ﰡ
اقسم الله تعالى تعظمة يوم القيامة، وبالنفس الكثيرة اللوم لصاحبها على الذنب والتقصير في الخير - لَتُبعثُنَّ أيها الناسُ ولتحاسَبنّ على ما فعلتم. أيحسب الانسان بعد ان خلقناه من عدم ان لن نجمع ما بلي من عظامه بعد ان تفرقت في الأرض! بلى نحن قادرون على ذلك وعلى أعظمَ منه، فنحن قادرون على ان نسوي بنانه على صغرها ولطافتها، وضم بعضها الى بعض، فكيف بكبار العظام! ان من يقدر على جمع العظام الصغار فهو على غيرها من الكبار أقدَر.
واعلم ان عظام اليدين ثلاثون، وعظام اصابع الرجلين ثمانية وعشرون، فيكون مجموعهما ثمانية وخمسين، وهذه عظام دقيقة وضعت لمنافع لولاها ما تمت تلك المنافع كالقبض والبسط واستعمال اليدين في الجذب والدفع وغير ذلك مما لا يحصى. فلولا دقة هذه العظام وحسن تركيبها ما انتظمت الاعمال المترتبة على اليدين. وكذلك الفقرات، تعدّدت ولم تجعل عظمة واحدة، لانها لو جُعلت واحدة لعاقت حركة الانسان. وقد جُعلت فقراتٍ متتالية ليمكنه الحركة والسكون، ويكون ذلك سهلا عليه اينما كان، فلولا الفقرات وتفصيلها لم يقدر الانسان على الانحناء للاعمال والحركات المختلفة، بل يكون منتصبا كالخشبة. ومجموع العظام في جسم الانسان مئتان وثمانية واربعون قطعة، ﴿فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين﴾ [المؤمنون: ١٤].
﴿بَلْ يُرِيدُ الإنسان لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ القيامة﴾.
بل يريد الانسان ان يتمادى في عصيانه وفجوره الى آخر لحظة من عمره ولا يتوب الى الله. ويسأل مستهزئا: متى يومُ القيامة؟ ونحو الآية قولُه تعالى وقد تكرر كثيرا: ﴿وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ [يونس: ٤٨، الأنبياء: ٣٨، النمل: ٧١، سبأ: ٢٩، يس: ٤٨، الملك: ٢٥].
وقد أجاب الله تعالى على هذا السؤال بان لها علامات بيّن ثلاثاً منها بقوله الكريم:
﴿فَإِذَا بَرِقَ البصر وَخَسَفَ القمر وَجُمِعَ الشمس والقمر يَقُولُ الإنسان يَوْمَئِذٍ أَيْنَ المفر؟﴾.
فاذا تحير البصر وزاغ من شدة الهول ومن عظيم ما يشاهد، وذهب نور القمر، وجُمع الشمس والقمر إيذانا بخراب هذا الكون - عند ذلك تقوم القيامة، ويتحقق الانسان من صحة قيامها ويقول من دهشته وتحيره: اين المفر من هذه الكارثة التي حلت فيه؟ فيأتي الجواب:
﴿كَلاَّ لاَ وَزَرَ﴾.
ثم بين حقيقة الحال فيقول:
﴿إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المستقر﴾.
المرجع الى الله في ذلك اليوم الرهيب.
﴿يُنَبَّأُ الإنسان يَوْمَئِذِ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ﴾.
وفي ذلك اليوم تنشَر الصحف ويخبر الانسان بجميع اعماله: أولها وآخرها، صغيرها وكبيرها، ﴿وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً﴾ [الكهف: ٤٩].
ثم بين الله تعالى ان اعظم شاهد على المرء هو نفسه فقال:
﴿بَلِ الإنسان على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ ألقى مَعَاذِيرَهُ﴾.
الانسان يعلم ما فعل وما ترك وهو حجة بيِّنة على نفسه، فلا يحتاج الى ان ينبئه غيره، فسمعه وبصره وجوارحه تشهد عليه، وسيحاسَب على فعله مهما أتى بالاعذار ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ [النور: ٢٤].
﴿لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فاتبع قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾.
في هذه الآيات الأربع توجيه وطمأنينة للرسول الكريم بان امر الوحي، وحفظ القرآن وجمعه وبيان مقاصده - كل أولئك موكول الى الله، فالخطاب للرسول ﷺ: اذا تلا عليك جبريل القرآن فلا تعجل وتتابعه في القراءة مخافة ان يفوتك شيء منه، فنحن نجعله بكامله في قلبك، ان علينا جمعه في قلبك.. واثبات قراءته في لسانك، فاذا قرأه رسولنا عليك فاتبع يا محمد قراءته منصتاً لها، ثم علينا بعد ذلك بيانه، وعصمتك من الخطأ والنسيان وبيان احكامه. وفي سورة طه ١١٤: ﴿وَلاَ تَعْجَلْ بالقرآن مِن قَبْلِ إَن يقضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً﴾. وفي هذا تعليم لنا حتى نتأدب بأدب القرآن ونتدبر آياته.
قراءات:
قرأ الجمهور: برق البصر بكسر الراء، وقرأ نافع: برق بفتح الباء والراء.
﴿كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ العاجلة. وَتَذَرُونَ الآخرة﴾.
الخطاب هنا يعود لكل من انكر البعث والجزاء وآثر الدنيا ومتاعها، ولم يعمل للآخرة ليس الأمرُ كما تقولون من أنكم لا تُبعثون بعد مماتكم، بل أنتم تحبون الدنيا وملذّاتها، وتتركون الآخرةَ ونعيمها.
ثم وصف ما يكون يوم القيامة بأن الناس ينقسِمون الى فريقين: أبرار وجوهُهم مشرقة حسنة مضيئة تشاهد عليها نَضْرة النعيم، تنظُر الى ربها عِياناً بلا حجاب. ووجوه يومئذ كالحة شديدة العبوس، تتوقع ان تنزل بها داهية تقصم الظهر.
وبعد ذِكر اهوال القيامة، ووصفِ سعادة السعداء وشقاوة الاشقياء - بين ان للدنيا نهاية، وأن الموتَ مصيرُ كل الناس. وان الكافر أضاع الفرصةَ في الدنيا، فلا هو صدَّق بأوامر الدين ولا أدى فرائضه، وبين انه لا بدّ من الجزاء على صالح الأعمال وسيئها، وإلا تساوى المطيع والعاصي، وهذا خلافُ العدل، ولا يَليقُ بخالِق الكون العادل الحكيم. وانه كما قَدر على الخلق الأول وأوجدَ الانسانَ من منيّ يُمنَى، فأهون عليه أن يُعيده خَلقاً كما قَدر على الخلق الأول وأوجدَ الانسانَ من منيّ يُمنَى، فأهون عليه أن يُعيده خَلقاً آخر.
﴿كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التراقي وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ وَظَنَّ أَنَّهُ الفراق﴾
ازدجِروا وتنبهوا الى مصيركم وارتدعوا عن حب الدنيا التي تفارقونها، اذا بلغت الروح عظام النحر، وقال أهل الميت والحاضرون: هل هناك أحد يرقيه ويشفيه مما به؟ وأيقن المحتضر أنه مفارق الدنيا والأهل والمال والأصحاب وبلغت به الشدة اقصاها ﴿والتفت الساق بالساق﴾ فالتوت احداهما على الأخرى وخرجت الروح. ﴿إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المساق﴾ الى خالقك المرجع والمآب، فإما الى جنة واما الى النار ﴿فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى ولكن كَذَّبَ وتولى ثُمَّ ذَهَبَ إلى أَهْلِهِ يتمطى﴾.
فما صدق هذا الجاحد بوحدانية الله، ولا أدى ما عليه من الصلوات، ولكن كذّب القرآن، فاعرض عن الايمان، وتولةى عن طاعة الله، ثم راح يمشي مشية تكبر وخيلاء افتخارا بما صنع.
﴿أولى لَكَ فأولى ثُمَّ أولى لَكَ فأولى﴾
ويل لك مرة بعد أخرى، وهذا تهديد ووعيد معناه أولاك الله ما تكرهه، والنار أولى بك وأجدر.
ثم بين انه خلق الانسان من شيء صغير لا يُرى، وجعله بهذه المنزلة وهذا التركيب وإعادته اهون عليه فقال:
﴿أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يمنى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فسوى فَجَعَلَ مِنْهُ الزوجين الذكر والأنثى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ على أَن يُحْيِيَ الموتى﴾.
الم يكن الانسان نطفة في صلب ابيه، وأودعها الرحم، وخُلق من شيء لا يرى بالعين المجردة، فصار علقة، ثم سواه الله بشرا باحسن تقويم، وجعل منه ذكرا او انثى عمروا هذا الكون فاذا كان الله قادرا على خلقه من لا شيء، ألا يمكنه ان يعيده مرة اخرى؟ بلى انه على كل شيء قدير. وليس خلق الانسان بشيء إذا قيس بخلق هذا الكون العجيب الفسيح الكبير كما قال الله تعالى: ﴿لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [غافر: ٥٧].
قراءات:
قرأ ابن كثير وابو عمرو وابن عامر: كلا بل يحبون العاجلة ويذَرون الآخرة، بالياء، والباقون: بالتاء. وقرأ حفص وابن عامر ورويس: من مني يمنى بالياء كما هو في المصحف. والباقون: من مني تمنى بالتاء. والحمد لله رب العالمين.