴾ يجوز أن يكون استئنافاً وهو الأظهر وأن يكون حالاً والمعنى أي عجبت من تكذيبهم إياك وهم يسخرون من تعجبك، وقالد قتادة: عَجِبَ نَبِيُّ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من هذا القرآن حين أنزل وضلال بني آدم وذلك أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يظن أن كل من يسمع القرآن يؤمن به فلما سمع المشركون القرآن فسخروا منه ولم يؤمنوا عجب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من ذلك فقال الله تعالى: ﴿بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخُرُونَ﴾ وَإِذَاَ ذُكِّرُوا لاَ يّذْكُرُونَ «أي إذا وَعِظُوا بالقرآن لا يَتَّعِظُونَ.
وقرأ (جَنَاحُ) بن حبيش»
ذُكِرُوا «مخففاً» وإذا رأوا آية «قال ابن عباس ومقاتل: يعني انْشِقَاقَ القمر» يَسْتَسْخِرُون «يسخرون ويستهزئون، وقيل: يستدعي بعضُهم عن بعض السخرية وقرئ» يستستخرون «بالحاء المهملة» وَقَالُوا إنْ هَذَا
286
إلاَّ سِحْر مُبينٌ « (أي سحر بَيِّن) يعني إذا رأوا آية ومعجزة سخروا منها لاعتقادهم أنها من باب السحر.

فصل


قال ابن الخطيب: والذي عندي في هذا الباب أن يقال: القوم كانوا يَسْتَبْعِدثون الحَشْر والقيامة وبقولون من مات وصار تراباً وتفرقت أجزاؤه في العالم كيف يعقل عوده بعينه؟ وبقوا في هذا الاستبعاد إلى حيث كانوا يخسرون ممن يذهب إلى هذا المذهب وإذا كان كذلك ولا طريق إلى إزالة هذا الاستباد إَلاَّ من وجهين:
أحدهما: أن يذكر لهم الدليل على صحة الحشر والنشر مثل أن يقال لهم: هل تعلمون أن القادر عل الأصعب الأشق يجب أن يكون قادراً على الأسهل.
فهذا الدليل وإن كان جَلِيًّا قويًّا إلا أن (ذكر) أولئك المنكرين إذا عرض على قلوبهم هذه المقدمات لا يفهمونها ولا يقفون عليها وإذا ذكروا لم يتذكروها لشدة بلادتهم وجهلهم فلا جَرَمَ لم ينتفعوا بهذا الدليل.
والطريق الثاني: أن يثبت الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رسالته بالمعجزات ثم يقول: لما ثبت بالمعجزة كوني رسولاً صادقاً من عند الله فأنا أخبركم بأن البعث والقيامة حَقٌّ ثم إنّ أولئك المنكرين لا ينتفعون بهذا الطريق أيضاً لأنهم إذا رأوا معجزة قاهرة وآية باهرة حملوها على أنها سِحْرٌ وسَخِرُوا منها واسْتَهْزَأُوا بها وهذا هو المراد من قوله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَوْاْ آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ وقالوا إِن هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾
قوله: ﴿أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ﴾ وهذا بيان للسَّبب الذي حملهم على الاستهزاء بجميع المعجزات وهو اعتقادهم أن من مات وتفرقت أجزاؤه في العالم فما فيه من الأرض بجميع المعجزات وهو اعتقادهم أن من مات وتفرقت أجزاؤه في العالم فما فيه من الأرض اختلط (بتراب) الأرض وما فيه من المائية والهوائية اختلط ببخارات العالم. فهذا الإنسان كيف يعقل عَوْدُه بعينه حيًّا ثانياً؟! ثم إنه تعالى لما حكى عنهم هذه الشبهة قال: قُلْ (لَهُمْ) يا محمد «نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُون»
أي نعم تبعثون وأنتم صاغرون، والدخور أشد الصغار وإنما اكتفى تعالى بهذا القدر من الجواب لأنه ذكر في الآية المتقدمة البرهان القطعي على أنه (أمر) ممكن وإذا ثبت الجواب القطعي فلا سبيل
287
إلى القطع بالوقوع إلا بأخبار المخبر الصادق فلما قامت المعجزات على صدق محمد - عليه (الصلاة و) السلام - كان واجب الصدق فكان مجرد قوله: «نَعَمْ» دليلاً قاطعاً على الوقوع.
قوله: ﴿أَوَ آبَآؤُنَا﴾ قرأ ابنُ عَامر وقالون: بسكون الواو على أنها «أَوْ» العاطفة المقتضية للشك والباقون بفتحها على أنها همزة استفهام دخلت على واو العطف، وهذا الخلاف جار أيضاً في «الواقعة» وتقدم مثل هذا في الأعراق في قوله: ﴿أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القرى﴾ [الأعراف: ٩٨] فمن فتح الواو أجاز في: «آبَاؤُنَا» وجهين:
أحدهما: أن يكون معطوفاً على محل إن واسمها.
والثاني: أن يكون معطوفاً على الضمير المستتر في: «لَمَبْعُوثُونَ» واستغني بالفصل بهمزة الاستفهام، ومن سكنها تعين فيما الأول دون الثاني على قول الجمهور لعدم الفاصل، وقد أَوْضَحَ هذا الزمخشريُّ حيث قال: «أو آباؤنا» معطوف على محل إنَّ واسمها أو على الضمير في: «لَمَبْعُوثُونَ» والذي جوز العطف عليه الفصل بهمزة الاستفهام قال أبو حيان: أما قوله معطوف على محل «إنّ» واسمها فمذهب سيبويه خلافه فإن قولك: «إنَّ زَيْداً قَائِمٌ وعمرو» وعمرو فيه مرفوع بالابتداء وخبره محذوف، وأما قوله: أو على الضمير في لمبعوثون (الخ...
.. فلا يجوز أيضاً؛ لأن همزة
288
الاستفهام لا تدخل إلى على الجمل لا على المفرد؛ لأنه إذا عطف على المفرد كان الفعل عاملاً في المفرد بواسطة حرف العطف وهمزة الاستفهام لا يعمل ما قبلها فيما بعدها، فقوله: ﴿أَوَ آَبَاؤُنَا﴾ مبتدأ محذوف الخبر لما ذكرنا قلت: أما الرد الأول: فلا يلزم لأنه لا يُلْتَزَمُ مذهب سيبويه وأما الثاني: فإن الهمزة مؤكدة للأولى فهي داخلة في الحقيقة على الجملة إلا أنه فصل بين الهمزتين بإنّ واسْمِهَا وخبرها. ويدل على هذا ما قاله هو في سورة الواقعة فإنه قال: دخلت همزة الاستفهام على حرف العطف، فإن قلت: كيف حسن العطف على المضمر في لمبعوثون) من غير تأكيد بنحن؟ قلت: حسن للفاصل الذي هو الهمزة كما حسن في قوله: ﴿مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا﴾ [الأنعام: ١٤٨] لفصل (لا) المؤكدة للنفي لأن لا مؤكدة للنفي المتقدم بما إلا أن هذا مشكلٌ بأن الحرف إذا كرر للتأكيد لم يُعَدْ في الأمر العام إلا بإعادة ما اتصل به أولاً أو بضميره. وقد مضى القول فيه وتحصل في رفع «آباؤنا» ثلاثة أوجه: العطف على الابتداء والخبر مضمر والعامل في «إذا» محذوف أي: أَنُبْعَثُ إذَا مِتْنَا هذا غذا جعلتها ظرفاً غير متضمن لمعنى الشرط، فإن جعلتها شرطية كان جوباها عاملاً فيها أي إذا متنا بُعِثْنَا أوْ حُشِرْنَا.
وقرئ «إذَا» دون استفام وقد مضى القول فيه في الرعد.
289
قوله: ﴿وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ﴾ جملة حالية العامل فيها الجملة القائمة مقامها «نعَمْ» أي تبعثون وأنتم صاغرون أذلاَّء قال أبو حيان: وقرأ ابن وَثّاب «نِعِمْ» بكسر العين تقدم أن الكسائي قرأها كذلك حيث وقَعتْ وكلامه هنا موهم أن ابن وثاب منفردٌ بها.
290
وقرأ ( جَنَاحُ )١ بن حبيش «ذُكِرُوا » مخففاً٢، «وإذا رأوا آية » قال ابن عباس ومقاتل : يعني انْشِقَاقَ القمر٣ «يَسْتَسْخِرُون » يسخرون ويستهزئون، وقيل : يستدعي بعضُهم عن بعض السخرية٤ وقرئ «يستسحرون » بالحاء المهملة٥. «وَقَالُوا إنْ هَذَا إلاَّ سِحْر مُبينٌ » ( أي سحر٦ بَيِّن ) يعني إذا رأوا آية ومعجزة سخروا منها لاعتقادهم أنها من باب السحر.

فصل


قال ابن الخطيب : والذي عندي في هذا الباب أن يقال : القوم كانوا يَسْتَبْعِدون الحَشْر والقيامة ويقولون من مات وصار تراباً وتفرقت أجزاؤه في العالم كيف يعقل عوده بعينه ؟ وبقوا٧ في هذا الاستبعاد إلى حيث كانوا يسخرون ممن يذهب إلى هذا المذهب وإذا كان كذلك ولا طريق إلى إزالة هذا الاستبعاد إَلاَّ من وجهين :
أحدهما : أن يذكر لهم٨ الدليل على صحة الحشر والنشر مثل أن يقال لهم : هل تعلمون أن القادر على الأصعب الأشق يجب أن يكون قادراً على الأسهل.
فهذا الدليل وإن كان جَلِيًّا قويًّا إلا أن ( ذكر )٩ أولئك المنكرين إذا عرض على قلوبهم هذه المقدمات لا يفهمونها ولا يقفون عليها وإذا ذكروا لم يتذكروها لشدة بلادتهم وجهلهم فلا جَرَمَ لم ينتفعوا بهذا الدليل.
والطريق الثاني : أن يثبت الرسول - صلى الله عليه وسلم - رسالته بالمعجزات ثم يقول : لما ثبت بالمعجزة كوني رسولاً صادقاً من عند الله فأنا أخبركم بأن البعث والقيامة حَقٌّ ثم إنّ أولئك المنكرين لا ينتفعون بهذا الطريق أيضاً لأنهم إذا رأوا معجزة قاهرة١ وآية باهرة حملوها على أنها سِحْرٌ وسَخِرُوا منها واسْتَهْزَأُوا بها. وهذا هو المراد من قوله تعالى :﴿ وَإِذَا رَأَوْاْ آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ وقالوا إِن هذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾
١ سقط من ب..
٢ من الشاذات غير المتواترات. ذكرها ابن خالويه في المختصر ١٢٧ كما ذكرها أبو حيان في البحر ٧/٣٥٥ والسمين في الدر المصون ٤/٥٤٢..
٣ زاد المسير ٧/٥١ ومعالم التنزيل ٦/٢٠..
٤ السابق. وقال ابن قتيبة: يقال سخر واستسخر كما يقال: قر واستقر. ومثله : عجب واستعجب. الغريب ٣٧٠ والمجاز ٢/١٦٧..
٥ من السحر. ولم يحدد أبو حيان ومن بعده السمين من قرأ بها. البحر ٧/٣٥٥ والدر ٤/٥٤٢..
٦ ما بين القوسين سقط من ب..
٧ في تفسيره وبلغوا..
٨ كذا في (أ) والرازي. وفي ب: لهما. تحريف..
٩ زيادة على تفسيره..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٣:وقرأ ( جَنَاحُ )١ بن حبيش «ذُكِرُوا » مخففاً٢، «وإذا رأوا آية » قال ابن عباس ومقاتل : يعني انْشِقَاقَ القمر٣ «يَسْتَسْخِرُون » يسخرون ويستهزئون، وقيل : يستدعي بعضُهم عن بعض السخرية٤ وقرئ «يستسحرون » بالحاء المهملة٥. «وَقَالُوا إنْ هَذَا إلاَّ سِحْر مُبينٌ » ( أي سحر٦ بَيِّن ) يعني إذا رأوا آية ومعجزة سخروا منها لاعتقادهم أنها من باب السحر.

فصل


قال ابن الخطيب : والذي عندي في هذا الباب أن يقال : القوم كانوا يَسْتَبْعِدون الحَشْر والقيامة ويقولون من مات وصار تراباً وتفرقت أجزاؤه في العالم كيف يعقل عوده بعينه ؟ وبقوا٧ في هذا الاستبعاد إلى حيث كانوا يسخرون ممن يذهب إلى هذا المذهب وإذا كان كذلك ولا طريق إلى إزالة هذا الاستبعاد إَلاَّ من وجهين :
أحدهما : أن يذكر لهم٨ الدليل على صحة الحشر والنشر مثل أن يقال لهم : هل تعلمون أن القادر على الأصعب الأشق يجب أن يكون قادراً على الأسهل.
فهذا الدليل وإن كان جَلِيًّا قويًّا إلا أن ( ذكر )٩ أولئك المنكرين إذا عرض على قلوبهم هذه المقدمات لا يفهمونها ولا يقفون عليها وإذا ذكروا لم يتذكروها لشدة بلادتهم وجهلهم فلا جَرَمَ لم ينتفعوا بهذا الدليل.
والطريق الثاني : أن يثبت الرسول - صلى الله عليه وسلم - رسالته بالمعجزات ثم يقول : لما ثبت بالمعجزة كوني رسولاً صادقاً من عند الله فأنا أخبركم بأن البعث والقيامة حَقٌّ ثم إنّ أولئك المنكرين لا ينتفعون بهذا الطريق أيضاً لأنهم إذا رأوا معجزة قاهرة١ وآية باهرة حملوها على أنها سِحْرٌ وسَخِرُوا منها واسْتَهْزَأُوا بها. وهذا هو المراد من قوله تعالى :﴿ وَإِذَا رَأَوْاْ آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ وقالوا إِن هذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾
١ سقط من ب..
٢ من الشاذات غير المتواترات. ذكرها ابن خالويه في المختصر ١٢٧ كما ذكرها أبو حيان في البحر ٧/٣٥٥ والسمين في الدر المصون ٤/٥٤٢..
٣ زاد المسير ٧/٥١ ومعالم التنزيل ٦/٢٠..
٤ السابق. وقال ابن قتيبة: يقال سخر واستسخر كما يقال: قر واستقر. ومثله : عجب واستعجب. الغريب ٣٧٠ والمجاز ٢/١٦٧..
٥ من السحر. ولم يحدد أبو حيان ومن بعده السمين من قرأ بها. البحر ٧/٣٥٥ والدر ٤/٥٤٢..
٦ ما بين القوسين سقط من ب..
٧ في تفسيره وبلغوا..
٨ كذا في (أ) والرازي. وفي ب: لهما. تحريف..
٩ زيادة على تفسيره..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٣:وقرأ ( جَنَاحُ )١ بن حبيش «ذُكِرُوا » مخففاً٢، «وإذا رأوا آية » قال ابن عباس ومقاتل : يعني انْشِقَاقَ القمر٣ «يَسْتَسْخِرُون » يسخرون ويستهزئون، وقيل : يستدعي بعضُهم عن بعض السخرية٤ وقرئ «يستسحرون » بالحاء المهملة٥. «وَقَالُوا إنْ هَذَا إلاَّ سِحْر مُبينٌ » ( أي سحر٦ بَيِّن ) يعني إذا رأوا آية ومعجزة سخروا منها لاعتقادهم أنها من باب السحر.

فصل


قال ابن الخطيب : والذي عندي في هذا الباب أن يقال : القوم كانوا يَسْتَبْعِدون الحَشْر والقيامة ويقولون من مات وصار تراباً وتفرقت أجزاؤه في العالم كيف يعقل عوده بعينه ؟ وبقوا٧ في هذا الاستبعاد إلى حيث كانوا يسخرون ممن يذهب إلى هذا المذهب وإذا كان كذلك ولا طريق إلى إزالة هذا الاستبعاد إَلاَّ من وجهين :
أحدهما : أن يذكر لهم٨ الدليل على صحة الحشر والنشر مثل أن يقال لهم : هل تعلمون أن القادر على الأصعب الأشق يجب أن يكون قادراً على الأسهل.
فهذا الدليل وإن كان جَلِيًّا قويًّا إلا أن ( ذكر )٩ أولئك المنكرين إذا عرض على قلوبهم هذه المقدمات لا يفهمونها ولا يقفون عليها وإذا ذكروا لم يتذكروها لشدة بلادتهم وجهلهم فلا جَرَمَ لم ينتفعوا بهذا الدليل.
والطريق الثاني : أن يثبت الرسول - صلى الله عليه وسلم - رسالته بالمعجزات ثم يقول : لما ثبت بالمعجزة كوني رسولاً صادقاً من عند الله فأنا أخبركم بأن البعث والقيامة حَقٌّ ثم إنّ أولئك المنكرين لا ينتفعون بهذا الطريق أيضاً لأنهم إذا رأوا معجزة قاهرة١ وآية باهرة حملوها على أنها سِحْرٌ وسَخِرُوا منها واسْتَهْزَأُوا بها. وهذا هو المراد من قوله تعالى :﴿ وَإِذَا رَأَوْاْ آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ وقالوا إِن هذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾
١ سقط من ب..
٢ من الشاذات غير المتواترات. ذكرها ابن خالويه في المختصر ١٢٧ كما ذكرها أبو حيان في البحر ٧/٣٥٥ والسمين في الدر المصون ٤/٥٤٢..
٣ زاد المسير ٧/٥١ ومعالم التنزيل ٦/٢٠..
٤ السابق. وقال ابن قتيبة: يقال سخر واستسخر كما يقال: قر واستقر. ومثله : عجب واستعجب. الغريب ٣٧٠ والمجاز ٢/١٦٧..
٥ من السحر. ولم يحدد أبو حيان ومن بعده السمين من قرأ بها. البحر ٧/٣٥٥ والدر ٤/٥٤٢..
٦ ما بين القوسين سقط من ب..
٧ في تفسيره وبلغوا..
٨ كذا في (أ) والرازي. وفي ب: لهما. تحريف..
٩ زيادة على تفسيره..

قوله :﴿ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ﴾١ وهذا بيان للسَّبب الذي حملهم على الاستهزاء بجميع المعجزات وهو اعتقادهم أن من مات وتفرقت أجزاؤه في العالم فما فيه من الأرض اختلط ( بتراب )٢ الأرض وما فيه من المائية والهوائية اختلط ببخارات العالم. فهذا الإنسان كيف يعقل عَوْدُه بعينه حيًّا ثانياً ؟ ! ثم إنه تعالى لما حكى عنهم هذه الشبهة قال : قُلْ ( لَهُمْ )٣ يا محمد «نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُون » أي نعم تبعثون وأنتم صاغرون، والدخور أشد الصغار وإنما اكتفى تعالى بهذا القدر من الجواب لأنه ذكر في الآية المتقدمة البرهان القطعي٤ على أنه ( أمر )٥ ممكن وإذا ثبت الجواب القطعي فلا سبيل إلى القطع بالوقوع إلا بأخبار المخبر٦ الصادق فلما قامت المعجزات على صدق محمد - عليه ( الصلاة و ) السلام - كان واجب الصدق فكان مجرد قوله :«نَعَمْ » دليلاً قاطعاً على الوقوع. ٧
١ وانظر تفسيره ٢٦/١٢٧ و ١٢٨..
٢ سقط من ب..
٣ زيادة من ب..
٤ في "أ" القطع والرازي هنا موافق ل "ب"..
٥ سقط من ب..
٦ في ب: للمخبر..
٧ وانظر: التفسير الكبير للإمام الرازي ٢٦/١٢٨..
قوله :﴿ أَوَ آبَآؤُنَا ﴾ قرأ ابنُ عَامر وقالون : بسكون الواو على أنها «أَوْ »١ العاطفة المقتضية للشك والباقون بفتحها٢ على أنها همزة استفهام دخلت على واو العطف، وهذا الخلاف جار أيضاً في «الواقعة »٣ وتقدم مثل هذا في الأعراف في قوله :﴿ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القرى ﴾٤ [ الأعراف : ٩٨ ] فمن فتح الواو أجاز في :«آبَاؤُنَا » وجهين :
أحدهما : أن يكون معطوفاً على محل إن واسمها. ٥
والثاني : أن يكون معطوفاً على الضمير المستتر في :«لَمَبْعُوثُونَ »٦. واستغني بالفصل بهمزة الاستفهام، ومن سكنها تعين فيما الأول دون الثاني على قول الجمهور لعدم الفاصل، وقد أَوْضَحَ هذا الزمخشريُّ حيث قال :«أو آباؤنا » معطوف على محل إنَّ واسمها أو على الضمير في :«لَمَبْعُوثُونَ » والذي جوز العطف عليه الفصل بهمزة الاستفهام٧. قال أبو حيان : أما قوله معطوف على محل «إنّ » واسمها فمذهب سيبويه خلافه٨، فإن قولك :«إنَّ زَيْداً قَائِمٌ وعمرو » وعمرو فيه مرفوع بالابتداء وخبره محذوف، وأما قوله : أو على الضمير في لمبعوثون ( الخ. . .
. . فلا يجوز أيضاً ؛ لأن همزة الاستفهام لا تدخل إلى على الجمل لا على المفرد ؛ لأنه إذا عطف على المفرد كان الفعل عاملاً في المفرد بواسطة حرف العطف وهمزة الاستفهام لا يعمل ما قبلها فيما بعدها، فقوله :﴿ أَوَ آَبَاؤُنَا ﴾ مبتدأ محذوف الخبر لما ذكرنا٩. قلت١٠ : أما الرد الأول : فلا يلزم لأنه لا يُلْتَزَمُ١١ مذهب سيبويه١٢، وأما الثاني : فإن الهمزة مؤكدة للأولى فهي داخلة في الحقيقة على الجملة إلا أنه فصل بين الهمزتين بإنّ واسْمِهَا وخبرها. ويدل على هذا ما قاله هو١٣ في سورة الواقعة فإنه قال : دخلت همزة الاستفهام على حرف العطف، فإن قلت : كيف حسن العطف على المضمر في لمبعوثون )١٤ من غير تأكيد بنحن ؟ قلت : حسن للفاصل الذي هو الهمزة كما حسن في قوله :﴿ مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا ﴾ [ الأنعام : ١٤٨ ] لفصل ( لا )١٥ المؤكدة بالنفي انتهى١٦. فلم يذكر هنا غير هذا الوجه وتشبيهه بقوله لفصل ( لا )١٧ المؤكدة للنفي لأن لا مؤكدة للنفي المتقدم بما إلا أن هذا مشكلٌ بأن الحرف إذا كرر للتأكيد لم يُعَدْ في الأمر العام إلا بإعادة ما اتصل به أولاً أو بضميره. وقد مضى القول فيه١٨. وتحصل في رفع «آباؤنا » ثلاثة أوجه : العطف على محل " إن " واسمها، والعطف على الضمير المستكن في " لمبعوثون ". والرفع على الابتداء والخبر مضمر١٩، والعامل في «إذا » محذوف أي : أَنُبْعَثُ إذَا مِتْنَا. هذا إذا جعلتها ظرفاً غير متضمن لمعنى الشرط، فإن جعلتها شرطية كان جوابها عاملاً فيها٢٠ أي إذا متنا بُعِثْنَا أوْ حُشِرْنَا٢١.
وقرئ «إذَا » دون استفهام٢٢، وقد مضى القول فيه في الرعد٢٣.
١ في ب: الواو..
٢ من القراءات المتواترة. وانظر في ذلك السبعة ٢٨٧ و ٢٨٦ والإتحاف ٣٦٨ والنشر ٢/٣٥٧ والكشاف ٣/٣٣٧..
٣ عند قوله تعالى: ﴿أئنا لمبعوثون أو آباؤنا الأولون﴾ الآية ١٠..
٤ الآية ٩٨ منها: ﴿أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون﴾ فقرىء بأو وبالواو على العطف والاستفهام أيضا..
٥ من قوله: "أئنا لمبعوثون" وانظر الكشاف ٣/٣٣٧ والسمين ٤/٥٤٢..
٦ المرجع السابق وانظر: الكشاف ٣/٣٣٧..
٧ المرجع السابق..
٨ فالزمخشري قد مشى في رحا الكوفيين وقليل من البصريين الذين لم يشترطوا المحرز وهو الطالب للمحل، ولأن "إن" لم تعمل عندهم في الخبر شيئا بل هو مرفوع بما كان مرفوعا به قبل دخولها. وفي الكتاب لسيبويه أنه يجيز رأي الكوفيين هذا ولكنه رأي ضعيف ومفضول. قال: "هذا باب ما يكون محمولا على إن فيشاركه فيه الاسم الذي وليها ويكون محمولا على الأول فأما ما حمل على الابتداء فقولك: إن زيدا ظريف وعمرو، وإن زيدامنطلق وسعيد يرتفعان لوجهين فأما الوجه الحسن فأن يكون محمولا على الابتداء وأما الوجه الآخر الضعيف فأن يكون محمولا على الاسم المضاف في المنطلق". الكتاب ٢/١٤٤..
٩ قاله في البحر ٧/٣٥٥..
١٠ هذا رد شهاب الدين فيما نقله عنه المؤلف ٤/٥٤٣..
١١ في ب: لا يلزم..
١٢ بدليل أن سيبويه صرح بالرأيين الجائزين وفضل أحدهما على الآخر وهذا ما أميل إليه في تجويز الرأيين..
١٣ أي جار الله الزمخشري..
١٤ ما بين القوسين كله سقط من أ الأصل..
١٥ زيادة من الكشاف من قول الزمخشري..
١٦ الكشاف ٤/٥٥..
١٧ زيادة لتوضيح السياق وتكميله..
١٨ في الأنعام عند تلك الآية السابقة..
١٩ وهذا ما توحي به عبارة سيبويه في الكتاب المرجع السابق. والأولان قال بهما جار الله الزمخشري. ونقلهما شهاب الدين السمين في الدر ٤/٥٤٢..
٢٠ ولذلك يقولون في إعراب "إذا" ظرف خافض لشرطه منصوب بجوابه..
٢١ تفسير الإمام شهاب الدين السمين ٤/٥٤٣..
٢٢ من القراءات المتواترة السبعية فهي قراءة عبد الله بن عامر انظر: الإتحاف ٣٦٨. وفي السبعة لابن مجاهد لم يذكرها وانظر: البحر ٧/٣٥٥ والسمين ٤/٥٤٣..
٢٣ يشير إلى قوله تعالى: ﴿أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد﴾ الآية ٥. وبين هناك أن كل القراء يقرأون بالاستفهام فيهما: "أئذا- وأئنا"، وأن ابن عامر قرأ وحده بالإخبار..
قوله :﴿ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ ﴾ جملة حالية العامل فيها الجملة القائمة مقامها «نعَمْ » أي تبعثون١ وأنتم صاغرون أذلاَّء٢. قال أبو حيان : وقرأ ابن وَثّاب «نِعِمْ » بكسر العين٣ وتقدم أن الكسائي قرأها كذلك حيث وقَعتْ. وكلامه هنا موهم أن ابن وثاب منفردٌ بها٤.
١ هو قول الزمخشري في الكشاف ٣/٣٣٨ والسمين في الدر ٤/٥٤٤..
٢ قاله في اللسان دخر ١٣٤٠ وغريب القرآن ٣٧٠ ومجازه ٢/١٦٨..
٣ البحر ٧/٣٥٥ والإتحاف ٣٦٨ والسمين ٤/٣٤٤..
٤ المرجع السابق وقد وقعت في [الأعراف: ٤٤، ١١٤] [الشعراء: ٤٢]، [الصافات: ١٨]..
قوله: ﴿فَإِنَّمَا هِيَ﴾ قال الزمخشري: «فَإنَّما هِيَ» جواب شرط مقدر تقديره إذا كان كذلك فما هي إلا زجره واحدة قال أبو حيان: وكثيراً ما تضمَّن جملة الشرط قبل فاء إذا ساغ تقديره ولا ضرورة تدعو إلى ذلك ولا يحذف الشرط ويبقى جوابه إلا إذا انجزم الفعل في الذي يطلق عليه أنه جواب للأمر والنهي وما ذكر معهما، أمَّا اتبداءً فلا يجوز حذفه.

فصل


«هي» ضمير البعثة المدلول عليها بالسِّياق لما كانت بعثتهم ناشئة عن الزجرة جعلت إياها مجازاً، قال الزَّمَخْشَرِيُّ «هي» مبهمة يوضحها خبرها، قال أبو حيان: وكثيراً ما يقول هو ابن مالك: إن الضمير يفسره خبره ووقف أبو حاتم على «يَا وَيْلَنا» وجعل
290
مع ما بعده من قوله الباري تعالى، وبعضهم جعل «هَذَا يَوْمُ الدِّينِ» من كلام الكفار الكفرة فيقف عليه، وقوله: ﴿هذا يَوْمُ الفصل﴾ من قول الباري تعالى: وقيل: الجمع من كلامهم وعلى هذا فيكون قوله: ﴿تُكَذَّبُونَ﴾ إما التفاتاً من التكلم إلى الخطاب وإما مخاطبة بعضهم لبعض.

فصل


لما بين في الآية المتقدمة ما يدل على إنكار البعث والقيامة وأرْدَفَهُ بما يدل على وقوع القيامة ذكر في هذه الآيات بعض تفاصيل أحوال القيامة فمنها قوله: «فإنما هي زجرة واحدة» أي صيحة واحدة وهي نفخة البعث فإذا هم ينظرون أي إحياء ينظر بعضهم إلى بعض، وقيل: ينتظرون ما يحدث لهم أو ينظرون إلى البعث الذي كذبوا به والزجرة هي الصيحة التي زجرها كالزجرة بالنَّعَمِ والإبل عند الحثّ، ثُمَّ كثر استعمالها حتى صارت بمعنى الصيحة، قال ابن الخطيب: ولا يبعد أن يقال تلك الصحية إذا سميت زجرة لأنها تزجر الموتى عن الرقود في القبور وتحثهم على القيام من القبور إلى الحضور في موقف القيامة.
فإن قيل: فما الفائدة في هذه الصحية للأموات وهذه النفخة جاية مَجْرَى السبب ليحاتهم فتكون مقدمة على حياتهم فلزم أن هذه الصيحة إنما تكون حالاً لكونهم أمواتاً فتكون الصيحة عديمة الفائدة فهي عَبَثٌ والعبث لا يجوز في فِعل الله؟
فالجواب: على قول أهل السنة يفعل الله ما يشاء وأما المعتزلة فقال القاضي: فيه وجهان:
الأول: أن يعتبر بها الملائكة.
والثاني: أن تكون فائدتها التخويف والإرهاب (انتهى) وهذه الصيحة لا تأثير لها في الحياة بدليل أن الصيحة الأولى استعقبها الموت والثانية الحياة وذلك يدل على أن الصيحة لا أثر لها في الموت ولا في الحياة بل خالق الموت والحياة هوا لله (وذلك يدل على أن الصيحة لا أثر لها «كما قال: ﴿الذي خَلَقَ الموت والحياة﴾
[الملك: ٢] روي أن الله تعالى يأمرنا سراً قيل فينادى أَيَّتَّها العِظَامُ النَّخِرَة، والجُلُودُ البالية والأجزاء المتفرقة اجتمعوا بإذن الله تعالى. الحالة الثانية من تفاصيل أحوال القيامة قولهم بعد القيام من القبور: «يا ويلنا هذا يوم الدين»
أي يوم الحساب ويوم الجزاء. قال الزجاج: الويل كلمة
291
يقولها القائل وقت الهَلَكَةِ ويحتمل أن يكون المراد بقولهم: «هذا يوم الدين» أي يوم الحساب القيمة المذكرو في قوله: ﴿مالك يَوْمِ الدين﴾ [الفاتحة: ٤] أي لا مالك في ذلك اليوم إلا الله تعالى وأما قوله: ﴿هذا يَوْمُ الفصل الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾ تَقَدَّم الكلام على قائله هل هو من كلام الله تعالى أو من كلام الملائكة أو من كلام المؤمنين أو من كلام الكفار.
قوله: ﴿احشروا الذين ظَلَمُواْ﴾ هذا من كلام الملائكة والمراد اجْمَعُوا الذين أشركوا إلى الموقف للحساب والجزاء.
فإن قيل: ما معنى احشروا مع أنهم قد حشروا من قبل وحَضَروا مَحْفِل القيامة وقالوا: هذا يوم الدين وقالت الملائكة لهم: بل هذا يوم الفصل؟
أجاب القاضي عنه وقال: المراد احشروهم إلى دار الجزاء وهي النار، ولذلك قال بعده: «فَاهْدُهُمْ إلى صِرَاطِ الجَحِيم» أي دُلُّوهُمْ على ذلك الطريق، ثم سأل نفسه وقال: كيف يصح ذلك وقد قال بعده: «وَقِفُوهُمْ إنَّهُمْ مَسؤُلُونَ» ومعلوم أن (مَ) حْشَرَهُمْ إلى الجحيم إنما يكون بعد المسألة وأجاب بأنه ليس في العطف بحرف الواو ترتيب ولا يمتنع أن يقال احْشُرُوهُمْ وقِفُوهم مع أما بعقولنا نعلم أن الوقوف كان قبل الحشر. قال ابن الخطيب: وعندي فيه وجه آخر وهو أن يقال: إنهم إذا قاموا من قبورهم لم يَبْعُدْ أن يقفوا هناك لحيرَةٍ تَلْحَقُهُمْ لمعاينتهم أهوالَ القيامة، ثم إن الله تعالى يقول للملائكة: احشروا الذين ظلموا واهدوهم إلى صراط الجحيم، أي سُوقُوهم إلى طريق جهنم وقفوهم هناك ويحصل السؤال هناك ثُمّ (مِنْ) هنا (ك) يساقون إلى النار.
قوله: ﴿وَأَزْوَاجَهُمْ﴾ العامة على نصب وفيه وجهان:
أحدهما: العطف على الموصول.
والثاني: أنه مفعول معه قال أبو البقاء: وهو في المعنى أقوى، وإنما قال في المعنى لأنه في الصناعة ضعيف لأنه أمكن العطف لا يُعْدَلُ عنه، وقرأ عيسَى بْنُ سُلَيْمَانَ الحِجَازيّ بالرفع عطفاً على ضمير «ظَلموا» وهو ضعيف لعدم
292
العامل، وقوله: ﴿وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ﴾ لا يجوز فيه هذا لأنه لا ينسب إليهم ظلم إن لم يرد بهم الشياطين وإن أريد بهم ذلك جاز فيه الرفع أيضاً على ما تقدم.
قوله: ﴿إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ﴾ العامة على الكسر على الاستئناف المفيد للعلة، وقرئ بفتحها على حذف لام العلة أي قِفُوهُمْ لأجْل سُؤَال الله إيَّاهم.

فصل


المراد بالأزواج أشباههم وأمثالهم وأتباعهم. قال قتادة والكلبي: كل من نعمل مثل عملهم فأهل الخمر مع أهل الخمر وأهل الزنا مع أهل الزنا واليهوديّ مع اليهوديّ والنَّصْرَانيّ مع النصراني لقوله تعالى:
﴿وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً﴾ [الواقعة: ٧] أي أشكالاً وأشباهاً، وتقول «عندي من هذا أزواج» أي أمثال، وتقول: زَوْجَان من الخُفِّ لأن كل واحد منهما نظير الآخر وكذلك الرجل والمرأة يُسَمَّيَانِ زَوْجَيْنِ متشابهين، وكذلك العدد الزوج، وقال الضحاك ومقاتل قرناؤهم من السوء الشياطين كل كافر مع شيطانه في سلسلة وقال الحسن: أزواجهم: المشركات، وما كانوا يعبدون من دون الله في الدنيا يعني الأوثان والطواغيت. وقال مقاتل: يعني إبليسَ وجنودَه لقوله: «ألاَّ تَعْبُجُوا الشَّيْطَانَ» «فاهْدُوهم إٍلى صراط الجحيم»، قال ابن عباس: دلوهم إلى طريق النَّارِ. وقال ابن كيسان والأَصَمّ قدموهم والعرب تسمي السابق هادياً. وقال الواحدي: وهذا وهم لأنه يقال هَدَى إذا تقدم ومنه الهَادِيَةُ والهَوَادِي، وهَادِيَاتُ الوحش، ولا يقال هَدَى بمعنى قدم. «وَقِفُوهُمْ» يقال وَقَفْتُ الدَّابَة أَقِفُها وَقْفاً فوَقَفَتْ هي وُقُوفاً قال المفسرون: لما سِيقُوا إلى النار حبسوا عند الصراط لأن السؤال عند الصراط فقال: ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ﴾ قال ابن عباس: عن أقوالهم وأفعالهم.
293
وقيل: تسألهم الخزنة: «ألم يأتكم نذير رسل منكم»، (رسل) بالبينات قولوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين. ويجوز أن يكون هذا السؤال هو قوله بعد ذلك: ﴿مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ﴾ (أي لا تسألون) (توبيخاً لهم فيقال) : ما لكمن لا يتناصرون قال ابن عباس: لا ينصر بعضُكم بعضاً كما كنتم في الدنيا وذلك أن أبا جهل قال يوم بدر: نحْن جميعٌ منتصر فقيل لهم يوم القيامة: ما لكم لا تَنَاصَرُون، وقيل: يقال للكفار: ما لشركائكم لا يمنعونكم من العذاب.
قوله: ﴿مَا لَكُمْ﴾ يجوز أن يكون منقطعاً عما قبله والمسؤول عنه غير مذكور ولذلك قدره بعضهم عن أعمالهم ويجوز أن يكون هو المسؤول عنه في المعنى فيكون معلقاً للسؤال و «لاَ تَنَاصَرُونَ» جملة حالية العامل فيها الاستقرار في «لكم» وقيل: بل هي على حذف حَرْفِ الجرِّ وأن الناصبة فلما حذفت «أن» ارتفع الفعل. والأصل في أن لا وتقدمت قراءة البَزِّي لا تناصرون بتشديد التاء وقرئ تَتَنَاصَرُونَ على الأصل.
قوله (تعالى) :﴿بَلْ هُمُ اليوم مُسْتَسْلِمُونَ﴾ قال ابن عباس: خاضعون. وقال الحسن منقادون، يقال اسْتسْلَمَ للشيء إذا انقاد له وخضع والمعنى هم اليوم أذلاّء منقادون لا حِيلَة لهم في دفع تلك المضارّ.
294
ووقف أبو حاتم على «يَا وَيْلَنا » وجعل مع ما بعده من قول الباري تعالى١، وبعضهم جعل «هَذَا يَوْمُ الدِّينِ » من كلام الكفار الكفرة فيقف عليه،
١ انظر: البحر المحيط ٧/٣٥٦ والدر المصون ٤/٥٤٤..
وقوله :﴿ هذا يَوْمُ الفصل ﴾ من قول الباري تعالى : وقيل : الجميع من كلامهم وعلى هذا فيكون قوله :﴿ تُكَذَّبُونَ ﴾ إما التفاتاً من التكلم إلى الخطاب وإما مخاطبة بعضهم لبعض١.

فصل


لما بين في الآية المتقدمة ما يدل على إنكار البعث والقيامة وأرْدَفَهُ بما يدل على وقوع القيامة ذكر في هذه الآيات بعض تفاصيل أحوال القيامة فمنها قوله :«فإنما هي زجرة واحدة » أي صيحة واحدة وهي نفخة البعث فإذا هم ينظرون أي أحياء ينظر بعضهم إلى بعض، وقيل : ينتظرون ما يحدث لهم أو ينظرون إلى البعث الذي كذبوا به والزجرة هي الصيحة التي يزجرها كالزجرة بالنَّعَمِ والإبل عند الحثّ، ثُمَّ كثر استعمالها حتى صارت بمعنى الصيحة، قال ابن الخطيب : ولا يبعد أن يقال تلك الصيحة إذا سميت زجرة لأنها تزجر الموتى عن الرقود في القبور وتحثهم على القيام من القبور إلى الحضور في موقف القيامة.
فإن قيل : فما الفائدة في هذه الصيحة للأموات وهذه النفخة جارية مَجْرَى السبب لحياتهم فتكون مقدمة٢ على حياتهم فلزم أن هذه الصيحة إنما تكون حالاً لكونهم أمواتاً فتكون الصيحة عديمة الفائدة فهي عَبَثٌ والعبث لا يجوز في فِعل الله ؟
فالجواب : على قول أهل السنة يفعل الله ما يشاء وأما المعتزلة فقال القاضي : فيه وجهان :
الأول : أن يعتبر بها الملائكة.
والثاني : أن تكون فائدتها التخويف والإرهاب ( انتهى )٣. وهذه الصيحة لا تأثير لها في الحياة بدليل أن الصيحة الأولى استعقبها الموت والثانية الحياة وذلك يدل على أن الصيحة لا أثر لها في الموت ولا في الحياة بل خالق الموت٤ والحياة هو الله ( وذلك يدل على٥ أن الصيحة لا أثر لها ) كما قال :﴿ الذي خَلَقَ الموت والحياة ﴾
[ الملك : ٢ ] روي أن الله تعالى يأمرنا سراً قيل فينادى أَيَّتَّها العِظَامُ النَّخِرَة، والجُلُودُ البالية والأجزاء المتفرقة اجتمعوا بإذن الله تعالى. الحالة الثانية من تفاصيل أحوال القيامة قولهم بعد القيام من القبور :«يا ويلنا هذا يوم الدين » أي يوم الحساب ويوم الجزاء. قال الزجاج : الويل كلمة يقولها القائل وقت الهَلَكَةِ٦، ويحتمل أن يكون المراد بقولهم :«هذا يوم الدين » أي يوم الحساب القيامة المذكور في قوله :﴿ مالك يَوْمِ الدين ﴾ [ الفاتحة : ٤ ] أي لا مالك في ذلك اليوم إلا الله تعالى وأما قوله :﴿ هذا يَوْمُ الفصل الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ﴾ تَقَدَّم الكلام على قائله هل هو من كلام الله تعالى أو من كلام الملائكة أو من كلام المؤمنين أو من كلام الكفار.
١ المرجعان السابقان..
٢ في ب: متقدمة وكذا هي في الرازي كما في "أ" وانظر: تفسير الرازي ٢٦/١٢٩..
٣ زيادة من ب، عن "أ"..
٤ في "أ" السموات وما في ب هنا هو الموافق للمعنى وللرازي..
٥ زيادة من "أ" عن الرازي و "ب"..
٦ قاله في معاني القرآن وإعرابه ٤/٣٠١..
قوله :﴿ احشروا الذين ظَلَمُواْ ﴾ هذا من كلام الملائكة والمراد اجْمَعُوا الذين أشركوا إلى الموقف للحساب والجزاء.
فإن قيل : ما معنى احشروا مع أنهم قد حشروا من قبل وحَضَروا مَحْفِل القيامة وقالوا : هذا يوم الدين وقالت الملائكة لهم : بل هذا يوم الفصل ؟
أجاب القاضي١ عنه وقال : المراد احشروهم إلى دار الجزاء وهي النار، ولذلك قال بعده :«فَاهْدُوهُمْ إلى صِرَاطِ الجَحِيم » «فَاهْدُوهُمْ إلى صِرَاطِ الجَحِيم » أي دُلُّوهُمْ على ذلك الطريق، ثم سأل نفسه وقال : كيف يصح ذلك وقد قال بعده١ :«وَقِفُوهُمْ إنَّهُمْ مَسؤُولُونَ » ومعلوم أن ( مَ )٢ حْشَرَهُمْ إلى الجحيم إنما يكون بعد المسألة وأجاب بأنه ليس في العطف بحرف الواو ترتيب ولا يمتنع أن يقال احْشُرُوهُمْ وقِفُوهم مع أنا بعقولنا نعلم أن الوقوف كان قبل الحشر. قال ابن الخطيب : وعندي فيه وجه آخر وهو أن يقال : إنهم إذا قاموا من قبورهم لم يَبْعُدْ أن يقفوا هناك لحيرَةٍ تَلْحَقُهُمْ لمعاينتهم أهوالَ القيامة، ثم إن الله تعالى يقول للملائكة : احشروا الذين ظلموا واهدوهم إلى صراط الجحيم، أي سُوقُوهم إلى طريق جهنم وقفوهم هناك ويحصل السؤال هناك ثُمّ ( مِنْ ) هنا ( ك )٣ يساقون إلى النار.
قوله :﴿ وَأَزْوَاجَهُمْ ﴾ العامة على نصب وفيه وجهان :
أحدهما : العطف على الموصول.
والثاني : أنه مفعول معه٤. قال أبو البقاء : وهو في المعنى أقوى٥، وإنما قال في المعنى لأنه في الصناعة ضعيف لأنه أمكن العطف فلا يُعْدَلُ عنه٦، وقرأ عيسَى بْنُ سُلَيْمَانَ الحِجَازيّ٧ بالرفع عطفاً على ضمير «ظَلموا »٨. وهو ضعيف لعدم العامل٩، وقوله :﴿ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ ﴾ لا يجوز فيه هذا لأنه لا ينسب إليهم ظلم إن لم يرد١٠ بهم الشياطين وإن أريد بهم ذلك جاز فيه الرفع أيضاً على ما تقدم. ١١
قوله :﴿ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ ﴾ العامة على الكسر على الاستئناف المفيد١٢ للعلة، وقرئ بفتحها١٣ على حذف لام العلة أي قِفُوهُمْ لأجْل سُؤَال الله إيَّاهم.

فصل


المراد بالأزواج أشباههم وأمثالهم وأتباعهم. قال قتادة والكلبي : كل من عمل مثل عملهم فأهل الخمر مع أهل الخمر وأهل الزنا مع أهل الزنا واليهوديّ مع اليهوديّ والنَّصْرَانيّ مع النصراني لقوله تعالى :
﴿ وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً ﴾ [ الواقعة : ٧ ] أي أشكالاً وأشباهاً، وتقول «عندي من هذا أزواج » أي أمثال، وتقول : زَوْجَان من الخُفِّ لأن كل واحد منهما نظير الآخر وكذلك الرجل والمرأة يُسَمَّيَانِ زَوْجَيْنِ متشابهين، وكذلك العدد الزوج١٤، وقال الضحاك ومقاتل قرناؤهم من السوء الشياطين كل كافر مع شيطانه في سلسلة. وقال الحسن : أزواجهم : المشركات١٥، وما كانوا يعبدون من دون الله في الدنيا يعني الأوثان والطواغيت. وقال مقاتل : يعني إبليسَ وجنودَه لقوله :«ألاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ ». «فاهْدُوهم إٍلى صراط الجحيم »، قال ابن عباس : دلوهم إلى طريق١٦ النَّارِ. وقال ابن كيسان والأَصَمّ١٧ : قدموهم١٨ والعرب تسمي السابق هادياً. قال الواحدي١٩ : وهذا وهم لأنه يقال هَدَى إذا تقدم ومنه الهَادِيَةُ والهَوَادِي، وهَادِيَاتُ الوحش، ولا يقال هَدَى بمعنى قدم.
١ سبق التعريف به أنه كبير المعتزلة..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٢:قوله :﴿ احشروا الذين ظَلَمُواْ ﴾ هذا من كلام الملائكة والمراد اجْمَعُوا الذين أشركوا إلى الموقف للحساب والجزاء.
فإن قيل : ما معنى احشروا مع أنهم قد حشروا من قبل وحَضَروا مَحْفِل القيامة وقالوا : هذا يوم الدين وقالت الملائكة لهم : بل هذا يوم الفصل ؟
أجاب القاضي١ عنه وقال : المراد احشروهم إلى دار الجزاء وهي النار، ولذلك قال بعده :«فَاهْدُوهُمْ إلى صِرَاطِ الجَحِيم » «فَاهْدُوهُمْ إلى صِرَاطِ الجَحِيم » أي دُلُّوهُمْ على ذلك الطريق، ثم سأل نفسه وقال : كيف يصح ذلك وقد قال بعده١ :«وَقِفُوهُمْ إنَّهُمْ مَسؤُولُونَ » ومعلوم أن ( مَ )٢ حْشَرَهُمْ إلى الجحيم إنما يكون بعد المسألة وأجاب بأنه ليس في العطف بحرف الواو ترتيب ولا يمتنع أن يقال احْشُرُوهُمْ وقِفُوهم مع أنا بعقولنا نعلم أن الوقوف كان قبل الحشر. قال ابن الخطيب : وعندي فيه وجه آخر وهو أن يقال : إنهم إذا قاموا من قبورهم لم يَبْعُدْ أن يقفوا هناك لحيرَةٍ تَلْحَقُهُمْ لمعاينتهم أهوالَ القيامة، ثم إن الله تعالى يقول للملائكة : احشروا الذين ظلموا واهدوهم إلى صراط الجحيم، أي سُوقُوهم إلى طريق جهنم وقفوهم هناك ويحصل السؤال هناك ثُمّ ( مِنْ ) هنا ( ك )٣ يساقون إلى النار.
قوله :﴿ وَأَزْوَاجَهُمْ ﴾ العامة على نصب وفيه وجهان :
أحدهما : العطف على الموصول.
والثاني : أنه مفعول معه٤. قال أبو البقاء : وهو في المعنى أقوى٥، وإنما قال في المعنى لأنه في الصناعة ضعيف لأنه أمكن العطف فلا يُعْدَلُ عنه٦، وقرأ عيسَى بْنُ سُلَيْمَانَ الحِجَازيّ٧ بالرفع عطفاً على ضمير «ظَلموا »٨. وهو ضعيف لعدم العامل٩، وقوله :﴿ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ ﴾ لا يجوز فيه هذا لأنه لا ينسب إليهم ظلم إن لم يرد١٠ بهم الشياطين وإن أريد بهم ذلك جاز فيه الرفع أيضاً على ما تقدم. ١١
قوله :﴿ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ ﴾ العامة على الكسر على الاستئناف المفيد١٢ للعلة، وقرئ بفتحها١٣ على حذف لام العلة أي قِفُوهُمْ لأجْل سُؤَال الله إيَّاهم.

فصل


المراد بالأزواج أشباههم وأمثالهم وأتباعهم. قال قتادة والكلبي : كل من عمل مثل عملهم فأهل الخمر مع أهل الخمر وأهل الزنا مع أهل الزنا واليهوديّ مع اليهوديّ والنَّصْرَانيّ مع النصراني لقوله تعالى :
﴿ وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً ﴾ [ الواقعة : ٧ ] أي أشكالاً وأشباهاً، وتقول «عندي من هذا أزواج » أي أمثال، وتقول : زَوْجَان من الخُفِّ لأن كل واحد منهما نظير الآخر وكذلك الرجل والمرأة يُسَمَّيَانِ زَوْجَيْنِ متشابهين، وكذلك العدد الزوج١٤، وقال الضحاك ومقاتل قرناؤهم من السوء الشياطين كل كافر مع شيطانه في سلسلة. وقال الحسن : أزواجهم : المشركات١٥، وما كانوا يعبدون من دون الله في الدنيا يعني الأوثان والطواغيت. وقال مقاتل : يعني إبليسَ وجنودَه لقوله :«ألاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ ». «فاهْدُوهم إٍلى صراط الجحيم »، قال ابن عباس : دلوهم إلى طريق١٦ النَّارِ. وقال ابن كيسان والأَصَمّ١٧ : قدموهم١٨ والعرب تسمي السابق هادياً. قال الواحدي١٩ : وهذا وهم لأنه يقال هَدَى إذا تقدم ومنه الهَادِيَةُ والهَوَادِي، وهَادِيَاتُ الوحش، ولا يقال هَدَى بمعنى قدم.
١ سبق التعريف به أنه كبير المعتزلة..

«وَقِفُوهُمْ » يقال وَقَفْتُ الدَّابَة أَقِفُها وَقْفاً فوَقَفَتْ هي وُقُوفاً٢٠. قال المفسرون : لما سِيقُوا إلى النار حبسوا عند الصراط لأن السؤال عند الصراط فقال٢١ :﴿ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ ﴾. قال ابن عباس : عن أقوالهم وأفعالهم٢٢.
وقيل : تسألهم الخزنة٢٣ :«ألم يأتكم نذير رسل منكم »، ( رسل )٢٤ بالبينات قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين. ويجوز أن يكون هذا السؤال٢٥ هو قوله بعد ذلك :﴿ مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ ﴾ ( أي لا تسألون )٢٦ ( توبيخاً لهم٢٧ فيقال ) : ما لكم لا تناصرون قال ابن عباس : لا ينصر بعضُكم بعضاً كما كنتم في الدنيا وذلك أن أبا جهل قال يوم بدر : نحْن جميعٌ منتصر فقيل لهم يوم القيامة : ما لكم لا تَنَاصَرُون، وقيل : يقال للكفار : ما لشركائكم لا يمنعونكم من العذاب. ٢٨
٢٠ المرجع السابق "وقف" ٤٨٩٨..
٢١ في ب: فيقال..
٢٢ البغوي ٦/٢٠..
٢٣ نقله الرازي في تفسيره ٢٦/١٣٢..
٢٤ سقط من ب، فهو زيادة من "أ"..
٢٥ المرجع السابق..
٢٦ سقط من ب..
٢٧ سقط أيضا من ب..
٢٨ الرازي ٢٦/١٣٢ و ١٣٣ وانظر: البغوي ٦/٢١..
قوله :﴿ مَا لَكُمْ ﴾ يجوز أن يكون منقطعاً عما قبله والمسؤول عنه غير مذكور ولذلك قدره بعضهم عن أعمالهم١، ويجوز أن يكون هو المسؤول عنه في المعنى فيكون معلقاً للسؤال و «لاَ تَنَاصَرُونَ » جملة حالية العامل فيها الاستقرار في «لكم »٢. وقيل : بل هي على حذف حَرْفِ الجرِّ وأن الناصبة فلما حذفت «أن » ارتفع الفعل. والأصل في أن لا٣. وتقدمت قراءة البَزِّي لا تناصرون بتشديد التاء٤. وقرئ تَتَنَاصَرُونَ على الأصل٥.
١ كما قاله ابن عباس والكلبي ومحمد بن كعب. وانظر: البحر المحيط ٧/٣٥٦ و ٣٥٧ والسمين ٤/٥٤٥..
٢ التبيان ١٠٨٩ والبيان ٢/٣٠٣ والمشكل ٢/٢٣٥..
٣ قاله العكبري في المرجع السابع وانفرد به..
٤ القرطبي ١٥/٧٤ والسمين ٤/٥٤٥ والكشاف ٣/٣٣٨..
٥ المرجعان الأخيران..
قوله ( تعالى )١ :﴿ بَلْ هُمُ اليوم مُسْتَسْلِمُونَ ﴾ قال ابن عباس٢ : خاضعون. وقال الحسن منقادون، يقال اسْتسْلَمَ للشيء إذا انقاد له وخضع. والمعنى هم اليوم أذلاّء منقادون لا حِيلَة لهم في دفع تلك المضارّ.
١ زيادة من ب..
٢ انظر: زاد المسير ٧/٥٣ والبغوي ٦/٢٠ و ٢١..
قوله: ﴿وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ﴾ قيل: الأتباع والرؤساء يتساءلون متخاصمون. وقيل: هم والشياطين يقولولن إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين أي من قبل الدين فتضلوننا عنه. قاله الضحاك، وقال مجاهد: من الصراط الحق واليمين عبارة عن الدِّين والحق كما أخبر الله عن إبليس: ﴿ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ﴾ [الأعراف: ١٧] فمن أتاه الشيطان من قبل اليمين أتاه من قبل الدين فليس عليه الحق، واليمين ههنا استعارة عن الخيرات والسعادات لأن الجانب الأيمن أفضل من الجانب الأيسر إجماعاً، ولا تباشر الأعمال الشريفة إلا باليمين ويتفاءلون بالجانب الأيمن ويسمونه البَارِح وكان - عليه (الصلاة و) السلام - يحب التيامن في شأنه كله وكاتب الحسنات من الملائكة على اليمين ووعد الله المحسن أن يعطيه الكتاب باليمين. وقيل: إن الرؤساء كانوا يحلفون للمستضعفين أن ما يدعونهم إليه هوا لحق فوثقوا بأيمانهم، وقيل: عن اليمين أي عن القوة والقدرة كقوله: ﴿لأََخَذْنَا مِنْهُ باليمين﴾ [الحاقة: ٤٥].
قوله: ﴿عَنِ اليمين﴾ حال من فاعل: «تَأتُوتَنَا» واليمين إما الجارحة عبّر بها عن القوة وإما الحلف لأن المتعاقدين بالحلف يمسح كل منهما يمين الآخر فالتقدير على الأول وتأتوننا أقوياء وعلى الثاني مُقْسِمينَ حَالِفينَ.
قوله: ﴿بَلْ لَّمْ تَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ﴾ وهذا جواب الرؤساء للأتباع أي ما كنتم موصوفين بالإيمان حتى يقال: إنا أَزَلْنَاكم عنه وإنما الكفر من قبلكم ﴿وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ﴾ من قوة وقُدْرة حتى نقهركم ونجْبِرَكم «بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طَاغِينَ» ضالين «فَحَقَّ عَلَيْنَا» وجب علينا جمعياً «قَوْلُ رَبَّنَا» يعني كلمة العذاب وهو قوله: ﴿لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ﴾ [هود: ١١٩].
قوله: «إنَّا لَذَائِقُوا الْعَذَابِ» الظاهر أنه من إخبار الكفرة المتبوعين أو الجن بأنهم ذائقون العذاب. ولا عدول في هذا الكلام وقال الزمخشري ولزمنا قول ربنا إنا لذائقون يعني وعيد الله بأنا لذائقون لعذابه لا محالة ولو حكى الوعيد كما هو لقال إنكم
295
لذائقون ولكنه عدل به إلى لفظ المتكلم لأنهم متكلمون بذلك عن أنفسهم ونحوه قول القائل:
٤١٩١ - لَقَدْ عَلِمَتْ هَوَزِانُ قَلَّ مَالِي........................
ولو حكمى قولها لقال: قَلَّ مَالُكَ، ومنه قول المحلف للحالف احلف (لأخْرُجَنَّ) ولَتَخْرُجَنَّ، الهمزة لحكاية الحالف، والتاء لإقبال المحالف على المحلف.
قوله: ﴿فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ﴾ أي إنما أقدمنا إغوائكم لأنا كنا موصفين في أنفسنا بالغِوَايَةِ. وفيه دقيقة أخرى كأنهم قالوا: إن اعتقدتم أن غوايتكم بسبب إغوائنا فغوايتنا إن كانت بسبب إغواء غاوٍ آخر لزم التسلسل. وذلك محال فعلمنا أن حصول الغواية والرشاد ليس من قِبَلِنَا بل من قِبَل غيرنا. وذلك الغير هو الذي فيما قبل وهو قوله: ﴿فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَآ﴾ ثم قال تعالى بعده: ﴿فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي العذاب مُشْتَرِكُونَ﴾ يعني الرؤساء والأتباع يومئذ يُسْأَلُو (نَ) ويُرَاجِعُو (نَ) الكلام فيما بينهم ثم قال: ﴿إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إله إِلاَّ الله يَسْتَكْبِرُونَ﴾ أي الكفار.
قال ابن عباس: الذين جعلوا لله شركاء ثم وصفهم بأنهم «إذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ» يتكبرون عن كلمة التوحيد ويمتنعون منها ﴿وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لتاركوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ﴾ يعني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقرأ ابن كثير أينا لتاركوا برهمزة وياء بعدها خفيفة وألف ساكنة بلا مدة وقرأ نافع في رواية قالون وأبو عمرو كذلك، ويمدان والباقون بهمزتين بلا مد، ثم إنه تعالى كذبهم في ذلك الكلام بقوله: ﴿بَلْ جَآءَ بالحق﴾ أي جاء بالدين الحق.
قوله: ﴿وَصَدَّقَ المرسلين﴾ أي صدقهم محمد - عليه (الصلاة و) السلام - يعني
296
صدقهم فقي مجيئهم بالتوحيد، وقرأ عبد الله صَدَقَ خفيف الدال «الْمُرْسَلُونَ» فاعلاً به أي دصقوا فيما جاءوا به ثم التفت من الغيبة إلى الحضور فقال: ﴿إِنَّكُمْ لَذَآئِقُو العذاب الأليم﴾ [الصافات: ٣٨].
297
قوله :﴿ عَنِ اليمين ﴾ حال من فاعل :«تَأتُوتَنَا ». واليمين إما الجارحة عبّر بها عن القوة وإما الحلف لأن المتعاقدين بالحلف يمسح كل منهما يمين الآخر فالتقدير على الأول وتأتوننا أقوياء وعلى الثاني مُقْسِمينَ حَالِفينَ٤.
قوله :﴿ بَلْ لَّمْ تَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ﴾ وهذا جواب الرؤساء للأتباع أي ما كنتم موصوفين بالإيمان حتى يقال : إنا أَزَلْنَاكم عنه وإنما الكفر من قبلكم
﴿ وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ ﴾ من قوة وقُدْرة حتى نقهركم ونجْبِرَكم «بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طَاغِينَ » ضالين
«فَحَقَّ عَلَيْنَا »١ وجب علينا جميعاً «قَوْلُ رَبَّنَا » يعني كلمة العذاب وهو قوله :﴿ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ ﴾ [ هود : ١١٩ ].
قوله :«إنَّا لَذَائِقُوا الْعَذَابِ » الظاهر أنه من إخبار الكفرة المتبوعين أو الجن بأنهم ذائقون العذاب. ولا عدول في هذا الكلام٢. وقال الزمخشري ولزمنا قول ربنا إنا لذائقون يعني وعيد الله بأنا لذائقون لعذابه لا محالة ولو حكى الوعيد كما هو لقال إنكم لذائقون ولكنه عدل به إلى لفظ المتكلم لأنهم متكلمون بذلك عن أنفسهم ونحوه قول القائل :
٤١٩١- لَقَدْ عَلِمَتْ٣ هَوَزِانُ قَلَّ مَالِي. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ٤
ولو حكى قولها لقال : قَلَّ مَالُكَ، ومنه قول المحلف للحالف احلف ( لأخْرُجَنَّ )٥ ولَتَخْرُجَنَّ٦، الهمزة لحكاية الحالف، والتاء لإقبال المحالف٧ على المحلف. ٨
١ البغوي ٦/٢١..
٢ البحر والدر المرجعان السابقان..
٣ في الكشاف زعمت..
٤ من تمام الوافر وذلك صدر بيت وعجزه:
............................ وهل لي غير ما أنفقت مال
ويروى: ألا زعمت. وهو مجهول القائل وجيء به شاهدا للعدول والالتفات من الخطاب إلى التكلم فكان مسار الكلام وحكاية قولها وهي هوازن قل مالك، وانظر: البحر ٧/٣٥٧ والدر المصون ٤/٥٤٦ والكشاف ٣/٣٣٩ وشرح شواهده ٥٠٠..

٥ زيادة من أ والكشاف عن ب..
٦ في ب: ليخرجن بالياء..
٧ تصحيح من الكشاف عن النسختين ففيهما المحلف..
٨ انظر الكشاف ٣/٣٣٩..
قوله :﴿ فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ ﴾ أي إنما أقدمنا١ إغوائكم لأنا كنا موصوفين في أنفسنا بالغِوَايَةِ. وفيه دقيقة أخرى كأنهم قالوا : إن اعتقدتم أن غوايتكم٢ بسبب إغوائنا فغوايتنا إن كانت بسبب إغواء غاوٍ آخر لزم التسلسل. وذلك محال فعلمنا أن حصول الغواية والرشاد ليس من قِبَلِنَا بل من قِبَل غيرنا. وذلك الغير هو الذي ذكره فيما قبل وهو قوله :﴿ فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَآ ﴾٣
١ في ب: قدمنا..
٢ في ب: إغوائكم وما هنا موافق للرازي..
٣ الرازي ٢٦/١٣٥..
ثم قال تعالى بعده :﴿ فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي العذاب مُشْتَرِكُونَ ﴾ يعني الرؤساء والأتباع يومئذ يُسْأَلُو ( نَ )١ ويُرَاجِعُو ( نَ ) الكلام فيما بينهم
١ تصحيح لغوي لا بد منه على النسختين..
ثم قال :﴿ إنا كذلك نفعل بالمجرمين ﴾ أي الكفار.
قال ابن عباس : الذين جعلوا لله شركاء
ثم وصفهم بأنهم «إذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ » يتكبرون عن كلمة التوحيد ويمتنعون منها
﴿ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لتاركوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ ﴾ يعني النبي - صلى الله عليه وسلم١ - وقرأ ابن كثير أينا لتاركوا بهمزة وياء بعدها خفيفة وألف ساكنة بلا مدة٢. وقرأ نافع في رواية قالون وأبو عمرو كذلك، ويمدان. والباقون بهمزتين٣ بلا مد،
١ انظر: معالم التنزيل ٦/٢١..
٢ من القراءات الأربع فوق العشرة. انظر: الإتحاف ٣٦٩ والرازي ٢٦/١٣٥..
٣ المرجعان السابقان، الإتحاف والرازي..
ثم إنه تعالى كذبهم في ذلك الكلام بقوله :﴿ بَلْ جَآءَ بالحق ﴾ أي جاء بالدين الحق.
قوله :﴿ وَصَدَّقَ المرسلين ﴾ أي صدقهم محمد - عليه ( الصلاة و ) السلام- يعني صدقهم في مجيئهم بالتوحيد، وقرأ عبد الله١ صَدَقَ خفيف الدال «الْمُرْسَلُونَ » فاعلاً به أي صدقوا فيما جاءوا به٢. ثم التفت من الغيبة إلى الحضور فقال :﴿ إِنَّكُمْ لَذَآئِقُوا العذاب الأليم ﴾ [ الصافات : ٣٨ ].
١ ونسبت أيضا للحسن وهي من الأربع فوق العشرة. انظر: الإتحاف ٣٦٩ ومختصر ابن خالويه ١٢٨ والسمين ٤/٥٤٦ والبحر المحيط ٧/٣٥٨..
٢ من بشارتهم به عليه السلام..
قوله: ﴿إِنَّكُمْ لَذَآئِقُو العذاب الأليم﴾ العامة على حذف النون والجر. وقرأ بعضهم بإثباتها والنصب هو الأصل وقرأ أبان بن تَغْلِب - عن عاصم وأبو السِّمِّال في رواية - بحذف النون والنصب أَجْرَى النون مُجْرَى التنوين في حذفها لالتقاء الساكنين كقوله: ﴿أَحَدٌ الله الصمد﴾ [الإخلاص: ١ - ٢] (و).
٤١٩٢ - وَلاَ ذَاكِر اللَّه إلاَّ قَلِيلاً... وقال أبو البقاء: قرئ شاذا بالنصب وهو سهو من قارئه لأن اسم الفاعل يحذف منه النون وينصب إذا كان فيه الألف واللام، قال شهاب الدين: وليس بسهو لما تقدم، وقرأ أبو السمال أيضاً لذائق بالإفراد والتنوين الْعَذَابَ نصباً وتخريجه.
297
على حذف اسم جمع هذه صفته أي إنكم لفريقٌ أو لجمعٌ ذائقٌ ليتطابق الاسم والخبر في الجَمْعِيَّة ثم كأنه قيل: فكيف يليق بالرحيم الكريم المتعالي عن النفع والضر أن يعذب عباده؟ فأجاب بقوله: ﴿وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أي «إلا جزاء ما كنتم تعملون».
قوله: ﴿إِلاَّ عِبَادَ الله﴾ استثناء منقعطع أي لكن عباد الله المخلصين الموحدين، وقوله: ﴿أُوْلَئِكَ لَهُمْ﴾ بيان لحالهم، وقد تقدم في فتح اللام وكسرها من المْخْلَصِينَ قراءتان فمن قرأ بالفتح فالمعنى أن الله تعالى أخلصهم واصطفاهم بفضله. والكسر هو أنهم أخلصوا الطاعة لله تعالى والرزق المعلوم قيل: بُكْرَةً وعَشِيًّا لقوله: ﴿وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً﴾ [مريم: ٦٢] فيكون المراد منه معلوم الوقت وهو مقدار غَدْوَةٍ أو عَشْوَة وإن لم يكن ثم بكرة ولا عشية. وقيل: ذلك الرزق معلوم الصفة أي مخصوصاً بصفات من يطب طعم ولذة وحسن منظر. وقيل معناه أنهم القدر الذي يستحقونه بأعمالهم من ثواب الله وقد (بين أنه) تعالى يعطيهم غير ذلك تَفَضُّلاً.
قوله: ﴿فَوَاكِهُ﴾ يجوز أن يكون بدلاً من «رزقٍ» وأن يكون خبراً ابتداء مضمر أي ذلك الرزق فَوَاكِهُ وفي الْفَوَاكِهِ قَوْلاَنِ:
أحدهما: أنها عبارة عما يؤكل للتلذذ لا للحاجة وأرزاق أهل الجنة كلها فواكه لأنهم مستغنون عن حفظ الصحّة بالأقوات فإن أجسامهم محكومة ومخلوقة للأبد فكل ما يأكلونه فهو على سبيل التلذذ.
والثاني: أن المقصود بذكر الفاكهة التنبيه بالأدنى على الأعلى، لما كانت الفاكهة حاضرة أبداً كان المأكول للغذاء أولى بالحضور.
298
قوله: ﴿وَهُم مُّكْرَمُونَ﴾ قرأ العامة مُكْرَمُونَ خفيفة الراء و (ابن) مِقْسِم بتشديدها والمعنى وهم مُكَرَّمُونَ بثواب الله في جنات النعيم لما ذكر مأكولهم ذكر مسكنهم وقوله «فِي جَنَّاتِ» يجوز أن يتعلق «بمُكْرَمُونَ» وأن يكون خيراً ثانياً وأن يكون حالاً.
قوله: ﴿على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ﴾ العامة على ضم الراء. وأبو السَّمَّال بفتحها وهي لغة بعض كَلْبٍ، وتميم يفتحون عين «فُعُلٍ» جمعاً إذا كان اسماً مضاعفاً. وأما الصفة نحو: ذُلُل ففيها خلاف.
والصحيح أنه لا يجوز لأنَّ السماع ورد في الجوامد دون الصفات. و «عَلَى سُرُور مُتَقَابيلن» حال، ويجوز أن يتعلق «عَلَى سُرُر» بمتقابلين و «يُطَافُ» صفة «لمكرون» أو حال من الضمير في: «متقابلين» أو من الضمير في أحد الجَارِّيْن إذا جعلناه حالاً.
ومعنى متقابلين لا يرى بعضُهم قَقَا بعض، ولما ذكر المأكل والمسكن ذكره بعده صفة المشرب فقال: ﴿يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ﴾ والكأس من الزجاج ما دام فيها شراب وإلا فهو قَدَح. وقد يطلق الكأس على الخمر نفسها وهو مجاز سائغٌ وأنشد:
٤١٩٣ - وَكَأس شَرِبْتُ عَلَى لذَّةٍ وَأُخْرَى تَدَاوَيْتُ مِنْهَا بِهَا
و «مِنْ مَعين» صفة «لكأسٍ» والمعين معناه الخَمر الجارية في الأنهار، أي ظاهرة تراها العيون وتقدم الكلام في مَعِين وعن الأخفش: كل كأس في القرآن فهي
299
الخَمْر وقوله: ﴿مِنْ مَعِين﴾ أي من شراب مَعِينٍ أو من نَهْرٍ مَعِينٍ. المَعِينُ مأخوذ من عين الماء أي يخرج من العيون كما يخرج الماء وسمي (م) عِيناً لظهوره، يقال: عَانَ الماءُ إذا ظهر جارياً، (قاله ثعلب) فهو مَفْعُول من العَيْن نحو: مَبِيع ومَكِيلٍ، وقيل: سمي معيناً لأنه يجري ظاهر العين كا تقدم. ويجوز أن يكون فعيلاً من المعين وهو الماء الشديد الجري، ومنه أمْعَنَ في الجَرْيِ إذا اشتد فيه.
قوله: ﴿بَيْضَاءَ﴾ صفة لكأس وقال أبو حيان: صفة «لكاس» أو «للخمر» قال شهاب الدين: لم يذكر الخمر اللهم إلا أن يعني بالمعين الخمر. وهو بعيد جداً ويمكن أن يجاب بأن الكاس إنما، سميت كأساً إذا كان فيها الخمر.
وقرأ عبد الله: صَفْرَاءَ وهي مخالفة للسواد، إلا أنه جاء وصفها بهذا اللون وأنشد لبعض المولدين:
٤١٩٤ - صَفْرَاء لاَتَنْزِلُ الأَحْزَانُ سَاحَتَهَا لَوْ مَسَّهَا حَجَرٌ مَسَّتْهُ سَرَّاءُ
و «لذة» صفة أيضاً وصفت بالمصدر مبالغة كأنها نفس اللذة وعينها كما يقال: فُلاَنٌ جُودٌ وكَرَمٌ إذا أرادوا المبالغة.
وقال الزجاج: أو على حذف المضاف أي ذات لذَّة، أو على تأنيث «لَذَّ» بمعنى لذيذ فيكون وصفاً على «فَعْلِ» كصَعْب يقال: لَذَّ الشَّيءُ يَلَذُّ لَذًّ فهو لَذَيدُ وَلَذٌّ وأنشد:
300
وقال آخر:
٤١٩٥ - بِحَدِيثَها اللَّذِّ الَّذِي لَوْ كَلَّمْتْ أُسْدَ الْفَلاَةِ بِهِ أَتَيْنَ سِرَاعَا
٤١٩٦ - لَذٌّ كَطَعْم الصَّرخَدِيِّ تَرَكْتُهُ بأَرْضِ العِدَا مِنْ خَشْيَةِ الحَدَثَانِ
واللذيد كل شيء مستطابٌ. وأنشد:
٤١٩٧ - يَلذُّ لِطَعْمِهِ وَتَخَالُ فِيهِ إذَا نَبَّهْتَهَا بَعءدَ الْمَنَامِ
و «للشَّارِبينَ» صفة «لِلَذّةِ» وقال اللَّيْث: اللَّذَّة واللَّذِيذَة يجريان مَجْرَى واحداً في النعت يقال: شَرَابٌ لَذَّ ولذيدٌ قال تعالى: ﴿بَيْضَآءَ لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ﴾ وقال تعالى: ﴿مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ﴾ [محمد: ١٥] وعلى هذا «لَذَّة» بمعنى لذيذ.
قوله: ﴿لاَ فِيهَا غَوْلٌ﴾ صفة أيضاً وبطل عمل لا وتكررت لتقدم خبرها، وتقدم أول البقرة فائدة تقيم مثل هذا الخبر، والبحثُ مع أبي حيان فيه.
قال الفراء: العرب تقول ليس فيها غِيلَةٌ وغائلةٌ وغُول (وغَوْل) سواء وقال عبيدة: الغَوْلُ أن غتال عقولهم وأنشد قول مطيع بن إياس:
301
٤١٩٨ - وَمَا زَالَتِ الْكَأسُ تَغْتَالُهُمْ وَتَذْهَبُ بالأَوَّل فَالأّوَّلِ
وقال الليث: الغول الصداع والمعنى لي فيها صدع كما في خمر الدنيا، وقال الواحدي: الغَوْل حقيقته الإهلاك، يقال: غَالَهُ غَوْلاً واغْتَالَهُ أهْلَكَهُ، والغَوْل والغَائلُ المهلك وسُمِّي (وَطْءُ) المرضع غَوْلاً لأنه يؤدي إلى الهلاك، والغوب كلُّ ما اغتالك أي أهلَكك، ومنه الغُولُ بالضم شيء تَوَهَّمَتْهُ العرب ولها فيه أشعار كالعَنْقَاء يقال: غَالِني كذا ومنه الغِيلَة في العقل والرضاع قال:
٤١٩٩ - مَضَى أَوَّلُونَا نَاعِمِينَ بِعَيْشِهِمْ جَمِعياً وَغَالتُنِي بِمَكَّةَ غُولُ
فالغول اسم لجميع الأذى. وقال الكلبي: لا فيها إثمٌ وقال قتادة: وَجَعُ البطن وقال أهل المعاني: الغول فساد يلحق أمره في خفية، وخمر الدنيا يحصل فيها أنواع من الفساد منها السُّكْرُ وذَهَابُ العقل ووجع البطن والصُّدَاع والقيءُ والبَوْل ولا يوجد شيء من ذلك من خمر الجنة.
قوله: ﴿وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ﴾ قرأ الأخوان «ينزقون» هنا، وفي الواقعة، بضم الياء وكسر الزاي. وافقهما عاصمٌ على ما في الوقعة فقط. والباقون بضم الياء وفتح الزاي وابن إسحاق بالفتح والكسر وطلحة بالفتح والضم فالقراءة الأولى من أَنْزَفَ الرَّجُلُ إذَا ذَهَبَ عَقْلُهُ من السكر فهو نَزِيفٌ وَمنزُوفٌ، وكان قياسه مُنِزْفٌ كمُكْرِم، ونَزَفَ الرجلُ الخمْرةَ فَأنْزَفَ هو ثُلاَثيُّهُ متعددٌ ورباعية بالهمزة قاصر وهو نحو: كَبَيْتُهُ فأَكَبَّ وقَشعَت الريحُ السَّحابَ فَأَقْشَعَ أي دخلا في الكَبِّ والقَشْعِ وقال الأسود:
302
٤٢٠٠ - لَعْرِي لَئِنْ أَنْزَفْتُم أَوْ صَحَوْتُمُ لَبْئِسَ النَّدَامَى أَنْتُمْ آلَ أَبْجَرَا
ويقال: أنزف أيضاً أي نَفِذَ شَرَبُهُ. وأما الثانية فمن نزف أيضاً بالمعنى المتقدم وقيل هو من قولهم: نَزَفتِ الرَّكِيَّةُ أي نَزَحَتْ ماءها. والمعنى أنهم لا تذهب خمورهم بل هي باقية أبداً، وضمن يَنْزِفُونَ معنى يصدون عنها بسبب النَّزِيفِ.
وأما القراءاتان الأخيرتان فيقال: نَزِف الرجلُ ونَزُفَ بالكسر والضم بمعنى ذهب عقله بالسّكر، ولما ذكر تعالى صفة مشروبهم ذكر عقيبه صفة منكوحهم فقال: «وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ» «قاصرات الطرف» يجوز أن يكون من باب الصّفة المشبهة أي قاصراتٌ أطرافُهن كمُنْطَلِقُ اللّسانِ، وأن يكون من باب إطلاق اسم الفاعل على أصله فعلى الأول المضاف إليه مرفوع المحل وعلى الثاني منصوبه أي قَصَرْنَ أطْرَافَهُنَّ على أزواجهن. وهو مدح عظيم قال امرؤ القيس:
٤٢٠١ - مِنَ الْقَاصِرَاتِ الطَّرْفِ لَو دَبّ مُحْوِلٌ مِنَ الذِّرِّ فَوْقَ الإتْبِ مِنْهَا لأَثّرَا
ومعنى القصر في اللغة الحبس ومنه قوله تعالى: ﴿مَّقْصُورَاتٌ فِي الخيام﴾ [الرحمن: ٧٢] والمعنى أنهن يَحْبسْنَ نظرهُنَّ ولا ينظرن إلى غير أزواجهن، والعِينُ جمع عَيْنَاءَ وهي الواسعة العينين والذَّكَرُ أعْيَنُ قال الزجاج كِبَارُ الأعْين حِسَانُها يقال رَجُلٌ أَعَيْنُ، وامرأة عَيْنَاهُ، ورجالٌ ونِسَاءٌ عِينٌ.
قوله: ﴿كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ﴾ والبيضُ جمع بَيْضَة وهو معروف والمراد به هنا بيض
303
النَّعَامِ، والمكنون المصون المستور من كَنَنْتُهُ أي جعلته في كِنّ والعرب تشبه المرأة بها في لونها وهو بياض مشوبٌ ببعض صُفرة والعرب تحبه.
قال امرؤ القيس:
٤٢٠٢ - وَبَيْضَةِ خِذْ (رٍ) لاَ يُرَامُ خِبَاؤُهَا تَمَتَّعْتُ مِنْ لَهْوٍ بِهَا غَيْرَ معجلِ
كَبِكْرِ مُقَانَاةِ البَيَاضِ بصُفْرَةٍ غَذَاهَا نَمِيرُ الْمَاءِ غَيْرُ المُحَلَّلِ
وقال ذو الرمة:
٤٢٠٣ - بَيْضَاءُ فِي بَرَجٍ صَفْرَاءُ فِي غَنَجٍ كَأَنَّهَا فِضَّةٌ قَدْ مَسَّها ذَهَبُ
وقال بعضهم: إنما شبهت المرأة بها في أجزائها فإن البيضة من أي جهة أتيتها كانت في رأي العين مشبهة للأخرى. وهو في غاية المدح وقد لحظ هذا بعض الشعراء حيث قال:
٤٢٠٤ - تَنَاسَبَت الأَعْضَاءُ فِيهَا فَلاَ تَرَى بِهِنّ اخْتِلاَفاً بَلْ أَتَيْنَ عَلَى قَدْرِ
ويجمع البيض على بُيُوض قال:
٤٢٠٥ - بِتَيْهَاءِ قَفْرٍ وَالْمَطِيُّ كَأّنَّهَا قَطَا الْحَزْنِ قَدْ كَانَتْ فِرَاخاً بُيُوضُهَا
قال الحسن: شب (هـ) هن ببيض النّعام تكنُّها بالرِّيش عن الريح والغبار فلونها أبيض في صفرة.
304
يقال: هذا أحسن ألوان النساء تكون المرأة بيضاء مُشْرَبةً صفرةً (وإنما ذكر المكنون والبيض جمع مؤنث لأنه رده إلى اللفظ).
305
ثم كأنه قيل : فكيف يليق بالرحيم الكريم المتعالي عن النفع والضر أن يعذب عباده ؟ فأجاب بقوله :﴿ وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ أي «إلا جزاء ما كنتم تعملون١ ».
١ الرازي ٢٦/١٣٥..
قوله :﴿ إِلاَّ عِبَادَ الله ﴾ استثناء منقطع١ أي لكن عباد الله المخلصين الموحدين،
١ السمين ٤/٥٤٦..
وقوله :﴿ أُوْلَئِكَ لَهُمْ ﴾ بيان لحالهم، وقد تقدم في فتح اللام وكسرها من المْخْلَصِينَ١ قراءتان فمن قرأ بالفتح٢ فالمعنى أن الله تعالى أخلصهم واصطفاهم بفضله. والكسر٣ هو أنهم أخلصوا الطاعة لله تعالى٤. والرزق المعلوم قيل : بُكْرَةً وعَشِيًّا لقوله :﴿ وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً ﴾ [ مريم : ٦٢ ] فيكون المراد منه معلوم الوقت وهو مقدار غَدْوَةٍ أو عَشْوَة وإن لم يكن ثم بكرة ولا عشية. وقيل : ذلك الرزق معلوم الصفة أي مخصوصاً بصفات من طيب طعم ولذة وحسن منظر. وقيل معناه أنهم يتيقنون دوامه لا كرزق الدنيا الذي لا يعلم متى يحصل ومتى ينقطع وقيل : معلوم القدر الذي يستحقونه بأعمالهم من ثواب الله وقد ( بين٥ أنه ) تعالى يعطيهم غير ذلك تَفَضُّلاً٦.
١ يشير إلى الآية ٢٤ من يوسف و ٤٠ من الحجر..
٢ وهم نافع وعاصم وحمزة والكسائي وأبو جعفر وخلف، والباقون بالكسر انظر: الإتحاف ٣٦٩..
٣ في ب: بالكسر..
٤ الرازي ٢٦/١٣٦..
٥ بياض في ب، وتكملة من أ وفي الرازي بين الله تعالى..
٦ الرازي المرجع السابق..
قوله :﴿ فَوَاكِهُ ﴾ يجوز أن يكون بدلاً من «رزقٍ » وأن يكون خبر ابتداء مضمر أي ذلك الرزق فَوَاكِهُ١ وفي الْفَوَاكِهِ قَوْلاَنِ :
أحدهما : أنها عبارة عما يؤكل للتلذذ لا للحاجة وأرزاق أهل الجنة كلها فواكه لأنهم مستغنون عن حفظ الصحّة بالأقوات فإن أجسامهم محكومة ومخلوقة للأبد فكل ما يأكلونه فهو على سبيل التلذذ.
والثاني : أن المقصود بذكر الفاكهة التنبيه بالأدنى على الأعلى، لما كانت الفاكهة حاضرة أبداً كان المأكول للغذاء أولى بالحضور٢.
قوله :﴿ وَهُم مُّكْرَمُونَ ﴾ قرأ العامة مُكْرَمُونَ خفيفة الراء. و ( ابن )٣ مِقْسِم بتشديدها٤. والمعنى وهم مُكَرَّمُونَ بثواب الله في جنات النعيم لما ذكر مأكولهم ذكر مسكنهم.
١ قاله السمين في الدر ٤/٥٤٦ وأبو البقاء في التبيان ١٠٨٩ وقال ابن الأنباري في البيان بالأول ٢/٣٠٤..
٢ الرازي ٢٦/١٣٦ و ١٣٧..
٣ تصحيح على النسختين ففيهما أبو. والصحيح ما أثبت أعلى، محمد بن الحسين بن يعقوب بن الحسن بن الحسين بن مقسم أبو بكر البغدادي الإمام المقرىء النحوي أخذ عن إدريس بن عبد الكريم وداود بن سليمان روى عنه ابن مهران وغيره. مات سنة ٣٥٤ هـ، الغاية ٢/١٢٣: ١٢٥..
٤ نقلها أبو حيان في بحره ٧/٣٥٩ وكذلك صاحب التبيان ١٠٨٩ ولكن بدون عزو..
وقوله «فِي جَنَّاتِ » يجوز أن يتعلق «بمُكْرَمُونَ » وأن يكون خيراً ثانياً وأن يكون حالاً١.
١ ذكر الأوجه الثلاثة العكبري في تبيانه ١٠٨٩ كما ذكرها صاحب الدر ٤/٥٤٧..
قوله :﴿ على سُرُرٍ ﴾ العامة على ضم الراء. وأبو السَّمَّال بفتحها١. وهي لغة بعض كَلْبٍ٢، وتميم يفتحون عين «فُعُلٍ » جمعاً إذا كان اسماً مضاعفاً. وأما الصفة نحو : ذُلُل ففيها خلاف.
والصحيح أنه لا يجوز لأنَّ السماع ورد في الجوامد دون الصفات٣. و «عَلَى سُرُور مُتَقَابلين » حال، ويجوز أن يتعلق «عَلَى سُرُر » بمتقابلين و «يُطَافُ » صفة «لمكرمون » أو حال من الضمير في :«متقابلين » أو من الضمير في أحد الجَارِّيْن إذا جعلناه حالاً. ٤
ومعنى متقابلين لا يرى بعضُهم قَفَا بعض٥،
١ ذكرها أبو حيان والسمين المرجعان السابقان..
٢ البحر المرجع السابق..
٣ المرجعان السابقان. وانظر المجاز لأبي عبيدة ٢/١٦٩ وشرح الشافية للإمام الرضي ٢/١٣١ و ١٣٢..
٤ ذكر هذه الأوجه كلها أيضا العكبري في التبيان وزادها إيضاحا وكثرة السمين في الدر ٤/٥٤٧..
٥ قاله أبو إسحاق الزجاج في معاني القرآن وإعرابه ٤/٣٠٣ وأبو حيان في البحر ٧/٣٥٨ والكشاف ٣/٣٤٠..
ولما ذكر المأكل والمسكن ذكر بعده صفة المشرب فقال :﴿ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ ﴾. والكأس من الزجاج ما دام فيها شراب وإلا فهو قَدَح. وقد يطلق الكأس على الخمر نفسها وهو مجاز سائغٌ١ وأنشد :
٤١٩٣- وَكَأس شَرِبْتُ عَلَى لذَّةٍ. . . وَأُخْرَى تَدَاوَيْتُ مِنْهَا بِهَا٢
و «مِنْ مَعين » صفة «لكأسٍ »٣. والمعين معناه الخَمر الجارية في الأنهار، أي ظاهرة تراها العيون وتقدم الكلام في مَعِين٤. وعن الأخفش : كل كأس في القرآن فهي الخَمْر٥ وقوله :﴿ مِنْ مَعِين ﴾ أي من شراب مَعِينٍ أو من نَهْرٍ مَعِينٍ. المَعِينُ مأخوذ من عين الماء أي يخرج من العيون كما يخرج الماء، وسمي ( م )٦ عِيناً لظهوره، يقال : عَانَ الماءُ إذا ظهر جارياً، ( قاله٧ ثعلب ) فهو مَفْعُول من العَيْن نحو : مَبِيع ومَكِيلٍ، وقيل : سمي معيناً لأنه يجري ظاهر العين كما تقدم. ويجوز أن يكون فعيلاً من المعين وهو الماء الشديد الجري، ومنه أمْعَنَ في الجَرْيِ إذا اشتد فيه٨.
١ قاله الرازي ٢٦/١٣٧ والنحاس في الإعراب ٣/٤١٩ والزجاج في المعاني ٤/٣٠٣..
٢ البيت من المتقارب وهو للأعشى ميمون وقد ذكره الرازي في ٢٦/١٣٧ والبحر في ٧/٣٥٩، والبيضاوي ٢/٥٦ والزمخشري في ٣/٣٤٠ وشرح شواهده ٥٦١ وديوانه ٢٤ دار صادر بيروت..
٣ قاله السمين ٤/٥٤٨..
٤ عند قوله :"وآويناهما إلى ربوة ذات قرارا ومعين"، [المؤمنون: ٥٠] وقال هناك المعين الماء الظاهر الجاري ولنا أن نجعل ميمها أصلية ونجعلها فعيلا من الماعون أو مفعولا من العيون وانظر: اللباب ميكروفيلم..
٥ نقله عنه الرازي والكشاف المراجع السابقة..
٦ الميم سقط من ب..
٧ سقط من "ب" و "أ" أيضا فهو تصحيح من الرازي واللسان. وانظر: اللسان: "م ع ن" ٤٢٣٧ فقد نقل الهروي في فصل "عين" عن ثعلب أنه قال: عان الماء يعين إذا جرى ظاهرا. اللسان المرجع السابق..
٨ اللسان والرازي السابقان..
قوله :﴿ بَيْضَاءَ ﴾ صفة لكأس١. وقال أبو حيان : صفة «لكأس » أو «للخمر »٢، قال شهاب الدين : لم يذكر الخمر اللهم إلا أن يعني بالمعين الخمر. وهو بعيد جداً. ويمكن أن يجاب بأن الكأس إنما، سميت كأساً إذا كان فيها الخمر٣.
وقرأ عبد الله : صَفْرَاءَ٤ وهي مخالفة للسواد، إلا أنه جاء وصفها بهذا اللون وأنشد لبعض المولدين :
٤١٩٤- صَفْرَاء لاَتَنْزِلُ الأَحْزَانُ سَاحَتَهَا. . . لَوْ مَسَّهَا حَجَرٌ مَسَّتْهُ سَرَّاءُ٥
و «لذة » صفة أيضاً وصفت بالمصدر مبالغة كأنها نفس اللذة وعينها كما يقال : فُلاَنٌ جُودٌ وكَرَمٌ إذا أرادوا المبالغة٦.
وقال الزجاج : أو على حذف المضاف أي ذات٧ لذَّة، أو على تأنيث «لَذَّ » بمعنى لذيذ فيكون وصفاً على «فَعْلِ » كصَعْب٨ يقال : لَذَّ الشَّيءُ يَلَذُّ لَذًّا فهو لَذَيدُ وَلَذٌّ وأنشد :
٤١٩٥- بِحَدِيثَها اللَّذِّ الَّذِي لَوْ كَلَّمْتْ. . . أُسْدَ الْفَلاَةِ بِهِ أَتَيْنَ سِرَاعَا٩
وقال آخر :
٤١٩٦- لَذٌّ كَطَعْم الصَّرخَدِيِّ تَرَكْتُهُ. . . بأَرْضِ العِدَا مِنْ خَشْيَةِ الحَدَثَانِ١٠
واللذيذ كل شيء مستطابٌ. وأنشد :
٤١٩٧- يَلذُّ لِطَعْمِهِ وَتَخَالُ فِيهِ. . . إذَا نَبَّهْتَهَا بَعدَ الْمَنَامِ١١
و «للشَّارِبينَ » صفة «لِلَذّةِ ». وقال اللَّيْث : اللَّذَّة واللَّذِيذَة يجريان مَجْرَى واحداً في النعت يقال : شَرَابٌ لَذَّ ولذيدٌ قال تعالى :﴿ بَيْضَآءَ لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ ﴾ وقال تعالى :﴿ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ ﴾١٢ [ محمد : ١٥ ] وعلى هذا «لَذَّة » بمعنى لذيذ١٣.
١ التبيان ١٠٨٩ والسمين ٤/٥٤٨..
٢ البحر ٧/٣٥٩..
٣ الدر المصون ٤/٥٤٨..
٤ وقد وافقه الحسن والضحاك وانظر المختصر لابن خالويه ١٢٨، وانظر: البحر المحيط ٧/٣٥٩ والدر المصون ٤/٥٤٨. وهي شاذة غير متواترة كما هو واضح..
٥ من البسيط وهو لأبي نواس الحسن بن هانىء الشاعر الحكمي. وأتى بالبيت حتى يدلنا على أن الصفراء صفة من صفات الخمر وأيدت تلك قراءة عبد الله بن مسعود. وانظر: الديوان ٦، والبحر المحيط ٧/٣٥٩ والدر المصون ٤/٥٤٨..
٦ نقله الرازي ٢٦/١٣٧ والسمين ٤/٥٤٨ والبحر المحيط ٧/٣٥٩ والكشاف ٣/٣٤٠..
٧ معاني القرآن وإعرابه ٤/٣٠٣ وانظر أيضا إعراب النحاس ٣/٤١٩ وانظر أيضا المراجع السابقة..
٨ الكشاف والبحر والدر والرازي المراجع السابقة..
٩ من الكامل، ولم أعثر على قائله وشاهده: أن اللذ مصدر للذ. ويروى: بحديثك اللذ. على الخطاب يقول: إن سحر حديثها يجذب أي إنسان حتى ولو كان أسد الغاب وذلك مبالغة. وانظر: الدر المصون ٤/٤٥٨ والبحر ٧/٣٥٠ وفتح القدير ٤/٣٩٣..
١٠ من الطويل وقد نسبه صاحب اللسان إلى الراعي وجاء كذا في مادة لذذ فيه، واللذ النوم الممتع كإمتاع الشراب المنسوب إلى صرخد وهو مكان بالشام. ومعنى البيت: أن الرجل ترك النوم اللذيذ خشية غدر الأعداء به. وانظر: اللسان ٢٤٢٦، ٤٠٢٤ والكشاف ٣/٣٤٠ وجاء في اللسان العجز في مادة: صرخد: طرحته عشية حمس القوم والعين عاشقة. وهذا هو الموافق للديوان ١٨٦. وانظر: القرطبي ١٥/٧٨ والدر ٤/٥٤٨..
١١ البيت من الوافر وهو للنابغة. ويروى: تلذ بطعمه وجيء بالبيت على أن اللذيذ بمعنى المستطاب الطيب. انظر: الديوان ١٣٢ والبحر المحيط ٧/٣٥٠ والدر المصون ٤/٥٤٨ وتمهيد القواعد ٢/٣٠٠..
١٢ [محمد: ١٥] وتمامها: ﴿وأنهار من خمر لذة للشاربين﴾..
١٣ وانظر رأي الليث هذا في تفسير الإمام الرازي ٢٦/١٣٧..
قوله :﴿ لاَ فِيهَا غَوْلٌ ﴾ صفة أيضاً١ وبطل عمل لا وتكررت لتقدم٢ خبرها، وتقدم٣ أول البقرة فائدة تقديم مثل هذا الخبر، والبحثُ مع أبي حيان فيه.
قال الفراء : العرب تقول ليس فيها غِيلَةٌ وغائلةٌ وغُول ( وغَوْل )٤ سواء٥، وقال أبو عبيدة : الغَوْلُ أن تغتال٦ عقولهم٧ وأنشد قول مطيع بن إياس :
٤١٩٨ - وَمَا زَالَتِ الْكَأسُ تَغْتَالُهُمْ. . . وَتَذْهَبُ بالأَوَّل فَالأّوَّلِ٨
وقال الليث : الغول الصداع والمعنى ليس فيها صداع كما في خمر الدنيا٩، وقال الواحدي : الغَوْل حقيقته الإهلاك، يقال : غَالَهُ غَوْلاً واغْتَالَهُ أهْلَكَهُ، والغَوْل والغَائلُ المهلك وسُمِّي ( وَطْءُ )١٠ المرضع غَوْلاً لأنه يؤدي إلى الهلاك، والغول كلُّ ما اغتالك أي أهلَكك، ومنه الغُولُ بالضم شيء تَوَهَّمَتْهُ العرب ولها فيه أشعار١١ كالعَنْقَاء١٢ يقال : غَالِني كذا ومنه الغِيلَة في العقل والرضاع قال :
٤١٩٩- مَضَى أَوَّلُونَا نَاعِمِينَ بِعَيْشِهِمْ. . . جَمِعياً وَغَالتنِي بِمَكَّةَ غُولُ١٣
فالغول اسم لجميع الأذى. وقال الكلبي : لا فيها إثمٌ١٤، وقال قتادة : وَجَعُ البطن١٥. وقال أهل المعاني : الغول فساد يلحق أمره في خفية، وخمر الدنيا يحصل فيها أنواع من الفساد منها السُّكْرُ وذَهَابُ العقل ووجع البطن والصُّدَاع والقيءُ والبَوْل ولا يوجد شيء من ذلك من خمر١٦ الجنة.
قوله :﴿ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ ﴾ قرأ الأخوان «ينزفون » هنا، وفي الواقعة١٧، بضم الياء وكسر الزاي. وافقهما عاصمٌ على ما في الواقعة فقط. والباقون بضم الياء وفتح الزاي١٨. وابن أبي إسحاق بالفتح والكسر١٩. وطلحة بالفتح والضم٢٠ فالقراءة الأولى من أَنْزَفَ الرَّجُلُ إذَا ذَهَبَ عَقْلُهُ من السكر فهو نَزِيفٌ وَمنزُوفٌ، وكان قياسه مُنِزْفٌ كمُكْرِم، ونَزَفَ الرجلُ الخمْرةَ فَأنْزَفَ هو ثُلاَثيُّهُ متعددٌ ورباعيه بالهمزة قاصر وهو نحو : كَبَبْتُهُ فأَكَبَّ وقَشعَت الريحُ السَّحابَ فَأَقْشَعَ أي دخلا في الكَبِّ والقَشْعِ٢١ وقال الأسود :
٤٢٠٠- لَعْمرِي لَئِنْ أَنْزَفْتُم أَوْ صَحَوْتُمُ. . . لَبْئِسَ النَّدَامَى أَنْتُمْ آلَ أَبْجَرَا٢٢
ويقال : أنزف أيضاً أي نَفِذَ٢٣ شَرَابُهُ. وأما الثانية فمن نزف أيضاً بالمعنى المتقدم وقيل هو من قولهم : نَزَفتِ الرَّكِيَّةُ أي نَزَحَتْ٢٤ ماءها. والمعنى أنهم لا تذهب خمورهم٢٥ بل هي باقية أبداً، وضمن يَنْزِفُونَ معنى يصدون عنها بسبب النَّزِيفِ.
وأما القراءتان الأخيرتان٢٦ فيقال : نَزِف الرجلُ ونَزُفَ بالكسر والضم بمعنى ذهب عقله بالسّكر،
١ قاله السمين ٤/٥٤٩ فتحصل أن هناك صفات خمسا "لكأس" هي: "من معين" و "بيضاء" ولذة، وللشاربين و "لا فيها غول"..
٢ وهو: "فيها". ومعروف أن لا النافية للجنس تعمل إذا كان اسمها نكرة وكذلك الخبر إذا لم يتقدم خبرها على اسمها وإذا قصد بها النفي العام وأن لا يفصل بين لا والنكرة بشيء وأن لا تكون النكرة غير معمولة لغير لا..
٣ عند قوله: ﴿فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون﴾ الآية ٣٨ وبين هناك أن التقديم لتأكيد المعنى وتثبيته أول الأمر كما بين أن أناسا يجيزون إعمال لا والحالة هذه من هؤلاء الرماني فقد جوز النصب في قوله: "لا فيها غولا" وقد حكى: لا كذلك رجلا، ولا كزيد رجلا ولا كالعشية زائرا وأجيب بالتأويل. اللباب ١/٥٨..
٤ زيادة من المعاني..
٥ المعاني ٢/٣٨٥..
٦ كذا هي في المجاز وما في ب: يغتال..
٧ المجاز ٢/١٦٩..
٨ من المتقارب وانظر: البحر ٧/٣٥٠ والمجاز ٢/١٦٩ والقرطبي ١٥/٧٩ ومجمع البيان ٧/٦٩٠ وابن كثير ٤/٧ وفتح القدير ٤/٣٩٣ والرازي ٢٦/١٣٧ والطبري ٢٣/٣١ واللسان: "غ و ل" ٣٣١٩..
٩ اللسان "غ و ل" ٣٣١٧..
١٠ زيادة من أ..
١١ اللسان ٣٣١٩..
١٢ وهي طائر ضخم ليس بالعقاب. انظر: اللسان " ع ن ق" ٣١٣٦..
١٣ من الطويل ولم أعرف قائله وشاهده أن الغول العوائق أي عاقتني عوائق وانظر: البحر ٧/٣٥٠..
١٤ نقله القرطبي ١٥/٧٩..
١٥ السابق..
١٦ انظر: معالم التنزيل للبغوي ٦/٢٣..
١٧ الآية ١٩ منها، وهي: ﴿لا يصدعون عنها ولا ينزفون﴾..
١٨ من القراءات المتواترة وانظر: حجة ابن خالويه ٣٠٢ والكشف ٢/٢٢٤ والسبعة ٥٤٧ والإتحاف ٣٦٩ والنشر ٢/٣٥٧ ومعاني الفراء ٢/٢٨٥..
١٩ نقلها صاحب البحر ٧/٣٦٠، والدر ٤/٥٤٩..
٢٠ المرجعان السابقان وانظر أيضا الكشاف ٣/٣٤٠..
٢١ السابق وانظر أيضا الكشف لمكي ٢/٢٢٤ ولسان العرب (نزف) ٤٣٩٧ و ٤٣٩٨..
٢٢ البيت مختلف في نسبته فقد نسب في المجاز ٢/١٦٩ إلى الأبيرد ونسبه القرطبي للحطيئة والسمين وأبو حيان إلى الأسود العنسي. وشاهده: استعمال (أنزف) رباعيا قاصرا وغير متعد. وانظر: القرطبي ١٥/٧٩ والبحر ٧/٣٥٠ والسمين ٤/٥٤٩، والمحتسب ٢/٣٠٨ والكشاف ٣/٣٤٠..
٢٣ في ب: فقد. وانظر: المعاني ٢/٣٨٥..
٢٤ الكشاف ٣/٣٤٠ والكشف ٢/٢٢٤ والركية: البئر تحفر؛ اللسان "ركا" ١٧٢٢ و ٤٣٩٧ "ن ز ف"..
٢٥ في ب: جمودهم. لحن وخطأ..
٢٦ وهي قراءة ينزفون بفتح الياء وكسر الزاي، وينزفون بالفتح والضم وانظر: الدر المصون ٤/٥٠٠..
ولما ذكر تعالى صفة مشروبهم ذكر عقيبه صفة منكوحهم فقال :«وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ ». «قاصرات الطرف » يجوز أن يكون من باب الصّفة المشبهة١ أي قاصراتٌ أطرافُهن كمُنْطَلِقُ اللّسانِ، وأن يكون من باب إطلاق اسم الفاعل٢ على أصله. فعلى الأول المضاف إليه مرفوع المحل٣ وعلى الثاني منصوبه٤ أي قَصَرْنَ أطْرَافَهُنَّ على أزواجهن. وهو مدح عظيم قال امرؤ القيس :
٤٢٠١- مِنَ الْقَاصِرَاتِ الطَّرْفِ لَو دَبّ مُحْوِلٌ. . . مِنَ الذِّرِّ فَوْقَ الإتْبِ مِنْهَا لأَثّرَا٥
ومعنى القصر في اللغة الحبس ومنه قوله تعالى :﴿ مَّقْصُورَاتٌ فِي الخيام ﴾ [ الرحمن : ٧٢ ]. والمعنى أنهن يَحْبسْنَ نظرهُنَّ ولا ينظرن إلى غير أزواجهن، والعِينُ جمع عَيْنَاءَ وهي الواسعة العينين والذَّكَرُ أعْيَنُ٦، قال الزجاج كِبَارُ الأعْين حِسَانُها٧، يقال رَجُلٌ أَعَيْنُ، وامرأة عَيْنَاهُ، ورجالٌ ونِسَاءٌ عِينٌ. ٨
١ حيث إنها تدل على الثبوت والدوام بخلاف..
٢ اسم فاعل فإنه يدل على التجدد والحدوث..
٣ على اعتبار أن الطرف هو القاصر أي قصر طرفهن..
٤ على اعتبار أن الطرف مقصور والفاعل ضمير في اسم الفاعل، كما أول: "قصرن أطرافهن"..
٥ له من الطويل والمحول: الصغير من الذر وهو ضرب من النمل، والإتب القميص ويروى فوق الخد. وهو يقول لا تنظر إلا إلى بعلها فقط والشاهد "قاصرات الطرف" فإنه اسم فاعل أضيف إلى مفعوله فهو منصوب وقد تقدم..
٦ قاله أبو عبيدة ٢/١٧٠..
٧ معاني القرآن وإعرابه ٤/٣٠٤..
٨ اللسان عين ٣١٩٦، ٣١٩٧..
قوله :﴿ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ ﴾ والبيضُ جمع بَيْضَة وهو معروف والمراد به هنا بيض النَّعَامِ، والمكنون المصون المستور من كَنَنْتُهُ أي جعلته في كِنّ١ والعرب تشبه المرأة بها في لونها وهو بياض مشوبٌ٢ ببعض صُفرة والعرب٣ تحبه.
قال امرؤ القيس :
٤٢٠٢- وَبَيْضَةِ خِذْ ( رٍ ) لاَ يُرَامُ خِبَاؤُهَا. . . تَمَتَّعْتُ مِنْ لَهْوٍ بِهَا غَيْرَ معجلِ
كَبِكْرِ مُقَانَاةِ البَيَاضِ بصُفْرَةٍ. . . غَذَاهَا نَمِيرُ الْمَاءِ غَيْرُ المُحَلَّلِ٤
وقال ذو الرمة :
٤٢٠٣- بَيْضَاءُ فِي بَرَجٍ صَفْرَاءُ فِي غَنَجٍ. . . كَأَنَّهَا فِضَّةٌ قَدْ مَسَّها ذَهَبُ٥
وقال بعضهم : إنما شبهت المرأة بها في أجزائها فإن البيضة من أي جهة أتيتها كانت في رأي العين مشبهة للأخرى. وهو في غاية المدح وقد لحظ هذا بعض الشعراء حيث قال :
٤٢٠٤- تَنَاسَبَت الأَعْضَاءُ فِيهَا فَلاَ تَرَى. . . بِهِنّ اخْتِلاَفاً بَلْ أَتَيْنَ عَلَى قَدْرِ٦
ويجمع البيض على بُيُوض قال :
٤٢٠٥- بِتَيْهَاءِ قَفْرٍ وَالْمَطِيُّ كَأّنَّهَا. . . قَطَا الْحَزْنِ قَدْ كَانَتْ فِرَاخاً بُيُوضُهَا٧
قال الحسن : شب ( ه )٨ هن ببيض النّعام تكنُّها٩ بالرِّيش عن الريح والغبار فلونها أبيض في صفرة.
يقال : هذا أحسن ألوان النساء تكون المرأة بيضاء مُشْرَبةً صفرةً١٠ ( وإنما١١ ذكر المكنون والبيض جمع مؤنث لأنه رده إلى اللفظ )١٢.
١ اللسان كنن ٣٩٤٢، ٣٩٤٣..
٢ كذا في "أ" مشوب..
٣ انظر اللسان: " ب ي ض" ٣٩٨..
٤ هما من البحر الطويل له من معلقته المشهورة والخباء ما كان على عمودين أو ثلاثة، ولا يرام خباؤها كناية عن عزتها ومنعتها والخدر: بيت المرأة وهنا شبهها في ملمسها وصفائها بالبيضة ومن هنا جاء البيت، والبكر: أول بيضة تضعها النعام، والمقاناة المخالطة التي قوني بياضها بصفرة أي خلط. ويروى المقاناة البياض. وفي تلك الحال يجوز خفض البياض ونصبه على اختلاف بين البصريين والكوفيين في النصب كما يجوز رفعه. وقد تقدم..
٥ من البسيط له في وصف الخمر، والبرج شدة البياض والظهور. والغنج الدل. وشاهده بيضاء فإن بياض الخمر مشرب بصفرة. وقد تقدم..
٦ من الطويل ولم يعرف قائله. وأتى به استئناسا للمعنى قبله من تشبيه المرأة بالبيضة. وانظر: البحر ٧/٣٦٠ و ٨/٢٩٨ والدر المصون ٤/٥٥١..
٧ البيت من بحر الطويل أيضا وهو لعمرو بن أحمر والتيهاء الصحراء، والقفر الخالي. والقطا: طير سريع الطيران والحزن الأرض الغليظة. يصف سرعة المطي بأنها مثل سرعة القطا في طيرانه. والشاهد أن البيوض جمع بيضة. وانظر: الأشموني ١/٢٣٠ وابن يعيش ٧/١٠٢، والدر المصون ٤/٥٥١ واللسان عرض والخزانة ٩/٢٠١..
٨ الهاء ساقطة من ب ففيها شبهن..
٩ في ب: لكنها تحريف وغير مراد ورأي الحسن موافق لرأي أبي إسحاق الزجاج في معاني القرآن وإعرابه ٤/٣٠٤..
١٠ نقله الإمام أبو الفرج بن الجوزي في زاد المسير ٧/٥٨..
١١ ما بين القوسين سقط من ب..
١٢ فلفظ البيض مذكر وهو اسم جنس له مفرد من لفظه بالتاء بيضة..
قوله: ﴿فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ﴾ وهذا على عطف قوله: ﴿يُطَافُ عَلَيْهِمْ﴾ [الصافات: ٤٥] والمعنى يشربو فيتحادثون على الشراب قال:
٤٢٠٦ - وَمَا بَقِيَتْ مِنَ اللَّذَّات إلاَّ مُحَادَثَةُ الكِرَامِ علَى المُدَام
وأتى بقوله «فَأَقْبَلَ» ماضياً لتحقق وقوعه، كقوله ﴿ونادى أَصْحَابُ النار أَصْحَابَ الجنة﴾ [الأعراف: ٥٠] وقوله: ﴿يَتَسَاءَلُونَ﴾ حال من فاعل «أقْبَلَ» والمعنى: أهل الجنة يسأل بعضهم بعضاً عن حاله في الدنيا.
قوله: ﴿قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ﴾ أي في الدنيا ينكر البعث. و ﴿يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ المصدقين﴾ أي كان يوبِّخني على التصديق بالبعث والقيامة ويقول تعجباً: ﴿أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ﴾ أي لمحاسبون ومُجَازوْنَ، والمعنى أن ذلك القرين كان يقول هذه الكلمات على سبيل الاستنكار. واعلم أنه تعالى لما ذكر أن أهل الجنة يتساءلون عند اجتماعهم على الشرب ويتحدثون كانت من جملة كَلِمَاتهم أنهم يتذكرون ما كان قد حصل لهم في الدنيا مما يوج الوقوع في عذاب الله ثم إنهم تخلصوا عنه وفازوا بالسعادة الأبدية. قال مجاهد: كان ذلك القرين شيطاناً، وقيل: كان من الإنس، وقال مقاتل: كانا أخَوَيْنِ وقيل: كانا شريكين حصل لهما ثمانية آلاف دينار
305
فَتَقَاسَمَاها واشترى أحدهما داراً بألف دينار فأراها صاحبه وقال كيف ترى حسنها؟ (فقال: مَا أَحْسَنَهَا)، ثم خرج فتصدق بألف دينار وقال: اللهم إنَّ صاحبي قد اتباع هذه الدار بألف دينار فتصدق صاحبه بألف دينار لأجل أن يزوجه الله تعالى من الحُورِ العِينِ ثم إن صاحبه اشترى بساتين بألفي دينار فتصدق هذا بألفي دينار، ثم إن الله تعالى أعطاه ما طلب في الجنة.
وقيل: كان أحدهما كافراً اسمه نُطْرُوس والآخر مؤمن اسمه يَهُودَا وهما اللذان قص الله خبرهما في سورة الكهف: ﴿واضرب لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ﴾ [الكهف: ٣٢].
قوله: ﴿لَمِنَ المصدقين﴾ العامة على التخفيف الصاد من التصديق أي لمن المصدِّقِين بلقاء الله. وقرئ بتشديدها من الصَّدَقَة واختلف القراء في هذه الاستفهامات الثلاثة وهي قوله: ﴿أَإِنَّكَ لَمِنَ المصدقين﴾ ﴿أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً﴾ ﴿أَإِنَّا لَمَدِينُونَ﴾ فقرأ نافع الأولى والثانية بالاستفهام بهمزة غير مهموسة والثالثة بكسر الألف من غير استفهام. (ووافقه الكسائي إلا أنه يستفهم الثالثة بهمزتين وابن عامر الأولى والثالثة بالاستفهام بهمزتين والثانية بكسر الألف من غير استفهام) والباقون بالاستفهام في جميعها. ثم اختلفوا فابن كثير يستفهم بهمزة واحدة غير مطولة وبعدها ياء ساكنة خفيفة وأبو عمرو مطولة وحمزة وعاصم بهمزتين.

فصل


ثم إن الرجل يقول لجالسائه يدعوهم إلى كَمَال السُّرُور بالاطِّلاع إلى النار لمشاهدة ذلك القرين ومخاطبته ﴿قَالَ هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ﴾ إلى النار فيقول أهل الجنة أنت أعرف به منا «فاطّلع أنت» قال ابن عباس: إنَّ في الجنة كُوًى ينظر أهلها منها إلى النار.
قوله: ﴿مُطَّلِعُونَ﴾ قرا العامة بتشديد الطاء مفتوحة وبفتح النون فاطَّلَعَ ماضياً مبنياً للفاعل افتعل من الطلوع. وقرأ ابن عباس في آخرين - ويروى عن أبي عمرو - بسكون الطاء وفتح النون «فأُطْلِعَ» بقطع (ال) همزة مضمومة وكسر اللام ماضياً مبنياً
306
للمفعول، ومطلعون على هذه القراءة يحتمل أن يكون قاصراً أي مقبلون من قولك: اطلع علينا فلان أي أقبل، وأن يكون متعدياً ومفعوله محذوف أي أصْحَابَكُمْ وقرأ أبو البَرَهسم وحماد بن أبي عمار: مُطْلِعُونَ خفيفة الطاء مكسورة النون فأُطْلِعَ مبنياً للمفعول، ورد أبو حاتم وغيرُه هذه القراءة من حيث الجمع بين النون وضمير المتكلم إذْ كَانَ قياسها مُطْلِعِيَّ، والأصل مُطْلِعُوي فأبدل فأدغم نحو: جاء مُسْلِمِيَّ القَاطِنُونَ وقوله عليه - (الصلاة و) السلام - «أَوَ مُخْرِجيَّ هُمْ» وقد وجهها ابن جني على أنها أجري فيها اسم الفاعل مُجْرى المضارع يعني في إثبات النون مع الضمير وأنشد الطبري على ذلك:
٤٢٠٧ - وَمَا أَدْرِي وَظَنِّي كُلَّ ظَنِّي أَمْسْلِمُنِي إلى قَوْمِي شَرَاحِ
وإليه نحا الزمخشري قال: أوشبه اسم الفاعل في ذلك بالمضارع لتآخِ بينهما (كأنه) قال يُطْلِعُونَ وهو ضعيف لا يقع إلا في شعر وذكر فيه فيه تَوْجيهاً آخَر فقال: أراد مُطْلعُونِ إياي فوضع المتصل موضع المنفصل كقوله:
307
٤٢٠٨ - هُمُ الْفَاعِلُونَ الْخَيْرَ وَالآمِرُونَهُ...........................
ورده أبو حيان بأن هذا ليس من مواضع المنفصل حتى يدعي أن المتصل وقع موقعه لا يجوز: «هِنْدٌ زَيْدٌ ضَارِبٌ إيَّاهَا» ولا «زَيْدٌ ضَارِبٌ إيَّايَ» قال شهاب الدين: وإنما لم يجز ما ذكر لأنه إذا قدر على المتصل لم يُعْدَل إلى المنفصل ولِقَائلٍ أن يقول: لا أسلم أنه يقدر على المتصل حالة ثبوت النون أو التنوين قبل الضمير بل يصير الموضع موضع الضمير المنفصل فيَصحّ ما قال (هـ) الزمخشري، وللنحاة في اسم الفاعل المنوّن قبل ياء المتكلم نحو البيت المتقدم وقول الآخر:
٤٢٠٩ - فَهَلْ فَتًى مِنْ سَرَاةِ الْقَوْمِ يَحْمِلُنِي وَلَيْسَ حَامِلُنِي إلاَّ ابْنُ حَمَّالِ
وقول الآخر:
٤٢١٠ - وَلَيْسَ بمُعْيِيني وَفِي النَّاسِ مُمْنِعٌ صَدِيقٌ وَقَدْ أَعْيَى عَلَيَّ صَدِيقُ
قولان:
أحدهما: أنه تنوين وأنشد شذ ثبوته مع الضمير. وإن قلنا: إن الضمير بعده في محل نصب.
308
والثاني: أنه ليس تنويناً وإنما هو نون وقاية.
واستدل ابن مالك على هذا بقوله: وليس بمعييني، وبقوله أيضاً:
٤٢١١ - وَلَيْسَ الْمُوَافِينِي (وَفِي النَّاسِ مُمْنِعٌ صَدِيقٌ إذَا أعْيَا عَلَيَّ صديق)
ووجه الدلالة من الأول أنه لو كان تنويناً لكان ينبغي أن يحذف الياء قله لأنه منقوص منون، والمنقوص المنون تحذف ياءؤه رفعاً وجراً لالتقاء الساكنين، ووجهها من الثاني أن الألف واللام لا تجماع التنوين. والذي يرجح لاقول الأول ثبوت لانون في قوله: ﴿وَالآمِرُونَهُ﴾ وفي قول الآخر:
٤٢١٢ - وَلَمْ يَرْتَفِقْ وَالنَّاسُ مُحْتَضِرُونَهُ جَمِيعاً وَأيْدِي المُعْتَفِينَ رَوَاهِقُه
فإن النون قائمة مقام التنوين تثنية وجمعاً على حدها، وقال أبو البقاء «وتقرأ بكسر النون» وهو بعيد جداً؛ لأن النون إنْ كانت للوقاية فلا تحلق الأسماء وإن كانت نون الجمع لا تثبت في الإضافة وهذا الترديد صحيح لولا ما تقدم من الجواب عنه مع تكلف فيه وخروج عن القواعد.
(وقُرِئَ مُطّلعون بالتشديد كالعامة فأَطْلُعَ مضارعاً «منصوباً (بإضمار» أَنْ «على
309
جواب الاستفهام). وقرئ مُطْلِعُونَ بالتخفيف فأطْلِعَ فَأطْلِعَ مخففاً ماضياً ومخففاً مضارعاً على ما تقدم يُقالُ: طَلَع عَلَيْنَا فلانٌ وأَطْلَعَ كأَكْرَمَ واطَّلَعَ بالتشديد بمعنى واحد وأما قراءة من بني الفعل للمفعول ففي القائم مقام الفاعل ثلاثة أوجه:
أحدهما: أنه مصدر الفعل أي اطَّلَعَ الاطِّلاَع.
الثَّانِي: الجار المقدر.
الثَّالِثُ: - وهو الصحيح - أنه ضمير القائل لأصحابه ما قاله لأنه يقال: طَلَعَ زَيْدٌ وأَطْلَعَهُ غَيْرَهُ فالهمزة فيه للتعدية، وأما الوجهان الأولان فذهب إليهما أبو الفضل الرازي في لَوَامِحِهِ فقال: طلع واطّلع إذا بدا وظهر واطّلع اطّلاعاً إذا جاء وأقبل. ومعنى ذلك: هل أنت مقبلون فأُقْبِل، وإنما أقيم المصدر فيه مُقَامَ الفاعل بتقدير فاطلع الاطلاع، أو بتقدير حرف الجر المحذوف أي أُطْلِعَ بِهِ لأن أَطْلََ لازم كما أن أقبل كذلك ورد عليه أبو حيان هذين الوجهين فقال قد ذكرنا أن» أطْلَعَ «بالهمزة معدًّى بها من طلع اللازم. وأما قوله أو حرف الجر المحذوف أي اطلع به فهذا لا يجوز لأن مفعول ما لم يسم فاعله لا يجوز حذفه لأنه نائب عنه فكما أن الفاعل لا يجوز حذفه دون عامله، فكذلك هذا لو قلت:» زَيْدٌ مَمْرُورٌ أو مغْضُوبٌ «تريد» بِهِ «أو» عَلَيْهِ «لم يجز.
قال شهاب الدين: أبو الفضل لا يَدَّعي أن النائب عن الفاعل محذوف وإنما قال: بتقدير حرف الجر المحذوف. (ومعنى ذلك) أنه لما حذف حرف الجر اتَّسَاعاً انقلب الضمير مرفوعاً فاستتر في الفعل كما يدعى ذلك في حذف عائد الموصول المجرور عند عدم شروط الحذف ويُسَمَّى الحذف على التدريج.
310
قوله: ﴿فَرَآهُ﴾ عطف على» فَاطَّلَعَ «و» سَوَاءُ الجَحِيم «وسطها وأحسن ما قيل فيه ما قاله ابن عباس سمي بذلك لاستواء المسافة منه إلى الجوانب وعن عيسى بن عُمَر أنه قال لأبي عُبَيْدَةَ: كنت أكتب حتى ينقطع سوائي.
قوله: ﴿تالله﴾ قسم فيه تعجب، و»
إنْ «مخففة أو نافية واللام في» لَتُرْدِين «فارقة أو بمعنى إلا. وعلى التقديرين فهي جواب القسم أعني إن وما في خبرها.

فصل


قال المفسرون: إنه ذهب إلى أطراف الجنة فاطلع عندها إلى النار فَرَآهُ فِي سَوَاء الجَحِيم أي وسط الجحيم فقال له توبيخاً: ﴿تالله إنْ كدت لتردين﴾ أي والله لقد كِدتَ أن تهلكني.
وقال مقاتل: والله لقد كدتَ أن تُغْويَنِي ومن أغوى إنساناً فقد أهلكه، والرَّدَى الهلاك أي لتهلكني بدعائك إيَّاي إلى إنكار البعث والقيامة ﴿وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي﴾ أي رحمة ربي وإنعامه عليّ بالإسلام ﴿لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ﴾ معك في النار ولما تمم الكلام مع قرينه الذي هو في النار عاد إلى مخاطبة جلسائه من أهل الجنة وقال: ﴿أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ﴾ قال بعضهم: إن أهل الجنة لا يعلمون في أول دخولهم الجنة أنهم لا يموتون فإذا جيء بالموت على صورة كَبْشٍ أمْلَحَ وذُبحَ يقول أهل الجنة للملائكة: «أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ»
؟ فتقول الملائكة: لا فعند ذلك يعلمون أنهم لا يموتون. وعلى هذا فالكلام حصل قبل ذبح الموت وقيل: إن الذي تكاملت سعادته إذا عظم تعجُّبُهُ بها يقول ذلك. والمعنى أهذا لي على جهة الحديث بنعمة الله عليه وقيلي: يقوله المؤمن لقرينِهِ توبيخاً له بما كان ينكره.
قوله: ﴿بِمَيِّتِينَ﴾ قرأ زيدٌ بنُ علي بمَائِتين وهما مثل ضَيِّق، وضاَئِق كما
311
تقدم، وقوله «أَفَمَا» فيه الخلاف المشهور، فقدَّره الزمخشري أَنَحْنُ مُخَلَّدُونَ مُنَعَّمُونَ فما نحن بميتين وغيره يجعل الهمزة متقدمة على الفاء.
قوله: ﴿إِلاَّ مَوْتَتَنَا﴾ منصوب على المصدر، والعامل فيه الوصف قبله، ويكون استثناء مُفرّغاً وقيل: هوا ستثناء منقطع أي لكن الموتة الأولى كانت لنا في الدنيا وهذا قريب في المعنى من قوله تعالى: ﴿لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى﴾ [الدخان: ٥٦] وفيها هناك بحث حسن.
قوله: ﴿إِنَّ هذا لَهُوَ الفوز العظيم﴾ وهذا قول أهل الجنة عند فراغهم من (هذه) المحادثات. وقوله: ﴿لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ العاملون﴾ قيل: إنه من بقية كلامهم، وقيل: إنه ابتداء كلام من الله تعالى اي لمثل هذا النعيم الذي ذكرناه.
312
قوله :﴿ قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ ﴾ أي في الدنيا ينكر البعث.
و ﴿ يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ المصدقين ﴾ أي كان يوبِّخني على١ التصديق بالبعث والقيامة
١ في ب: عن..
ويقول تعجباً :﴿ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ ﴾ أي لمحاسبون ومُجَازوْنَ، والمعنى أن ذلك القرين كان يقول هذه الكلمات على سبيل الاستنكار. واعلم أنه تعالى لما ذكر أن أهل الجنة يتساءلون عند اجتماعهم على الشرب ويتحدثون كانت من جملة كَلِمَاتهم١ أنهم يتذكرون ما كان قد حصل لهم في الدنيا مما يوجب الوقوع في عذاب الله ثم إنهم تخلصوا عنه وفازوا بالسعادة الأبدية. قال مجاهد : كان ذلك القرين شيطاناً، وقيل : كان من الإنس، وقال مقاتل : كانا أخَوَيْنِ٢. وقيل : كانا شريكين٣ حصل لهما ثمانية آلاف دينار فَتَقَاسَمَاها واشترى أحدهما داراً بألف دينار فأراها صاحبه وقال كيف ترى حسنها ؟ ( فقال٤ : مَا أَحْسَنَهَا )، ثم خرج فتصدق بألف دينار وقال : اللهم إنَّ صاحبي قد ابتاع هذه الدار بألف دينار وإني أسألك دارا من دور الجنة ثم إن صاحبه تزوج امرأة حسناء بألف دينار، فتصدق صاحبه بألف دينار لأجل أن يزوجه الله تعالى من الحُورِ العِينِ ثم إن صاحبه اشترى بساتين بألفي دينار فتصدق هذا بألفي دينار، ثم إن الله تعالى أعطاه ما طلب في الجنة.
وقيل : كان أحدهما كافراً اسمه نُطْرُوس والآخر مؤمن اسمه يَهُودَا وهما اللذان قص الله خبرهما في سورة٥ الكهف :﴿ واضرب لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ ﴾ [ الكهف : ٣٢ ].
قوله :﴿ لَمِنَ المصدقين ﴾ العامة على التخفيف الصاد من التصديق أي لمن المصدِّقِين بلقاء الله. وقرئ بتشديدها من الصَّدَقَة٦، واختلف القراء في هذه الاستفهامات الثلاثة وهي قوله :﴿ أَإِنَّكَ لَمِنَ المصدقين ﴾ ﴿ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً ﴾ ﴿ أَإِنَّا لَمَدِينُونَ ﴾ فقرأ نافع الأولى والثانية بالاستفهام بهمزة غير مهموسة٧ والثالثة بكسر الألف من غير استفهام. ( ووافقه٨ الكسائي إلا أنه يستفهم الثالثة بهمزتين وابن عامر الأولى والثالثة بالاستفهام بهمزتين والثانية بكسر الألف من غير استفهام ) والباقون بالاستفهام في جميعها. ثم اختلفوا فابن كثير يستفهم بهمزة واحدة غير مطولة وبعدها ياء ساكنة خفيفة وأبو عمرو مطولة وحمزة وعاصم بهمزتين٩.
١ في ب: كلامهم..
٢ وانظر: الرازي ٢٦/١٣٩ وزاد المسير ٧/٥٩..
٣ وهو رأي مقاتل، انظر: زاد المسير ٧/٥٩ وانظر: معالم التنزيل والرازي ٢٦/١٣٩..
٤ سقط من نسخة ب..
٥ المرجع السابق..
٦ من القراءة المتواترة فقرأ حمزة بالتشديد، وانظر: زاد المسير ٧/٥٩، فيما رواه عن حمزة بكر بن عبد الرحمن القاضي، وانظر: البحر المحيط ٧/٣٦٠، وكذلك الكشاف ٣/٣٤١ بدون نسبة أيضا..
٧ كذا هنا في أ و في ب مهموزة وفي الرازي ممدودة..
٨ ما بين المعقوفتين كله سقط من نسخة ب..
٩ وانظر: الفخر الرازي ٢٦/١٤٠ وإتحاف فضلاء البشر ٢٦٩..

فصل


ثم إن الرجل يقول لجالسائه يدعوهم إلى كَمَال السُّرُور بالاطِّلاع إلى النار لمشاهدة ذلك القرين ومخاطبته ﴿ قَالَ هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ ﴾ إلى النار فيقول أهل الجنة أنت أعرف به١ منا «فاطّلع أنت ». قال ابن عباس : إنَّ في الجنة كُوًى ينظر أهلها منها إلى النار.
قوله :﴿ مُطَّلِعُونَ ﴾ قرأ العامة بتشديد الطاء مفتوحة وبفتح النون فاطَّلَعَ ماضياً مبنياً للفاعل افتعل من الطلوع. وقرأ ابن عباس في آخرين - ويروى عن أبي عمرو - بسكون الطاء وفتح النون «فأُطْلِعَ » بقطع ( ال )٢ همزة مضمومة وكسر اللام ماضياً مبنياً للمفعول٣، ومطلعون على هذه القراءة يحتمل أن يكون قاصراً أي مقبلون من قولك : اطلع علينا فلان أي أقبل٤، وأن يكون متعدياً ومفعوله محذوف أي أصْحَابَكُمْ٥، وقرأ أبو البَرَهسم وحماد بن٦ أبي عمار : مُطْلِعُونَ خفيفة الطاء مكسورة النون فأُطْلِعَ مبنياً للمفعول٧، ورد أبو حاتم وغيرُه٨ هذه القراءة من حيث الجمع بين النون وضمير المتكلم إذْ كَانَ قياسها مُطْلِعِيَّ، والأصل مُطْلِعُوي فأبدل فأدغم نحو : جاء مُسْلِمِيَّ القَاطِنُونَ وقوله عليه - ( الصلاة و ) السلام- «أَوَ مُخْرِجيَّ هُمْ »٩، وقد وجهها ابن جني على أنها أجري فيها اسم الفاعل مُجْرى المضارع يعني في إثبات النون فيه مع الضمير١٠ وأنشد الطبري على ذلك :
٤٢٠٧- وَمَا أَدْرِي وَظَنِّي. . . كُلَّ ظَنِّي أَمْسْلِمُنِي١١ إلى قَوْمِي شَرَاحِ١٢
وإليه نحا الزمخشري قال : أو شبه اسم الفاعل في ذلك بالمضارع لتآخِ بينهما ( كأنه )١٣ قال يُطْلِعُونَ١٤ وهو ضعيف لا يقع إلا في شعر١٥. وذكر فيه فيه تَوْجيهاً آخَر فقال : أراد مُطْلعُونِ إياي فوضع المتصل موضع المنفصل١٦ كقوله :
٤٢٠٨- هُمُ الْفَاعِلُونَ الْخَيْرَ وَالآمِرُونَهُ. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ١٧
ورده أبو حيان بأن هذا ليس من مواضع المنفصل حتى يدعي أن المتصل١٨ وقع موقعه لا يجوز :«هِنْدٌ زَيْدٌ ضَارِبٌ إيَّاهَا » ولا «زَيْدٌ ضَارِبٌ إيَّايَ ». قال شهاب الدين : وإنما لم يجز ما ذكر لأنه إذا قدر على المتصل لم يُعْدَل إلى المنفصل١٩. ولِقَائلٍ أن يقول : لا أسلم٢٠ أنه يقدر على المتصل حالة ثبوت النون أو التنوين قبل الضمير بل يصير الموضع موضع الضمير المنفصل فيَصحّ ما قال ( ه )٢١ الزمخشري، وللنحاة في اسم الفاعل المنوّن قبل ياء المتكلم نحو البيت المتقدم وقول الآخر :
٤٢٠٩- فَهَلْ فَتًى مِنْ سَرَاةِ الْقَوْمِ يَحْمِلُنِي. . . وَلَيْسَ حَامِلُنِي إلاَّ ابْنُ حَمَّالِ٢٢
وقول الآخر :
٤٢١٠- وَلَيْسَ بمُعْيِيني وَفِي النَّاسِ مُمْنِعٌ. . . صَدِيقٌ وَقَدْ أَعْيَى عَلَيَّ صَدِيقُ٢٣
قولان :
أحدهما : أنه تنوين وأنشد شذ ثبوته مع الضمير. وإن قلنا : إن الضمير بعده في محل نصب٢٤.
والثاني : أنه ليس تنويناً وإنما هو نون وقاية٢٥.
واستدل ابن مالك على هذا بقوله : وليس بمعييني، وبقوله أيضاً :
٤٢١١- وَلَيْسَ الْمُوَافِينِي ( وَفِي النَّاسِ مُمْنِعٌ. . . صَدِيقٌ إذَا أعْيَا عَلَيَّ صديق )٢٦
ووجه الدلالة من الأول أنه لو كان تنويناً لكان ينبغي أن يحذف الياء قبله لأنه منقوص منون، والمنقوص المنون تحذف ياؤه رفعاً وجراً لالتقاء الساكنين، ووجهها من الثاني أن الألف واللام لا تجامع التنوين. والذي يرجح القول الأول ثبوت النون في قوله :﴿ وَالآمِرُونَهُ ﴾٢٧، وفي قول الآخر :
٤٢١٢- وَلَمْ يَرْتَفِقْ وَالنَّاسُ مُحْتَضِرُونَهُ. . . جَمِيعاً وَأيْدِي المُعْتَفِينَ رَوَاهِقُه٢٨
فإن النون قائمة مقام التنوين تثنية وجمعاً على حدها، وقال أبو البقاء «وتقرأ بكسر النون ». وهو بعيد جداً ؛ لأن النون إنْ كانت للوقاية فلا تلحق الأسماء وإن كانت نون الجمع لا تثبت في الإضافة٢٩ وهذا الترديد صحيح لولا ما تقدم من الجواب عنه مع تكلف فيه وخروج عن القواعد٣٠.
( وقُرِئَ٣١ مُطّلعون بالتشديد كالعامة فأَطْلُعَ مضارعاً ) منصوباً ( بإضمار٣٢ «أَنْ » على جواب الاستفهام ). وقرئ مُطْلِعُونَ بالتخفيف فأطْلِعَ َ مخففاً ماضياً ومخففاً مضارعاً على ما تقدم يُقالُ : طَلَع عَلَيْنَا فلانٌ وأَطْلَعَ كأَكْرَمَ واطَّلَعَ بالتشديد بمعنى واحد٣٣. وأما قراءة من بنى الفعل للمفعول ففي القائم مقام الفاعل ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه مصدر الفعل أي اطَّلَعَ الاطِّلاَع. ٣٤
الثَّانِي : الجار المقدر٣٥.
الثَّالِثُ :- وهو الصحيح- أنه ضمير القائل لأصحابه ما قاله لأنه يقال : طَلَعَ زَيْدٌ وأَطْلَعَهُ غَيْرَهُ فالهمزة فيه للتعدية٣٦، وأما الوجهان الأولان فذهب إليهما أبو الفضل الرازي في لَوَامِحِهِ فقال : طلع واطّلع إذا بدا وظهر واطّلع اطّلاعاً إذا جاء وأقبل. ومعنى ذلك : هل أنتم مقبلون فأُقْبِل، وإنما أقيم المصدر فيه مُقَامَ الفاعل بتقدير فاطلع الاطلاع، أو بتقدير حرف الجر المحذوف أي أُطْلِعَ بِهِ لأن أَطْلََع لازم كما أن أقبل كذلك٣٧. ورد عليه أبو حيان هذين الوجهين فقال قد ذكرنا أن«أطْلَعَ » بالهمزة معدًّى بها من طلع اللازم. وأما قوله أو حرف الجر المحذوف أي اطلع به فهذا لا يجوز لأن مفعول ما لم يسم فاعله لا يجوز حذفه لأنه نائب عنه٣٨ فكما أن الفاعل لا يجوز حذفه دون عامله٣٩، فكذلك هذا لو قلت :«زَيْدٌ مَمْرُورٌ أو مغْضُوبٌ » تريد «بِهِ » أو «عَلَيْهِ » لم يجز٤٠.
قال شهاب الدين : أبو الفضل لا يَدَّعي أن النائب عن الفاعل محذوف وإنما قال : بتقدير حرف الجر المحذوف. ( ومعنى٤١ ذلك ) أنه لما حذف حرف الجر اتَّسَاعاً٤٢ انقلب الضمير مرفوعاً فاستتر في الفعل كما يدعى ذلك في حذف عائد الموصول المجرور عند عدم شروط الحذف ويُسَمَّى الحذف على التدريج٤٣.
١ في ب: بنا منا. وانظر البغوي ٦/٢٢..
٢ زيادة من أ..
٣ من القراءات المتواترة فقد رواها ابن مجاهد في السبعة ٥٤٨ كما رويت في الإتحاف ٣٦٩ وانظر أيضا المحتسب ٢/٢١٩ ومختصر ابن خالويه ١٢٧ و ١٢٨..
٤ قاله ابن جني في المحتسب ٢/٢١٩ و ٢٢٠ والسمين في الدر ٤/٥٥٢..
٥ قاله أبو البقاء في التبيان ١٠٩٠..
٦ لم أقف على ترجمة له..
٧ انظر: الكشاف ٣/٣٤١ والبحر ٧/٣٦١ والتبيان ١٠٩٠ والبيان ٢/٣٠٤ وإعراب الزجاج ٤/٣٠٤ و ٣٠٥..
٨ تكاد كل الكتب التي رجعت إليها تضعف هذه القراءة لهذه العلة المذكورة حيث الجمع بين الإضافة "الواو" والنون. قال بذلك الزجاج في معاني القرآن ٤/٣٠٤ و ٣٠٥ والنحاس في الإعراب ٣/٤٢٢ ومعاني الفراء ٢/٣٨٥ والتبيان ٢/١٠٩٠ والبيان ٢/٣٠٤ و ٣٠٥ ومشكل إعراب مكي ٢/٢٣٦ والقرطبي ١٥/٨٣ والبحر ٧/٣٦١، والسمين ٤/٥٥٢..
٩ ذكره الإمام البخاري في صحيحه ١/٧ من حديث طويل عن عائشة رضي الله عنها..
١٠ قال في المحتسب ٢/٢٢٠: والأمر على ما ذهب إليه أبو حاتم إلا أن يكون على لغة ضعيفة وهو أن يجرى اسم الفاعل مجرى الفعل المضارع لقربه منه، فيجرى "مطلعون" مجرى يطلعون وعليه قال بعضهم:
أرأيت إن جئت به أملودا مرحلا ويلبس البرودا
أقائلن أحضروا الشهودا
فوكد اسم الفاعل بالنون وإنما بابها الفعل كقوله تعالى ﴿لترون الجحيم﴾..

١١ في ب: أسلمني وهو ما يخالف روايته..
١٢ من تمام الوافر وهو ليزيد بم محرم الحارثي وشاهده: "أمسلمني" حيث بقيت نون الوقاية مع اسم الفاعل وهي لا تكون إلا مع الفعل لأنها تقيه من الكسر الذي يخص الاسم. وذلك الذي نرى شاذ وقياسه أمسلمي كمخرجي السابق وقد تقدم..
١٣ سقط من ب فقط..
١٤ في الكشاف تطلعون..
١٥ الكشاف ٣/٣٤١..
١٦ الكشاف ٣/٣٤١..
١٧ يروى: القائلون الخير ويروى: الآمرون الخير. من الطويل وهو مجهول القائل عجزه:
................ إذا ما خشوا مع محدث الأمر معظما
والشاهد: الجمع بين النون (نون جمع المذكر) والإضافة (الهاء) وحكم المضمر أن يعاقب النون والتنوين لأنه بمنزلتهما في الاتصال والضعف وقد عاقب المظهر النون والتنوين مع قوته وانفصاله. وقد زعم سيبويه أنه مصنوع وانظر: الكتاب ١/١٨٨ وابن يعيش ٢/١٢٥ ومجالس ثعلب ١٢٣ ومعاني الفراء ٢/٣٨٦ والكشاف ٣/٣٤١ والدر ٤/٥٥٣ والخزانة ٤/٢٦٩ وكامل المبرد ١/٣٦٤ والبحر ٧/٣٦١..

١٨ المرجع السابق..
١٩ الدر ٤/٥٥٣..
٢٠ في ب: لا نسلم، وهذا رأي السمين الحلبي وعرضه في كتابه الدر. وقد رجح أبو حيان في البحر تخريج أبي الفتح وهو شبه الاسم للفعل. انظر: البحر ٧/٣٦١ والسمين ٤/٥٥٣..
٢١ الهاء زيادة من أ..
٢٢ من البسيط من أبيات لأبي محلم السعدي ويروى: ألا فتى من بني ذبيان. وشاهده حاملني حيث جاءت نون الوقاية مع اسم الفاعل والأصح: حاملي، كمسلمي ومخرجي، فالنون مع الفعل لهدف وهنا مع ياء المتكلم الذي مع الاسم لا هدف لها، ومن ثم تحتم الشذوذ، وانظر: الإنصاف ١٢٩ والبحر ٧/٣٦١ والدر ٤/٥٥٣، وشرح الرضي على كافية ابن الحاجب ١/٢٨٣ والكامل ١/٣٦٣، ٣٦٤. والرواية فيه يحملني وعليه فلا شذوذ فيه والخزانة ٤/٢٦٥ والبيان ٢/٣٠٥..
٢٣ من الطويل مجهول القائل. وشاهده كسابقيه في "معييني" وانظر: البحر ٧/٣٦١ والأشموني ١/١٣٦ والدر المصون ٤/٥٥٤..
٢٤ نسب ابن هشام في المغني هذا الرأي إلى هشام الكوفي قال: وزعم هشام أن الذي في "أمسلمني" ونحوه تنوين لا نون وبنى ذلك على قوله في "ضاربني" أن الياء منصوبة. المغني ٣٤٥..
٢٥ ظاهر كلام ابن مالك في التسهيل ص ٢٥ قال وقد تلحق نون الوقاية مع اسم الفاعل وأفعل التفضيل..
٢٦ الواقع أن ما بين القوسين كله تخليط من الناسخ لبيت آخر هو السابق عليه وإنما البيت المعني هو:
وليس الموافيني ليرفد خائبا فإن له أضعاف ما كان له أملا
وهو من الطويل مجهول القائل والموافيني اسم فاعل من وافى كعادى وقاضىويرفد يعطي من الرفد وهو العطاء والشاهد: الموافيني فقد استدل ابن مالك على أن النون نون الوقاية لا تنوين لأنه لا يجامع الألف واللام. وانظر: توضيح المقاصد ١/١٦٦ والأشموني ١/١٢٦ والمغني ٣٤٥ والمقاصد الكبرى للعيني ١/٣٨٧ وأجاز رواية آملا والدر المصون ٤/٥٤٤..

٢٧ قد سبق عما قريب..
٢٨ من الطويل مجهول القائل. وروي: يرتهق بدل يرتفق. واحتضر بمعنى حضر وشهد والارتفاق الاتكاء والرواهق الذين جاءوه والمعتفي طالب المعروف يقول إنه لم يشغل عن قضاء حاجة الملهوف مهما كان الأمر وشاهده "محتضرونه" فقد جمع بين الواو جمع المذكر والهاء "الإضافة". والشاهد الآخر الذي نحن بصدده الآن أن هذا تأييد لوجهة نظر هشام الذي يقول: إن النون هي التنوين بدليل ثبوتها جمعا وتثنية. وانظر: الدر المصون ٤/٥٥٤ وابن يعيش ٢/١٢٥ وشرح الكافية ١/٢٨٣ والخزانة ٤/٢٧١ وكامل المبرد ٢/٣٦٤ وكتاب سيبويه ١/١٨٨ وقد اتفقوا على أن هذا البيت من المصنوعات كما سبق في نظيره "الآمرونه"..
٢٩ التبيان ١٠٩٠..
٣٠ انظر: الدر المصون ٤/٥٥٤..
٣١ ما بين القوسين كله سقط من نسخة ب وقد روى أبو الفتح في المحتسب ٢/٢١٩، ٢٢٠ قراءة مطلعون فأطلع وانظر أيضا الدر المصون ٤/٥٥٤..
٣٢ ما بين القوسين الصغيرين سقط من ب وما بين الكبيرين كله ساقط من أ..
٣٣ الكشاف السابق والبحر ٧/٣٦١..
٣٤ هذا رأي ابن جني في المحتسب المرجع السابق قال: "فالفعل إذا الذي هو اطلع مسند إلى مصدره أي فاطلع الاطلاع كقولك: قد قيم أي قيم القيام، وقد قعد أي قعد القعود"..
٣٥ نقله أبو حيان عن أبي الفضل الرازي. انظر: البحر ٧/٣٦١..
٣٦ هذا رأي أبي حيان في البحر المرجع السابق..
٣٧ المرجع السابق..
٣٨ كذا في أ والبحر وفي ب عن الفاعل..
٣٩ كذا الأصح منهما أيضا وفي ب فاعله تحريف..
٤٠ ورأي أبي حيان هذا سديد فثبت من هذا أن الفعل إذا بني للمجهول فإن النائب عن الفاعل هو ضمير القائل لأصحابه وانظر: البحر ٧/٣٦٢، ٣٦٣ ونفس رأي أبي حيان هو رأي الفراء في معانيه ٢/٣٨٧ وانظر أيضا البيان ٢/١٠٥ ومشكل الإعراب ٢/٢٣٦، ٢٣٧ وإعراب النحاس ٣/٤٢٣ ومعاني الزجاج ٤/٣٠٤..
٤١ كذا هي في الدر المصون و "أ". وحذفت من ب..
٤٢ وحروف الجر والظروف يتوسع فيها ما لا يتوسع في غيرها..
٤٣ قاله في الدر المصون ٤/٥٥٥..
قوله :﴿ فَرَآهُ ﴾ عطف على «فَاطَّلَعَ »١. و «سَوَاءُ الجَحِيم » وسطها٢، وأحسن ما قيل فيه ما قاله ابن عباس سمي بذلك لاستواء المسافة منه إلى الجوانب٣، وعن عيسى بن عُمَر أنه قال لأبي عُبَيْدَةَ٤ : كنت أكتب حتى٥ ينقطع سوائي. ٦
١ السابق..
٢ المجاز ٢/١٧٠..
٣ البحر ٧/٣٦٢..
٤ في ب: أبو عبيد تحريف..
٥ في ب: عند..
٦ المجاز السابق ٢/١١٧٠ وانظر الكشاف للزمخشري ٣/٣٤١ وانظر: اللسان (سوى) ١٢٦٣..
قوله :﴿ تالله ﴾ قسم فيه تعجب١، و «إنْ » مخففة٢ أو نافية٣. واللام في «لَتُرْدِين » فارقة أو بمعنى إلا. وعلى التقديرين فهي جواب القسم أعني إن وما في خبرها٤.

فصل


قال المفسرون : إنه ذهب إلى أطراف الجنة فاطلع عندها إلى النار فَرَآهُ فِي سَوَاء الجَحِيم أي وسط الجحيم فقال له توبيخاً :﴿ تالله إنْ كدت لتردين ﴾ أي والله لقد كِدتَ أن تهلكني.
١ قاله أبو حيان في البحر ٧/٣٦٢..
٢ من الثقيلة. وعليه فاسمها ضمير الشأن محذوف..
٣ بمعنى ما أي ما كدت..
٤ السمين ٤/٥٥٥..
وقال مقاتل : والله لقد كدتَ أن تُغْويَنِي ومن أغوى إنساناً فقد أهلكه، والرَّدَى١ الهلاك أي لتهلكني بدعائك إيَّاي إلى إنكار البعث والقيامة. ﴿ وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي ﴾ أي رحمة ربي وإنعامه عليّ بالإسلام ﴿ لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ﴾ معك في النار. ولما تمم الكلام مع قرينه الذي هو في النار عاد٢ إلى مخاطبة جلسائه من أهل الجنة
١ المجاز ٢/١٧٠..
٢ في ب: دعا. وانظر: زاد المسير ٧/٦٠ والقرطبي ١٥/٨٣، ٨٤..
وقال :﴿ أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ ﴾ قال بعضهم : إن أهل الجنة لا يعلمون في أول دخولهم الجنة أنهم لا يموتون فإذا جيء بالموت على صورة كَبْشٍ أمْلَحَ وذُبحَ يقول أهل الجنة للملائكة :«أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ » ؟ فتقول الملائكة : لا. فعند ذلك يعلمون أنهم لا يموتون. وعلى هذا فالكلام حصل قبل ذبح الموت١. وقيل : إن الذي تكاملت سعادته إذا عظم تعجُّبُهُ بها يقول ذلك. والمعنى أهذا لي على جهة الحديث بنعمة الله عليه٢، وقيل : يقوله المؤمن لقرينِهِ توبيخاً له بما كان ينكره. ٣
قوله :﴿ بِمَيِّتِينَ ﴾ قرأ زيدٌ بنُ علي بمَائِتين٤، وهما مثل ضَيِّق، وضاَئِق كما تقدم٥، وقوله «أَفَمَا » فيه الخلاف المشهور، فقدَّره الزمخشري أَنَحْنُ مُخَلَّدُونَ مُنَعَّمُونَ فما نحن بميتين٦، وغيره يجعل الهمزة متقدمة على الفاء.
١ ذكره الكلبي. وانظر: تفسير العلامة ابن الجوزي ٧/٦٠، ٦١..
٢ السابق..
٣ السابق: ونسب هذا القول إلى الثعلبي..
٤ هذه القراءة نسبها أبو حيان في البحر ٧/٣٦٢ ولم ينسبها الزمخشري كعادته في الكشاف انظر: الكشاف ٣/٣٤١ وانظر: الدر المصون ٤/٥٥٦..
٥ من قوله تعالى: ﴿فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك﴾ [هود: ١٢] وهي من القراءات الشاذة أقصد قوله: "بمائتين"..
٦ الكشاف ٣/٣٤١ فهو ومن تبعه يقدرون محذوفا حتى يقولوا إن الهمزة في موضعها الأصلي فلم تتقدم على حرف العطف. وهذا غير مذهب سيبويه والجمهور الذين يقولون: إنها تتقدم على العاطف تنبيها على أصالتها في التصدير. (بتصرف من المغني ١٥، ١٦)..
قوله :﴿ إِلاَّ مَوْتَتَنَا ﴾ منصوب على المصدر، والعامل فيه الوصف قبله١، ويكون استثناء مُفرّغاً٢، وقيل : هو استثناء منقطع أي لكن الموتة الأولى كانت لنا في الدنيا٣. وهذا قريب في المعنى من قوله تعالى :﴿ لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى ﴾ [ الدخان : ٥٦ ]. وفيها هناك بحث حسن.
١ قاله ابن الأنباري في البيان ٢/٣٠٥ وأبو البقاء في التبيان ١٠٩٠ ومشكل الإعراب ٢/٢٣٧ والإعراب للنحاس ٣/٤٢٤..
٢ السمين ٤/٥٥٦..
٣ المشكل والإعراب والتبيان المراجع السابقة..
قوله :﴿ إِنَّ هذا لَهُوَ الفوز العظيم ﴾ وهذا قول أهل الجنة عند فراغهم من ( هذه )١ المحادثات.
١ سقط من ب..
وقوله :﴿ لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ العاملون ﴾ قيل : إنه من بقية كلامهم، وقيل : إنه ابتداء كلام من الله تعالى أي لمثل هذا النعيم الذي ذكرناه. ١
١ الدر المصون ٤/٥٥٦..
قوله: ﴿أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً﴾ أي أذلك الذي ذكره لأهل الجنة خيرٌ نزلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّوم. (فنزلاً) تمييز «لِخَيْرِ» والخيرية بالنسبة إلى ما اختاره الكفار على غيره والزقوم شجرة مسموة يخرج لها لبن متى مَسَّ جِسْمَ أحد تورم فمات. والتزقم البلع بشدة وجهد للأشياء الكريهة، وقول أبي جهل وهو العرب: لا نعرف الزقوم إلا بالتمر والزبد من العناد والكذب البحث.
312

فصل


لما ذكر ثواب أهل الجنة ووصفها وذكر مآكل أهل الجنة ومشاربهم وقال: «لِمثْلِ هذا فليعمل العاملون أتبعَهُ بقوله:» قُلْ «يا محمد أذلك خيرٌ أم شجرة الزقوم ليصير ذلك زاجراً لهم عن الكفر. وذكر مآكل أهل النار ومشاربهم. والنُّزُل الفضلُ الواسع في الطعام؛ يقال: طعام كثيرُ النُّزُلِ، و (استعير) للحاضر من الشيء؛ ويقال: أرسل الأميرُ إلى فلان نُزُلاً وهو الشيء الذي يحصل حال من نزل بسببه. وإذا عرف هذا فحاصل الرزق المعلوم لأهل الجنة اللذة والسرور وحاصل شجرة الزقوم الألم والغمُّ. ومعلوم أنه لا نسبة لأحدهما إلى الآخر في الجزائيَّة إلا أنه جاء هذا الكلام إما على سبيل السخرية بهم أو لأجل أن المؤمنين لما اختاروا ما أوصلهم إلى الرزق الكريم العظيم والكافرين اختاروا ما أوصلهم إلى العذاب الأليم قيل لهم ذلك توبيخاً لهم على اختيارهم.
قال الكلبي: لما نزلت هذه الآية ابن الزَّبَعْرَى: أكثر الله في بيوتكم الزقوم فإن أهل اليمن يسمون التّمر والزُّبْدَ بالزقوم فقال أبو جهل لجاريته: زَقِّمِينَا فأتته بزُبْد وتَمْرِ وقال تَزَقَّمُوا قال الواحدي: ومعلوم أن الله تعالى لم يرد بالزقوم ههنا التمر والزُبْد قال ابن دُرَيْدٍ لم يكن للزقُّوم اشتقاق من الزّقْم وهو الإفراط في أكل الشيء حتى يكره ذلك، يقال: بَاتَ فُلانٌ يَتَزقمُ وظاهر لفظ القرآن يدل على أنها شجرة كريهة الطعم منتنة الرائحة شديدة الخشونة موصوفة بصفات رديَّة وأنه تعالى يكره أهل النار على أكلها.
قوله: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ﴾ أي الكافرين وذلك أن الكفار لما سمعوا هذه الآية قولوا: كيف يكون في النار شجرة والنار تحرق الشجر؟ فأجيبوا: بأن خالق النار قادر على أنْ يمنع النار من إحراق الشجر؛ لأنه إذا جاز أن تكونَ في النار زبانية والله تعالى يمنع النار عن إحراقهم فَلِمَ لا يجوز مثله في هذه الشجرة؟
فمعنى كون شجرةِ الزقوم فتنةً للظالمين هو أنهم لما سمعوا هذه الآية وبقيت تلك الشبهةُ في قلوبهم وصارت سبباً لتماديهم في الكفر فهو المراد من كونها فتنةً لهم. أو بكون المراد صيرورةَ هَذِهِ الشجرة فتنةً لهم من النار لأنهم إذا كلفوا تناولها شق ذلك
313
عليهم فحينئذ يصير ذلك فتنةً في حقِّهم.
أو يكون المراد من الفتنة الامتحان والاختبار فإن هذا شيء بعيد عن العُرْف والعادة. وإذا ورد على سمع المؤمن فوض علمه إلى الله وإذا ورد على الزِّنْدِيقِ توسل به إلى الطَّعن في القرآن والنبوة. ثم إنه تعالى وصف هذه الشجرة بصفاتس الأولى قوله: ﴿إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ في أَصْلِ الجحيم﴾ قال الحسن: أصلها في قَعْر جهنم وأغصانها ترتفع إلى دَرَكَاتِهَا.
الصفة الثانية قوله: «طَلْعُها» أي ثمرها سمي طَلْعاً لطُلُوعه قال الزمخشري: الطَّلْعُ للنخلة فاستعير لما طلع من شجرة الزقوم من حملها إما استعارة لفظية أو معنوية، قال ابن قتيبة: سمي طلْعاً لطُلُوعِهِ كُلَّ سنة فلذلك قيل: طلع النخل لأول ما يخرج من ثمره.
قوله: ﴿رُءُوسُ الشياطين﴾ فيه وجهان:
أحدهما: أنه حقيقة، وأن رؤوس الشياطين شجرةٌ معينة بناحية اليمن تسمى الأستن قال النابغة:
٤٢١٣ - تَحِيدُ عَنْ أسْتن سُودٍ أَسَافِلُهَا مِثْل الإمَاءِ الغَوَادِي تَحْمِلُ الحُزَمَا
وهو شجر منكر الصورة سَمَّتْهُ العرب بذلك تشبيهاً برُؤوس الشياطين في القبح ثم صار أصلاً يشبه به. وقيل: الشياطين صنف من الحيات ولهن أعراف قال:
٤٢١٤ - عُجَيْزٌ تَحْلِفُ حِينَ أَحْلِفُ كَمِثْلِ شَيْطَانِ الْحَمَاطِ أَعْرَفُ
وقي: شجر يقال له: الصوم ومنه قول ساعدة بْن جُؤَيَّةَ:
314
فعلى هذا قد خوطبت العرب بما تعرفه، وهذه الشجرة موجودة فالكلام حقيقة، والثاني أنه من باب التخيل والتمثيل وذلك أنه كل ما يستنكر ويستقبح في الطباع والصورة يشبه بما يتخيله الوهم وإن لم يره والشياطين وإن كانوا موجودين غَيْرَ مَرئيِّين للعرب إلا أنه خاطبهم بما أَلِفُوهُ من الاستعارات التخييليه كقول امرئ القيس: [البسيط]
٤٢١٥ - مُوَكّلٌ بشُدُوفِ الصَّوْمِ يرْقُبُهَا مِنَ الْمَعَازِبِ مَخْطُوفُ الحَشَا زَرِمُ
٤٢١٦ - أَيَقْتُلُنِي وَالْمَشْرِفيُّ مُضَاجِعِي ومَسْنُونَةٌ رُزْقٌ رُزْقٌ كَأَنْيَابِ أَعْوَالِ
ولم ير أنيابها؛ بل ليست موجودة ألبتة، قال ابن الخطيب: وهذا هو الصحيح؛ وذلك أن الناس لما اعتقدوا في الملائكة كمال الفضل في الصورة والسيرة واعتقدوا في الشياطين نهاية القبح في الصورة والسير فكما حسن التشبيه بالملك عند إرادة الكمال والفضيلة في قول النساء: ﴿إِنْ هاذآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾ [يوسف: ٣١] فكذلك حَسُنَ التشبيه برؤوس الشياطين بالقبح وتشيوه الخلقة، ويؤكد هذا أن العقلاء إذَا رأوا شيئاً (شديد الاضطراب منكر الصورة قبيح الخلقة قالوا: إنه شيطان وإذا رأوا شيئاً) حَسَناً قالوا: إنه ملكٌ من الملائكة قال ابن عباس: هم الشياطين بأعيانهم شبه بها لقُبْحِهِ.
قوله: ﴿فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا البطون﴾ والمِلْءُ حَشْوُ الوِعَاء بما لا يحتمل الزِّيادة عليه.
فإن قيل: كيف يأكلونها مع نهاية خُشُونتها ونَتَنَيها ومرارة طعمها؟
فالجواب: أن المضطر ربما استروح من الضِّرَر بما يقاربه في الضرر فإذا جوعهم
315
الله الجُوعَ الشديد فزعوا إلى إزالة ذلك الجوع بتناول هذا الشيء. أو يقال: إن الزبانية يُكْرهُونَهم على الأَكل من تلك الشجرة تكميلاً لعذابهم.
قوله: ﴿ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ﴾ قرأ العامة بفتح الشين وهو مصدر على أصله.
وقيل: يُراد به اسم المفعول ويدل لَه قراءة شَيْبَانَ النَّحْوي لَشُوباً - بالضم - قال الزجاج: المفتوح مصدر، والمضموم اسم بمعنى المشوب كالنقض بمعنى المنقوض وعطف «بثُمَّ» لأحد معينين إما لأنه يؤخر ما يظنونه يُرْوِيهمْ من عطشهم زيادة في عذابهم فلذلك أتى «بِثُمَّ» المقتضية للتراخي، وإما لأن العادة تقضي بتَرَاخِي الشرب عن الأكل فعمل على ذلك المِنْوال وأما ملء البطن فيعقب الأكل فلذلك عطف على ما قبله بالفاء.
قال الزجاج: الشوب اسم عام في كل ما خلط بغيره، والشًّوْب الخلْط والمزج، ومنه شَابَ اللبنَ يَشوبُهُ أي خَلَطَهُ وَمَزَجَهُ والحميم: الماء الحار والمتناهي في الحرارة. و «مِنْ حَميم» صفة «لشوباً» واعلم أن الله تعالى وصف شرابهم في القرآن بأشياء منها: ﴿وَغَسَّاقاً﴾ [النبأ: ٢٥] ومنها: ﴿وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ﴾ [محمد: ١٥] ومنها المذكور في هذه الآية ولما ذكر الطعام بتلك الشناعة والكراهة وصف الشراب بما هو أشنع منه وسماه شِوْباً أي خَلْطاً ومَزْجاً من حميم من ماءٍ حار، فإذا أكلوا الزَّقُّومَ وشَرِبُوا عليه الحَمِيمَ فيشرب الحميم في بطونهم فيصير شوباً له.
قوله: ﴿إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ في أَصْلِ الجحيم﴾ قال مقاتل: أي بعد أكل الزقوم وشرب الحميم. وهذا يدل على أنهم عند شرب الحميم لم يكونوا في الجحيم وذلك بأن يكون
316
الحميم في موضع خارج عن الجحيم فهم يُورَدُونَ الحميم لأجل الشرب كما تُوردَ الإبلُ إلى الماء ثم يَرِدُونَ إلى الجحيم؛ ويدل عليه قوله: ﴿يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ﴾ [الرحمن: ٤٤] وقرأ ابن مسعود: «ثُمَّ إنَّ مَقِيلَهُمْ لإلَى الجَحِيم» «إنَّهُمْ أَلْفَوْا» وجدوا ﴿فَهُمْ على آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ﴾ قال الفراء: الإهراء الإسراع يقال: هَرَعَ وأَهْرَعَ إذا استحث والمعنى أنهم يتبعون آباءهم اتباعاً في سرعة كأنهم يزعجون إلى اتباع آبائهم. وقال الكلبي: يعملون مثل عملهم، ثم إنه تعالى ذكر لرسوله ما يسليه في كفرهم وتكذيبهم فقال: ﴿وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأولين﴾ من الأمم الخالية.
317
قوله :﴿ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ ﴾ أي الكافرين وذلك أن الكفار لما سمعوا هذه الآية قولوا : كيف يكون في النار شجرة والنار تحرق الشجر ؟ فأجيبوا : بأن خالق النار قادر على أنْ يمنع النار من إحراق الشجر ؛ لأنه إذا جاز أن تكونَ في النار زبانية والله تعالى يمنع النار عن إحراقهم فَلِمَ لا يجوز مثله في هذه الشجرة ؟
فمعنى كون شجرةِ الزقوم فتنةً للظالمين هو أنهم لما سمعوا هذه الآية وبقيت تلك الشبهةُ في قلوبهم وصارت سبباً لتماديهم في الكفر فهو المراد من كونها فتنةً لهم. أو بكون المراد صيرورةَ هَذِهِ الشجرة فتنةً لهم من النار لأنهم إذا كلفوا تناولها شق ذلك عليهم فحينئذ يصير ذلك فتنةً في حقِّهم.
أو يكون المراد من الفتنة الامتحان والاختبار فإن هذا شيء بعيد عن العُرْف والعادة. وإذا ورد على سمع المؤمن فوض علمه إلى الله وإذا ورد على الزِّنْدِيقِ توسل به إلى الطَّعن في القرآن والنبوة.
ثم إنه تعالى وصف هذه الشجرة بصفات الأولى قوله :﴿ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ في أَصْلِ الجحيم ﴾ قال الحسن : أصلها في قَعْر جهنم وأغصانها ترتفع إلى دَرَكَاتِهَا.
الصفة الثانية قوله :«طَلْعُها » أي ثمرها سمي طَلْعاً لطُلُوعه١. قال الزمخشري : الطَّلْعُ للنخلة فاستعير لما طلع من شجرة الزقوم من حملها إما استعارة لفظية أو معنوية٢، قال ابن قتيبة : سمي طلْعاً لطُلُوعِهِ كُلَّ سنة٣ فلذلك قيل : طلع النخل لأول ما يخرج من ثمره.
قوله :﴿ رُءُوسُ الشياطين ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنه حقيقة، وأن رؤوس الشياطين شجرةٌ معينة٤ بناحية اليمن تسمى الأستن قال النابغة :
٤٢١٣- تَحِيدُ عَنْ أسْتن سُودٍ أَسَافِلُهَا. . . مِثْل الإمَاءِ الغَوَادِي تَحْمِلُ الحُزَمَا٥
وهو شجر منكر الصورة سَمَّتْهُ العرب بذلك تشبيهاً برُؤوس الشياطين في القبح ثم صار أصلاً يشبه به. وقيل : الشياطين صنف من الحيات ولهن أعراف قال :
٤٢١٤- عُجَيْزٌ تَحْلِفُ حِينَ أَحْلِفُ. . . كَمِثْلِ شَيْطَانِ الْحَمَاطِ أَعْرَفُ٦
وقيل : شجر يقال له : الصوم ومنه قول ساعدة بْن جُؤَيَّةَ :
٤٢١٥- مُوَكّلٌ بشُدُوفِ الصَّوْمِ يرْقُبُهَا. . . مِنَ الْمَعَازِبِ مَخْطُوفُ الحَشَا زَرِمُ٧
فعلى هذا قد خوطبت العرب بما تعرفه، وهذه الشجرة موجودة فالكلام حقيقة، والثاني أنه من باب التخيل والتمثيل وذلك أنه كل ما يستنكر ويستقبح في الطباع والصورة يشبه بما يتخيله الوهم وإن لم يره والشياطين وإن كانوا موجودين غَيْرَ مَرئيِّين للعرب إلا أنه خاطبهم بما أَلِفُوهُ من الاستعارات التخييليه٨ كقول امرئ القيس :[ البسيط ]
٤٢١٦- أَيَقْتُلُنِي وَالْمَشْرِفيُّ مُضَاجِعِي. . . ومَسْنُونَةٌ زرْقٌ كَأَنْيَابِ أَغْوَالِ٩
ولم ير أنيابها ؛ بل ليست موجودة ألبتة، قال ابن الخطيب : وهذا هو الصحيح ؛ وذلك أن الناس لما اعتقدوا في الملائكة كمال الفضل في الصورة والسيرة واعتقدوا في الشياطين نهاية القبح في الصورة والسيرة فكما حسن التشبيه بالملك عند إرادة الكمال والفضيلة في قول النساء :﴿ إِنْ هذآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ ﴾ [ يوسف : ٣١ ] فكذلك حَسُنَ التشبيه برؤوس الشياطين بالقبح وتشويه الخلقة، ويؤكد هذا أن العقلاء إذَا رأوا شيئاً ( شديد١٠ الاضطراب منكر الصورة قبيح الخلقة قالوا : إنه شيطان وإذا رأوا شيئاً ) حَسَناً قالوا : إنه ملكٌ من الملائكة١١. قال ابن عباس : هم الشياطين بأعيانهم شبهه بها لقُبْحِهِ.
١ المرجع السابق..
٢ الكشاف ٣/٣٤٢..
٣ انظر: غريب القرآن له ٣٧٢ وتأويل المشكل له أيضا ٣٠٢ وانظر: القرطبي ١٥/٨٦..
٤ في السمين: شجر بعينه ووصفه اللسان بذلك ولم يحدد مكانه..
٥ من البسيط وهو له يصف ناقة تعدل في سيرها وتبعد عن هذا الشجر كأنها خائفة منه والأستن –كما جاء في اللسان- شجر يفشو في منابته ويكثر وإذا نظر إليه الناظر من بعد شبههه بشخوص الناس ولذلك يسمى برؤوس الشياطين. انظر اللسان: "س ت ن" ١٩٣٦ والدر المصون ٤/٥٥٦ وكامل المبرد ٣/١٩٣، وديوانه (٦٥)..
٦ رواية البيت هنا كما في البحر المحيط ٧/٣٦٣ والدر المصون ٤/٥٥٧ ورواه الفراء في المعاني: عنجرد تحلف.. إلخ. والحماط: شجر تألفه الحيات، وأعرف: ذو عرف والمراد بشيطان الحماط: الحية التي تسكنه. يهجو امرأته بأنها عنجرد أي عجوز شمطاء وهي خبيثة وداهية تشبه تلك الحية التي تسكن هذا الشجر. والشاهد: إطلاق العرب لفظ الشيطان على نوع معين من الحيات. بقي أن أقول: إن البيت من تمام الرجز ولم أعرف قائله. وانظر: معاني الفراء ٢/٣٨٧ واللسان عنجرد ٣١٢٣ والدر المصون ٤/٥٥٧ والبحر المحيط ٧/٣٦٣ والقرطبي ١٥/٨٧..
٧ من البسيط وهو مجهول القائل. والصوم شجر على شكل شخص الإنسان كريه المنظر جدا يقال لثمره رؤوس الشياطين ويعنى بها الحيات وأكثر ما ينبت في بلاد بني شبابة. والمعازب الأماكن البعيدة، والشدوف: الشخوص ومخطوف الحشا ضامره، وزرم: لا يثبت في مكان ومعناه أنه يرقب شخوص هذه الأشجار يحسبها ناسا وهو في خوف لا يكاد يستقر في مكان وأتى بالبيت يقول: إن رؤوس الشياطين يطلق على ثمر هذا الشجر المسمى بالصوم. وانظر: اللسان "ص و م" ٢٥٣٠ والبحر ٧/٣٦٣ وأمالي القالي ١/٢٥ والخصائص ٣/٧٩ وديوان الهذليين ١/١٩٤ وانظره هو وما قبله في مجمع البيان ٧/٩٦، وورد في مجمع البيان: المعارم: وهي النقط السوداء في أذن الشاة الضائنة وورد فيه يرقبه..
٨ الكشاف ٣/٣٤٣ والبحر ٧/٣٦٣..
٩ من الطويل والمشرفي نسبة إلى مشارف الشام كانت تصنع في قراها السيوف والمسنون المحدد المصقول. وشاهده بلاغي حيث شبه تشبيها وهميا وهو غير المدرك بإحدى الحواس الخمس فإن أنياب الغول مما لا يدركه الحس لدم تحققها. وانظر: دلائل الإعجاز ١٤٩ ومعاهد التنصيص ١/١٣٤ والبحر ٧/٣٦٣ وكامل المبرد ٣/٩٦ وفتح القدير للشوكاني ٤/٣٩٨ ومجمع البيان للطبرسي ٦٩٧ وديوانه ٣٣..
١٠ ما بين المعقوفتين كله ساقط من "ب" وهو في الرازي و "أ"..
١١ الرازي ٢٦/١٤٢ وانظر بيت امرىء القيس أيضا فيه وفي زاد المسير ٧/٦٣ واللسان: "غ و ل"..
قوله :﴿ فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا البطون ﴾ والمِلْءُ حَشْوُ الوِعَاء بما لا يحتمل الزِّيادة عليه. ١
فإن قيل : كيف يأكلونها مع نهاية خُشُونتها ونَتَنها ومرارة طعمها ؟
فالجواب : أن المضطر ربما استروح من الضِّرَر٢ بما يقاربه في الضرر فإذا جوعهم الله الجُوعَ الشديد فزعوا إلى إزالة ذلك الجوع بتناول هذا الشيء. أو يقال : إن الزبانية يُكْرهُونَهم على الأَكل من تلك الشجرة تكميلاً٣ لعذابهم.
١ قاله في اللسان: "م ل أ" ٤٢٥٢..
٢ في الرازي: استروح منه إلى ما يقاربه في الضرر..
٣ كذا في الرازي أيضا وفي ب تكيلا وانظر: الرازي ٢٦/١٤٢، ١٤٣..
قوله :﴿ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ ﴾ قرأ العامة بفتح الشين وهو مصدر على أصله.
وقيل : يُراد به اسم المفعول١. ويدل لَه قراءة شَيْبَانَ النَّحْوي٢ لَشُوباً - بالضم٣ - قال الزجاج : المفتوح مصدر، والمضموم اسم بمعنى المشوب كالنقض بمعنى المنقوض٤، وعطف «بثُمَّ » لأحد معينين إما لأنه يؤخر ما يظنونه يُرْوِيهمْ من عطشهم زيادة في عذابهم فلذلك أتى «بِثُمَّ » المقتضية للتراخي، وإما لأن العادة تقضي٥ بتَرَاخِي الشرب عن الأكل فعمل على ذلك المِنْوال وأما ملء البطن فيعقب الأكل فلذلك عطف على ما قبله بالفاء٦.
قال الزجاج : الشوب اسم عام في كل ما خلط بغيره٧، والشًّوْب الخلْط والمزج، ومنه شَابَ اللبنَ يَشوبُهُ أي خَلَطَهُ وَمَزَجَهُ والحميم : الماء الحار والمتناهي في الحرارة٨. و «مِنْ حَميم » صفة «لشوباً »٩ واعلم أن الله تعالى وصف شرابهم في القرآن بأشياء منها :﴿ وَغَسَّاقاً ﴾ [ النبأ : ٢٥ ] ومنها :﴿ وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ ﴾ [ محمد : ١٥ ] ومنها المذكور في هذه الآية١٠، ولما ذكر الطعام بتلك الشناعة والكراهة وصف الشراب بما هو أشنع منه وسماه شِوْباً أي خَلْطاً ومَزْجاً من حميم من ماءٍ حار، فإذا أكلوا الزَّقُّومَ وشَرِبُوا عليه الحَمِيمَ فيشرب١١ الحميم في بطونهم فيصير شوباً له.
١ الدر المصون ٤/٥٥٧..
٢ هو شيبان بن معاوية النحوي روى عن عاصم وعنه موسى بن هارون مات سنة ١٦٤ هـ. انظر: الغاية ١/٣٢٩..
٣ من الشواذ غير المتواترة. انظر: المحتسب ٢/٢٢٠ وابن خالويه ١٢٨..
٤ بالمعنى من المعاني له ٤/٣٠٧..
٥ في ب: تقتضي..
٦ انظر: الكشاف للزمخشري ٣/٣٤٣، والبحر ٧/٣٦٣..
٧ قال: أي الخلط ومزاجا ويقرأ: لشوبا من حميم، الشوب المصدر، والشوب الاسم والخلط المخلوط. ومعاني القرآن وإعرابه ٤/٣٠٧ وانظر أيضا المجاز ٢/١٧٠ وغريب القرآن لابن قتيبة ٣٧٢ واللسان: "ش و ب" ٢٣٥٥..
٨ السابق ١٠٠٨..
٩ قاله السمين ٤/٥٥٨..
١٠ وهو الشوب من الحميم..
١١ كذا هي هنا في أ وفي الرازي وفي ب فيشوب أي يشوب الزقوم بالحميم نعوذ بالله منهما..
قوله :﴿ ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم ﴾ قال مقاتل : أي بعد أكل الزقوم وشرب الحميم. وهذا يدل على أنهم عند شرب الحميم لم يكونوا في الجحيم وذلك بأن يكون الحميم في موضع خارج عن الجحيم فهم يُورَدُونَ١ الحميم لأجل الشرب كما تُوردَ الإبلُ إلى الماء ثم يَرِدُونَ٢ إلى الجحيم ؛ ويدل عليه قوله :﴿ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ ﴾ [ الرحمن : ٤٤ ] وقرأ ابن مسعود :«ثُمَّ إنَّ٣ مَقِيلَهُمْ لإلَى الجَحِيم »
١ قال صاحب اللسان: الورد النصيب من الماء وأورده الماء جعله يرده، والموردة مأتاة الماء، وقيل: الجادة قال طرفة:
كأن علوب النسع في دأباتها موارد من خلقاء في ظهر قردد
وفي الحديث: اتقوا البراز في الموارد أي المجاري والطرق. وانظر: اللسان "و ر د" ٤٨١١..

٢ كذا في النسختين وفي الرازي يوردون بالبناء للمجهول..
٣ لم أجدها في الشواذ ولا المتواتر وفي الكشاف ثم إن منقلبهم، ثم إن مصيرهم، ثم إن منقذهم، قراءات ٣/٣٤٣..
«إنَّهُمْ أَلْفَوْا » وجدوا ﴿ آباءهم ضالين فَهُمْ على آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ ﴾ قال الفراء : الإهراع الإسراع١ يقال : هَرَعَ وأَهْرَعَ إذا استحث٢. والمعنى أنهم يتبعون آباءهم اتباعاً في سرعة كأنهم يزعجون إلى اتباع آبائهم. وقال الكلبي : يعملون مثل عملهم،
١ معاني القرآن ٢/٣٨٧..
٢ اللسان: " ه ر ع" ٤٦٥٤ والغريب ٣٧٢ والقرطبي ١٥/٨٨ والمجاز ٢/١٧١..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦٩:«إنَّهُمْ أَلْفَوْا » وجدوا ﴿ آباءهم ضالين فَهُمْ على آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ ﴾ قال الفراء : الإهراع الإسراع١ يقال : هَرَعَ وأَهْرَعَ إذا استحث٢. والمعنى أنهم يتبعون آباءهم اتباعاً في سرعة كأنهم يزعجون إلى اتباع آبائهم. وقال الكلبي : يعملون مثل عملهم،
١ معاني القرآن ٢/٣٨٧..
٢ اللسان: " ه ر ع" ٤٦٥٤ والغريب ٣٧٢ والقرطبي ١٥/٨٨ والمجاز ٢/١٧١..

ثم إنه تعالى ذكر لرسوله ما يسليه في كفرهم وتكذيبهم فقال :﴿ وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأولين ﴾ من الأمم الخالية.
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُّنذِرِينَ﴾ فبين تعالى أن إرساله الرسل قد تقدم والتكذيب لهم قد سلف فوجب أن يكون له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أسوةٌ بهم حتى يصبرَ كما صبروا ويستمر على الدعاء إلى الله وإن تمردوا فليس عليه إلا البلاغ ثم قال: ﴿فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المنذرين﴾ الكافرين أي كان عاقبتهم العذابُ وهذا الخطاب وإن كان ظاهره مع الرسول - عليه (الصلاة و) السلام - إلا أن المقصودَ منه خطابُ الكفار لأنهم سمعوا بالأخبار ما جرة على قوم نوح وعادٍ وثمودَ وغيرهم من أنواع العذاب فإن لم يعلموا ذلك فلا أقل من ظنّ وخوف يحتمل أن يكون زاجراً لهم عن كفرهم.
قوله: ﴿إِلاَّ عِبَادَ الله﴾ استثناء من قوله: «المنذرين» استثناء منقطعاً لأنه وعيد وهم لم يدخلوا (في) هذا الوعيد وقيل: استثناء من قوله: ﴿وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأولين﴾
317
والمراد بالمُخْلَصِينَ: الموحدين نجوا من العذاب وتقدم الكلام على هذا الإخلاص في سورة الحِجْر عند قوله تعالى: ﴿إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين﴾ [الحجر: ٤٠].
318
ثم قال :﴿ فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المنذرين ﴾ الكافرين أي كان عاقبتهم العذابُ وهذا الخطاب وإن كان ظاهره مع الرسول - عليه ( الصلاة و ) السلام- إلا أن المقصودَ منه خطابُ الكفار لأنهم سمعوا بالأخبار ما جرى على قوم نوح وعادٍ وثمودَ وغيرهم من أنواع العذاب فإن لم يعلموا ذلك فلا أقل من ظنّ وخوف يحتمل أن يكون زاجراً لهم عن كفرهم١.
١ انظر الرازي ٢٦/١٤٣، ١٤٤..
قوله :﴿ إِلاَّ عِبَادَ الله ﴾ استثناء من قوله :«المنذرين » استثناء منقطعاً لأنه وعيد وهم لم يدخلوا ( في )١ هذا الوعيد٢، وقيل : استثناء من قوله :﴿ وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأولين ﴾٣. والمراد بالمُخْلَصِينَ : الموحدين نجوا من العذاب. وتقدم الكلام على هذا الإخلاص في سورة الحِجْر عند قوله تعالى :﴿ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين ﴾٤ [ الحشر : ٤٠ ].
١ سقط من ب..
٢ قاله أبو حيان في البحر ٧/٤٦٤ والسمين في الدر ٤/٥٥٨ والرازي في التفسير الكبير ٢٦/١٤٣..
٣ مع قوله: فانظر كيف كان عاقبة المنذرين فإنها كانت أقبح العواقب وأفظعها إلا عاقبة عباد الله المخلصين فإنها مقرونة بالخير والراحة. وقد قال بهذا الرازي ٢٦/١٤٤..
٤ وبين هناك معنى مخلصين بفتح اللام أي الذين أخلصهم الله واصطفاهم لعبادته وبين معنى مخلصين الموحدين كما تقدم أن قراءة المخلصين بالفتح قراءة نافع وأهل الكوفة حيث وقع سواء أكان في يوسف أو الحجر أو الصافات أو أي مكان في القرآن والباقون بالكسر بالبناء للفاعل، انظر: اللباب ٣/١١٧..
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ﴾ الآية. لما قال: ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين وقال: «فانظر كيف كان عاقبة المنذرين» أبتعه بشرح وقائع الأنبياءَ - عليهم (الصلاة و) السلام - فقال: «وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ» أي نادى ربه أن ينجيه مَعَ من نَجْا من الغَرق، وقيل: نادى ربه أي اسْتَنْصَرهُ على كفار قومه، فأجاب الله دعاءه.
قوله: ﴿فَلَنِعْمَ المجيبون﴾ جواب لقسم مقدر أي فوالله ومثله:
٤٢١٧ - لَعَمْرِي لَنِعْمَ السَّيِّدَانِ وُجدتُمَا.........................
والمخصوص بالمدح محذوف تقديره أي نَحْنُ أجَبْنَا دُعَاءه وأهلكنا قومه ﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الكرب العظيم﴾ واعلم أن هذه الإجابة كانت من النعم العظيمة وذلك من وجوه:
أحدهما: أنه تعالى عبر عن ذاته بصيغة الجمع فقال: ﴿وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ﴾ والقادر العظيم لا يليق به إلا الإحسان العظيم.
وثانيها: أنه أعاد صيغة الجمع في قوله: فلنعم المجيبون (من ذلك أيضاً يدل على تعظيم تلك النعمة لا سيما وقد وصف تلك الإجابة بأنها نعمة الإجابة.
وثالثها: أن الفاء في قوله: ﴿فَلَنِعْمَ المجيبون﴾ يدل على أن محصول هذه الإجابة
318
مرتب على ذلك النداء والحكم المرتب على الوصف المناسب يقتضي كونه معلّلاً به وهذا يدل على أن النداء بالإخلاص سبب لحصول الإجابة ثم إنه تعالى لما بين أنه نعم المجيب بين أن الإنعام حصل في تلك الإجابة بقوله: ﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الكرب العظيم﴾ والكرب: هو الخوف الحاصل من الغَرَقِ والكَرْب الحاصل من أذى قومه ﴿وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الباقين﴾ وذلك يفيد الحصر وذلك يدل على أن كل من سواه وسوى ذريته فقد فَنَوْا، قال ابن عباس: ذريته بنوه الثلاثة سام وحام ويافث. فسام أبو العرب وفارس وحام أبو السودان ويافث أبو الترك والخزر ويأجوج ومأجوج قال ابن عباس: لما خرج نوح من السفينة مات من كان معه من الرجال والنساء وإلا ولدَه ونسَاءَهُمْ.
قوله: ﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين﴾ أي أبقينا له ثناءً حَسَناً وذكراً جميلاً فيمن بعده من الأنبياء والأمم إلى يوم القيامة.
قوله: ﴿سَلاَمٌ على نُوحٍ﴾ مبتدأ وخبر، وفيه أوجه:
أحدهما: أنه مفسر «لِتَرَكْنَا».
والثاني: أنه مفسر لمفعوله، أي تركنا عليه ثناءً وهو هذا الكلام وقيل: ثَمَّ قول مقدر أي فَقُلْنَا سلامٌ.
وقيل: ضمن تركنا معنى قلنا، وقيل: سلط «تركنا» على ما بعده قال الزمخشري: وتركنا عليه في الآخرين «هذه الكلمة» وهي «سَلاَمٌ عَلَى نَوح» يعني يسلمون عليه تسليماً ويَدْعُونَ لَهُ، وهو من الكلام المحكيِّ كقولك: «قَرَأتُ سورة أَنْزَلْنَاهَا».
319
وهذا الذي قاله قولُ الكوفيين جعلوا الجملة في محل نَصْب مفعولاً بتركنا لا أنه ضمن معنى القول بل وعلى معناه بخلاف الوجه قبله. وهذا أيضاً من أقوالهم وقرأ عبد الله «سلاماً» وهو مفعول به «بتَرَكْنَا» و «كَذَلِكَ» نعت مصدر أو حال من ضمير كما تقدم تحريره.

فصل


المعنى: سلامٌ عليه في العالمين، وقيل: تركنا عليه في الآخرين أن يُصَلَّى عليه إلى يوم الدين ﴿إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين﴾ أي إنما خصَّصْنا نوحاً - عليه (الصلاة و) السلام - بهذه التشريفات الرفيعة من جعل الدنيا مملوءة من ذريته ومن تبقية ذِكْرِهِ الحَسَنِ في ألسنة العالمين لأجل كونه محسناً، ثم علل كونه محسناً بأنه كان عبداً مؤمناً.
320
ثم إنه تعالى لما بين أنه نعم المجيب بين أن الإنعام حصل في تلك الإجابة بقوله :﴿ وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الكرب العظيم ﴾. والكرب : هو الخوف الحاصل من الغَرَقِ والكَرْب الحاصل من أذى قومه١
١ قاله الإمام القرطبي في الجامع ١٥/٨٩..
﴿ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الباقين ﴾ وذلك يفيد الحصر وذلك يدل على أن كل من سواه وسوى ذريته فقد فَنَوْا، قال ابن عباس : ذريته بنوه الثلاثة سام وحام ويافث. فسام أبو العرب وفارس١، وحام أبو السودان٢ ويافث أبو الترك والخزر ويأجوج ومأجوج٣، قال ابن عباس : لما خرج نوح من السفينة مات٤ من كان معه من الرجال والنساء إلا ولدَه ونسَاءَهُمْ.
١ والروم..
٢ من المشرق إلى المغرب السند والهند والنوبة والزنج والحبشة والقبط والبربر وغيرهم. انظر المرجع السابق والسودان يوافق التفسير وفي ب السواد..
٣ والصقالبة. انظر: المرجع السابق وانظر: الرازي ٢٦/١٤٥ والخزر: قال عنه صاحب اللسان "جيل خزر العيون وفي حديث حذيفة: كأني بهم خنس الأنوف وخزر العيون، والخزرة انقلاب الحدقة نحو اللحاظ". انظر: اللسان "خ ز ر" ١١٤٨ وفي ب الخزرج لا الخزر..
٤ في ب: مرات. وهو تحريف..
قوله :﴿ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين ﴾ أي أبقينا له ثناءً حَسَناً وذكراً جميلاً فيمن بعده من الأنبياء والأمم إلى يوم القيامة١.
١ قاله الزجاج ٤/٣٠٨..
قوله :﴿ سَلاَمٌ على نُوحٍ ﴾ مبتدأ وخبر، وفيه أوجه :
أحدها : أنه مفسر «لِتَرَكْنَا ».
والثاني : أنه مفسر لمفعوله، أي تركنا عليه ثناءً وهو هذا الكلام١، وقيل : ثَمَّ قول مقدر أي فَقُلْنَا سلامٌ. ٢
وقيل : ضمن تركنا معنى٣ قلنا، وقيل : سلط «تركنا » على ما بعده٤. قال الزمخشري : وتركنا عليه في الآخرين «هذه الكلمة » وهي «سَلاَمٌ عَلَى نَوح » يعني يسلمون عليه تسليماً ويَدْعُونَ لَهُ، وهو من الكلام المحكيِّ كقولك :«قَرَأتُ سورة أَنْزَلْنَاهَا ». ٥
وهذا الذي قاله قولُ الكوفيين جعلوا الجملة في محل نَصْب مفعولاً بتركنا لا أنه ضمن٦ معنى القول بل هو على معناه٧ بخلاف الوجه٨ قبله. وهذا أيضاً من أقوالهم٩، وقرأ عبد الله «سلاماً »١٠ وهو مفعول به «بتَرَكْنَا »١١ و «كَذَلِكَ » نعت مصدر١٢ أو حال من ضمير١٣. كما تقدم تحريره.

فصل


المعنى : سلامٌ عليه في العالمين، وقيل : تركنا عليه في الآخرين أن يُصَلَّى عليه إلى يوم الدين١٤
١ قال بهذين الوجهين أبو البقاء في التبيان ١٠٩٠..
٢ السابق وهو رأي الكسائي وانظر: مشكل الإعراب ٢/٢٣٧، ٢٣٨ وتفسير النحاس ٤/٤٢٧..
٣ التبيان المرجع السابق..
٤ وهو قول الزمخشري في الكشاف ٣/٣٤٣..
٥ السابق وانظر الرأيين الأخيرين في القرطبي ١٥/٩٠ والرأي الأخير في البحر ٧/٣٦٤ والآراء كلها في السمين ٤/٥٥٨..
٦ في ب: يضمن..
٧ لم يتعرض أبو إسحاق الزجاج في كتابه إعراب القرآن ومعانيه لهذه القضية. ولقد نقل أبو جعفر النحاس في الإعراب ٣/٤٢٧ عن الكسائي كلاما حول هذه الآية قال: زعم الكسائي أن فيه تقديرين: أحدهما : وتركنا عليه في الآ