تفسير سورة سورة الإنشقاق من كتاب تفسير القرآن الكريم
.
لمؤلفه
ابن عثيمين
.
المتوفي سنة 1421 هـ
ﰡ
﴿ إذا السماء انشقت ﴾ انشقت : انفتحت وانفرجت كقوله تعالى :﴿ وإذا السماء فُرجت ﴾ [ المرسلات : ٩ ]. وكقوله تعالى :﴿ فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان. فبأي ألاء ربكما تكذبان. فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان ﴾ [ الرحمن : ٣٩ ]. إذاً فانشقاقها يوم القيامة.
﴿ وأذنت لربها ﴾ أذنت : بمعنى استمعت وأطاعت أمر ربها عز وجل أن تنشق فانشقت بينما هي كانت كما وصفها الله تعالى ﴿ سبعاً شداداً ﴾ [ النبأ : ١٢ ]. قوية كما قال تعالى :﴿ والسماء بنيناها بأيد ﴾ [ الذاريات : ٤٧ ]. أي بقوة فهذه السماء القوية العظيمة تنشق يوم القيامة تتشقق تتفرج بإذن الله سبحانه وتعالى ﴿ وحقت ﴾ أي حق لها أن تأذن، أي تسمع وتطيع ؛ لأن الذي أمرها الله ربها خالقها عز وجل، فتسمع وتطيع، كما أنها سمعت وأطاعت في ابتداء خلقها، ففي ابتداء خلقها قال الله تبارك وتعالى :﴿ ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين ﴾ [ فصلت : ١١ ]. فتأمل أيها الادمي البشر الضعيف كيف كانت هذه المخلوقات العظيمة تسمع وتطيع لله عز وجل، هذه الطاعة العظيمة في ابتداء الخلق وفي انتهاء الخلق. في ابتداء الخلق قال :﴿ ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين ﴾ في انتهاء الخلق ﴿ إذا السماء انشقت. وأذنت لربها وحقت ﴾ حُق لها أن تأذن تسمع وتطيع. ثم أعاد قال :﴿ وأذنت لربها وحقت ﴾ تأكيداً لاستماعها لربها وطاعتها لربها.
﴿ وإذا الأرض مدت ﴾ هذه الأرض التي نحن عليها الان هي غير ممدودة، أولاً : أنها كرة مدورة، وإن كانت جوانبها الشمالية والجنوبية منفتحة قليلاً أي ممتدة قليلاً فهي مدورة الان، ثانياً : ثم هي أيضاً معرجة فيها المرتفع جداً، وفيها المنخفض، فيها الأودية، فيها السهول، فيها الرمال، فهي غير مستوية لكن يوم القيامة ﴿ وإذا الأرض مدت ﴾ أي تمد مدًّا واحداً كمد الأديم يعني كمد الجلد، كأنما تفرش جلداً أو سماطاً، تُمد حتى إن الذين عليها وهم الخلائق يُسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، لكن الان لا ينفذهم البصر، لو امتد الناس على الأرض لوجدت البعيدين منخفضين لا تراهم لكن يوم القيامة إذا مُدت صار أقصاهم مثل أدناهم كما جاء في الحديث :«يجمع الله تعالى يوم القيامة الأولين والاخرين في صعيد واحد، فيسمعهم الداعي، وينفُذُهُم البصر ».
﴿ وألقت ما فيها وتخلت ﴾ أي جثث بني آدم تلقيها يوم القيامة، تلقي هذه الجثث فيخرجون من قبورهم لله عز وجل، كما بدأهم أول خلق، أي كما خرجوا من بطون أمهاتهم يخرجون من بطون الأرض، وأنت خرجت من بطن أمك حافياً، عارياً، أغرل إلا أن بعض الناس قد يخلق مختوناً لكن عامة الناس يخرجون من بطون أمهاتهم غرلاً كذلك تخرج من بطن الأرض يوم القيامة حافياً ليس عليك نعال، عارياً ليس عليك كساء، أغرل لست مختوناً، ولما حدّث النبي عليه الصلاة والسلام بذلك قالت عائشة : يا رسول الله : الرجال والنساء جميعاً، ينظر بعضهم إلى بعض ؟ قال :«يا عائشة الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض »، الأمر شديد، كل إنسان لاهٍ عن نفسه ﴿ لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه ﴾ [ عبس : ٣٧ ]. والإنسان إذا تصور الناس في ذلك الوقت مجرد تصور فإنه يرتعب ويخاف، وإذا كان عاقلاً مؤمناً عمل لهذا اليوم،
﴿ وأذنت لربها وحقت ﴾ أذنت يعني استمعت وأطاعت لربها وحقت فبعد أن كانت مدورة فيها المرتفع والنازل صارت كأنها جلد ممتدة امتداداً واحداً.
ثم قال عز وجل :﴿ يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً ﴾ الكادح : هو الساعي بجد ونوع مشقة وقوله :﴿ إلى ربك ﴾ يعني أنك تكدح كدحاً يوصلك إلى ربك، كدحاً يوصل إلى الله، يعني أن منتهى كدحك مهما كنت ينتهي إلى الله، لأننا سنموت وإذا متنا رجعنا إلى الله عز وجل، فمهما عملت فإن المنتهى هو الله عز وجل ﴿ وأن إلى ربك المنتهى ﴾ [ النجم : ٤٢ ]. ولهذا قال :﴿ كادح إلى ربك كدحاً ﴾ حتى العاصي كادح كادحًا غايته الله عز وجل ﴿ إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم ﴾ [ الغاشية : ٢٥، ٢٦ ]. لكن الفرق بين المطيع والعاصي : أن المطيع يعمل عملاً يرضاه الله، يصل به إلى مرضاة الله يوم القيامة، والعاصي يعمل عملاً يغضب الله، لكن مع ذلك ينتهي إلى الله عز وجل إذاً قوله :﴿ يا أيها الإنسان ﴾ يعم كل إنسان مؤمن وكافر ﴿ إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه ﴾ الفاء يقول النحويون : إنها تدل على الترتيب والتعقيب، يعني، فأنت ملاقيه عن قرب ﴿ إن ما توعدون لات ﴾ [ الأنعام : ١٣٤ ]. وكل آت قريب ﴿ وما يدريك لعل الساعة قريب ﴾ [ الشورى : ١٧ ]. وإذا شئت أن يتبين لك أن ملاقاة الرب عز وجل قريبة فانظر ما مضى من عمرك الان، لو مضى لك مئة سنة كأنما هذه السنوات ساعة واحدة. كل الذي مضى من أعمارنا كأنه ساعة واحدة. إذاً هو قريب، ثم إذا مات الإنسان، فالبرزخ الذي بين الحياة الدنيا والاخرة قريب قريب كاللحظة، والإنسان إذا نام نوماً هادئاً ولنقل نام أربعاً وعشرين ساعة، وقام فإنه يقدر النوم بدقيقة واحدة مع أنه نام أربعاً وعشرين ساعة، فإذا كان هذا في مفارقة الروح في الحياة يمضي الوقت بهذه السرعة، فما بالك إذا كانت الروح بعد خروجها من البدن مشغولة إما بنعيم أو جحيم، ستمر السنوات على الإنسان كأنها لا شيء، لأن امتداد الزمن في حال يقظتنا ليس كامتداد الزمن في حال نومنا، فالإنسان المستيقظ من طلوع الشمس إلى زوال الشمس مسافة يحس بأن الوقت طويل، لكن لو كان نائماً ما كأنها شيء، والذي أماته الله مئة عام ثم بعثه ﴿ قال كم لبثت قال لبثت يوماً أو بعض يوم ﴾. وأصحاب الكهف لبثوا في كهفهم ثلاث مئة سنين وتسع سنين، فلما بُعثوا قال بعضهم لبعض : كم لبثتم ؟ قالوا : لبثنا يوماً أو بعض يوم، وهذا يدل على أن الإنسان يتعجب كيف تذهب السنوات على هؤلاء الأموات ؟ نقول نعم، السنوات ما كأنها إلا دقيقة واحدة، لأن حال الإنسان بعد أن تفارق الروح بدنه سواء كانت مفارقة كلية أو جزئية غير حاله إذا كانت الروح في البدن، فإذا كانت الروح في البدن يعاني من المشقة والمشاكل والهواجيس والوساوس أشياء تطيل عليه الزمن، لكن في النوم يتقلص الزمن كثيراً، في الموت يتقلص أكثر وأكثر، فهؤلاء الذين ماتوا منذ سنين طويلة كأنهم لم يموتوا إلا اليوم لو بعثوا لقيل لهم كم لبثتم ؟ قالوا : لبثنا يوماً أو بعض يوم، وهذه مسألة قد يرد على الإنسان فيها إشكال، ولكن لا إشكال في الموضوع مهما طالت المدة بأهل القبور فإنها قصيرة، ولهذا قال :﴿ فملاقيه ﴾ أي ( بالفاء ) الدالة على الترتيب والتعقيب، وما أسرع أن تلاقي الله عز وجل. ثم قسم الله عز وجل الناس عند ملاقاته تعالى إلى قسمين : منهم من يأخذ كتابه بيمينه، ومنهم من يأخذ كتابه من وراء ظهره، ﴿ فأما من أوتي كتابه بيمينه. فسوف يحاسب حساباً يسيراً ﴾ لما ذكر أن الإنسان كادح إلى ربه ﴿ كادحاً ﴾ أي عامل بجد ونشاط وأن عمله هذا ينتهي إلى الله عز وجل كما قال الله تعالى :﴿ ولله غيب السموات والأرض وإليه يرجع الأمر كله ﴾ [ هود : ١٢٣ ]. لما ذكر هذا قال :﴿ فأما من أوتي كتابه بيمينه ﴾
﴿ فأما من أوتي كتابه بيمينه ﴾، إشارة إلى أن هؤلاء العاملين منهم من يؤتى كتابه بيمينه، ومنهم من يؤتى كتابه من وراء ظهره ﴿ فأما من أوتي كتابه بيمينه ﴾ و﴿ أوتي ﴾ هنا فعل مبني لما لم يسم فاعله، فمن الذي يؤتيه ؟ يحتمل أنه الملائكة، أو غير ذلك لا ندري، المهم أنه يعطى كتابه بيمينه أي يستلمه باليمنى.
﴿ فسوف يحاسب حساباً يسيراً ﴾ أي يحاسبه الله تعالى بإحصاء عمله عليه، لكنه حساب يسير، ليس فيه أي عسر كما جاءت بذلك السنة : أن الله عز وجل يخلو بعبده المؤمن، ويقرره بذنوبه، فيقول : عملت كذا، عملت كذا، عملت كذا، ويقر بذلك ولا ينكر فيقول الله تعالى :«قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم »، ولا شك أن هذا حساب يسير يظهر فيه منّة الله على العبد، وفرحه بذلك واستبشاره. والمحاسب له هو الله عز وجل كما قال تعالى :﴿ إن إلينا إيابهم. ثم إن علينا حسابهم ﴾ [ الغاشية : ٢٥، ٢٦ ].
﴿ وينقلب إلى أهله مسروراً ﴾ ينقلب من الحساب إلى أهله في الجنة مسروراً، أي مسرور القلب، وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، ثم هم بعد ذلك درجات، وهذا يدل على سرور القلب ؛ لأن القلب إذا سُر استنار الوجه
﴿ وأما من أوتي كتابه وراء ظهره. فسوف يدعو ثبورًا. ويصلى سعيًرا ﴾ هؤلاء هم الأشقياء والعياذ بالله، يؤتى كتابه وراء ظهره وليس عن يمينه، وفي الاية الأخرى في سورة الحاقة ﴿ وأما من أوتي كتابه بشماله ﴾ [ الحاقة : ٢٥ ]. فقيل : إن من لا يؤتى كتابه بيمينه ينقسم إلى قسمين : منهم من يؤتى كتابه بالشمال، ومنهم من يؤتى كتابه وراء ظهره، والأقرب والله أعلم أنه يؤتى كتابه بالشمال، ولكن تلوى يده حتى تكون من وراء ظهره، إشارة إلى أنه نبذ كتاب الله وراء ظهره، فيكون الأخذ بالشمال ثم تلوى يده إلى الخلف إشارة إلى أنه قد ولى ظهره كتاب الله عز وجل ولم يبال به، ولم يرفع به رأساً، ولم ير بمخالفته بأساً.
﴿ فسوف يدعو ثبوراً ﴾ أي يدعو على نفسه بالثبور، يقول : واثبوراه يا ويلاه، وما أشبه ذلك من كلمات الندم والحسرة، ولكن هذا لا ينفع في ذلك اليوم ؛ لأنه انتهى وقت العمل فوقت العمل، هو في الدنيا، أما في الاخرة فلا عمل وإنما هو الجزاء
﴿ ويصلى سعيًرا ﴾ أي يصلى النار التي تسعر به ويكون مخلداً فيها أبداً، لأنه كافر
﴿ إنه كان في أهله مسروراً ﴾ إنه كان في الدينا في أهله مسروراً، ولكن هذا السرور أعقبه الندم والحزن الدائم المستمر، واربط بين قوله تعالى فيمن أوتي كتابه بيمينه ﴿ وينقلب إلى أهله مسروراً ﴾، وهذا ﴿ كان في أهله مسروراً ﴾ تجد فرقاً بين السرورين، فسرور الأول سرور دائم نسأل الله أن يجعلنا منهم وسرور الثاني سرور زائل، ذهب ﴿ كان في أهله مسروراً ﴾ أما الان فلا سرور عنده
﴿ إنه ظن أن لن يحور ﴾ أي : ألا يرجع بعد الموت، ولهذا كانوا ينكرون البعث ويقولون لا بعث، ويقولون : من يحيي العظام وهي رميم ﴿ إنه ظن أن لن يحور ﴾
قال تعالى :﴿ بلى ﴾ أي سيحور ويرجع ﴿ إن ربه كان به بصيراً ﴾ يعني أنه سيرجع إلى الله عز وجل الذي هو بصير بأعماله، وسوف يحاسبه عليها على ما تقتضيه حكمته وعدله.
﴿ فلا أقسم بالشفق. والليل وما وسق. والقمر إذا اتسق. لتركبن طبقاً عن طبق ﴾. هذه الجملة مكونة من قسم، ومُقسم به، ومقسم عليه، ومُقسِم، فالقسم في قوله :﴿ لا أقسم بالشفق ﴾ قد يظن الظان أن معنى ﴿ لا أقسم ﴾ نفي، وليس كذلك بل هو إثبات و﴿ لا ﴾ هنا جيء بها للتنبيه، ولو حذفت في غير القرآن لاستقام الكلام ولها نظائر مثل ﴿ لا أقسم بهذا البلد ﴾. ﴿ لا أقسم بيوم القيامة ﴾. ﴿ فلا أقسم برب المشارق ﴾. ﴿ فلا أقسم بما تبصرون ﴾. وكلها يقول العلماء : إن ( لا ) فيها للتنبيه، وأن القسم مثبت، أما المقسِم فهو الله عز وجل فهو مُقْسِم ومُقْسَم به، فهو سبحانه مقسم، أما المقسَم به في هذه الاية فهو الشفق وما عطف عليه.
فإن قال قائل : لماذا يقسم الله على خبره وهو سبحانه الصادق بلا قسم ؟ وكذلك يقسم النبي صلى الله عليه وآله وسلم على خبره وهو صادق بلا قسم ؟
قلنا : إن القسم يؤكد الكلام، والقرآن الكريم نزل باللسان العربي وإذا كان من عادتهم أنهم يؤكدون الكلام بالقسم صار هذا الأسلوب جارياً على اللسان العربي الذي نزل به القرآن.
وقوله :﴿ بالشفق ﴾ الشفق هو الحمرة التي تكون بعد غروب الشمس. وإذا غابت هذه الحمرة خرج وقت المغرب ودخل وقت العشاء، هذا قول أكثر العلماء وبعضهم قال إذا غاب البياض وهو يغيب بعد الحمرة بنحو نصف ساعة، لكن الذي عليه الجمهور، ويقال : إن أبا حنيفة رحمه الله رجع إليه : هو أن الشفق هو الحمرة وإذا غاب هذا الشفق فإنه يدخل وقت العشاء ويخرج وقت المغرب
﴿ والليل وما وسق ﴾ هذا أيضاً مقسم به معطوف على الشفق، يعني وأقسم بالليل وما وسق وهذان قسمان ﴿ والليل وما وسق ﴾ الليل معروف ﴿ وما وسق ﴾ أي ما جمع، لأن الليل يجمع الوحوش والهوام وما أشبه ذلك، تجتمع وتخرج وتبرز من جحورها وبيوتها، وكذلك ربما يشير إلى اجتماع الناس بعضهم إلى بعض.
﴿ والقمر إذا اتسق ﴾ القمر معروف. ومعنى ﴿ إذا اتسق ﴾ يعني إذا جتمع نوره وتم وكمل، وذلك في ليالي الإبدار. فأقسم الله عز وجل ﴿ بالليل وما وسق ﴾ أي ما جمع. وبالقمر لأنه آية الليل،
ثم قال بعد ذلك :﴿ لتركبن طبقاً عن طبق ﴾ والخطاب هنا لجميع الناس، أي لتركبن حالاً عن حال، وهو يعني أن الأحوال تتغير فيشمل أحوال الزمان، وأحوال المكان، وأحوال الأبدان، وأحوال القلوب :
الأول : أحوال الزمان تتنقل ﴿ وتلك الأيام نداولها بين الناس ﴾ [ آل عمران : ١٤٠ ]. فيوم يكون فيه السرور والانشراح وانبساط النفس، ويوم آخر يكون بالعكس، حتى إن الإنسان ليشعر بهذا من غير أن يكون هناك سبب معلوم، وفي هذا يقول الشاعر :
ويوم علينا ويوم لنا ***ويوم نساء ويوم نسر
وهذا شيء يعرفه كل واحد بنفسه تصبح اليوم فرحاً مسروراً وفي اليوم الثاني بالعكس بدون سبب لكن هكذا لابد أن الإنسان يركب طبقاً عن طبق.
الثاني : الأمكنة ينزل الإنسان هذا اليوم منزلاً، وفي اليوم التالي منزلاً آخر، وثالثاً ورابعاً إلى أن تنتهي به المنازل في الاخرة، وما قبل الاخرة وهي القبور هي منازل مؤقتة. القبور ليست هي آخر المنازل بل هي مرحلة. وسمع أعرابي رجلاً يقرأ قول الله تعالى :﴿ ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر ﴾ فقال الأعرابي :«والله ما الزائر بمقيم » فالأعرابي بفطرته عرف أن وراء هذه القبور شيئاً يكون المصير إليه، لأنه كما هو معلوم الزائر يزور ويمشي، وبه نعرف أن ما نقرؤه في الجرائد «فلان توفي ثم نقلوه إلى مثواه الأخير » أن هذه الكلمة غلط كبير ومدلولها كفر بالله عز وجل كفر باليوم الاخر، لأنك إذا جعلت القبر هو المثوى الأخير فهذا يعني أنه ليس بعده شيء، والذي يرى أن القبر هو المثوى الأخير وليس بعده مثوى، كافر، فالمثوى الأخير إما جنة وإما نار.
الثالث : الأبدان يركب الإنسان فيها طبقاً عن طبق واستمع إلى قول الله تعالى :﴿ الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفاً وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير ﴾ [ الروم : ٥٤ ]. أول ما يخلق الإنسان طفلاً صغيراً يمكن أن تجمع يديه ورجليه بيد واحدة منك وتحمله بهذه اليد ضعيفًا، ثم لايزال يقوى رويداً رويداً حتى يكون شاباً جلداً قوياً، ثم إذا استكمل القوة عاد فرجع إلى الضعف، وقد شبه بعض العلماء حال البدن بحال القمر يبدو هلالاً ضعيفاً، ثم يكبر شيئاً فشيئاً حتى يمتلىء نوراً، ثم يعود ينقص شيئاً فشيئاً حتى يضمحل، نسأل الله أن يحسن لنا ولكم الخاتمة.
الرابع : حال القلوب وما أدراك ما أحوال القلوب ؟ ! أحوال القلوب هي النعمة وهي النقمة، القلوب كل قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء، فإن شاء أزاغه وإن شاء هداه، ولما حدّث النبي عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث قال :«اللهم مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك »، فالقلوب لها أحوال عجيبة، تارة يتعلق القلب بالدنيا، وتارة يتعلق بشيء من الدنيا، تارة يتعلق بالمال ويكون المال أكبر همه، تارة يتعلق بالنساء وتكون النساء أكبر همه، تارة يتعلق بالقصور والمنازل ويكون ذلك أكبر همه، تارة يتعلق بالمركوبات والسيارات ويكون ذلك أكبر همه، تارة يكون مع الله عز وجل دائماً مع الله يتعلق بالله سبحانه وتعالى، ويرى أن الدنيا كلها وسيلة إلى عبادة الله، وإلى طاعة الله، فيستخدم الدنيا ؛ لأنها خلقت له ولا تستخدمه الدنيا. وأصحاب الدنيا هم الذين يخدمونها، هم الذين أتعبوا أنفسهم في تحصيلها. لكن أصحاب الاخرة هم الذين استخدموا الدنيا وخدمتهم الدنيا، ولذلك لا يأخذونها إلا عن طريق رضى الله، ولا يصرفونها إلا في رضى الله عز وجل، فاستخدموها أخذاً وصرفاً، لكن أصحاب الدنيا الذين تعبوا بها سهروا الليالي يراجعون الدفاتر، يراجعون الشيكات، يراجعون المصروفات، يراجعون المدفوعات، يراجعون ما أخذوا وما صرفوا، هؤلاء في الحقيقة استخدمتهم الدنيا ولم يستخدموها، لكن الرجل المطمئن الذي جعل الله رزقه كفافاً يستغني به عن الناس، ولا يشقى به عن طاعة الله، هذا هو الذي خدمته الدنيا، هذه أحوال القلوب، وأحوال القلوب هي أعظم الأحوال الأربع، ولهذا يجب علينا جميعاً أن نراجع قلوبنا كل ساعة كل لحظة أين صرفت أيها القلب ؟ أين ذهبت ؟ لماذا تنصرف عن الله ؟ لماذا تلتفت يميناً وشمالاً ؟ ولكن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وغلب على كثير من الناس، حتى إنه ليصرف الإنسان عن صلاته التي هي رأس ماله بعد الشهادتين فتجده إذا دخل في صلاته ذهب قلبه يميناً وشمالاً، حتى يخرج من صلاته ولم يعقل منها شيئاً، والناس يصيحون يقولون صلاتنا لا تنهانا عن الفحشاء والمنكر أين وعد الله ؟ فيقال : يا أخي هل صلاتك صلاة إذا كنت من حين تكبر تفتح لك باب الهواجيس التي لا نهاية لها، فهل أنت مصل ؟ صليت بجسمك لكن لم تصل بقلبك، وقد جاء في الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام :«إنه ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها نصفها، ربعها، ثلثها، عشرها، خمسها » حسب ما تعقل منها، إذاً فالقلوب تركب طبقاً عن طبق
ثم قال تعالى :﴿ فما لهم لا يؤمنون. وإذا قرىء عليهم القرآن لا يسجدون ﴾ ﴿ ما لهم ﴾ أي شيء يمنعهم من الإيمان، وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الاخر وأنفقوا مما رزقهم الله، أي شيء يمنعهم من الإيمان، وأي شيء يضرهم إذا آمنوا، قال مؤمن آل فرعون :﴿ أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم فإن يك كاذباً فعليه كذبه وإن يك صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم ﴾ [ غافر : ٢٨ ]. فأي شيء على الإنسان إذا آمن ؟ ولهذا قال موبخاً لهم :﴿ فما لهم لا يؤمنون ﴾.
وإذا قرىء عليهم القرآن لا يسجدون } أي لا يخضعون لله عز وجل فالسجود هنا بمعنى الخضوع لله، وإن لم تسجد على الأرض لكن يسجد القلب ويلين ويذل إن كان الأمر كذلك فأنت من المؤمنين ﴿ إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً ﴾ [ الأنفال : ٢ ]. وإن لم يكن قلبك كذلك ففيك شبهٌ من المشركين الذين إذا قرىء عليهم القرآن لا يسجدون، ومن علامات الخضوع لله عز وجل عند قراءة القرآن أن الإنسان إذا قرأ آية سجدة سجد لله ذلاً له وخضوعاً، وقد استدل بعض العلماء بهذه الاية على وجوب سجود التلاوة. وقال : إن الإنسان إذا مر بآية سجدة ولم يسجد كان آثماً. والصحيح : أنها ليست بواجبة وإن كان هذا القول أعني القول بالوجوب هو مذهب أبي حنيفة واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، لكن هذا قول مرجوح، وذلك أنه ثبت في الصحيح عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه خطب الناس يوماً فقرأ سورة النحل فلما وصل آية السجدة نزل من المنبر فسجد، ثم قرأها من الجمعة الثانية فمر بها ولم يسجد فقال رضي الله عنه : إن الله لم يفرض علينا السجود إلا أن نشاء، وكان ذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم ولم يُنكر عليه أحد. وسنته رضي الله عنه من السنن التي أُمرنا باتباعها، وعلى هذا فالقول الراجح أن سجود التلاوة ليس بواجب، لكنه سنة مؤكدة، فإذا مررت بآية سجدة فاسجد في أي وقت كنت في الصباح، أو في المساء، في الليل، أو في النهار، تكبر عند السجود، وإذا رفعت فلا تكبر ولا تسلم هذا إذا سجدت خارج الصلاة، أما إن سجدت في الصلاة فلابد أن تكبر إذا سجدت، وأن تكبر إذا نهضت ؛ لأنها لما كانت في الصلاة كان لها حكم السجود في الصلاة. قال الله تعالى :﴿ بل الذين كفروا يكذبون. والله أعلم بما يوعون ﴾ لما ذكر سبحانه وتعالى أنهم إذا قرىء عليهم القرآن لا يسجدون بيّن سبحانه وتعالى أن سبب تركهم السجود هو تكذيبهم بما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام، لأن كل من كان إيمانه صادقاً فلا بد أن يمتثل الأمر، وأن يجتنب النهي، لأن الإيمان الصادق يحمل صاحبه على ذلك، ولا تجد شخصاً ينتهك المحارم أو يترك الواجبات إلا بسبب ضعف إيمانه، ولهذا كان الإيمان عند أهل السنة والجماعة هو التصديق المستلزم للقبول والإذعان، فمتى رأيت الرجل يترك الواجبات، أو بعضاً منها، أو يفعل المحرمات فاعلم أن إيمانه ضعيف إذ لو كان إيمانه قوياً ما أضاع الواجبات ولا انتهك المحظورات، ولهذا قال تعالى هنا :﴿ بل الذين كفروا يكذبون ﴾
﴿ بل الذين كفروا يكذبون ﴾ أي في تركهم السجود كان ذلك بسبب تكذيبهم لما جاءت به الرسل
﴿ والله أعلم بما يوعون ﴾ أي أنه سبحانه وتعالى أعلم بما يوعونه أي بما يجمعونه في صدورهم، وما يجمعونه من أموالهم، وما يجتمعون عليه من منابذة الرسل ومخالفة الرسل، بل محاربة الرسل وقتالهم، والكفار أعداء للرسل من حين بعث الله الرسل عليهم الصلاة والسلام، وأنهم يجمعون لهم ويكيدون لهم فتوعدهم الله تعالى في هذه الاية ﴿ والله أعلم بما يوعون ﴾ أي بما يجمعون من أقوال، وأفعال، وضغائن، وعداوات، وأموال ضد الرسل عليهم الصلاة والسلام،
ثم قال :﴿ فبشرهم بعذاب أليم ﴾ أخبرهم بالعذاب الأليم الذي لابد أن يكون، والخطاب في قوله :﴿ فبشرهم ﴾ عام للرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولكل من يصح خطابه فإنه داخل في هذا، وأن نبشر كل كافر بعذاب أليم، فنحن نبشر كل كافر بعذاب أليم ينتظره، كما قال تعالى :﴿ وانتظر إنهم منتظرون ﴾ [ السجدة : ٣٠ ].
ثم قال :﴿ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون ﴾ ﴿ إلا ﴾ هذه بمعنى لكن ولا تصح أن تكون استثناء متصلاً، لأن الذين آمنوا ليسوا من المكذبين في شيء، بل هم مؤمنون مصدقون، وهذا هو الاستثناء المنقطع، أي إذا كان المستثنى ليس من جنس المستنثى منه فهو استثناء منقطع وتقدر ﴿ إلا ﴾ ب( لكن ) أي لكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجرٌ غير ممنون. الذين آمنوا بقلوبهم، واستلزم إيمانهم قيامهم بالعمل الصالح، هؤلاء هم الذين ليس لهم عذاب ولا ينتظرون العذاب لهم أجر غير ممنون.
فإن قيل : ما هو العمل الصالح ؟
فالجواب : أن العمل الصالح ما جمع شيئين :
الأول : الإخلاص لله تعالى بأن يكون الحامل على العمل هو الإخلاص لله عز وجل ابتغاء مرضاته، وابتغاء ثوابه، وابتغاء النجاة من النار لا يريد الإنسان بعمله شيئاً من الدنيا.
الثاني : أن يكون متبعاً فيه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أي أن يتبع الإنسان رسول الله صلى الله عليه وسلّم في عمله فعلاً لما فعل، وتركاً لما ترك. فما فعله النبي صلى الله عليه وسلّم مع وجود سببه فالسنة فعله إذا وجد سببه. وما وجد سببه في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولم يفعله فإن السنة تركه.
﴿ لهم أجر ﴾ أي ثواب ﴿ غير ممنون ﴾ أي غير مقطوع، بل هو مستمر أبد الابدين، والايات في تأبيد الجنة كثيرة معلومة في الكتاب والسنة، فأجر الاخرة لا ينقطع أبداً، ليس كالدنيا فيه وقت تثمر الأشجار ووقت لا تثمر، أو وقت تنبت الأرض ووقت لا تنبت، والجنة الأجر فيها دائم، ﴿ ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً ﴾ نسأل الله تعالى أن يجعلنا من المؤمنين العاملين بالصالحات، المجتنبين للسيئات، إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.