تفسير سورة نوح

التفسير الواضح
تفسير سورة سورة نوح من كتاب التفسير الواضح .
لمؤلفه محمد محمود حجازي .

سورة نوح
وهي مكية بالإجماع. وعدد آياتها ثمان وعشرون آية.. وهي تشتمل على بعض من قصة نوح عليه السلام مع قومه.
قوم نوح وتصوير حالهم [سورة نوح (٧١) : الآيات ١ الى ٢٨]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (٣) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤)
قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (٦) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (٧) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (٨) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (٩)
فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (١٠) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (١١) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (١٢) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (١٤)
أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (١٥) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (١٦) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (١٧) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (١٨) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (١٩)
لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (٢٠) قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (٢١) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (٢٢) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (٢٣) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (٢٤)
مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً (٢٥) وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (٢٦) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (٢٧) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (٢٨)
751
المفردات:
أَجَلٍ مُسَمًّى: أجل محدود بحد لا يتجاوزه. فِراراً: هربا وتفلتا منه.
وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ: جعلوها أغشية وأغطية لهم تستر بدنهم كله. وَأَصَرُّوا الإصرار على الأمر: عبارة عن لزومه والانكباب عليه، وأكثر ما يستعمل في الشرور والآثام. وَاسْتَكْبَرُوا: تكبروا. جِهاراً: مجاهرة. مِدْراراً: كثير الدرور غزير الانسكاب. وَيُمْدِدْكُمْ: يعطكم على فترات ما به تنتفعون.
وَقاراً: عظمة وتوقيرا. أَطْواراً: أحوالا مختلفة في الخلق من نطفة إلى
752
علقة، وفي نفس الحياة من طفولة إلى شباب إلى كهولة وغير ذلك طِباقاً: متطابقة بعضها فوق بعض. سِراجاً: كل ما يضيء بنفسه فهو سراج. أَنْبَتَكُمْ:
أنشأكم. بِساطاً أى: ممهدة كالبسط. سُبُلًا فِجاجاً: واسعة. كُبَّاراً أى: كبيرا. وَدًّا. سُواعاً. يَغُوثَ. يَعُوقَ. نَسْراً: هذه أسماء آلهة كانوا يعبدونها. وفي الأصل كانت أسماء رجال صالحين في قومهم. مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ:
من خطاياهم. دَيَّاراً المراد: لا تترك على الأرض من الكافرين أحدا يدور في دار. فاجِراً: فاسقا معتديا. تَباراً: هلاكا.
وهذه السورة الكريمة جاءت تقص على النبي صلّى الله عليه وسلّم قصة نوح مع قومه في بعض المواقف الخاصة التي تدور حول دعاء نوح لهم، وكيف وقفوا منه، ليتأسى النبي صلّى الله عليه وسلّم بما حصل لنوح، ولا يأسى من قومه، وليعتبر أهل مكة بما حصل لغيرهم.
المعنى:
إنا أرسلنا نوحا إلى قومه، أى: حملناه قولا إلهيا، ورسالة سماوية هي: أن أنذر «١» قومك، وحذرهم عاقبة كفرهم، ونهاية شركهم من قبل فوات الفرصة ومن قبل أن يأتيهم عذاب أليم شديد الألم للغاية... وماذا قال نوح! قال يا قومي: إنى لكم رسول أمين ونذير مبين، جئت بأمر هو أن اعبدوا الله وحده، ولا تشركوا به شيئا، واتقوا عذابه وأطيعون، فإنه من أطاع الرسول فقد أطاع الله، إن تعبدوا الله حقا يغفر لكم ذنوبكم، أى: يغفر لكم أفعالكم التي هي ذنوبكم «٢» ويؤخركم إلى أجل مسمى معلوم عنده إن آمنتم، أى: جعل لهم أجلا إن ظلوا كافرين، وأجلا إن آمنوا إن أجل الله إذا جاء وقته وحينه لا يؤخر مطلقا، ليتكم تعلمون ذلك فتعملوا له ولكنهم مع هذا الدعاء
(١) - هذا إشارة إلى الموقف أن «أن» تفسيرية، ويصح أن تكون مصدرية مجرورة بحرف، أى: بأن أنذر، وهكذا (أن) في أن اعبدوا الله تفسيرية كالإنذار.
(٢) - هذا إشارة إلى أن (من) بيانية، وقيل: ابتدائية أو تبعيضية.
753
اللين والعرض الجميل أصروا على كفرهم فماذا كان موقف نوح؟ إنه ناجى ربه وقال آسفا: رب إنى دعوت قومي- كما تعلم- إلى الإيمان والطاعة ليلا ونهارا وسرّا وإعلانا، فلم أر منهم إلا عنادا واستكبارا عن الحق وعن الصراط المستقيم، وإنى كلما دعوتهم إلى الإيمان لتغفر لهم أصموا آذانهم عن سماع تلك الدعوة، وحجبوا عيونهم عنها، وأصروا واستكبروا استكبارا.
وانظر إلى القرآن الكريم وهو يصور حالهم العجيبة حيث يعبر عن عدم سماعهم بأنهم جعلوا أصابعهم في آذانهم، والجعل يقتضى دوام الوضع، والأصابع يفهم منها المبالغة في السد فإن الذي يوضع طرف الإصبع لا الإصبع كله، وانظر إلى قوله (واستغشوا ثيابهم) فإن المعنى أنهم بالغوا في التغطى بها مبالغة كأنهم طلبوا من ثيابهم أن تغشى الجسم كله لا عيونهم فقط.
ثم إلى دعوتهم جهارا، ثم إنى أعلنت لهم الحال وبينته لهم على كل وضع بحيث جمعت بين الإعلان والإسرار.
تلك هي المرحلة الأولى في الدعوة، تلتها مرحلة ثانية هي مرحلة الشرح وبيان الحجة حيث قال نوح:
فقلت: استغفروا ربكم، وتوبوا إليه، إنه يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات، إنه كان غفارا على أنكم إن آمنتم بربكم يرسل السماء عليكم بالمطر الكثير الذي يخصب الأرض ويأتى بالخير، ويمددكم ربكم عند ذلك بأموال نافعة وأبناء وذرية صالحة، ويجعل لكم جنات وبساتين. ويجعل لكم فيها الأنهار والعيون، أى: إن آمنتم أمدكم بسعادة دنيوية تكفل لكم حياة رغدة وعيشة راضية.
ولكنهم مع ذلك لم يؤمنوا فناقشهم بقوله: أى شيء ثبت لكم حالة كونكم لا ترجون وقارا كائنا لله؟ والوقار العظمة، والرجاء الخوف أو الاعتقاد، فكأن المعنى أى سبب حصل لكم حال كونكم غير خائفين أو غير معتقدين لله تعالى عظمة توجب عليكم الإيمان بالله والطاعة لرسوله؟!! إن هذا لشيء عجيب، وشيء تنكره العقول السليمة.
ما لكم لا تخشون الله وقدرته على كل شيء؟ وما لكم لا ترهبون سطوته فتؤمنوا به وتصدقوا برسله؟ وهو القادر على كل شيء، وهو الذي خلقكم في أطوار مختلفة وفي
754
أحوال تكاد تكون متباينة، ألم يخلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ثم أخرجكم أطفالا ثم كنتم شيوخا، أليس صاحب هذا بقادر على كل شيء فما لكم لا تخافون عظمة الله؟ ولا تؤمنون بيوم القيامة! ثم لفت نظرهم إلى هذا الكون بعد أن نبههم إلى ما في أنفسهم من آيات فقال: ألم تروا السماء كيف خلقت؟ لقد خلقها الله سبع سموات طباقا، ما ترى فيها من نقص ولا تفاوت، وجعل القمر في إحداهن نورا، وجعل الشمس في أخرى سراجا وهاجا.
يا سبحان الله لقد جعل الحكيم العليم للقمر نورا، وللشمس سراجا، لأن الدنيا ستصبح بنور الشمس على أنه نور قوى شديد، ونور القمر بسيط يضيء في الليل نوعا ما، وهو نور منعكس ليس من ذات القمر وهُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً «١» وقد توصل العلم إلى بعض الحقائق الثابتة في كتاب الله.. ثم لفت نظرهم إلى أنفسهم فقال: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً نعم هو خلقنا من تراب، فعناصرنا المادية تراب مخلوط بماء، ثم كانت النطفة، والنطفة خلاصة الدم، والدم من الغذاء والغذاء من الأرض، فالله سبحانه أنبت الإنسان من الأرض نباتا كالشجر، ولكنه ميزه عنه بالحياة الحيوانية، ثم كمله بالعقل والتفكير، وشرفه بالرسالات الإلهية، فما لكم لا تؤمنون، لأى سبب تكفرون.
ثم بعد هذا يعيدكم إلى الأرض أمواتا، ثم يخرجكم منها إخراجا للبعث والجزاء... ثم لفت نظرهم إلى الأرض التي أقلتهم فقال: لقد جعلت لكم الأرض بساطا، فهي ممهدة للعيش، ميسرة سهلة للانتقال، لتسلكوا منها طرقا واسعة توصلكم إلى أغراضكم.
هذا هو الدور الثالث في القصة.
وقد أخذ نوح بعد هذا يشكو إلى ربه عصيان قومه مبينا سبب هذا العصيان ونهايته، وفي هذا كشف لحقيقة كان يجهلها عامة المشركين.
قال نوح: رب إنهم عصوني وخالفوا أمرى واتبعوا رؤساءهم الذين حملوهم على الكفر، وأشاروا عليهم به لأنهم أصحاب مال وأولاد. فاغتروا بهم، واستكبروا واشتروا الضلالة بالهدى، وآثروا هذا الجاه الكاذب على النعيم الدائم، هؤلاء الرؤساء مكروا بعامتهم وبنوح مكرا كثيرا. فأما مكرهم بالشعب فلأنهم ضللوهم عن اتباع الحق، وحالوا بينهم وبين الإيمان بنوح- عليه السلام- وأما مكرهم بنوح فلأنهم
(١) - سورة يونس آية ٥.
755
كانوا يتظاهرون أمامه بأن الأمر متروك للناس! وما كانوا يظهرون له أعمالهم الحقيقية، مكروا مكرا كبيرا، ولكن الله مكر بهم، وهو خير الماكرين.
ومن طرق المكر التي كان يسلكها أشرافهم ورؤساؤهم أنهم أشاروا عليهم بل ونهوهم عن التفريط في آلهتهم، وكانوا يظهرون لهم في ثوب الناصح الشفوق. لا تدعن آلهتكم التي عبدتموها وعبدها آباؤكم من قبل، ولا تدعن خاصة ودّا، ولا سواعا، ولا يغوث، ولا يعوق. ونسرا، إذ تلك زعماء الآلهة، وكأن الآلهة كالبشر فيها السوقة والخاصة، وفيها الأشراف والعامة، وقد انتقلت هذه الأصنام للعرب «١».
يا رب: هؤلاء الأشراف والرؤساء هم سبب البلاء والشقاء فقد أضلوا كثيرا، وما زالوا يضلون، يا رب: لا تزد الظالمين إلا ضلالا فهذه إرادتك، وهذا عملهم فلا أمل فيهم يرجى، فيا رب نفذ فيهم إرادتك بهلاكهم.
من خطاياهم أغرقوا فأدخلوا نارا، بسبب خطاياهم التي أعظمها الكفر وإيذاء نوح وقد جاء خبره مفصلا في سورة هود، أغرقوا بالطوفان وماتوا فأدخلوا نارا ليأخذوا عذاب الآخرة بعد عذاب الدنيا ومع هذا كله لم يجدوا لهم من دون الله أنصارا ينصرونهم ويردون عنهم هذا العذاب، فأين آلهتهم وأصنامهم وأوثانهم؟ وأين (ود.
وسواع. ويغوث. ويعوق، ونسر؟) أين هؤلاء.
وقال نوح من كثرة ما لاقى منهم: رب لا تذر على الأرض من الكافرين- المعاصرين له- شخصا واحدا منهم يسكن دارا أو يدور ويتحرك، وهذه العبارة تفيد الدعاء عليهم بمحوهم بالكلية، وقد أجاب الله دعاءه إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ ثم أخذ نوح يذكر سبب هذا الدعاء- والأمر كله لله- إنك إن تتركهم بدون هذا العذاب العاجل يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا ذرية تكون فجرة كفرة بسبب إنحاء الكفر لهم وتقليدهم فيه.
أما المؤمنون الذين آمنوا بالله وبرسوله فيقول نوح في شأنهم: رب اغفر لي واستر ذنبي- إن كان- واغفر لي ولوالدي، ولمن دخل بيتي- ولعله أراد شريعته أو سفينته- واغفر للمؤمنين والمؤمنات من كل أمة وفي كل زمن.
ولا تزد الظالمين لأنفسهم بالكفر ولغيرهم بالإضلال إلا تبارا وهلاكا.
(١) - كان (ود) لبنى كلب بدومة الجندل، وكان على صورة رجل، و (سواع) لهمدان أو هذيل، وكان على صورة امرأة، و (يغوث) لمذحج، و (يعوق) لمراد أو لهمدان وكان على صورة فرس، و (نسر) لحمير وكان على صورة نسر. [.....]
756
Icon