وفي سبب نزولها روى العوفي عنه ابن عباس: نزلت سورة النساء بالمدينة، وكذا روى ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير وزيد بن ثابت..
ﰡ
يدل على تأكيد الأمر في صلة الرحم، والمنع من قطيعتها، وهي اسم لكافة الأقارب من غير فرق بين المحرم٢ وغيره، وأبو حنيفة يعتبر الرحم المحرم في منع الرجوع في الهبة، ويجوز الرجوع في حق بني الأعمام، مع أن القطيعة موجودة والقرابة حاصلة، ولذلك تعلق بها الإرث والولاية وغيرهما من الأحكام، فاعتبار المحرم زيادة على نص الكتاب من غير مستند، وهم يرون ذلك نسخاً، سيما وفيه إشارة إلى التعليل بالقطيعة، وقد جوزها في حق بني الأعمام وبني الأخوال والخالات.
والأرحام: جمع رحم وهو في الأصل مكان تكون الجنين في بطن أمه، ثم أطلق على القرابة مطلقا.
(واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام): تكرير للأمر وتذكير ببعض آخر من موجبات الامتثال له، فإن سؤال بعضهم بعضا بالله تعالى بأن يقولوا: أسألك بالله، وأنشدك بالله، على سبيل الاستعطاف، يقتضي الاتقاء من مخالفة أوامره ونواهيه، وتعليق الاتقاء بالاسم لجليل لمزيد التأكيد والمبالغة في الحمل على الامتثال بتربية المهابة وإدخال الروعة، ولوقوع التساؤل به لا بغيره من أسمائه تعالى وصفاته..
٢ - يقول القرطبي: "اتفقت الملة على أن صلة الرحم واجبة وأن قطيعتها محرمة، وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأسماء وقد سألته ـ أأصل أمي ـ نعم صلي أمك"، فأمرها بصلتها وهي كافرة.
فلتأكيدها دخل الفضل في صلة الكافر..
وإنما قال الحسن ذلك لأن تعالى قال :﴿ وآتُوا اليَتامَى أمْوالهُم ﴾ إلى قوله ﴿ وَلا تأكُلوا أمْوالهُم إلى أمْوالِكُمْ ﴾، وكل ذلك بعد البلوغ لا يتقرر، والمعنى بقوله :﴿ وآتُوا اليَتامَى أمْوالهُمْ ﴾، أي أموالهم للأكل والشرب واللباس والثياب والمفارش والمساكن، فلما نزل ذلك، عزل أولياء اليتامى طعامهم من طعام اليتامى، وملابسهم من ملابس اليتامى، فجعل يفضل له من طعامه، فيحبس له حتى يأكله أو يفسد، فاشتد ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله صلى عليه وسلم، فنزل قوله تعالى :﴿ وَيَسْألونَكَ عَنِ اليَتامى قُلْ إصْلاحٌ لهُمْ خَيرٌ وإن تُخالطُوهُم فإخوانُكُمْ ﴾ الآية.
ويجوز أن يكون قول الله تعالى :﴿ وآتُوا اليَتامى أمْوالهُم ﴾ عنى به البالغ، وسمّي يتيماً لقرب عهده بالبلوغ، ولذلك قال :﴿ وآتُوا اليَتامَى أمْوالهُم ﴾.
والظاهر منه أنهم يؤتون أموالهم إيتاء لا بمعنى الإطعام والكسوة، ولكنه بمعنى تسليطه عليه، ونهى الولي عن إمساك ماله بعد البلوغ عنه، ولكن لم يشترط الرشد هاهنا، وشرط إيناس الرشد والابتلاء في قوله :﴿ وابْتَلُوا اليَتامَى حَتّى إذا بَلَغوا النِّكاحَ فإنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فادْفَعوا إلَيْهِمْ أمْوالهُمْ٣ ﴾، فكان ذلك مطلقاً وهذا مقيد.
وذكر الرازي في أحكام القرآن : أنه لما لم يُقيّد الرشد في موضع، وقُيِّد في موضع، وجب استعمالهما والجمع بينهما فأقول : إذا بلغ خمساً وعشرين سنة وهو سفيه لم يؤنس منه الرشد، وجب دفع المال إليه، وإن كان دون ذلك لم يجب عملاً بالآيتين، وهذا في غاية البعد، فإنه تعالى قال :﴿ وابْتَلُوا اليَتامَى حَتّى إذا بَلَغُوا النِّكاحَ ﴾، ذلك يقتضي اعتياد إيناس الرشد عقيب بلوغ النكاح من غير تطاول المدة.
وقوله تعالى :﴿ وآتُوا اليَتامَى أمْوالهُمْ ﴾ يقتضي مثل ذلك، فإن اسم اليتيم إنما يطلق على قبل البلوغ حقيقة، وعلى قرب العهد بالبلوغ مجازاً، فإما أن يقال : إنه يتناول ابن خمس وعشرين سنة فصاعداً إلى مائة، وهو جهل عظيم.
والعجيب أن أبا حنيفة إنما أطلق الحجر، لأنه قال قد بلغ أشده وصار يصلح أن يكون جداً، فإذا صار يصلح أن يكون جداً، فكيف يصح إعطاؤه المال بعلة اليتم، وباسم اليتم، وهل ذلك إلا في غاية البعد٤.
الثاني: الإيتاء بالتمكن وإسلام المال إليه، وذلك عند الابتلاء والإرشاد..
٢ - سورة البقرة، آية ٢٢٠..
٣ - سورة النساء، آية ٦..
٤ - انظر روائع البيان ج١ ص٤٢٥..
قال عروة : قالت عائشة - رضي الله عنها - : وإن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية، فأنزل الله :﴿ وَما يُتْلى عَلَيْكُم في الكِتابِ في يَتامَى النِّساءِ ﴾. . إلى قوله :﴿ وَتَرْغَبُونَ أنْ تَنْكُحوهُنَّ٥ ﴾.
قالت : والذي ذكر الله تعالى أنه يتلى عليكم في الكتاب الآية الأولى التي فيها :﴿ وإنْ خِفْتُم ألاَّ تُقْسِطوا في٦ ﴾. . وقوله في الآية الأخرى :﴿ وتَرْغَبونَ أنْ تَنْكِحوهُنَّ ﴾، رغبة أحدكم عن يتيمته التي هي في حجره حين تكون قليلة المال والجمال، فنهوا٧ أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء، إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن، وهذا ما أورده البخاري في صحيحه٨، وفيه دلالة على أن اليتيمة يجوز تزويجها٩.
وروي عن سعيد بن جبير والضحاك والربيع غير هذا التأويل، وهو أن معنى الآية : كما خفتم في حق اليتامى فخافوا في حق النساء الذي خفتم في اليتامى ألا تقسطوا١٠ فيهن، وروي عن مجاهد :﴿ وإنْ خِفْتُم ألاَّ تُقْسِطوا ﴾، أي تحرجتم من أكل أموالهم، فتحرجوا من الزنا وانكحوا نكاحاً طيباً مثنى وثلاث ورباع.
والمشكل أن عائشة رضي الله عنها قالت : نزلت هذه الآية في ذلك، وذلك لا يقال بالرأي وإنما يقال توفيقاً، ولا يمكن أن يحمل على الجد، لأنه لا يجوز له نكاحها، فعلم أن المراد له ابن العم ومن هو أبعد منه من سائر الأولياء، ويمكن أن يحمل على البالغة لأن عائشة رضي الله عنها قالت : ثم إن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية فأنزل الله تعالى :﴿ وَيَسْتَفْتُونَكَ في النِّساءِ -إلى قوله - في يَتامَى النِّساءِ١١ ﴾، والصغار لا يسمون نساء١٢.
فإن قيل : قوله :﴿ وإنْ خِفْتُمْ أنْ لا تقسِطُوا في اليَتامَى ﴾ حقيقة في الصغيرة بدليل عليه السلام :" لا يتم بعد حلم١٣ " واسم النساء يتناول الصغيرة في قوله :﴿ فانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ١٤ ﴾، ﴿ وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤكُمْ مِنَ النِّساءِ١٥ ﴾، ﴿ وأمّهاتُ نِسائِكُمْ١٦ ﴾، ويقال في الجواب عنه : إن اسم النساء في قبيل الإناث، كاسم الرجال في قبيل الذكور، واسم الرجل لا يتناول الصغير، فاسم النساء والمرأة لا يتناول الصغيرة والصغائر، وفي الإناث التي وقع الاستشهاد بها، يمكن أن يكون اللفظ لغير الصغيرة، ولكن يثبت مثل ذلك الحكم في الصغيرة بدلالة الإجماع.
وقول القائل : اسم اليتيم لا يتناول ما بعد البلوغ، فهو مسلم من حيث الحقيقة، غير أنه يطلق مجازاً، بدليل أنه ذكر النساء، ولا يمكن تعطيل لفظ النساء الذي هو حقيقة في البالغات١٧. . فإن قيل : فالبالغة يجوز التزوج بها بدون مهر المثل برضاها، فأي معنى لذلك الجواب ؟
يقال إن معناه أن يستضعفها الولي ويستولى على مالها، وهي لا تقدر على مقاومته، ولذلك قال :﴿ إلاَّ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ والنِّساءِ والوِلَدانِ١٨ ﴾.
ولما ثبت أن المراد باليتيمة البالغة، ولم يكن في كتاب الله دلالة على جواز تزويج الصغيرة، لا جرم صار ابن شبرمة إلى أن تزويج الآباء للصغار لا يجوز، وهو مذهب الأصم، لأن نكاح الصغيرة يتخير١٩ بتفويت من غير تعجيل مصلحة، على ما قررناه في تصانيفنا في مسائل الخلاف، وإذا ثبت ذلك فلا يجوز ذلك تلقياً من القياس ولا توقيفاً.
وقد قال قائلون : بل في كتاب الله ما يدل على جواز تزويج الصغيرة، فإن الله تعالى يقول :﴿ واللاّئي يَئِسْنَ مِنَ المَحِيضِ مِنْ نِساءِكُمْ إن ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتهُنَّ ثلاثَةَ أشْهُرٍ واللاَئي لَمْ يَحِضْنَ٢٠ ﴾، فحكم بصحة طلاق الصغيرة التي لم تحض، والطلاق لا يقع إلا في نكاح صحيح، وهذا لا دافع له إلا أن يقال : النكاح في حق الصغيرة، إن لم يتصور، فالوطء الموجب للعدة متصور، وليس في القرآن ذكر الطلاق في حق الصغيرة، إنما فيه ذكر العدة، والعدة تجب بالوطء، والوطء متصور في النكاح الفاسد، وعلى حكم الشبهة في حق الأمة تزوجها مولاها وهي صغيرة فتوطأ.
والاعتماد على ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج عائشة رضي الله عنها وهي بنت ست سنين، زوجها أبوها أبو بكر٢١، وربما يقولون : لا يحتج بما كان في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن نكاح رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفتقر إلى الولاء. . وعماد كلامهم أن تزويج الصغيرة يتخير بتفويت في مقابلة نجاح موهوم، ولا يتحقق ذلك في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا لا يتوقع فوات مصلحة الصغيرة من نكاح رسول الله صلى الله عليه وسلم. . وقد يقال في الجواب عن ذلك : إن المرأة ربما أرادت الدنيا بعد البلوغ، وأرادت التفرغ إلى نفسها ولم ترد زوجاً فالتوقع قائم٢٢.
ويمكن أن يقال : إن نكاح الصغيرة ليس بعيداً عن المصلحة، ولذلك اطردت به العادة واستمرت عليه العامة، فإن المقصود منه الألفة، فإذا ألفيت المرأة صغيرة لم تمارس الرجال ولم تعرف الهوى، ترسخت المودة بينهما، فقد قيل في المثل : ما الحب إلا للحبيب الأول. .
والشاعر يقول :
عرفت هواها قبل أن أعرف الهوى | فصادف قلباً فارغاً فتمكنا |
فإن قيل : فلفظ التخيير قد عدم هاهنا، وإنما ذكر لفظ الجمع، ولم يكن كقوله :﴿ فَكَفّارَتُهُ إطْعامُ عَشَرَةِ مَساكينَ مِنْ أوْسَطِ ما تُطْعِمونَ أهْلِيكُمْ أوْ كِسْوَتهِمْ أوْ تَحْرِيرُ رَقَبَة٢٥ ﴾. . قيل : ذلك لأن الله تعالى إنما أراد به بيان الأصلح لعباده، بالإضافة إلى أحوالهم، فإن أمكنه أن يعدل في الأربع نكح الأربع وإلا نكح الثلاث وإلا نكح المثنى، فإن خاف ألا يعدل فواحدة، فتقديره : ثلاث ورباع في حالة، وهذا يرد عليه أن في أي وقت قدرتموه، فقد جاز له نكاح الأربع، فلا معنى لتقدير ذلك.
وقد قيل : الواو على حقيقتها ولكنه على وجه البدل، كأنه قال : ثلاث بدلاً من مثنى، ورباع بدلاً من ثلاث، لا على الجمع بين الأعداد، ومن قال هذا قال : لو قيل بأو لجاز أن لا يكون الثلاث لصاحب المثنى، ولا الرباع لصاحب الثلاث، فأفاد بذكر الواو إباحة الأربع لكل واحد ممن دخل في الخطاب، وأيضاً فإن المثنى دخل في الثلاث، والثلاث دخل في الرباع، إذا لم يثبت أن كل واحد من الأعداد مراد مع الأعداد الأخر على وجه الجمع فيكون تسعة، هذا كقوله :﴿ قُلْ أئنّكُمْ لَتَكْفُرونَ بالّذي خَلَقَ الأرْضَ في يَوْمَينِ وتجْعَلونَ لَهُ أنْدَاداً ﴾ إلى قوله ﴿ قَدَّرَ فيها أقْواتها في أرْبَعَةِ أيّامٍ سَواءً لِلسّائِلِينَ٢٦ ﴾، والمعنى في أربعة أيام باليومين المذكورين بدءاً، ثم قال :﴿ فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ في يَوْمَينِ٢٧ ﴾، ولو أن ذلك كذلك لصارت الأيام كلها ثمانية، وقد علم أن ذلك ليس كذلك. لقوله تعالى :﴿ خَلَقَ السّماواتِ والأرْضَ في سِتّةِ أيّامٍ٢٨ ﴾، فذلك المثنى داخل في الثلاث، والثلاث في الرباع، فيكون الجميع أربعاً، وهذا ما عليه جمهور العلماء.
ثم هذا العدد في الأحرار دون العبيد، فإن سياق الكلام يدل عليه، وهو قوله :﴿ فانْكِحُوا ما طابَ لَكُم ﴾، والعبد لا يملك النكاح بنفسه، لتوقف نكاحه على إذن مولاه، ولأن الأصل امتناع النكاح في حق العبد، لمنافاة الرق الاستقلال بالملك، غير أن الشرع أباح له لمكان الحاجة، فكان الأصل الاقتصار على الواحد، غير أنه جعل مشطراً، والزيادة عليه تعنت على أصل المنع٢٩.
قوله تعالى :﴿ فإنْ خِفْتُمْ ألاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدةً ﴾٣٠ الآية [ ٣ ] : فالمراد به العدل في القسم بينهن كما قال تعالى في آية أخرى :﴿ وَلَنْ تَسْتَطِيعوا أنْ تَعْدِلُوا بَيْنّ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَميلُوا كُلَّ المَيْلِ٣١ ﴾، والمراد به ميل القلب والعدل الذي يمكنه فعله ويخاف ألا يفعل لإظهار الميل بالفعل، فيجب عليه الاقتصار على الواحدة إذا خاف إظهار الميل والجور ومجانية العدل.
ثم قال :﴿ أوْ ما مَلَكَتْ أيْمانُكُمْ ﴾ الآية [ ٣ ] : فدل ذلك على أن لا عدد في ملك اليمين، ولا وجوب القسم والعدل فيهن، فإنه تعالى قال :﴿ فإنْ خِفْتُمْ ألا تَعْدِلوا فَواحِدَةً ﴾ يزول له الخوف من الميل، ﴿ أوْ ما مَلَكَتْ أيْمانُكُمْ ﴾ فإنه لا يجب فيهن العدل.
وظن قوم أن المراد به العطف على قوله :﴿ فانْكَحُوا ﴾ وتقديره : فانكحوا ما طاب لكم من النساء أو ما ملكت أيمانكم، وهذا يدل عند هذا القائل على أنه يجوز التزويج بأربع إماء، كما جاز التزويج بأربع حرائر. وهذا فيه نظر، لأن العطف رجع إلى أقرب مذكور، والمذكور آخر قوله تعالى :﴿ فإنْ خِفْتُمْ ألاّ تَعْدِلوا فَواحِدَةً أوْ ما مَلَكَتْ أيْمانُكُم ﴾، وذلك يقتضي أن يكون الذي يعدل إليه خيفة الحيفة وترك العدل، لا يجب فيه مراعاة العدل، وذلك ملك اليمين.
فإن قيل : الضمير المتقدم هو النكاح، وقوله :﴿ أوْ ما مَلَكَتْ أيْمانُكُمْ ﴾، لا يستقل بنفسه، فلا بد من عطف على ضمير متقدم ولا متقدم إلا النكاح.
وإذا قلتم المراد به :﴿ أوْ ما مَلَكَتْ أيْمانُكُمْ ﴾ لم يستقم إثبات ضمير الفعل المتقدم في هذا المحل، فإنه لا نكاح في ذلك اليمين. . والجواب عنه : أن العطف على ما ذكره أخيراً من تحريم إظهار الميل، وأنه إذا كان يخلص بواحدة أو بملك يمين، ويدل على ذلك أنه لو رجع ذلك إلى نكاح الإماء كان تقدير الكلام : فانكحوا ما طاب لكم من النساء، أو انكحوا ما ملكت أيمانكم، وذلك يقتضي الجمع بينهما، والجمع ممتنع محرم جميعاً.
وليس يمكن أن يقال : إنه قال :﴿ فانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ﴾، ولم تدخل فيه الإماء، ثم قال :﴿ أوْ ما مَلَكَتْ أيْمانُكُمْ ﴾ على البدل من النساء، فإن ذلك مكروه بالإجماع، وقد بين الله خلافه في موضع آخر فقال :﴿ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أنْ يَنْكَحَ المُحْصَناتِ المُؤمِناتِ فَمِمّا مَلَكَتْ أيْمانُكُمْ٣٢ ﴾، وأبان اشتراط خوف العنت، فيكون مبينا
٢ - أي من طيب لنفوسكم من جهة الجمال أو الحسن أو العقل أو الصلاح منهن.
ومعنى الآية: وإن خفتم يا أولياء اليتامى أن لا تعدلوا فيهن إذا نكحتموهن، بإساءة العشرة أو بنقص الصداق، فانكحوا غيرهن من الغريبات فإنهن كثير ولم يضيق الله عليكم.
فالآية للتحذير من التورط في الجور عليهن والأمر بالاحتياط، وإن في غيرهن متسعا إلى الأربع..
٣ - ما معنى قوله تعالى (مثنى وثلاث ورباع)؟.
اتفق العلماء على أن هذه الكلمات من ألفاظ العدد، وتدل كل واحدة منها على المذكور من نوعها، فمثنى تدل على اثنين اثنين، وثلاث تدل على ثلاثة ثلاثة، ورباع تدل على أربعة أربعة، والمعنى: أنكحوا ما اشتهت نفوسكم من النساء ثنتين ثنتين وثلاثا ثلاثا، وأربعا أربعا حسبما تريدون.
انظر: روائع البيان ج١ ص٤٢٦ – ٤٢٧، ومحاسن التأويل ج٥ ص١١٩ للقاسمي..
٤ - رواه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي..
٥ - سورة النساء، آية ١٢٧..
٦ - وعلى هذا فإن الآية: دلت على أنه يجب بالنكاح حقوق.
انظر تفسير القاسمي ج٥ ص١١١٨..
٧ - يقول ابن حجر: "نهوا عن نكاح المرغوب فيها لجمالها ومالها لأجل زهدهم فيها إذا كانت قليلة المال والجمال، فينبغي أن يكون نكاح اليتيمتين على السواء في العدل" أهـ..
٨ - انظر فتح الباري للبخاري، ج٩ ص٣٠٩..
٩ - وفي الحديث أيضا: اعتبار مهر المثل في المحجورات، وأن غيرهن يجوز نكاحها بدون ذلك.
وفيه: أن للولي أن يتزوج من هي تحت حجره لكن يكون العاقد غيره.
وفيه جواز تزويج اليتامى قبل البلوغ لأنهن بعد البلوغ لا يقال لهن يتيمات إلا أن يكون أطلق استصحابا لحالهن" أهـ.
قاله ابن حجر في الفتح:.
١٠ - ومعنى تأويل سعيد بن جبير هو: أن الآية نزلت في الغنية والمعدمة" انظر فتح الباري ج٩ ص٣٠٩..
١١ - والحديث أخرجه الإمام مسلم في صحيحه والإسماعيلي، والنسائي في سننه..
١٢ - انظر القرطبي ج٥ ص١٣..
١٣ - هذه الرواية أخرجها البزار، وأخرجه أبو داود في سننه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه..
١٤ - سورة النساء، آية ٣..
١٥ - سورة النساء، آية ٢٢..
١٦ - سورة النساء، آية ٢٣..
١٧ - انظر الجصاص ج٢ ص٣٤٢..
١٨ - سورة النساء، الآية ٩٨..
١٩ - أي يختار، والمراد يتم ويتحقق، إذا اخترنا القول بصحته بتفويت حقها في الاختيار عن رضا واقتناع بعد البلوغ، وفي المبسوط بسط لرأي ابن شبرمة والأصم، أنه لا يزوج الصغير والصغيرة حتى يبلغا ببيان السبب فيه، وهو قوله تعالى: (حتى إذا بلغوا النكاح)، فلو جاز التزويج قبل البلوغ لم يكن لهذا فائدة، ولأن ثبوت الولاية على الصغير لحاجة المولى عليه، حتى أن فيما لا تتحقق فيه الحاجة لا تثبت الولاية كالتبرعات، ولا حاجة بهما إلى النكاح، لأن مقصود النكاح طبعا هو قضاء الشهوة، وشرعا النسل، والصغر ينافيهما، ثم هذا العقد يعقد للعمر وتلزمهما أحكامه بعد البلوغ..
٢٠ - سورة الطلاق، الآية ٤..
٢١ - هكذا أثبت المؤلف في هذه النسخة ولكن الحديث الصحيح الذي أخرجه النسائي يقول: تزوج صلى الله عليه وسلم بعائشة وهي بنت سبع سنين وبنى بها وهي بنت تسع سنين..
٢٢ - قال في المبسوط بعد ذكر الأدلة على جواز تزويج الولي الصغير: والمقصود أن النكاح من جملة المصالح وضع في حق الذكور والإناث جميعا، وهو يشتمل على أغراض ومقاصد لا يتوفر ذلك إلا بين الأكفاء، والكفء لا ينفق في كل وقت، فكانت الحاجة ماسة إلى إثبات الولاية للولي في صغرها، ولأنه لو انتظر بلوغها لفات ذلك الكفء ولا يوجد مثله، ولما كان هذا العقد للعمر تتحقق الحاجة إلى ما هو من مقاصد هذا العقد، فتجعل تلك الحاجة كالمتحققة للحال لإثبات الولاية للولي، ثم في الحديث (زواج عائشة) بيان أن الأب إذا زوج ابنته لا يثبت لها الخيار إذا بلغت، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخيرها، ولو كان الخيار ثابتا لها لخيرها، كما خير عند نزول آية التخيير.
وليس في ذلك غبن لها فإنها إن كرهت الزواج أو لم ترض بالزواج كان حالها حال الزوجة التي كرهت زوجها فلها حق الخلع، ولها حق الاحتكام للحاكم في طلب الطلاق للحكم بما يراه في حدود الدين..
٢٣ - مسألة تعدد الزوجات ـ كما يقول صاحب روائع البيان ـ ضرورة اقتضتها ظروف الحياة. وهي ليست تشريعا جديدا انفرد به الإسلام، وإنما جاء الإسلام فوجده بلا قيود ولا حدود، وبصورة غير إنسانية، فنظمه وشذبه وجعله دواء وعلاجا لبعض الحالات الاضطرارية التي يعاني منها المجتمع، جاء الإسلام والرجال يتزوجون عشرة نسوة أو أكثر أو أقل ـ كما جاء في حديث غيلان حين أسلم، وتحته عشرة نسوة ـ بدون حد ولا قيد، فجاء ليقول للرجال: إن هناك حدا لا يحل تجاوزه هو (أربع، وأن هناك قيدا أو شرطا لإباحة هذه الضرورة هي العدل بين الزوجات)، فإذا لم يتحقق ذلك وجب الاقتصار على واحدة، (فواحدة أو ما ملكت أيمانكم).
فهو إذاً نظام قائم وموجود منذ العصور القديمة، ولكنه كان فوضى فنظمه الإسلام، وكان تابعا للهوى والاستمتاع باللذائذ، فجعله الإسلام سبيلا للحياة الفاضلة الكريمة.
والحقيقة التي ينبغي أن يعلمها كل إنسان، أن إباحة تعدد الزوجات مفخرة من مفاخر الإسلام، لأنه استطاع أن يحل مشكلة عويصة من أعقد المشاكل، تعانيها الأمم والمجتمعات اليوم، فلا تجد لها حلا إلا بالرجوع إلى حكم الإسلام، وبالأخ بنظام الإسلام.
إن هناك أسبابا قاهرة تجعل التعدد ضرورة: كعقم الزوجة، ومرضها مرضا يمنع زوجها من التحصن، وغير ذلك من الأسباب التي لا نتعرض لذكرها الآن، ولكن نشير إلى نقطة هامة يدركها المرء ببساطة.
تقول أستاذة ألمانية في الجامعة:
"إن حل مشكلة المرأة الألمانية هو في إباحة تعدد الزوجات، إنني أفضل أن أكون زوجة مع عشر نساء لرجل ناجح، على أن أكون الزوجة الوحيدة لرجل فاشل تافه، إن هذا ليس رأيي وحدي بل هو رأي كل نسال ألمانيا".
اختارت الأستاذة الألمانية التي يحرم دينها التعدد: فلم تجد خبرة لها إلا ما اختاره الإسلام، فأباحت تعدد الزوجات رغبة في حماية المرأة الألمانية من احتراف البغاء، وما يتولد عنه من أضرار فادحة. وفي مقدمتها كثرة اللقطاء".
وانظر بحثا ممتعا للشيخ محمد رشيد رضا في تفسير المنار عند هذه الآية..
٢٤ - انظر القرطبي ج٥ ص١٧..
٢٥ - سورة المائدة، آية ٨٩..
٢٦ - سورة فصلت، آية ٩-١٠..
٢٧ - سورة فصلت، آية ١٢..
٢٨ - سورة الأعراف، آية ٥٤، وسورة يونس، آية ٣، والآية ٧ من سورة هود..
٢٩ - انظر الطبري ج٥ ص٢٢..
٣٠ - انظر روائع البيان ج٥ ص١١٢١..
٣١ - سورة النساء، آية ١٢٩..
٣٢ - سورة النساء، آية ٢٥..
والخطاب يدل على الأزواج، ونهيهم عن منع الصداق عنهم، وعلى الولي الذي يأخذ المهر ولا يعطيها٣، مع أن ما تقدم من قوله :﴿ فانكِحوا ﴾ يدل على أنه خطاب للأزواج، وإذا كان خطاباً للأزواج فيجوز أن يقال سمي نحلة، والنحلة في الأصل العطية، وإنما سماه عطية، لأن الزوج لا يملك من بدله شيئاً، فكان ذلك ترغيباً في إبقاء صداقها وسياقة مهرها إليها على قدر مئونة، ظاناً أن ذلك منه نحلة، ولا تعطوهن المهور كارهين، ظانين أن ذلك غرامة، ولكن لتكون أنفسهم طيبة به.
قوله تعالى :﴿ فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شيءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلوهُ٤ هَنيئاً مَرِيئاً ﴾ [ ٤ ] : وذلك يدل على أن للمرأة هبة الصداق من زوجها، بكراً كانت أو ثيباً، خلافاً لمالك، فإنه منع من هبة البكر الصداق من زوجها، وجعل ذلك الولي، مع أن الملك لها، وذلك في غاية البعد.
قوله تعالى :﴿ فَكُلُوهُ هَنيِئاً مَرِيئاَ٥ ﴾ : ليس المقصود صورة الأكل، وإنما المراد به الاستباحة بأي طريق كان، وهو المعنى بقوله تعالى في الآية التي بعدها :﴿ إنَّ الّذينَ يأكُلُونَ أمْوالَ اليَتامَى ظُلْماً٦ ﴾، وليس المراد نفس الأكل، إلا أن الأكل لما كان أو في أنواع التمتع بالمال، عُبر عن التصرفات بالأكل، فهذا ما سبق إلى الفهم، وعلم أن الأكل بصورته ليس معنياً، ومثله قوله تعالى :﴿ إذا نُودِيَ للصَلاةِ مِنْ يَومِ الجُمعةِ فاسْعَوا إلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا البَيْعَ٧ ﴾ : يعلم أن صورة البيع ليست مقصودة، وإنما المقصود ما يشغله عن ذكر الله تعالى، مثل النكاح وغيره، ولكن ذلك البيع لأنه أهم ما يشتغل به عن ذكر الله تعالى، فيكون معنى سابقاً إلى الفهم، ونظائره كثيرة في الكتاب والسنة٨.
وقوله تعالى :﴿ وآتُوا النساءَ صَدَقاتهِنَّ نحْلَةً ﴾ مع قوله :﴿ فإنْ طِبنَ لَكُم عَن شيءٍ مِنْهُ ﴾ : يدل على أنه أراد : فإن طبن قبل أن تؤتوهن صدقاتهن نحلة، وذلك الإبراء، فدل ذلك على أن من وهب لإنسان ديناً له عليه أن البراءة قد وقعت بنفس الهبة٩.
وقوله تعالى :﴿ فإنْ طِبْنَ لَكُمْ ﴾ : يدل على عموم الحكم في البكر والثيب.
٢ - سورة النساء، آية ١١..
٣ - انظر الطبري ج٤ ص٢٤٢..
٤ - الضمير للصدقات، وذكره لإجرائه مجرى ذلك، والمعنى: فإن أحللن لكم من المهر شيئا بطيبة النفس، جلب لمودتكم، لا لحياء عرض لهن منكم أو من غيركم، ولا لاضطرارهن إلى البذل من شكاسة أخلاقكم وسوء معاشرتكم، فخذوه وتصرفوا فيه..
٥ - أي فخذوه وتصرفوا فيه تملكا. وتخصيص الأكل لأنه معظم وجوه التصرفات المالية..
٦ - سورة النساء، آية ١٠ وتمام الآية: (إنما يأكلون في بطونهم وسيصلون سعيرا)..
٧ - سورة الجمعة، آية ٩..
٨ - وقد أوضح القرطبي في تفسيره هذه المسألة ج٥ ص٢٦ نقلا عن الكيا الهراس..
٩ - انظر الجصاص: ج٢ ص٣٥٢..
وقال ابن عباس : السفيه من ولدك وعيالك، وقال : المرأة من أسفه السفهاء، وفيه تنبيه عن النهي عن تضييع الأموال.
نعم الهبة على الأولاد والنسوان جائزة، ولكن لا بأن يجعل المال في أيديهم، ولكن بأن ينصب فيما عليهم في الموهوب منهم، وقد نهى الله تعالى عن التبذير، ومن التبذير تسليم المال إلى من ينفقه في غير وجهه،
والأولى أن يسلم ذلك إلى نائبه، أو يكون في يده وهو وليه، وإنما حكمهم على هذا التأويل قوله تعالى :﴿ أمْوالَكُم ﴾.
وقوله تعالى :﴿ وارْزُقوهُم فيها ﴾ : أي منها، وقد قيل : معناه أموالهم، وفيه على دفع مال السفيه إليه، فمعناه لا تؤتوهم أموالهم، وإنما أضافها إليهم، كما قال :﴿ ولا تَقْتُلوا أنْفُسَكُم ﴾١ يعني بعضكم بعضاً، وقال :﴿ فإذا دَخَلْتُم بُيوتاً فَسَلِّموا عَلى أنْفُسِكُم٢ ﴾ : يريد من يكون فيها، وذكروا أن هذا التأويل أولى، فإن السفه صفة ذم، وهذا يعترض عليه، فإن السفه في الأصل الخفة، وليس ذلك صفة ذم ولا مفيداً لعصيان، والمعنيان مختلفان.
٢ - سورة النور، آية ٦١..
واعلم أن كثيراً من العلماء جوزوا إذن الولي للصبي في التجارات وتسليم المال إليه، حتى يتصرف وتبدو بياعاته وتصرفاته، وليس في العلماء من يقول إنه إذا اختبر الصبي فوجد رشيداً ارتفع عنه الولاية، وأنه يجب دفع ماله إليه، وإطلاق يده في التصرف، وذلك يدل على أن الابتلاء في الصبي ليس يفيد العلم برشده، فكذلك قال الله تعالى :﴿ وابْتَلَوا اليَتامَى حتّى إذ بَلَغُوا النِّكاحَ فإنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً ﴾، فدل ذلك على أن الابتلاء قبل البلوغ لا بدفع المال إليه، ولا بأن يبقى بعقله ورأيه، حتى يزعم بكونه رشيداً، فإنه لو كان كذلك ما توقف وجوب دفع المال على بلوغ النكاح، بل دل على أن الابتلاء قبل البلوغ في أمر الدين والدنيا، بأن يربيه على الخيرات والطاعات، ويندبه إلى المراشد وتأمل التصرفات والتجارات، حتى يكون نشوة على الخيرات، فإذا بلغ النكاح نفعه ما تقدم من التدريب، ويحصل به إيناس الرشد، وهو إحساس الرشد، مثل قوله تعالى :﴿ إني آنَسْتُ ناراً٢ ﴾ : يعني أحسستها وأبصرتها، وذلك يدل على أن الذي يجري في الصبى غير موثوق به شرعاً، إنما توطئة وتمهيداً لزمان البلوغ الذي يوثق فيه بإيناس الرشد، فهذا تحقيق لمذهب الشافعي رضي الله عنه، ويرد على من خالفه، ثم قال الشافعي : ولما قال تعالى :﴿ فإنْ آنَسْتُمْ مِنهُمْ رُشدْاً ﴾، وهو يقتضي صلاح الدين والدنيا، والفاسق غير رشيد ولا مأمون، وهذا لأن التبذير يتولد من غلبة الهوى، والهوى منشأ الفسق، ولا يؤمن من الفاسق صرف المال إلى المحصور المنكور، وذلك تبذير وإن قل، فإنه لا يكتسب به محمدة في الدنيا والآخرة، والكثير في الطاعات ليس بتبذير، على ما عرف من أقوال السلف رضوان الله عليهم أجمعين، فهذا معنى الآية.
قوله تعالى :﴿ وَمَنْ كانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ٣ وَمَنْ كانَ فقيراً فَلْيَأكُلْ بالمَعْروفِ ﴾ الآية [ ٦ ] : توهم متوهمون من السلف بحكم هذه الآية، أن للوصي أن يأكل من مال الصبي قدراً لا ينتهي إلى حد الإسراف، وذلك خلافاً ما أمر الله تعالى به في قوله :﴿ لا تَأكُلوا أمْوالَكُم بَيْنَكُم بالباطِلِ إلاَّ أنْ تَكونَ تِجارةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُم٤ ﴾، ولا يتحقق ذلك في مال اليتيم.
فقوله :﴿ فَمَن كانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ ﴾ : يرجع إلى أكل مال نفسه دون مال اليتيم فمعناه : ولا تأكلوا أموال اليتيم مع أموالكم، بل اقتصروا على أكل أموالكم، وقد دل عليه قوله تعالى :﴿ ولا تَأكُلوا أمْوالَهُم إلى أمْوالَكُم إنّه كانَ حُوباً كَبِيراً٥ ﴾، وبان بقوله تعالى :﴿ وَمَن كانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ، ومَن كانَ فقيراً فَلْيأكُل بالمَعْروُفِ ﴾، الاقتصار على البلغة حتى لا يحتاج إلى أكل مال اليتيم، فهذا تمام معنى هذه الآية، فقد وجدنا آيات محكمات بمنع أكل مال الغير بغير رضاه، سيما في حق اليتيم، ووجدنا هذه الآية محتملة للمعاني، فحملها على موجب الآيات المحكمات متعين٦.
وقد جوز أبو حنيفة للوصي أن يعمل في مال الصبي مضاربة، فيأخذ منه مقدار ربحه، وإذا جاز ذلك، فلم لا يجوز أن يأكل من ماله إذا عمل فيه، فيأخذ أجر المثل بل هو أولى، فإن أجر المثل معلوم في وضع الشرع، ومقدار أجرة عمله مأخوذ من العادة، وأما الربح فهو نتيجة الشرط وليس أجرة عمله، وهو على قدر الشرط، وأي قدر شرطه العامل الوصي لنفسه من الربح، فهو متحكم فيه، وإنما الشرط للعامل من جهة رب المال، وإلا فالواجب أجر المثل في القراض الفاسد، وهاهنا إذا لم يكن أجر المثل مع أنه أقرب، فالتحكم بالتقدير من جهة العامل كيف يحتمل، والربح أبعد عن الاستحقاق، فإن الربح زيادة على عين مال اليتيم، والزيادة تبع المزيد عليه، وليس للوصي في مال اليتيم حق.
وأما الأجرة : ففي مقابلة العمل والعمل حق للوصي، وأنه من منفعة فهو أولى ببذلها، فلا وجه لمذهب أبي حنيفة، والعمومات التي ذكرناها من قبل في إبطال التصرف في مال اليتيم بطريق القراض وغيره.
فإن قال من ينصر مذهب السلف، إن القضاة يأخذون أرزاقهم لأجل عملهم للمسلمين، فهلا كان للوصي كذلك، إذا عمل لليتيم ولم لا يأخذ الأجرة بقدر عمله ؟ قيل له : اعلم أن أحداً من السلف لم يجوز للوصي أن يأخذ من مال الصبي مع غنى الوصي، بخلاف القاضي، فذلك فارق بين المسألتين. . وبعد : فالذي يفصل بينهما من طريق المعنى يقول : إن الرزق ليس كأجرة الشيء، وإنما هو شيء جعله الله تعالى لكل من قام بشيء من أمور الإسلام، فللمقابلة بينهم من مال الله تعالى، وللفقهاء سهم، مع أنهم لم يعملوا شيئاً يستحقون عليه الأجرة، لأن اشتغالهم بالفتوى وتفقيه الناس، فرض لا يؤخذ عليه أجر، وكذلك الخلفاء لهم سهم من مال الله تعالى، وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم سهم من الخمس والصفى وسهم من الغنيمة، وما كان يأخذ الأجرة على شيء يقوم به من أمر الدين، وكيف يجوز ذلك مع قول الله تعالى :﴿ قُلْ ما سَألْتُكُم مِن أجْرٍ فَهُوَ لَكُم٧ ﴾، ﴿ قُل ما أسْألُكُم عَلَيهِ مِنْ أجْرٍ٨ ﴾ : فالذي يأخذه الفقهاء والقضاة والخلفاء، لا يأخذون من مال واحد معين، وإنما يأخذون من مال الله الذي لا يتعين له مالك، وقد جعل الله ذلك المال الضائع حقاً لأصناف بأوصاف، والقضاة من جملتهم، والوصي إنما يأخذ بعمله مال شخص معين من غير رضاه، وعمله مجهول وأجرته مجهولة، وذلك بعيد عن الاستحقاق.
واعلم أن الاحتياط الذي أمر الله به في حق اليتامى، وأن لا يدفع إليهم أموالهم إلا بعد إيناس الرشد، يدل لا محالة بطريق الأولى على أن الأولياء من الأوصياء، والأقارب والحكام، لا بد وأن يكونوا عدولاً ذوو رشد.
والفاسق المتهم من الآباء، والمرتشي من الحكام والأوصياء، والأمناء غير المأمونين، لا يجوز جعلهم أولياء وحكاماً، ويدل على ذلك أن الحاكم إذا فسق انعزل٩.
قوله تعالى :﴿ فإذا دَفَعْتُم إليْهِمْ أمْوالهُمْ فأشْهِدُوا عَلَيْهِم ﴾ : يؤذن بالاحتياط القاطع للدعوى الباطلة، كما أمر بالاحتياط في المداينات قطعاً للمنازعة، لا جرم قال الشافعي رضي الله عنه : لو ادعى تسليم المال إلى الصبي بعد البلوغ وأنكر الصبي، لم يصدق إلا بينة. . نعم المودع يصدق في الرد دون بينة، لمصلحة تعلقه بالوديعة، في أنه لا يرضى المودع بالإشهاد على ردها، لما فيه من إشهار أمرها، والودائع تعرض في خفية، ولأن المودع ائتمنه فرضي بقوله واعتقد أمانته.
وأما الائتمان من جهة الصبي فلم يجز أصلاً، وفي هذا المعنى نظر فإن الوصي في معنى النائب عن الصبي، فكذلك كان نائباً عنه في التصرفات، فيجوز أن يكون نائباً عنه في الحفظ حكماً، وإن لم توجد الاستنابة من جهة الصبي خاصة الآن، فإن نيابته عن الصبي ظاهرة، وكذلك إذا ادعى تلف المال. . قيل : ولولا النيابة كان ضامناً للمال، لأنه ممسك مال غيره دون استنابة. . ومما يتعلق به الشافعي رضي الله عنه، أن الله تعالى إنما أمر بالإشهاد، لأن دعواه مردودة في الرد دون البينة. . ويمكن أن يقال : فائدته ظهور أمانته وبعده عن التهمة، وقطع دعوى الصبي بالباطل وسقوط اليمين عن الوصي، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم الملتقط بالإشهاد على اللقطة في حديث عياض بن حمار المجاشعي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" مَن وجَد لقطةً فلْيُشهِد ذوي عدلٍ ولا يَكْتُم ولا يغِيب١٠ "، فأمره بالإشهاد ليظهر أمانته وتزول الشبهة عنه.
آنستم: أي علمتم وقيل: رأيتم، وأصل الإيناس: الإبصار، ومنه قوله تعالى: (آنس من جانب الطور نارا).
رشدا: الرشد الاهتداء إلى وجوه الخير، والمراد به هنا الاهتداء إلى حفظ الأموال.
إسرافا: الإسراف مجاوزة الحد والإفراط في الشيء، والسرف: التبذير.
بدارا: معناه مبادرة أي مسارعة، والمراد أن يسارع في أكل مال اليتيم خشية أن يكبر فيطالبه به..
٢ - سورة طه، الآية ١٠.
سورة النمل، الآية ٧.
سورة القصص، الآية ٢٩..
٣ - يقال: عف الرجل عن الشيء واستعف إذا أمس، والاستعفاف عن الشيء تركه، والعفة، الامتناع عما لا يحل ولا يجب فعله..
٤ - سورة النساء، آية ٢٩..
٥ - سورة النساء، آية ٢..
٦ - انظر القرطبي في تفسيره ج٥ ص٤٣..
٧ - سورة سبأ، آية ٤٧..
٨ - سورة الفرقان، آية ٥٧ وتمامها: (إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا). وسورة ص آية ٨٦ وتمامها: (وما أنا من المتكلفين)..
٩ - انظر أحكام القرآن للجصاص ج٢ ص٢٦٤..
١٠ - أخرجه ابن ماجة في سننه، ج٢ ص٨٢٧ رقم الحديث ٢٥٠٥..
فيقال في حق العمة مثلاً والخالة والخال : إن لهم نصيباً مما ترك الأقربون، وإنهم في هذا المعنى يقدمون على الأجانب.
نعم ذكر قتادة أن الآية وردت على سبب، وهو أن أهل الجاهلية كانوا يورثون الذكور دون الإناث، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وذلك لا يمنع التعلق بعموم الآية، لإمكان أنهم كانوا يورثون الذكور من ذوي الأرحام وغيرهم من الأقارب، فأبطل الله تعالى ما كانوا عليه في الجاهلية وهذا مما يعترفون بكونه عاماً.
وفيه دلالة على جعل القرابة مطلقة للميراث، إلا أنه لم يجعل لهم إلا النصيب المفروض لا المال المطلق، وليس في الآية ذلك النصيب المفروض، نعم في الآية نصيب مجمل لا جرم يفهم منه أن لهم نصيباً مجملاً.
وقال سعيد بن المسيب : هي منسوخة بالميراث، وروى عكرمة عن ابن عباس أنها محكمة ليست بمنسوخة، وهي في قسمة المواريث فيرضخ لهم، فإن كان المال عقاراً أو فيه تقصير لا يقبل الرضخ، اعتذر إليهم، فهو قوله تعالى :﴿ وقُولوا لهُم قَولاً مَعْرُوفاً ﴾، والقول الثالث عن ابن عباس : أنها في وصية الميت لهؤلاء، وهي منسوخة بالميراث، فكأن الموصي أمر به في الشيء الذي يوصي فيه، ودل عليه قوله تعالى :﴿ وَلْيَخْشَ الّذينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ ﴾ [ ٩ ]،
قال : يقول له من حضر : اتق الله وصلهم وبرهم وأعطهم، ولا حاجة إلى تقدير النسخ، بل أمكن أن يحمل على الندب٢.
والذين قالوا : إنها منسوخة لعلهم قالوا : ظاهر قوله :﴿ فارْزُقوهُم مِنْهُ ﴾ الوجوب، ولا وجوب هاهنا، فبقي أنه منسوخ، وليس ذلك من النسخ في شيء إنما هو حمل اللفظ على بعض مقتضياته، وإنما النسخ أن يثبت أن ذلك كان من قبل على ما الآن عليه، ثم نسخ.
واليتامى: الضعفاء بفقد الآباء، والمساكين الضعفاء بفقد يكفيهم من المال، فاعطوهم من الميراث شيئا، وقولوا لهم قولا معروفا بتلطيف القول لهم والدعاء لهم بالبركة..
٢ - قال ابن عباس:
أمر الله المؤمنين عند قسمة مواريثهم أن يصلوا أرحامهم ويتاماهم، ومساكينهم من الوصية، فإن لم تكن وصية وصل لهم من الميراث..
وفيه بيان أن المستحب له إذا كان ورثته ضعفاء وهو قليل المال، أن لا يوصي بشيء، أو يوصي بأقل من الثلث، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد لما رده إلى الثلث فقال :" والثلث كثير " الحديث٣،
فأبان له أن استغناء الورثة بفضلها، أولى من استغناء غيرهم.
وقال مقسم : معناه ضد ذلك، وهو أن يقول الرجل للذي حضره الموت : أمسك عليك مالك، ولو كانوا ذوي قرابته لأحب أن يوصي لهم.
فتأوله الأولون على نهي الحاضرين عن الحث على الوصية، وتأوله مقسم على نهي من يأمره بتركها.
وقال الحسن : هو الرجل يكون عند الميت فيقول : أوصِ بأكثر من الثلث من مالك، وهو الأوجه، إلا أن يكون ذلك في وقت كانت الوصية بأكثر من الثلث لازماً، فأما إذا توقفت على إجازة الورثة، فلا نهي عليه.
وعن ابن عباس رواية أخرى، أنه في ولاية مال اليتيم وحفظه والاحتياط في التصرف فيه، وهذه المعاني بجملتها يجوز أن تكون معنية بالآية، إذ لا تناقض فيها، ويجمعها مراعاة المصلحة للورثة واليتامى والموصى. .
٢ - وقتادة، والسدي، وابن جبير، والضحاك، ومجاهد..
٣ - أخرجه الإمام البخاري في صحيحه كتاب الجنائز، باب رثي النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن خولة..
(إنما يأكلون في بطونهم نارا) أي ما يجر إلى النار ويؤدي إليها..
٢ - سورة البقرة، الآية ٢٢٠..
وقيل : نزلت في ورثة ثابت بن قيس بن شماس، والأول أصح عند أهل النقل٢، فاسترجع رسول الله صلى الله عليه وسلم الميراث من العم، ولو كان ثابتاً من قبل في شرعنا ما استرجعه، ولم يثبت قط في شرعنا أن الصبي ما كان يعطى الميراث حتى يقاتل على الفرس، ويذب عن الحريم.
واعلم أن الميراث كان يستحق في أول الإسلام بأسباب : منها : الحلف والتبني والمعاقدة٣ : ومنه قوله :﴿ والّذينَ عَقَدَتْ أيمانُكُم فَآتُوهُم نَصِيبَهُم٤ ﴾.
وقال آخرون : ما كان الميراث ثابتاً قط بالمعاقدة، والذي في القرآن من قوله :﴿ والّذينَ عَقَدَتْ أيمانُكُم فَآتُوهُم نَصِيبَهُم ﴾ من الموالاة والنصرة والمعافاة والمشورة.
نعم هذا الخيال إنما نشأ من شيء، وهو أن الله تعالى قال :﴿ وأولُوا الأرْحامَ بَعضُهُم أوْلى ببَعْضٍ في كِتابِ اللهِ مِنَ المؤمِنينَ والمُهاجرينَ إلاَّ أن تَفْعَلوا إلى أوْلِيائِكُم مَعْروفاً٥ ﴾، فظنوا أن الآية دلت على ثبوت الميراث بوجه آخر، وليس الأمر كذلك، فإن المراد بذلك : وأولوا الأرحام أولى من المؤمنين، فإن المؤمنين ورثة، إذ المراد ذوو الأرحام.
وقوله :﴿ إلاَّ أن تَفعَلوا إلى أولِيائِكُم مَعروفاً ﴾ : الوصية، وإلا فلا ثبوت للميراث بالمعاقدة من جهة النص، والآثار متعارضة، والذي في القرآن :﴿ والّذينَ آمَنوا ولَم يُهاجِروا مالَكُم مِن وَلايَتهِم مِن شيءٍ٦ ﴾، إنما عنى به في الميراث بالإسلام، إذا لم تكن قرابة، فإن الشافعي رضي الله عنه، يرى المسلمين ورثة في ذلك الوقت، ما كان الإسلام كافياً في هذا المعنى دون المهاجرة مع الإسلام، وإلا فلا وجه لدعوى من يدعي أن المحالفة المجردة، أو الهجرة المجردة، مورثة مع وجود الهجرة في حق ذوي الأرحام والعصبات، إذ جائز أن يكون قوله :﴿ فآتوهُم نَصِيبهُم ﴾ أي : آتوهم نصيبهم من الوصية، ولعله كانت الوصية واجبة لهؤلاء، ثم نسخت الوصية، والأول أظهر.
وأبو حنيفة يرى التوريث بالحلف والمعاقدة، ويقول : إن حكمها ما نسخ، ولكن جعلت الرحم أولى منها، فهو يرى أن الأسباب التي يورث بها شتى، فمنها الإسلام، ومنها المعاقدة والتآخي في الدين، والاتحاد في الديوان، وفوقها الولاء، وفوقها الزوجية، وكان الرجل إذا مات اعتدت امرأته سنة كاملة في بيته، ينفق عليها من تركته، وهو قوله :﴿ والّذينَ يُتَوفّوْنَ مِنكُم ﴾ - إلى قوله ﴿ مَتاعاً إلى الحَوْلِ ﴾٧ ثم نسخ ذلك بالربع والثمن.
وقوله :﴿ يُوصِيكُمُ اللهُ في أولادِكُم ﴾ : نسخ به وجوب الميراث للذين ذكر ميراثهم في كتاب الله تعالى، والأقربون الذين ليسوا بوارثين، فأبان دخولهم تحت اللفظ تعيناً، ولكن اللفظ عموم في حقهم، فلم يتبين قطعاً وجوب الوصية لأولئك النفر، الذين لم يبين الله ميراثهم، فلا نسخ من هذا الوجه، وإنما هو تخصيص عموم، والدليل عليه أن كل الميراث لهؤلاء المذكورين، وما قال الشرع للعصبة كل الميراث وللبنتين الثلثان، بل كان يقال : للوصية قسط واجب، فما يفضل عنها فهو لكذا، ولم يتبين وجوب الوصية في هذه الآية بل قال :﴿ مِن بَعدِ وصِيّة يُوصَى بها أوْ دَين ﴾، وربما كان الدين أو لم يكن، وربما كانت الوصية أو لم تكن، فهذا تمام ما يتعلق بهذا النوع.
قوله تعالى :﴿ يوصيكُمُ اللهُ في أولادِكُم ﴾ : حقيقة في أولاد الصلب فأما ولد الابن فإنما يدخل فيه بطريق المجاز، وإذا حلف لا ولد له وله ولد ابن لم يحنث٨، فإذا أوصى لولد فلان، لم يدخل فيه ولد ولده، وأبو حنيفة يقول : إنه يدخل فيه إن لم يكن له ولد صلب٩، ومعلوم أن حقائق الألفاظ لم تتغير بما قالوه.
وقوله :﴿ للذَّكرِ مِثلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ ﴾ : ليس فيه تقدير ميراث كل واحد منهم ومبلغ ما يستحقه، بل فيه أن ما كان من قليل أو كثير فبين الأولاد على هذه النسبة، وذلك يتناول ما فضل عن أصحاب الفرائض، وما يأخذون من جميع المال إذا لم يكن صاحب فرض.
وإذا لم يكن في ميراثهم تحديد، فالذي يصل إليهم هو تمام حقهم قل أو كثر، وذلك يقتضي تقديم أصحاب الفرائض، فإنه لو لم يفعل ذلك لم يكمل لهم حقهم، وإذا قدم وفضل شيء، فقد استوفى العصبة تمام حقه، فهذا وجه البداية بأصحاب الفروض.
قوله تعالى :﴿ فإنْ كُنَّ نساءً فَوْقَ اثْنَتَينِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا ما تَرَكَ وإن كانَت واحِدةً فَلَها النِّصفُ ﴾ [ ١١ ] : ولم يبين حكم الاثنتين، فنقل عن ابن عباس أن الآية نص قاطع في أن لا يزاد منه بسبب الثلثين شيء١٠، فإن قوله :﴿ فَوْقَ اثْنَتَينِ ﴾ تقييد نصاً، ونفي لما دون هذا العدد.
قال قائلون من العلماء : إن بيان الاثنتين كان ظاهراً في كتاب الله تعالى، وإنما احتاج إلى بيان أن الثنتين فصاعداً لا يزيد حقهم على الثلثين، فكان قوله :﴿ فَوْقَ اثْنَتَينِ ﴾ لنفي المزيد. ووجه دلالة الآية على بيان حكم الاثنتين، أن الله تعالى لما أوجب للبنت الواحدة مع الابن الثلث، فإذا كان لها مع الذكر الثلث، فلأن لا تنقص من الثلث مع البنت أولى، ولو جعلنا للبنتين النصف، نقصت حصة الواحدة من الثلث.
ويمكن أن يعترض على هذا فيقال : إنما استحقت الثلث مع الذكر، لا لأن المأخوذ ثلث التركة التامة، بل لأنها عصبة بأخيها، والمال بينهما أثلاث، ولا يأخذان إلا ما بقي ما حالة، وكل المال في حالة. . أما البنت فتأخذ مقداراً من جملة التركة من غير نقصان من نصف الجملة، وذلك مقيد بشرط، فإذا لم يوجد الشرط لم يثبت القدر، ويدل عليه أنه لو قال قائل : الابن ربما أخذ أقل من نصف التركة، والبنت لا تأخذ أقل من نصف جميع التركة، فيقال : لأن الابن عصبة فيأخذ ما بقي، والبنت صاحبة الفرض، وهذا بيّن. ومما ذكره العلماء في ذلك، أن الله تعالى قال :﴿ لِلذَّكَرِ مِثلُ حَظِّ الأنْثَيَينِ ﴾ فلو ترك بنتاً وابناً، كان للابن سهمان ثلثا المال، وهو حظ الأنثيين، وهذا مثل الأول.
والاعتراض عليه كما مضى، فإن الابن لا يستحق ثلثي جميع التركة، بل يستحق بالعصوبة أي قدر، وتلك العصوبة تشمل الذكر والأنثى، والمال بينهما على نسبة التفاوت. وأقوى ما قيل فيه، أن الله تعالى جعل للأختين الثلثين في نص الكتاب فقال :﴿ فَإن كانَتا اثْنَتَين فلَهُما الثُّلُثانِ مِمّا تَرَك١١ ﴾، ومعلوم أن أولاد الميت أولى من أولاد أب الميت، فدل أن بيان الاثنتين مقدر في كتاب الله تعالى، واحتيج إلى بيان نفي المزيد على الثلثين عند زيادة عدد البنات، ولم يتعرض لهذا المعنى في ميراث الأخوات، لأن فيما ذكر من ميراث البنات بيان ذلك، ولم يذكر بيان البنتين في ميراث البنات، لأن فيما ذكر من ميراث الأخوات بيان ذلك، فاشتملت الآيتان على بيان نفي المزيد عند زيادة العدد، وعلى بيان ميراث البنتين، وهذا غاية البيان١٢. واستدلوا أيضاً على ذلك بما روي عن ابن مسعود، أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في بنت، وبنت ابن، وأخت، بأن للبنت النصف، ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين، والباقي للأخت، فإذا كان للبنت مع ابنة الابن من التركة الثلثان، فالبنتان أحق بذلك وأقرب، لأنهما أقرب من بنت الابن، وإن أمكن أن يعترض على هذا، فإن الذي لبنت الابن فرض آخر، وليس من ميراث البنت في شيء، وإنما الكلام في أن النصف إذا كان للواحد، فهل يزداد ذلك لسبب وجود بنت أخرى، أو يتقاسمان ذلك النصف، فأما السدس فلا تعلق له بفريضة البنت أصلاً، وإنما اتفق أن المبلغين صارا إلى مقدار الثلثين.
وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في تركة سعد بن الربيع، للبنتين الثلثين وللزوجة الثمن، والباقي لأخته١٣ وقضى بذلك في ابنتي ثابت بن قيس بن شماس١٤.
والآية ليست نصاً في نفي ما دون الثلثين عما دون الثلاث من البنات، بل محتملة ما ذكرناه١٥.
وقد قيل : قوله " فوق " صلة وتأكيد، كأنه قال :" فإن كنَّ نساء اثنتين " ومثله :﴿ فاضرِبوا فوقَ الأعْناقِ١٦ ﴾، وهذا تأويل بعيد، وما ذكرناه أولاً هو الصحيح، ومما دلت الآية عليه أنه لما لم يبين مقدار ميراث البنتين، عرفنا من قوله تعالى في حق الأخ ﴿ وهُوَ يَرِثها إنْ لم يكُن لها ولَد١٧ ﴾، أن الأخ لما جعل عصبة حائزاً للميراث مطلقاً، فالابن بذلك أولى.
وجملة القول فيه أن الله تعالى لما بين كيف يقتسم الذكور والإناث، لم يحد ميراثهم بحد، لأنهم يرثون المال مرة جميعه، ومرة ما فضل عن فرض ذوي السهام، ولو حد لهم حداً لضاربوا ذوي السهام إذا ضاق المال عن حمل السهام، ولا يزيدوا عليه إذا انفردوا، وتحرجوا عن حكم من يرث بالتعصيب إلى حكم من يرث بالفرض، فهذا بيان معنى التعصيب في ميراث١٨.
قوله تعالى :﴿ ولأبَويْهِ١٩ لِكُلِّ واحدٍ مِنهُما السُّدُسُ مِمّا ترَكَ إن كانَ لهُ وَلَدٌ ﴾ [ ١١ ] : فظاهره يقتضي أن يكون لكل واحد منهما السدس مع الولد، ذكراً كان أو أنثى، فيقتضي ذلك إلى٢٠ إنه إذا كان الولد بنتاً فلها النصف، ولا تستحق أكثر من النصف لقوله :﴿ وإن كانَتْ واحدَةً فَلَها النِّصْفُ ﴾.
فوجب بحكم الظاهر أن يعطي الأب السدس لقوله :﴿ ولأبويهِ لِكُلِّ واحدٍ مِنهُما السُّدُسُ ﴾، ويبقى السدس يستحقه الأب بحكم التعصيب، فاجتمع للأب الاستحقاق من جهتين : التعصيب والفرض، وإن كان الولد ذكراً فللأبوين السدسان بحكم النص، والباقي للابن لأنه أقرب العصبات من الأب، فخرجت منه مسألة البنت والأبوين، وما ذكره الفرضيون من الجمع للأب بين الفرض والتعصيب.
وقال عز وجل :﴿ فإنْ لَم يَكُنْ لَهُ ولدٌ وَوَرِثهُ أبَواهُ فلأمِّهِ الثُلثُ ﴾ ولم يذكر نصيب الأب، فاقتضى ظاهر اللفظ أن للأب الثلثين، إذ ليس هناك مستحق غيره، وقد أثبت لهما أولاً، فاقتضى ظاهر اللفظ المساواة لو اقتصر على قوله :﴿ وَوَرِثَهُ أبَواهُ ﴾، دون تفصيل نصيب الأم، فلما ذكر نصيب الأم٢١، دل على أن للأب الثلثين، وهو الباقي بحكم العصوبة، وبين الله تعالى ميراث الأم مع الأب، وفرض لغيرها من الورثة عند الانفراد مثل البنت والأخت وغيرهما من أصحاب الفروض، كالزوج والزوجة.
والحكمة فيه : أنه عز وجل أراد أن يبين حجبها بمن لا يرث في قوله :﴿ ولأبَوَيْهِ ﴾ إلى قوله :﴿ فإنْ كانَ لَهُ إخوةٌ فَلأمِّهِ السُّدُسُ ﴾، فلو ذكر ميراثها منفردة، لاحتمل أنها لا يحجبها من لا يرث مثل الأخوة مع الأب، فأزال هذا الإشكال، وأفاد هذه الفائدة، حتى لا يت
٢ - لأن ثابت بن قيس استشهد باليمامة..
٣ - وفي رواية: منها الحلف، والهجرة، والمعاقدة، ثم نسخ..
٤ - سورة النساء، آية ٣٣..
٥ - سورة الأحزاب، آية ٦..
٦ - سورة الأنفال، آية ٧٢..
٧ - سورة البقرة، آية ٢٤٠..
٨ - قال النيسابوري: واعلم أن عموم قوله تعالى: (يوصيكم الله في أولادكم) مخصوص بصور:
منها: أن العبد والحر لا يتوارثان.
ومنها: أن القاتل لا يرث.
ومنها: أن لا يتوارث أهل ملتين، والمرتد ماله فيء لبيت الماء سواء اكتسب في الإسلام أو في الردة، وعند أبي حنيفة: ما اكتسب في الإسلام يرثه أقاربه المسلمون.
ومنها: أن الأنبياء لا يورثون خلافا للشيعة..
٩ - وقد استفاض الجصاص في بيان ذلك وانتهى إلى أن لفظ الابن يطلق حقيقة على أولاد الصلب ومجازا على أولاد الأولاد عند عدم وجود الأولاد..
١٠ - أي لا يزاد من التركة في نصيبها عن النصف..
١١ - سورة النساء، آية ١٧٦..
١٢ - قال الجصاص: ويدل على أن للبنتين الثلثين، أن الله تعالى أجرى الإخوة والأخوات مجرى البنات، وأجرى الأخت الواحدة مجرى البنت الواحدة..
١٣ - رواه أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجة..
١٤ - وقد سبق تضعيف ذلك لأن ثابت بن قيس لم يستشهد إلا بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم..
١٥ - وبين ابن العربي ذلك فقال: إن النصف سهم لم يجعل فيه اشتراك، بل شرع مخلصا للواحدة بخلاف الثلثين، فإنه سهم الاشتراك، بدليل دخول الثلاث فيه فما فوقهن، فدخلت فيه الاثنتان مع الثلاث دخول الثلاث مع ما فوقهن..
١٦ - سورة الأنفال، آية ١٢..
١٧ - سورة النساء، آية ١٧٦..
١٨ - الإرث بالتعصيب هو ما ليس فيه نصيب مقدر، ومعنى العصبة في اللغة أقارب الرجل لأبيه لإحاطتهم به، وعند الفقهاء: العصبة من يأخذ التركة كلها إذ انفرد، أو ما بقي بعد أصحاب الفروض إن كان معه صاحب فرض وبقي شيء، وإن لم يبق شيء فلا شيء له.
والعاصب من جهة النسب ثلاثة أقسام.
عاصب بنفسه، وعاصب بغيره. وعاصب مع غيره. (راجع المواريث دائرة معارف الشعب)..
١٩ - ولأبويه أي الأب، والأم، فغلب جانب الأب لشرفه، والضمير في أبويه يعود إلى الميت المعلوم من سياق الكلام في الميراث..
٢٠ - كذا بالأصل، ولعل "إلى" زائدة، أو أن "يقتضي" محرفة عن يفضي..
٢١ - أي وقصره على الثلث..
فمن كسر نصب كلالة على المفعول به وجعلها اسماً للورثة وجعل الفاعل للتوريث هو الرجل الميت وجعل كان يعني وقع وحدث فلا يحتاج إلى خبر، ومن قرأ بفتح الراء نصب كلالة على الحال من الضمير في يورث، وهو ضمير الرجل، وجعل الكلالة اسماً للميت، وجعل كان يعني حدث، ويحتمل أن يجعل كلالة خبراً لكان.
فلم يختلف العلماء في أن الكلالة اسم لمن لا ولد له، واختلفوا في أنه هل هو اسم لمن لا ولد له ؟ فقال قائلون : هو اسم لمن لا ولد له، فبنوا عليه أن أولاد الأم لا يرثون مع الأب، لأن الكلالة اسم لمن لا ولد له، فأما من له والد، فليس خارجاً من الكلالة.
واعلم أن هذا يتصل به مسألة أخرى، وهو أن الله تعالى يقول :﴿ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ في الكَلالَةِ٢ ﴾ الآية، فجعل للأخوات من الأب والأم الثلثين، وللواحدة النصف، وذلك لا يتصور مع البنت والأب، وسمى الله تعالى ذلك كلالة فقال :﴿ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُم في الكَلاَلَةِ ﴾، فأطلق اسم الكلالة، ولا بد وأن يكون المعنى هاهنا : ليس له ولد ولا والد، فإن المذكور من الميراث لا يتصور إلا عند فقد والوالد والولد، ويدل على أن الكلالة اسم لمن لا والد له ولا ولد.
قوله تعالى :﴿ ولأبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمّا تَرَكَ إنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فلأمه الثُلُثُ ﴾، يقتضي أن يكون ذلك الباقي للأب، ثم قال :﴿ فإنْ كَانَ لَهُ إخْوةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ ﴾، فلم يجعل للإخوة ميراثاً مع الأب، كما لم يورثهم مع الابن، والابنة أيضاً ليست بكلالة كالابن، فلا جرم أولاد الأم يسقطن بها، لأنه تعالى شرط في توريث أولاد الأم أن يكون الميت كلالة، أو الوارث كلالة، فإن ترك بنتاً أو ابنتين وإخوة وأخوات لأم فالبنت ليست بكلالة، فإن ترك بنتاً أو ابنتين وإخوة وأخوات لأم فالبنت ليست بكلالة، فلا يستحق الأخوات الثلث.
واختلف أهل اللغة في اشتقاق الكلالة : فمنهم من قال : هو من قوله : كلت الرحم إذا تباعدت، ولحت إذا قربت، يقال هو ابن عمي لحا، أي هو ابن أخي٣، وهو ابن عمي كلالة، أي من عشيرتي، قال الشاعر :
ورثتم قناة الملك لا عن كلالة | عن ابني منافٍ عبد شمس وهاشم |
ويمكن أن يكون مأخوذاً من الكلال وهو الإعياء، ومنه قولهم : مشى حتى كل : أي بعدت المسافة فطال سيره حتى كل، وكلَّ البعير إذ طال الطريق حتى أعيا، وكلَّ السيف إذا طال الضرب به، وكلت الرحم إذا ضعفت فطال نسبه، فتكون الكلالة من بعد النسب وبعد القرابة. وقيل : أخذ من الإكليل المحيط بالرأس.
وروي عن عمر في الكلالة بعد النسب وبعد القرابة روايتان مختلفتان، فتارة لا يجعل الوالد كلالة، وتارة كان يجعله كلالة، وردَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمر لما سأله عن الكلالة إلى آية الصيف٤.
ولا شك أن عمر لا يخفى عليه معنى الكلالة من جهة اللغة، وذلك يدل على أن معنى الكلالة شرعاً غير مفهوم من الاسم لغة، ولذلك لم يجب رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر عن سؤاله في معنى الكلالة ووكله إلى استنباطه، وفي ذلك دليل على جواز تفويض الإجماع إلى آراء المستنبطين، كما فوضها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رأي عمر،
وفيه دلالة على بطلان قول من يقول : لا يجوز استنباط معاني القرآن، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ٥ "، فإن ذلك إنما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن قال فيه بما سنح في وهمه، وخطر على باله، من غير استدلال عليه بالأصول، وإن من استنبط معناه بحمله على الأصول المحكمة المتفقة فهو ممدوح.
بقيت هاهنا دقيقة أخرى وهي خاتمة النظر، وذلك أن الجد من حيث كان أصل النسب خارج عن الكلالة كالأب والابن، وعليه بنى العلماء سقوط أولاد الأم به، لأن الله تعالى شرط في ميراثهم عدم الولد والوالد، وفقد الأصل والفرع، ولا يتحقق ذلك مع الجد، وموضع اشتقاق الكلالة يقتضيه أيضاً.
ولآجل ذلك قلنا إن آية الصيف تدل أيضاً على أن الجد خارج، فإن الله تعالى شرط في وراثة الأخت نصف التركة أن تكون كلالة، فلا جرم لا ترث النصف مع الجد ولا الأخ يرثها مع الجد بل يقاسمها، والله تعالى أنما شرط الكلالة في استحقاق النصف فقط وذلك مشروط بعدم الجد.
ويدل عليه أن الكلالة لا تتناول البنت، والأخت ترث مع البنت، إلا أنها لا ترث على الوجه المذكور في آية الصيف وهو النصف، وإنما ترث الباقي من نصيب البنت، فهذا تمام معنى آية الكلالة، وقد وردت في آية الصيف عدة أخبار تركنا ذكرها للاستغناء عنها في فهم معنى الآية.
ومما استنبطه العلماء من آية الكلالة بعد فهم معناها مسألة المشركة٦، وقد اختلف فيها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فروي عن علي إسقاط أولاد الأب والأم، وروي عن زيد التشريك٧.
ولا شك أن ظاهر قوله تعالى :﴿ فإنْ كانوا أكثرَ مِن ذلكَ فهُمْ شُرَكاءَ في الثلُثِ ﴾، يتناول أولاد الأم جملة، وقوله :﴿ فإنْ كانَتا اثْنَتَينِ فَلَهُما الثُلثانِ مّما تَرَكَ٨ ﴾، يتناولهم من جهة الأب لا من جهة الأم، فتعين الجمع بين الاثنتين، فمتى أمكن التوريث بقرابة الأبوة، وجبت مراعاتها لقوله تعالى :﴿ إنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيسَ لَهُ ولَدٌ ولَهُ أختٌ فلَها نِصفُ ما ترَكَ وهُوَ يَرِثُها إن لم يكن لها ولدٌ٩ ﴾، معناه يرثها بقرابة الأبوة، وإن لم يكن التوريث بقرابة الأبوة، وجب اتباع ظاهر قوله :﴿ فَهُم شرَكاءَ في الثُلثِ ﴾، فأخذنا حكم التشريك والتعصيب من الآيتين الواردتين في حق الكلالة، وذلك بيّن.
نعم إذا فرضنا زوجاً وأماً، وأخاً من أم، وإخوة من أب وأم، فلولد الأم السدس، والسدس الباقي بين أولاد الأب والأم، لأن قوله تعالى :﴿ وإن كانوا إخوَةً رِجالاً ونِساءً فلِلذَّكَرِ مِثلُ حَظِّ الأنْثَيَينِ١٠ ﴾، ينفي التوريث بالفرض ما أمكن التوريث بالعصوبة، فإذا أمكن توريث بالعصوبة، وجب اتباع الآية الأخرى.
ومن يخالف هذا المذهب يقول : إنما جعل الله تعالى الإخوة شركاء في الثلث مبنياً على قوله تعالى :﴿ فلِكُلِّ واحِدٍ مِنهُما السُّدُسُ ﴾، ولا يتصور استحقاق السدس هاهنا، فتقدير الآية : للواحد السدس وللاثنين الثلث، ولا يتصور ذلك في ولد الأب والأم، فعند ذلك يضعف التعليق بالظاهر من حيث الاسم، ويبقى التعليق من حيث المعنى، وهو أنه لما جعلت قرابة الأمومة مورثة، وقد وجدت العلة المورثة في حق الأب والأم، فينجر الكلام عند ذلك إلى طريق المعنى.
وإذا ثبت الاستنباط من الكلام في مسألة المشركة، فالأخت مع البيت عصبة عند جماهير العلماء.
وقيل لابن عباس وابن الزبير : إن علياً وعبد الله وزيداً يجعلون الأخوات مع البنات عصبة، فقال :" أنتم أعلم أم الله ؟ "، يقول الله عز وجل :﴿ إنِ امْرؤ هَلكَ ليسَ لهُ ولدٌ وله أختٌ فلَها نِصفُ ما ترَكَ ﴾، فجعل لها النصف عند عدم الولد، فكيف تجعلون لها مع الولد النصف ؟
وعامة العلماء يرون معنى الآية : إن امرؤ هلك ليس له ولد ذكر، ولذلك قال :﴿ وهُوَ يَرِثُها ﴾ يعني الأخ، ولا شك أن الأخ يرث مع البنت، ومثله قوله تعالى :﴿ ولأبَويهِ لكُلِّ واحدٍ مِنهُما السُّدُسُ ممَا ترَكَ إن كانَ لهُ ولَدٌ ﴾، ومعناه عند الجميع : إن كان له ولد ذكر.
ولا خلاف بين الصدر الأول ومن بعدهم من الفقهاء، أنه لو ترك ابنة وأبوين، أن للبنت النصف وللأبوين السدسان والباقي السدسان والباقي للأب، ولو ترك ابنة وأبا فللبنت النصف وللأب النصف، وقد أخذ في هاتين المسألتين مع الولد أكثر من السدس. والسر في ذلك أن الذي تأخذه الأخت بعد أصحاب الفرائض، ليس هو النصف الذي كان مفروضاً لها، إذا لم يكن ولد، فإن ذلك فرض، وهذا مأخوذ بالتعصيب، لأنها عصبة فتأخذ الباقي، فتارة يكون الباقي نصفاً، وتارة أقل من ذلك، وربما ترك الميت ابنتين فصاعداً فتأخذ الأخت ما بقي بعد الثلثين، وربما كان مع الأخت أخواتها، فيأخذون جميع ما يبقى، فعلم به أن الذي تأخذه الأخت في هذا الموضع، إنما تأخذه بمعنى غير المعنى الذي كان فرض لها مع البنت. فإن كان المعنى الذي تأخذ به في هذا الموضع غير ذلك المعنى، لم يدخل أحد المعنيين على الآخر، وكان لكل واحد منهما معنى حكم على جهته.
نعم بنت الابن لا تستحق الباقي بعد بنتي الصلب، لأن الجهة واحدة في البنت وبنت الابن، وأما الجهة فمختلفة هاهنا. وليس يمكن إسقاط أولاد الابن١١ مع مشابهتهم لأولاد الصلب في تعصيب الأخت وغيره، وإعطاء الأبعد، وليس يمكن الترتيب في الفرض، فدعت الضرورة الى تعصيبهن١٢، هذا تمام ما يقال في هذا الباب.
فإن قال قائل : فهلا قلّتم لابنة الابن ما يبقى بعد بنتي الصلب ؟ وإن بنت الابن في ذلك أولى من ابن ابن العم البعيد، فإنها تدلي ببنوة الميت، وابن العم يدلي ببنوة جد الميت، وشتان ما بينهما، فإن قلتم : لا شيء لها، علم أن ذا الفرض لا يصير عصبة، مخافة صرف المال إلى من هو أبعد منه في القرابة، فكذلك الإلزام في الأخت من الأب مع الأختين للأب والأم، فإنه لا يصرف إليها الباقي بعد الثلثين بحكم العصوبة، تقديماً لقرابتها على قرابة ابن العم، وهذا سؤال حسن.
والجواب عنه : أن السبب في ذلك أن الله تعالى شرع فرض البنات جملة واحدة، سواء كن بنات صلبة أو بنات ابنه، فجعل غاية حقهن الثلثين، جعل غاية حق الأخوات سواء كن لأم وأب أو لأب الثلثين، ودل عليه مطلق قوله تعالى :﴿ ليسَ لهُ ولَدٌ وله أختٌ فلَها نِصفُ ما تَركَ ﴾ إلى قوله :﴿ فإن كانَتا اثْنَتَينِ فَلَهُما الثلُثانِ ممّا ترَكَ ﴾١٣ الآية، فوقعت الفريضة لهم جملة، لأنهم جميعاً ولد الميت أو ولد أبى الميت، فإذا كان ذلك كمال حقهم من التركة، يقع الكلام منهم بعضهم مع بعض في البداية ببعضهم على بعض، فإذا استوفى الأخوات للأب وللأم حصصهم، كان الباقي للعصبة لأنهم يقولون لأولاد الأب : سواء علينا كنتم لأب وأم، أم كنتم لأب وقد استوفى فرض الأخوات، فليس لكن بعده شيء ؟ وإن كان هناك أخ لأب سقط كلام العصبة، لأن الإخوة يقولون : أنتم لا حق لكم مع أخ لأب بوجه، فإنه ذكر عصبة لا يأخذ ما يأخذه بفرض الإناث.
السؤال : على هذا من أوجه : أحدها : أنه إن صار نصيب الأخوات من الأب مستوفى في فريضة الأخوات للأب والأم وليس يبقى بعد ذلك لهن حق في الميراث، فلم تأخذ الأخت للأب مع أخيها١٤، وهلا قال لها الأخ : قد صارت حصتك مستوفاة في ميراث الأخت للأب والأم، فلا حق لك أصلاً بوجه من الوجوه، فلا جرم صار ابن مسعود إلى أن الباقي للأخ دون الأخت، وأبى ذلك غيره حتى قا
٢ - سورة النساء، آية ١٧٦..
٣ - لعلها ابن أخ أبي، وفي القاموس: وهو ابن عمي لحا، وابن عم لح لاصق النسب، ولحت القرابة بيننا لحا، فإن لم يكن لحا وكان رجلا من العشيرة قلت ابن عم الكلالة وابن عم كلالة..
٤ - أخرج مالك ومسلم وابن جرير والبيهقي عن عمر قال: ما سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء أكثر ما سألته عن الكلالة حتى طعن بأصبعه في صدري وقال: تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء..
راجع الدر المنثور فيما ورد من الروايات في ذلك..
٥ - رواه أبو داود والترمذي والنسائي وحسنه السيوطي لاعتضاده..
٦ - المشركة كمعظمة ويقال المشتركة زوج وأم وإخوان لأم وإخوان لأب وأم، (راجع القاموس المحيط)..
٧ - أخرج أحمد بسند جيد عن زيد بن ثابت أنه سئل عن زوج وأخت لأب وأم فأعطى الزوج النصف والأخت النصف، فكلم في ذلك فقال: حضرت النبي صلى الله عليه وسلم قضى بذلك. (الدر المنثور)..
٨ - سورة النساء، آية ١٧٦..
٩ - سورة النساء، آية ١٧٦..
١٠ - سورة النساء، آية ١٧٦..
١١ - في الأصل: الأب..
١٢ - قال الجصاص: حكم بنات الابن إذا استوفى بنات الصلب الثلثين لم يبق لهن فرض، فإن كان معهن أخ صرن عصبة معه، ووجبت قسمة الثلث الباقي بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين..
١٣ - سورة النساء، آية ١٧٦..
١٤ - في الأصل: أختهم..
وقوله :﴿ واللّذانِ يأتِيانها منكُم فآذُوهما٣ ﴾ : كانت المرأة إذا زنت حبست في البيت حتى تموت، وكان الرجل إذا زنا أوذي بالتعيير والضرب بالنعال، فنزلت :﴿ الزَّانِيةُ والزَّاني ﴾ الآية.
واعلم أن الآية إن كانت ناسخة فليس فيها فرق بين الثيب والبكر، وذلك يدل على أنه كان حكماً عاماً في البكر والثيب.
وورد في الأخبار الصحيحة عن عبادة بن الصامت في هذه الآية :﴿ واللاَّتي يأتِينَ الفاحِشةَ مِن نسائِكُم ﴾، قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل عليه الوحي، فكان إذا نزل عليه الوحي تربّد لونه، وكرب له، وصرفنا أبصارنا عنه فلم ننظر إليه، فلما سُرِّي عنه قال :" خذوا عني ". قال : قلنا : نعم يا رسول الله، قال : قد جعل الله لهن سبيلاً : الثيب بالثيب الرجم، والبكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة٤.
وقال الحسن : كان أول حدود النساء كن يحبسن في بيوت لهن حتى نزلت الآية التي في النور :﴿ الزَّانِيةُ والزَّاني٥ ﴾. . الآية، قال عبادة :" كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم " فذكر مثل الحديث الأول.
وروي عن الحسن وعطاء أن المراد بقوله تعالى " فآذوهما " الرجل والمرأة، وقال السدي : البكر من الرجال والنساء، وعن مجاهد : أنه أراد الرجلين الزانيين، وأراد بالأول المرأتين الزانيتين، وذكروا أن الظاهر يدل عليه، فإنه قال تعالى أولاً :﴿ واللاَّتي يأتِينَ الفاحِشةَ مِن نِسائِكُم ﴾، فاقتضى ذلك فاحشة مخصوصة من النساء.
وقال :﴿ واللّذانِ يأتِيانها مِنكُم ﴾ : فاقتضى ذلك فاحشة مخصوصة بالرجال، فالأول فاحشة بين النساء، والثاني فاحشة بين الرجال.
فعلى هذا المذكور من سورة النور ليس نسخاً للأول من الفاحشين، إذ لا يتعلق الجلد بها، وفي تعلقه بالفاحشة الثانية اختلاف قول بين العلماء.
ولا شك أن موجب الفاحشة وهو الحبس في البيت، منسوخ كيفما قدر الأمر، فأما الفاحشة الثانية فموجبها الإيذاء، وذلك ثابت الحكم غير منسوخ على قول بعض العلماء، وتأويل السدي أقرب إلى الظاهر، وقول غيره يحتمل، فيمكن أن تكون الآيتان نزلتا معاً، فأفردت المرأة بالحبس، وجمعا جميعاً في الأذى، وتكون فائدة إفرادها بالذكر، إفرادها بالحبس إلى أن تموت، وذلك حكم لا يشاركها فيه الرجل، وقرنت المرأة بالرجل في ذكر الأذى لاشتراكهما.
ويجوز أن تكون المرأة من قبل مشاركة الرجل في الأذى، ثم زيد في حدها الإمساك في البيت.
واعلم أن قوله :﴿ يأتِينَ الفاحِشةَ مِن نِسائكُم ﴾ : الظاهر كونه مقدماً على قوله :﴿ واللّذانِ يأتِيانها مِنكُم ﴾، فإن قوله :﴿ يأتِيانها ﴾ كناية لا بد له من مظهر متقدم مذكور في الخطاب، أو معهود معلوم عند المخاطب، فالظاهر رجوع الكناية إلى ما تقدم ذكره من الفاحشة، فيقتضي ذلك أن يكون حبس المرأة متقدماً، ثم تعذر زيادة الأذى على الحبس إن كان المراد بقوله :﴿ واللّذانِ يأتِيانها ﴾ الرجل والمرأة، مع أن إضافة الفاحشة إلى المرأة، يبعد إضافتها ثانية إليها، إلا بتقدير أمر جديد، والأذى يشتمل على الحبس وما سواه، وليس فيه دلالة مصرحة بالزيادة ليعتقد مضموناً إلى ما تقدم، والظاهر أن قوله :﴿ واللّذانِ ﴾ كناية عن الرجلين، لا عن الرجل والمرأة، لتقدم بيان فاحشة المرأة.
قيل لهؤلاء وقد قال الله تعالى :﴿ ما ترَكَ على ظهْرِها مِن دابّةٍ ﴾٦ من غير أن يتقدم ذكر المكنى عنه بالهاء. . وقال :﴿ إنّا أنزَلْناهُ في لَيْلَةِ القَدْرِ ﴾٧ فيجوز في قوله :﴿ واللّذانِ يأتِيانها مِنكُم ﴾. . فأجابوا : إن المفهوم من ذكر الإنزال : القرآن، ومن قوله على ظهرها من دابة : الأرض، فاكتفى بقرينة الحال عن ذكرها صريحاً.
وقال السدي : إن قوله ﴿ فأمسِكوهُنَّ في البُيوتِ ﴾ : في الثيبين، وقوله :﴿ واللّذانِ يأتِيانها مِنكُمَ ﴾ : في البكرين. وكيفما قدر فلا بد من شيء منسوخ في الآية.
والصحيح أنه نسخ بقوله عليه السلام :" خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً " الحديث، ويجب أن يكون قوله :﴿ الزَّانِيةُ والزَّاني ﴾ نازلاً بعد قوله عليه السلام :" جعل الله لهن سبيلاً "، فإنه لو نزل قبل هذا الخبر، ما كان لقوله عليه السلام :" خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً " معنى، وذلك يدل على نسخ الكتاب بالسنة.
وعلى هذا إذا نزلت آية النور بعد خبر عبادة، فإنما يكون متضمناً بعض حكم زنا البكر، من غير تعرض لزنا الثيب، ومن غير تعرض لنفي سنة، وذلك في القلب منه شيء.
وكيف ترك الأمر العظيم الأهم من زنا الثيب ورجمه بقول : الزانية والزاني، فيأتي بالألف واللام الدالين على استغراق الجنس، ويقول بعد ذلك :﴿ ولا تأخُذكُم بهِما رَأفَةٌ في دينِ اللهِ٨ ﴾، وذلك لأجل المبالغة، فيتعرض لمزيد تغليظ عليهم ليس من جنس الحد، ويقول في تمام التغليظ :﴿ ولْيَشْهَد عَذابَهما طائِفةٌ مِنَ المؤمِنِينَ ﴾.
فيظهر من مجموع هذه المبالغة في التغليظ أنه لو كان ثم حد آخر أوفى منه، لكان أولى بأن يتعرض له، فيظهر بذلك الاحتمال الآخر وهو أن قوله :﴿ فآذوهُما ﴾، ﴿ وأمْسِكوهُنَّ ﴾، لم ينسخه خبر عبادة، وإنما نسخه الذي في النور، فكان ذلك شاملاً للبكر والثيب جميعاً على وجه واحد، فإن الثيب أكثر من يصدر منهم الزنا، فكيف لا يتعرض لهن.
يبقى أن يقال : فما معنى قوله عليه السلام :" خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً " والسبيل كان سابقاً ؟ فيقال : إن ذلك من أخبار الآحاد، فلا يعترض به على هذا الأمر المقطوع به الذي قلناه، أو يقال : قوله :" قد جعل الله لهن سبيلاً "، بيان حكم الله تعالى، وحكم الله تعالى يجوز أن يرد في دفعتين، فإذا ورد ثانياً، كان تتمة السبيل الذي أطلقه كتاب الله تعالى.
وفيه شيء آخر من الإشكال، وذلك أن الله تعالى يقول في الآية الأولى :﴿ فأمْسِكوهُنَّ في البُيوتِ حتّى يَتَوَفَاهُنَّ الموتُ ﴾ الآية [ ١٥ ]، ويقول في الآية الثانية :﴿ فَآذوهُما فإنْ تابا وأصْلَحا فأعرِضُوا عَنْهُما ﴾ الآية [ ١٦ ].
فإن كان الذي وجب على الرجلين، أو على الرجل والمرأة على اختلاف المعنيين، عين الحبس، فإذا عُزر المَعزر منه، وجب الإعراض عنه، تاب أو لم يتب بقوله :﴿ فإنْ تابا وأصْلَحا فأعْرِضوا عَنْهُما ﴾، فإنه ذلك يقتضي عقاباً دائماً يسقطه التوبة والصلاح والإخلاص، ويكون ذلك الحبس، فيقتضي ذلك أن يكون الإيذاء عبارة عن الحبس أيضاً، كما كان في الأولى، إلا أن الله تعالى عبر عنهما بعبارتين مختلفتين. فهذا تمام ما تيسر تقريره هاهنا، مع ما فيه من الإشكال.
وقد أنكرت الخوارج الرجم، لأجل أن الذي في سورة النور لا يحتمل أن يكون في وقت اختلاف حد البكر والثيب كما قررناه، وإذا كان كذلك فلا بد وأن يكون تمام الحد هو القدر المذكور في سورة النور في حق البكر والثيب جميعاً، فإذا كان كذلك، فشرع الرجم نسخ لهذه الآية، ونسخ القرآن بأخبار لا يجوز بوجه.
٢ - سورة النور، الآية ٢..
٣ - سورة النساء، الآية ١٦..
٤ - أخرجه الإمام أحمد في مسنده جزء ٥ ص٣١٧. ورواه الشافعي والطيالسي وعبد الرزاق وابن أبي شيبة والدارمي ومسلم وأبو داود وابن حبان..
٥ - سورة النور، آية ٢..
٦ - سورة فاطر، آية ٤٥..
٧ - سورة القدر، آية ١..
٨ - سورة النور، آية ٢..
وقوله :﴿ واللّذانِ يأتِيانها منكُم فآذُوهما٣ ﴾ : كانت المرأة إذا زنت حبست في البيت حتى تموت، وكان الرجل إذا زنا أوذي بالتعيير والضرب بالنعال، فنزلت :﴿ الزَّانِيةُ والزَّاني ﴾ الآية.
واعلم أن الآية إن كانت ناسخة فليس فيها فرق بين الثيب والبكر، وذلك يدل على أنه كان حكماً عاماً في البكر والثيب.
وورد في الأخبار الصحيحة عن عبادة بن الصامت في هذه الآية :﴿ واللاَّتي يأتِينَ الفاحِشةَ مِن نسائِكُم ﴾، قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل عليه الوحي، فكان إذا نزل عليه الوحي تربّد لونه، وكرب له، وصرفنا أبصارنا عنه فلم ننظر إليه، فلما سُرِّي عنه قال :" خذوا عني ". قال : قلنا : نعم يا رسول الله، قال : قد جعل الله لهن سبيلاً : الثيب بالثيب الرجم، والبكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة٤.
وقال الحسن : كان أول حدود النساء كن يحبسن في بيوت لهن حتى نزلت الآية التي في النور :﴿ الزَّانِيةُ والزَّاني٥ ﴾.. الآية، قال عبادة :" كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم " فذكر مثل الحديث الأول.
وروي عن الحسن وعطاء أن المراد بقوله تعالى " فآذوهما " الرجل والمرأة، وقال السدي : البكر من الرجال والنساء، وعن مجاهد : أنه أراد الرجلين الزانيين، وأراد بالأول المرأتين الزانيتين، وذكروا أن الظاهر يدل عليه، فإنه قال تعالى أولاً :﴿ واللاَّتي يأتِينَ الفاحِشةَ مِن نِسائِكُم ﴾، فاقتضى ذلك فاحشة مخصوصة من النساء.
وقال :﴿ واللّذانِ يأتِيانها مِنكُم ﴾ : فاقتضى ذلك فاحشة مخصوصة بالرجال، فالأول فاحشة بين النساء، والثاني فاحشة بين الرجال.
فعلى هذا المذكور من سورة النور ليس نسخاً للأول من الفاحشين، إذ لا يتعلق الجلد بها، وفي تعلقه بالفاحشة الثانية اختلاف قول بين العلماء.
ولا شك أن موجب الفاحشة وهو الحبس في البيت، منسوخ كيفما قدر الأمر، فأما الفاحشة الثانية فموجبها الإيذاء، وذلك ثابت الحكم غير منسوخ على قول بعض العلماء، وتأويل السدي أقرب إلى الظاهر، وقول غيره يحتمل، فيمكن أن تكون الآيتان نزلتا معاً، فأفردت المرأة بالحبس، وجمعا جميعاً في الأذى، وتكون فائدة إفرادها بالذكر، إفرادها بالحبس إلى أن تموت، وذلك حكم لا يشاركها فيه الرجل، وقرنت المرأة بالرجل في ذكر الأذى لاشتراكهما.
ويجوز أن تكون المرأة من قبل مشاركة الرجل في الأذى، ثم زيد في حدها الإمساك في البيت.
واعلم أن قوله :﴿ يأتِينَ الفاحِشةَ مِن نِسائكُم ﴾ : الظاهر كونه مقدماً على قوله :﴿ واللّذانِ يأتِيانها مِنكُم ﴾، فإن قوله :﴿ يأتِيانها ﴾ كناية لا بد له من مظهر متقدم مذكور في الخطاب، أو معهود معلوم عند المخاطب، فالظاهر رجوع الكناية إلى ما تقدم ذكره من الفاحشة، فيقتضي ذلك أن يكون حبس المرأة متقدماً، ثم تعذر زيادة الأذى على الحبس إن كان المراد بقوله :﴿ واللّذانِ يأتِيانها ﴾ الرجل والمرأة، مع أن إضافة الفاحشة إلى المرأة، يبعد إضافتها ثانية إليها، إلا بتقدير أمر جديد، والأذى يشتمل على الحبس وما سواه، وليس فيه دلالة مصرحة بالزيادة ليعتقد مضموناً إلى ما تقدم، والظاهر أن قوله :﴿ واللّذانِ ﴾ كناية عن الرجلين، لا عن الرجل والمرأة، لتقدم بيان فاحشة المرأة.
قيل لهؤلاء وقد قال الله تعالى :﴿ ما ترَكَ على ظهْرِها مِن دابّةٍ ﴾٦ من غير أن يتقدم ذكر المكنى عنه بالهاء.. وقال :﴿ إنّا أنزَلْناهُ في لَيْلَةِ القَدْرِ ﴾٧ فيجوز في قوله :﴿ واللّذانِ يأتِيانها مِنكُم ﴾.. فأجابوا : إن المفهوم من ذكر الإنزال : القرآن، ومن قوله على ظهرها من دابة : الأرض، فاكتفى بقرينة الحال عن ذكرها صريحاً.
وقال السدي : إن قوله ﴿ فأمسِكوهُنَّ في البُيوتِ ﴾ : في الثيبين، وقوله :﴿ واللّذانِ يأتِيانها مِنكُمَ ﴾ : في البكرين. وكيفما قدر فلا بد من شيء منسوخ في الآية.
والصحيح أنه نسخ بقوله عليه السلام :" خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً " الحديث، ويجب أن يكون قوله :﴿ الزَّانِيةُ والزَّاني ﴾ نازلاً بعد قوله عليه السلام :" جعل الله لهن سبيلاً "، فإنه لو نزل قبل هذا الخبر، ما كان لقوله عليه السلام :" خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً " معنى، وذلك يدل على نسخ الكتاب بالسنة.
وعلى هذا إذا نزلت آية النور بعد خبر عبادة، فإنما يكون متضمناً بعض حكم زنا البكر، من غير تعرض لزنا الثيب، ومن غير تعرض لنفي سنة، وذلك في القلب منه شيء.
وكيف ترك الأمر العظيم الأهم من زنا الثيب ورجمه بقول : الزانية والزاني، فيأتي بالألف واللام الدالين على استغراق الجنس، ويقول بعد ذلك :﴿ ولا تأخُذكُم بهِما رَأفَةٌ في دينِ اللهِ٨ ﴾، وذلك لأجل المبالغة، فيتعرض لمزيد تغليظ عليهم ليس من جنس الحد، ويقول في تمام التغليظ :﴿ ولْيَشْهَد عَذابَهما طائِفةٌ مِنَ المؤمِنِينَ ﴾.
فيظهر من مجموع هذه المبالغة في التغليظ أنه لو كان ثم حد آخر أوفى منه، لكان أولى بأن يتعرض له، فيظهر بذلك الاحتمال الآخر وهو أن قوله :﴿ فآذوهُما ﴾، ﴿ وأمْسِكوهُنَّ ﴾، لم ينسخه خبر عبادة، وإنما نسخه الذي في النور، فكان ذلك شاملاً للبكر والثيب جميعاً على وجه واحد، فإن الثيب أكثر من يصدر منهم الزنا، فكيف لا يتعرض لهن.
يبقى أن يقال : فما معنى قوله عليه السلام :" خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً " والسبيل كان سابقاً ؟ فيقال : إن ذلك من أخبار الآحاد، فلا يعترض به على هذا الأمر المقطوع به الذي قلناه، أو يقال : قوله :" قد جعل الله لهن سبيلاً "، بيان حكم الله تعالى، وحكم الله تعالى يجوز أن يرد في دفعتين، فإذا ورد ثانياً، كان تتمة السبيل الذي أطلقه كتاب الله تعالى.
وفيه شيء آخر من الإشكال، وذلك أن الله تعالى يقول في الآية الأولى :﴿ فأمْسِكوهُنَّ في البُيوتِ حتّى يَتَوَفَاهُنَّ الموتُ ﴾ الآية [ ١٥ ]، ويقول في الآية الثانية :﴿ فَآذوهُما فإنْ تابا وأصْلَحا فأعرِضُوا عَنْهُما ﴾ الآية [ ١٦ ].
فإن كان الذي وجب على الرجلين، أو على الرجل والمرأة على اختلاف المعنيين، عين الحبس، فإذا عُزر المَعزر منه، وجب الإعراض عنه، تاب أو لم يتب بقوله :﴿ فإنْ تابا وأصْلَحا فأعْرِضوا عَنْهُما ﴾، فإنه ذلك يقتضي عقاباً دائماً يسقطه التوبة والصلاح والإخلاص، ويكون ذلك الحبس، فيقتضي ذلك أن يكون الإيذاء عبارة عن الحبس أيضاً، كما كان في الأولى، إلا أن الله تعالى عبر عنهما بعبارتين مختلفتين. فهذا تمام ما تيسر تقريره هاهنا، مع ما فيه من الإشكال.
وقد أنكرت الخوارج الرجم، لأجل أن الذي في سورة النور لا يحتمل أن يكون في وقت اختلاف حد البكر والثيب كما قررناه، وإذا كان كذلك فلا بد وأن يكون تمام الحد هو القدر المذكور في سورة النور في حق البكر والثيب جميعاً، فإذا كان كذلك، فشرع الرجم نسخ لهذه الآية، ونسخ القرآن بأخبار لا يجوز بوجه.
٢ - سورة النور، الآية ٢..
٣ - سورة النساء، الآية ١٦..
٤ - أخرجه الإمام أحمد في مسنده جزء ٥ ص٣١٧. ورواه الشافعي والطيالسي وعبد الرزاق وابن أبي شيبة والدارمي ومسلم وأبو داود وابن حبان..
٥ - سورة النور، آية ٢..
٦ - سورة فاطر، آية ٤٥..
٧ - سورة القدر، آية ١..
٨ - سورة النور، آية ٢..
وقوله :﴿ ولا تَعْضُلوهُنَّ لِتَذهَبوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ١ ﴾ : أمر للأزواج بتخلية سبيلها، إذا لم يكن فيها حاجة، فلا يضرّ بها في إمساكها حتى تضجر، فتفتدى ببعض مالها٢، كذا فسره ابن عباس. وقال الحسن : هو نهي لولي الزوج الميت أن يمنعها من التزويج على ما كان عليه أمر الجاهلية.
وقوله تعالى :﴿ إلاَّ أنْ يأتِينَ بفاحِشَةٍ مُبَيّنَةٍ ﴾ : يحتمل زناها الذي يجوز للرجل من أجله أن يهجرها ويزجرها، ويجوز أن يكون نشوزها، فهذا معنى الآية، وشرحنا أحكام الخلع في سورة البقرة.
وذكر عطاء الخراساني أن الرجل كان إذا أصابت امرأته فاحشة، أخذ ما ساق إليها وأخرجها، فنسخ ذلك. وقال زيد بن أسلم في هذه الآية :﴿ لا يِحِلُّ لَكُم أن تَرِثوا النِّساءَ كَرْهاً ﴾ : كان أهل يثرب إذا مات الرجل منهم في الجاهلية، ورث امرأته من يرث ماله، فكان يعضلها حتى يتزوجها أو يزوجها من أراد، فكان أهل تهامة يسيء الرجل صحبة امرأته حتى يطلقها، ويشترط عليها ألا تنكح من أراد حتى تفتدى منه ببعض ما أعطاها، فنهى الله المؤمنين عن ذلك. قال زيد : وأما قوله :﴿ إلاَّ أنْ يَأتِينَ بفاحِشّةٍ مُبَيّنَةٍ ﴾، فإنه كان في الزنا ثلاثة أنحاء وقال :﴿ ولا تَقْرَبوا الزِّنا إنّه كانَ فاحِشَةٍ٣ ﴾، فلم ينته الناس، ثم نزل :﴿ واللاّتي يأتِينَ الفاحِشَةُ مِنْ نِسائِكُم ﴾ إلى قوله :﴿ أو يجْعَلَ اللهُ لهُنَّ سبيلاً ﴾ : كانت المرأة الثيب إذا زنت فشهد عليها أربعة، عضلت فلم يتزوجها أحد، فهي التي قال الله عز وجل :﴿ وَلا تَعْضُلوهُنَّ إلاَّ أن يَأتِينَ بفاحِشَةٍ مُبَيّنَةٍ ﴾، قال زيد : ثم نزلت :﴿ وَاللّذانِ يأتِيانها مِنكُم فآذوهُما ﴾ : فهذان البكران اللذان لم يتزوجا، فآذوهما أن يعرفا بذنبهما فيقال : يا زان، يا زانية، حتى يرى منهما توبة، حتى نزل السبيل فقال :﴿ الزَّانِيةُ والزَّاني فاجلِدوا كُلَّ واحدٍ مِنهُما مائةَ جلْدَة٤ ﴾، فهذا للبكرين، فقال زيد : وكان للثيب الرجم.
وفي الذي ذكره زيد جواب عن قول القائل : إن قوله :" فآذوهما " يجب أن يكون الحبس، فإن التعزير إذا أقيم وجب الإعراض عنه، فإنه قال : معنى الإيذاء له أن يعرف بالفاحشة تعبيراً فيقال : يا زانِ، يا زانية، إلى أن يتوبا فيسقط التعيير.
قوله تعالى :﴿ وعاشِروهُنَّ بالمَعْرُوفِ ﴾ : معناه مثل معنى قوله :﴿ فإمساكٌ بمَعْروُفٍ ﴾، وذلك توفية حقها من المهر والنفقة، وأن لا يعبس في وجهها بغير ذنب، وأن يكون مطلقاً في القول، لا فظاً ولا غليظاً، ولا مظهر ميلاً إلى غيرها.
قوله تعالى :﴿ فإن كَرِهتُموهُنَّ فَعَسى أن تَكْرَهوا شَيْئاً ويجْعَل اللهُ فيهِ خيراً كثيراً ﴾ : بيان استحباب الإمساك بالمعروف، وإن كان على خلاف هوى النفس، وفيه دليل على أن الطلاق مكروه.
٢ - نهى الله جل ثناؤه زوج المرأة عن التضييق عليها، والإضرار بها، وهو لصحبتها كاره، ولفراقها محب، ولتفتدى منه ما آتاها من الصداق"..
٣ - سورة الإسراء، آية ٣٢..
٤ - سورة النور، آية ٢..
وقال قوله تعالى :﴿ مِن قَبْلِ أنْ تَمسّوُهُنّ ﴾١ : يعم المخلو بها وغيرها.
وقوله :﴿ وَقَد أفْضَى ﴾ : يدل في حق المخلو بها وغيرها، والإفضاء حمله القراء على الوطء، وقيل : أصله مأخوذ من الفضاء، وهو المكان الذي ليس فيه بناء حاجز عن إدراك ما فيه، فسميت الخلوة إفضاء لزوال المانع من الوطء، ويقال في تقدير ذلك الأصل : أن لا يأخذ شيئاً منها بعد أن ملكت، إلا أن الإجماع حصل في حق غير المخلو بها. . ويقال في الجواب عنه : بل الأصل أن المعوض متى عاد سليماً إليها، فيرد كمال العوض إلى الزوج، إلا فيما استثنى من الوطأة الواحدة، أو الموت، أو بقاء نصف المهر عليها عند الطلاق، والكلام يتقاوم ويخرج عن معنى أحكام القرآن.
فإذا ثبت ذلك، فالتي عقد الأب عليها، مراد الآية إجماعاً، ودل عليه نظيره :﴿ وحَلائِلُ أبنائكُم الذينَ مِنْ أصْلابِكُم ﴾ الآية [ ٢٣ ].
وسيقت الآيات بعدها لتحريم العقد، وقال :﴿ ولا تَنْكِحوا ما نَكَحَ آباؤكُم ﴾ :
ولا يجوز أن يريد به الوطء دون النكاح، فإن ذلك محرم لا بهذه العلة، بل الزنا محرم على الإطلاق، وإنما يكون قد حرم ما كان تحريمه لأجل نكاح الأب، وهو عقد نكاح الابن، وهذا لا يشك فيه عاقل. ودل على ذلك أيضاً قوله :﴿ ورَبائِبُكُم اللاّتي في حُجورِكُم مِن نِسائكُم اللاّتي دخَلْتم بهِنَّ ﴾ الآية [ ٢٣ ] : معناه : دخلتم بهن من نسائكم، ولا يكون ذلك إلا في النكاح١.
وليس يخفى على عاقل، أن تحريم منكوحة الأب على الابن، ليس للتغليظ على الابن بحرام صدر من الأب، بل هو لتعظيم الأب في منكوحة بمثابة أم لابنه، وامرأة ابنه بمثابة بنت له، فإذا كان ذلك بطريق الكرامة والمحرمية، فلا يقتضي الزنا المجرد ذلك.
وذكر الرازي أن الله تعالى غلظ أمر الزنا بإيجاب الرجم تارة، وبإيجاب الجلد أخرى، فمن التغليظ إيجاب التحريم، وذكر هذا المعنى في شرح معنى هذه الآية، وذلك غلط فاحش منه، فإنه لا يتوهم التغليظ على الابن في زنا الأب، مع أن المزنية غير محرمة على الزاني، فهذا تمام هذا المعنى٢.
ثم إن الرازي قال : زعم الشافعي أن الله تعالى لما أوجب الكفارة على قاتل الخطأ، كان قاتل العمد أولى بذلك، إن كان حكم العمد أعظم من حكم الخطأ، ألا ترى أن الوطء لا يختلف حكمه أن يكون بزنا أو بغير الزنا، فيما يتعلق به من فساد الحج والصوم ؟ فكذلك ما نحن فيه.
وهذا الذي ذكره غاية الجهل، فإن الشافعي لما٣ قال ذلك في حكم الكفارة التي محلها القتل، الذي هو محظور غير مستحق، ولذلك لا تجب في القتل المباح، وأما المحرمية فإنها كرامة ونعمة، وتعلقت في الأصل بالنكاح الصحيح، قال٤ الشافعي : الكفارة في الأصل وجبت لمعنى كرامة في الآدمي، وثبتت في النكاح، وأثبتت في حق الابن بسبب نكاح الأب، إنما أثبتت لمعنى، كان الزنا أولى بذلك المعنى.
فالذي ذكره يدل على أنه لم يفهم معنى كلام الشافعي رضي الله عنه، ولم يميز بين محل ومحل، ولكل مقام مقال، ولتفهم معاني كتاب الله رجال، وليس هو منهم، وعلى هذا فساد العبادات، فإن فسادها للجنايات على العبادة، والزنا في هذا المعنى مثل الوطء بالنكاح.
وقد اعترف بعض من ادعى الإنصاف منه، أن المحرمية لا تثبت بطريقة التغليظ، فإن هذا النمط من الكلام باطل، فتكلف في الزنا جهة رأى أنه يقتضي الكرامة من تلك الجهة، وتلك الجهة باطلة قطعاً ولسنا لنذكرها.
وذكر الشافعي مناظرة بينه وبين مسترشد طلب الحق منه في هذه المسألة، فأوردها الرازي متعجباً منها ومنبهاً على ضعف كلام الشافعي فيها، ولا شيء أدل على جهل الرازي، وقلة معرفته بمعاني الكلام من سياقته لهذه المناظرة، واعتراضاته عليها، ونحن نبين كلام الشافعي رضي الله عنه : اعلم أن كلام الشافعي دل أولاً، على أن الله تعالى ما أثبت المحرمية في زوجة الأب كان الوطء أو لم يكن في حق الابن إلا كرامة ونعمة، ولا يتهيأ لعاقل أن يقول إن الشرع يجعل زوجة الإنسان محرماً لابنه حتى يجوز له أن يخلو بها، ويسافر معها، ويراها بمثابة أمه من الرضاعة والنسب بطريق العقوبة، وإذا تقرر ذلك قال الشافعي رضي الله عنه : فقال لي قائل : لم قلت : إن الحرام لا يحرم الحلال ؟ قلت : قال الله تعالى :﴿ ولا تَنْكَحوا ما نَكَحَ آباؤكُم مِنَ النِّساءِ ﴾، وقال :﴿ وأمّهاتُ نِسائِكُم ﴾ إلى قوله ﴿ دخَلتُم بهِنَّ٥ ﴾، أفلست تجد التنزيل إنما يحرم من سمى بالنكاح أو الدخول في النكاح ؟ قال : بلى. قلت : أفيجوز أن يكون الله تعالى حرم بالحلال شيئاً، وحرمه بالحرام، والحرام ضد الحلال ؟ والنكاح مندوب إليه مأمور به، وحرم الزنا فقال :﴿ وَلا تَقْرَبوا الزِّنا إنّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبيلا٦ ﴾.
فهذا تمهيد الدلالة من إمامنا الشافعي رضي الله عنه، وأشار بها إلى أن الشارع حرم زوجة الأب من غير دخول مثلاً على الابن، وإذا ثبت ذلك، فإذا أردنا فهم المعنى منه لنلحق به ما سواه، لم يكن فهم معنى التغليظ، وإنما يفهم منه معنى الكرامة، والكرامة إنما تليق بسبب مباح أو مندوب إليه، فلا يتصور فهم معنى الكرامة في إثبات المحرمية، وحليلة الأب والابن وأم المرأة، ثم يقاس عليه الزنا الذي لا يليق به الكرامة، فإنهما ضدان، فلا يتعرف من أحدهما ضد مقتضاه في الآخر بطريق الاعتبار والقياس، وهذا في نظر أهل الأصول والتحقيق من الضروريات، قال هذا الجاهل - أعني الرازي :-
تلا الشافعي آيتين، وليس فيهما أن٧ التحريم لا يقع بغيرهما، كما لا ينفي الحلال إيجاب التحريم بالوطء، بملك اليمين وبسط القول فيه ومعناه هذا، ولم يعلم هذا الجاهل معنى كلام الشافعي رضي الله عنه، فاعترض عليه بما قاله، وعجب الناس من ذلك وقال : في هذه المناظرة أعجوبة لمن تأمل، فكان كما قال القائل :
وكم من عائب قولاً صحيحاً | وآفته من الفهم السقيم |
ثم كلام الشافعي، قال له : أجد جماعاً وجماعاً، فلعل السائل ظن أن هذا الكلام الحكيم معلق على صورة الجماع، مثل الغسل وفساد العبادات، فقال الشافعي : هذا جماع لو فعلت حمدت عليه، وذلك لو فعلت رجمت به، فرده إلى المعنى الأول.
أي إن العاقل لا يفهم من تحريم زوجة الأب بنفس العقد على تقدير أنها كرامة، ولا من تحريم حليلة الابن مذكوراً بلفظ الحليلة مثل تلك الكرامة، فيما هو محظور محض، سماه الله تعالى مقتاً وفاحشة، وقال :﴿ وَساءَ سَبيلاً ﴾. وقال له السائل : هل توضحه بأكثر من هذا ؟ قال : نعم، أفنجعل الحلال الذي هو نعمة، قياساً على الحرام الذي هو نقمة ؟
والعجب أن الرازي ذكر هذا وقال : هذا تكرار المعنى الأول، ولم يفهم مقصوده مع هذا الإيضاح، ثم ألزم وطء الحائض، والوطء في النكاح الفاسد، والجارية المجوسية، وأن الوطء في هذه المواضع بمنزلة نفس النكاح، مع أن ذلك مزجور٩ عنه محرم، وهذا لا يخفي وجه الجواب عنه، لما تشتمل عليه هذه الوطئات من معنى الحرمة واقتضائها١٠ للكرامة في أمر النسب والعدة.
وتمام الجواب عنه مذكور في مسائل الخلاف، غير أن مقصودنا الآن فهم معنى الآية التي سيقت لبيان مجرد العقد في حق الابن، وصار العقد المجرد مراداً به بالإجماع، كيف يمكن أن يفهم منه الزنا ؟
ثم حكى زيادة على ما قلناه للشافعي رضي الله عنه، ووجد في كتبه، استشهادات من المسائل بعيدة، وجواب الشافعي عنها، وكذب الجاهل في تلك الزيادات.
والمنقول عن الشافعي رضي الله عنه في كتبه، هذا الذي ذكرناه من القواطع الأصولية، التي يتلقاها العقل والشرع بالقبول والاتباع.
والعجب أنه كما لم يفهم كلام الشافعي، لم يفهم كلام السائل أيضاً، حيث قال :" أجد جماعاً وجماعاً ".
قال : السائل قصد بذلك أن يتبين أن المعنى إذا لم يتضح فاسد وجه فيه الشبه١١، فقال :" أجد جماعاً وجماعاً " والشافعي أبان الفرق بينهما بالمعنى الذي ذكره، فلا هو اهتدى إلى وجه الشبه، ولا إلى وجه الحجة.
وإنما كان الذي ناظره محمد بن الحسن١٢.
ثم قال هذا الجاهل بفرط جهله : وسرور الشافعي بمناظرة مثله، يدل على أنهما كانا كالمتقاربين في المناظرة، وإلا فلو كان عنده في معنى المبتدي والغبي العامي، لما أثبت مناظرته إياه في كتابه، ولو كلم به المبتدئون من أصحابنا لما خفي عليهم عوار هذه الحجاج، وضعف السائل والمسئول فيه١٣.
هذا لفظ الرازي نقلته على وجهه من كتابه الذي سماه أحكام القرآن١٤.
والذي ذكره من الوقيعة في إمامنا الشافعي رضي الله عنه، يكفيه في الجواب عنه جهله بقدر الشافعي أولاً، وجهله بكلامه الذي حكيناه وشرحناه، ولله يوم يخسر فيه المبطلون.
ولو أن المحققين يعلمون أن في إيضاحنا لجهله بمعنى كلام الشافعي أتم انتصار منه، لتجاوزنا ذلك إلى ما سواه.
ومما ذكره الشافعي رضي الله عنه أن قال : كيف يتهيأ لعاقل أن يفهم من قوله تعالى :﴿ وَلا تَنْكحوا ما نَكَحَ آباؤكُم مِنَ النِّساءِ ﴾ أن من قبل امرأة بشهوة، حرم على ابنه التزوج بها تلقياً من قوله :﴿ ولا تَنْكِحوا مَا نَكَحَ آباؤكُم ﴾.
أترى ذلك من قبيل ما يسمى نكاحاً على تقدير عرف الشرع، أو عرف اللغة وموجبها ؟ ولو نظر إلى فرجها فكذلك، ولو نظر إلى سائر بدنها فلا، ولو نظرت إلى فرج رجل، حرم على ابنه أن ينكحها تلقياً من قوله :﴿ ولا تنْكِحوا ما نَكَحَ آباؤكُم ﴾، أو تلقياً من قوله :﴿ وأمّهاتُ نِسائِكُم ﴾ أو من قوله :﴿ وحلائِلُ أبناؤكُم ﴾، أليس ترك هذا القول خيراً من نصرته مع ما فيه من المخازي ؟
وظاهر مذهب الشافعي رضي الله عنه، أن اللمس بشهوة في ملك اليمين وفي النكاح، لا يوجب تحريم ما يتعلق تحريمه بالوطء.
قوله :﴿ إلاَّ ما قَد سَلَفَ ﴾ : فيه نظر، فإنه قال :﴿ ولا تنْكحوا ﴾ ثم قال :﴿ إلاَّ ما قَد سَلَفَ ﴾. وظاهر ذلك أن الذي سلف كان نكاحاً، إلا أن قوله :﴿ إنّه كانَ فاحِشةً ومَقْتاً وساءَ سَبيلاً ﴾ يرده فمعنى قوله ﴿ إلاَّ ما قَد سَلَفَ ﴾، أي إلا ما قد سلف فإنكم غير مؤاخذين به.
فعلى هذا قوله :﴿ إلاَّ ما قَد سَلَفَ ﴾، استثناء منقطع كقولهم : لا تلق إلا ما لقيت، يعني لكن ما لقيت فلا لوم عليك فيه.
وقوله تعالى :﴿ إنّه كانَ فاحِشةً١٥ ﴾ : يعني بعد النهي، وإلا فقبل النهي ليس بفاحشة، لا قبل المبعث ولا بعده، فعلى هذا قوله :﴿ إلاَّ ما قد سَلَفَ ﴾، يعني فإنه يسلم منه بتركه والتوبة منه.
نعم، في هذه الآية دلالة ظاهرة للشافعي رضي الله عنه، في أن من تزوج امرأة ابنه، ثم وطئها مع العلم بالنهي والتحريم إنه زانٍ، لأنه تعالى قال :﴿ إنّهُ كانَ فاحِشَةً ومَقتاً وساءَ سَبيلاً ﴾، كما قال :﴿ ولا تَقْرَبوا الزِّنا إنّه كان فاحِشةً وساءَ سبيلاً ﴾، فذكر في نكاح امرأة الأب مثل ذلك.
فإن قيل : إنه إذا كان عندكم النكاح بمعنى العقد، والعقد لم ينعقد، فليس ثم زنا، فما معنى قوله :﴿ فاحِشةً وَمقْتاً وساءَ سَبيلاً ﴾ والفاحشة عندكم ترجع إلى العقد،
٢ - يقول الجصاص: "وسمى العقد المختص بإباحة الوطء نكاحا، لأن من لا يحل له وطؤها لا يصح نكاحها"..
٣ - كذا بالأصل، ولعل (لما) زائدة..
٤ - في الأصل: فقال..
٥ - سورة النساء، الآية ٢٣..
٦ - سورة الإسراء، الآية ٣٢..
٧ - انظر أحكام القرآن للجصاص ج٣ ص٥٦..
٨ - قال في القاموس: شذا بالخبر: علم به فأفهمه.
٩ - مزجور: منهي عنه..
١٠ - الأصح: وعدم اقتضائها..
١١ - كذا بالأصل والأصح: فاسد فيه وجه الشبه..
١٢ - قال النيسابوري في غرائب القرآن: وقد ناظر الشافعي محمد بن الحسن في هذه المسألة فوقع ختم الكلام على قول الشافعي: وطء حرمت به ووطء رجعت به كيف يشتبهان؟...
١٣ - أحكام القرآن للجصاص ج٣ ص٦٠..
١٤ - وينتج من مقارنة ما ذكره بما في أحكام القرآن للجصاص تصرفه في العبارة، واعتماده طريق الاختصار مع الأمانة في النقل..
١٥ - عقب بالذم البالغ المتتابع، وذلك دليل على أنه فعل انتهى من القبح إلى الغاية..
فإن ثبت ذلك، فقد حرم الله تعالى بعد الأمهات الأخوات، وذكر بنات الأخوات، وبنات الأخ، لأن اسم الأخ لا يتناول ابن الأخ مجازاً ولا حقيقة.
واعلم أن الله تعالى وضع هذا التحريم على ترتيب عجيب، فحرم أولاً أصول الإنسان عليه وفصوله، وفصول أصوله الأولى بلا نهاية، وحرم فصول فصوله بلا نهاية، وحرم أول فصول كل أصل ليس قبله أصل إلى غير نهاية، وهو أولاد الإخوة والأخوات، وحرم أول فصل من كل أصل قبله أصل آخر بينه وبين الناكح، وهو أولاد الجد وأبو الجد، فإن التحريم مقصور، وابنة الخال، على أول فصل، فابنة العم، وابنة العمة، وابنة الخالة حلال. ثم قال : و﴿ أمّهاتِكُم اللاّتي أرْضَعْنَكُم ﴾، فحرم من الرضاع ما حرم من النسب، غير أن في الرضاع لم يذكر بنات الأخ والعمات والخالات من الرضاعة، ودل على ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم :" يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب٣ ". وقال تعالى :﴿ وأمّهاتُ نِسائِكُم ﴾، وقد حرم الله تعالى الأم من الرضاعة، من غير تعرض لما به يحصل الرضاع٤ من مقدار الرضاع٥ ومدته، فالتعلق بهذه الآية في إثبات التحريم بالرضعة الواحدة تعلق بالعموم، الذي سيق لغرض آخر غير غرض التعميم، إلا أن صيغة العموم وقعت صلة في الكلام زائدة، ليتوصل بها إلى غرض آخر يستنكره في سياقته، للتعريج على ذكر تفصيل ما يتعلق به حرمة الرضاع، وفي مثله يقول الشافعي رضي الله عنه : الكلام يجمل في غير مقصودة ويفصل في مقصوده، وفي الأصوليين من يخالف ذلك.
وقد شرحنا ذلك في تصانيفنا في الأصول، واليد العليا لمن يذب عن مذهب الشافعي رضي الله عنه ذلك، وهو منع الاستدلال بهذا الجنس من العموم.
وذكر الرازي في هذا المقام، أن أخبار آحاد النصوص لا يجوز أن يخصص بها هذا العموم، فضلاً عن منع التعلق به، وفيما قدمناه ما يبين فساد قوله.
واختلف الناس في لبن الفحل، وهو أن يتزوج المرأة فتلد منه ولداً ويدر لها لبناً بعد ولادتها منه، فترضع منه صبياً : فأكثر العلماء على أن لبن هذا الفحل، يحرم هذا الصبي على أولاد الرجل، وإن كانوا من غيرها، ومن لا يعتبر لا يوجب تحريماً بينه وبين أولاده من غيرها.
فمن قال بلبن الفحل ابن عباس، وقال ابن سيرين : كرهه قوم، ولم ير به قوم بأساً، ومن كرهه كان أفقه، وهو قول القاسم بن محمد، وعليه الفقهاء المعتبرون مثل الشافعي، ومالك، والثوري، والأوزاعي، والليث، وأبي حنيفة وأصحابه جميعاً. وخالف سعيد بن المسيب، وإبراهيم النخعي، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وقالوا : لبن الفحل لا يحرم شيئاً من قبل الرجل.
وقوله تعالى :﴿ وأمّهاتِكُم٦ اللاَّتي أرْضَعْنَكُم ﴾، يدل على أن الفحل أب، لأن اللبن منسوب إليه، فإنه در بسبب ولده وهذا ضعيف فإن الولد خلق من ماء الرجل والمرأة جميعاً، واللبن من المرأة ولم يخرج من الرجل، وما كان من الرجل إلا وطء هو سبب لنزول الماء منه، وإذا حصل الولد، خلق الله للبن، من غير أن يكون اللبن مضافاً إلى الرجل بوجه ما، ولذلك لم يكن للرجل حق في اللبن، وإنما اللبن لها فلا يمكن أخذ ذلك من القياس على الماء.
وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب "، يقتضي التحريم من الرضاع، ولا يظهر وجه نسبة الرضاع إلى الرجل، مثل ظهور نسبة الماء إليه، والرضاع منها، لا جرم الأصل فيه حديث الزهري وهشام ابن عروة عن عروة عن عائشة رضي الله عنها، أن أفلح أخا أبي القعيس جاء يستأذن عليها وهو عمها من الرضاعة، بعد أن نزل الحجاب، قالت : فأبيت أن آذن له، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته، فقال : ليلج عليك، فإنه عمك تربت يمينك، وقال : أبو القعيس زوج المرأة التي أرضعت عائشة رضي الله عنها. . وهذا أيضاً خبر واحد٧. ويحتمل أن يكون أفلح مع أبي بكر رضيعي لبان، فلذلك قال :" ليلج عليك فإنه عمك "، وإلا فلم يثبت أنه كان الرضاع قبل التزويج أو بعده، أو كانت امرأة أبي قعيس ولدت منه، فإن قدرت هذه الأمور، فيجوز أن يقدر به ما قال المخالف.
وبالجملة، القول فيه مشكل والعلم عند الله تعالى، ولكن العمل عليه والاحتياط في التحريم أولى، مع أن قوله :﴿ وأحِلَّ لَكُم ما وراءَ ذَلِكُم٨ ﴾، يقوي قول المخالف فاعلمه.
قول تعالى :﴿ وأمّهات نِسائِكُم٩ وربائِبُكُم اللاَّتي١٠ في حُجورِكُم مِن نِسائِكُم اللاَّتي دَخَلْتم بِهنَّ ﴾ الآية [ ٢٣ ] : اعلم أن السلف اختلفوا في اشتراط الدخول في أمهات النساء، فروي عن عليّ اشتراط ذلك، مثل ما في الربائب، وروي عن جابر مثل ذلك، وهو قول مجاهد وابن الزبير،
وأكثر العلماء على خلاف ذلك في الفرق بين الربائب وأمهات النساء.
فأما من جمع بينهما يقول : الشرط إذا تعقب جملاً رجع على الجميع، كالشرط والاستثناء بالمشيئة، وذلك ما قررناه في الأصول، وأصحاب الشافعي وأبي حنيفة يسلمون الشرط والاستثناء بالمشيئة، ورجوعهما إلى الجميع، فوجب عليهما أن يفرقوا على كل حال.
فكان الفرق أن قوله تعالى :﴿ وربائِبُكُم اللاَّتي في حُجورِكُم ﴾، ثم قال :﴿ مِن نِسائِكُم اللاَّتي دَخَلْتم بهِنَّ ﴾، فنعت الربائب بنعت لا يتقرر ذلك النعت في أمهات النساء، ثم ذكر إضافة، فالظاهر أن الإضافة وهي قوله :﴿ مِن نِسائِكُم ﴾ لصاحبة الصفة، وكانت كالصفة الثانية، فلم يظهر رد النعت الثاني إلى أمهات الثاني، وقبله وصف لا يتصور فيهن، بل الثاني يتبع الأول.
ولو قال ظاهراً :" وأمهات نسائكم اللاتي دخلتم بهن "، أو هم أن أمهات النساء من النساء، وذلك وصف للربائب، لا وصف أمهات النساء فتقرير اللفظ بنات نسائكم اللاتي دخلتم بهن.
والمخالف يقول : بل تقديره من حيث العطف :" وأمهات نسائكم وبنات نسائكم " وذلك يقتضي الجمع، فكأنه قال :" وأمهاتهن وبناتهن "، فانصرف الثاني إلى ما انصرف الأول إليه، فتقديره : وأمهات نسائكم، وبنات نسائكم اللاتي في حجوركم، ونساؤكم ممن قد دخلتم بهن.
ويجاب عنه بأن الأسماء المتحدث عنها المذكورة، هي التي يصرف النعت إليها دون الأسماء المضاف إليها، إلا أن يتبين أن النعوت للأسماء المضاف إليها بنص، أو بضرب من الدليل يقوم مقامه، فإنك إذا قلت : لعلي بن محمد بن أبي الحسن عليّ ألف درهم، تكون الكنية لعلي دون محمد، وتقول زيد بن عبد الله الفقيه قال : ظاهر أن الفقيه هو الاسم المتحدث عنه.
فحاصل القول، أن الحكم إنما ورد في أمهات النساء وفي الربائب، وكانت الإضافة من النساء اللاتي دخلتم بهن لا تليق بأمهات النساء، وهي تليق بالربائب، جعل الشرط فيه فيهن، وقام مقام النعت، وكان جعل ذلك للنساء اللاتي أضيف الأمهات إليهن، إذ الأمهات والربائب جميعاً دون الربائب ليس بمنصوص، ولم يجر فيه ما وصفتم من قولكم : وبنات نسائكم ونسائكم ممن قد دخلتم بهن، فإن ذلك بإضمار أمور يخرج بها اللفظ عن ظاهره.
وبالجملة لو جعل قوله :﴿ وَرَبَائِبُكُمُ اللاّتي في حُجُورِكُم ﴾ تمام الكلام، ويجعل ﴿ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاّتي دَخَلْتُم بِهِنَّ١١ ﴾، فيخرج الربائب اللاتي قد أجمعوا عليها من اللبن١٢، فيكون تقديره :" وأمهات نسائكم اللاتي دخلتم بهن ".
ولا شك أن كلام المخالف ليس ينقطع بذلك، إلا أنه يقال : ساق الله تعالى محرمات عدة مبهمة، وليس فيها تقييد، وجعل في آخرها تقييداً، فالأصل اتباع العموم وترك المشكوك فيه، والاحتياط للتحريم يقتضي ذلك فاعلمه.
وفي الناس من خص التحريم بالتي توصف بكونها ربيبة، وقال : إذ لم تكن في حجر الزوج، وكانت في بلد آخر، وفارق الأم بعد الدخول، فله أن يتزوج بها، وهذا قول علي١٣ رضي الله عنه، على ما يرويه عنه مالك بن أوس، فإن صح هذا عنه١٤ فيقال : يجوز أن يكون الله تعالى قد أجرى ذلك على الغالب، من غير أن تكون هذه الصفة شرطاً في التحريم، إلا أن علياً يقول : فإن كان كذلك وثبت، فلم اعتبرتم هذا الوصف في قطع الشرط المذكور بعده عن الأول، وإنما قطعتموه بتخلل هذا الوصف في قطع الربائب، وفيه إبانة اتصال الوصف الثاني بالأول.
واعلم أن قول الله تعالى :﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُم أَمّهَاتُكُم ﴾ لم يستوعب المحرمات بالنسب والرضاع جميعاً، فإنا بينا أن الآية ما تناولت الجدات من قبل الأم والأب حقيقة، ولا خالات الأب والجد وعماتهم، ولا خالات الأم وعماتهن١٥.
وفي الرضاع لم يذكر بنات الأخ، وبنات الأخت، والخالات والعمات من الرضاعة، وكل ذلك مفوض إلى بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولا يقال ذكر من ذكر، والسكوت عما سكت عنه لوجه صحيح، بل هو على ما شاء الله وأراده، لمصلحة خفية لم يطلع عليها، تولى بيان البعض وسكت عن البعض : وإذا ثبت ذلك فقوله :﴿ حُرِّمَتَ عَلَيْكُم أُمّهَاتكُم وَبَنَاتُكُم وَأخَوّاتُكُم ﴾ الآية يقتضي تحريمهن مطلقاً بملك اليمين وذلك النكاح، فإن الله تعالى أبان تحريم الاستمتاع، وحرم النكاح، لأنه طريق إلى الاستمتاع، وإذا ثبت ذلك وتقرر فقوله :﴿ حُرِّمَتَ عَلَيْكُم أُمّهَاتكُم ﴾ إلى قوله :﴿ وأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ ﴾، يقتضي تحريم الاستمتاع، إلا أن تحريم الاستمتاع بمنع النكاح ولا يمنع ملك اليمين، فنتيجته تحريم وطء المذكورين بملك اليمين، الذين لا يعتقون بالشراء.
واعلم أنه لا خلاف في تحريم وطء الأمهات، والأخوات من النسب، والرضاع بملك اليمين، وأن السبع اللواتي حرمن بالنسب، واللواتي حرمن بالنسب والصهر، حرم وطؤهن في ملك اليمين، ولا خلاف في تحريم الجمع بين وطء الأم والبنت بملك اليمين، وإذا دخل بالأم، حرمت البنت أبداً بملك اليمين، وحليلة الأب والابن محرمتان بِملك اليمين.
وإذا ثبت ذلك وتقرر فالله تعالى يقول :﴿ وَحَلاَئَلُ أَبْنَائِكُم الّذيِنَ مِنْ١٦ أَصْلاَبِكُم ﴾.
وإنما أنزلت الآية على ما قاله عطاء بن أبي رباح في النبي صلى الله عيه وسلم تزوج امرأة زيد فنزلت :﴿ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُم أبناؤكُم١٧ ﴾. و ﴿ ومَا كَانَّ مُحَمدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُم ﴾١٨ وكان يقال له : زيد بن محمد،
وسميت زوجة الإنسان حليلته، لأنه
٢ - انظر النيسابوري في غرائب القرآن..
٣ - أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، وروى البخاري ومسلم عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة"..
٤ - لعلها الراضع..
٥ - لعلها الراضع..
٦ - يقول النيسابوري في غرائب القرآن:
سمى المرضعات ـ في هذه الآية ـ أمهات تفخيما لشأنهن، كما سمى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهات لحرمتهن، وليس قوله: "وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم"..
٧ - رواه البخاري ومسلم..
٨ -.
٩ - ويدخل فيه الجدات من قبل الأب والأم..
١٠ - والربائب جمع ربيبة، وهي بنت امرأة الرجل من غيره، ومعناها مربوبة، لأن الرجل يربيها، والحجور: جمع حجر بالفتح والكسر..
١١ - كذا في الأصل والأولى: ويجعل (من نسائكم اللاتي دخلتم بهن) نعتا لأمهات النساء، فيكون تقدره: وأمهات نسائكم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن..
١٢ - كذا بالأصل، والأولى من الحكم، فيصير حكم الشرط وهو الدخول في أمهات النساء دونهن، وذلك خلاف نص التنزيل...
١٣ - روى ابن أبي حاتم عن مالك بن أوس بن الحدثان قال: كانت عندي امرأة فتوفيت وقد ولدت لي، فوجدت عليها فلقيني علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: مالك؟ فقلت: توفيت المرأة، فقال: لها ابنة؟ قلت: نعم، وهي بالطائف، قال: كانت في حجرك؟ قلت: لا هي بالطائف. قال: فانكحها، قلت: فأين قول الله: (وربائبكم اللاتي في حجوركم؟) قال: إنها لم تكن في حجرك، إنما ذلك إذا كانت في حجرك" أهـ..
١٤ - قال الحافظ ابن كثير: إسناده قوي ثابت إلى علي بن أبي طالب، على شرط مسلم.
وإليه ذهب داود بن علي الظاهري وأصحابه، وحكاه أبو القاسم الرافعي، عن مالك رحمه الله تعالى واختاره ابن حزم..
١٥ - الأصح: وعماتها..
١٦ - الحلائل جمع حليلة، وهي الزوجة، سميت حليلة لأنها تحل مع الزوج حيث حل. وللشرح انظر تفسير القرطبي ج٥ ص١١٤..
١٧ - سورة الأحزاب، آية ٤..
١٨ - سورة الأحزاب، آية ٤٠..
قوله :﴿ إلاّ ما مَلَكَتْ أيْمانُكُم ﴾ : في تأويل علي وابن عباس، في رواية وابن عمر، والآية في ذوات الأزواج من النساء، أبيح وطؤهن بملك اليمين، وحصلت الفرقة بالسبي، وورد ذلك في سبايا أوطاس، وكان لهن أزواج في المشركين، فتحرج المسلمون من غشيانهن، وأنزل الله تعالى :﴿ والمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إلاَّ ما مَلَكَتْ أيْمانُكُم ﴾، أي هن لكم٢.
وتأوله ابن مسعود، وأبي بن كعب، وأنس بن مالك، وجابر وابن عباس في رواية عكرمة : أنه في جميع ذوات الأزواج من السبايا وغيرهن، وأنهن إذا ملكن حل وطؤهن، وكانوا يقولون : بيع السيد أمته المزوجة من أجنبي، موجب للفرقة بينها وبين زوجها. وظن هؤلاء أن الآية عامة، ولا نظر إلى خصوص النسب، والصحيح أن ذلك مختص بالسبي الوارد على نكاح غير محترم، وأن تصرف الرجل في ملكه بالبيع، لا يبطل حقاً لغيره على وجه اللزوم، إذا لم يكن بين إثباتهما تناقض، وليس نكاح المتزوج مانعاً لملك اليمين، ولو كان مناقضاً لم يجز ابتداء النكاح، فهذا سبب الاختصاص. وإنما رفع الله نكاح الأزواج الحربييّن، ليخلص الملك للمسلمين، وإنما يخلص الملك بانقطاع حق الزوج في المحل، وإنما ينقطع حق الزوج بسقوط حرمته، فهذا هو السبب وهو ظاهر.
وفيه سر آخر، وهو أن انقطاع نكاح الحربي لم يكن لإثبات الحل في حق السابي، ولكنه لتصفية الملك له، لذلك لو كانت السبية أخته من الرضاعة، أو كانت مجوسية، انقطع النكاح، فإنه لو لم ينقطع، لم يصف له الملك، ولم تنقطع الرحمة والعلقة، وكان الملك ناقصاً، ولذلك تنقطع الإجارات والديون والعلق كلها، فهذا هو السبب فيه.
وأبو حنيفة لا يرى للسبي أثراً، ويقول : انقطاع النكاح باختلاف الدار، فإذا سبي الزوجان معاً، لم ينقطع النكاح.
والذي ذكره بعيد من أوجه : منها : أن المنقول في سبايا أوطاس أنهن كن ستة الآف رجل وامرأة، فكيف يمكن أن يقال لم يكن فيهم امرأة معها زوجها، وأنه امتد الأمر حتى اختلفت الدار ؟ والوجه الثاني : أن الله تعالى يقول :﴿ والمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إلا ما مَلَكَتْ أيْمانُكُم ﴾، فأحال على ملك اليمين لا على اختلاف الدار، وجعل ملك اليمين هو المؤثر، فيتعلق به من حيث العموم والتعليل جميعاً، إلا ما خصه الدليل.
وهاهنا سؤال : وهو أن يقال : قال :﴿ والمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إلا ما مَلَكَتْ أيْمانُكُم ﴾، فإن كان النكاح قد ارتفع فليست محصنة. . قيل : المقصود بذلك رفع الحرج، بسبب أنها ذات زوج، وإبانة أنا لا نمسك بعصم الكوافر، وعلق الحربيين حتى لا يتحرج بذلك السبب، فمعناه : واللواتي كن ذوات الأزواج إذا سبيتموهن، فحكمه كذا.
وتمام البيان في ذلك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال في رواية أبي سعيد الخدري في سبايا أوطاس٣ :" لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تحيض "، ولم يجعل لفراش الزوج السابق أثراً، حتى يقال إنّ المسبية مملوكة، ولكنها كانت زوجة زال نكاحها، فتعتد عدة الإماء، إلا ما نقل عن الحسن بن صالح، فإنه قال : عليها العدة حيضتان إذا كان لها زوج في دار الحرب.
وكافة العلماء رأوا استبراءها واستبراء التي لا زوج لها واحد في أن الجميع بحيضة٤.
فإذا ثبت ذلك، فذلك يدل على أنه عند السبي لم يعتبر عصمة الكافر وحرمته، حتى لم يجب عقدة النكاح أيضاً، من حيث أن إيجاب عدة النكاح تعويق ينشأ من عصمة الكافر وحرمته، ولا حرمة الكافر حتى يتعوق بسببه حق المسلم في الملك.
ولو أن المرأة هاجرت إلى دار الإسلام، أو أسلمت وانفسخ النكاح، فإنما يوجب عدة النكاح، فدل أن جواز الوطء المجرد للاستبراء لمكان زوال النكاح لملك اليمين، لا باختلاف الدار، وهذا في غاية الظهور لأصحاب الشافعي رحمة الله عليهم وعليه.
قوله تعالى :﴿ وأُحِلَّ لَكُم ما وراء ذَلِكُم ﴾ : يحتمل ما وراء ذوات المحارم من أقاربكم، ويحتمل ما عدا المحرمات، وهو الأظهر٥.
قوله تعالى :﴿ وأنْ تَبْتَغُوا بأموالِكُم ﴾ : خطاب للأزواج كلهم، فكأنه قال : تبتغون بأموالكم، فمقتضاه ابتغاء كل واحد بمال نفسه.
وظن بعض الجهال أن المراد بذلك، أن كل واحد منهم يصدقها ما يسمى أموالاً، وظاهره يقتضي أكثر من العشرة، وحكاية هذا الكلام كافية في الرد على قائله، كيف وقد قال تعالى :﴿ وإن طَلّقْتُموهُنَّ مِن قَبلِ أن تمَسُّوهُنَّ وقَدْ فَرَضْتم لهُنَّ فَرِيضَةً فنِصْفُ ما فَرَضْتُم٦ ﴾ ؟ وذلك يقتضي إيجاب نصف المفروض قليلاً كان أو كثيراً.
قوله تعالى :﴿ أنْ تَبْتَغُوا بأموالِكُم ﴾ : يمنع كون عتق الأمة صداقاً لها، خلافاً لأحمد، لدلالة الآية على كون المهر مالاً، وليس في العتق تسليم مال، وإنما فيه إسقاط الملك من غير أن استحقت به تسليم مال إليها، فإن الذي كان يملكه المولى من عبده لم ينتقل إليها وإنما يسقط، فإذاً لم يسلم الزوج إليها شيئاً، ولم تستحق عليه شيئاً، وإنما أتلف به ملكه فلم يكن مهراً، وهذا بين.
وقد جوز الشافعي رضي الله عنه جعل منفعة الحر صداقاً، ولا خلاف في منفعة العبيد، وإنما يجعل صداقاً، لأنها تستحق عليه تلك المنفعة وهي مال، ووردت فيه أخبار وهي نصوص، والشروع فيها خروج عن معاني القرآن، والذي ورد في الخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتق صفية، وجعل عتقها صداقاً، لا يعارض استدلالنا بالقرآن، لإمكان أنه كان مخصوصاً له، فإن نكاحه جاز بلا مهر، فليس يعارض ذلك استدلالنا بلفظ هو نص في حق الأمة، وقال أيضاً :﴿ وآتُوا النِّساءَ صَدُقاتهِنَّ نِحْلَةً فإنْ طِبْنَ لَكُم عَن شيءٍ منهُ نَفْساً فَكُلوهُ هَنيئاً مَرِيئاً٧ ﴾، وذلك يدل على أن العتق لا يكون صداقاً من وجوه : منها أنه قال تعالى :﴿ وآتُوا النِّساءَ صَدُقاتهِنَّ نِحْلَةً ﴾، وذلك أمر يقتضي الإيجاب، وإعطاء العتق لا يصح.
والثاني قوله :﴿ فإنْ طِبْنَ لَكُم عَن شيءٍ منهُ نَفْساً فَكُلوهُ هَنيئاً مريئاً ﴾، وذلك محال في العتق، ومتصور في المنفعة.
قوله تعالى :﴿ مُحْصِنينَ غَيرَ مُسافِحينَ ﴾٨ : يحتمل وجهين : أحدهما : الإحصان بعقد النكاح، فتقدير الكلام : اطلبوا منافع البضع بأموالكم على وجه النكاح، لا على وجه السفاح، فيكون للآية على هذا الوجه عموم،
ويحتمل أن يقال : محصنين أي الإحصان صفة لهن، ومعناه لتزوجوهن على شرط الإحصان فيهن.
وقد قال الشافعي رضي الله عنه : الإحصان مجمل يتردد بين معاني جمة، فيفتقر إلى البيان.
والوجه الأول أولى، لأنه متى أمكن جَرْي الآية على عمومها والتعلق بمقتضاها فهو أولى، ولأن مقتضى الوجه الثاني أن المسافحات لا يحل التزوج بهن، وذلك خلاف الإجماع. ويدل عليه أيضاً، أن الله تعالى ذكر نظيره في الإحصان في حق الإماء فقال :﴿ وآتوهُنَّ أجورَهُنَّ بالمَعْروفِ مُحْصَناتٍ غَيرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتّخِذاتِ أخْدانٍ٩ ﴾، ثم قال :﴿ فإذا أحْصِنَّ ﴾ معناه فإذا تزوجن. وقال :﴿ فآتوهُنَّ أجورَهُنَّ بالمَعْروفِ مُحْصناتٍ ﴾ :
فتقدير الكلام على هذا :﴿ وأُحِلَّ لَكُم ما وراءَ ذلِكُم أن تبتغوا بأمْوالِكُم ﴾ غير زنا، وهذا كلام ظاهر المعنى، ومقتضاه : إطلاق لفظ الإباحة، على وجه التعميم، وفيه إخبار عن كونها محصنة.
والإحصان في الأصل هو١٠ المنع، فقد يطلق على العقد، لأن صاحبه يمنع نفسه من الحرام، ويطلق على الإسلام. قال الله تعالى :﴿ فإذا أحْصِنّ ﴾، روي في بعض الأخبار : إذا أسلمن، وإن كان له معنى آخر ذكرناه. وقال تعالى :﴿ والمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ ﴾ : ذوات الأزواج، وسميت محصنة لأن النكاح يحصنها من السفاح. وفي الخبر : من تزوج فقد حصن ثلثي دينه١١. وتقول الفقهاء : الإحصان معتبر في الرجم.
ويقولون : هو معتبر في حد القاذف، وتختلف معانيهما والأحكام المعتبرة فيهما.
وسمي الزنا سفاحاً لأنه سفح الماء وهو صبه، يقال : سفح دمه، وسفح الجبل أسفله، لأنه موضع مصب الماء، وسافح الرجل إذا زنى، لأنه صب ماءه من غير أن يلحقه حكم مائه في ثبوت النسب، ووجوب العدة وسائر أحكام النكاح.
ويسمى الزاني مسافحاً، لأنه ليس يتعلق به حكم ثابت مستمر، وهو نسب أو عدة أو مهر، ويفهم من ذلك أن لا نسب ولا فراش، ولأجل ذلك لم يثبت الشافعي رضي الله عنه التحريم والعتق في المخلوقة من ماء الزنا، واقتضى ذلك أيضاً أن لا يثبت في حقها النسب، لأنها مسافحة، كما أنه مسافح، ولكن انفصال الولد منها محسوس، فلا يمكن تضييع حق الولد مع أن فيه خلافاً لبعض أهل العلم، أخذاً بلفظ المسافحة، وتحقيق الفرق بين جانبه وجانبها في النسب، ذكرناه على الاستقصاء في مجموعاتنا في الخلاف.
قوله تعالى :﴿ فَما اسْتَمْتَعْتم بهِ مِنْهُنَّ فَآتوهُنَّ أجورَهُنَّ فرِيضَةً ﴾ : ذكر الله تعالى ذلك بعد قوله تعالى :﴿ أنْ تَبْتَغوا بأمْوالِكُم ﴾، وذلك يقتضي بيان حكم الدخول في النكاح المذكور أولاً، وأنه لا يجوز حط شيء، وحبس قدر ما من المهر، بأي سبب طارىء. ولو لم يقدر ذلك، لم يفهم من قوله تعالى :﴿ فَما اسْتَمْتَعْتمْ به مِنْهُنَّ ﴾ معنى بوجه ما، فإن الله تعالى أمر بابتغاء البضع بالأموال قبل الاستمتاع، فذكر الاستمتاع ينبغي أن يكون سبباً لأمر ما، وليس هو إلا تقدير الصداق المذكور أولاً، حتى لا يتوهم سقوط شيء منه لعارض.
وظن ظانون أن هذه الآية وردت في نكاح المتعة١٢، وأن المهر فيه يتعلق بالدخول لا بنفس العقد ولا ميراث فيه. ونقل عن ابن عباس أنه تأول قوله :﴿ فَما اسْتَمْتَعْتم بهِ مِنْهُنّ ﴾ إلى أجل مسمى ﴿ فَآتوهُنَّ أجورَهُنّ ﴾.
وروي عنه انه رجع عن ذلك لأخبار كثيرة وردت في النهي عن متعة النساء، وتحريم لحوم الحمر الأهلية، ومن رواة الحديث على.
وروي عن ابن عباس أنه قال : نسخه قوله تعالى :﴿ إذا طَلّقْتم النِّساءَ ﴾، وأشار به إلى أنه لا نكاح إلا له طلاق، وإلا له عدة، وإلا فيه ميراث، والله تعالى يقول :﴿ والّذينَ هُم لِفُروجِهِم حافِظونَ إلاَّ عَلى أزْواجِهِمْ أوْ ما مَلَكَتْ أيْمانهِمْ١٣ ﴾.
والذي ذكره هؤلاء في معنى قوله تعالى :﴿ فَما اسْتَمْتَعْتم بهِ مِنْهُنَّ ﴾ الآية، لا يحتمل ما ذكره هذا القائل الذي حمله على نكاح المتعة١٤، فإن الأجر بمعنى المهر، قال تعالى :﴿ وَلا جناحَ عَلَيْكم أنْ تَنْكِحوهُنَّ إذا آتَيْتُموهُنَّ أجورَهُنَّ١٥ ﴾، فلما ذكر النكاح علم أنه أراد به الصداق، وقال تعالى :﴿ وآتوهُنَّ أجورَهُنَّ بالمعْروفِ مُحصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ ﴾ : فدل على أن محصنات ومحصنين عنى به التزويج، لأن محصنات ذكر مع النكاح، لقوله تعالى :﴿ فانْكِحوهُنَّ بإذنِ أهْلِهِنَّ وآتوهُنَّ أجورَهُنَّ بالمعْروف مُحصَناتٍ غَيرَ مُسافِحاتٍ ﴾.
قوله تعالى :{ ولا جُناحَ عَلَيْكُم فيما تراضَيْتُم بهِ مِ
٢ - ورد في الجصاص: أي هن لكم حلال إذا انقضت عدتهن..
٣ - أخرجه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب الرضاع، باب جواز وطء المسيبة بعد الاستبراء..
٤ - انظر القرطبي، ج٥، ص١٢٢..
٥ - انظر لباب التأويل في معاني التنزيل، ج١، ص٥٠٦..
٦ - سورة البقرة، آية ٢٢٧..
٧ - سورة النساء، آية ٤..
٨ - محصنين: متزوجين، وقيل متعففين.
غير مسافحين: غير زانين، والسفاح: الفجور، وأصله من السفح أي الصب..
٩ - سورة النساء، آية ٢٥..
١٠ - انظر روائع البيان، ج٢، ص٦٠..
١١ - وفي معناه "من تزوج فقد أحرز نصف دينه، فليتق الله في النصف الباقي". وقد رواه الحاكم وصححه بنحوه..
١٢ - انظر محاسن التأويل..
١٣ - سورة المؤمنون، آية ٥..
١٤ - ويلخص صاحب روائع البيان آراء الفقهاء في حكم نكاح المتعة فيقول:
"المتعة: هي أن يستأجر الرجل المرأة إلى أجل معين بقدر معلوم، وقد كان الرجل ينكح امرأة وقتا معلوما شهر أو شهرين أو يوما أو يومين ثم يتركها بعد أن يقضي منها وطره، فحرمت الشريعة الإسلامية ذلك، ولم تبح إلا النكاح الدائم الذي يقصد منه الدوام والاستمرار، وكل نكاح إلى أجل فهو باطل لأنه لا يحقق الهدف من الزواج.
وقد أجمع العلماء وفقهاء الأمصار قاطبة على حرمة (نكاح المتعة)، فلم يخالف فيه إلا الروافض والشيعة وقولهم مردود، لأنه يصادم النصوص الشرعية من الكتاب والسنة، ويخالف إجماع علماء المسلمين والأئمة المجتهدين.
وقد كانت المتعة في صدر الإسلام جائزة ثم نسخت واستقر على ذلك النهي والتحريم..
١٥ - سورة الممتحنة، آية ١٠..
ففي أمثال ذلك يجوز تخصيص إحدى الحالتين، تنبيهاً على ما هو الأولى بالحكم المذكور من الحالة الأخرى. أما هاهنا فإنما تعرض لحالة الضرورة في جواز النكاح، فلا يقال حال عدم الحاجة أولى بجواز نكاح الأمة، والأمة في هذا المعنى أوفى من الحرة، فإذا تبين ذلك، فذكر حالة الحاجة تنبيه على جعل الحاجة علة الإباحة، فإذا لم توجد الحاجة تحرم، فإن الذي يفهم من ثبوت الحاجة، وأن ثبوته كان لأجلها، يعلم انتفاؤه عند عدم الحاجة، وهذا مقطوع به.
وإنما ذكرنا هذه الأمثلة، وأجبنا عليها لأن الرازي٤ لم ير لهذه الآية دلالة على ضد المذكور عند عدم الحاجة، ورأى أن ذكر الحاجة في إباحة النكاح، تنزل منزلة ذكر الإملاق والحاجة في تحريم القتل، ولم يجعل لهما مفهوماً٥، وقد غلط٦ من وجهين : أحدهما٧ : أن كل ما استشهد به له مفهوم وفحوى، ولكنه من قبيل مفهوم الموافقة والتنبيه بالمذكور على مثله في غير المذكور، والقسم الآخر مفهوم المخالفة، وهو التنبيه بالمذكور على خلافه الذي لم يذكر، وهذان قسمان يعرفان لمحال الخطاب، ومواضع الكلام، ومواقع العلل والمعاني.
والرازي ظن أن الأدلة في القسمين على ما عدا المذكور، فأبان من نفسه جهله بنوعي المفهوم وقال : وبينا ذلك في أصول الفقه، فظلم نفسه بالتصدي للتصنيف في الأصول، قبل معرفة هذه الأمور الجلية، كما ظلم نفسه بالتصنيف في معاني القرآن وأحكامه، قبل إحكام معانيه.
فإذا ثبت ذلك، فيبقى هاهنا نظر، وهو أنه إن قال قائل : قد وردت ألفاظ عامة في النكاح مثل قوله تعالى :﴿ فانْكِحوا ما طابَ لَكُم مِنَ النِّساءِ ﴾ إلى قوله ﴿ أوْ ما مَلَكَتْ أيمانُكُم ﴾، وادعى هذا المحتج به أن معناه : أو نكاح ما ملكت أيمانكم، وهذا غلط، فإن معناه :﴿ فإنْ خِفْتم ألاّ تَعْدِلوا فَواحِدَةً٨ ﴾، لا يخشى فيه الجور، أو ما ملكت أيمانكم، فإن العدل في العدد فيه غير واجب أصلاً، بل يبقى لهم التعلق بالعموم، وتعلق أيضاً بقوله :﴿ والمُحْصَنَاتُ مِنَ المؤمِنات، والمُحْصَناتُ مِنَ الّذينَ أوتوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُم ﴾٩ وقوله :﴿ وأَنْكِحوا الأيامَى مِنْكُم١٠ ﴾، فزاد أن الاحتجاج بالعموم يقاوم الاحتجاج بالمفهوم، وهذا ركيك من القول، فإن ما احتجوا به من العمومات سيق للحرائر، ودل عليه سياق الآيات :﴿ وآتوا النِّساءَ صَدُقاتهِنَّ نِحْلَةً١١ ﴾.
وقوله :﴿ والمُحصَناتُ مِنَ النِّساءِ ﴾ : عنى به الحرائر، فإنه تعالى قال بعده بكلمات وتخلل فاصل :﴿ وَمَنْ لَم يَسْتَطِعْ مِنْكُم طَولاّ١٢ أنْ يَنْكِحَ المُحْصَناتِ المؤمِناتِ فَمِمّا مَلَكَتْ أيمانُكُم مِن فَتَياتِكُم المؤمِناتِ١٣ ﴾، فدل أن المراد بالمحصنة في الآية الحرة، فإن الإحصان يطلق بمعنى الإسلام، ولا يحتمل هاهنا مع قوله :﴿ والمُحْصَناتُ مِنَ المؤمِناتِ ﴾، مع قوله :﴿ والمُحْصَناتُ مِنَ الّذينَ أوتوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُم ﴾.
فذكروا أن المراد به التزويج، ولا يحتمل ها هنا، فإن المحصنات من النساء يعني المتزوجات في أقسام المحرمات، فإذا بطل ذلك، فلا يحتمل إلا معنى الحرة. وقد أجمع المفسرون هنا على أن المراد بالمحصنات هاهنا الحرائر، ودل السياق عليه في ذكر نكاح الأمة١٤، نعم قال تعالى :﴿ ومَنْ لَمْ يَسْتَطع مِنْكم طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ المُحَصّناتِ المُؤمِنَاتِ ﴾ ولم يقل :" واللواتي أوتين الكتاب من قبلكم "، فوقع الشرط في المؤمنات دون الكتابيات، فلا جرم، قال قائلون من أصحابنا : لو قدر على نكاح الكتابية دون نكاح المسلمة، فجائز له نكاح الأمة.
ويلزم عليه على مذهب الشافعي رضي الله عنه جواز إدخال الأمة على الحرة الكتابية. وفيه خلل من وجه آخر، وهو استواء نكاح الكتابية والمسلمة في الأحكام كلها، وإذا كانت القدرة على نكاح المسلمة مانعة نكاح الأمة، فإذا لم يمتنع نكاح الأمة بالقدرة على نكاح الحرة الكتابية، فالقدرة على نكاح المسلمة كذلك، فإن القدرة على مثل الشيء كالقدرة على الشيء. وفيه أيضاً بطلان فهم معنى إرقاق الولد، وأن ذلك مانع١٥، وأن هذا موجود في نكاح الحرة الكتابية، فهذا تمام هذا النوع.
والأصح أنه لا فرق بينهما، وأن القدرة على مثل الشيء كالقدرة على الشيء.
الوجه الآخر في الجواب : أن هذه العمومات ما قصد بها تفصيل شرائط النكاح، من الشهادة والولاية، والخلو عن العدة، وإنما قصد بها الندب إلى أصل النكاح، فأما الشرائط فلا ذكر لها، والذي يطلق القول العام، لا يخطر له الشرط في نكاح الأمة.
فأما إذا قال :﴿ ومَنْ لَمْ يَسْتَطِع مِنْكُم ﴾ الآية، مع قوله :﴿ ذَلِكَ لِمَنْ خَشَيَ الْعَنَتَ مِنْكُم ﴾، فلا بد وأن يكون قاصداً إبانة شرط، ولم يقصد به نزولاً عن كلام عام، وإبانة وجه خاص، كان قوله هجراً ركيكاً، فقصد التفرقة بين الحالتين ضروري في هذا الكلام، والتعرض للشرائط لا يظهر في العمومات التي ذكروها. فليفهم الفاهم هذا، فإنه مقطوع به، ولا يهتدي إليه إلا الموفقون المتعمقون في العلم.
ومما يعارضون به ما قلناه، أنه تعالى قال :﴿ ولأمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ١٦ ﴾. . . قالوا : وذلك يجوز نكاح الأمة مع القدرة على مهر المشركة، والقادر على مهر المشركة، قادر على مثله في حق المسلمة، وهذا ركيك جداً.
فإن المراد به : أنهم كانوا لا يعافون عن نكاح المشركات، ويعافون من نكاح الإماء خيفة إرقاق الولد، فأبان الله تعالى أن الأمة مع إفضاء نكاحها إلى رق الولد، خير من المشركة التي لا يجوز نكاحها قط، والأمة يجوز نكاحها في بعض الأحوال، فهذا تمام الرد على هؤلاء في محاولة المعارضة.
وحكى القاضي إسماعيل بن إسحاق المالكي عن السلف مذاهبهم في هذه الآية وفق مذهبنا١٧ ثم قال : وحكي عن أبي حنيفة وأصحابه أنهم قالوا : لا بأس أن يتزوج الحر المسلم الأمة، مع وجود الطول إلى حرة، من غير خشية العنت، ثم قال : هذا قول تجاوز فساده فساد ما يحتمل التأويل، لأنه لا محظور في كتاب الله تعالى إلا على الجهة التي أبيحت، ثم وجّه على نفسه سؤالاً فقال : يمكن أن يقول ذلك على الاختيار لا على التحريم.
فأجاب أنه قد بين موضع الاختيار لهم من موضع الحظر بقوله تعالى :﴿ وأَنْ تَصْبِروا خَيْرٌ لَكُم ﴾، فكان هذا موضع الاختيار، ولو كان الأول على الاختيار لهم لم يحتاجوا إلى اختيار ثان، فحيث جاز، وهو عند خوف العنت ذكر موضع الاختيار، فعند عدم الخوف، يستحيل أن يبقى الأمر على ذلك الاختيار. والذي ذكره كلام صحيح.
وحكى الرازي هذا من كلامه أول كلامه، في أنه لا يحتمل التأويل ثم قال : وقد اختلف السلف فيه ولو كان فيه نص ما اختلفوا، نقل عن علي مثل ذلك، ولم يثبت ذلك الذي صح. ونقل إسماعيل١٨ القاضي عن علي أنه قال : لا ينبغي للحر أن يتزوج الأمة وهو يجد طولا ينكح به الحرة، فإن فعل فرق بينهما وعزر١٩. وعن ابن عباس أنه قال : من ملك ثلاثمائة درهم وجب عليه الحج وحرم عليه نكاح الأمة. ثم الاحتجاج بالنص على وجهين : منه ما يستوي في درك معناه الخاص والعام، ويعلم ذلك بأوائل الأفهام، فهذا لا يختلف فيه، وما لا يعلم إلا بالارتياء والبحث، فهذا يجوز أن يختلف فيه، وما نحن فيه من هذا القبيل، فإذا ثبت ذلك.
ثم حكي عن داود الأصبهاني في حق إسماعيل شيئاً، وذكر ما يدل على تهجينهما وسوء اعتقاده فيها، وليس ذلك ببعيد منه، فإنه كان مكفرهما، لمخالفتهما له في الاعتزال ومذهب أهل البدعة والقدر، وقد شحن كتابه المصنف في أحكام القرآن بالرد على أهل السنة، وتسميتهم مرجئة ومجبرة، ويتجمل بالاعتزال ويتظاهر به، عليه وعليهم ما يستحقون. وذكر وجهاً آخر فقال : إن خوف العنت وعدم الطول ليسا بضرورة، لأن الضرورة ما يخاف فيها فساد النفس أو فساد عضو، وليس في عدم الطول ذلك، لذلك لم يجز هذا العذر نكاح الأمة الكتابية عند الشافعي رضي الله عنه، ولا نكاح المشركة بالاتفاق، فإذا ثبت ذلك، استوى وجود هذا العذر وعدمه.
وهذا يدل على جهله بأوضاع الأصول وقواعد الأحكام، فإن الذي جوز لمكان الحاجة، ينقسم أقساماً ويترتب على أبحاث مختلفة، فمنها ما يعتبر فيه غاية الحاجة، ومنها ما يعتبر فيه دون ذلك، كالتيمم عند عدم الماء،
ومنها ما يعتبر فيه مظنة الحاجة لا صورتها، ومنها ما يعتبر فيه ضرر ظاهر، وإن لم يفض إلى هلاك نفس أو فساد عضو، كالقيام في الصلاة، والصيام في المرض، والجمع بين الصلاتين، فيجوز أن يجعل خوف العنت داخلاً في أقسام الحاجات، وإن كان الأمر في الكتابية الأمة والمجوسية أعظم من ذلك، فلا يحل بهذا النسب. ثم مراتب تلك الحاجات مختلفة تعلم بالأدلة الشرعية، فليس فيما ذكره ما يرفع التعلق بالعموم من هذه الآية.
وحكى عن أبي يوسف القاضي أنه قال : تأويل الآية :﴿ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِع مِنْكُم طَوْلاً ﴾ لعدم الحرة في ملكه، وقال : وجود الطول هو كون الحرة تحته، فلزمه على هذا أن من ليس عنده حرة فهو غير مستطيع للطول إليها، فالطول عنده هو وطء الحرة، وهذا التأويل في غاية الضعف فإنه لما قال :﴿ ومَنْ لَمْ يْسْتَطِع ﴾، فيقتضي أن يكون غير مستطيع أمراً، والذي لا حرة تحته، قادر على نكاح الحرة ووطئها إذا نكح.
فإن قال : هو عاجز في الحال قبل النكاح، فلا يخفى أن في مثل ذلك لا يقال هو غير مستطيع للوطء، وإنما الطول الفضل والغنى، قال الله تعالى :﴿ اسْتَأذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُم٢٠ ﴾، وعلى أن الذي
٢ - سورة آل عمران، آية ١٣٠..
٣ - سورة المؤمنون، آية ١١٧..
٤ - أبو بكر أحد بن علي الرازي الجصاص، صاحب كتاب "أحكام القرآن" الذي نشر في خمسة أجزاء بدار المصحف لصاحبها عبد الرحمن محمد..
٥ - انظر أحكام للرازي الجصاص، ج٣، ص١٠٩..
٦ - أي أبو بكر الرازي الجصاص..
٧ - وهذا الاستدلال هو من أدلة الكيا الهراسي صاحب هذا المصنف في الرد على الرازي الجصاص..
٨ - أي فنكاح واحدة..
٩ - سورة المائدة، آية ٥..
١٠ - سورة النور، آية ٢٢..
١١ - سورة النساء، آية ٤..
١٢ - الطول: الغنى والقدرة، وقد يأتي بمعنى الفضل. انظر أحكام القرآن للجصاص، ج٣، ص١٠٩..
١٣ - سورة النساء، آية ٢٥..
١٤ - انظر تفسير القاسمي..
١٥ - انظر غرائب القرآن للنيسابوري..
١٦ - سورة البقرة، آية ٢٢١..
١٧ - قال القرطبي: وقد اتفق الجميع على أن للحر أن يتزوج أربعا وإن خاف ألا يعدل..
١٨ - هو أبو إسحاق إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد الجهضمي الأزدي، مولى آل جرير بن حازم أصله من البصرة، وبها نشأ واستوطن بغداد. راجع كتاب الديباج المذهب لابن فرحون..
١٩ - انظر تفسير القرطبي، ج٥، ص١٢٨..
٢٠ - سورة التوبة، آية ٨٦..
قوله تعالى :﴿ ويَهْدِيَكُم سُنَنَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُم ﴾ الآية [ ٢٦ ] : معناه في بيان مالكم فيه الصلاح كما بينه لنا، وإن اختلفت العبارات في أنفسها، إلا أنها مع اختلافها متفقة في باب المصالح.
فالنهي مقيد بوصف وهو أن تأكله بالباطل، وقد تضمن ذلك : أكل أبدال العقود الفاسدة، كأثمان البياعات الفاسدة، وكل شيء ما أباحه الله تعالى، فأما الذي أباحه الله تعالى من العقود، فلا مدخل فيه.
ثم إن الله تعالى قال :﴿ إلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً٤ ﴾ : فظاهره يقتضي إباحة سائر التجارات الواقعة عن تراض، والتجارة اسم واقع على عقود المعاوضات المقصود بها طلب الأرباح، قال الله تعالى :﴿ هَلْ أَدُلُّكُم عَلىَ تِجَارَةٍ تُنْجِيكُم مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ٥ ﴾ : فسمى الإيمان تجارة على وجه المجاز، تشبيهاً بالتجارات التي يقصد بها الأرباح، وقال تعالى :﴿ يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ٦ ﴾، كما سمى بذل النفوس لجهاد الكفار يقصد بها الأرباح، قال الله تعالى :﴿ إنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنْفُسهُمْ وأَمْوالَهُم ﴾٧ الآية : وقال تعالى :﴿ ولَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَراهُ مَالَهُ في الآخِرَةِ مِنْ خَلاَق، وَلَبِئْسَ مَا شَروْا بِهِ أَنْفُسَهُم لَوْ كَانُوا يَعْلَمُون٨ ﴾، فسمى ذلك بيعاً وشراء على وجه المجاز، تشبيهاً بعقود الأشربة والبياعات، التي يحصل بها الأعواض،
كذلك سمى الإيمان بالله تجارة لما يستحقون به من جزيل الثواب.
واستدل أصحاب أبي حنيفة ومالك بهذه الآية على نفي خيار المجلس، فإن الله تعالى قد أباح كل ما اشتري بعد وقوع التجارة عن تراض، وما يقع من ذلك بإيجاب الخيار، خارج عن ظاهر الآية مخصص لها بغير دلالة، ونظير ذلك استدلالهم بقوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بالعُقُودِ٩ ﴾، فألزم كل عاقد الوفاء بما عقد على نفسه، وذلك عقد قد عقده كل واحد منهما على نفسه، فألزمه الوفاء به، وفي إثبات الخيار نفي للزوم الوفاء به، وذلك خلاف مقتضى الآية، وقال تعالى :﴿ إلاّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُم فَلَيْسَ عَلَيْكُم جُنَاحٌ أَلاَ تَكْتُبُوها وأَشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُم١٠ ﴾، ثم أمر عند عدم الشهود بأخذ وثيقة الرهن، وذلك مأمور به عند عقد البيع قبل التفرق، لأن قوله تعالى :﴿ إذَا تَدَايَنْتُم بِدَينٍ إلى أَجَلٍ مُسَمّى فَاكْتُبُوه١١ ﴾، فأمر بالكتابة عند عقد المداينة وأمر بالكتابة بالعدل وأمر الذي قد أثبت الدين عليه بقوله :﴿ وَلْيُمْلِلِِ الّذِي عَلَيهِ الحَقُّ وَلْيَتّقِ اللهَ رَبَهُ ولاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً١٢ ﴾. فلو لم يكن عقد المداينة موجباً للحق عليه قبل الافتراق لما قال :﴿ وَلْيُمْلِلِِ الّذِي عَلَيهِ الحَقُّ ﴾، ولما وعظه بالبخس وهو لا شيء عليه، لأن ثبوت الخيار له يمنع ثبوت الدين للبائع في ذمته، وفي إيجاب الله تعالى الحق عليه بعقد المداينة في قوله :﴿ ولّيُملِلِ الّذي عَلَيْهِ الحَقُّ ﴾، دليل على نفي الخيار وإيجاب الثبات.
ثم قال :﴿ واسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُم ﴾١٣ تحصيناً للمال، وقطعاً لتوقع الجحود، ومبالغة في الاحتياط.
وقال تعالى :﴿ وَلاَ تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبيراً إلَى أجَلِهِ ذَلِكُم أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وأَقُومُ لِلشّهادةِ، وأدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا إلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً١٤ ﴾ : فلو كان لهما الخيار قبل التفرق لم يكن في الشهادة احتياط، ولا كان أقوم للشهادة إذا لم يمكن إقامة الشهادة بثبوت المال.
ثم قال تعالى :﴿ إذا تَبَايَعْتُم ﴾، وإذا : كلمة تدل على الوقت، فاقتضى ذلك الأمر بالشهادة عند وقوع التبايع من غير ذكر الفرقة، فأمر برهن مقبوضة في السفر، بدلاً من الاحتياط بالإشهاد في الحضر، وفي إثبات الخيار وإبطال الرهن إذ غير جائز إعطاء الرهن بدين لم يجب بعد.
فدلت الآية بما تضمنته من الأمر بالإشهاد على عقد المداينة، والتبايع من غير تعوض للافتراق أن لا خيار، إذ كان إثبات الخيار مانعاً معنى الإشهاد والرهن، فهذا كلام الرازي بأحكام القرآن حكيناه بلفظه.
والجواب عنه : أن الله تعالى وتقدس، أمر بالإشهاد والكتابة بناء على غالب الحال في أن الشهود يطلعون على الافتراق والبيع جميعاً، وليس للبيع مما يدوم غالباً أو يتمادى زمانه، حتى يجري الإشهاد على أحدهما دون الآخر، فأراد الله تعالى بيان الوثائق على ما جرت به العادة من البيع، ويدل على ذلك، أن قبل القبض لا ينبرم العقد في البيع وفي الصرف، وإذا تفرق المتبايعان بطل الصرف، وإذا هلك المبيع قبل القبض بطل البيع، فتبطل الوثائق جملة، وذلك لم يمنع الإرشاد إلى الوثائق في البياعات والمداينات، وكذلك بالقول في خيار الرؤية فيما لم يره في خيار الشرط، فلا حاصل لما قاله هؤلاء فاعلمه.
ووراء ذلك تعلق الرازي بفنون، يقع الجواب عنها في مسائل الخلاف، لا تعلق لها بمعاني القرآن، وذلك عادته، فإنه إذا انتهى إلى مسألة مختلف فيها، بين أبي حنيفة وغيره، يستقصي الكلام فيها فيما يتعلق بالخبر والقياس، ويخرج بها عن مقصود الكتاب.
قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَقْتُلوا أَنْفُسَكُم ﴾١٥ الآية، معناه : لا يقتل بعضكم بعضاً، وهو نظير قوله تعالى :﴿ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُم فِيهِ١٦ ﴾، أي حتى يقتلوا بعضكم، ومجازه أنهم كالشخص الواحد، والمؤمنون كالبنيان يشد بعضه بعضاً. ويحتمل أن يقال : ولا تقتلوا أنفسكم في الحرص على الدنيا وطلب المال، بأن يحمل نفسه على الغرر المؤدي إلى التلف. ويحتمل " ولا تقتلوا أنفسكم " في حال ضجر أو غضب.
٢ - هكذا وردت في الأصل، ولعل المؤلف ذكر من الآية ما يثبت به صحة الرأي، راجع الآية كاملة في سورة النور، آية ٦١..
٣ - سورة البقرة، آية ١٨٨..
٤ - سورة النساء، آية ٢٩..
٥ - سورة الصف، آية ١٠..
٦ - سورة فاطر، آية ٢٩..
٧ - سورة التوبة، آية ١١١..
٨ - سورة البقرة، آية ١٠٢..
٩ - سورة المائدة، آية ١..
١٠ - سورة البقرة، آية ٢٨٢.
١١ - سورة البقرة، آية ٢٨٢..
١٢ - سورة البقرة، آية ٢٨٢..
١٣ - سورة البقرة، آية ٢٨٢..
١٤ - سورة البقرة، آية ٢٨٢..
١٥ - سورة النساء، آية ٢٩..
١٦ - سورة البقرة، آية ١٩١..
ورد في تفسيره عن مجاهد عن أم سلمة قالت : قلت : يا رسول الله، تغزوا الرجال ولا نغزوا وتذكر الرجال ولا نذكر، فأنزل الله تعالى :﴿ ولاَ تَتَمَنّوْا ﴾، الآية١، وأنزل :﴿ إنَّ المُسْلِمِينَ والمُسْلِمَاتِ٢ ﴾، وروى قتادة عن الحسن :" لا يتمنى أحد المال وما يدريه لعل هلاكه في ذلك المال٣ "،
وقال قتادة : كان أهل الجاهلية لا يورثون المرأة شيئاً ولا الصبي، فلما جاء الإسلام، وجعل للمرأة النصف من نصيب الذكر، قال النساء :" لو كان أنصباؤنا في الميراث كأنصباء الرجال، وقلن : إنا لنرجوا أن نفضل عليهم في الآخرة "، فنزل قول الله تعالى :﴿ للرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمّا اكْتَسَبُوا ولِلنِّسَاءِ نَصِبٌ مِمّا اكْتَسَبْنَ٤ ﴾ : فللمرأة الجزاء على الحسنة عشر أمثالها كما للرجال.
قال :﴿ واسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ٥ ﴾، ونهى الله أن تتمنى المرأة ما فضل الله بعضهم على بعض، لأن الله تعالى أعلم بصالحهم منهم، فوضع القسمة منهم على التفاوت على ما علم من مصالحهم.
وبالجملة : التمني إذا لم يفض إلى حسد في ابتغاء زوال نعمة الغير أو تباغض، فلا نهي عنه، فإن الواحد منا يود أن يكون إماماً وسيداً في الدين والدنيا، ولا نهي عنه، وإن علم قطعاً أنه لا يكون.
وورد في الخبر أن الشهيد يقال له : تمن، فيقول : أتمنى أن أرجع إلى الدنيا، وأقتل في سبيل الله٦، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتمنى إيمان أبي طالب وأبي لهب وصناديد قريش، مع علمه بأنه لا يكون، وكان يقول :" واشوقاه إلى أخواني الذين يجيئون من بعدي يؤمنون بي ولا يروني٧ "، وذلك كله يدل على أن التمني لا ينهي عنه إذا لم يكن داعية الحسد والتباغض، والتمني المنهي عنه في الآية من هذا القبيل، ومنه النهي عن الخطبة على خطبة أخيه، لأنه داعية الحسد والمقت.
٢ - سورة الأحزاب، آية ٣٥..
٣ - أخرجه ابن جرير الطبري..
٤ - سورة النساء، آية ٣٢..
٥ - سورة النساء، آية ٣٢، ويقصد بفضله هنا معونته وتوفيقه..
٦ - رواه مسلم وأحمد بن ماجة بروايات متقاربة.
وفي رواية مسلم أن الشهداء يقولون حين يسألون: "نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى"..
٧ - روى البخاري ومسلم أن أبا طالب حين حضرته الوفاة قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله"..
وقد بسط المتكلمون من أهل السنة أقوالهم في هذا في الرد على الإمامية، عند احتجاجهم بقوله عليه السلام :" من كنت مولاه فعلي مولاه٢ "، فمعنى الولاء هاهنا العصبة، لقوله عليه السلام :" ما أبقت السهام فلأولى عصبة ذكر٣ ".
وقوله " فلأولى عصبة ذكر " يدل على أن المراد بقوله :﴿ ولِكُلٍ جَعَلْنَا مَوَالِي مِمّا تَرَكَ الوَالِدانِ والأَقْرَبُون ﴾ هم العصبات٤.
ومن العصبات المولى الأعلى لا الأسفل، على قول أكثر العلماء، لأن المفهوم في حق العتق، أنه المنعم على المعتق، وكالموجد له، فاستحق ميراثه لهذا المعنى.
وحكى الطحاوي عن الحسن بن زياد : أن المولى الأسفل، يرث من الأعلى واحتج فيه بما روي : أن رجلاً أعتق عبداً له، فمات المُعْتِق ولم يترك إلا المُعْتَق، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ميراثه للغلام المُعْتَق٥. قال الطحاوي : ولا معارض لهذا الحديث، فوجب القول به، ولأنه إذا أمكن إثبات الميراث للمعتق، على تقدير أنه كالموجد له، فهو شبيه بالأب، والمولى الأسفل شبيه بالابن، وذلك يقتضي التسوية بينهما في الميراث. والأصل أن الاتصال يعم، وفي الخبر :" ومولى القوم منهم٦ ".
والذي خالفوا هذا وهم الجمهور قالوا : الميراث يستدعي القرابة ولا قرابة، غير أنا أثبتنا للمعتق الميراث بحكم الإنعام على المعتق، فيقتضي مقابلة الإنعام بالمجازاة، وذلك لا ينعكس في المولى الأسفل.
وأما الابن فهو أولى الناس بأن يكون خليفة أبيه وقائماً مقدمه، وليس المعتق صالحاً لأن يقوم مقام معتقه، وإنما المعتق قد أنعم عليه، فقابله الشرع بأن جعله أحق لمولاه المعتق، ولا يوجد هذا في المولى الأسفل، فظهر الفرق بينهما.
قوله تعالى :﴿ والذين عاقدت٧ أيمانكم فآتوهم نصيبهم ﴾ الآية [ ٣٣ ] :
قال ابن عباس في ذلك : كان المهاجر يرث الأنصاري دون ذي رحمه بالأخوة التي جعلها الله تعالى بينهم بالإسلام٨ فلما نزلت :﴿ ولِكُل جَعَلْنَا مَوَالي مِمّا تَرَكَ الوَالِدانِ والأَقْرَبُون ﴾ نسخت، ثم قرأ :﴿ والّذيِنَ عَاقَدتْ أَيْمَانُكُم فَآتُوهُم نَصِيبَهُم ﴾ من النصر والرفادة والوصاية، وقد ذهب الميراث.
وعن ابن عباس :﴿ والّذيِنَ عَاقَدَتْ أَيْمانُكُم فَآتُوهُم نَصِيبَهُمْ ﴾، فكان الرجل يعاقد الرجل أيهما مات ورثه الآخر، فأنزل الله تعالى :﴿ وَأُولُوا الأرْحَامِ بَعْضُهُم أَوْلَى بِبَعْضٍ في كِتابِ اللهِ مِنَ المُؤْمِنِينَ والمُهَاجِرِينَ إلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إلَى أَوْلِيَائِكُم مَعْرُوفاً٩ ﴾، يقول :" إلا أن توصوا١٠ ". وعن سعيد بن جبير في قوله تعالى :﴿ والّذيِنَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُم فَآتُوهُم نَصِيبَهُم ﴾ قال : كان الرجل يعاقد الرجل في الجاهلية فيموت فيرثه. وعاقد الصديق أبو بكر رضي الله عنه رجلاً، فورثه لما مات. وقال سعيد بن المسيب : هذا في الذين كانوا يتبنون رجالاً ويورثوهم، فأنزل الله تعالى فيهم، أن يجعل لهم من الوصية، ورد الميراث إلى المولى من ذوي الرحم والعصبة١١.
وإذا ثبت هذا فأبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد صاروا إلى أن الميراث بالمعاقدة، لم ينفسخ عند فقد الأقربين والمولى، بل يتعلق بها الميراث عند عدم الرحم والولاء، فإن الله تعالى جعل ذوي الأرحام أولى، فإذا لم يكونوا بقي على حكم الآية، وهذا بعيد، فإن الذي في الآية :﴿ ولكُل جَعَلَنَا مَواليَ مِمّا تَركَ الوالِدَانِ والأقْرَبُونَ والّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُم ﴾، فأثبت الميراث بالمعاقدة عند وجودها، وعلى أن قوله :﴿ فآتُوهُم نَصِيبَهُم ﴾، ليس نصاً في الميراث، بل معناه : من النصرة والمعونة والرفاد.
٢ - أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن بريدة رضي الله عنه، وأخرجه أحمد والنسائي، وابن ماجة، والترمذي، وابن حبان، والحاكم في المستدرك، عن زيد بن أرقم..
٣ - رواه البخاري ومسلم..
٤ - المولى: العصبة، كما يقول مجاهد وقتادة..
٥ - انظر شرح معاني الآثار للطحاوي، ج ٤، ص ٤٠٣، والحديث رواه الترمذي..
٦ - رواه البخاري ومسلم وأحمد..
٧ - عاقدت بالألف أي عاقدتهم. وتقرأ بدون ألف أي عقدت وتقديره: عقدت حلفهم أيمانكم. والعقد هو الشد والربط، والتوكيد والتغليظ..
٨ - أخرج البخاري في صحيحه في كتاب التفسير، سورة النساء..
٩ - سورة الأحزاب، آية ٦..
١٠ - أخرجه ابن جرير في الأثر رقم ٩٢٦٨ عن علي بن أبي طلحة. الا أن توصوا لأوليائهم الذين عاقدوا وصية، فهو لهم جائز من ثلث مال الميت، وذلك هو المعروف..
١١ - انظر ابن جرير في الأثر رقم ٩٢٨٨..
أمر الله تعالى بمراعاة الترتيب في استيفاء الحق من الممتنع على هذا الوجه، فإن لم يتأت إلا بالضرب والإيجاع فيجوز، ولكن الضرب هو القدر الذي يصلحها له ويجعلها على توفية حقه، وليس له أن يضرب ضرباً يتوقع منه الهلاك، فإن المقصود الصلاح لا غيره، فلا جرم إذا أدى إلى الهلاك وجب الضمان، وكذلك القول في ضرب المؤدب لتعليم غُلامه القرآن والأدب، ولأجله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لصاحب الحق يد ولسان٢ "، وقال :" مطل الواجد يحل عرضه وعقوبته ".
يعني قوله :" يحل عرضه " أن يقول : يا ظالم يا معتدي، وعنى بعقوبته : طلب حبسه. . نعم : الصائل على مال الإنسان له دفعه عن ماله، وإن لم يتأت إلا بالقتل، لأن المال يخلص له عند ذلك، وهاهنا إذا نشزت فليس في هلاكها استيفاء الحق بل فيه تفويته، فإنما رخص في ضرب مصلح وهذا بين.
قوله تعالى :﴿ فإنْ أَطَعْنَكُم فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبيِلاً ﴾ : قال أبو عبيدة، معناه : لا تعللوا عليهن بالذنوب.
قوله تعالى :﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ٣ عَلىَ النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ ﴾ الآية [ ٣٤ ] :
ورد في الخبر، أن رجلاً لطم امرأته لنشوزها عنه فجرحها، فاستعدت عليه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم٤ : القصاص، فأنزل الله تعالى :﴿ ولا تَعْجَل بِالقُرْآنِ مِنْ قَبلِ أَنْ يُقْضَى إليكَ وَحيُهُ٥ ﴾، ثم أنزل :﴿ الرِّجَالُ قوَّامُونَ على النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ ﴾. وقيل : ما كان الضرب على النشوز مشروعاً ثم شرع.
ودلت الآية على أن الزوج يقوم بتدبير المرأة، وتأديبها، وإمساكها في بيتها، ومنعها من البروز، وأن عليها طاعته وقبول أمره، ما لم تكن معصية.
وقوله تعالى :﴿ بِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ﴾ : يدل على أن الزوج جعل قوّاماً عليها، حابساً لها على نفسه، ومانعاً من البروز لأجل ما أنفق عليها من المال.
نعم بين الله تعالى أمر النفقة في مواضع في كتابه في قوله :﴿ لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ٦ ﴾ وقول النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن في هذه الآية ذكر علة النفقة، فلا جرم، فهم العلماء منهما أنه متى عجز عن نفقتها لم يكن قواماً عليها، حتى زال الحبس في الدار على المذاهب كلها، ولها فسخ النكاح على مذهب الشافعي رضي الله عنه، لأنه إذا خرج عن كونه قواماً عليها، وحابساً لها، فقد أخل غرض التحصين بالنكاح، فإن الغرض من النكاح تحصينها، وإلا فهن حبائل الشيطان وعرضة الآفات، فإذا لم يكن قواماً عليها، كان لها فسخ العقد، لزوال المقصود الذي شرع لأجله النكاح، وفيه دلالة ظاهرة من هذا الوجه على ثبوت فسخ النكاح، عند الإعسار بالنفقة والكسوة.
٢ - رواه الشيخان بنحوه..
٣ - قوامون: مفردها قوام، وهو القائم بالمصالح، والتدبير، والتأديب.
وقد ذكروا في فضل الرجال: العقل والحزم والعزم والقوة والفروسية والرمي.
وإن منهم الأنبياء، وفيهم الإمامة الكبرى والصغرى، والجهاد والآذان والخطبة، والشهادة في مجامع القضايا، والولاية في النكاح والطلاق والرجعة وعدد الأزواج وزيادة السهم والتعصيب..
٤ - رواه ابن جرير الواحدي في أسباب النزول، وابن أبي حاتم. وأخرجه السيوطي في الدر المنثور، ج ٢، ١٥١، والطبري في تفسيره، ج ٨، ص ٢٩١..
٥ - سورة طه، آية ١١٤..
٦ - سورة الطلاق، آية ٧..
فقال سعيد بن جبير :" إنه السلطان الذي يترافعان إليه "، وقال السدي : الرجل والمرأة، قال الشافعي رضي الله عنه : والذي يشبه ظاهر هذه الآية، أنه فيما عم الزوجين معاً حتى يشتبه فيه حالاتهما، وذلك أني وجدت الله تعالى أذن في نشوز الزوج بأن يصطلحا، وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، وسن في نشوز المرأة بالضرب، وأذن في خوفها أن لا يقيما حدود الله بالخلع، وذلك شبيه أن يكون برضا المرأة، وحظر أن يأخذ الرجل مما أعطى شيئاً، إذا أراد استبدال زوج مكان زوج، فلم أمن فيمن خفنا الشقاق بينهما الحكمين، دل ذلك على أن حكمهما غير حكم الأزواج، فإذا كان كذلك بعث حكماً من أهله، وحكماً من أهلها، ولا يبعث الحكمين إلا مأمونين برضا الزوجين، ويوكلهما الزوجان بأن يجْمعا أو يُفرقا إذا رأيا ذلك، ووجدنا حديثاً بإسناده عن عليّ يدل على أن الحكمين وكيلان للزوجين، وهذا مذهب أبي حنيفة، وهو أصح المذاهب للشافعي، وإن حكى عن الشافعي فيه قول آخر على موافقة مذهب مالك، وهو أن الحكمين ينفردان دون رضا الزوجين إذا رأيا ذلك ن وهو بعيد، فإن إقرار الزوج بالظلم لا ينافي النكاح، ولا ظلم المرأة مناف لذلك، والظلم إذا ظهر من أي جانب كان، وجب دفعه بطريقة، فأما أن يكون ظهور ظلم الظالم بينهما للحكمين طريقاً إلى دفع النكاح دون رضا الزوجين فلا، وليس يزيد ظهور ذلك ظلماً على إقرار الزوج أو الزوجة٢ بالظلم.
نعم قد يقول القائل : إذا استمرت الوحشة، فلا وجه لتبقية الخصومة ناشبة بينهما، فاشتباه الحال في ذلك، كاشتباه الحال في المتتابعين إذا تخالفا.
وهذا بعيد، فإنهما إذا تخالفا فلا يتصور بقاء العقد على نعت الاختلاف ليكون العقد على وضعين متضادين، وهاهنا لا شيء يوجب منع بقاء العقد، وخللاً في معنى العقد، إنما يظهر من أحدهما ظلم فيدفعه الحاكم فأما فسخ النكاح فلا، وليس كالإيلاء، فإن هناك رجع النعت إلى المقصود وهو الإستمتاع.
وبالجملة إن كان للقول الآخر وجه، فمن حيث وقوع الخلل في السكن المقصود بالنكاح، لاستمرار الخصومة بينهما، وذلك يقتضي أن يكون هذا قريباً من الإيلاء، وقد قال مالك : وللحكمين أن يخالعانها دون رضاها، وهذا بعيد، فإن الحكم لا يملك ذلك، فكيف يملكه الحكمان٣ ؟. .
نعم سميا حكمين - وإن كان الوكيل لا يسمى حكماً - لأنه أشبه فعلهما، فهما يجتهدان ويتحريان الصلاح في إنفاذ القضايا بالعدل، إذا وكلا بذلك من جهة الزوجين، وما قضى به الحكمان من شيء فهو جائز ولكن برضا الزوجين لا دون رضاهما، والله تعالى إذا رأيناه يقول :﴿ فَإنْ خِفْتُم أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيما افْتَدَتْ بِهِ٤ ﴾ فكيف يفهم منه جواز الخلع دون رضا الزوجين، وقد حظر الشرع أخذ شيء منها دون شريطة الخوف.
ودلت الآيات المطلقة، على أن لا يحل أكل المال إلا أن يكون تجارة عن تراض منكم، ودل قول الرسول صلى الله عليه وسلم، على أنه لا يحل مال امرىء مسلم إلا عن طيب نفس منه، وفي رواية : بطيبة من نفسه٥.
قوله تعالى :﴿ واعْبُدُوا اللهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ ﴾ الآية [ ٣٦ ] : يدل على أن من أتى بطاعة لغير الله، لا تقع عن جهة القربة، لأنه أشرك به شيئاً، وترك الإخلاص، ولأجله قال علماؤنا : من توضأ أو اغتسل لتبرد أو تنظيف، لم يكن له أن يصلي به، لأنه أشرك به شيئاً. فإذا خرج الفعل عن كونه لله، فلم يكن قربة، ولذلك قلنا : إذا أحس بداخل في الركوع وهو إمام لم ينتظره، لأنه يخرج ركوعه بانتظاره عن كونه لله خالصاً، ثم قال تعالى :﴿ وبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانا ﴾ : فأوجب الله تعالى طاعة الوالدين في غير معصية الخالق، ولا يعني بطاعة الوالدين أن يكون لهما صرف منافع بدنه بعد البلوغ إلى ما شاء، وتكليفهما أفعالاً، وإنما هو على ما ذكره الله تعالى :﴿ إما يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاَهُمَا ﴾٦ الآية. . وليس للوالدين منع الولد من الأسفار للتجارة والزيارة وطلب الفوائد. . نعم يكره له أن يجاهد دون إذنهما، فإن في ذلك تغريراً بالمهجة.
ومن تعظيم الوالدين أن لا يقتله الولد، إلا إذا كان محارباً كافراً٧.
ثم ذكر الجار ذي القربى، وهو الجار الذي له حق القرابة، والجار الجنب٨، للبعيد منك نسباً، إذا كان مؤمناً، فيجتمع حق الجوار والإيمان، وورد في حق الجار أخبار عدة٩.
والصاحب بالجنب : قيل هو الرفيق في السفر، وقيل هو الجار الملاصق، وخصه الله تعالى بالذكر تأكيداً لحقه على الجار غير الملاصق.
والجار لفظ مجمل يتردد بين معاني، فقد يقال لأهل المحلة جيران، ولأهل الدرب جيران، وجعل الله تعالى الاجتماع في مدينة جواراً قال الله تعالى :﴿ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ المُنَافِقُونَ والذيِنَ فيِ قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ والمُرْجِفُونَ فيِ المَديِنَةِ ﴾ إلى قوله :﴿ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إلاَّ قَلِيلا١٠ ﴾ : فجعل اجتماعهم في المدينة جواراً.
والإحسان قد يكون بمعنى المواساة١١، وقد يكون بمعنى حسن العشرة، وكف الأذى والمحاماة دونه.
وابن السبيل : هو المسافر ينزل عندك فتكرمه وتضيفه. ﴿ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانَكُمْ ﴾ : هو الإحسان إليه بالإنفاق، وكسوته ومراعاته بالمعروف.
هذا هو الأصل، فجمعت الآية أموراً منها الندب، ومنها الواجب.
٢ - انظر الشيخ الصابوني..
٣ - انظر أحكام القرآن للجصاص، ج ٢، ص ٢٣٢..
٤ - سورة البقرة، آية ٢٢٩..
٥ - ورد بمعناه فيما أخرجه البخاري ومسلم..
٦ - سورة الإسراء، آية ٢٣..
٧ - ومثال ذلك أن أبا عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح قتل أباه يوم بدر..
٨ - الجار الجنب: هو الجار البعيد، وقيل هو الجار الغريب، وقيل هو الجار المشرك..
٩ - من هذه الأخبار ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه"..
١٠ - سورة الأحزاب، آية ٦٠..
١١ - أي مواساة الجار عند نزول نازلة به..
ونزلت الآية في اليهود، الذين بخلوا بالمال، فلم يعطوا منه حق الله تعالى، ومنعوا الأنصار من أداء حق الله، وخوفوهم بالفقر، ومنعوا العلم، وكتموا ما علموا من صفة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، والمباهاة٢، بل يقول : كان ذلك من فضل الله، وما كان من قوتي ولا من عندي، فيتحدث بالنعم على وجه الشكر، كما قال تعالى :﴿ وأَما بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ٣ ﴾. . وقال عليه السلام :" أنا سيد ولد آدم ولا فخر، وأنا أفصح العرب ولا فخر٤ "، فأراد بذكره التحدث بنعم الله تعالى، وأن يبلغ أمته من منزلته عند الله، ما يجب على أمته أن يعرفوه، وليعطوه من التعظيم حقه طاعة الله تعالى. . وقال عليه السلام :" لا ينبغي لعبد أن يقول : أنا خير من يونس ابن متى "، وقد كان عليه السلام خيراً منه، ولكنه نهى أن يقال ذلك على وجه الافتخار، وقال الله تعالى :﴿ فَلاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بمَنْ اتقَى٥ ﴾، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم :" احثوا في وجوه المداحين التراب٦ "، وذلك لئلا تزهو النفس وتترف، فأن النفس إذا ما مالت إلى شيء لطلب حظها، تولد منها قوة الهوى وضعف اليقين.
٢ - المباهاة: أي كتم نعم الله تعالى وإنكارها والتفاخر بها على أنها حق للعبد لا فضل لله بها..
٣ - سورة الضحى، آية ١١..
٤ - رواه أحمد في مسنده، والترمذي في سننه وقال عنه حديث حسن صحيح، وابن ماجة في سننه..
٥ - سورة النجم، آية ٣٢..
٦ -أخرجه الإمام أحمد في مسنده، ومسلم في صحيحه، وأبو داود في سننه عن المقداد..
فقال قائلون : هو السكران الذي لا يعلم حقيقته، وهذا معتل من وجه : فإن الذي لا يعقل كيف ينهى.
فقيل في ذلك : أراد به النهي عن التعرض للسكر، إذا كان عليهم فرض الصلاة، والنهي على أن يعيدوها، وهذا بعيد من وجه، وهو أن السكر إذا نافى ابتداء الخطاب، ينافي دوامه، وهذا حسن في إبطال هذا القول، إلا أن يقال : إن ذلك نهي عن السكر، وإزالة العقل بشرب القدر المسكر، حالة وجوب الصلاة، وهذا رفع ما دل اللفظ عليه بالكلية، كأنه تعالى قال :" لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى "، أي في حالة سكركم، فلا وجه للتأويل.
الوجه الآخر : قالوا المراد به السكران الذي لم ينتبذ٢ نقصان عقله إلى حد يزول التكليف معه، بل هو فاهم للخطاب، وهذا بعيد، فإنه إن كان كذلك، فلا يكون منهياً عن فعل الصلاة، بل الإجماع منعقد على أنه مأمور بفعل الصلاة والحالة هذه.
ومن أجل ذلك قال الحسن، وقتادة، في هذه الآية : فإنها منسوخة الحكم.
وعلى الجملة، اضطراب هذه المحامل ينشأ منه قول الشافعي رضي الله عنه : وهو أن المراد من الصلاة موضع الصلاة، فتقديره : لا تقربوا المساجد التي هي مواضع الصلاة وأنتم سكارى، فإنه يتوقع منكم الفحش في المنطق، وتلويث المسجد، ولذلك قال :﴿ حتى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ﴾، يعني أن السكران ربما نزق٣، فتكلم بما لا يجوز له، كما قال علي : إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى.
فنهاهم عن دخول المسجد والصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة.
وهذا تأويل حسن تشهد له الأصول والمعقول، ومن أجله عطف عليه قوله تعالى :﴿ وَلاَ جُنُباً إلاَّ عَابِري سَبِيل ﴾، وذلك يقتضي جواز العبور للجنب في المساجد.
وأبو حنيفة يخالف ذلك ويقول : بل المراد به الصلاة، ولذلك قال :﴿ حَتى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُون ﴾ والذي ذكرتم يعلم ذلك.
فيقال : هذا في ضرب المثل، كالذي يقول للغضبان : اتئد وتثبت حتى يرجع إليك نفسك وتعلم ما تقول، إلا أن المراد به عدم العلم حقيقة.
وأبو حنيفة يخالف ذلك ويقول : بل المراد به أيضاً، إذا حمل ذلك على الصلاة حمل قوله : إلا عابري سبيل، على الجنب المسافر إذا لم يجد الماء، فإنه يتيمم ويصلي، فيتعين إضمار عدم الماء فيه، وإذا عدم الماء في الحضر، كان كذلك.
وأحسبه يقول : بنى على الغالب، في أن الماء لا يعدم في الحضر، فيقال : فالذي يتيمم ليس جنباً عندكم حتى يصلي صلوات التيمم، وأحسبه يمنع هذا أيضاً ويكابر، فيقال له : إن تيمم الجنب، قد ذكره الله تعالى بعد هذا، بل فصل فقال :﴿ وإنْ كُنْتمْ مَرْضَى أَوْ عَلىَ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَموا صَعِيداً طَيِّباً٤ ﴾.
وكيف يذكر المسافر والسفر، ثم يذكر بعده من غير فصل ؟ وهذا واضح في بطلان قوله : وأما إذا أراد التيمم، ذكر الوجوه التي بها يجوز التيمم، فذكر المرض وذكر السفر، وذكر المجيء من الغائط، وعدم الماء مطلقاً في أي موضع كان، فكيف عنى بعابر السبيل المسافر هاهنا، ولم يذكر عدم الماء، وهو الشرط لا السفر ؟ وهذا لا جواب عنه فاعلمه، ولأن الله تعالى قال :﴿ حَتى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ﴾، فأحال المنع على عدم العلم بالقول، والسكران الطافح في سكره المغشي عليه تمتنع الصلاة عليه، لأنه لا يعلم ما يقول، بل لأنه محدث غير طاهر، ولا ساجد ولا راكع ولا ناوٍ، فدل أن الامتناع إنما نشأ من القول فقط، وذلك على الوجه الذي قلناه في تنزيه المسجد عن هجر القول والخنا في المنطق، ومن أجل ذلك بطل تأويل من حمل السكر على النوم، لأن النائم لا يصلي، ولا يتصور منه الصلاة مع النوم، ولا طهارة مع النوم.
وبالجملة، كل ما اعترضنا به على الفصل الأول، فهو متوجه هاهنا فاعلم.
فإن قيل : سبب نزول هذه الآية، ما روي عن علي رضي الله عنه أنه دعا رجل من الأنصار قوماً فشربوا من الخمر، فتقدم عبد الرحمن ابن عوف لصلاة المغرب فقرأ :" قل يا أيها الكافرون " فالتبس عليه فأنزل الله تعالى :﴿ لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وأَنتُمْ سُكارَى ﴾. . والجواب أن المراد به ما قلناه، فإنه إذن التبس عليه، وتلا بداخل المسجد، حتى تكلم بما لا يجوز، وإلا فالصلاة واجبة في تلك الحالة قطعاً، والذين منعوا اجتياز الجنب في المسجد، عرفوا أن كثيراً من السلف حملوا الآية على ما قلناه، وإن كان منهم من خالف.
قال : ومذاهب السلف مستقصاة في كتب الأئمة، وليس ذكرها متعلقاً بغرضنا، إلا أن منهم من تعلق بما روي عن جسرة بنت دجاجة أنها قالت :" سمعت عائشة رضي الله عنها تقول : جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد، فقال : وجهوا هذه البيوت عن المسجد، ثم دخل ولم يصنع القوم شيئاً رجاء أن تنزل لهم رخصة، فخرج إليهم بعد فقال : وجهوا هذه البيوت فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب٥ ".
قال : فأمرهم بتوجيه البيوت الشارعة في المسجد، صيانة للمسجد عن اجتياز الجنب، لأنه لو أراد القعود، لم يكن لقوله " وجهوا هذه البيوت فإني لا أحل المسجد الحائض ولا جنب " معنى، لأنه القعود منهم بعد دخول المسجد، لا تعلق له بكون البيوت شارعة إليه، فدل أنه إنما أمر بتوجيه البيوت، لئلا يضطروا عند الجنابة إلى الاجتياز في المسجد، إذا لم يكن لبيوتهم أبواب غير ما هي شارعة إلى المسجد.
والاعتراض على هذا، أن الخبر لا يجوز أن يثبت، فإن الغالب من أحوالهم المنقولة، أنهم كانوا يغتسلون في بيوتهم، ولأن المنع من المرور لو كان المقصود، ولم يتأت لهم الاغتسال في بيوتهم، لقال لهم : اتخذوا أبوابا تجتازون منها للاغتسال، ويدل عليه أنه لو كان باب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأفضى إلى المسجد وأبواب حجر نسائه، وباب أبي بكر، وباب عليَّ، وقال :" سدوا هذه الخوخات٦ غير خوخة أبي بكر وعليَّ "، وعلى أن الذي ذكره هذا القائل، تسليم منه لجواز ذلك من قبل، ويدعى نسخاً لا يصح وقوع النسخ به.
قوله تعالى :﴿ وإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلىَ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغَائِطِ٧ ﴾ : قوله :" إن كنتم مرضى " يمنع٨ من الوضوء، وأن يكون من مساس الماء خطر الهلاك أو فساد عضو، وليس المراد به مطلق المرض إجماعاً، وقد أطلق الله المرض في مواضع من كتابه، وباطنه رخصاً مختلفة، والمراد به الأمراض المختلفة، لا نوع واحد من المرض، فقال تعالى في موضع :﴿ وَمَنْ كَانَ مَرِيضَاً أَوْ عَلىَ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيامٍ أُخَر٩ ﴾،
والمراد ما يظهر أثره في منع الصوم، وقال :﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضَاً أًوْ بِهِ أَذَىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ١٠ ﴾ وعنى به نوعاً آخر، وهاهنا عنى بالمرض، القروح التي تمنع إيصال الماء إلى الأعضاء، ويخشى منه فساد عضو وهلاك الجملة، أو طول الضنا على ما اختلف العلماء فيه.
ثم قال تعالى :﴿ أوْ عَلىَ سفرٍ ﴾ : وبناء على الغالب، ولا يشترط فيه السفر الطويل، بل ما يسمى سفراً، فإن عموم كتاب الله تعالى يدل عليه.
وفي اللفظ أيضاً خلاف، والفرق بينهما عند من فرق مأخوذ من السنة، وورد في تيمم المجروح أخبار ذكرها الفقهاء في كتبهم، وهي صحيحة، دالة على أنه يتيمم.
قوله تعالى :﴿ أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ ﴾ : اعلم أولاً أنه روي عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم، " قبل بعض نسائه، ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ١١ ". وروى إبراهيم التيمي عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " كان يتوضأ ثم يقبل ثم يصلي ولا يتوضأ، ربما فعله بي١٢ ". وعن شبابة مولى عائشة رضي الله عنها قالت : ربما يلقاني١٣ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو خارج إلى الصلاة، فيقبلني ثم يأتي المسجد، فيصلي ولا يتوضأ، كل ذلك رواه القاضي إسماعيل بن إسحاق بأسانيده المتصلة في كتاب أحكام القرآن. وروى بإسناده عن الشعبي قال : قال علي : اللمس الجماع ولكنه كنى عنه.
وروى بإسناده عن عاصم الأحوال، عن عكرمة عن ابن عباس، قال : الملامسة والمباشرة الجماع. وروى بإسناده عن عاصم الأحوال، عن بكر بن عبد الله قال : قال ابن عباس : أن الله حي كريم يكنى عما شاء، وإن المباشرة والرفث والتغشي والإفضاء والمسيس عنى به الجماع، قال : والتغشي قوله :﴿ فَلَما تَغْشَاهَا ﴾، والإفضاء : قوله ﴿ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إلىَ بَعْضٍ١٤ ﴾. وروى بإسناده عن سعيد بن جبير، قال : كنا على باب ابن عباس واختلفنا في الملامسة باليد، ومن كان عربياً قال الجماع، فخرج ابن عباس فقال : فيم يختصمون ؟ قالوا في الملامسة، فمن كان عربياً قال الجماع، ومن كان مولى قال اللمس باليد، فقال : هو من فريق الموالي إن الله حكيم يكني ما شاء، فكنى الجماع ملامسة، وكنى الجماع مباشرة.
وأكثر القاضي إسماعيل في هذه الرواية، وأسندها كلها عن الصحابة والتابعين.
واعلم أنه روي في مقابلة ذلك بأسانيد صحيحة عن عبد الله بن عمر أنه قال : قبلة الرجل امرأته وجسها بيده من الملامسة، ومنها الوضوء. وحديث القبلة منكر : قال إسماعيل بن إسحاق : حديث حبيب بن أبي ثابت في القبلة عرضه على نصر بن علي وعيسى بن شاذان، فعجبوا منه وأنكروه. وهو مما يعتد به على حبيب بن أبي ثابت، ومن يحس أمره يقول : أراد أنه صلى الله عليه وسلم كان يقبلها وهو صائم، فغلط بهذا، فهذا غاية ما قاله.
والذي يحمل الملامسة على الجماع يقول : إن الله تعالى ذكر الأحداث كلها بألفاظ هي كناية١٥، فإنه ذكر الغائط وهو كناية، فيظهر أن يكون هذا أيضاً كناية عن الجماع. وهذا يجاب عنه بأن الغائط كناية مشهورة غالبة في عرف الاستعمال حتى لا يعرف من المتعارف سواه، والكناية في الجنابة الجماع، فالجماع كناية عن اللفظ الأصلي الذي يستحي عن ذكره، مثل الغائط كناية عن الفضلة المستقذرة، فالله تعالى لم يكن عن سبب الجنابة باللفظ الأصلي الموضوع للكناية، وإنما ذكر الملامسة، وما اشتهر في العرف أن يكنى بها عن سبب الجنابة، فلو أراد الكناية، لذكر اللفظ الموضوع للكناية، وهذا بين ظاهر لا غبار عليه١٦.
ومن وجه آخر : وهو أنه ذكر الغائط وهو سبب الوضوء دون الغسل، فيظهر أن يكون قرينه سبب الوضوء، لأنه تعالى أفرد الجنابة فقال :﴿ وَلاَ جُنُبَاً إلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتى تَغْتَسِلُوا١٧ ﴾، وذكر في موضع :" فاطهروا " وهو يعني الغسل. والمخالف يقول : ذكر الله تعالى الجنابة ولم يذكر سببها، ثم ذكر بعد ذلك سبب الحدث، وهو المجيء من الغائط، فيشبه أن يكون قد ذكر سبب الجنابة، والسبب الأصلي في الحدث خروج الغائط، والأصلي في الجنابة الجماع، فيشبه أن يكون قد جمع الله بينهما.
ومن وجه آخر، وهو أن الله تعالى وتقدس، قد بين حكم طهارة الجنب والمحدث عن
٢ - أي لم يصل به نقصان عقله أو لم يذهب..
٣ - النزق: الطيش والخفة..
٤ - سورة النساء، آية ٤٣..
٥ - رواه أبو داود، وأشار إليه مسلم في صحيحه..
٦ - رواه البخاري في صحيحه في كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم..
٧ - سورة النساء، آية ٤٣..
٨ - أي أن المرض يمنع من التوضؤ..
٩ - سورة البقرة، آية ١٨٥..
١٠ - سورة البقرة، آية ١٩٦..
١١ - رواه الطبري في الأوسط. انظر مجمع الزوائد، ج ١، ص ٢٤٧..
١٢ - رواه الإمام أحمد في مسنده وابن ماجة في سننه، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة..
١٣ - أخرجه الطبري بسنده عن حبيب بن أبي ثابت عن عروة عن عائشة..
١٤ - سورة النساء، آية ٢١..
١٥ - انظر تفسير الطبري..
١٦ - وقد فصل ذلك صاحب روائع البيان في كتابه، ج ١، ص ٤٨٧-٤٨٨..
١٧ - سورة النساء، آية ٤٣..
فيه دليل على وجوب رد الأمانة إذا طلبها مالكها، وقبل الطلب لا يخفى وجوب الرد، فإن في وجوب ردها قبل الطلب بطلان جواز الإمساك، وفيه بطلان مقصود الائتمان، وهو الحفظ المقصود للمالك وهذا عام في حق الجميع، وإن كان قوله تعالى من بعد :﴿ وإذَا حَكَمْتُم بَيْنَ الناسِ أَنْ تَحْكِمُوا بِالْعَدْلِ ﴾، مخصوصاً بالحكام، غير أن خصوص الآخر لا يرفع التعلق بعموم الأول على رأي كثير من الأصوليين وإن كان فيهم من يخالف مخالفة لها وجه حسن. وقد روى أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال :" لا تزال هذه الأمة بخير ما إذا قالت صدقت وإذا حكمت عدلت وإذا استرحمت رحمت٢ ".
ومثله قوله تعالى في قصة داود :﴿ فَاحْكُمْ بَيْنَ الناسِ بِالحَقِّ وَلاَ تَتبِعِ الهَوَىَ ﴾٣ الآية، وقال تعالى :﴿ إنا أَنْزَلْنَا التوْرَاةَ هُدىً ونُورٌ ﴾ إلى قوله :﴿ فَلاَ تخشُوا الناسَ واخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتي ثمَنَاَ قَلِيلاً٤ ﴾ فأمر الحكام بهذه الخلال الثلاثة وأخذها عليهم. أن لا يتبعوا الهوى. وأن يخشوه ولا يخشوا الناس. وأن لا يشتروا بآياته ثمناً قليلاً.
ولتفصيل البحث في هذه الآية انظر رسالة ابن تيمية (السياسة الشرعية)..
٢ - رواه أحمد وأبو يعلى والبزار بمعناه مع اختلاف، انظر مجمع الزوائد، ج ٥، ص ١٩٣..
٣ - سورة ص، آية ٢٦..
٤ - سورة المائدة، آية ٤٤..
وقوله :﴿ فَإنْ تَنَازَعْتُمْ فيِ شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلىَ اللهِ والرَّسول١ ﴾ : يدل على أن أولي الأمر هم الفقهاء، لأنه أمر سائر الناس بطاعتهم، وأمر أولي الأمر برد المتنازع فيه إلى كتاب الله، وسنة نبيه عليه السلام، وليس لغير العلماء معرفة كيفية الرد إلى الكتاب والسنة. وزعم قوم، أن المراد بأولي الأمر، علي والأئمة المعصومين، ولو كان كذلك ما كان لقوله تعالى :﴿ فَرُدُّوهُ إلَى اللهِ والرَّسُولِ ﴾ معنى، بل قال ردوه إلى الإمام وإلى أولي الأمر، فإن قوله هذا هو المحكم على الكتاب والسنة عند هؤلاء، لأنه تعالى أمرهم بطاعة أولي الأمر في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن علي إماماً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس هذا من أحكام القرآن المتعلقة بالفقه، وإنما بيان ذلك في أصول الإمامة.
ووجوب طاعة الرسول، ليس متلقى من أدلة الفقه، وإنما هو مدلول المعجزة فقط٢.
٢ - انظر كتاب (الحسبة في الإسلام) لابن تيمية..
وهذا الاستنباط ركيك جداً، فإن في التحية ليس يرد تلك التحية، ولا إن ردها متصور، ولا أنه يمكن الرجوع فيها، وإنما قوله :﴿ أَوْرُدُّوهَا ﴾ أي ردوا مثلها ؛ فإن التحية في قضية العرف طلب الجواب فإذا لم يجب، كان إيحاشاً، وأما الهبة فإنها تبرع، فلو اقتضت عوضاً خرجت عن كونها تبرعاً، بل كان معاوضاً، وليس جواب التحية بأحسن منها، أو مثلاً مخرجاً للتحية عن موضعها.
قال الله تعالى :﴿ فَلاَ تَتخِذُوا مِنْهُمْ أًوْلِيَاءَ حَتى يُهَاجِرُوا فيِ سَبِيِلِ اللهِ٢ ﴾ :
يعني يسلموا ويهاجروا، لأن الهجرة تتبع الإسلام، وهو كقوله تعالى :﴿ مَا لَكُمْ مِنْ وِلاَيَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتى يُهَاجِرُوا ﴾٣ وكل ذلك كان حالة كانت الهجرة فرضاً، وقال عليه السلام :" أنا بريء من كل مسلم أقام بين أظهر المشركين، وأنا بريء من كل مسلم مع مشرك، قيل : لم يا رسول الله ؟ قال : لأبرأ آثارهما "، ثم نسخ فرض الهجرة، وروى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة :" لا هجرة ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا٤ "، قال عليه السلام :" المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه٥ ".
٢ - سورة النساء، آية ٨٩. ويقول الرازي: "دلت الآية على أنه لا يجوز موالاة المشركين والمنافقين والمشتهرين بالزندقة والإلحاد"..
٣ - سورة الأنفال، آية ٧٢..
٤ - الحديث رواه البخاري ورواه مسلم في صحيحه أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما..
٥ - أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي..
قال أبو عبيد : يصلون يعني ينسبون إليهم، والانتساب يكون بالحلف تارة، وبالرحم والولاء، وجائز أن يدخل في عهدهم على حسب ما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين قريش في الموادعة، فدخلت خزاعة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ودخلت بنو كنانة في عهد قريش ثم نسخت العقود بقوله تعالى :﴿ بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إلَى الذينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ المشركين فَسِيحُوا فيِ الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ﴾ إلى قوله :﴿ ونُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُون١ ﴾.
وقال :﴿ إلاَّ الذيِنَ يَصِلُونَ إلىَ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ ﴾ : أي لكم مثل ما لهم، فإذا عقد الإمام عقد هدنة مع قوم من الكفار، فكل من يدخل في خبرهم من مناسيبهم بالحلف والرحم والولاء، داخل في عهدهم.
نعم، نسخ العهد مع المشركين بإعزاز الله الدين، وأمر المسلمين، بأن لا يقبلوا منهم إلا السيف أو الإسلام، بقوله تعالى :﴿ فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُم٢ ﴾، فنسخ به الصلح والهدنة، وتقريرهم على الكفر، وأمر المسلمين بقتالهم، حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، إن كانوا أهل كتاب، أو السيف أو الإسلام، إن لم يكونوا من أهل الكتاب٣، فالمنسوخ ذلك العهد. . فإذا دعت حاجة الزمان إلى مهادنة الكفار من غير جزية يردونها إليه، فكل من انتسب إلى المعاهدين صار منهم واشتمل الأمان عليهم.
٢ - سورة التوبة، آية ٥..
٣ - انظر تفسير الطبري..
معناه ما كان له ذلك في حكم الله تعالى.
واختلف الناس في معنى إلا، فقال قائلون هو استثناء منقطع بمعنى لكن، كأنه قال : لكن قد يقتله خطأ، فإذا قتله فحكمه كيت و كيت، والاستثناء المنقطع ذكروا له شواهد في أشعار العرب، مثل قول النابغة : إلا الأواري وغيره، وقد شرحناه في أصول الفقه. وقال آخرون : هو استثناء صحيح، وفائدته أن له أن يقتله خطأ في بعض الأحوال، وهو أن يرى عليه لبسة المشركين والانحياز إليهم فيظنه مشركاً، وقتله في هذا الوقت على هذا الوجه جائز، كما روى الزهري عن عروة بن الزبير، أن حذيفة بن اليمان قاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فأخطأ المسلمون يومئذ بأبيه يحسبونه من العدو، وتحاملوا عليه بأسيافهم، فطفق حذيفة يقول : إنه أبي، فلا يفهموا قوله حتى قتلوه، فقال عنه ذلك، يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، وبلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فزاد حذيفة عنده خيراً.
فأما قول من قال : إنه منقطع من كل وجه، وليس فيه معنى الاستثناء بوجه ما فهو بعيد، فإنه مكابرة النص، وإلا لا بد أن يتحقق معناه على بعض الوجوه، إما مجازاً وإما حقيقة، فأما إبطال وجه المجاز والحقيقة فتعطيل لا تأويل.
والذي ذكره من المعنى الثاني يقتضي أن يكون قتله مباحاً من جهة الله تعالى إذا ظنه مشركاً، وإذا ظنه مشركاً فهو يتعمد قتله ولا يراه خطأ، وإذا قال الله تعالى :﴿ وَمَا كَانَ لمُؤمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنَاً إلاَّ خَطَأً ﴾ يقتضي أن يقال إنما يباح إذا وجد بشرط، وشرط الإباحة أن يكون خطأ، وإذا أبيح له على شرط، فلا بد وأن يعلم وجود الشرط حتى تصح الإباحة، ولا يتصور أن يعلم أنه خطأ، فإنه لو علمه خطأ علم التحريم، فدل أن القتل ليس مباحاً في هذه الحالة، فإنه لو كان مباحاً كان مباحاً على شرط، والشرط يجب أن يعلمه من أبيح له، ولأن من يجوز له دفعه عن نفسه، فكيف يكون مباحاً له ؟ ودفعه جائز، والذي أباحه الله تعالى، هو الذي إذا علم المرء حقيقة الحال كان مباحاً، ويكون مباحاً لمصلحة في النفس، وقتل المسلم المعصوم ليس من مصلحة حال، فليس مباحاً إذن، فأقرب قول فيه أن يقال : قوله تعالى :﴿ وَمَا كَانَ لمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مَؤْمِنَاً ﴾، اقتضى تأثيم قاتله لاقتضاء النهي عن ذلك، فقوله إلا خطأ دفع المأثم عن قاتله، فإنما دخل الاستثناء على ما تضمنه اللفظ من استحقاق المأثم، وأخرج منه قاتل الخطأ بالاستثناء، فالاستثناء مستعمل في حقيقة على هذا الوجه، فإنه يرجع إلى المأثم الذي هو يتضمن القتل.
قوله تعالى :﴿ وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنأ خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلمَةُ إلىَ أَهْلِهِ١ ﴾ : ورأى العلماء إيجاب تحرير الرقبة المؤمنة، والإيمان معتبرها هنا، لا لأن ذكر الإيمان ينفي من طريق الفحوى غيره من حيث الاسم، ولكن مقادير العبادات لا تعرف بالرأي والقياس، فليس يمكن أن يقال : إن الرقبة المؤمنة إذا حررت، فأي قدر يتعلق به من الثواب، وعلى أي درجة هو من القربة، وأن ذلك القدر هل هو مقدم إليه، أم يحصل الإجزاء بغيره مما دونه ؟ فلما لم يتصور إحاطة ظن المستنبطين به، لا جرم وجب الاقتصار على المذكور، ومنع إلحاق ما دونه به.
ومعلوم أن إعتاق الكافر دون إعتاق المؤمن، فليس لنا أن نقيسه عليه، فيتعين اتباع مورد النص وموضع الاسم، وهذا حسن بين.
والذي قيل فيه، إن معناه : أنه عجز شخص بقتله عن طاعة الله تعالى، فتعين عليه تحرير رقبة مثله، معنى ضعيف، فإنما نشترط صفة الإيمان في إعتاق الرقبة عن المقتول الكافر، فلا حاصل لهذا المعنى، وهذا بين في منع قياس الكافر على المؤمن. ولو ورد النص في تحرير المؤمن بقتل المؤمن، ما جاز لنا أن نقيس الكافر عليه، ولا جاز أن نقول إذا قتل عليه مسلم كافراً، فيجب عليه إعتاق المؤمن، بل أمكن أن يقال يجزى الكافر عن الكافر، ولكن الله تعالى نص عليه في قوله :﴿ وإنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ فَدِيَةٌ مُسَلمَةٌ إلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ٢ ﴾، إلا أنه إذا ثبت ذلك، فيظهر منه أن اعتبار الظهار واليمين بالقتل في هذا الحكم من طريق القياس بعيد، فإن الكفارات وضعت على أوضاع مختلفة : مثلاً : التحرير في اليمين والظهار والقتل واحد، فوجب من كل واحد من هذا الأجناس، الرقبة على الصفة التي وجدت في الآخر من السلامة من العيب.
ثم الأصل أن يكون البدل قائماً مقام الأصل، ومع هذا جعل بدل الرقبة في اليمين صيام ثلاثة أيام، وجعل في القتل والظهار صيام شهرين متتابعين، وقياس التفاوت في البدل، وقد استوت أوصاف البدل في الكفارات كلها، وقد جعل الله تعالى صوم ستين يوماً معدلاً بإطعام ستين مسكيناً، وجعل في اليمين صيام ثلاثة أيام معدلاً بإطعام عشرة مساكين، فكيف يتأتى الاعتبار مع اختلاف هذه الأوضاع ؟
وعند ذلك اعتمد الشافعي في اشتراط الإيمان في تحرير الرقبة في كفارة الظهار، على حديث الأمة الخرساء وهو مشهور، وإن كان في القياس وجه يمكن تمشيته.
وقد ذكرنا في كتب الخلاف، أن الله تعالى ذكر صيام الشهرين المتتابعين، ثم قال :﴿ توْبةً مِنَ الله٣ ﴾، ولم يكن من الخاطىء ما يقتضي التوبة، وقد قال تعالى :﴿ تَوْبةً مِنَ اللهِ ﴾، مع أن التوبة حقيقتها الندم.
ويقال في الجواب عنه توبة من الله : أي عدم المؤاخذة في ترك التحفظ والتصون، مع إمكان عده من حملة الذنوب.
ثم قال تعالى :﴿ وَدِيةٌ مُسَلمَةٌ إلى أَهْلِهِ ﴾، فإنها في الآية إيجاب الدية مطلقاً، وليس فيه إيجابها على العاقلة أو على القاتل، وإنما أخذ ذلك من السنة، ولا شك أن إيجاب المساواة على العاقلة خلاف قياس الأصول من الغرامات وضمان المتلفات، والذي أوجب على العاقلة، لم يجب تغليظاً، ولا أن وزر القاتل عليهم، ولكنه مواساة محضة.
واعتقد أبو حنيفة أنها باعتبار النصرة لازمة، وإنما هي إلى اختيار من في الديوان، وأما الناشىء من القرابة فيه لازم لا يزول، وما كل نصرة تعتبر، فإن الزوج ينصر زوجته ولا يتحمل عقلها، والمؤمنون ينصر بعضهم بعضاً، والأصل عدم التحمل إلا حيث أثبت التحمل وقد أثبت التحمل في نصرة الأقارب، فلا يجوز طرح وصف القرابة وإلغاؤها.
ثم اعلم أن الله تبارك وتعالى، أطلق الدية ولم يبين مقدارها، فلا نعلم مقدارها إلا من حيث بيان آخر، ولا يفهم من إيجاب أصل الدية إبانة التفاوت بين العمد والخطأ وشبه العمد، ولا بين الكافر والمسلم، ولا أصل المساواة، وإنما المساواة والتفاوت صفات وكيفيات، تعلم من بيان آخر، ولا نعلم منه التسوية بين الحر وغيره في مقدار الدية ولا التفاوت، فهذا بين يعرف بمبادىء النظر.
وقد غلط الرازي فيه من وجوه عدة، وعثر عثرات متتابعة وظن أن الله تبارك وتعالى لما ذكر في قتل المعاهد :﴿ وديةٌ مُسَلمةٌ إلى أَهْلِهِ ﴾ أن المراد به مثل دية المسلم في المقدار، ولم يعلم أن هذا الكلام لا تعلق له بالمقدار، فإنه لو اقتصر على ذكر دية المسلم، لم يفهم منه المقدار، وضم مثله إليه في المعاهد، كيف يكون بياناً للمقدار ؟ وإذا قال القائل : من أتلف دماً فعليه ضمانه، ومن أتلف ثوباً فعليه ضمانه، ومن أتلف بهيمة فعليه ضمانها، لا يفهم منه المساواة في المقدار ولا التفاوت، وإنما ذلك معلوم من بيان آخر، وهذا لا ريب فيه.
نعم ذكر الله تعالى تحرير الرقبة في ثلاثة مواضع، ولم يذكر الدية في قوله :﴿ فإنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ٤ ﴾، فاحتمل أن يقال الدية تجب وتكون لبيت المال، ولكن الله تعالى إنما ذكر في الموضعين الدية المسلمة إلى أهله، فإذا لم يكن له وارث مسلم ولكنه مسلم، فإذا قتل فلا دية لأهله، فلم يذكر الدية لأهله لذلك.
وذكر ذاكرون تأويلاً آخر فقالوا قوله :﴿ فإنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍ لكُمْ وهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ﴾، إنما كان في صلح النبي صلى الله عليه وسلم أهل مكة، لأنه من لم يهاجر لم يورث لأنهم كانوا يتوارثون بالهجرة، قال الله تعالى :﴿ والذيِنَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ ولاَيَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتى يُهَاجِرُوا٥ ﴾، فلم يكن لمن لم يهاجر ورثة من المسلمين يستحقون ميراثه، فلم تجب الدية ثم نسخ ذلك بقوله :﴿ وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىَ بِبَعْضٍ٦ ﴾.
والشافعي رضي الله عنه يقول : إذا قتل مسلماً في دار الحرب في الغارة والحرب، أو في دار السلام إلا أنه في الحرب والغارة، فعليه كفارة ولا دية في ظاهر المذهب.
ولا شك أن ذلك بعيد عن قياس الأصول، لأن الجهل بصفة الشيء لا يسقط ضمانه إذا كان مضموناً، ومن أجله صار صائرون إلى وجوب الضمان، وذكروا أن السكوت عن ذكر الضمان لا يسقط الضمان، فإن قوله تعالى :﴿ وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنَاً خَطَأً ﴾، يتناول كل مؤمن لبيان أنه لا يجب فيه دية تسلم إلى أهله، فإن أهله كفار، فأراد أن يتبين به أن أهله لا يستحقون من ديته شيئاً، وأنه ليس لأهله أن يصدقوا فإنه لا حق لهم في ديته.
وهذا بين ليكون جمعاً بين دلالة السكوت ودلالة العموم.
٢ - سورة النساء، آية ٩٢..
٣ - سورة النساء، آية ٩٢..
٤ - سورة النساء، آية ٩٢..
٥ - سورة الأنفال، آية ٧٢..
٦ - سورة الأنفال، آية ٧٥..
ظن أصحاب أبي حنيفة، أن الله تعالى نص على حكم الخطأ، وأوجب التحرير فيه في ثلاثة مواضع، ثم قال من بعدها من غير فصل :﴿ وَمَنْ يَقْتُل مُؤْمِنَاً مُتَعَمِدَاً فَجزَاؤُهُ جَهنَمُ ﴾، فإيجاب الكفارة فيها٢ خلاف الظاهر.
والجواب عنه : أن الله تعالى ذكر في الخطأ تمام ما أوجب فيه، ثم أبان للعمد مزية على الخطأ وذكر تلك المزية، وذلك لا ينفي إيجاب فيه، وجب في الخطأ، كما لا ينفي إيجاب الدية وإن وجبت في الخطأ، وإنما أوجب الله تعالى الكفارة في الخطأ، تعظيماً لأمر الدم في مقابلته بالكفارة، وشرع في العمد مزية، فلا ينبغي أن تكون المزية مسقطه ما قد وجب في الخطأ، ولذلك قال الشافعي رضي الله عنه : إذا وجبت الكفارة في الخطأ، فلأن تجب في العمد أولى.
وقال إذا شرع السجود في السهو، فلأن يشرع في العمد أولى، وقد قال تعالى في الخطأ ﴿ تَوْبَةً مِنَ اللهِ ﴾، معناه أنه إنما أوجبه الله عليكم ليتقبل الله توبتكم فيما أنتم منسوبون به إلى التقصير.
وقيل : معنى التوبة التوسعة، وهي توسعة من الله ورحمة، كما قال :﴿ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُم٣ ﴾.
وقال تعالى :﴿ لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلىَ النبيِ والمُهاجِرِينَ٤ ﴾ : أي وسع الله على النبي والمهاجرين والأنصار وخفف عنهم : فهذا تمام البيان في هذه الآية.
قول الله تعالى :﴿ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ٥ ﴾ : ومعلوم أنه كلفنا التتابع على حسب الإمكان، فالحيض لا يقطع التتابع في صوم الشهرين، وليس إذا انقطع التتابع لمدى لا يمكن الاحتراز عنه ما دل على أنه ينقطع، لما لا يمكن الاحتراز منه٦.
٢ - أي في العمد..
٣ - سورة البقرة، آية ١٨٧..
٤ - سورة التوبة، آية ١١٧..
٥ - سورة النساء، آية ٩٢..
٦ - انظر محاسن التأويل، ج ٥..
روي أن سبب نزول الآية، أن سرية للنبي صلى الله عليه وسلم، لقيت رجلاً ومعه غنيمات له، فقال : السلام عليكم، لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فقتله رجل من القوم، فلما رجعوا أخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال : لم قتلته وقد أسلم ؟ فقال : إنما قالها متعوذاً، فقال : هلا شققت عن قلبه ؟ وحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم دينه إلى أهله ورد عليهم غنيماته١. وهذا مما يحتج في قبول توبة الزنديق إذا أظهر الإسلام، لأن الله تعالى لم يفرق بين الزنديق وغيره متى أظهر الإسلام.
ومقتضى الإطلاق، أن من قال لا إله إلا الله، محمد رسول الله، أو قال إني مسلم، يحكم له بحكم الإسلام، لأن قوله تعالى :﴿ لمَنْ أَلْقَى إلَيْكُمُ السلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنَاً ﴾، إنما معناه لمن استسلم، فأظهر الانقياد لما دعي إليه من الإسلام، فإذا قرئ السلام وهو إظهار تحية الإسلام، فلا جرم قال علماؤنا : إنما نحكم له بالإسلام إذا أظهر ما ينافي سائر اعتقاده، فإذا قال اليهودي أو النصراني : أنا مسلم لم يصر مسلماً، لأنهم كلهم يقولون نحن مسلمون، فهو كما قال أنا على الدين الحق.
نعم، المشركون قالوا : لا نقول نحن مسلمون، فحالهم في هذا خلاف حال اليهود والنصارى، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها٢ "، وإنما عنى به المشركين، لأن اليهود والنصارى يطلقون قول لا إله إلا الله ولا يتمانعون منه، وإن لزمهم الشرك في التفصيل.
فقول : لا إله إلا الله، إنما كان على إسلام مشركي العرب، لأنهم كانوا لا يعترفون به إلا استجابة لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد بين الله تعالى ذلك فقال :﴿ إنهُمْ كَانُوا إذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إلهَ إلاَّ اللهَ يَسْتَكْبِرُون٣ ﴾،
واليهود والنصارى يوافقون على إطلاق هذه الكلمة، وإنما يخالفون في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فمتى أظهر مظهر منهم الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم، فهو مسلم، حتى قال قائلون من أصحابنا : وإن هو قال محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا يحكم بإسلامه، لإمكان أن يكون من العيسوية، حتى يقول محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكافة.
وقال قائلون : ولا بذلك أيضاً يصير مسلماً، لأن فيهم من يقول محمد رسول الله إلى كافة الناس، ولكنه سيبعث وما بعث بعد.
وإذا تبين ذلك، فما لم يقل أنا بريء من اليهودية والنصرانية، لا يصير مسلماً.
ومن أجل هذه الاعتبارات والشرائط، صار من صار إلى أن توبة الزنديق لا تقبل، لأنا لم نعرف في حقه علماً يظهر به مخالفة مقتضى اعتقاده، لأن دينه الذي يعتقده أن يدخل مع كل قوم فيما يهوونه، وأن كل دين على اختلاف الأديان كلها ينجر باطنه إلى المخازي التي يعتقدونها، فلم يظهر لنا منه ما يخالف مقتضى اعتقاده، فكان كاليهودي إذا قال لا إله إلا الله.
وهذا دقيق حسن، وقد شرحنا هذه المسألة من الأصول ومسائل الخلاف.
واعلم أن في الآية إشكالاً، من حيث إن الله تعالى قال :﴿ إذَا ضَرَبْتُمْ فيِ سَبِيلِ اللهِ فَتَبَينُوا وَلاَ تَقُولُوا لَمنْ أَلْقَى إليكُمُ السلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنَاً ﴾.
قوله تعالى :﴿ إذَا ضَرَبْتُمْ فيِ سَبِيلِ اللهِ فَتَبَينُوا وَلاَ تَقُولُوا لَمنْ أَلْقَى إليكُمُ السلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنَاً ﴾. الآية [ ٩٤ ] : وذلك يمنع جزم الحكم بإسلامه، والتشكك من أمره، من غير أن يحكم له بالكفر ولا الإيمان، كالذي يخبر بالخبر ولا يعلم صدقة من كذبه، فلا يجوز لنا تكذيبه، وليس ترك تكذيبه مما يقتضي تصديقه، كذلك ما وصفنا من مقتضى الآية : ليس فيه إثبات الإيمان ولا الكفر إنما فيه الأمر بالتثبت حتى يتبين حاله، إلا أن الآثار التي ذكرناها قد أوجبت الحكم بإسلامه، فإنه عليه السلام قال : أقتلت مسلماً ؟ أو قتلته بعد ما أسلم.
وفيه أيضاً سرٌّ آخر، وهو أنا ربما نقول إنا لا نعلم إسلامه الذي هو إسلام حقيقة عند الله تعالى، وربما غلب على ظننا كذبه، ولكن تجرى عليه أحكام الإسلام.
والبزار، والدارقطني في الإفراد، والطبراني عن ابن عباس أيضا رضي الله عنهما..
٢ - أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، وأبو يعلى في مسنده عن أبي هريرة..
٣ - سورة الصافات، آية ٢٥..
والرازي اختار هذا وقال : الذي حمله على أن القصر عزيمة عندهم، وأن فريضة الصلاة في حق المسافر ما نزلت إلا ركعتين فلا قصر، ولا يقال في العزيمة لا جناح، ولا يقال فيما شرع ركعتين إنه قصر، كما لا يقال في صلاة الصبح ذلك، فلا جرم اختار الأول. واحتج عليه بأن الله تعالى قيد القصر بشرطين، والذي يعتبر فيه الشرطان إنما هو صلاة الخوف.
والذي ذكره فاسد من وجهين : أحدهما : أن صلاة الخوف لا يعتبر فيها الشرطان، فأنه لو لم يضرب في الأرض، ولم يوجد السفر، بل جاءنا الكفار وغزونا في بلادنا، فتجوز صلاة الخوف، فلا يعتبر وجود الشرطين على ما قاله. فإن حملنا على قصر الصفة، لم يشترط فيه الضرب في الأرض، وإن حملنا على قصر الركعات، لم يعتبر فيه الخوف فسقط ترجيحه أحد الحملين على الآخر، باعتبار الشرطين فيه.
الثاني : أن في الأخبار ما يدل على أن المراد بكتاب الله تعالى ما قلناه، وهو ما روي عن يعلى بن أمية قال : قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : كيف نقصر وقد أَمِنّا ؟ وقال الله تعالى :﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جنَاحٌ أَنْ تَقْصرُوا مِنَ الصَّلاةِ إنْ خِفْتمْ ﴾١ الآية، فقال : عجبت مما عجبت، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال :" صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته٢ "، وقوله لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ما لنا لا نقصر وقد أمنّا ؟ دليل قاطع على أن مفهوم الآية القصر في الركعات، ولم يذكر أصحاب أبي حنيفة على هذا تأويلاً يساوي الذكر.
وإذا قالوا لم يشرع الله في السفر إلا ركعتين، فليست الأربعة مشروعة، وإذا لم تكن الأربعة مشروعة ما دام السفر، فلم صح الاقتداء بالمقيم، وإذا اقتدي به، فلم لزمته الأربع ؟ وقد قالوا : لو اقتدى به في التشهد لزمهُ الأربع، ومالك يشترط إدراك ركعة. فإن قيل لنا : وعندكم، لم لزمته الأربع ؟ قيل : إن نوى الأربع، فليلزمه الأربع، وإن لم ينو فلا، فهو صحيح على أصلنا. . فأما عندهم فاختلاف الصلاتين يمنع القدوة، وهذا بيّن. ولا فرق بين سفر الحج والغزو، وسفر التجارة. وابن مسعود يقول : لا نقصر إلا في حج أو جهاد. وعطاء يقول : لا أرى القصر إلا في سبيل من سبل الله عز وجل.
وقول الله تعالى :﴿ وإذَا ضَرَبْتُمْ فيِ الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ ﴾ : يعم كل سفر. وقال مالك : إذا خرج للصيد لا لمعاشه ولكن متنزها، أو خرج لمشاهدة بلده متنزهاً ومتلذذاً، لم يقصر. وقال الشافعي رضي الله عنه : لا قصر في سفر المعصية. وقد شرحنا ذلك في سورة البقرة.
وقوله ﴿ ضَرَبْتُمْ في الأَرْضِ ﴾ مطلق، وقوله : يمسح المسافر ثلاثة أيام مطلق، غير أن الإطلاق يقيد بالمعنى المفهوم من الرخص.
ولعل أبا حنيفة يرى القصر عزيمة فيقول : صلاة غير المقيم لم تشرع إلا كذلك، فإذا لم تشرع في غير حالة الإقامة إلا كذلك، لم تكن شرعت لإعانته على ما هو بصدده. إلا أن هذا الكلام باطل بالوجوه التي قدمناها.
والإشكال أنه ليس في كتاب الله تعالى تقييد المدة، ويعتبر في السفر مسيرة ثلاثة أيام أو ستة عشر فرسخاً، على ما اختلف العلماء وبينا سببه فيما تقدم فلا نعيده.
٢ - أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، وأبو يعلى في مسنده، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه..
قوله تعالى :﴿ وإذَا كُنْتَ فيهمْ فَأقمْتَ لهُمُ الصَّلاةَ ﴾ الآية [ ١٠٢ ] : مذهب الشافعي رضي الله عنه في صلاة الخوف، أن العدو إذا كان في غير وجه القبلة، جعل الإمام القوم صفين، وصلى بطائفة ركعة، وطائفة وجاه العدو، فإذا سجد سجدوا معه، وإذا قام قاموا معه ونووا مفارقته، وأتموا الصلاة لأنفسهم، وأطال الإمام القيام حتى تحصر الطائفة الأخرى بعد انصراف الطائفة الأولى إلى وجاه، وصلى الإمام بالطائفة الأخرى ركعة وتشهد وسلم، وقضى القوم بقية صلاتهم، وإن كان العدو في جهة القبلة، أحرم بهم جميعاً وحرسه صف١ وسجد مع القيام صف، وباقي الصلاة على ما تقدم.
والفرق بين كون العدو في جهة القبلة، وكونه في جهة أخرى، أن العدو إذا كان في غير جهة القبلة، فإنما يحرم بطائفة واحدة، وإذا كانوا في جهة واحدة أحرم بهم.
وللناس اختلافات كثيرة في صلاة الخوف، وأبو حنيفة من بينهم يقول : يركع الإمام ويسجد وينصرفون وهم في الصلاة، ويجيء القوم الآخرون فيصلي بهم ركعة ثم ينصرفون، ويجيء الأولون فيقضون بقية صلاتهم.
فأثبتوا ترددات كثيرة في الصلاة من غير حاجة، والله تعالى يقول :﴿ وإذَا كُنْتَ فيهمْ فَأقمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَليْأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُم فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ ﴾ الآية [ ١٠٢ ]، فظن أن السجود يجري على حقيقته، ولكن لما لم يقل إنهم ينصرفون كرة أخرى.
حمل الشافعي قوله : فإذا سجدتم٢ يعني فإذا صليتم، فالذي ذكره الشافعي رضي الله عنه، ليس فيه إلا أن المأموم يقطع نية القدرة، وذلك نية بعد.
وعلى ما قاله أبو حنيفة تجري ترددات في خلال الصلاة، وهي خارقة نظام الصلاة من غير حاجة، ومعلوم أن قطع نية القدوة أمثل من احتمال ترددات لا لحاجة في خلال الصلاة.
وأبو حنيفة قد قال في الذي سبقه الحدث، إنه يتردد٣ وصلاته صحيحة، وذلك أيضاً خلاف الأصول، فلا جرم قال أبو يوسف : الذي كان من ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف، لا يجوز مثله بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنما كان مختصاً به لئلا يفوت الناس الجماعة معه، لأنه رأى أشياء تخرم نظام الصلاة، فأما نحن، فلا يحتمل ما يخالف نظام الصلاة، وإنما قصارى ما يفعله المأموم قطع نية القدوة فقط، وذلك غير ممنوع شرعاً.
وإذا كان الخوف أشج من ذلك، وكان التحام القتال، فإن المسلمين يصلون على ما أمكنهم مستقبلي القبلة ومستدبريها، وأبو حنيفة وأصحابه الثلاثة متفقون على أنهم لا يصلون والحالة هذه، بل يؤخرون الصلاة، وإن قاتلوا في الصلاة قالوا فسدت الصلاة.
وحكي عن الشافعي رضي الله عنه : إن تابع الطعن والضرب فسدت صلاته.
وليس في القرآن تعرض لذلك على الخصوص، وإنما فيه :" فلا جناح عليكم أن تقصروا من الصلاة ". وهم يحملون ذلك على قصر الأوصاف، وقصر الأوصاف عند الخوف، يشتمل على حالة التحام القتال.
نعم، صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، صلى صلاة الخوف في مواضع، على اختلاف في الصفات، ولم يصلِّ يوم الخندق أربع صلوات حتى مضى هوى من الليل ثم قال :" ملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً كما شغلونا عن الصلاة الوسطى٤ "، فقضاهن على الترتيب، ولم يكن مشتغلاً بالقتال حالة الحفر، ولا كان الكفار ثم٥، وإنما كانوا يستعدون لهم، والدليل على أنه لم يجر قتال إلا مناوشة في طرف مع بعضهم، وقوله تعالى :﴿ وكفَى اللهُ المُؤْمِنِينَ القِتَالَ٦ ﴾، وذلك يدل على أنه لم يجر قتال، فعلم أن ذلك كان مخصوصاً منسوخاً، ويعلم ضرورة أن الأفعال في القتال، مثل الأفعال من المشي والحركات ثم الجيئة والذهاب في خلال صلاة الخوف عندهم لا تنافي صحة الصلاة على ما هو مذهبهم، فالقتال من أي وجه كان منافياً.
٢ - المقصود (فإذا سجدوا) كما ورد في الآية..
٣ - "يعود" في نسخة أخرى..
٤ - أخرجه الإمام أحمد في مسنده، ومسلم في صحيحه، والنسائي، والشيخان، وأبو داود، والترمذي..
٥ - أي هناك..
٦ - سورة الأحزاب، آية ٢٥..
واعلم أن الله تعالى ذكر لفظ الذكر في غير هذا الموضع، وأراد به الصلاة في قوله تعالى :﴿ الّذينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وعلىَ جُنُوبهم١ ﴾، فروي أن عبد الله بن مسعود، رأى الناس يضجون في المسجد فقال : ما هذه الضجة ؟ قالوا : أليس الله تعالى يقول : اذكروا الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم ؟ قال : إنما يعني بهذه الصلاة المكتوبة، إن لم تستطع قائماً فقاعداً، وإلا فعلى جنبك.
وقال الحسن في قوله تعالى :﴿ الّذينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وقُعوداً وَعَلىَ جُنُوبهِمْ ﴾ : هذه رخصة من الله تعالى للمريض أن يصلي قاعداً، فإن لم يستطع فعلى جنبه.
والمراد نفس الصلاة، لأن الصلاة ذكر الله تعالى، وقد اشتملت على الأذكار المفروضة والمسنونة، فسماها الله تعالى ذكراً لذلك، وسماها ركوعاً، وكل ذلك تعبير عن الصلاة بما تشتمل عليه الصلاة.
فأما الذكر الذي في قوله عز وجل :﴿ فإذَا قَضَيْتُمْ الصَّلاَةَ ﴾٢ فيحتمل أن يكون معناه ذكر الله تعالى بالقلب وباللسان وهو الظاهر، فإنه تعالى ذكر ذلك بعد الفراغ من الصلاة، فقال :﴿ فإذَا قَضَيْتُمْ الصَّلاَةَ فاذْكُرُوا اللهَ قِيَاماً وقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ ﴾.
وقوله تعالى :﴿ فإذَا اطْمَأنَنْتُم٣ ﴾ : معناه فإذا رجعتم إلى أوطانكم، فعودوا إلى إتمام الصلاة ودعوا القصر، فإنه زال الخوف والسفر، فارجعوا إلى إتمام الأركان إن كان القصر قصراً في الأوصاف.
قال الله تعالى :﴿ إنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمنينَ كتَاباً مَوْقُوتاً٤ ﴾ : قال عبد الله بن مسعود : موقوت : منجم، كلما مضى نجم دخل نجم آخر، وقال زيد بن أسلم مثل ذلك، فنزلت الآية على أن الصلاة مفروضة في أوقات معلومة على نوب مضبوطة، غير أن هذه دلالة حملية٥، وأشار إلى تفاصيلها في مواضع أخر من كتابه، من غير تحديد أوائلها وأواخرها، وبين على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم مقاديرها فيما ذكره الله تعالى في الكتاب في أوقات الصلوات، فمن جملة تلك الآيات : قوله تعالى :﴿ أَقمْ الصَّلاَةَ لدُلُوكِ الشّمْسِ إلىَ غَسَقِ اللّيْلِ وَقُرْآنَ الفَجْرِ٦ ﴾.
وروي عن ابن عباس أنه قال : دلوك الشمس، زوالها عن بطن السماء لصلاة الظهر، إلى غسق الليل، وهو صلاة المغرب، وروي عن ابن عمر مثل ذلك في دلوكها أنه زوالها، وقال ابن مسعود : دلوكها : زوالها،
وروي عنه وعن ابن عباس في رواية أخرى، أن دلوكها غروبها.
واللفظ يحتمل المعنيين.
والدلوك في الأصل الميل، فدلوك الشمس ميلها، وقد تميل تارة للزوال وتارة للغروب، فقال الرازي : إذا عنى بالدلوك أول الوقت، وغسق الليل نهايته، لأنه تعالى قال : إلى غسق الليل وإلى غاية.
ومعلوم أن وقت الظهر لا يتصل بغسق الليل، لأن بينهما وقت العصر، فالأظهر أن يكون المراد بالدلوك هاهنا هو الغروب، وغسق الليل اجتماع الظلمة، لأن وقت المغرب يتصل بغسق الليل ويكون نهايته.
والاعتراض على ما ذكر أن يقال : إنه لو كان على ما ذكره، ما كان في كتاب الله إشارة إلى صلاة الظهر والعصر، والظهر أول ما نزل من الصلوات، والعصر الصلاة الوسطى عند الأكثرين، فكيف يجوز أن لا يقع التعرض لهما، ويقع التعرض لصلاة الليل أولاً إلى صلاة الفجر ويغفل صلاتي النهار مع أن الميل في الشمس غير غروب الشمس، فإن الشمس تميل قبل أن تغرب، فلا يقال : مالت الشمس بمعنى غربت، إلا أن يقال : مالت للغروب، فإنه يقال للشمس وقت الظهر : إنها مائلة، ولا يقال لها بعدما غربت مائلة.
يبقى أن يقال : إن الله تعالى قال :﴿ إلَى غَسَقِ اللّيلِ ﴾، ولا يتصل أول الظهر بغسق الليل، فيقال : ليس كذلك، فإن ما بين زوال الشمس المعبر عنه بالدلوك، إلى غسق الليل، وقت لصلوات عدة وهي الظهر، والعصر، والمغرب، فيفيد ذلك أن من وقت الزوال إلى غسق الليل، لا يخرج أن يكون وقتاً لصلاة، فيدخل فيه الظهر والعصر والمغرب، فأبان الله تعالى أن بين زوال الشمس إلى غسق الليل وقت لصلوات عدة، فيدخل فيها الظهر والعصر والمغرب، ويحتمل أن يدخل فيه العتمة أيضاً، لأن الغاية قد تدخل في الحكم، كقوله :﴿ وأَيْدِيَكُمْ إلىَ المَرَافقِ٧ ﴾، وقوله :﴿ حَتّى تَغْتَسَلُوا ﴾، والغسل داخل في شرط الإباحة.
وإذا حمل الدلوك على الزوال، اشتملت الآية على خمس صلوات، فالأربعة من الزوال إلى غسق الليل، والخامسة قرآن الفجر.
ولما كان بين الصبح والظهر وقت ليس من أوقات الصلوات المفروضة، أبان الله تعالى أن من وقت الزوال إلى وقت العتمة وقتاً للصلاة مفعولة فيه.
وأفرد الفرد بالذكر، إذ كان بينه وبين الصلوات المفروضة وقت ليس من أوقات الصلوات المفروضة.
وقال تعالى في بيان المواقيت أيضاً على نحو ما سلف :﴿ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيْ النّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللّيْلِ٨ ﴾، وروي عن عمر وعن الحسن في قوله طرفي النهار : الصبح والظهر والعصر، وزلفاً من الليل : المغرب والعشاء، فعلى هذا القول قد انتظمت الآية الصلوات الخمس. وروى يونس عن الحسن :﴿ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيْ النّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللّيْلِ ﴾ قال : المغرب والعشاء. فعلى هذا القول قد انتظمت الآية الصلوات الخمس. وعن الحسن في رواية : أقم الصلاة طرفي النهار، قال : هو الفجر والعصر. وعن ابن عباس : جمعت هذه الآية مواقيت الصلاة. ﴿ فَسُبْحَانَ اللهِ حِينَ تُمْسُون ﴾ : المغرب والعشاء، ﴿ وحِينَ تُصْبِحُون ﴾ : الفجر، ﴿ وَعَشِيّاَ ﴾ : العصر، ﴿ وحِينَ تُظْهِرُون٩ ﴾، الظهر. وعن الحسن مثله، وعن ابن عباس :﴿ وَسَبِّحْ بحَمْدِ رّبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشّمْسِ وَقبْلَ غُرُوبها وَمِنْ آناءِ اللّيْلِ فَسَبِّحْ وأطْرافَ النّهارِ لَعّلكَ تَرْضَى١٠ ﴾.
قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَهِنُوا فيِ ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ١١ ﴾ : تحريض على الجهاد، ونهي عن الونا والضعف، وذكر العلة فيه فقال :﴿ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لاَ يَرْجُونَ ﴾١٢ أي إن الألم الذي ينالكم محتمل في مقابلة عظيم الثواب عند الله تعالى، ذلك ليعلم أن المشاق في التكاليف محتملة، لما يرجى فيها من ثواب الله تعالى.
٢ - سورة النساء، آية ١٠٣..
٣ - سورة النساء، آية ١٠٣..
٤ - سورة النساء، آية ١٠٣..
٥ - انظر تفسير الطبري..
٦ - سورة الإسراء، آية ٧٨..
٧ - سورة المائدة، آية ٦..
٨ - سورة هود، الآية ١١٤..
٩ - سورة الروم، الآية ١٧-١٨..
١٠ - سورة طه، الآية ١٣٠..
١١ - سورة النساء، الآية ١٠٤..
١٢ - سورة النساء، الآية ١٠٤..
سبب نزولها مذكور في التفاسير٢، وفيه دليل على أنه لا يجوز لأحد أن يخاصم عن أحد، إلا بعد أن يعلم أنه محق.
قوله تعالى :﴿ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ بمَا أَرَاكَ اللهُ ﴾ : يحتمل الوحي والاجتهاد جميعاً، وفيه دليل على أن وجود السرقة في يد إنسان لا يجب الحكم عليه بها، لأن الله تعالى نفى الحكم عن اليهودي بوجود السرقة عنده، إذ كان جائزاً أن يكون هو الآخذ، وذلك مذكور في التفاسير٣.
وليس ذلك مثل ما فعله يوسف عليه السلام، حين جعل الصاع في رجل أخيه٤، ثم أخذ الصاع، واحتبسه عنده، فإنه إنما حكم عليهم بما كان عندهم أنه جائز، وكانوا يسترقون السارق، فاحتبسه عنده، وكان له أن يتوصل إلى ذلك ولا يسترقه، ولا قال إنه سارق، وإنما قال ذلك رجل عنده ظنه سارقاً.
وقد نهى الله تعالى عن الحكم بالظن والهوى، بقوله تعالى :﴿ اجتنبوا كَثِيراً مِنَ الظّنِّ إنَّ بَعْضَ الظّنِّ إثْمٌ٥ ﴾. وقال عليه السلام :" إياكم والظن فإنه أكذب الحديث٦ ".
٢ - انظر أسباب النزول للواحدي النيسابوري، وباب النقول في أسباب النزول للسيوطي وأحكام القرآن للقرطبي، وتفسير النيسابوري، وتفسير ابن كثير..
٣ - انظر تفسير الطبري، وابن كثير، والقرطبي، وتفسير النيسابوري..
٤ - انظر ما ورد في سورة يوسف آية ٧٠-٧٦..
٥ - سورة الحجرات، آية ١٢..
٦ - أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود..
وقرن اتباع سبيل المؤمنين بمعاينة رسول الله فيما ذكر من الوعيد، فدل على صحة إجماع الأمة على ما قررناه في تصانيفنا في الأصول، وبينا ما يرد عليه من الاعتراض ومنع الاحتجاج٢.
٢ - انظر تفسير القرطبي..
فيه ثلاثة أوجه : أحدها : عن ابن عباس رواية :" فليغيرن خلق الله "، أي يغيرن دين الله بتحريم الحلال، وتحليل الحرام، ومثله قوله تعالى :﴿ لاَ تَبْدِيلَ لخَلْقِ اللهِ ذَلكَ الدِّينُ القَيِّمُ٢ ﴾، وروي عن ابن عباس وأنس أنه الخصاء، وروي عن الحسن أنه الوشم، وروي عن الحسن أنه كان لا يرى بأساً بإخصاء الدابة، وعن طاووس وعروة مثله.
٢ - سورة الروم، آية ٣٠..
ونزلت أيضاً في المرأة تكون عند الرجل، فيريد طلاقها ويتزوج غيرها، فتقول أمسكني ولا تطلقني، ثم تزوج وأنت في حل من النفقة والقسم، فذلك قوله :﴿ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا ﴾ - إلى قوله - ﴿ والصُّلْحُ خَيْرٌ٣ ﴾.
فهذه الآية دالة على وجوب القسم بين النساء، إذا كان تحته جماعة وعلى وجوب القسم لها بالكون عندها، إذا لم يكن عنده إلا واحدة.
٢ - أخرجه الترمذي..
٣ - سورة النساء، آية ١٢٨..