فصل في نزولها
اختلفوا في نزولها على قولين :
أحدهما : أنها مكية، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وسعيد بن جبير، وعطاء، وقتادة. وروى أبو صالح عن ابن عباس أنها مكية، إلا آيتين منها، قوله :﴿ وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ. . . ﴾ إلى آخر الآية [ الرعد : ٣١ ]، وقوله :﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً ﴾ [ الرعد : ٤٣ ].
والثاني : أنها مدنية، رواه عطاء الخراساني عن ابن عباس، وبه قال جابر بن زيد. وروي عن ابن عباس أنها مدنية، إلا آيتين نزلتا بمكة، وهما قوله :﴿ وَلَوْ أَنَّ قُرْانًا سُيّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ. . . ﴾ إلى آخرها[ الرعد : ١٣ ]. وقال بعضهم : المدني منها قوله :﴿ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ ﴾ إلى قوله :﴿ لَهُ دَعْوَةُ الْحَقّ ﴾ [ الرعد : ١٤ ].
ﰡ
(فصل في نزولها:) اختلفوا في نزولها على قولين:
أحدهما: أنها مكّيّة، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وسعيد بن جبير، وعطاء، وقتادة. وروى أبو صالح عن ابن عباس أنها مكّيّة، إلّا آيتين منها، قوله تعالى: وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ «١» إلى آخر الآية، وقوله: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا «٢».
والثاني: أنها مدنيّة، رواه عطاء الخراسانيّ عن ابن عباس، وبه قال جابر بن زيد. وروي عن ابن عباس أنها مدنيّة، إلّا آيتين نزلتا بمكّة، وهما قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ «٣» إلى آخرها. وقال بعضهم: المدنيّ منها قوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ إلى قوله تعالى: لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ «٤».
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ١ الى ٢]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢)قوله تعالى: المر قد ذكرنا في سورة (البقرة) جملةً من الكلام في معاني هذه الحروف. وقد روي عن ابن عباس في تفسير هذه الكلمة ثلاثة أقوال «٥» : أحدها: أن معناها: أنا الله أعلم وأرى، رواه
(٢) سورة الرعد: ٤٣.
(٣) سورة الرعد: ٣١.
(٤) سورة الرعد: ١٤.
(٥) قال الإمام الطبري ٧/ ٣٢٦: ما جاء في هذه السورة عن ابن عباس من نقل أبي الضحى مسلم بن صبيح وسعيد بن جبير عنه، التفريق بين معنى ما ابتدئ به أولها ومع زيادة الميم التي فيها على سائر السور ذوات «الر»، ومعنى ما ابتدئ به أخواتها، مع نقصان ذلك منها عنها فعن ابن عباس: «المر»، قال: أنا الله أرى.
وعن مجاهد: «المر» فواتح يفتتح بها كلامه.
وقال ابن كثير ٢/ ٦١٤: إن كل سورة تبتدأ بهذه الحروف ففيها الانتصار للقرآن، وتبيان أن نزوله من عند الله حق لا شك فيه ولا مرية ولا ريب، ولهذا قال: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ.
- قلت: الصواب في ذلك أن يقال في الكلام على هذه الأحرف في أوائل بعض السور: الله أعلم بمراده.
قوله تعالى: وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ يعني: القرآن وغيره من الوحي وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ قال ابن عباس: يعني: أهل مكة. قال الزجاج: لما ذكر أنهم لا يؤمنون، عرَّف الدليل الذي يوجب التّصديق بالخالق فقال عزّ وجلّ: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ قال أبو عبيدة: العَمَد: متحرك الحروف بالفتحة وبعضهم يحركها بالضمة، لأنها جمع عمود، وهو القياس، لأن كل كلمة هجاؤها أربعة أحرف الثالث منها ألِف أو ياء أو واو، فجميعه مضموم الحروف، نحو رسول، والجمع: رسل، وحمار، والجمع: حُمُر، غير أنه قد جاءت أسامي استعملوا جميعها بالحركة والفتحة، نحو عمود، وأديم، وإِهاب، قالوا: أَدَم، وأَهَب. ومعنى «عمدٍ» : سَوارٍ، ودعائم، وما يَعْمِد البناء. وقرأ أبو حياة:
«بغير عُمُد» بضم العين والميم.
وفي قوله تعالى: تَرَوْنَها قولان: أحدهما: أن هاء الكناية ترجع إلى السّماوات، فالمعنى:
ترونها بغير عَمَد، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وقتادة، والجمهور. وقال ابن الأنباري: «ترونها» خبر مستأنف، والمعنى: رفع السّماوات بلا دعامة تمسكها، ثم قال: «ترونها» أي:
ما تشاهدون من هذا الأمر العظيم، يغنيكم عن إِقامة الدلائل عليه. والثاني: أنها ترجع إِلى العَمَد، فالمعنى: إِنها بعمد لا ترونها، رواه عطاء والضحاك عن ابن عباس، وقال: لها عَمَد على قاف، ولكنكم لا ترون العَمَد، وإِلى هذا القول ذهب مجاهد، وعكرمة، والأول أصح «٢». قوله تعالى:
وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ اي: ذلَّلهما لما يُراد منهما كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أي: إِلى وقت معلوم، وهو فناء الدنيا. يُدَبِّرُ الْأَمْرَ أي: يصرِّفه بحكمته. يُفَصِّلُ الْآياتِ أي: يبيِّن الآيات التي تدل أنه قادر على البعث لكي توقنوا بذلك. وقرأ أبو رزين، وقتادة، والنخعي: «ندبِّر الأمر نفصِّل الآيات» بالنون فيهما.
[سورة الرعد (١٣) : آية ٣]
وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣)
(٢) قال الإمام الطبري رحمه الله ٧/ ٣٢٩: وأولى الأقوال في ذلك بالصحة أن يقال كما قال الله تعالى: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها فهي مرفوعة بغير عمد نراها، كما قال ربنا جل ثناؤه، ولا خبر بغير ذلك ولا حجة يجب التسليم بها بقول سواه. وقال الحافظ ابن كثير ٢/ ٦١٥: ناقلا قول إياس بن معاوية: السماء على الأرض مثل القبة، يعني بلا عمد وكذا روي عن قتادة، وهذا هو اللائق بالسياق، والظاهر من قوله تعالى:
وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ، فعلى هذا يكون قوله تَرَوْنَها تأكيدا لنفي ذلك، أي هي مرفوعة بغير عمد ترونها، وهذا هو الأكمل في القدرة.
قوله تعالى: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ قد شرحناه في سورة الأعراف «١».
[سورة الرعد (١٣) : آية ٤]
وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٤)
قوله تعالى: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ فيها قولان:
أحدهما: أنها الأرض السَّبِخة، والأرض العذبة، تنبت هذه، وهذه إِلى جنبها لا تنبت، هذا قول ابن عباس، وأبي العالية، ومجاهد، والضحاك.
والثاني: أنها القرى المتجاورات، قاله قتادة، وابن قتيبة، وهو يرجع إِلى معنى الأول «٢».
قوله تعالى: وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحفص عن عاصم: وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ رفعاً في الكُلِّ. وقرأ نافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان» خفضاً في الكُلِّ. قال أبو علي: من رفع، فالمعنى: وفي الأرض قطع متجاورات وجنَّات، وفي الأرض زرع، ومن خفض حمله على الأعناب، فالمعنى: جنَّاتٌ من أعناب، ومن زرع، ومن نخيل «٣».
قوله تعالى: صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ هذا من صفة النخيل. قال الزجاج: الصنوان: جمع صِنْوٍ وصُنْوٍ، ومعناه: أن يكون الأصل واحداً وفيه النخلتان والثلاثُ والأربع. وكذلك قال المفسرون:
الصنوان: النخل المجتمع وأصله واحد، وغير صنوان: المتفرِّق. وقرأ أبو رزين، وأبو عبد الرحمن السُّلَمي، وابن جبير، وقتادة: «صُنوانٌ» بضم الصاد. قال الفراء: لغة أهل الحجاز «صِنوانٍ» بكسر الصاد، وتميم وقيس يضمون الصاد.
قوله تعالى: يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، «تسقى» بالتاء، «ونفضّل»
(٢) قال الطبري رحمه الله ٧/ ٣٣١: في الأرض قطع منها متقاربات متدانيات، يقرب بعضها من بعض بالجوار وتختلف بالتفاضل مع تجاورها، فمنها قطعة سبخة لا تنبت شيئا، في جوار قطعة طيبة تنبت وتنفع.
وقال ابن كثير رحمه الله ٢/ ٦١٦: كذلك، أي: أراض يجاور بعضها بعضا، مع أن هذه طيبة تنبت ما ينتفع به الناس، وهذه سبخة مالحة لا تنبت شيئا. وكذا يدخل في هذه الآية اختلاف ألوان بقاع الأرض، فهذه تربة حمراء، وهذه بيضاء، وهذه صفراء، وهذه سوداء وهذه محجرة وهذه سهلة.
(٣) قال الإمام الطبري ٧/ ٣٣٣: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إنهما قراءتان متقاربتا المعنى، وقرأ بكل واحدة منهما قراء مشهورون، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، وذلك أن «الزرع والنخيل» إذا كانا في البساتين فهما في الأرض، وإذا كانا في الأرض فالأرض التي هما فيها جنة فسواء وصفا بأنهما في بستان أو في أرض.
وقرأ عاصم، وابن عامر «يُسقى» بالياء، «ونفضِّل» بالنون، وكلُّهم كسر الضاد. وروى الحلبي عن عبد الوارث ضمَّ الياء من «يُفضَّل» وفتح الضاد، «بعضُها» برفع الضاد. وقال الفراء: من قرأ «تُسقى» بالتاء ذهب إِلى تأنيث الزرع، والجنَّات، والنخيل «١»، ومن كسر ذهب إِلى النبت، وذلك كلُّه يُسقى بماءٍ واحد، وأُكْلُه مختلف حامِض وحُلو، ففي هذا آية. قال المفسرون: الماء الواحد: ماء المطر، والأُكُل:
الثمر، بعضه أكبر من بعض، وبعضه أفضل من بعض، وبعضه حامض وبعضه حلو، إِلى غير ذلك، وفي هذا دليل على بطلان قول الطبائعيين، لأنه لو كان حدوث الثّمر من طبع الأرض، والهواء، والماء، وجب أن يتفق ما يحدث لاتفاق ما أوجب الحدوث، فلما وقع الاختلاف، دلَّ على مدبِّرٍ قادر، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أنه لا تجوز العبادة إِلا لمن يقدر على هذا.
[سورة الرعد (١٣) : آية ٥]
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٥)
قوله تعالى: وَإِنْ تَعْجَبْ أي: من تكذيبهم وعبادتهم ما لا ينفع ولا يضرّ بعد ما رأوا من تأثير قدرة الله عزّ وجلّ في خلق الأشياء، فإنكارهم البعث موضعُ عجب. وقيل: المعنى: وإِن تعجب بما وقفت عليه من القِطَع المتجاورات وقدرةِ ربك في ذلك، فعجب جحدهم البعث، لأنه قد بان لهم من خلق السّماوات والأرض ما يدل على أن البعث أسهل في القدرة.
قوله تعالى: أَإِذا كُنَّا تُراباً قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، «آيذا كنا تراباً آينَّا» جميعاً بالاستفهام، غير أن أبا عمرو يمدُّ الهمزة ثم يأتي بالياء ساكنة، وابن كثير يأتي بياء ساكنة بعد الهمزة من غير مدٍّ.
وقرأ نافع «آيذا» مثل أبي عمرو، واختُلف عنه في المَدِّ، وقرأ «إِنا لفي خلق» مكسورة على الخبر. وقرأ عاصم، وحمزة «أإذا كُنَّا» «أإِنا» بهمزتين فيهما. وقرأ ابن عامر «إِذا كُنَّا تراباً» مكسورة الألِف من غير استفهام، «ءاإنا» يهمز ثم يَمُدُّ ثم يهمز على وزن: فاعنّا. وروي عن ابن عامر أيضاً «أإِذا» بهمزتين لا ألِف بينهما.
والأغلال جمع غُلٍّ، وفيها قولان: أحدهما: أنها أغلال يوم القيامة، قاله الأكثرون. والثاني: أنها الأعمال التي هي أغلال، قاله الزّجّاج.
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ٦ الى ٩]
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (٦) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (٧) اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (٨) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (٩)قوله تعالى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها نزلت في كفار مكة، سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالعذاب، استهزاءً منهم بذلك، قاله ابن عباس «١». والثاني: في مشركي العرب، قاله قتادة. والثالث: في النضر بن الحارث حين قال:
اللهم إن كان هذا هو الحقَ من عندك، قاله مقاتل.
وفي السيئة والحسنة قولان: أحدهما: بالعذاب قبل العافية، قاله ابن عباس ومقاتل. والثاني:
بالشرِّ قبل الخير، قاله قتادة.
فأما الْمَثُلاتُ فقرأ الجمهور بفتح الميم. وقرأ عثمان، وأبو رزين، وأبو مجلز، وسعيد بن جبير، وقتادة، والحسن، وابن أبي عبلة برفع الميم. ثم في معناها قولان: أحدهما: أنها العقوبات، قاله ابن عباس. وقال الزجاج: المعنى: قد تقدَّم من العذاب ما هو مثله وما فيه نكال، لو أنهم اتعظوا.
وقال ابن الأنباري: المُثْلَةُ: العقوبة التي تُبقي في المعاقَب شَيْناً بتغيير بعض خَلْقِه، من قولهم: مثّل فلان بفلان، إذا شأن خلقه بقَطْعِ أنفه أو أُذُنِهِ، أو سملِ عينيه ونحو ذلك. والثاني: أن المثلاتِ: الأمثالُ التي ضربها الله تعالى لهم، قاله مجاهد، وأبو عبيدة.
قوله تعالى: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ قال ابن عباس: لذو تجاوزٍ عن المشركين إِذا آمنوا، وإِنه لشديد العقاب للمصرِّين على الشرك. وقال مقاتل: لذو تجاوز عن شركهم في تأخير العذاب، وإِنه لشديد العقاب إذا عذَّب.
(فصل:) وذهب بعض المفسرين إِلى أن هذه الآية منسوخة بقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ «٢»، والمحققون على أنها محكَمة.
قوله تعالى: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ «لولا» بمعنى هلاَّ، والآية التي طلبوها، مثلُ عصا موسى وناقة صالح. ولم يقنعوا بما رأوا، فقال الله تعالى: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ أي: مخوِّفٌ عذاب الله، وليس لك من الآيات شيء.
وفي قوله تعالى: وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ستة أقوال «٣» : أحدها: أن المراد بالهادي: الله عزّ وجلّ،
وهذا الاستعجال من هؤلاء هو على طريقة الاستهزاء، كقولهم: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ. [.....]
(٢) سورة النساء: ٤٨.
(٣) قال الإمام الطبري رحمه الله ٧/ ٢٢٨: وقد بينت معنى «الهداية»، وأنه الإمام المتبع الذي يقدم القوم، فإذا كان كذلك، فجائز أن يكون ذلك هو الله يهدي خلقه، ويتبع خلقه هداه، ويأتمون بأمره ونهيه. وجائز أن يكون نبي الله الذي تأتم به أمته، وجائز أن يكون إماما من الأئمة يؤتمّ به، ويتبع منهاجه وطريقته أصحابه، وجائز أن يكون داعيا من الدعاة إلى خير أو شر، وإن كان ذلك كذلك، فلا قول أولى في ذلك بالصواب من أن يقال كما قال جل ثناؤه: إن محمدا هو المنذر لمن أرسل إليه بالإنذار، وأن لكل قوم هاديا يهديهم فيتبعونه ويأتمون به.
(٨٢٣) وقد روى المفسرون من طرق ليس فيها ما يثبت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال:
لما نزلت هذه الآية، وضع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يده على صدره، فقال: «أنا المنذِر»، وأومأ بيده إِلى منكب عليٍّ، فقال: «أنت الهادي يا عليُّ، بك يُهتدى من بعدي». قال المصنف: وهذا من موضوعات الرافضة.
ثم إِن الله تعالى أخبرهم عن قدرته، رداً على منكري البعث، فقال: اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى أي: من علقة أو مُضغة، أو زائد أو ناقص، أو ذكَرٍ أو أنثى، أو واحد أو اثنين أو أكثر، وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ أي: ما تنقص، وَما تَزْدادُ وفيه أربعة أقوال:
أحدها: ما تغيض: بالوَضع لأقل من تسعة أشهر، وما تزداد: بالوضع لأكثر من تسعة أشهر، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، والضحاك، ومقاتل، وابن قتيبة، والزجاج.
والثاني: وما تغيض: بالسِّقْطِ الناقص، وما تزداد: بالولد التامِّ، رواه العوفي عن ابن عباس، وعن الحسن كالقولين. والثالث: وما تغيض: بإراقة الدم في الحَمْل حتى يتضاءل الولد، وما تزداد: إِذا أمسكَتِ الدمَ فيعظم الولد، قاله مجاهد. والرابع: «ما تغيض الأرحام» مَنْ ولدته من قبل، «وما تزداد» مَنْ تلده من بعد، روي عن قتادة، والسُّدِّي.
قوله تعالى: وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ أي: بقدر. قال أبو عبيدة: هو مِفعالٌ من القَدَرِ. قال ابن عباس: عَلِمَ كُلِّ شيء فقدَّره تقديرا.
بل كذب، قبح الله واضعه. اه. وهو كما قال الذهبي: موضوع، لا يصح بوجه من الوجوه. وهو من بدع التأويل، ولو صح مثل هذا لكان مقام عليّ أعلى من مقام رسول الله عليه الصلاة والسلام. وهذا لا يقوله مسلم، بل الصواب أن المنذر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الله هو الهادي لمن أراد والله تعالى أعلم. انظر «تفسير الشوكاني» ١٢٨٦- ١٢٨٧ بتخريجنا.
العظيم. ومعناه: يعود إِلى كبر قدره واستحقاقه صفات العلوِّ، فهو أكبر من كُلِّ كبير، لأن كل كبير يصغر بالإِضافة إِلى عظمته. ويقال: «الكبير» الذي كَبُر عن مشابهة المخلوقين.
فأمّا الْمُتَعالِ فقرأ ابن كثير «المتعالي» بياء في الوصل والوقف، وكذلك روى عبد الوارث عن أبي عمرو، وأثبتها في الوقف دون الوصل ابنُ شَنْبُوذَ عن قُنْبُل، والباقون بغير ياء في الحالين. والمتعالي هو المتنزِّه عن صفات المخلوقين، قال الخطّابي: وقد يكون بمعنى العالي فوق خَلْقه، وروي عن الحسن أنه قال: المتعالي عمّا يقول المشركون.
[سورة الرعد (١٣) : آية ١٠]
سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (١٠)
قوله تعالى: سَواءٌ مِنْكُمْ قال ابن الأنباري: ناب «سواءٌ» عن مُستوٍ، والمعنى: مستوٍ منكم مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ أي أخفاه وكتمه وَمَنْ جَهَرَ بِهِ أعلنه وأظهره، والمعنى: أن السِرَّ والجهر سواء عنده. قوله تعالى: وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ فيه قولان: أحدهما: أن المستخفي: هو المستتر المتواري في ظلمة الليل، والسارب بالنهار: الظاهر المتصرِّف في حوائجه. يقال: سرَبتِ الإِبل تَسرِب: إِذا مضت في الأرض ظاهرةً، وأنشدوا:
أرى كُلَّ قَوْمٍ قارَبُوا قَيْدَ فَحْلِهِم | وَنَحْنُ خَلَعْنَا قَيْدَه فَهْو سَارِبُ |
إِذا دخل في كِناسِهِ، وهذا قول الأخفش، وذكره قطرب أيضاً واحتج له ابن جرير بقولهم: خَفَيْتُ الشيء: إِذا أظهرتَه، ومنه (أكاد أخفيها) «٢» بفتح الألف، أي: أُظهرها، قال: وإِنما قيل للمتواري:
ساربٌ، لأنه صار في السرَبِ مستخفياً.
[سورة الرعد (١٣) : آية ١١]
لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (١١)
قوله تعالى: لَهُ مُعَقِّباتٌ في هاء «له» أربعة أقوال: أحدها: أنها ترجع إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس. والثاني: إِلى الملك من ملوك الدنيا، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس.
والثالث: إِلى الإِنسان، قاله الزجاج. والرابع: إِلى الله تعالى، ذكره ابن جرير، وأبو سليمان الدمشقي.
وفي المعقِّبات قولان: أحدهما: أنها الملائكة، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، والحسن، وقتادة في آخرين. قال الزجاج: والمعنى: للإنسان ملائكة يعتقبون، يأتي بعضهم بِعَقِب بعض. وقال أكثر المفسرين: هم الحَفَظَة، اثنان بالنهار واثنان بالليل، إِذا مضى فريق، خلف بعده فريق، ويجتمعون عند صلاة المغرب والفجر. وقال قوم، منهم ابن زيد: هذه الآية خاصة في
(٢) سورة طه: ١٥.
والقول الثاني: أن المعقِّبات حُرَّاس الملوك الذين يتعاقبون الحَرْس، وهذا مروي عن ابن عباس وعكرمة. وقال الضحّاك: هم السلاطين المشركون المحترسون من الله تعالى.
وفي قوله تعالى: يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ سبعة أقوال: أحدها: يحرسونه من أمر الله ولا يقدرون، هذا على قول من قال: هي في المشركين المحترسين من أمر الله. والثاني: أن المعنى: حِفْظُهم له من أمر الله، قاله ابن عباس، وابن جُبير، فيكون تقدير الكلام: هذا الحفظ ممّا أمرهم الله به. والثالث:
يحفظونه بأمر الله، قاله الحسن، ومجاهد، وعكرمة. قال اللغويون: والباء تقوم مقام «مِنْ»، وحروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض. والرابع: يحفظونه من الجن، قاله مجاهد، والنخعي. وقال كعب:
لولا أن الله تعالى وكَّل بكم ملائكة يَذُبُّون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم، إذن لتخطَّفَتْكم الجن. وقال مجاهد: ما من عَبْدٍ إِلا ومَلَكٌ موكّل به يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإِنس والهوامِّ، فإذا أراده شيء، قال: وراءك وراءك، إِلا شيء قد قضي له أن يصيبه. وقال أبو مجلز: جاء رجل من مُراد إِلى عليّ عليه السلام، فقال: احترس، فإن ناساً من مُراد يريدون قتلك، فقال: إِن مع كل رجل ملَكين يحفظانه مما لم يقدَّر، فاذا جاء القدر خلَّيا بينه وبينه، وإِن الأجل جُنَّة حصينة. والخامس: أن في الكلام تقديماً وتأخيراً، والمعنى: له معقِّبات من أمر الله يحفظونه، قاله أبو صالح، والفراء. والسادس:
يحفظونه لأمر الله فيه حتى يُسْلِموه إِلى ما قدِّر له، ذكره أبو سليمان الدمشقي، واستدل بما روى عكرمة عن ابن عباس أنه قال: يحفظونه من أمر الله، حتى إِذا جاء القَدَر خلّوا عنه. وقال عكرمة: يحفظونه لأمر الله. والسابع: يحفظون عليه الحسنات والسيئات، قاله ابن جُريج. قال الأخفش: وإِنما أنَّث المعقّبات لكثرة ذلك منها، نحو النسَّابة، والعلاَّمة ثم ذكَّر في قوله: «يحفظونه» لأن المعنى مذكَّر.
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ أي: لا يسلبهم نِعَمَهُ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ فيعملوا بمعاصيه. قال مقاتل: ويعني بذلك كفار مكة. قوله تعالى: وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فيه قولان:
أحدهما: أنه العذاب. والثاني: البلاء.
قوله تعالى: فَلا مَرَدَّ لَهُ أي: لا يردُّه شيء ولا تنفعه المعقِّبات. وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ يعني: من دون الله مِنْ والٍ أي: من وليّ يدفع عنهم العذاب والبلاء.
[سورة الرعد (١٣) : آية ١٢]
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (١٢)
قوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً فيه أربعة أقوال: أحدها: خوفاً للمسافر وطمعاً للمقيم، قاله أبو صالح عن ابن عباس. قال قتادة: فالمسافر خاف أذاه ومشقَّته والمقيم يرجو منفعته. والثاني: خوفاً من الصواعق وطمعاً في الغيث، رواه عطاء عن ابن عباس، وبه قال الحسن.
والثالث: خوفاً للبلد الذي يخاف ضرر المطر وطمعاً لمن يرجو الانتفاع به، ذكره الزجاج. والرابع:
خوفاً من العقاب وطمعاً في الثواب، ذكره الماوردي. وكان ابن الزبير إِذا سمع صوت الرعد يقول: إن هذا وعيد شديد لأهل الأرض.
السحاب، وإِن كان لفظه واحداً، فانه جمع واحدته سحابة، جُعل نعته على الجمع، كما قال مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ «١» ولم يقل: أخضر، ولا حسن.
[سورة الرعد (١٣) : آية ١٣]
وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (١٣)
قوله تعالى: وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ فيه قولان: أحدهما: أنه اسم الملَك الذي يزجر السحاب، وصوته: تسبيحه، قاله مقاتل. والثاني: أنه الصوت المسموع. وإِنما خُص الرعد بالتسبيح، لأنه من أعظم الأصوات. قال ابن الأنباري: وإِخباره عن الصوت بالتسبيح مجاز، كما يقول القائل: قد غمَّني كلامك. قوله تعالى: وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ في هاء الكناية قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى الله عزّ وجلّ، وهو الأظهر. قال ابن عباس: يخافون الله، وليس كخوف ابن آدم، لا يعرف أحدهم مَنْ على يمينه ومَنْ على يساره، ولا يَشْغَله عن عبادة الله شيء. والثاني: أنها ترجع إِلى الرعد، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ، اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال:
(٨٢٤) أحدها: أنها نزلت في أربد بن قيس، وعامر بن الطّفيل، أتيا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم يريدان الفتك به، فقال: «اللهم اكفنيهما بما شئت»، فأما أربد فأرسل الله عليه صاعقة في يوم صائف صاحٍ فأحرقته، وأما عامر فأصابته غُدّة فهلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية، هذا قول الأكثرين، منهم ابن جريج، وأربد هو أخو لبيد بن ربيعة لأُمه.
(٨٢٥) والثاني: أنها نزلت في رجل جاء إِلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: حدِّثني يا محمد عن إِلهك، أياقوت هو؟ أذهبٌ هو؟ فنزلت على السائل صاعقة فأحرقته، ونزلت هذه الآية، قاله عليّ بن أبي طالب عليه السلام. قال مجاهد: وكان يهودياً.
(٨٢٦) وقال أنس بن مالك: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم إِلى بعض فراعنة العرب يدعوه إِلى الله تعالى،
في إسنادهما عبد العزيز بن عمران، وهو ضعيف. وذكره الواحدي في الأسباب ٥٤٧ بقوله: قال ابن عباس في رواية أبي صالح وهو واه، وابن جريج، وابن زيد، فساقه بلا سند. وأثر ابن جريج أسنده الطبري ٢٠٢٧٢ عنه وهو معضل.. وانظر «تفسير ابن كثير» ٢/ ٦٢٤.
أخرجه الطبري ٢٠٢٦٩ من حديث علي، وإسناده واه، فيه سيف ابن أخت سفيان الثوري، متروك الحديث.
وله شاهد من مرسل مجاهد، أخرجه الطبري ٢٠٢٦٧، ومع إرساله فيه ليث، وهو ضعيف. وانظر ما بعده.
جيد. أخرجه ابن أبي عاصم في «السنة» ١/ ٣٠٤، والبزار ٢٢٢١، وأبو يعلى ٣٣٤١ و ٣٣٤٢ من رواية ديلم بن غزوان عن ثابت عن أنس مطوّلا، ورجال البزار وأبي يعلى في الرواية الأولى ثقات. وقال الهيثمي في «المجمع» ٧/ ٤٢: ورجال البزار رجال الصحيح غير ديلم بن غزوان، وهو ثقة، وفي رجال أبي يعلى والطبراني علي بن أبي سارة، وهو ضعيف اه. وأخرجه أبو يعلى ٣٣٤٢ و ٣٤٦٨، والواحدي ٥٤٦،
__________
(١) سورة الرحمن: ٧٦.
(٨٢٧) والثالث: أنها في رجل أنكر القرآن وكذَّب رسولَ الله صلّى الله عليه وسلم، فأرسل الله عليه صاعقة فأهلكته ونزلت هذه الآية، قاله قتادة.
قوله تعالى: وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ فيه قولان: أحدهما: يكذِّبون بعظَمة الله، قاله ابن عباس.
والثاني: يخاصِمون في الله، حيث قال قائلهم: أهو من ذهب، أم من فضة؟ على ما تقدم بيانه. قوله تعالى: وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ فيه خمسة أقوال: أحدها: شديد الأخذ، قاله عليّ عليه السلام. والثاني:
شديد المكر، شديد العداوة، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثالث: شديد العقوبة، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وقال مجاهد في رواية عنه: شديد الانتقام. وقال أبو عبيدة: شديد العقوبة والمكر والنكال، وأنشد للأعشى:
فَرْعُ نَبْعٍ يهتزُّ في غُصُن المج | د، غزيرُ النَّدى، شديدُ المِحال |
إِن يُعاقِب يكُنْ غَراماً وإِن يُعْ | طِ جَزيلاً فإنَّهُ لا يبالي |
أنه إِذا أخذ الكافر والظالم لم يفلته من عقوباته.
[سورة الرعد (١٣) : آية ١٤]
لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (١٤)
قوله تعالى: لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ فيه قولان: أحدهما: أنها كلمة التوحيد، وهي: لا إِله إِلا الله، قاله عليّ وابن عباس والجمهور، فالمعنى له من خَلقه الدعوة الحق، فأضيفت الدعوة إِلى الحق لاختلاف اللفظين. والثاني: أن الله عزّ وجلّ هو الحق، فمن دعاه دعا الحق، قاله الحسن.
مرسل. أخرجه الطبري ٢٠٢٧١ عن قتادة مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف، لكن يشهد لما قبله، فأصل الخبر قوي بشواهده وطرقه، وإن اختلفت بعض ألفاظه. وأصح شيء في الباب حديث أنس. وانظر «الجامع لأحكام القرآن» ٣٧٢٥ بتخريجنا، والله الموفق.
قوله تعالى: إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ فيه خمسة أقوال: أحدها: أنه العطشان يمدُّ يده إِلى البئر ليرتفع الماء إِليه وما هو ببالغه قاله عليّ عليه السلام، وعطاء. والثاني: أنه الرجل العطشان قد وضع كفَّيه في الماء وهو لا يرفعهما، رواه العوفي عن ابن عباس. والثالث: أنه العطشان يرى خياله في الماء من بعيد، فهو يريد أن يتناوله فلا يقدر عليه، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والرابع: أنه الرجل يدعو الماءَ بلسانه ويشير إِليه بيده فلا يأتيه أبداً، قاله مجاهد. والخامس: أنه الباسط كفَّيه ليقبض على ماء حتى يؤدِّيَه إِلى فيه، لا يتم له ذلك، والعرب تقول: من طلب ما لا يجد فهو القابض على الماء، وأنشدوا:
وإِنِّي وإِيَّاكم وشَوْقاً إِليكُمُ | كقابضِ ماءٍ لم تَسِقْهُ أنامِلُهْ «١» |
فأصبحتُ مما كان بَيْني وبَيْنَها | مِنَ الوُدِّ مِثْلَ القَابِضِ الماءَ باليَدِ |
قوله تعالى: وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ فيه قولان: أحدهما: وما دعاء الكافرين ربَّهم إِلا في ضلال، لأنّ أصواتهم محجوبة عن الله عزّ وجلّ، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثاني: وما عبادة الكافرين الأصنامَ إِلا في خسران وباطل، قاله مقاتل.
[سورة الرعد (١٣) : آية ١٥]
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (١٥)
قوله تعالى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ أي: من الملائكة، ومَن في الأرض من المؤمنين طَوْعاً وَكَرْهاً. وفي معنى سجود الساجدين كَرها ثلاثة أقوال: أحدها: أنه سجود مَنْ دخل في الإِسلام بالسيف، قاله ابن زيد. والثاني: أنه سجود ظِلِّ الكافر، قاله مقاتل. والثالث: أن سجود الكاره تذلُّله وانقياده لما يريده الله عزّ وجلّ منه من عافية ومرض وغنى وفقر «٢».
قوله تعالى: وَظِلالُهُمْ أي: وتسجد ظلال الساجدين طوعاً وكَرهاً، وسجودُها: تمايلها من جانب إِلى جانب، وانقيادها للتسخير بالطُّول والقِصَر. قال ابن الأنباري: قال اللغويون: الظِّل ما كان بالغَدَوات قبل انبساط الشمس، والفيءُ ما كان بعد انصراف الشمس، وإِنما سُمِّي فيئاً، لأنه فاء، أي:
رجع إِلى الحال التي كان عليها قبل ان تنبسط الشمس، وما كان سوى ذلك فهو ظلّ، نحو ظلّ
(٢) قال الإمام الطبري رحمه الله ٧/ ٣٦٦: فإن امتنع هؤلاء الذين يدعون من دون الله الأوثان والأصنام لله شركاء، من إفراد الطاعة والإخلاص بالعبادة له، فلله يسجد من في السماوات من الملائكة الكرام، ومن في الأرض من المؤمنين به طوعا، فأما الكافرون به فإنهم يسجدون له كرها حين يكرهون على السجود.
وقال ابن كثير رحمه الله ٢/ ٦٢٥: يخبر تعالى عن عظمته وسلطانه الذي قهر كل شيء، ودان له كل شيء، ولهذا يسجد له كل شيء طوعا من المؤمنين، وكرها من المشركين.
فلا الظِّلُّ من بَردِ الضُّحى تَسْتَطِيعُهُ | ولا الفيءَ مِن بردِ العَشِيِّ تَذوق |
بينما الظِّلُّ ظَلِيلٌ مُوْنِقٌ | طَلَعَتْ شَمْسٌ عَلَيْه فاضْمَحَلّ |
أيا أثلاث القَاعِ مِنْ بَطْنِ تُوضِحٍ | حَنِيْنِي إِلى أَظْلالِكُنَّ طَوِيلُ «١» |
[سورة الرعد (١٣) : آية ١٦]
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (١٦)
قوله تعالى: قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ إِنما جاء السؤال والجواب من جهة، لأن المشركين لا ينكرون أن الله خالق كل شيء فلما لم ينكروا، كان كأنهم أجابوا. ثم ألزمهم الحُجة بقوله: قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ يعني: الأصنام توليتموهم فعبدتموهم وهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، فكيف لغيرهم؟! ثم ضرب مثلاً للذي يعبد الأصنام والذي يعبد الله بقوله: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ يعني المشرك والمؤمن أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ. وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحفص عن عاصم: «تستوي» بالتاء. وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «يستوي» بالياء. قال أبو علي: التأنيث حسنٌ، لأنه فعلُ مؤنثٍ، والتذكير سائغ، لأنه تأنيث غير حقيقي. ويعني بالظلمات والنور: الشركَ والإِيمان. أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قال ابن الأنباري: معناه:
أجعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه، فتشابه خلق الله بخلق هؤلاء؟ وهذا استفهام إِنكار، والمعنى: ليس الأمر على هذا، بل إِذا فكَّروا علموا أن الله هو المنفرد بالخلق، وغيره لا يخلق شيئاً.
قوله تعالى: قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ قال الزجاج: قُل ذلك وبيِّنه بما أخبرت به من الدلالة في هذه السورة مما يدل على أنه خالق كل شيء، وقد ذكرنا في (يوسف) «٣» معنى الواحد القهّار.
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ١٧ الى ١٨]
أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (١٧) لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٨)
(٢) سورة الأعراف: ٧.
(٣) سورة يوسف: ٣٩.
عالياً فوق الماء، فهذا مثل ضربه الله عزّ وجلّ. ثم ضرب مثلا آخر، فقال: وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: «توقِدون عليه» بالتاء. وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم بالياء. قال أبو علي: من قرأ بالتاء، فَلِما قبله من الخطاب، وهو قوله:
«أفاتخذتم»، ويجوز أن يكون خطاباً عامّاً للكافّة، ومن قرأ بالياء فلأَنَّ ذِكر الغَيبة قد تقدم في قوله: «أم جعلوا لله شركاء».
ويعني بقوله: وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ ما يدخل إِلى النار فيُذاب من الجواهر ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ يعني:
الذهب والفضة أَوْ مَتاعٍ يعني: الحديد والصُّفْر والنحاس والرصاص تُتخذ منه الأواني والأشياء التي يُنتفع بها، زَبَدٌ مِثْلُهُ أي: له زَبَد إِذا أُذيب مثل زَبَد السَّيل، فهذا مثل آخر.
وفيما ضُرب له هذان المثلان ثلاثة أقوال «١» : أحدها: أنه القرآن، شُبِّه نزوله من السماء بالماء، وشُبِّه قلوبُ العِباد بالأودية تحمل منه على قدر اليقين والشك، والعقل والجهل، فيستكنّ فيها، فينتفع المؤمن بما في قلبه كانتفاع الأرض التي يستقر فيها المطر، ولا ينتفع الكافر بالقرآن لمكان شَكِّه وكفره، فيكون ما حصل عنده من القرآن كالزبَد وكخبَث الحديد لا يُنتفع به. والثاني: أنه الحق والباطل، فالحق شُبِّه بالماء الباقي الصافي، والباطل مشبَّه بالزَّبد الذاهب، فهو وإِن علا على الماء فانه سيمَّحِق، كذلك الباطل، وإِن ظهر على الحق في بعض الأحوال، فإن الله سيُبطله. والثالث: أنه مثل ضربه الله للمؤمن والكافر، فمثَل المؤمن واعتقاده وعمله كالماء المنتفَع به، ومثَل الكافر واعتقاده وعمله كالزبَد.
قوله تعالى: كَذلِكَ
أي: كما ذُكر هذا، يضرب الله مَثل الحق والباطل. وقال أبو عبيدة:
كذلك يمثِّل الله الحق ويمثِّل الباطل.
فأما الجُفاء، فقال ابن قتيبة: هو ما رمى به الوادي إِلى جنَباته، يقال: أجفأتِ القِدرُ بزَبَدها: إِذا ألقته عنها. قال ابن فارس: الجُفاء: ما نفاه السيل، ومنه اشتقاق الجَفاء. وقال ابن الأنباري: «جُفاءً» أي: بالياً متفرقاً. قال ابن عباس: إِذا مُسَّ الزَّبَد لم يكن شيئاً.
قوله تعالى: وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ من الماء والجواهر التي زال زَبَدها فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ فيُنتفع به كَذلِكَ يبقى الحق لأهله. قوله تعالى: لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى يعني: المؤمنين، وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ
قوله تعالى: لَافْتَدَوْا بِهِ اي: لجعلوه فداء أنفسهم من العذاب، ولا يُقبل منهم.
وفي سوء الحساب ثلاثة أقوال: أحدها: أنها المناقشة بالأعمال، رواه ابو الجوزاء عن ابن عباس. وقال النخعي: هو أن يحاسَب بذنبه كله، فلا يُغفر له منه شيء. والثاني: أن لا تُقبل منهم حسنة، ولا يُتجاوز لهم عن سيئة. والثالث: أنه التّوبيخ والتّقريع عند الحساب.
[سورة الرعد (١٣) : آية ١٩]
أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٩)
قوله تعالى: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى قال ابن عباس: نزلت في حمزة، وأبي جهل. إِنَّما يَتَذَكَّرُ أي: إِنما يتَّعظ ذوو العقول. والتّذكّر: الاتّعاظ.
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ٢٠ الى ٢١]
الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (٢٠) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (٢١)
قوله تعالى: الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ في هذا العهد قولان:
أحدهما: أنه ما عاهدهم عليه حين استخرجهم من ظهر آدم.
والثاني: ما أمرهم به وفرضه عليهم. وفي الذي أمر الله به، عزّ وجلّ، أن يوصل، ثلاثة أقوال قد نسبناها إِلى قائلها في أول سورة «البقرة» «١»، وقد ذكرنا سوء الحساب آنفا.
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ٢٢ الى ٢٤]
وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (٢٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (٢٤)
قوله تعالى: وَالَّذِينَ صَبَرُوا أي: على ما أُمروا به ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ أي: طلباً لرضاه وَأَقامُوا الصَّلاةَ أتمُّوها وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ من الأموال في طاعة الله. قال ابن عباس: يريد بالصلاة:
الصلوات الخمس، وبالإِنفاق: الزكاة.
قوله تعالى: وَيَدْرَؤُنَ أي: يدفعون بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ. وفي المراد بهما خمسة أقوال:
أحدها: يدفعون بالعمل الصالح الشرَّ من العمل، قاله ابن عباس. والثاني: يدفعون بالمعروف المنكر، قاله سعيد بن جبير. والثالث: بالعفو الظلمَ، قاله جُوَيبر. والرابع: بالحلم السفهَ، كأنهم إِذا سُفه عليهم حَلُموا، قاله ابن قتيبة. والخامس: بالتوبة الذنْبَ، قاله ابن كيسان.
قوله تعالى: أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ قال ابن عباس: يريد: عقباهم الجنة، أي: تصير الجنة آخر
قوله تعالى: سَلامٌ عَلَيْكُمْ قال الزجاج: أُضمر القول ها هنا، لأن في الكلام دليلاً عليه. وفي هذا السلام قولان: أحدهما: أنه التحية المعروفة «١»، يدخل الملَك فيسلِّم وينصرف. قال ابن الأنباري:
وفي قول المسلِّم: سلام عليكم، قولان: أحدهما: أن السلام: الله عزّ وجلّ، والمعنى: الله عليكم، أي: على حفظكم. والثاني: أن المعنى: السلامة عليكم، فالسلام جمع سلامة. والثاني: أن معناه:
إِنما سلَّمكم الله تعالى من أهوال القيامة وشرِّها بصبركم في الدنيا.
وفيما صبروا عليه خمسة أقوال: أحدها: أنه أمر الله، قاله سعيد بن جبير. والثاني: فضول الدنيا، قاله الحسن. والثالث: الدِّين. والرابع: الفقر، رويا عن أبي عمران الجَوني. والخامس: أنه فقد المحبوب، قاله ابن زيد.
[سورة الرعد (١٣) : آية ٢٥]
وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٢٥)
قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ قد سبق تفسيره في سورة (البقرة) «٢». وقال مقاتل: نزلت في كفّار أهل الكتاب. وقوله تعالى: أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ أي: عليهم.
[سورة الرعد (١٣) : آية ٢٦]
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (٢٦)
قوله تعالى: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ أي: يوسِّع على من يشاء وَيَقْدِرُ أي: يضيِّق. وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا قال ابن عباس: يريد مشركي مكة، فرحوا بما نالوا من الدنيا فطغوا وكذّبوا الرّسل. وقوله تعالى: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ أي: بالقياس إِليها إِلَّا مَتاعٌ أي: كالشيء الذي يتمتّع به، ثم يفنى.
[سورة الرعد (١٣) : آية ٢٧]
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (٢٧)
قوله تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا نزلت في مشركي مكة حين طلبوا من رسول الله صلّى الله عليه وسلم مثل آيات الأنبياء «٣». قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ أي: يردُّه عن الهدى كما ردّكم بعد ما أنزل من الآيات وحرمكم الاستدلال بها، وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ أي: رجع إِلى الحق، وإِنما يرجع إِلى الحق من شاء اللهُ رجوعه، فكأنه قال: ويهدي من يشاء.
(٢) سورة البقرة: ٢٧.
(٣) لم أجد من ذكره سوى المصنف على أنه سبب نزول، وقد ذكره الطبري استنباطا من الآية الكريمة، حيث تدل على ذلك.
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ٢٨ الى ٢٩]
الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (٢٩)قوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا هذا بدل من قوله: أَنابَ، والمعنى: يهدي الذين آمنوا، وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ في هذا الذِّكر قولان: أحدهما: أنه القرآن. والثاني: ذِكر الله على الإِطلاق. وفي معنى هذه الطمأنينة قولان: أحدهما: أنها الحُب له والأُنس به. والثاني: السكون إِليه من غير شك، بخلاف الذين إِذا ذُكر الله اشمأزت قلوبهم.
قوله تعالى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ قال الزجاج: «ألا» حرف تنبيه وابتداء، والمعنى: تطمئن القلوب التي هي قلوب المؤمنين، لأن الكافر غير مطمئن القلب.
قوله تعالى: طُوبى لَهُمْ فيه ثمانية أقوال: أحدها: أنه اسم شجرة في الجنة.
(٨٢٨) روى أبو سعيد الخدري «عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن رجلاً قال: يا رسول الله، ما طوبى؟ قال:
شجرة في الجنة مسيرة مائة سنة، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها».
وقال أبو هريرة: طوبى: شجرة في الجنة، يقول الله عزّ وجلّ لها: تفتَّقي لعبدي عما شاء، فتتفتق له عن الخيل بسروجها ولُجمها، وعن الإِبل بأزمَّتها، وعمَّا شاء من الكسوة. وقال شهر بن حوشب: طوبى: شجرة في الجنة، كل شجر الجنة منها أغصانها، من وراء سور الجنة، وهذا مذهب عطية، وشمر بن عطية، ومغيث بن سُمَي، وأبي صالح. والثاني: أنه اسم الجنة بالحبشية، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. قال المصنف: وقرأت على شيخنا أبي منصور عن سعيد بن مَسْجوح قال: طوبى: اسم الجنة بالهندية، وممن ذهب إِلى أنه اسم الجنة عكرمة، وعن مجاهد كالقولين.
والثالث: أن معنى طوبى لهم: فرح وقُرَّة عين لهم، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. والرابع:
أن معناه: نُعمى لهم، قاله عكرمة في رواية، وفي رواية أخرى عنه: نعم ما لهم. والخامس: غبطة لهم، قاله سعيد بن جبير، والضحاك. والسادس: أن معناه: خير لهم، قاله النخعي في رواية، وفي أخرى عنه قال: الخير والكرامة اللَّذان أعطاهم الله، وروى معمر عن قتادة قال: يقول الرجل للرجل:
طوبى لك، أي: أصبتَ خيراً، وهي كلمة عربية. والسابع: حسنى لهم، رواه سعيد عن قتادة عن الحسن. والثامن: أن المعنى: العيش الطِّيب لهم. و «طوبى» عند النحويين: فُعلى من الطيب، هذا قول الزجاج. وقال ابن الأنباري: تأويلها: الحال المستطابة، والخَلَّة المستلَذَّة، وأصلها: «طُيْبى» فصارت الياء واواً لسكونها وانضمام ما قبلها كما صارت في «مُوقن» والأصل فيه «مُيْقن» لأنه مأخوذ من اليقين، فغلبت الضمة فيه الياء فجعلتها واوا.
[سورة الرعد (١٣) : آية ٣٠]
كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (٣٠)
قوله تعالى: كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ أي: كما أرسلنا الأنبياء قبلك.
قوله تعالى: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
(٨٢٩) أحدها: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم لما قال لكفار قريش: اسجدوا للرحمن، قالوا: وما الرحمن؟
فنزلت هذه الآية، وقيل لهم: إِن الرحمن الذي أنكرتم هو ربي، هذا قول الضحاك عن ابن عباس.
(٨٣٠) والثاني: أنهم لما أرادوا كتاب الصلح يوم الحديبية، كتب عليّ عليه السلام: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال سهيل بن عمرو: ما نعرف الرحمن إِلا مسيلمة، فنزلت هذه الآية، قاله قتادة، وابن جريج، ومقاتل.
(٨٣١) والثالث: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يوماً في الحِجْر يدعو، وأبو جهل يستمع إِليه وهو يقول:
يا رحمن، فولى مُدْبراً إِلى المشركين فقال: إِن محمداً كان ينهانا عن عبادة الآلهة وهو يدعو إِلهين! فنزلت هذه الآية، ذكره علي بن أحمد النيسابوري.
قوله تعالى: وَإِلَيْهِ مَتابِ قال أبو عبيدة: هو مصدر تبت إليه.
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ٣١ الى ٣٢]
وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٣١) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٣٢)
قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ.
(٨٣٢) سبب نزولها أن مشركي قريش قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلم: لو وسَّعت لنا أودية مكة بالقرآن، وسيَّرت
- وذكره الواحدي في «الأسباب» ٥٤٩ وعزاه للضحاك عن ابن عباس.
لم أقف عليه مسندا بهذا اللفظ، وهو باطل لا أصل له. وذكره الواحدي ٥٤٨ بقوله: قال المفسرون... فهذا بدون إسناد كما ترى، أي لا أصل له، والأشبه كونه كلام مقاتل، وهو ابن سليمان، وهو ممن يضع الحديث.
وتفرّد بذكر نزول الآية مع لفظ «إلا مسيلمة». وأخرجه الطبري ٢٠٣٩٦ عن قتادة مرسلا، دون ذكر نزول الآية، ودون استثناء مسيلمة. وكذا أخرجه ٢٠٣٩٧ عن ابن جريج عن مجاهد مرسلا أيضا هكذا. وأصل حديث الحديبية متفق عليه. دون ذكر نزول الآية واستثناء مسيلمة. وسيأتي في سورة الفتح.
لم أقف عليه، وعزاه المصنف للمفسر النيسابوري، وهو يذكر ما لا أصل له. وقد ورد شيء من هذا في أواخر سورة الإسراء، وسيأتي.
حسن. أخرجه الطبري ٢٠٣٩٨ من رواية عطية العوفي عن ابن عباس، وعطية العوفي روى مناكير كثيرة، وهو
(٨٣٣) وقال الزبير بن العوّام: قالت قريش لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: ادع الله أن يسيِّر عنا هذه الجبال ويفجِّر لنا الأرض أنهاراً فنزرع، أو يحيي لنا موتانا فنكلمهم، أو يصيّر هذه الصخرة ذهباً فتغنينا عن رحلة الشتاء والصيف فقد كان للأنبياء آيات، فنزلت هذه الآية، ونزل قوله: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ «١». ومعنى قوله: أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أي: شقِّقت فجُعلت أنهاراً، أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى أي: أُحيوا حتى كلّموا.
واختلفوا في جواب «لو» على قولين: أحدهما: أنه محذوف. وفي تقدير الكلام قولان:
أحدهما: أن تقديره: لكان هذا القرآن، ذكره الفراء، وابن قتيبة. قال قتادة: لو فُعل هذا بقرآن غيرِ قرآنكم لفُعل بقرآنكم. والثاني: أن تقديره: لو كان هذا كلّه لما آمنوا. ودليله قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ «٢»، قاله الزجاج. والثاني: أن جواب «لو» مقدَّم، والمعنى: وهم يكافرون بالرحمن، ولو أنزلنا عليهم ما سألوا، ذكره الفراء أيضاً.
قوله تعالى: بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أي: لو شاء أن يؤمنوا لآمنوا، وإِذا لم يشأْ، لم ينفع ما اقترحوا من الآيات. ثم أكد ذلك بقوله: أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا وفيه أربعة أقوال:
أحدها: أفلم يتبيَّن، رواه العَوفي عن ابن عباس، وروى عنه عكرمة أنه كان يقرؤها كذلك، ويقول: أظن الكاتب كتبها وهو ناعس، وهذا قول مجاهد، وعكرمة، وأبي مالك، ومقاتل.
والثاني: أفلم يعلم، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وقتادة، وابن زيد.
وقال ابن قتيبة: ويقال: هي لغة للنَّخَع «ييأس» بمعنى «يعلم»، قال الشاعر:
أَقُولُ لَهُمْ بِالشِّعْبِ إِذْ يَأْسِرُونَنِي | أَلَمْ تَيْأَسُوا أَنِّي ابنُ فَارِسَ زَهْدَمِ «٣» |
والثالث: أن المعنى: قد يئس الذين آمنوا أن يَهدوا واحداً، ولو شاء الله لهدى الناس جميعاً، قاله أبو العالية. والرابع: أفلم ييأس الذين آمنوا أن يؤمن هؤلاء المشركون، قاله الكسائي. وقال
وأخرجه ابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» ٢/ ٦٣٥ من رواية عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري. وله شاهد من مرسل قتادة، أخرجه الطبري ٢٠٤٠٣ و ٢٠٤٠٤. وله شاهد من مرسل الضحاك، أخرجه الطبري ٢٠٤٠٥. وله شاهد من مرسل ابن زيد، أخرجه الطبري ٢٠٤٠٦. ويشهد له ما بعده، فهذه الروايات تتأيد بمجموعها، فهو حسن إن شاء الله.
حسن. أخرجه أبو يعلى ٦٧٩، والواحدي في «أسباب النزول» ٥٥٠ من حديث الزبير. وإسناده ضعيف فيه عبد الجبار بن عمر الأيلي عن عبد الله بن عطاء، وكلاهما ضعيف، لكن يشهد له ما قبله.
__________
(١) سورة الإسراء: ٥٩.
(٢) سورة الأنعام: ١١١.
(٣) ذكره ابن منظور في «اللسان»، مادة «يئس»، ونسبه إلى سحيم بن وثيل اليربوعي. وزهدم فرس سحيم.
قوله تعالى: وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فيهم قولان: أحدهما: أنهم جميع الكفار، قاله ابن السائب. والثاني: كفار مكة، قاله مقاتل. فأما القارعة، فقال الزجاج: هي في اللغة: النازلة الشديدة تنزل بأمر عظيم. وفي المراد بها ها هنا قولان: أحدهما: أنها عذاب من السماء، رواه العوفي عن ابن عباس. والثاني: السرايا والطلائع التي كان ينفذها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قاله عكرمة «١». وفي قوله: أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ قولان: أحدهما: أنه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فالمعنى: أو تَحُلُّ أنت يا محمد، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعكرمة، وقتادة. والثاني: أنها القارعة، قاله الحسن.
وفي قوله: حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ قولان: أحدهما: فتح مكة، قاله ابن عباس، ومقاتل. والثاني: القيامة، قاله الحسن.
[سورة الرعد (١٣) : آية ٣٣]
أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣)
قوله تعالى: أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ يعني: نفسه عزّ وجلّ. ومعنى القيام ها هنا:
التولي لأمور خَلقه، والتدبير لأرزاقهم وآجالهم، وإِحصاء أعمالهم للجزاء، والمعنى: أفمن هو مجازي كلّ نفس بما كسبت، يثيبها إِذا أحسنت، ويأخذها بما جنت، كمن ليس بهذه الصفة من الأصنام؟ قال الفراء: فتُرك جوابه، لأن المعنى معلوم، وقد بيَّنه بعد هذا بقوله: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ كأنه قيل:
كشركائهم. قوله تعالى: قُلْ سَمُّوهُمْ أي: بما يستحقونه من الصفات وإِضافةِ الأفعال إِليهم إِن كانوا شركاء لله كما يسمّى الله بالخالق، والرّزاق، والمحيي، والمميت، ولو سمَّوهم بشيء من هذا لكذبوا.
قوله تعالى: أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ هذا استفهام منقطع مما قبله، والمعنى: فإن سمَّوهم بصفات الله، فقل لهم: أتنبئونه، أي: أتخبرونه بشريك له في الأرض وهو لا يعلم لنفسه شريكاً، ولو كان لَعَلِمَه؟
قوله تعالى: أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أم بظن من القول، قاله مجاهد.
والثاني: بباطل، قاله قتادة. والثالث: بكلام لا أصل له ولا حقيقة. قوله تعالى: بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ قال ابن عباس: زين لهم الشيطان الكفر. قوله تعالى: وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: «وَصَدُّوا» بفتح الصاد، ومثله في (حم المؤمن). وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: «وصُدُّوا» بالضم فيهما. فمن فتح، أراد: صَدُّوا المسلمين، إِما عن الإِيمان، أو عن البيت الحرام. ومن ضم، أراد: صدّهم الله عن سبيل الهدى.
[سورة الرعد (١٣) : آية ٣٤]
لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (٣٤)
وهو القتل، والأسر، والسقم، فهو لهم في الدنيا عذاب، وللمؤمنين كفَّارة، وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُ
أي: أشد وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ
أي: مانع يقيهم عذابه.
[سورة الرعد (١٣) : آية ٣٥]
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (٣٥)
قوله تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ أي: صفتها أن الأنهار تجري من تحتها، هذا قول الجمهور. وقال ثعلب: خبر المثَل مُضمَر قبله، والمعنى: فيما نصف لكم مَثَل الجنة، وفيما نقصُّه عليكم خبر الجنة أُكُلُها دائِمٌ قال الحسن: يريد أن ثمارها لا تنقطع كثمار الدنيا وَظِلُّها لأنه لا يزول ولا تنسخه الشمس.
قوله تعالى: تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا أي: عاقبة أمرهم المصير إليها.
[سورة الرعد (١٣) : آية ٣٦]
وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (٣٦)
قوله تعالى: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم مسلمو اليهود، قاله أبو صالح عن ابن عباس. وقال مقاتل: هم عبد الله بن سلام وأصحابه. والثاني: أنهم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قاله قتادة. والثالث: مؤمنو أهل الكتابين من اليهود والنصارى، ذكره الماوردي. والذي أُنزل إِليه: القرآن، فرح به المسلمون وصدَّقوه، وفرح به مؤمنو أهل الكتاب، لأنه صدَّق ما عندهم.
وقيل: إِن عبد الله بن سلام ومَن آمَن معه من أهل الكتاب، ساءهم قِلَّة ذكر الرحمن في القرآن مع كثرة ذِكره في التوراة، فلما نزل ذِكره فرحوا، وكفر المشركون به، فنزلت هذه الآية.
فأما الأحزاب، فهم الكفار الذين تحزَّبوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالمعاداة، وفيهم أربعة أقوال «١» :
أحدها: أنهم اليهود والنصارى، قاله قتادة. والثاني: أنهم اليهود والنصارى والمجوس، قاله ابن زيد.
والثالث: بنو أمية وبنو المغيرة وآل أبي طلحة بن عبد العزّى، قاله مقاتل. والرابع: كفار قريش، ذكره الماوردي. وفي بعضه الذي أنكروه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه ذكر الرّحمن والبعث ومحمّد صلّى الله عليه وسلم، قاله مقاتل. والثاني: أنهم عرفوا بعثة الرسول في كتبهم وأنكروا نبوَّته. والثالث: أنهم عرفوا صدقه، وأنكروا تصديقه، ذكرهما الماوردي.
[سورة الرعد (١٣) : آية ٣٧]
وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (٣٧)قوله تعالى: وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ أي: وكما أنزلنا الكتاب على الأنبياء بلغاتهم، أنزلنا عليك القرآن حُكْماً عَرَبِيًّا قال ابن عباس: يريد ما فيه من الفرائض. وقال أبو عبيدة: ديناً عربيّاً.
قوله تعالى: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ فيه قولان: أحدهما: في صلاتك إِلى بيت المقدس بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ أن قبلتك الكعبة، قاله ابن السائب. والثاني: في قبول ما دعوك إِليه من مِلَّة آبائك، قاله مقاتل. قوله تعالى: ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ أي: ما لك من عذاب الله من قريب ينفعك وَلا واقٍ يقيك.
[سورة الرعد (١٣) : آية ٣٨]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (٣٨)
قوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ الآية.
(٨٣٤) سبب نزولها أن اليهود عيَّروا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بكثرة التزويج، وقالوا: لو كان نبياً كما يزعم، شغلته النبوَّة عن تزويج النساء، فنزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
ومعنى الآية: أن الرسل قبلك كانوا بشراً لهم أزواج، يعني النساء، وذريَّة، يعني الأولاد. وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي بأمره، وهذا جواب للذين اقترحوا عليه الآيات.
قوله تعالى: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: لكل أجل من آجال الخَلق كتاب عند الله، قاله الحسن. والثاني: أنه من المقدّم والمؤخّر، والمعنى: لكل كتاب ينزل من السماء أجل، قاله الضحاك والفراء. والثالث: لكل أجل قدَّره الله عزّ وجلّ ولكل أمر قضاه كتاب أُثبت فيه ولا تكون آية ولا غيرها إِلا بأجل قد قضاه الله في كتاب، هذا معنى قول ابن جرير.
[سورة الرعد (١٣) : آية ٣٩]
يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (٣٩)
قوله تعالى: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم: «ويثبت» ساكنة الثاء خفيفة الباء. وقرأ ابن عامر: وحمزة، والكسائي: «ويثبِّت» مشددة الباء مفتوحة الثاء. قال أبو علي: المعنى: ويثبِّته، فاستغنى بتعدية الأول من الفعلين عن تعدية الثاني.
واختلف المفسرون في المراد بالذي يمحو ويثبِت على ثمانية أقوال «١» : أحدها: أنه عامّ، في
__________
(١) قال الإمام الطبري رحمه الله ٧/ ٤٠٣: وأولى الأقوال التي ذكرت في ذلك بتأويل الآية وأشبهها بالصواب، القول الذي ذكرناه عن الحسن ومجاهد، وذلك أن الله تعالى ذكره توعّد المشركين الذين سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم الآيات بالعقوبة، وتهددهم بها، وقال لهم: وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ، يعلمهم بذلك أن لقضائه فيهم أجلا مثبتا في كتاب، هم مؤخّرون إلى وقت مجيء ذلك الأجل، ثم قال لهم:
فإذا جاء ذلك الأجل، يجيء الله بما شاء ممن قد دنا أجله وانقطع رزقه، أو حان هلاكه أو اتضاعه من رفعة أو هلاك مال، فيقضي ذلك في خلقه، فذلك محوه، ويثبت ما شاء ممن بقي أجله ورزقه وأكله فيتركه على ما هو عليه فلا يمحوه.
أنه يمحو ما يشاء، ويثبت، إِلا الشقاوة والسعادة، والحياة والموت، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، ودليل هذا القول ما روى مسلم في (صحيحه) من حديث حذيفة بن أسيد قال:
(٨٣٥) سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «إِذا مضت على النطفة خمس وأربعون ليلة، يقول الملَك الموكَّل: أذَكر أم أنثى؟ فيقضي الله عزّ وجلّ، ويكتب الملَك، فيقول: أشقي، أم سعيد؟ فيقضي الله، ويكتب الملَك، فيقول: عمله وأجله؟ فيقضي الله، ويكتب الملَك، ثم تطوى الصحيفة، فلا يزاد فيها ولا يُنقص منها».
والرابع: يمحو ما يشاء ويثبت، إِلا الشقاوة والسعادة لا يغيَّران، قاله مجاهد. والخامس: يمحو من جاء أجله، ويثبت من لم يجئ أجله، قاله الحسن. والسادس: يمحو من ذنوب عباده ما يشاء فيغفرها، ويثبت ما يشاء فلا يغفرها، روي عن سعيد بن جبير. والسابع: يمحو ما يشاء بالتوبة، ويثبت مكانها حسنات، قاله عكرمة. والثامن: يمحو من ديوان الحفظة ما ليس فيه ثواب ولا عقاب، ويثبت ما فيه ثواب وعقاب، قاله الضحاك، وأبو صالح. وقال ابن السائب: القول كلُّه يُكتَب، حتى إِذا كان في يوم الخميس، طُرح منه كل شيء ليس فيه ثواب ولا عقاب، مثل قولك: أكلتُ، شربت، دخلت، خرجت، ونحوه، وهو صادق، ويُثبت ما فيه الثواب والعقاب.
قوله تعالى: وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ قال الزجاج: أصل الكتاب. قال المفسرون: وهو اللوح
(٨٣٦) «إِن الله تعالى في ثلاث ساعات يبقَين من الليل ينظر في الكتاب الذي لا ينظر فيه أحد غيره، فيمحو ما يشاء ويثبت». وروى عكرمة عن ابن عباس قال: هما كتابان، كتاب سوى أم الكتاب يمحو منه ما يشاء ويثبت، وعنده أمّ الكتاب لا يغيّر منه شيء.
[سورة الرعد (١٣) : آية ٤٠]
وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (٤٠)
قوله تعالى: وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أي: من العذاب وأنت حيٌّ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل أن نريَك ذلك، فليس عليك إِلا أن تبلّغ، وَعَلَيْنَا الْحِسابُ قال مقاتل: يعني الجزاء. وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس أن قوله: فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ نُسخ بآية السيف وفرض الجهاد، وبه قال قتادة.
[سورة الرعد (١٣) : آية ٤١]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤١)
قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها فيه خمسة أقوال «١» :
أحدها: أنه ما يفتح الله على نبيه من الأرض، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الحسن، والضّحّاك. قال مقاتل: (أو لم يروا) يعني: كفار مكة (أنا نأتي الأرض) يعني: أرض مكة «ننقصها من أطرافها» يعني: ما حولها. والثاني: أنها القرية تخرب حتى تبقى الأبيات في ناحيتها، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال عكرمة. والثالث: أنه نقص أهلها وبركتها، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
وقال الشعبي: نقص الأنفس والثمرات. والرابع: أنه ذهاب فقهائها وخيار أهلها، رواه عطاء عن ابن عباس. والخامس: أنه موت أهلها، قاله مجاهد، وعطاء، وقتادة.
قوله تعالى: وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ قال ابن قتيبة: لا يتعقَّبه أحد بتغيير ولا نقص. وقد شرحنا معنى سرعة الحساب في سورة (البقرة) «٢».
- قلت: الصواب أنه ضعيف جدا، قال الذهبي في «الميزان» ٢/ ٩٨: قال البخاري والنسائي: منكر الحديث.
ثم ذكر الذهبي هذا الحديث بأتم منه، وقال: فهذه ألفاظ منكرة، لم يأت بها غير زيادة.
وقاعدة البخاري: كل من قلت عنه منكر الحديث، فلا تحل الرواية عنه.
__________
(١) قال الإمام الطبري رحمه الله ٧/ ٤٠٨: وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب قول من قال: بظهور المسلمين من أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم عليها وقهرهم أهلها، أفلا يعتبرون بذلك فيخافون ظهورهم على أرضهم وقهرهم إياهم؟ وذلك أن الله توعد الذين سألوا رسوله الآيات من مشركي قومه بقوله: وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ... ، ثم وبّخهم تعالى ذكره بسوء اعتبارهم بما يعاينون من فعل الله بضربائهم من الكفار، وهم مع ذلك يسألون الآيات، فقال: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها بقهر أهلها والغلبة عليها من أطرافها وجوانبها، وهم لا يعتبرون بما يرون من ذلك.
(٢) سورة البقرة: ٢٠٢.
[سورة الرعد (١٣) : آية ٤٢]
وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (٤٢)قوله تعالى: وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني: كفار الأمم الخالية، مكروا بأنبيائهم يقصدون قتلهم، كما مكرت قريش برسول الله ﷺ ليقتلوه. فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يعني: أن مَكر الماكرين مخلوق له، ولا يضرُّ إِلا بإرادته وفي هذا تسلية لرسول الله ﷺ وتسكين له. يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ من خير وشر، ولا يقع ضرر إلّا بإذنه. وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: «وسيعلم الكافر». قال ابن عباس: يعني: أبا جهل. وقال الزّجّاج: الكافر ها هنا: اسم جنس. وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «الكفار» على الجمع.
قوله تعالى: لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ أي: لمن الجنة آخر الأمر.
[سورة الرعد (١٣) : آية ٤٣]
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (٤٣)
قوله تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا فيهم قولان: أحدهما: أنهم اليهود والنصارى. والثاني: كفار قريش. قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً أي: شاهداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ بما أظهرَ من الآيات، وأبان من الدلالات على نبوَّتي. قوله تعالى: وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ فيه سبعة أقوال «١» : أحدها: أنهم علماء اليهود والنصارى، رواه العوفي عن ابن عباس. والثاني: أنه عبد الله بن سلام، قاله الحسن، ومجاهد، وعِكرمة، وابن زيد، وابن السائب، ومُقاتل. والثالث: أنهم قوم من أهل الكتاب كانوا يشهدون بالحق، منهم عبد الله بن سلام، وسلمان الفارسي، وتميم الداريّ، قاله قتادة. والرابع: أنه جبريل عليه السلام، قاله سعيد بن جُبير. والخامس: أنه علي بن أبي طالب، قاله ابن الحنفية. والسادس: أنه ابن يامين، قاله شمر. والسابع: أنه الله عزّ وجلّ، روي عن الحسن، ومجاهد، واختاره الزجاج واحتجَّ له بقراءة من قرأ: «ومِنْ عِندِه عُلِمَ الكتابُ» وهي قراءة ابن السّميفع، وابن أبي عبلة، ومجاهد، وأبي حياة. ورواية ابن أبي سريج عن الكسائي: «ومِنْ» بكسر الميم «عِندِه» بكسر الدال «عُلِمَ» بضم العين وكسر اللام وفتح الميم «الكتابُ» بالرفع. وقرأ الحسن «ومِنْ» بكسر الميم «عندِه» بكسر الدال «عِلْمُ» بكسر العين وضمِّ الميم «الكتابِ» مضاف، كأنه قال: أنزل من علم الله عزّ وجلّ.
أنهم يعلمون ذلك من كتبهم المنزّلة.
وقال في أَنها نزلت في عبد الله بن سلام: وهذا القول غريب، لأن هذه الآية مكية، وعبد الله بن سلام إنما أسلم في أول مقدم رسول الله ﷺ المدينة، والأظهر في هذا ما قاله العوفي.