تفسير سورة الشورى

تفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة
تفسير سورة سورة الشورى من كتاب تفسير ابن عرفة المعروف بـتفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة .
لمؤلفه ابن عرفة . المتوفي سنة 803 هـ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ الشُّورَى
قوله تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا... (١٣)﴾
ابن عرفة: كلام متعلق الخبر مستقبلا سمي وصية، وإن كان حاليا سمي واجبا، ولما كان دينا مستقبلا عن دين نوح وغيره من الأنبياء، أطلق على الدين المؤيد إليهم به وصية، وأطلق على الدين المنزل إلينا وحي لأنه حالي ليس بعده شيء، ولما كان نوح غائبا عنا، فقال تعالى (مَا وَصَّى) بلفظ الغيبة، ثم قال: (وَالذِي أَوْحَيْنَا) بلفظ التكلم لأنه خطاب للحاضر، فغلب فيه خطاب الحاضر على الغائب فأدخل بعده فيه، فقال تعالى (وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ).
قوله تعالى: ﴿لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ... (١٥)﴾
إن قلت: نفيت الحجة مع أنها ثابتة، بقوله تعالى: (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ) قلت: معناه لَا يحاجه.
فإن قلت: (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ... (١٦).. حصول المحاجة منهم، فكيف نفيت عنهم؟ قلنا: المنفي عنهم إنما هي المفاعلة والمثبت إنما هو قوله: (يُحَاجُّونَ) ويفاعلون لَا يقتضي المفاعلة من الجانبين لأنك إذا قلت: تضارب اقتضى الفاعل منهما، وإذا قلت: [تضارب لم يقتضِ*] التفاعل بل حصول المعرفة [بالبادئ منهما*] واختار أن يفاعل يقتضي [المفاعلة*]، ويلزم حصول التعب والغضب، فأما في حق الكافر فصحيح، وأما في حق المؤمن فيدل على أن النظر يحرم في علم الكلام وقد قال به جمع كبير، وأيضا يلزم أن يكون الجمع في الضلال.
قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ).
لأنها إذا كانت داحضة عنده من حيث كونه رءوفا رحيما، فأحرى أن تبطل من حيث كونه قادرا قاهرا منتقما.
قوله تعالى: ﴿يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا... (١٨)﴾
ابن عرفة: قال بعض شراح سيبويه في باب الإحالة [**فرق بين الخبر المتهافت في نفسه، وبين الخبر المتهافت، مثال الأول: سأحمل لك هذا الطعام أمس]، ومثال الثاني:
هذه الآية لأن استعجالهم بها وطلبهم تقدمها يقتضي إيمانهم بها فهو مناقض للإخبار عنهم بأنهم كذبوا بها.
قوله تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ... (٢١)﴾
وقال ابن عرفة: لما تضمن الكلام السابق ذمهم بكفرهم بالله عقبه ببيان أنهم ليس لهم في ذلك شبه.
فإِن قلت: المطابقة تقتضي أن يقال لهم: شرعوا من الدين ما لم يشرعه الله، كما قيل: [وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٦) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا*]، وأجيب: بأن الإذن أعم من الشرع، ونفي الأعم أخص من نفي الأخص؛ لأن الشرع يقتضي ثبوت ذلك وجعله شريعة مستمرة، والإذن يقتضي الأمر به.
قوله تعالى: (وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ).
ابن عرفة: عادتهم يقولون الفرق بين هذا وبين قوله: (وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) قال وأجيب: بالفرق بين اعتبار المستقبل من حيث نسبته للفاعل وبين اعتباره من حيث نسبته للمفعول، فقوله تعالى: (وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ) أتى فيها الخبر منصوبا للفاعل، وقوله تعالى: (وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ) الخبر فيه منصوب للمفعول، أي (وَلَوْلا كَلِمَةُ) الموجبة للفصل بين النَّاس، فالفصل بين النَّاس منعزل للكلمة.
قوله تعالى: ﴿تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا... (٢٢)﴾
ابن عرفة: عادتهم يقولون: ترتيب الوصف المناسب [يشعر*] بكونه علة له، فهلا أتى معبرا عنه بلفظه، فيقال: (مُشْفِقِينَ) من ظلمهم.
قال: وأجيب: بأن الكسب أعم من العلم فهم لأجل ظلمهم يخافون من كل ذنب [عملوه*] وإن قل.
وأورد الفخر: أن الإشفاق هو الخوف ومتعلقه مستقبل، فكيف قال وهو واقع بهم؟ وأجيب: بأنها حال مقدرة، ويحتمل أن تكون محصلة، قيل له: الضمير يعود على قوله تعالى: (مِمَّا كَسَبُوا) أي وما كسبوا واقع بهم فيرد الإشكال، فقال: [واقِعٌ بِهِمْ يُرِيدُ أَنَّ وَبَالَهُ وَاقِعٌ بِهِمْ سَوَاءٌ أَشْفَقُوا أَوْ لَمْ يُشْفِقُوا*] وهم خائفون من تزايده وتراكمه عليهم شيئا بعد شيء [فيكون*] من باب عندي درهم ونصف، قالوا: [واقِعٌ بِهِمْ*] عذاب مثله وهم مشفقون من تزايده.
قوله تعالى: (فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ).
إما لكل واحد روضة، أو لكل واحد روضات، ويكون الظرف مجازا، كقولك: زيد في المدينة، وإنما هو في موضع واحد منها، فالظرف أوسع من المظروف.
قوله تعالى: (لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ).
ابن عرفة: قد ورد "أن في الجنة ما لَا عين رأت ولا أذن سمعت"، فأجيب: بأنها لَا تقتضي الحصر إلا لو قيل: ليس لهم إلا ما يشاءون وما لم يكونوا [يشاءوه*]، وفي الآية دليل على أن العاصي في الجنة [لأن*] المؤمن الصالح في روضات وهي أعلى روضة فيها، كما فسره الزمخشري؛ والعاصي فيها فقط، وهذا تفسير الزمخشري.
قوله تعالى: (ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ).
دليل على أن دخول الجنة محض تفضل من الله عز وجل.
قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ... (٢٣)﴾
قال الزمخشري: الإشارة إلى التبشير.
قيل لابن عرفة: والضمير المقدر عائد على المصدر المفهوم من بشر، أي [البشرى*].
قوله تعالى: (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا).
إن قلت: هلا قيل: لَا أقبل لكم أجرا، فهو أخص من السؤال لأنه قد [يأخذ*] الأجر من غير سؤال؟ فأجيب: بأنه إنما يعدل عن ذلك لأجل الاستثناء لأنه سأل منهم تحصيل المودة القرابية.
وذكر الزمخشري هنا أحاديث ولم يتعرض لها الطيبي بوجه.
لكن ذكر الترمذي حديثا يرجع معناه إلى معنى بعضها، وفيه التوصية على العباس عم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ورضي عنه، وأن عم الرجل صنو أبيه.
قوله تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا... (٢٤)﴾
ابن عرفة: المراتب ثلاثة: أدناها الكذب، وفوقها الافتراء، وأقبح منه افتراء الكذب.
قوله تعالى: (فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ).
[فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ فإن يشأ الله يجعلك من المختوم على قلوبهم، حتى تفترى عليه الكذب فإنه لا يجترئ على افتراء الكذب على الله إلا من كان في مثل حالهم*]. (١)
(١) من الكشاف، وعبارة الكتاب المطبوع هكذا [أي فإن يشأ أن يختم على قلب].
ابن عطية: قيل: بالصبر على آذاهم [وقيل: ينسيك القرآن*]، وكان بعضهم يقول: الآية دليل على إبطال قولهم وصحة قول النبي صلى الله عليه وسلم، وتقريره أن كل ما أتى به الناقل منسوبا للمنقول عنه بحضرته فهو غير مفترى، إذ لو كان مفترى لأنكر عليه نسبته إليه، ولما لم ينكر نسبته إليه دل على أنه من عند الله حقيقة، لقوله: (وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ).
قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ... (٢٩)﴾
ابن عرفة: في الدليل الدال على وحدانية الصانع، فقيل: الحدوث، وقيل: الإمكان، ويؤخذ من الآية أن الدليل على وحدانيته [هما معًا لأن (مِنْ) في*] قوله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ) للتبعيض فدل على أن حدوث هذه المخلوقات بعض الدلائل لَا كلها.
* * *
Icon