تفسير سورة سورة النحل من كتاب تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد
المعروف بـالتحرير والتنوير
.
لمؤلفه
ابن عاشور
.
المتوفي سنة 1393 هـ
سميت هذه السورة عند السلف سورة النحل، وهو اسمها المشهور في المصاحف وكتب التفسير وكتب السنة.
ووجه تسميتها بذلك أن لفظ النحل لم يذكر في سورة أخرى.
وعن قتادة أنها تسمى سورة النعم أي بكسر النون وفتح العين. قال ابن عطية : لما عدد الله فيها من النعم على عباده.
وهي مكية في قول الجمهور وهو عن أبن عباس وابن الزبير. وقيل ؛ إلا ثلاث آيات نزلت بالمدينة منصرف النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة أحد، وهي قوله تعالى ﴿ وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ﴾ إلى آخر السورة. قيل : نزلت في نسخ عزم النبي صلى الله عليه وسلم على أن يمثل بسبعين من المشركين أن أظفره الله بهم مكافأة على تمثيلهم بحمزة.
وعن قتادة وجابر بن زيد أن أولها مكي إلى قوله تعالى ﴿ والذين هاجروا في الله من بعد ظلموا ﴾ فهو مدني إلى آخر السورة.
وسيأتي في تفسير قوله تعالى ﴿ ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ﴾ ما يرجح أن بعض السورة مكي وبعضها مدني، وبعضها نزل بعد الهجرة إلى الحبشة كما يدل عليه قوله تعالى ﴿ ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ﴾، وبعضها متأخر النزول عن سورة الأنعام لقوله في هذه ﴿ وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل ﴾، يعني بما قص من قبل قوله تعالى ﴿ وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ﴾ الآيات.
وذكر القرطبي أنه روي عن عثمان بن مظعون : أما نزلت هذه الآية قرأتها على أبي طالب فتعجب وقال : يا آل غالب اتبعوا ابن أخي تفلحوا فوالله إن الله أرسله ليأمركم بمكارم الأخلاق.
وروى أحمد عن ابن عباس أن عثمان بن مظعون لما نزلت هذه الآية كان جالسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم قال : فذلك حين استقر الإيمان في قلبي وأحببت محمدا صلى الله عليه وسلم.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره الله أن يضعها في موضعها هذا من هذه السورة.
وهذه السورة نزلت بعد سورة الأنبياء وقبل سورة ألم السجدة. وقد عدت الثانية والسبعين في ترتيب نزول السور.
وآيها مائة وثمان وعشرون بلا خلاف. ووقع للخفاجي عن الداني أنها نيف وتسعون. ولعله خطأ أو تحريف أو نقص.
أغراض هذه السورة
معظم ما اشتملت عليه السورة إكثار متنوع الأدلة على تفرد الله تعالى بالإلهية، والأدلة على فساد دين الشرك وإظهار شناعته.
وأدلة إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
وإنزال القرآن عليه صلى الله عليه وسلم.
وإن شريعة الإسلام قائمة على أصول ملة إبراهيم عليه السلام.
وإثبات البعث والجزاء ؛ فابتدئت بالإنذار بأنه قد اقترب حلول ما أنذر به المشركون من عذاب الله الذي يستهزئون به، وتلا ذلك قرع المشركين وزجرهم على تصلبهم في شركهم وتكذيبهم.
وانتقل إلى الاستدلال على إبطال عقيدة الشرك ؛ فابتدئ بالتذكير بخلق السماوات والأرض، وما في السماء من شمس وقمر ونجوم، وما في الأرض من ناس وحيوان ونبات وبحار وجبال، وأعراض الليل والنهار.
وما في أطوار الإنسان وأحواله من العبر.
وخصت النحل وثمراتها بالذكر لوفرة منافعها والاعتبار بإلهامها إلى تدبير بيوتها وإفراز شهدها.
والتنويه بالقرآن وتنزيهه عن اقتراب الشيطان، وإبطال افترائهم على القرآن.
والاستدلال على إمكان البعث وأنه تكوين كتكوين الموجودات.
والتحذير مما حل بالأمم التي أشركت بالله وكذبت رسله عليهم السلام عذاب الدنيا وما ينتظرهم من عذاب الآخرة. وقابل ذلك بضده من نعيم المتقين المصدقين والصابرين على أذى المشركين والذين هاجروا في الله وظلموا.
والتحذير من الارتداد عن الإسلام، والترخيص لمن أكره على الكفر في التقية من المكرهين.
والأمر بأصول من الشريعة ؛ من تأصيل العدل، والإحسان، والمواساة، والوفاء بالعهد، وإبطال الفحشاء والمنكر والبغي، ونقض العهود، وما على ذلك من جزاء بالخير في الدنيا والآخرة.
وأدمج في ذلك ما فيها من العبر والدلائل، والامتنان على الناس بما في ذلك من المنافع الطيبات المنتمة، والمحاسن، وحسن المناظر، ومعرفة الأوقات، وعلامات السير في البر والبحر، ومن ضرب الأمثال.
ومقابلة الأعمال بأضدادها.
والتحذير من الوقوع في حبائل الشيطان.
والإنذار بعواقب كفران النعمة.
ثم عرض لهم بالدعوة إلى التوبة ﴿ ثم إن ربك للذين علموا السوء بجهالة ﴾ الخ....
وملاك طرائق دعوة الإسلام ﴿ ادع إلى سبيل ربك بالحكمة ﴾.
وتثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم ووعده بتأييد الله إياه.
ووجه تسميتها بذلك أن لفظ النحل لم يذكر في سورة أخرى.
وعن قتادة أنها تسمى سورة النعم أي بكسر النون وفتح العين. قال ابن عطية : لما عدد الله فيها من النعم على عباده.
وهي مكية في قول الجمهور وهو عن أبن عباس وابن الزبير. وقيل ؛ إلا ثلاث آيات نزلت بالمدينة منصرف النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة أحد، وهي قوله تعالى ﴿ وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ﴾ إلى آخر السورة. قيل : نزلت في نسخ عزم النبي صلى الله عليه وسلم على أن يمثل بسبعين من المشركين أن أظفره الله بهم مكافأة على تمثيلهم بحمزة.
وعن قتادة وجابر بن زيد أن أولها مكي إلى قوله تعالى ﴿ والذين هاجروا في الله من بعد ظلموا ﴾ فهو مدني إلى آخر السورة.
وسيأتي في تفسير قوله تعالى ﴿ ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ﴾ ما يرجح أن بعض السورة مكي وبعضها مدني، وبعضها نزل بعد الهجرة إلى الحبشة كما يدل عليه قوله تعالى ﴿ ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ﴾، وبعضها متأخر النزول عن سورة الأنعام لقوله في هذه ﴿ وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل ﴾، يعني بما قص من قبل قوله تعالى ﴿ وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ﴾ الآيات.
وذكر القرطبي أنه روي عن عثمان بن مظعون : أما نزلت هذه الآية قرأتها على أبي طالب فتعجب وقال : يا آل غالب اتبعوا ابن أخي تفلحوا فوالله إن الله أرسله ليأمركم بمكارم الأخلاق.
وروى أحمد عن ابن عباس أن عثمان بن مظعون لما نزلت هذه الآية كان جالسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم قال : فذلك حين استقر الإيمان في قلبي وأحببت محمدا صلى الله عليه وسلم.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره الله أن يضعها في موضعها هذا من هذه السورة.
وهذه السورة نزلت بعد سورة الأنبياء وقبل سورة ألم السجدة. وقد عدت الثانية والسبعين في ترتيب نزول السور.
وآيها مائة وثمان وعشرون بلا خلاف. ووقع للخفاجي عن الداني أنها نيف وتسعون. ولعله خطأ أو تحريف أو نقص.
أغراض هذه السورة
معظم ما اشتملت عليه السورة إكثار متنوع الأدلة على تفرد الله تعالى بالإلهية، والأدلة على فساد دين الشرك وإظهار شناعته.
وأدلة إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
وإنزال القرآن عليه صلى الله عليه وسلم.
وإن شريعة الإسلام قائمة على أصول ملة إبراهيم عليه السلام.
وإثبات البعث والجزاء ؛ فابتدئت بالإنذار بأنه قد اقترب حلول ما أنذر به المشركون من عذاب الله الذي يستهزئون به، وتلا ذلك قرع المشركين وزجرهم على تصلبهم في شركهم وتكذيبهم.
وانتقل إلى الاستدلال على إبطال عقيدة الشرك ؛ فابتدئ بالتذكير بخلق السماوات والأرض، وما في السماء من شمس وقمر ونجوم، وما في الأرض من ناس وحيوان ونبات وبحار وجبال، وأعراض الليل والنهار.
وما في أطوار الإنسان وأحواله من العبر.
وخصت النحل وثمراتها بالذكر لوفرة منافعها والاعتبار بإلهامها إلى تدبير بيوتها وإفراز شهدها.
والتنويه بالقرآن وتنزيهه عن اقتراب الشيطان، وإبطال افترائهم على القرآن.
والاستدلال على إمكان البعث وأنه تكوين كتكوين الموجودات.
والتحذير مما حل بالأمم التي أشركت بالله وكذبت رسله عليهم السلام عذاب الدنيا وما ينتظرهم من عذاب الآخرة. وقابل ذلك بضده من نعيم المتقين المصدقين والصابرين على أذى المشركين والذين هاجروا في الله وظلموا.
والتحذير من الارتداد عن الإسلام، والترخيص لمن أكره على الكفر في التقية من المكرهين.
والأمر بأصول من الشريعة ؛ من تأصيل العدل، والإحسان، والمواساة، والوفاء بالعهد، وإبطال الفحشاء والمنكر والبغي، ونقض العهود، وما على ذلك من جزاء بالخير في الدنيا والآخرة.
وأدمج في ذلك ما فيها من العبر والدلائل، والامتنان على الناس بما في ذلك من المنافع الطيبات المنتمة، والمحاسن، وحسن المناظر، ومعرفة الأوقات، وعلامات السير في البر والبحر، ومن ضرب الأمثال.
ومقابلة الأعمال بأضدادها.
والتحذير من الوقوع في حبائل الشيطان.
والإنذار بعواقب كفران النعمة.
ثم عرض لهم بالدعوة إلى التوبة ﴿ ثم إن ربك للذين علموا السوء بجهالة ﴾ الخ....
وملاك طرائق دعوة الإسلام ﴿ ادع إلى سبيل ربك بالحكمة ﴾.
وتثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم ووعده بتأييد الله إياه.
ﰡ
وَأُدْمِجَ فِي ذَلِكَ مَا فِيهَا مِنَ الْعِبَرِ وَالدَّلَائِلِ، وَالِامْتِنَانِ عَلَى النَّاسِ بِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَنَافِعِ الطَّيِّبَاتِ الْمُنْتَظِمَةِ، وَالْمَحَاسِنِ، وَحُسْنِ الْمَنَاظِرِ، وَمَعْرِفَةِ الْأَوْقَاتِ، وَعَلَامَاتِ السَّيْرِ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَمِنْ ضَرْبِ الْأَمْثَالِ.
وَمُقَابَلَةِ الْأَعْمَالِ بِأَضْدَادِهَا.
وَالتَّحْذِيرُ مِنَ الْوُقُوعِ فِي حَبَائِلِ الشَّيْطَانِ.
وَالْإِنْذَارُ بِعَوَاقِبِ كُفْرَانِ النِّعْمَةِ.
ثُمَّ عَرَّضَ لَهُمْ بِالدَّعْوَةِ إِلَى التَّوْبَةِ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ [سُورَة النَّحْل: ١١٩] إِلَخْ....
وَمِلَاكُ طَرَائِقِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ [سُورَة النَّحْل: ١٢٥].
وتثبيت الرَّسُول- عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام- وَوَعْدُهُ بِتَأْيِيدِ الله إِيَّاه.
[١]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ١]
أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ.
لَمَّا كَانَ مُعْظَمُ أَغْرَاضِ هَذِهِ السُّورَةِ زَجْرَ الْمُشْرِكِينَ عَنِ الْإِشْرَاكِ وَتَوَابِعِهِ وَإِنْذَارَهُمْ بِسُوءِ عَاقِبَةِ ذَلِكَ، وَكَانَ قَدْ تَكَرَّرَ وَعِيدُهُمْ مِنْ قَبْلُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ بِيَوْمٍ يَكُونُ الْفَارِقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فَتَزُولُ فِيهِ شَوْكَتُهُمْ وَتَذْهَبُ شِدَّتُهُمْ. وَكَانُوا قد استبطأوا ذَلِكَ الْيَوْمَ حَتَّى اطْمَأَنُّوا أَنَّهُ غَيْرُ وَاقع فصاروا يهزأون بالنبيء- عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام- وَالْمُسْلِمِينَ فَيَسْتَعْجِلُونَ حُلُولَ ذَلِكَ الْيَوْمِ.
صُدِّرَتِ السُّورَةُ بِالْوَعِيدِ الْمَصُوغِ فِي صُورَةِ الْخَبَرِ بِأَنْ قَدْ حَلَّ ذَلِكَ الْمُتَوَعَّدُ بِهِ.
فَجِيءَ بِالْمَاضِي الْمُرَادِ بِهِ الْمُسْتَقْبَلِ الْمُحَقَّقِ الْوُقُوعِ بِقَرِينَةِ تَفْرِيعِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ، لِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ اسْتِعْجَالِ حُلُولِ ذَلِكَ الْيَوْمِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَمَّا يَحُلَّ بَعْدُ.
وَالْأَمْرُ: مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، كَالْوَعْدِ بِمَعْنَى الْمَوْعُودِ، أَيْ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ. وَالْمُرَادُ مِنَ الْأَمْرِ بِهِ تَقْدِيرُهُ وَإِرَادَةُ حُصُولِهِ فِي الْأَجَلِ الْمُسَمَّى الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْحِكْمَةُ.
وَمُقَابَلَةِ الْأَعْمَالِ بِأَضْدَادِهَا.
وَالتَّحْذِيرُ مِنَ الْوُقُوعِ فِي حَبَائِلِ الشَّيْطَانِ.
وَالْإِنْذَارُ بِعَوَاقِبِ كُفْرَانِ النِّعْمَةِ.
ثُمَّ عَرَّضَ لَهُمْ بِالدَّعْوَةِ إِلَى التَّوْبَةِ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ [سُورَة النَّحْل: ١١٩] إِلَخْ....
وَمِلَاكُ طَرَائِقِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ [سُورَة النَّحْل: ١٢٥].
وتثبيت الرَّسُول- عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام- وَوَعْدُهُ بِتَأْيِيدِ الله إِيَّاه.
[١]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١)أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ.
لَمَّا كَانَ مُعْظَمُ أَغْرَاضِ هَذِهِ السُّورَةِ زَجْرَ الْمُشْرِكِينَ عَنِ الْإِشْرَاكِ وَتَوَابِعِهِ وَإِنْذَارَهُمْ بِسُوءِ عَاقِبَةِ ذَلِكَ، وَكَانَ قَدْ تَكَرَّرَ وَعِيدُهُمْ مِنْ قَبْلُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ بِيَوْمٍ يَكُونُ الْفَارِقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فَتَزُولُ فِيهِ شَوْكَتُهُمْ وَتَذْهَبُ شِدَّتُهُمْ. وَكَانُوا قد استبطأوا ذَلِكَ الْيَوْمَ حَتَّى اطْمَأَنُّوا أَنَّهُ غَيْرُ وَاقع فصاروا يهزأون بالنبيء- عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام- وَالْمُسْلِمِينَ فَيَسْتَعْجِلُونَ حُلُولَ ذَلِكَ الْيَوْمِ.
صُدِّرَتِ السُّورَةُ بِالْوَعِيدِ الْمَصُوغِ فِي صُورَةِ الْخَبَرِ بِأَنْ قَدْ حَلَّ ذَلِكَ الْمُتَوَعَّدُ بِهِ.
فَجِيءَ بِالْمَاضِي الْمُرَادِ بِهِ الْمُسْتَقْبَلِ الْمُحَقَّقِ الْوُقُوعِ بِقَرِينَةِ تَفْرِيعِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ، لِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ اسْتِعْجَالِ حُلُولِ ذَلِكَ الْيَوْمِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَمَّا يَحُلَّ بَعْدُ.
وَالْأَمْرُ: مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، كَالْوَعْدِ بِمَعْنَى الْمَوْعُودِ، أَيْ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ. وَالْمُرَادُ مِنَ الْأَمْرِ بِهِ تَقْدِيرُهُ وَإِرَادَةُ حُصُولِهِ فِي الْأَجَلِ الْمُسَمَّى الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْحِكْمَةُ.
96
وَفِي التَّعْبِيرِ عَنْهُ بِأَمْرِ اللَّهِ إِبْهَامٌ يُفِيدُ تَهْوِيلَهُ وَعَظَمَتَهُ لِإِضَافَتِهِ لِمَنْ لَا يَعْظُمُ عَلَيْهِ شَيْءٌ.
وَقَدْ عَبَّرَ عَنْهُ تَارَاتٍ بِوَعْدِ اللَّهِ وَمَرَّاتٍ بِأَجَلِ اللَّهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَالْخِطَابُ لِلْمُشْرِكِينَ ابْتِدَاءً لِأَنَّ اسْتِعْجَالَ الْعَذَابِ مِنْ خِصَالِهِمْ، قَالَ تَعَالَى:
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ [سُورَة الْحَج: ٤٧].
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَامِلًا لِلْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ عَذَابَ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ الْكَافِرُونَ يَسْتَعْجِلُونَ بِهِ تَهَكُّمًا لِظَنِّهِمْ أَنَّهُ غَيْرُ آتٍ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُضْمِرُونَ فِي نُفُوسِهِمِ اسْتِبْطَاءَهُ وَيُحِبُّونَ تَعْجِيلَهُ لِلْكَافِرِينَ.
فَجُمْلَةُ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ تَفْرِيعٌ عَلَى أَتى أَمْرُ اللَّهِ وَهِيَ مِنَ الْمَقْصُودِ بِالْإِنْذَارِ.
وَالِاسْتِعْجَالُ: طَلَبُ تَعْجِيلِ حُصُولِ شَيْءٍ، فَمَفْعُولُهُ هُوَ الَّذِي يَقَعُ التَّعْجِيلُ بِهِ.
وَيَتَعَدَّى الْفِعْلُ إِلَى أَكْثَرِ مِنْ وَاحِدٍ بِالْبَاءِ فَقَالُوا: اسْتَعْجِلْ بِكَذَا. وَقَدْ مَضَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٥٧] قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ.
فَضَمِيرُ تَسْتَعْجِلُوهُ إِمَّا عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ فَلَا تَسْتَعْجِلُوا اللَّهَ. وَحُذِفَ الْمُتَعَلِّقُ بِ تَسْتَعْجِلُوهُ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: أَتى أَمْرُ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ فَلَا تَسْتَعْجِلُوا اللَّهَ بِأَمْرِهِ، عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ [سُورَة الْأَنْبِيَاء: ٣٧].
وَقِيلَ الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى أَمْرُ اللَّهِ، وَعَلَيْهِ تَكُونُ تَعْدِيَةُ فِعْلِ الِاسْتِعْجَالِ إِلَيْهِ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ.
وَالْمُرَادُ مِنَ النَّهْيِ هُنَا دَقِيقٌ لَمْ يَذْكُرُوهُ فِي مَوَارِدِ صِيَغِ النَّهْيِ. وَيَجْدُرُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّسْوِيَةِ كَمَا تَرِدُ صِيغَةُ الْأَمْرِ لِلتَّسْوِيَةِ، أَيْ لَا جَدْوَى فِي اسْتِعْجَالِهِ لِأَنَّهُ لَا يُعَجَّلُ قَبْلَ وَقْتِهِ الْمُؤَجَّلِ لَهُ.
وَقَدْ عَبَّرَ عَنْهُ تَارَاتٍ بِوَعْدِ اللَّهِ وَمَرَّاتٍ بِأَجَلِ اللَّهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَالْخِطَابُ لِلْمُشْرِكِينَ ابْتِدَاءً لِأَنَّ اسْتِعْجَالَ الْعَذَابِ مِنْ خِصَالِهِمْ، قَالَ تَعَالَى:
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ [سُورَة الْحَج: ٤٧].
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَامِلًا لِلْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ عَذَابَ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ الْكَافِرُونَ يَسْتَعْجِلُونَ بِهِ تَهَكُّمًا لِظَنِّهِمْ أَنَّهُ غَيْرُ آتٍ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُضْمِرُونَ فِي نُفُوسِهِمِ اسْتِبْطَاءَهُ وَيُحِبُّونَ تَعْجِيلَهُ لِلْكَافِرِينَ.
فَجُمْلَةُ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ تَفْرِيعٌ عَلَى أَتى أَمْرُ اللَّهِ وَهِيَ مِنَ الْمَقْصُودِ بِالْإِنْذَارِ.
وَالِاسْتِعْجَالُ: طَلَبُ تَعْجِيلِ حُصُولِ شَيْءٍ، فَمَفْعُولُهُ هُوَ الَّذِي يَقَعُ التَّعْجِيلُ بِهِ.
وَيَتَعَدَّى الْفِعْلُ إِلَى أَكْثَرِ مِنْ وَاحِدٍ بِالْبَاءِ فَقَالُوا: اسْتَعْجِلْ بِكَذَا. وَقَدْ مَضَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٥٧] قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ.
فَضَمِيرُ تَسْتَعْجِلُوهُ إِمَّا عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ فَلَا تَسْتَعْجِلُوا اللَّهَ. وَحُذِفَ الْمُتَعَلِّقُ بِ تَسْتَعْجِلُوهُ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: أَتى أَمْرُ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ فَلَا تَسْتَعْجِلُوا اللَّهَ بِأَمْرِهِ، عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ [سُورَة الْأَنْبِيَاء: ٣٧].
وَقِيلَ الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى أَمْرُ اللَّهِ، وَعَلَيْهِ تَكُونُ تَعْدِيَةُ فِعْلِ الِاسْتِعْجَالِ إِلَيْهِ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ.
وَالْمُرَادُ مِنَ النَّهْيِ هُنَا دَقِيقٌ لَمْ يَذْكُرُوهُ فِي مَوَارِدِ صِيَغِ النَّهْيِ. وَيَجْدُرُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّسْوِيَةِ كَمَا تَرِدُ صِيغَةُ الْأَمْرِ لِلتَّسْوِيَةِ، أَيْ لَا جَدْوَى فِي اسْتِعْجَالِهِ لِأَنَّهُ لَا يُعَجَّلُ قَبْلَ وَقْتِهِ الْمُؤَجَّلِ لَهُ.
97
سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا لِأَنَّهَا الْمَقْصُودُ مِنَ الْوَعِيدِ، إِذِ الْوَعِيدُ وَالزَّجْرُ إِنَّمَا كَانَا لِأَجْلِ إِبْطَالِ الْإِشْرَاكِ، فَكَانَتْ جُمْلَةُ أَتى أَمْرُ اللَّهِ كَالْمُقَدِّمَةِ، وَجُمْلَةُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ كَالْمَقْصِدِ.
وَ (مَا) فِي قَوْلِهِ: عَمَّا يُشْرِكُونَ مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ عَنْ إِشْرَاكِهِمْ غَيْرِهِ مَعَهُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُشْرِكُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ، فَعَدَلَ عَنِ الْخِطَابِ لِيَخْتَصَّ التَّبَرُّؤُ مِنْ شَأْنِهِمْ أَنْ يَنْزِلُوا عَنْ شَرَفِ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ.
وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ تَبَعًا لِقَوْلِهِ: فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ.
[٢]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٢]
يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (٢)
كَانَ اسْتِعْجَالُهُمْ بِالْعَذَابِ اسْتِهْزَاءً بِالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَكْذِيبِهِ، وَكَانَ نَاشِئًا عَنْ عَقِيدَةِ الْإِشْرَاكِ الَّتِي مِنْ أُصُولِهَا اسْتِحَالَةُ إِرْسَالِ الرُّسُلِ مِنَ الْبَشَرِ.
وَأُتْبِعَ تَحْقِيقُ مَجِيءِ الْعَذَابِ بِتَنْزِيهِ اللَّهِ عَنِ الشَّرِيكِ فَقُفِّيَ ذَلِكَ بتبرئة الرَّسُول- عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام- مِنَ الْكَذِبِ فِيمَا يُبَلِّغُهُ عَنْ رَبِّهِ وَوَصَفَ لَهُمُ الْإِرْسَالَ وَصْفًا مُوجَزًا. وَهَذَا اعْتِرَاضٌ فِي أَثْنَاءِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى التَّوْحِيدِ.
وَالْمُرَادُ بِالْمَلَائِكَةِ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ وَهُوَ جِبْرَئِيلُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-.
وَالرُّوحُ: الْوَحْيُ. أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ الرُّوحِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ لِأَنَّ الْوَحْيَ بِهِ هدي الْعُقُول إِلَى الْحَقِّ، فَشَبَّهَ الْوَحْيَ بِالرُّوحِ كَمَا يُشَبِّهُ الْعِلْمَ الْحَقَّ بِالْحَيَاةِ، وَكَمَا يُشَبِّهُ الْجَهْلَ بِالْمَوْتِ قَالَ تَعَالَى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ [سُورَة الْأَنْعَام: ١٢٢].
وَ (مَا) فِي قَوْلِهِ: عَمَّا يُشْرِكُونَ مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ عَنْ إِشْرَاكِهِمْ غَيْرِهِ مَعَهُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُشْرِكُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ، فَعَدَلَ عَنِ الْخِطَابِ لِيَخْتَصَّ التَّبَرُّؤُ مِنْ شَأْنِهِمْ أَنْ يَنْزِلُوا عَنْ شَرَفِ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ.
وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ تَبَعًا لِقَوْلِهِ: فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ.
[٢]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٢]
يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (٢)
كَانَ اسْتِعْجَالُهُمْ بِالْعَذَابِ اسْتِهْزَاءً بِالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَكْذِيبِهِ، وَكَانَ نَاشِئًا عَنْ عَقِيدَةِ الْإِشْرَاكِ الَّتِي مِنْ أُصُولِهَا اسْتِحَالَةُ إِرْسَالِ الرُّسُلِ مِنَ الْبَشَرِ.
وَأُتْبِعَ تَحْقِيقُ مَجِيءِ الْعَذَابِ بِتَنْزِيهِ اللَّهِ عَنِ الشَّرِيكِ فَقُفِّيَ ذَلِكَ بتبرئة الرَّسُول- عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام- مِنَ الْكَذِبِ فِيمَا يُبَلِّغُهُ عَنْ رَبِّهِ وَوَصَفَ لَهُمُ الْإِرْسَالَ وَصْفًا مُوجَزًا. وَهَذَا اعْتِرَاضٌ فِي أَثْنَاءِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى التَّوْحِيدِ.
وَالْمُرَادُ بِالْمَلَائِكَةِ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ وَهُوَ جِبْرَئِيلُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-.
وَالرُّوحُ: الْوَحْيُ. أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ الرُّوحِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ لِأَنَّ الْوَحْيَ بِهِ هدي الْعُقُول إِلَى الْحَقِّ، فَشَبَّهَ الْوَحْيَ بِالرُّوحِ كَمَا يُشَبِّهُ الْعِلْمَ الْحَقَّ بِالْحَيَاةِ، وَكَمَا يُشَبِّهُ الْجَهْلَ بِالْمَوْتِ قَالَ تَعَالَى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ [سُورَة الْأَنْعَام: ١٢٢].
98
وَوَجْهُ تَشْبِيهِ الْوَحْيِ بِالرُّوحِ أَنَّ الْوَحْيَ إِذَا وَعَتْهُ الْعُقُولُ حَلَّتْ بِهَا الْحَيَاةُ الْمَعْنَوِيَّةُ وَهُوَ الْعِلْمُ، كَمَا أَنَّ الرُّوحَ إِذَا حَلَّ فِي الْجِسْمِ حَلَّتْ بِهِ الْحَيَاةُ الْحِسِّيَّةُ، قَالَ تَعَالَى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [سُورَة الشورى: ٥٢].
وَمَعْنَى مِنْ أَمْرِهِ الْجِنْسُ، أَيْ مِنْ أُمُوره، وَهِي شؤونه وَمُقَدَّرَاتُهُ الَّتِي اسْتَأْثَرَ بهَا.
وَذَلِكَ وَجه إِضَافَتُهُ إِلَى اللَّهِ كَمَا هُنَا وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا، وَقَوْلَهِ تَعَالَى: يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [سُورَة الرَّعْد: ١١]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [سُورَة الْإِسْرَاء: ٨٥] لِمَا تُفِيدُهُ الْإِضَافَةُ مِنَ التَّخْصِيصِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُنَزِّلُ- بِيَاءٍ تَحْتِيَّةٍ مَضْمُومَةٍ وَفَتْحِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الزَّايِ مَكْسُورَةً-.
وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ- بِسُكُونِ النُّونِ وَتَخْفِيفِ الزَّاي مَكْسُورَةً، والْمَلائِكَةَ مَنْصُوبًا.
وَقَرَأَهُ رَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ- بِتَاءٍ فَوْقِيَّةٍ مَفْتُوحَةً وَفَتْحِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الزَّايِ مَفْتُوحَةً وَرَفْعِ الْمَلائِكَةَ عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ تَتَنَزَّلُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ رَدٌّ عَلَى فُنُونٍ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ فَقَدْ قَالُوا:
لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [سُورَة الزخرف: ٣١] وَقَالُوا:
فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ [سُورَة الزخرف: ٥٣] أَيْ كَانَ مَلِكًا، وَقَالُوا: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ [سُورَة الْفرْقَان: ٧]. وَمَشِيئَةُ اللَّهِ جَارِيَةٌ عَلَى وَفْقِ حِكْمَتِهِ، قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [سُورَة الْأَنْعَام: ١٢٤].
وأَنْ أَنْذِرُوا تَفْسِيرٌ لِفِعْلِ يُنَزِّلُ لِأَنَّهُ فِي تَقْدِيرِ يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالْوَحْيِ.
وَقَوْلُهُ: بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ اعْتِرَاضٌ وَاسْتِطْرَادٌ بَيْنَ فِعْلِ يُنَزِّلُ وَمُفَسِّرِهِ.
وَمَعْنَى مِنْ أَمْرِهِ الْجِنْسُ، أَيْ مِنْ أُمُوره، وَهِي شؤونه وَمُقَدَّرَاتُهُ الَّتِي اسْتَأْثَرَ بهَا.
وَذَلِكَ وَجه إِضَافَتُهُ إِلَى اللَّهِ كَمَا هُنَا وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا، وَقَوْلَهِ تَعَالَى: يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [سُورَة الرَّعْد: ١١]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [سُورَة الْإِسْرَاء: ٨٥] لِمَا تُفِيدُهُ الْإِضَافَةُ مِنَ التَّخْصِيصِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُنَزِّلُ- بِيَاءٍ تَحْتِيَّةٍ مَضْمُومَةٍ وَفَتْحِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الزَّايِ مَكْسُورَةً-.
وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ- بِسُكُونِ النُّونِ وَتَخْفِيفِ الزَّاي مَكْسُورَةً، والْمَلائِكَةَ مَنْصُوبًا.
وَقَرَأَهُ رَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ- بِتَاءٍ فَوْقِيَّةٍ مَفْتُوحَةً وَفَتْحِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الزَّايِ مَفْتُوحَةً وَرَفْعِ الْمَلائِكَةَ عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ تَتَنَزَّلُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ رَدٌّ عَلَى فُنُونٍ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ فَقَدْ قَالُوا:
لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [سُورَة الزخرف: ٣١] وَقَالُوا:
فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ [سُورَة الزخرف: ٥٣] أَيْ كَانَ مَلِكًا، وَقَالُوا: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ [سُورَة الْفرْقَان: ٧]. وَمَشِيئَةُ اللَّهِ جَارِيَةٌ عَلَى وَفْقِ حِكْمَتِهِ، قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [سُورَة الْأَنْعَام: ١٢٤].
وأَنْ أَنْذِرُوا تَفْسِيرٌ لِفِعْلِ يُنَزِّلُ لِأَنَّهُ فِي تَقْدِيرِ يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالْوَحْيِ.
وَقَوْلُهُ: بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ اعْتِرَاضٌ وَاسْتِطْرَادٌ بَيْنَ فِعْلِ يُنَزِّلُ وَمُفَسِّرِهِ.
99
وَ (أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا) مُتَعَلِّقٌ بِ أَنْذِرُوا عَلَى حَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ حَذْفًا مُطَّرِدًا مَعَ (أَنْ). وَالتَّقْدِيرُ: أَنْذِرُوا بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا. وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ بِ (أَنَّ) ضَمِيرُ الشَّأْنِ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْخَبَرُ مَسُوقًا لِلَّذِينَ اتَّخَذُوا مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى وَكَانَ ذَلِكَ ضَلَالًا يَسْتَحِقُّونَ عَلَيْهِ الْعِقَابَ جَعَلَ إِخْبَارَهُمْ بضدّ اعْتِقَادهم وتحذيرهم مِمَّا هُمْ فِيهِ إِنْذَارًا.
وَفَرَّعَ عَلَيْهِ فَاتَّقُونِ وَهُوَ أَمْرٌ بِالتَّقْوَى الشَّامِلَةِ لِجَمِيعِ الشَّرِيعَةِ.
وَقَدْ أَحَاطَتْ جُمْلَةُ أَنْ أَنْذِرُوا إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاتَّقُونِ بِالشَّرِيعَةِ كُلِّهَا، لِأَن جملَة أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا تَنْبِيهٌ عَلَى مَا يَرْجِعُ مِنَ الشَّرِيعَةِ إِلَى إِصْلَاحِ الِاعْتِقَادِ وَهُوَ الْأَمْرُ بِكَمَالِ الْقُوَّةِ الْعَقْلِيَّةِ.
وَجُمْلَةُ فَاتَّقُونِ تَنْبِيهٌ عَلَى الِاجْتِنَابِ وَالِامْتِثَالِ اللَّذَيْنِ هُمَا مُنْتَهَى كَمَالِ الْقُوَّة العملية.
[٣]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٣]
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣)
اسْتِئْنَاف بياني ناشىء عَنْ قَوْلِهِ: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ [سُورَة النَّحْل: ١] لِأَنَّهُمْ إِذَا سَمِعُوا ذَلِكَ تَرَقَّبُوا دَلِيلَ تَنْزِيهِ اللَّهِ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ شُرَكَاءُ. فَابْتُدِئَ بِالدَّلَالَةِ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِالْخَلْقِ وَالتَّقْدِيرِ وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا يُخْلَقُ لَا يُوصَفُ بِالْإِلَهِيَّةِ كَمَا أنبأ عَنهُ التّفريع عَقِبَ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ بِقَوْلِهِ الْآتِي: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [سُورَة النَّحْل: ١٧].
وَأَعْقَبَ قَوْلَهُ: سُبْحانَهُ بِقَوْلِهِ: وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ تَحْقِيقًا لِنَتِيجَةِ الدَّلِيلِ، كَمَا يُذْكَرُ الْمَطْلُوبُ قَبْلَ ذِكْرِ الْقِيَاسِ فِي صِنَاعَةِ الْمَنْطِقِ ثُمَّ يُذْكَرُ ذَلِكَ الْمَطْلُوبُ عَقِبَ الْقِيَاسِ فِي صُورَةِ النَّتِيجَةِ تَحْقِيقًا لِلْوَحْدَانِيَّةِ، لِأَنَّ الضَّلَالَ فِيهَا هُوَ أَصْلُ انْتِقَاضِ عَقَائِدِ أَهْلِ الشِّرْكِ، وَلِأَنَّ إِشْرَاكَهُمْ هُوَ الَّذِي حَدَاهُمْ
وَفَرَّعَ عَلَيْهِ فَاتَّقُونِ وَهُوَ أَمْرٌ بِالتَّقْوَى الشَّامِلَةِ لِجَمِيعِ الشَّرِيعَةِ.
وَقَدْ أَحَاطَتْ جُمْلَةُ أَنْ أَنْذِرُوا إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاتَّقُونِ بِالشَّرِيعَةِ كُلِّهَا، لِأَن جملَة أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا تَنْبِيهٌ عَلَى مَا يَرْجِعُ مِنَ الشَّرِيعَةِ إِلَى إِصْلَاحِ الِاعْتِقَادِ وَهُوَ الْأَمْرُ بِكَمَالِ الْقُوَّةِ الْعَقْلِيَّةِ.
وَجُمْلَةُ فَاتَّقُونِ تَنْبِيهٌ عَلَى الِاجْتِنَابِ وَالِامْتِثَالِ اللَّذَيْنِ هُمَا مُنْتَهَى كَمَالِ الْقُوَّة العملية.
[٣]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٣]
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣)
اسْتِئْنَاف بياني ناشىء عَنْ قَوْلِهِ: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ [سُورَة النَّحْل: ١] لِأَنَّهُمْ إِذَا سَمِعُوا ذَلِكَ تَرَقَّبُوا دَلِيلَ تَنْزِيهِ اللَّهِ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ شُرَكَاءُ. فَابْتُدِئَ بِالدَّلَالَةِ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِالْخَلْقِ وَالتَّقْدِيرِ وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا يُخْلَقُ لَا يُوصَفُ بِالْإِلَهِيَّةِ كَمَا أنبأ عَنهُ التّفريع عَقِبَ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ بِقَوْلِهِ الْآتِي: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [سُورَة النَّحْل: ١٧].
وَأَعْقَبَ قَوْلَهُ: سُبْحانَهُ بِقَوْلِهِ: وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ تَحْقِيقًا لِنَتِيجَةِ الدَّلِيلِ، كَمَا يُذْكَرُ الْمَطْلُوبُ قَبْلَ ذِكْرِ الْقِيَاسِ فِي صِنَاعَةِ الْمَنْطِقِ ثُمَّ يُذْكَرُ ذَلِكَ الْمَطْلُوبُ عَقِبَ الْقِيَاسِ فِي صُورَةِ النَّتِيجَةِ تَحْقِيقًا لِلْوَحْدَانِيَّةِ، لِأَنَّ الضَّلَالَ فِيهَا هُوَ أَصْلُ انْتِقَاضِ عَقَائِدِ أَهْلِ الشِّرْكِ، وَلِأَنَّ إِشْرَاكَهُمْ هُوَ الَّذِي حَدَاهُمْ
100
إِلَى إِنْكَارِ نُبُوَّةِ مَنْ جَاءَ يَنْهَاهُمْ عَنِ الشِّرْكِ فَلَا جَرَمَ كَانَ الِاعْتِنَاءُ بِإِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَإِبْطَالِ الشِّرْكِ مُقَدَّمًا عَلَى إِثْبَاتِ صِدْقِ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- الْمُبْدَأُ بِهِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ [سُورَة النَّحْل: ٢].
وَعُدِّدَتْ دَلَائِلُ مِنَ الْخَلْقِ كُلِّهَا مُتَضَمِّنَةً نِعَمًا جَمَّةً عَلَى النَّاسِ إِدْمَاجًا لِلِامْتِنَانِ بِنِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَتَعْرِيضًا بِأَنَّ الْمُنْعَمَ عَلَيْهِمُ الَّذِينَ عَبَدُوا غَيْرَهُ قَدْ كَفَرُوا نِعْمَتَهُ عَلَيْهِمْ إِذْ شَكَرُوا مَا لَمْ يُنْعِمْ عَلَيْهِمْ وَنَسُوا مَنِ انْفَرَدَ بِالْإِنْعَامِ، وَذَلِكَ أَعْظَمُ الْكُفْرَانِ، كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ عَطْفُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها [سُورَة إِبْرَاهِيم: ٣٤] عَلَى جُمْلَةِ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ [سُورَة النَّحْل: ١٧].
وَالِاسْتِدْلَالُ بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ سَائِرِ الْأَدِلَّةِ وَأَجْمَعُ لِأَنَّهَا مَحْوِيَّةٌ لَهُمَا، وَلِأَنَّهُمَا مِنْ أَعْظَمِ الْمَوْجُودَاتِ، فَلِذَلِكَ ابْتُدِئَ بِهِمَا، لَكِن مَا فِيهِ مِنْ إِجْمَالِ الْمَحْوِيَّاتِ اقْتَضَى أَنْ يُعَقَّبَ بِالِاسْتِدْلَالِ بِأَصْنَافِ الْخَلْقِ وَالْمَخْلُوقَاتِ فَثَنَّى بِخَلْقِ الْإِنْسَانِ
وَأَطْوَارِهِ وَهُوَ أَعْجَبُ الْمَوْجُودَاتِ الْمُشَاهَدَةِ، ثُمَّ بِخَلْقِ الْحَيَوَانِ وأحواله لِأَنَّهُ يجمع الْأَنْوَاعَ الَّتِي تَلِي الْإِنْسَانَ فِي إِتْقَانِ الصُّنْعِ مَعَ مَا فِي أَنْوَاعِهَا مِنَ الْمِنَنِ، ثُمَّ بِخَلْقِ مَا بِهِ حَيَاةُ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ وَهُوَ الْمَاءُ وَالنَّبَاتُ، ثُمَّ بِخَلْقِ أَسْبَابِ الْأَزْمِنَةِ وَالْفُصُولِ وَالْمَوَاقِيتِ، ثُمَّ بِخَلْقِ الْمَعَادِنِ الْأَرْضِيَّةِ، وَانْتَقَلَ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِخَلْقِ الْبِحَارِ ثُمَّ بِخَلْقِ الْجِبَالِ وَالْأَنْهَارِ وَالطُّرُقَاتِ وَعَلَامَاتِ الِاهْتِدَاءِ فِي السَّيْرِ. وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ.
وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِالْحَقِّ لِلْمُلَابَسَةِ. وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِ خَلَقَ إِذِ الْخَلْقُ هُوَ الْمُلَابِسُ لِلْحَقِّ.
وَالْحَقُّ: هُنَا ضِدُّ الْعَبَثِ، فَهُوَ هُنَا بِمَعْنَى الْحِكْمَةِ وَالْجَدِّ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ مَا خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ [سُورَة الْأَنْبِيَاء: ١٦] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا [سُورَة ص: ٢٧]. وَالْحَقُّ وَالصِّدْقُ يُطْلَقَانِ وَصْفَيْنِ لِكَمَالِ الشَّيْءِ فِي نَوْعِهِ.
وَجُمْلَةُ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ مُعْتَرِضَةٌ.
وَعُدِّدَتْ دَلَائِلُ مِنَ الْخَلْقِ كُلِّهَا مُتَضَمِّنَةً نِعَمًا جَمَّةً عَلَى النَّاسِ إِدْمَاجًا لِلِامْتِنَانِ بِنِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَتَعْرِيضًا بِأَنَّ الْمُنْعَمَ عَلَيْهِمُ الَّذِينَ عَبَدُوا غَيْرَهُ قَدْ كَفَرُوا نِعْمَتَهُ عَلَيْهِمْ إِذْ شَكَرُوا مَا لَمْ يُنْعِمْ عَلَيْهِمْ وَنَسُوا مَنِ انْفَرَدَ بِالْإِنْعَامِ، وَذَلِكَ أَعْظَمُ الْكُفْرَانِ، كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ عَطْفُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها [سُورَة إِبْرَاهِيم: ٣٤] عَلَى جُمْلَةِ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ [سُورَة النَّحْل: ١٧].
وَالِاسْتِدْلَالُ بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ سَائِرِ الْأَدِلَّةِ وَأَجْمَعُ لِأَنَّهَا مَحْوِيَّةٌ لَهُمَا، وَلِأَنَّهُمَا مِنْ أَعْظَمِ الْمَوْجُودَاتِ، فَلِذَلِكَ ابْتُدِئَ بِهِمَا، لَكِن مَا فِيهِ مِنْ إِجْمَالِ الْمَحْوِيَّاتِ اقْتَضَى أَنْ يُعَقَّبَ بِالِاسْتِدْلَالِ بِأَصْنَافِ الْخَلْقِ وَالْمَخْلُوقَاتِ فَثَنَّى بِخَلْقِ الْإِنْسَانِ
وَأَطْوَارِهِ وَهُوَ أَعْجَبُ الْمَوْجُودَاتِ الْمُشَاهَدَةِ، ثُمَّ بِخَلْقِ الْحَيَوَانِ وأحواله لِأَنَّهُ يجمع الْأَنْوَاعَ الَّتِي تَلِي الْإِنْسَانَ فِي إِتْقَانِ الصُّنْعِ مَعَ مَا فِي أَنْوَاعِهَا مِنَ الْمِنَنِ، ثُمَّ بِخَلْقِ مَا بِهِ حَيَاةُ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ وَهُوَ الْمَاءُ وَالنَّبَاتُ، ثُمَّ بِخَلْقِ أَسْبَابِ الْأَزْمِنَةِ وَالْفُصُولِ وَالْمَوَاقِيتِ، ثُمَّ بِخَلْقِ الْمَعَادِنِ الْأَرْضِيَّةِ، وَانْتَقَلَ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِخَلْقِ الْبِحَارِ ثُمَّ بِخَلْقِ الْجِبَالِ وَالْأَنْهَارِ وَالطُّرُقَاتِ وَعَلَامَاتِ الِاهْتِدَاءِ فِي السَّيْرِ. وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ.
وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِالْحَقِّ لِلْمُلَابَسَةِ. وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِ خَلَقَ إِذِ الْخَلْقُ هُوَ الْمُلَابِسُ لِلْحَقِّ.
وَالْحَقُّ: هُنَا ضِدُّ الْعَبَثِ، فَهُوَ هُنَا بِمَعْنَى الْحِكْمَةِ وَالْجَدِّ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ مَا خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ [سُورَة الْأَنْبِيَاء: ١٦] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا [سُورَة ص: ٢٧]. وَالْحَقُّ وَالصِّدْقُ يُطْلَقَانِ وَصْفَيْنِ لِكَمَالِ الشَّيْءِ فِي نَوْعِهِ.
وَجُمْلَةُ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ مُعْتَرِضَةٌ.
101
وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ تَعَالَى عَمَّا تُشْرِكُونَ بمثناة فوقية.
[٤]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٤]
خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٤)
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ أَيْضًا. وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ آخَرُ عَلَى انْفِرَادِهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ فِيهَا.
وَذَلِكَ أَنَّهُ بَعْدَ أَنِ اسْتَدَلَّ عَلَيْهِمْ بِخَلْقِ الْعَوَالِمِ الْعُلْيَا وَالسُّفْلَى وَهِيَ مُشَاهَدَةٌ لَدَيْهِمْ انْتَقَلَ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِمْ بِخَلْقِ أَنْفُسِهِمُ الْمَعْلُومِ لَهُمْ. وَأَيْضًا لَمَّا اسْتَدَلَّ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ بِخَلْقِ أَعْظَمِ الْأَشْيَاءِ الْمَعْلُومَةِ لَهُمُ اسْتَدَلَّ عَلَيْهِمْ أَيْضًا بِخَلْقِ أَعْجَبِ الْأَشْيَاءِ لِلْمُتَأَمِّلِ وَهُوَ الْإِنْسَانُ فِي طَرَفَيْ أَطْوَارِهِ مِنْ كَوْنِهِ نُطْفَةً مَهِينَةً إِلَى كَوْنِهِ عَاقِلًا فَصِيحًا مُبِينًا بِمَقَاصِدِهِ وَعُلُومِهِ.
وَتَعْرِيفُ الْإِنْسانَ لِلْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ، وَهُوَ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، أَيْ خَلْقُ الْجِنْسِ الْمَعْلُومِ الَّذِي تَدْعُونَهُ بِالْإِنْسَانِ.
وَقَدْ ذُكِرَ لِلِاعْتِبَارِ بِخَلْقِ الْإِنْسَانِ ثَلَاثَةُ اعْتِبَارَاتٍ: جِنْسُهُ الْمَعْلُومُ بِمَاهِيَّتِهِ وَخَوَاصِّهِ مِنَ الْحَيَوَانِيَّةِ وَالنَّاطِقِيَّةِ وَحُسْنِ الْقَوَامِ، وَبَقِيَّةِ أَحْوَالِ كَوْنِهِ، وَمَبْدَأُ خَلْقِهِ وَهُوَ النُّطْفَةُ الَّتِي هِيَ أَمْهَنُ شَيْءٍ نَشَأَ مِنْهَا أَشْرَفُ نَوْعٍ، وَمُنْتَهَى مَا شَرَّفَهُ بِهِ وَهُوَ الْعَقْلُ. وَذَلِكَ فِي جُمْلَتَيْنِ وَشِبْهِ جُمْلَةٍ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ.
وَالْخَصِيمُ مِنْ صِيَغِ الْمُبَالَغَةِ، أَيْ كَثِيرُ الْخِصَامِ.
ومُبِينٌ خَبَرٌ ثَانٍ عَنْ ضَمِيرِ فَإِذا هُوَ، أَيْ فَإِذَا هُوَ مُتَكَلِّمٌ مُفْصِحٌ عَمَّا فِي ضَمِيرِهِ وَمُرَادِهِ بِالْحَقِّ أَو بِالْبَاطِلِ والمنطق بِأَنْوَاعِ الْحُجَّةِ حَتَّى السَّفْسَطَةِ.
وَالْمُرَادُ: الْخِصَامُ فِي إِثْبَاتِ الشُّرَكَاءِ، وَإِبْطَالُ الْوَحْدَانِيَّةِ، وَتَكْذِيبُ مَنْ يَدْعُونَ إِلَى التَّوْحِيدِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ يس
[٤]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٤]
خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٤)
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ أَيْضًا. وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ آخَرُ عَلَى انْفِرَادِهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ فِيهَا.
وَذَلِكَ أَنَّهُ بَعْدَ أَنِ اسْتَدَلَّ عَلَيْهِمْ بِخَلْقِ الْعَوَالِمِ الْعُلْيَا وَالسُّفْلَى وَهِيَ مُشَاهَدَةٌ لَدَيْهِمْ انْتَقَلَ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِمْ بِخَلْقِ أَنْفُسِهِمُ الْمَعْلُومِ لَهُمْ. وَأَيْضًا لَمَّا اسْتَدَلَّ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ بِخَلْقِ أَعْظَمِ الْأَشْيَاءِ الْمَعْلُومَةِ لَهُمُ اسْتَدَلَّ عَلَيْهِمْ أَيْضًا بِخَلْقِ أَعْجَبِ الْأَشْيَاءِ لِلْمُتَأَمِّلِ وَهُوَ الْإِنْسَانُ فِي طَرَفَيْ أَطْوَارِهِ مِنْ كَوْنِهِ نُطْفَةً مَهِينَةً إِلَى كَوْنِهِ عَاقِلًا فَصِيحًا مُبِينًا بِمَقَاصِدِهِ وَعُلُومِهِ.
وَتَعْرِيفُ الْإِنْسانَ لِلْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ، وَهُوَ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، أَيْ خَلْقُ الْجِنْسِ الْمَعْلُومِ الَّذِي تَدْعُونَهُ بِالْإِنْسَانِ.
وَقَدْ ذُكِرَ لِلِاعْتِبَارِ بِخَلْقِ الْإِنْسَانِ ثَلَاثَةُ اعْتِبَارَاتٍ: جِنْسُهُ الْمَعْلُومُ بِمَاهِيَّتِهِ وَخَوَاصِّهِ مِنَ الْحَيَوَانِيَّةِ وَالنَّاطِقِيَّةِ وَحُسْنِ الْقَوَامِ، وَبَقِيَّةِ أَحْوَالِ كَوْنِهِ، وَمَبْدَأُ خَلْقِهِ وَهُوَ النُّطْفَةُ الَّتِي هِيَ أَمْهَنُ شَيْءٍ نَشَأَ مِنْهَا أَشْرَفُ نَوْعٍ، وَمُنْتَهَى مَا شَرَّفَهُ بِهِ وَهُوَ الْعَقْلُ. وَذَلِكَ فِي جُمْلَتَيْنِ وَشِبْهِ جُمْلَةٍ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ.
وَالْخَصِيمُ مِنْ صِيَغِ الْمُبَالَغَةِ، أَيْ كَثِيرُ الْخِصَامِ.
ومُبِينٌ خَبَرٌ ثَانٍ عَنْ ضَمِيرِ فَإِذا هُوَ، أَيْ فَإِذَا هُوَ مُتَكَلِّمٌ مُفْصِحٌ عَمَّا فِي ضَمِيرِهِ وَمُرَادِهِ بِالْحَقِّ أَو بِالْبَاطِلِ والمنطق بِأَنْوَاعِ الْحُجَّةِ حَتَّى السَّفْسَطَةِ.
وَالْمُرَادُ: الْخِصَامُ فِي إِثْبَاتِ الشُّرَكَاءِ، وَإِبْطَالُ الْوَحْدَانِيَّةِ، وَتَكْذِيبُ مَنْ يَدْعُونَ إِلَى التَّوْحِيدِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ يس
: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [سُورَة الْحجر: ٧٧- ٧٨].
وَالْإِتْيَانُ بِحَرْفِ (إِذَا) الْمُفَاجِأَةِ اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ. اسْتُعِيرَ الْحَرْفُ الدَّالُّ عَلَى مَعْنَى الْمُفَاجَأَةِ لِمَعْنَى تَرَتُّبِ الشَّيْءِ عَلَى غَيْرِ مَا يُظَنُّ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ. وَهَذَا مَعْنًى لَمْ يُوضَعْ لَهُ حَرْفٌ. وَلَا مُفَاجَأَةَ بِالْحَقِيقَةِ هُنَا لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَفْجَأْهُ ذَلِكَ وَلَا فَجَأَ أَحَدًا، وَلَكِنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ بِحَيْثُ لَوْ تَدَبَّرَ النَّاظِرُ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ لَتَرَقَّبَ مِنْهُ الِاعْتِرَافَ بِوَحْدَانِيَّةِ خَالِقِهِ وَبِقُدْرَتِهِ عَلَى إِعَادَةِ خَلْقِهِ، فَإِذَا سَمِعَ مِنْهُ الْإِشْرَاكَ وَالْمُجَادَلَةَ فِي إِبْطَالِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَفِي إِنْكَارِ الْبَعْثِ كَانَ كَمَنْ فَجَأَهُ ذَلِكَ. وَلَمَّا كَانَ حَرْفُ الْمُفَاجَأَةِ يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الْفَجْأَةِ لِلْمُتَكَلِّمِ بِهِ تَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ الْمُفَاجَأَةُ اسْتِعَارَةً تَبَعِيَّةً.
فَإِقْحَامُ حَرْفِ الْمُفَاجَأَةِ جَعَلَ الْكَلَامَ مُفْهِمًا أَمْرَيْنِ هُمَا: التَّعْجِيبُ مِنْ تَطَوُّرِ الْإِنْسَانِ مِنْ أَمْهَنِ حَالَةٍ إِلَى أَبْدَعِ حَالَةٍ وَهِيَ حَالَةُ الْخُصُومَةِ وَالْإِبَانَةِ النَّاشِئَتَيْنِ عَنِ التَّفْكِيرِ وَالتَّعَقُّلِ، وَالدَّلَالَةِ عَلَى كُفْرَانِهِ النِّعْمَةَ وَصَرْفِهِ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ فِي عِصْيَانِ الْمُنْعِمِ عَلَيْهِ. فَالْجُمْلَةُ فِي حَدِّ ذَاتِهَا تَنْوِيهٌ، وَبِضَمِيمَةِ حَرْفِ الْمُفَاجَأَةِ أُدْمِجَتْ مَعَ التَّنْوِيهِ التَّعْجِيبِ. وَلَوْ قِيلَ: فَهُوَ خَصِيمٌ أَوْ فَكَانَ خَصِيمًا لَمْ يَحْصُلْ هَذَا الْمَعْنى البليغ.
[٥- ٧]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : الْآيَات ٥ إِلَى ٧]
وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٥) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٧)
يَجُوزُ أَنْ يَعْطِفَ الْأَنْعامَ عَطْفَ الْمُفْرَدِ عَلَى الْمُفْرَدِ عَطْفًا على الْإِنْسانَ [سُورَة النَّحْل: ٤]، أَيْ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ وَالْأَنْعَامَ، وَهِيَ أَيْضًا مَخْلُوقَةٌ مِنْ نُطْفَةٍ، فَيَحْصُلُ
وَالْإِتْيَانُ بِحَرْفِ (إِذَا) الْمُفَاجِأَةِ اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ. اسْتُعِيرَ الْحَرْفُ الدَّالُّ عَلَى مَعْنَى الْمُفَاجَأَةِ لِمَعْنَى تَرَتُّبِ الشَّيْءِ عَلَى غَيْرِ مَا يُظَنُّ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ. وَهَذَا مَعْنًى لَمْ يُوضَعْ لَهُ حَرْفٌ. وَلَا مُفَاجَأَةَ بِالْحَقِيقَةِ هُنَا لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَفْجَأْهُ ذَلِكَ وَلَا فَجَأَ أَحَدًا، وَلَكِنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ بِحَيْثُ لَوْ تَدَبَّرَ النَّاظِرُ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ لَتَرَقَّبَ مِنْهُ الِاعْتِرَافَ بِوَحْدَانِيَّةِ خَالِقِهِ وَبِقُدْرَتِهِ عَلَى إِعَادَةِ خَلْقِهِ، فَإِذَا سَمِعَ مِنْهُ الْإِشْرَاكَ وَالْمُجَادَلَةَ فِي إِبْطَالِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَفِي إِنْكَارِ الْبَعْثِ كَانَ كَمَنْ فَجَأَهُ ذَلِكَ. وَلَمَّا كَانَ حَرْفُ الْمُفَاجَأَةِ يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الْفَجْأَةِ لِلْمُتَكَلِّمِ بِهِ تَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ الْمُفَاجَأَةُ اسْتِعَارَةً تَبَعِيَّةً.
فَإِقْحَامُ حَرْفِ الْمُفَاجَأَةِ جَعَلَ الْكَلَامَ مُفْهِمًا أَمْرَيْنِ هُمَا: التَّعْجِيبُ مِنْ تَطَوُّرِ الْإِنْسَانِ مِنْ أَمْهَنِ حَالَةٍ إِلَى أَبْدَعِ حَالَةٍ وَهِيَ حَالَةُ الْخُصُومَةِ وَالْإِبَانَةِ النَّاشِئَتَيْنِ عَنِ التَّفْكِيرِ وَالتَّعَقُّلِ، وَالدَّلَالَةِ عَلَى كُفْرَانِهِ النِّعْمَةَ وَصَرْفِهِ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ فِي عِصْيَانِ الْمُنْعِمِ عَلَيْهِ. فَالْجُمْلَةُ فِي حَدِّ ذَاتِهَا تَنْوِيهٌ، وَبِضَمِيمَةِ حَرْفِ الْمُفَاجَأَةِ أُدْمِجَتْ مَعَ التَّنْوِيهِ التَّعْجِيبِ. وَلَوْ قِيلَ: فَهُوَ خَصِيمٌ أَوْ فَكَانَ خَصِيمًا لَمْ يَحْصُلْ هَذَا الْمَعْنى البليغ.
[٥- ٧]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : الْآيَات ٥ إِلَى ٧]
وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٥) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٧)
يَجُوزُ أَنْ يَعْطِفَ الْأَنْعامَ عَطْفَ الْمُفْرَدِ عَلَى الْمُفْرَدِ عَطْفًا على الْإِنْسانَ [سُورَة النَّحْل: ٤]، أَيْ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ وَالْأَنْعَامَ، وَهِيَ أَيْضًا مَخْلُوقَةٌ مِنْ نُطْفَةٍ، فَيَحْصُلُ
103
اعْتِبَارٌ بِهَذَا التَّكْوِينِ الْعَجِيبِ لِشَبَهِهِ بِتَكْوِينِ الْإِنْسَانِ، وَتَكُونُ جُمْلَةُ خَلَقَها بِمُتَعَلِّقَاتِهَا مُسْتَأْنَفَةٌ، فَيَحْصُلُ بِذَلِكَ الِامْتِنَانُ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفُ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ، فَيَكُونُ نَصْبُ الْأَنْعامَ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يُفَسِّرُهُ الْمَذْكُورُ بَعْدَهُ عَلَى طَرِيقَةِ الِاشْتِغَالِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَخَلَقَ الْأَنْعَامَ خَلَقَهَا. فَيَكُونُ الْكَلَامُ مُفِيدًا لِلتَّأْكِيدِ لِقَصْدِ تَقْوِيَةِ الْحُكْمِ اهْتِمَامًا بِمَا فِي الْأَنْعَامِ مِنَ الْفَوَائِدِ فَيَكُونُ امْتِنَانًا عَلَى الْمُخَاطَبِينَ، وَتَعْرِيضًا بِهِمْ، فَإِنَّهُمْ كَفَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ بِخَلْقِهَا فَجَعَلُوا مِنْ نِتَاجِهَا لِشُرَكَائِهِمْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ نَصِيبًا. وَأَيُّ كُفْرَانٍ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُتَقَرَّبَ بِالْمَخْلُوقَاتِ إِلَى غَيْرِ مَنْ خَلَقَهَا. وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ حَصْرٌ عَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ.
وَجُمْلَةُ لَكُمْ فِيها دِفْءٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي خَلَقَها عَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ إِلَّا أَنَّ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ تَمَامُ مُقَابَلَةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [سُورَة النَّحْل: ٤] مِنْ حَيْثُ حُصُولِ الِاعْتِبَارِ ابْتِدَاءً ثُمَّ التَّعْرِيضِ بِالْكُفْرَانِ ثَانِيًا، بِخِلَافِ الْوَجْهِ الثَّانِي فَإِنَّ صَرِيحَهُ الِامْتِنَانُ، وَيَحْصُلُ الِاعْتِبَارُ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ مِنْ الِاهْتِمَامِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها وَمَا بَعْدَهُ إِدْمَاجٌ لِلِامْتِنَانِ.
والْأَنْعامَ: الْإِبِلُ، وَالْبَقَرُ، وَالْغَنَمُ، وَالْمَعِزُ. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ. وَأَشْهَرُ الْأَنْعَامِ عِنْدَ الْعَرَبِ الْإِبِلُ، وَلِذَلِكَ يَغْلِبُ أَنْ يُطْلَقَ لَفْظُ الْأَنْعَامِ عِنْدَهُمْ عَلَى الْإِبِلِ.
وَالْخِطَابُ صَالِحٌ لِشُمُولِ الْمُشْرِكِينَ، وَهُمُ الْمَقْصُودُ ابْتِدَاءً مِنْ الِاسْتِدْلَالِ، وَأَنْ يَشْمَلَ جَمِيعَ النَّاسِ وَلَا سِيَّمَا فِيمَا تَضَمَّنَهُ الْكَلَامُ مِنْ الِامْتِنَانِ.
وَفِيهِ الْتِفَاتٌ مِنْ طَرِيقِ الْغَيْبَةِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عَمَّا يُشْرِكُونَ [سُورَة النَّحْل:
٣] بِاعْتِبَارِ بَعْضِ الْمُخَاطَبِينَ.
وَالدِّفْءُ- بِكَسْرِ الدَّالِ- اسْمٌ لِمَا يُتَدَفَّأُ بِهِ كَالْمِلْءِ وَالْحِمْلِ. وَهُوَ الثِّيَابُ الْمَنْسُوجَةُ مِنْ أَوْبَارِ الْأَنْعَامِ وَأَصْوَافِهَا وَأَشْعَارِهَا تُتَّخَذُ مِنْهَا الْخِيَامُ وَالْمَلَابِسُ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفُ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ، فَيَكُونُ نَصْبُ الْأَنْعامَ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يُفَسِّرُهُ الْمَذْكُورُ بَعْدَهُ عَلَى طَرِيقَةِ الِاشْتِغَالِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَخَلَقَ الْأَنْعَامَ خَلَقَهَا. فَيَكُونُ الْكَلَامُ مُفِيدًا لِلتَّأْكِيدِ لِقَصْدِ تَقْوِيَةِ الْحُكْمِ اهْتِمَامًا بِمَا فِي الْأَنْعَامِ مِنَ الْفَوَائِدِ فَيَكُونُ امْتِنَانًا عَلَى الْمُخَاطَبِينَ، وَتَعْرِيضًا بِهِمْ، فَإِنَّهُمْ كَفَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ بِخَلْقِهَا فَجَعَلُوا مِنْ نِتَاجِهَا لِشُرَكَائِهِمْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ نَصِيبًا. وَأَيُّ كُفْرَانٍ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُتَقَرَّبَ بِالْمَخْلُوقَاتِ إِلَى غَيْرِ مَنْ خَلَقَهَا. وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ حَصْرٌ عَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ.
وَجُمْلَةُ لَكُمْ فِيها دِفْءٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي خَلَقَها عَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ إِلَّا أَنَّ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ تَمَامُ مُقَابَلَةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [سُورَة النَّحْل: ٤] مِنْ حَيْثُ حُصُولِ الِاعْتِبَارِ ابْتِدَاءً ثُمَّ التَّعْرِيضِ بِالْكُفْرَانِ ثَانِيًا، بِخِلَافِ الْوَجْهِ الثَّانِي فَإِنَّ صَرِيحَهُ الِامْتِنَانُ، وَيَحْصُلُ الِاعْتِبَارُ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ مِنْ الِاهْتِمَامِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها وَمَا بَعْدَهُ إِدْمَاجٌ لِلِامْتِنَانِ.
والْأَنْعامَ: الْإِبِلُ، وَالْبَقَرُ، وَالْغَنَمُ، وَالْمَعِزُ. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ. وَأَشْهَرُ الْأَنْعَامِ عِنْدَ الْعَرَبِ الْإِبِلُ، وَلِذَلِكَ يَغْلِبُ أَنْ يُطْلَقَ لَفْظُ الْأَنْعَامِ عِنْدَهُمْ عَلَى الْإِبِلِ.
وَالْخِطَابُ صَالِحٌ لِشُمُولِ الْمُشْرِكِينَ، وَهُمُ الْمَقْصُودُ ابْتِدَاءً مِنْ الِاسْتِدْلَالِ، وَأَنْ يَشْمَلَ جَمِيعَ النَّاسِ وَلَا سِيَّمَا فِيمَا تَضَمَّنَهُ الْكَلَامُ مِنْ الِامْتِنَانِ.
وَفِيهِ الْتِفَاتٌ مِنْ طَرِيقِ الْغَيْبَةِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عَمَّا يُشْرِكُونَ [سُورَة النَّحْل:
٣] بِاعْتِبَارِ بَعْضِ الْمُخَاطَبِينَ.
وَالدِّفْءُ- بِكَسْرِ الدَّالِ- اسْمٌ لِمَا يُتَدَفَّأُ بِهِ كَالْمِلْءِ وَالْحِمْلِ. وَهُوَ الثِّيَابُ الْمَنْسُوجَةُ مِنْ أَوْبَارِ الْأَنْعَامِ وَأَصْوَافِهَا وَأَشْعَارِهَا تُتَّخَذُ مِنْهَا الْخِيَامُ وَالْمَلَابِسُ.
104
فَلَمَّا كَانَتْ تِلْكَ مَادَّةَ النَّسْجِ جُعِلَ الْمَنْسُوجُ كَأَنَّهُ مَظْرُوفٌ فِي الْأَنْعَامِ.
وَخُصَّ الدِّفْءُ بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ عُمُومِ الْمَنَافِعِ لِلْعِنَايَةِ بِهِ.
وَعطف مَنافِعُ عَلَى دِفْءٌ مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ لِأَنَّ أَمْرَ الدِّفْءِ قَلَّمَا تَسْتَحْضِرُهُ الْخَوَاطِرُ.
ثُمَّ عُطِفَ الْأَكْلُ مِنْهَا لِأَنَّهُ مِنْ ذَوَاتِهَا لَا مِنْ ثَمَرَاتِهَا.
وَجُمْلَةُ وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ لَكُمْ فِيها دِفْءٌ.
وَجُمْلَةُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ لَكُمْ فِيها دِفْءٌ. وَهَذَا امْتِنَانٌ بِنِعْمَةِ تَسْخِيرِهَا لِلْأَكْلِ مِنْهَا وَالتَّغَذِّي، وَاسْتِرْدَادِ الْقُوَّةِ لِمَا يَحْصُلُ مِنْ تَغْذِيَتِهَا.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْها تَأْكُلُونَ للاهتمام، لأَنهم شَدِيد وَالرَّغْبَة فِي أَكْلِ اللُّحُومِ، وَلِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ. وَالْإِتْيَانُ بِالْمُضَارِعِ فِي تَأْكُلُونَ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَالِ الْمُتَكَرِّرَةِ.
وَالْإِرَاحَةُ: فِعْلُ الرَّوَاحِ، وَهُوَ الرُّجُوعُ إِلَى الْمَعَاطِنِ، يُقَالُ: أَرَاحَ نِعَمَهُ إِذَا أَعَادَهَا بَعْدَ السُّرُوحِ.
وَالسُّرُوحُ: الْإِسَامَةُ، أَيِ الْغُدُوُّ بِهَا إِلَى الْمَرَاعِي. يُقَالُ: سَرَحَهَا- بِتَخْفِيفِ الرَّاءِ- سَرَحًا وَسُرُوحًا، وَسَرَّحَهَا- بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ- تَسْرِيحًا.
وَتَقْدِيمُ الْإِرَاحَةِ عَلَى التَّسْرِيحِ لِأَنَّ الْجَمَالَ عِنْدَ الْإِرَاحَةِ أَقْوَى وَأَبْهَجُ، لِأَنَّهَا تُقْبِلُ حِينَئِذٍ مَلْأَى الْبُطُونِ حَافِلَةَ الضُّرُوعِ مَرِحَةً بِمَسَرَّةِ الشِّبَعِ وَمَحَبَّةِ الرُّجُوعِ إِلَى مَنَازِلِهَا مِنْ مَعَاطِنَ وَمَرَابِضَ.
وَالْإِتْيَانُ بِالْمُضَارِعِ فِي تُرِيحُونَ وتَسْرَحُونَ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْوَالِ الْمُتَكَرِّرَةِ.
وَفِي تَكَرُّرِهَا تَكَرُّرُ النِّعْمَةِ بِمَنَاظِرِهَا.
وَجُمْلَةُ وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ فَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْضًا. وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى أَشْهَرِ الْأَنْعَامِ عِنْدَهُمْ وَهِيَ الْإِبِلُ، كَقَوْلِهَا
وَخُصَّ الدِّفْءُ بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ عُمُومِ الْمَنَافِعِ لِلْعِنَايَةِ بِهِ.
وَعطف مَنافِعُ عَلَى دِفْءٌ مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ لِأَنَّ أَمْرَ الدِّفْءِ قَلَّمَا تَسْتَحْضِرُهُ الْخَوَاطِرُ.
ثُمَّ عُطِفَ الْأَكْلُ مِنْهَا لِأَنَّهُ مِنْ ذَوَاتِهَا لَا مِنْ ثَمَرَاتِهَا.
وَجُمْلَةُ وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ لَكُمْ فِيها دِفْءٌ.
وَجُمْلَةُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ لَكُمْ فِيها دِفْءٌ. وَهَذَا امْتِنَانٌ بِنِعْمَةِ تَسْخِيرِهَا لِلْأَكْلِ مِنْهَا وَالتَّغَذِّي، وَاسْتِرْدَادِ الْقُوَّةِ لِمَا يَحْصُلُ مِنْ تَغْذِيَتِهَا.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْها تَأْكُلُونَ للاهتمام، لأَنهم شَدِيد وَالرَّغْبَة فِي أَكْلِ اللُّحُومِ، وَلِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ. وَالْإِتْيَانُ بِالْمُضَارِعِ فِي تَأْكُلُونَ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَالِ الْمُتَكَرِّرَةِ.
وَالْإِرَاحَةُ: فِعْلُ الرَّوَاحِ، وَهُوَ الرُّجُوعُ إِلَى الْمَعَاطِنِ، يُقَالُ: أَرَاحَ نِعَمَهُ إِذَا أَعَادَهَا بَعْدَ السُّرُوحِ.
وَالسُّرُوحُ: الْإِسَامَةُ، أَيِ الْغُدُوُّ بِهَا إِلَى الْمَرَاعِي. يُقَالُ: سَرَحَهَا- بِتَخْفِيفِ الرَّاءِ- سَرَحًا وَسُرُوحًا، وَسَرَّحَهَا- بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ- تَسْرِيحًا.
وَتَقْدِيمُ الْإِرَاحَةِ عَلَى التَّسْرِيحِ لِأَنَّ الْجَمَالَ عِنْدَ الْإِرَاحَةِ أَقْوَى وَأَبْهَجُ، لِأَنَّهَا تُقْبِلُ حِينَئِذٍ مَلْأَى الْبُطُونِ حَافِلَةَ الضُّرُوعِ مَرِحَةً بِمَسَرَّةِ الشِّبَعِ وَمَحَبَّةِ الرُّجُوعِ إِلَى مَنَازِلِهَا مِنْ مَعَاطِنَ وَمَرَابِضَ.
وَالْإِتْيَانُ بِالْمُضَارِعِ فِي تُرِيحُونَ وتَسْرَحُونَ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْوَالِ الْمُتَكَرِّرَةِ.
وَفِي تَكَرُّرِهَا تَكَرُّرُ النِّعْمَةِ بِمَنَاظِرِهَا.
وَجُمْلَةُ وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ فَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْضًا. وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى أَشْهَرِ الْأَنْعَامِ عِنْدَهُمْ وَهِيَ الْإِبِلُ، كَقَوْلِهَا
105
فِي قِصَّةِ أُمِّ زَرْعٍ «رَكِبَ شَرِيًّا وَأَخَذَ خَطِيًّا فَأَرَاحَ عَلَيَّ نَعَمًا ثَرِيًّا»، فَإِنَّ النَّعَمَ الَّتِي تُؤْخَذُ بِالرُّمْحِ هِيَ الْإِبِلُ لِأَنَّهَا تُؤْخَذُ بِالْغَارَةِ.
وَضَمِيرُ وَتَحْمِلُ عَائِدٌ إِلَى بَعْضِ الْأَنْعَامِ بِالْقَرِينَةِ. وَاخْتِيَارُ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ بِتَكَرُّرِ ذَلِكَ الْفِعْلِ.
وَالْأَثْقَالُ: جَمْعُ ثَقَلٍ- بِفَتْحَتَيْنِ- وَهُوَ مَا يَثْقُلُ عَلَى النَّاسِ حَمْلُهُ بِأَنْفُسِهِمْ.
وَالْمُرَادُ بِ بَلَدٍ جنس الْبَلَد الَّذِي يَرْتَحِلُونَ إِلَيْهِ كَالشَّامِ وَالْيَمَنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَهْلِ الْحِجَازِ، وَمِنْهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ فِي رِحْلَةِ الصَّيْفِ وَالشِّتَاءِ وَالرِّحْلَةِ إِلَى الْحَجِّ.
وَقَدْ أَفَادَ وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ مَعْنَى تَحْمِلُكُمْ وَتُبَلِّغُكُمْ، بِطَرِيقَةِ الْكِنَايَةِ الْقَرِيبَةِ مِنَ التَّصْرِيحِ. وَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ.
وَجُمْلَةُ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ صِفَةٌ لِ بَلَدٍ، وَهِيَ مُفِيدَةٌ مَعْنَى الْبُعْدِ، لِأَنَّ بُلُوغَ الْمُسَافِرِ إِلَى بَلَدٍ بِمَشَقَّةٍ هُوَ مِنْ شَأْنِ الْبَلَدِ الْبَعِيدِ، أَيْ لَا تَبْلُغُونَهُ بِدُونِ الْأَنْعَامِ الْحَامِلَةِ أَثْقَالَكُمْ.
وَالشِّقُّ- بِكَسْرِ الشِّينِ- فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ: الْمَشَقَّةُ. وَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ. وَالْمَشَقَّةُ:
التَّعَبُ الشَّدِيدُ.
وَمَا بَعْدَ أَدَاةِ الِاسْتِثْنَاءِ مُسْتَثْنًى مِنْ أَحْوَالٍ لِضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ.
وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ- بِفَتْحِ الشِّينِ- وَهُوَ لُغَةٌ فِي الشِّقِّ الْمَكْسُورِ الشِّينِ.
وَقَدْ نَفَتِ الْجُمْلَةُ أَنْ يَكُونُوا بَالِغَيْهِ إِلَّا بِمَشَقَّةٍ، فَأَفَادَ ظَاهِرُهَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَبْلُغُونَهُ بِدُونِ الرَّوَاحِلِ بِمَشَقَّةٍ وَلَيْسَ مَقْصُودًا، إِذْ كَانَ الْحَمْلُ عَلَى الْأَنْعَامِ مُقَارِنًا لِلْأَسْفَارِ بِالِانْتِقَالِ إِلَى الْبِلَادِ الْبَعِيدَةِ، بَلِ الْمُرَادُ: لَمْ تَكُونُوا بَالِغَيْهِ لَوْلَا الْإِبِلُ أَوْ بِدُونِ الْإِبِلِ، فَحُذِفَ لِقَرِينَةِ السِّيَاقِ.
وَضَمِيرُ وَتَحْمِلُ عَائِدٌ إِلَى بَعْضِ الْأَنْعَامِ بِالْقَرِينَةِ. وَاخْتِيَارُ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ بِتَكَرُّرِ ذَلِكَ الْفِعْلِ.
وَالْأَثْقَالُ: جَمْعُ ثَقَلٍ- بِفَتْحَتَيْنِ- وَهُوَ مَا يَثْقُلُ عَلَى النَّاسِ حَمْلُهُ بِأَنْفُسِهِمْ.
وَالْمُرَادُ بِ بَلَدٍ جنس الْبَلَد الَّذِي يَرْتَحِلُونَ إِلَيْهِ كَالشَّامِ وَالْيَمَنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَهْلِ الْحِجَازِ، وَمِنْهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ فِي رِحْلَةِ الصَّيْفِ وَالشِّتَاءِ وَالرِّحْلَةِ إِلَى الْحَجِّ.
وَقَدْ أَفَادَ وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ مَعْنَى تَحْمِلُكُمْ وَتُبَلِّغُكُمْ، بِطَرِيقَةِ الْكِنَايَةِ الْقَرِيبَةِ مِنَ التَّصْرِيحِ. وَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ.
وَجُمْلَةُ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ صِفَةٌ لِ بَلَدٍ، وَهِيَ مُفِيدَةٌ مَعْنَى الْبُعْدِ، لِأَنَّ بُلُوغَ الْمُسَافِرِ إِلَى بَلَدٍ بِمَشَقَّةٍ هُوَ مِنْ شَأْنِ الْبَلَدِ الْبَعِيدِ، أَيْ لَا تَبْلُغُونَهُ بِدُونِ الْأَنْعَامِ الْحَامِلَةِ أَثْقَالَكُمْ.
وَالشِّقُّ- بِكَسْرِ الشِّينِ- فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ: الْمَشَقَّةُ. وَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ. وَالْمَشَقَّةُ:
التَّعَبُ الشَّدِيدُ.
وَمَا بَعْدَ أَدَاةِ الِاسْتِثْنَاءِ مُسْتَثْنًى مِنْ أَحْوَالٍ لِضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ.
وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ- بِفَتْحِ الشِّينِ- وَهُوَ لُغَةٌ فِي الشِّقِّ الْمَكْسُورِ الشِّينِ.
وَقَدْ نَفَتِ الْجُمْلَةُ أَنْ يَكُونُوا بَالِغَيْهِ إِلَّا بِمَشَقَّةٍ، فَأَفَادَ ظَاهِرُهَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَبْلُغُونَهُ بِدُونِ الرَّوَاحِلِ بِمَشَقَّةٍ وَلَيْسَ مَقْصُودًا، إِذْ كَانَ الْحَمْلُ عَلَى الْأَنْعَامِ مُقَارِنًا لِلْأَسْفَارِ بِالِانْتِقَالِ إِلَى الْبِلَادِ الْبَعِيدَةِ، بَلِ الْمُرَادُ: لَمْ تَكُونُوا بَالِغَيْهِ لَوْلَا الْإِبِلُ أَوْ بِدُونِ الْإِبِلِ، فَحُذِفَ لِقَرِينَةِ السِّيَاقِ.
106
وَجُمْلَةُ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ وَالْأَنْعامَ خَلَقَها، أَيْ خَلَقَهَا لِهَذِهِ الْمَنَافِع لِأَنَّهُ رؤوف رَحِيم بكم.
[٨]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٨]
وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٨)
وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً.
وَالْخَيْلَ مَعْطُوفٌ عَلَى وَالْأَنْعامَ خَلَقَها [سُورَة النَّحْل: ٥]. فَالتَّقْدِيرُ: وَخَلَقَ الْخَيْلَ.
وَالْقَوْلُ فِي مَنَاطِ الِاسْتِدْلَالِ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ الِامْتِنَانِ وَالْعِبْرَةُ فِي كُلٍّ كَالْقَوْلِ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ الْآيَةَ.
وَالْفِعْلُ الْمَحْذُوفُ يَتَعَلَّقُ بِهِ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً، أَيْ خَلَقَهَا اللَّهُ لِتَكُونَ مَرَاكِبَ لِلْبَشَرِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ تَكُنْ فِي وُجُودِهَا فَائِدَةٌ لِعُمْرَانِ الْعَالَمِ.
وَعَطْفُ وَزِينَةً بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى شِبْهِ الْجُمْلَةِ فِي لِتَرْكَبُوها، فَجُنِّبَ قَرْنُهُ بِلَامِ التَّعْلِيلِ مِنْ أَجْلِ تَوَفُّرِ شَرْطِ انْتِصَابِهِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لِأَجْلِهِ، لِأَنَّ فَاعِلَهُ وَفَاعِلَ عَامِلِهِ وَاحِدٌ، فَإِنَّ عَامِلَهُ فِعْلُ خَلَقَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ فَذَلِكَ كُلُّهُ مَفْعُولٌ بِهِ لِفِعْلِ خَلَقَها.
وَلَا مِرْيَةَ فِي أَنَّ فَاعِلَ جَعَلَهَا زِينَةً هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّهَا فِي ذَاتِهَا زِينَةً، أَيْ خَلَقَهَا تُزَيِّنُ الْأَرْضَ، أَوْ زَيَّنَ بِهَا الْأَرْضَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ [سُورَة الْملك: ٥].
وَهَذَا النَّصْبُ أَوْضَحُ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ مَنْصُوبٌ عَلَى تَقْدِيرِ لَامِ التَّعْلِيلِ.
وَهَذَا وَاقِعٌ مَوْقِعَ الِامْتِنَانِ فَكَانَ مُقْتَصِرًا عَلَى مَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُخَاطَبُونَ الْأَوَّلُونَ فِي عَادَتِهِمْ.
وَقَدِ اقْتَصَرَ عَلَى مِنَّةِ الرُّكُوبِ عَلَى الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَالزِّينَةِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْحَمْلَ عَلَيْهَا كَمَا قَالَ فِي شَأْنِ الْأَنْعَامِ وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ [سُورَة النَّحْل: ٧]، لِأَنَّهُمْ لَمْ تَكُنْ مِنْ
[٨]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٨]
وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٨)
وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً.
وَالْخَيْلَ مَعْطُوفٌ عَلَى وَالْأَنْعامَ خَلَقَها [سُورَة النَّحْل: ٥]. فَالتَّقْدِيرُ: وَخَلَقَ الْخَيْلَ.
وَالْقَوْلُ فِي مَنَاطِ الِاسْتِدْلَالِ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ الِامْتِنَانِ وَالْعِبْرَةُ فِي كُلٍّ كَالْقَوْلِ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ الْآيَةَ.
وَالْفِعْلُ الْمَحْذُوفُ يَتَعَلَّقُ بِهِ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً، أَيْ خَلَقَهَا اللَّهُ لِتَكُونَ مَرَاكِبَ لِلْبَشَرِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ تَكُنْ فِي وُجُودِهَا فَائِدَةٌ لِعُمْرَانِ الْعَالَمِ.
وَعَطْفُ وَزِينَةً بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى شِبْهِ الْجُمْلَةِ فِي لِتَرْكَبُوها، فَجُنِّبَ قَرْنُهُ بِلَامِ التَّعْلِيلِ مِنْ أَجْلِ تَوَفُّرِ شَرْطِ انْتِصَابِهِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لِأَجْلِهِ، لِأَنَّ فَاعِلَهُ وَفَاعِلَ عَامِلِهِ وَاحِدٌ، فَإِنَّ عَامِلَهُ فِعْلُ خَلَقَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ فَذَلِكَ كُلُّهُ مَفْعُولٌ بِهِ لِفِعْلِ خَلَقَها.
وَلَا مِرْيَةَ فِي أَنَّ فَاعِلَ جَعَلَهَا زِينَةً هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّهَا فِي ذَاتِهَا زِينَةً، أَيْ خَلَقَهَا تُزَيِّنُ الْأَرْضَ، أَوْ زَيَّنَ بِهَا الْأَرْضَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ [سُورَة الْملك: ٥].
وَهَذَا النَّصْبُ أَوْضَحُ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ مَنْصُوبٌ عَلَى تَقْدِيرِ لَامِ التَّعْلِيلِ.
وَهَذَا وَاقِعٌ مَوْقِعَ الِامْتِنَانِ فَكَانَ مُقْتَصِرًا عَلَى مَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُخَاطَبُونَ الْأَوَّلُونَ فِي عَادَتِهِمْ.
وَقَدِ اقْتَصَرَ عَلَى مِنَّةِ الرُّكُوبِ عَلَى الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَالزِّينَةِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْحَمْلَ عَلَيْهَا كَمَا قَالَ فِي شَأْنِ الْأَنْعَامِ وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ [سُورَة النَّحْل: ٧]، لِأَنَّهُمْ لَمْ تَكُنْ مِنْ
107
عَادَتِهِمْ الْحَمْلُ عَلَى الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ، فَإِنَّ الْخَيْلَ كَانَتْ تُرْكَبُ لِلْغَزْوِ وَلِلصَّيْدِ، وَالْبِغَالُ تُرْكَبُ لِلْمَشْي وَالْغَزْوِ. وَالْحَمِيرُ تُرْكَبُ لِلتَّنَقُّلِ فِي الْقُرَى وَشِبْهِهَا.
وَفِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَنَّهُ قَالَ «جِئْتُ عَلَى حِمَارِ أَتَانٍ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ»
الْحَدِيثَ.
وَكَانَ أَبُو سَيَّارَةَ يُجِيزُ بِالنَّاسِ مِنْ عَرَفَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى حِمَارٍ وَقَالَ فِيهِ:
فَلَا يَتَعَلَّقُ الِامْتِنَانُ بِنِعْمَةٍ غَيْرِ مُسْتَعْمَلَةٍ عِنْدَ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ الشَّيْءُ الْمُنْعَمُ بِهِ قَدْ تَكُونُ لَهُ مَنَافِعُ لَا يَقْصِدُهَا الْمُخَاطَبُونَ مِثْلُ الْحَرْثِ بِالْإِبِلِ وَالْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ، وَهُوَ مِمَّا يَفْعَلُهُ الْمُسْلِمُونَ وَلَا يُعْرَفُ مُنْكِرٌ عَلَيْهِمْ.
أَوْ مَنَافِعُ لَمْ يَتَفَطَّنْ لَهَا الْمُخَاطَبُونَ مِثْلُ مَا ظَهَرَ مِنْ مَنَافِعِ الْأَدْوِيَةِ فِي الْحَيَوَانِ مِمَّا لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا لِلنَّاسِ مِنْ قَبْلُ، فَيَدْخُلُ كُلُّ ذَلِكَ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً
فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٩]، فَإِنَّهُ عُمُومٌ فِي الذَّوَاتِ يَسْتَلْزِمُ عُمُومَ
الْأَحْوَالِ عَدَا مَا خَصَّصَهُ الدَّلِيلُ مِمَّا فِي آيَةِ الْأَنْعَامِ [١٤٥] قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ الْآيَةَ.
وَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنْ لَا دَلِيلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى تَحْرِيمِ أَكَلِ لُحُومِ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ لِأَنَّ أَكْلَهَا نَادِرُ الْخُطُورِ بِالْبَالِ لِقِلَّتِهِ، وَكَيْفَ وَقَدْ أَكَلَ الْمُسْلِمُونَ لُحُومَ الْحُمُرِ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ بِدُونِ أَنْ يَسْتَأْذِنُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا فِي حَالَةِ اضْطِرَارٍ، وَآيَةُ سُورَةِ النَّحْلِ يَوْمَئِذٍ مَقْرُوءَةٌ مُنْذُ سِنِينَ كَثِيرَةٍ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ وَلَا أَنْكَرَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
كَمَا
جَاءَ فِي الصَّحِيحِ: أَنَّهُ أُتِيَ فَقِيلَ لَهُ: أُكِلَتِ الْحُمُرُ، فَسَكَتَ، ثُمَّ أُتِيَ فَقِيلَ:
أُكِلَتِ الْحُمُرُ فَسَكَتَ. ثُمَّ أُتِيَ فَقِيلَ: أُفْنِيَتِ الْحُمُرُ فَنَادَى مُنَادِي النَّبِيءِ صَلَّى اللَّهُِِ
وَفِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَنَّهُ قَالَ «جِئْتُ عَلَى حِمَارِ أَتَانٍ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ»
الْحَدِيثَ.
وَكَانَ أَبُو سَيَّارَةَ يُجِيزُ بِالنَّاسِ مِنْ عَرَفَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى حِمَارٍ وَقَالَ فِيهِ:
خَلُّوا السَّبِيلَ عَنْ أَبِي سَيَّارَهْ | وَعَنْ مَوَالِيهِ بَنِي فَزَارَهْ |
حَتَّى يُجِيزَ رَاكِبًا حِمَارَهْ | مُسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةِ يَدْعُو جَارَهْ |
أَوْ مَنَافِعُ لَمْ يَتَفَطَّنْ لَهَا الْمُخَاطَبُونَ مِثْلُ مَا ظَهَرَ مِنْ مَنَافِعِ الْأَدْوِيَةِ فِي الْحَيَوَانِ مِمَّا لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا لِلنَّاسِ مِنْ قَبْلُ، فَيَدْخُلُ كُلُّ ذَلِكَ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً
فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٩]، فَإِنَّهُ عُمُومٌ فِي الذَّوَاتِ يَسْتَلْزِمُ عُمُومَ
الْأَحْوَالِ عَدَا مَا خَصَّصَهُ الدَّلِيلُ مِمَّا فِي آيَةِ الْأَنْعَامِ [١٤٥] قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ الْآيَةَ.
وَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنْ لَا دَلِيلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى تَحْرِيمِ أَكَلِ لُحُومِ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ لِأَنَّ أَكْلَهَا نَادِرُ الْخُطُورِ بِالْبَالِ لِقِلَّتِهِ، وَكَيْفَ وَقَدْ أَكَلَ الْمُسْلِمُونَ لُحُومَ الْحُمُرِ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ بِدُونِ أَنْ يَسْتَأْذِنُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا فِي حَالَةِ اضْطِرَارٍ، وَآيَةُ سُورَةِ النَّحْلِ يَوْمَئِذٍ مَقْرُوءَةٌ مُنْذُ سِنِينَ كَثِيرَةٍ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ وَلَا أَنْكَرَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
كَمَا
جَاءَ فِي الصَّحِيحِ: أَنَّهُ أُتِيَ فَقِيلَ لَهُ: أُكِلَتِ الْحُمُرُ، فَسَكَتَ، ثُمَّ أُتِيَ فَقِيلَ:
أُكِلَتِ الْحُمُرُ فَسَكَتَ. ثُمَّ أُتِيَ فَقِيلَ: أُفْنِيَتِ الْحُمُرُ فَنَادَى مُنَادِي النَّبِيءِ صَلَّى اللَّهُِِ
108
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ. فَأُهْرِقَتِ الْقُدُورُ
. وَأَنَّ الْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ سَوَاءٌ فِي أَنَّ الْآيَةَ لَا تَشْمَلُ حُكْمَ أَكْلِهَا. فَالْمَصِيرُ فِي جَوَازِ أَكْلِهَا وَمَنْعِهِ إِلَى أَدِلَّةٍ أُخْرَى.
فَأَمَّا الْخَيْلُ وَالْبِغَالُ فَفِي جَوَازِ أَكْلِهَا خِلَافٌ قَوِيٌّ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَجُمْهُورُهُمْ أَبَاحُوا أَكْلَهَا. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَالظَّاهِرِيِّ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ وَعَطَاءٍ وَالزُّهْرِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَابْنِ جُبَيْرٍ.
وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: يَحْرُمُ أَكْلُ لُحُومِ الْخَيْلِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً، وَلَوْ كَانَتْ مُبَاحَةَ الْأَكْلِ لَامْتَنَّ بِأَكْلِهَا كَمَا امْتَنَّ فِي الْأَنْعَامِ بِقَوْلِهِ: وَمِنْها تَأْكُلُونَ [سُورَة النَّحْل: ٥]. وَهُوَ دَلِيلٌ لَا يَنْهَضُ بِمُفْرَدِهِ. فَيُجَابُ عَنْهُ بِمَا قَرَّرْنَا مِنْ جَرَيَانِ الْكَلَامِ عَلَى مُرَاعَاةِ عَادَةِ الْمُخَاطَبِينَ بِهِ. وَقَدْ ثَبَتَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَكَلُوا لُحُومَ الْخَيْلِ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلِمَهُ. وَلَكِنَّهُ كَانَ نَادِرًا فِي عَادَتِهِمْ.
وَعَنْ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رِوَايَةٌ بِكَرَاهَةِ لُحُومِ الْخَيْلِ وَاخْتَارَ ذَلِكَ الْقُرْطُبِيُّ.
وَأَمَّا الْحَمِيرُ فَقَدْ ثَبَتَ أَكْلُ الْمُسْلِمِينَ لُحُومَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ. ثُمَّ نُهُوا عَنْ ذَلِكَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ. وَاخْتُلِفَ فِي مَحْمَلِ ذَلِكَ، فَحَمَلَهُ الْجُمْهُورُ عَلَى التَّحْرِيمِ لِذَاتِ الْحَمِيرِ.
وَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى تَأْوِيلِ أَنَّهَا كَانَتْ حُمُولَتُهُمْ يَوْمَئِذٍ فَلَوِ اسْتَرْسَلُوا عَلَى أَكْلِهَا لَانْقَطَعُوا بِذَلِكَ الْمَكَانِ فَآبُوا رِجَالًا وَلَمْ يَسْتَطِيعُوا حَمْلَ أَمْتِعَتِهِمْ. وَهَذَا رَأْيُ فَرِيقٍ مِنَ السَّلَفِ. وَأَخَذَ فَرِيقٌ مِنَ السَّلَفِ بِظَاهِرِ النَّهْيِ فَقَالُوا بِتَحْرِيمِ أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ لِأَنَّهَا مَوْرِدُ النَّهْيِ وَأَبْقَوُا الْوَحْشِيَّةَ عَلَى الْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ. وَهُوَ قَول جُمْهُور الْأَئِمَّة مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ
وَالشَّافِعِيِّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- وَغَيْرِهِمْ.
. وَأَنَّ الْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ سَوَاءٌ فِي أَنَّ الْآيَةَ لَا تَشْمَلُ حُكْمَ أَكْلِهَا. فَالْمَصِيرُ فِي جَوَازِ أَكْلِهَا وَمَنْعِهِ إِلَى أَدِلَّةٍ أُخْرَى.
فَأَمَّا الْخَيْلُ وَالْبِغَالُ فَفِي جَوَازِ أَكْلِهَا خِلَافٌ قَوِيٌّ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَجُمْهُورُهُمْ أَبَاحُوا أَكْلَهَا. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَالظَّاهِرِيِّ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ وَعَطَاءٍ وَالزُّهْرِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَابْنِ جُبَيْرٍ.
وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: يَحْرُمُ أَكْلُ لُحُومِ الْخَيْلِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً، وَلَوْ كَانَتْ مُبَاحَةَ الْأَكْلِ لَامْتَنَّ بِأَكْلِهَا كَمَا امْتَنَّ فِي الْأَنْعَامِ بِقَوْلِهِ: وَمِنْها تَأْكُلُونَ [سُورَة النَّحْل: ٥]. وَهُوَ دَلِيلٌ لَا يَنْهَضُ بِمُفْرَدِهِ. فَيُجَابُ عَنْهُ بِمَا قَرَّرْنَا مِنْ جَرَيَانِ الْكَلَامِ عَلَى مُرَاعَاةِ عَادَةِ الْمُخَاطَبِينَ بِهِ. وَقَدْ ثَبَتَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَكَلُوا لُحُومَ الْخَيْلِ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلِمَهُ. وَلَكِنَّهُ كَانَ نَادِرًا فِي عَادَتِهِمْ.
وَعَنْ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رِوَايَةٌ بِكَرَاهَةِ لُحُومِ الْخَيْلِ وَاخْتَارَ ذَلِكَ الْقُرْطُبِيُّ.
وَأَمَّا الْحَمِيرُ فَقَدْ ثَبَتَ أَكْلُ الْمُسْلِمِينَ لُحُومَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ. ثُمَّ نُهُوا عَنْ ذَلِكَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ. وَاخْتُلِفَ فِي مَحْمَلِ ذَلِكَ، فَحَمَلَهُ الْجُمْهُورُ عَلَى التَّحْرِيمِ لِذَاتِ الْحَمِيرِ.
وَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى تَأْوِيلِ أَنَّهَا كَانَتْ حُمُولَتُهُمْ يَوْمَئِذٍ فَلَوِ اسْتَرْسَلُوا عَلَى أَكْلِهَا لَانْقَطَعُوا بِذَلِكَ الْمَكَانِ فَآبُوا رِجَالًا وَلَمْ يَسْتَطِيعُوا حَمْلَ أَمْتِعَتِهِمْ. وَهَذَا رَأْيُ فَرِيقٍ مِنَ السَّلَفِ. وَأَخَذَ فَرِيقٌ مِنَ السَّلَفِ بِظَاهِرِ النَّهْيِ فَقَالُوا بِتَحْرِيمِ أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ لِأَنَّهَا مَوْرِدُ النَّهْيِ وَأَبْقَوُا الْوَحْشِيَّةَ عَلَى الْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ. وَهُوَ قَول جُمْهُور الْأَئِمَّة مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ
وَالشَّافِعِيِّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- وَغَيْرِهِمْ.
109
وَفِي هَذَا إِثْبَاتُ حُكْمٍ تَعَبُّدِيٍّ فِي التَّفْرِقَةِ وَهُوَ مِمَّا لَا يَنْبَغِي الْمَصِيرُ إِلَيْهِ فِي الِاجْتِهَادِ إِلَّا بِنَصٍّ لَا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ «مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ».
عَلَى أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ فِي الشَّرِيعَةِ أَنْ يُحَرَّمَ صِنْفٌ إِنْسِيٌّ لِنَوْعٍ مِنَ الْحَيَوَانِ دُونَ وَحْشِيِّهِ.
وَأَمَّا الْبِغَالُ فَالْجُمْهُورُ عَلَى تَحْرِيمِهَا. فَأَمَّا مَنْ قَالَ بِحُرْمَةِ أَكْلِ الْخَيْلِ فَلِأَنَّ الْبِغَالَ صِنْفٌ مركّب من نوين مُحَرَّمَيْنِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ أَكْلُهُ حَرَامًا. وَمَنْ قَالَ بِإِبَاحَةِ أَكْلِ الْخَيْلِ فَلِتَغْلِيبِ تَحْرِيمِ أَحَدِ النَّوْعَيْنِ الْمُرَكَّبِ مِنْهُمَا وَهُوَ الْحَمِيرُ عَلَى تَحْلِيلِ النَّوْعِ الْآخَرِ وَهُوَ الْخَيْلُ. وَعَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ رَآهَا حَلَالًا.
وَالْخَيْلُ: اسْمُ جَمْعٍ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٤].
والْبِغالَ: جَمْعُ بَغْلٍ. وَهُوَ اسْمٌ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مِنْ نَوْعِ أُمِّهِ مِنَ الْخَيْلِ وَأَبُوهُ مِنَ الْحَمِيرِ. وَهُوَ مِنَ الْأَنْوَاعِ النَّادِرَةِ وَالْمُتَوَلِّدَةِ مِنْ نَوْعَيْنِ. وَعَكْسُهُ الْبِرْذَوْنُ، وَمِنْ خَصَائِصِ الْبِغَالِ عُقْمُ أُنْثَاهَا بِحَيْثُ لَا تَلِدُ.
والْحَمِيرَ: جَمْعُ تَكْسِيرِ حِمَارٍ وَقَدْ يُجْمَعُ عَلَى أَحْمِرَةٍ وَعَلَى حُمُرٍ. وَهُوَ غَالِبٌ لِلذَّكَرِ مِنَ النَّوْعِ، وَأَمَّا الْأُنْثَى فَأَتَانٌ. وَقَدْ رُوعِيَ فِي الْجَمْعِ التَّغْلِيبُ.
وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ.
اعْتِرَاضٌ فِي آخِرِ الْكَلَامِ أَوْ فِي وَسَطِهِ عَلَى مَا سَيَأْتِي.
ويَخْلُقُ مُضَارِعٌ مُرَادٌ بِهِ زَمَنُ الْحَالِ لَا الِاسْتِقْبَالِ، أَيْ هُوَ الْآنَ يَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ أَيُّهَا النَّاسُ مِمَّا هُوَ مَخْلُوقٌ لِنَفْعِهِمْ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ بِهِ، فَكَمَا خَلَقَ لَهُمُ الْأَنْعَامَ وَالْكُرَاعَ خَلَقَ لَهُمْ وَيَخْلُقُ لَهُمْ خَلَائِقَ أُخْرَى لَا يَعْلَمُونَهَا
عَلَى أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ فِي الشَّرِيعَةِ أَنْ يُحَرَّمَ صِنْفٌ إِنْسِيٌّ لِنَوْعٍ مِنَ الْحَيَوَانِ دُونَ وَحْشِيِّهِ.
وَأَمَّا الْبِغَالُ فَالْجُمْهُورُ عَلَى تَحْرِيمِهَا. فَأَمَّا مَنْ قَالَ بِحُرْمَةِ أَكْلِ الْخَيْلِ فَلِأَنَّ الْبِغَالَ صِنْفٌ مركّب من نوين مُحَرَّمَيْنِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ أَكْلُهُ حَرَامًا. وَمَنْ قَالَ بِإِبَاحَةِ أَكْلِ الْخَيْلِ فَلِتَغْلِيبِ تَحْرِيمِ أَحَدِ النَّوْعَيْنِ الْمُرَكَّبِ مِنْهُمَا وَهُوَ الْحَمِيرُ عَلَى تَحْلِيلِ النَّوْعِ الْآخَرِ وَهُوَ الْخَيْلُ. وَعَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ رَآهَا حَلَالًا.
وَالْخَيْلُ: اسْمُ جَمْعٍ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٤].
والْبِغالَ: جَمْعُ بَغْلٍ. وَهُوَ اسْمٌ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مِنْ نَوْعِ أُمِّهِ مِنَ الْخَيْلِ وَأَبُوهُ مِنَ الْحَمِيرِ. وَهُوَ مِنَ الْأَنْوَاعِ النَّادِرَةِ وَالْمُتَوَلِّدَةِ مِنْ نَوْعَيْنِ. وَعَكْسُهُ الْبِرْذَوْنُ، وَمِنْ خَصَائِصِ الْبِغَالِ عُقْمُ أُنْثَاهَا بِحَيْثُ لَا تَلِدُ.
والْحَمِيرَ: جَمْعُ تَكْسِيرِ حِمَارٍ وَقَدْ يُجْمَعُ عَلَى أَحْمِرَةٍ وَعَلَى حُمُرٍ. وَهُوَ غَالِبٌ لِلذَّكَرِ مِنَ النَّوْعِ، وَأَمَّا الْأُنْثَى فَأَتَانٌ. وَقَدْ رُوعِيَ فِي الْجَمْعِ التَّغْلِيبُ.
وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ.
اعْتِرَاضٌ فِي آخِرِ الْكَلَامِ أَوْ فِي وَسَطِهِ عَلَى مَا سَيَأْتِي.
ويَخْلُقُ مُضَارِعٌ مُرَادٌ بِهِ زَمَنُ الْحَالِ لَا الِاسْتِقْبَالِ، أَيْ هُوَ الْآنَ يَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ أَيُّهَا النَّاسُ مِمَّا هُوَ مَخْلُوقٌ لِنَفْعِهِمْ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ بِهِ، فَكَمَا خَلَقَ لَهُمُ الْأَنْعَامَ وَالْكُرَاعَ خَلَقَ لَهُمْ وَيَخْلُقُ لَهُمْ خَلَائِقَ أُخْرَى لَا يَعْلَمُونَهَا
110
الْآنَ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَا هُوَ غَيْرُ مَعْهُودٍ أَوْ غَيْرُ مَعْلُومٍ لِلْمُخَاطَبِينَ وَهُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَ أُمَمٍ أُخْرَى كَالْفِيلِ عِنْدَ الْحَبَشَةِ وَالْهُنُودِ، وَمَا هُوَ غَيْرُ مَعْلُومٍ لِأَحَدٍ ثُمَّ يَعْلَمُهُ النَّاسُ مِنْ بَعْدُ مِثْلُ دَوَابِّ الْجِهَاتِ الْقُطْبِيَّةِ كَالْفُقْمَةِ وَالدُّبِّ الْأَبْيَضِ، وَدَوَابِّ الْقَارَّةِ الْأَمْرِيكِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ مَجْهُولَةً لِلنَّاسِ فِي وَقْتِ نُزُولِ الْقُرْآنِ، فَيَكُونُ الْمُضَارِعُ مُسْتَعْمَلًا فِي الْحَالِ لِلتَّجْدِيدِ، أَيْ هُوَ خَالِقٌ وَيَخْلُقُ.
وَيَدْخُلُ فِيهِ كَمَا قِيلَ مَا يَخْلُقُهُ اللَّهُ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ فِي الْجَنَّةِ، غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ
بِالْمُؤْمِنِينَ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ مِنْ سِيَاقِ الِامْتِنَانِ الْعَامِّ لِلنَّاسِ الْمُتَوَسَّلِ بِهِ إِلَى إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى كَافِرِي النِّعْمَةِ.
فَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ الْغَيْبِيَّةِ الْعِلْمِيَّةِ، وَأَنَّهَا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ سَيُلْهِمُ الْبَشَرَ اخْتِرَاعَ مَرَاكِبَ هِيَ أَجْدَى عَلَيْهِمْ مِنَ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ، وَتِلْكَ الْعَجَلَاتُ الَّتِي يَرْكَبُهَا الْوَاحِدُ وَيُحَرِّكُهَا بِرِجْلَيْهِ وَتُسَمَّى (بِسِكْلَاتٍ)، وَأَرْتَالُ السِّكَكِ الْحَدِيدِيَّةِ، وَالسَّيَّارَاتُ الْمُسَيَّرَةُ بِمُصَفَّى النِّفْطِ وَتُسَمَّى (أُطُومُوبِيلَ)، ثُمَّ الطَّائِرَاتُ الَّتِي تَسِيرُ بِالنِّفْطِ الْمُصَفَّى فِي الْهَوَاءِ. فَكُلُّ هَذِهِ مَخْلُوقَاتٌ نَشَأَتْ فِي عُصُورٍ مُتَتَابِعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهَا مَنْ كَانُوا قَبْلَ عَصْرِ وُجُودِ كُلٍّ مِنْهَا.
وَإِلْهَامُ اللَّهِ النَّاسَ لِاخْتِرَاعِهَا هُوَ مُلْحَقٌ بِخَلْقِ اللَّهِ، فَاللَّهُ هُوَ الَّذِي أَلْهَمَ الْمُخْتَرِعِينَ مِنَ الْبَشَرِ بِمَا فَطَرَهُمْ عَلَيْهِ مِنَ الذَّكَاءِ وَالْعِلْمِ وَبِمَا تَدَرَّجُوا فِي سُلَّمِ الْحَضَارَةِ وَاقْتِبَاسِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ إِلَى اخْتِرَاعِهَا، فَهِيَ بِذَلِكَ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الْكُلَّ من نعْمَته.
[٩]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٩]
وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (٩)
جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ.. اقْتَضَتِ اعْتِرَاضَهَا مُنَاسَبَةُ الِامْتِنَانِ بِنِعْمَةِ تَيْسِيرِ الْأَسْفَارِ بِالرَّوَاحِلِ وَالْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ.
وَيَدْخُلُ فِيهِ كَمَا قِيلَ مَا يَخْلُقُهُ اللَّهُ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ فِي الْجَنَّةِ، غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ
بِالْمُؤْمِنِينَ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ مِنْ سِيَاقِ الِامْتِنَانِ الْعَامِّ لِلنَّاسِ الْمُتَوَسَّلِ بِهِ إِلَى إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى كَافِرِي النِّعْمَةِ.
فَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ الْغَيْبِيَّةِ الْعِلْمِيَّةِ، وَأَنَّهَا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ سَيُلْهِمُ الْبَشَرَ اخْتِرَاعَ مَرَاكِبَ هِيَ أَجْدَى عَلَيْهِمْ مِنَ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ، وَتِلْكَ الْعَجَلَاتُ الَّتِي يَرْكَبُهَا الْوَاحِدُ وَيُحَرِّكُهَا بِرِجْلَيْهِ وَتُسَمَّى (بِسِكْلَاتٍ)، وَأَرْتَالُ السِّكَكِ الْحَدِيدِيَّةِ، وَالسَّيَّارَاتُ الْمُسَيَّرَةُ بِمُصَفَّى النِّفْطِ وَتُسَمَّى (أُطُومُوبِيلَ)، ثُمَّ الطَّائِرَاتُ الَّتِي تَسِيرُ بِالنِّفْطِ الْمُصَفَّى فِي الْهَوَاءِ. فَكُلُّ هَذِهِ مَخْلُوقَاتٌ نَشَأَتْ فِي عُصُورٍ مُتَتَابِعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهَا مَنْ كَانُوا قَبْلَ عَصْرِ وُجُودِ كُلٍّ مِنْهَا.
وَإِلْهَامُ اللَّهِ النَّاسَ لِاخْتِرَاعِهَا هُوَ مُلْحَقٌ بِخَلْقِ اللَّهِ، فَاللَّهُ هُوَ الَّذِي أَلْهَمَ الْمُخْتَرِعِينَ مِنَ الْبَشَرِ بِمَا فَطَرَهُمْ عَلَيْهِ مِنَ الذَّكَاءِ وَالْعِلْمِ وَبِمَا تَدَرَّجُوا فِي سُلَّمِ الْحَضَارَةِ وَاقْتِبَاسِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ إِلَى اخْتِرَاعِهَا، فَهِيَ بِذَلِكَ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الْكُلَّ من نعْمَته.
[٩]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٩]
وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (٩)
جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ.. اقْتَضَتِ اعْتِرَاضَهَا مُنَاسَبَةُ الِامْتِنَانِ بِنِعْمَةِ تَيْسِيرِ الْأَسْفَارِ بِالرَّوَاحِلِ وَالْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ.
111
فَلَمَّا ذُكِرَتْ نِعْمَةُ تَيْسِيرِ السَّبِيلِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى الْمَقَاصِدِ الْجُثْمَانِيَّةِ ارْتَقَى إِلَى التَّذْكِيرِ بِسَبِيلِ الْوُصُولِ إِلَى الْمَقَاصِدِ الرَّوْحَانِيَّةِ وَهُوَ سَبِيلُ الْهُدَى، فَكَانَ تَعَهُّدُ اللَّهِ بِهَذِهِ السَّبِيلِ نِعْمَةً أَعْظَمَ مِنْ تَيْسِيرِ الْمَسَالِكِ الْجُثْمَانِيَّةِ لِأَنَّ سَبِيلَ الْهُدَى تَحْصُلُ بِهِ السَّعَادَة الأبدية. وَهَذِه السَّبِيلُ هِيَ مَوْهِبَةُ الْعَقْلِ الْإِنْسَانِيِّ الْفَارِقِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَإِرْسَالُ الرُّسُلِ لِدَعْوَةِ النَّاسِ إِلَى الْحَقِّ، وَتَذْكِيرُهُمْ بِمَا يَغْفُلُونَ عَنْهُ، وَإِرْشَادُهُمْ إِلَى مَا لَا تَصِلُ إِلَيْهِ عُقُولُهُمْ أَوْ تَصِلُ إِلَيْهِ بِمَشَقَّةٍ عَلَى خَطَرٍ مِنَ التورّط فِي بيّنات الطَّرِيقِ.
فَالسَّبِيلُ: مَجَازٌ لِمَا يَأْتِيهِ النَّاسُ مِنَ الْأَعْمَالِ مِنْ حَيْثُ هِيَ مُوَصِّلَةٌ إِلَى دَارِ الثَّوَابِ أَوْ دَارِ الْعِقَابِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: قُلْ هذِهِ سَبِيلِي [سُورَة يُوسُف: ١٠٨]. وَيَزِيدُ هَذِهِ الْمُنَاسبَة بَيَانا أَنه لِمَا شَرَحْتُ دَلَائِلُ التَّوْحِيدِ نَاسَبَ التَّنْبِيهَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ طَرِيقٌ لِلْهُدَى، وَإِزَالَةٌ لِلْعُذْرِ، وَأَنَّ مِنْ بَيْنِ الطُّرُقِ الَّتِي يَسْلُكُهَا النَّاسُ طَرِيقَ ضَلَالٍ وَجَوْرٍ.
وَقَدِ اسْتُعِيرَ لِتَعَهُّدِ اللَّهِ بِتَبْيِينِ سَبِيلِ الْهُدَى حَرْفُ عَلَى الْمُسْتَعَارُ كَثِيرًا فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامُ الْعَرَبِ لِمَعْنَى التَّعَهُّدِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى. شَبَّهَ الْتِزَامَ هَذَا الْبَيَانِ
وَالتَّعَهُّدِ بِهِ بِالْحَقِّ الْوَاجِب عَلَى الْمَحْقُوقِ بِهِ.
وَالْقَصْدُ: اسْتِقَامَةُ الطَّرِيقِ. وَقَعَ هُنَا وَصْفًا لِلسَّبِيلِ مِنْ قَبِيلِ الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ، لِأَنَّهُ يُقَالُ: طَرِيقٌ قَاصِدٌ، أَي مُسْتَقِيم، وَطَرِيق قصد، وَذَلِكَ أَقْوَى فِي الْوَصْفِ بِالِاسْتِقَامَةِ كَشَأْنِ الْوَصْفِ بِالْمَصَادِرِ، وَإِضَافَةُ قَصْدُ إِلَى السَّبِيلِ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ، وَهِيَ صِفَةٌ مُخَصِّصَةٌ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ فِي السَّبِيلِ لِلْجِنْسِ. وَيَتَعَيَّنُ تَقْدِيرُ مُضَافٍ لِأَنَّ الَّذِي تَعَهَّدَ اللَّهُ بِهِ هُوَ بَيَانُ السَّبِيلِ لَا ذَاتُ السَّبِيلِ.
وَضَمِيرُ وَمِنْها عَائِدٌ إِلَى السَّبِيلِ عَلَى اعْتِبَارِ جَوَازِ تَأْنِيثِهِ.
وجائِرٌ وَصْفٌ لِ السَّبِيلِ بِاعْتِبَارِ اسْتِعْمَالِهِ مُذَكَّرًا. أَيْ مِنْ جِنْسِ السَّبِيلِ الَّذِي مِنْهُ أَيْضًا قَصْدُ سَبِيلٍ جَائِرٍ غَيْرُ قَصْدٍ.
وَالْجَائِرُ: هُوَ الْحَائِدُ عَنْ الِاسْتِقَامَةِ. وَكُنِّيَ بِهِ عَنْ طَرِيقٍ غَيْرِ مُوصِّلٍ إِلَى الْمَقْصُودِ، أَيْ إِلَى الْخَيْرِ، وَهُوَ الْمُفْضِي إِلَى ضُرٍّ، فَهُوَ جَائِرٌ بِسَالِكِهِ. وَوَصْفُهُ
فَالسَّبِيلُ: مَجَازٌ لِمَا يَأْتِيهِ النَّاسُ مِنَ الْأَعْمَالِ مِنْ حَيْثُ هِيَ مُوَصِّلَةٌ إِلَى دَارِ الثَّوَابِ أَوْ دَارِ الْعِقَابِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: قُلْ هذِهِ سَبِيلِي [سُورَة يُوسُف: ١٠٨]. وَيَزِيدُ هَذِهِ الْمُنَاسبَة بَيَانا أَنه لِمَا شَرَحْتُ دَلَائِلُ التَّوْحِيدِ نَاسَبَ التَّنْبِيهَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ طَرِيقٌ لِلْهُدَى، وَإِزَالَةٌ لِلْعُذْرِ، وَأَنَّ مِنْ بَيْنِ الطُّرُقِ الَّتِي يَسْلُكُهَا النَّاسُ طَرِيقَ ضَلَالٍ وَجَوْرٍ.
وَقَدِ اسْتُعِيرَ لِتَعَهُّدِ اللَّهِ بِتَبْيِينِ سَبِيلِ الْهُدَى حَرْفُ عَلَى الْمُسْتَعَارُ كَثِيرًا فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامُ الْعَرَبِ لِمَعْنَى التَّعَهُّدِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى. شَبَّهَ الْتِزَامَ هَذَا الْبَيَانِ
وَالتَّعَهُّدِ بِهِ بِالْحَقِّ الْوَاجِب عَلَى الْمَحْقُوقِ بِهِ.
وَالْقَصْدُ: اسْتِقَامَةُ الطَّرِيقِ. وَقَعَ هُنَا وَصْفًا لِلسَّبِيلِ مِنْ قَبِيلِ الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ، لِأَنَّهُ يُقَالُ: طَرِيقٌ قَاصِدٌ، أَي مُسْتَقِيم، وَطَرِيق قصد، وَذَلِكَ أَقْوَى فِي الْوَصْفِ بِالِاسْتِقَامَةِ كَشَأْنِ الْوَصْفِ بِالْمَصَادِرِ، وَإِضَافَةُ قَصْدُ إِلَى السَّبِيلِ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ، وَهِيَ صِفَةٌ مُخَصِّصَةٌ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ فِي السَّبِيلِ لِلْجِنْسِ. وَيَتَعَيَّنُ تَقْدِيرُ مُضَافٍ لِأَنَّ الَّذِي تَعَهَّدَ اللَّهُ بِهِ هُوَ بَيَانُ السَّبِيلِ لَا ذَاتُ السَّبِيلِ.
وَضَمِيرُ وَمِنْها عَائِدٌ إِلَى السَّبِيلِ عَلَى اعْتِبَارِ جَوَازِ تَأْنِيثِهِ.
وجائِرٌ وَصْفٌ لِ السَّبِيلِ بِاعْتِبَارِ اسْتِعْمَالِهِ مُذَكَّرًا. أَيْ مِنْ جِنْسِ السَّبِيلِ الَّذِي مِنْهُ أَيْضًا قَصْدُ سَبِيلٍ جَائِرٍ غَيْرُ قَصْدٍ.
وَالْجَائِرُ: هُوَ الْحَائِدُ عَنْ الِاسْتِقَامَةِ. وَكُنِّيَ بِهِ عَنْ طَرِيقٍ غَيْرِ مُوصِّلٍ إِلَى الْمَقْصُودِ، أَيْ إِلَى الْخَيْرِ، وَهُوَ الْمُفْضِي إِلَى ضُرٍّ، فَهُوَ جَائِرٌ بِسَالِكِهِ. وَوَصْفُهُ
112
بِالْجَائِرِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ. وَلَمْ يُضَفِ السَّبِيلُ الْجَائِرُ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّ سَبِيلَ الضَّلَالِ اخْتَرَعَهَا أَهْلُ الضَّلَالَةِ اخْتِرَاعًا لَا يَشْهَدُ لَهُ الْعَقْلُ الَّذِي فَطَرَ اللَّهُ النَّاسَ عَلَيْهِ، وَقَدْ نَهَى اللَّهُ النَّاسَ عَنْ سُلُوكِهَا.
وَجُمْلَةُ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ تذييل.
[١٠]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ١٠]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠)
اسْتِئْنَافٌ لِذِكْرِ دَلِيلٍ آخَرَ مِنْ مَظَاهِرِ بَدِيعِ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى أُدْمِجَ فِيهِ امْتِنَانٌ بِمَا يَأْتِي بِهِ ذَلِكَ الْمَاءُ الْعَجِيبُ مِنَ الْمَنَافِعِ لِلنَّاسِ مِنْ نِعْمَةِ الشَّرَابِ وَنِعْمَةِ الطَّعَامِ لِلْحَيَوَانِ الَّذِي بِهِ قِوَامُ حَيَاةِ النَّاسِ وَلِلنَّاسِ أَنْفُسِهِمْ.
وَصِيغَةُ تَعْرِيفِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ وَالْمُسْنَدِ أَفَادَتِ الْحَصْرَ، أَيْ هُوَ لَا غَيْرُهُ. وَهَذَا قَصْرٌ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ، لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ لَا يُنْكِرُونَ ذَلِكَ وَلَا يَدَّعُونَ لَهُ شَرِيكًا فِي ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا عَبَدُوا أَصْنَامًا لَمْ تُنْعِمْ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ كَانَ حَالُهُمْ كَحَالِ مَنْ يَدَّعِي أَنَّ الْأَصْنَامَ أَنْعَمَتْ عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ النِّعَمِ، فَنَزَلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ يَدَّعِي الشَّرِكَةَ لِلَّهِ فِي الْخَلْقِ، فَكَانَ الْقَصْرُ قَصْرَ إِفْرَادٍ تَخْرِيجًا لِلْكَلَامِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ.
وَإِنْزَالُ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجَ
بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ
فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٢].
وَذَكَرَ فِي الْمَاءِ مِنَّتَيْنِ: الشَّرَابَ مِنْهُ، وَالْإِنْبَاتَ لِلشَّجَرِ وَالزَّرْعِ.
وَجُمْلَةُ لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ صِفَةٌ لِ مَاءً، ولَكُمْ مُتَعَلِّقٌ بِ شَرابٌ قُدِّمَ عَلَيْهِ لِلِاهْتِمَامِ، ومِنْهُ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ كَذَلِكَ، وَتَقْدِيمُهُ سَوَّغَ أَنْ يَكُونَ الْمُبْتَدَأُ نَكِرَةً.
وَجُمْلَةُ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ تذييل.
[١٠]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ١٠]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠)
اسْتِئْنَافٌ لِذِكْرِ دَلِيلٍ آخَرَ مِنْ مَظَاهِرِ بَدِيعِ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى أُدْمِجَ فِيهِ امْتِنَانٌ بِمَا يَأْتِي بِهِ ذَلِكَ الْمَاءُ الْعَجِيبُ مِنَ الْمَنَافِعِ لِلنَّاسِ مِنْ نِعْمَةِ الشَّرَابِ وَنِعْمَةِ الطَّعَامِ لِلْحَيَوَانِ الَّذِي بِهِ قِوَامُ حَيَاةِ النَّاسِ وَلِلنَّاسِ أَنْفُسِهِمْ.
وَصِيغَةُ تَعْرِيفِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ وَالْمُسْنَدِ أَفَادَتِ الْحَصْرَ، أَيْ هُوَ لَا غَيْرُهُ. وَهَذَا قَصْرٌ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ، لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ لَا يُنْكِرُونَ ذَلِكَ وَلَا يَدَّعُونَ لَهُ شَرِيكًا فِي ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا عَبَدُوا أَصْنَامًا لَمْ تُنْعِمْ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ كَانَ حَالُهُمْ كَحَالِ مَنْ يَدَّعِي أَنَّ الْأَصْنَامَ أَنْعَمَتْ عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ النِّعَمِ، فَنَزَلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ يَدَّعِي الشَّرِكَةَ لِلَّهِ فِي الْخَلْقِ، فَكَانَ الْقَصْرُ قَصْرَ إِفْرَادٍ تَخْرِيجًا لِلْكَلَامِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ.
وَإِنْزَالُ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجَ
بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ
فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٢].
وَذَكَرَ فِي الْمَاءِ مِنَّتَيْنِ: الشَّرَابَ مِنْهُ، وَالْإِنْبَاتَ لِلشَّجَرِ وَالزَّرْعِ.
وَجُمْلَةُ لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ صِفَةٌ لِ مَاءً، ولَكُمْ مُتَعَلِّقٌ بِ شَرابٌ قُدِّمَ عَلَيْهِ لِلِاهْتِمَامِ، ومِنْهُ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ كَذَلِكَ، وَتَقْدِيمُهُ سَوَّغَ أَنْ يَكُونَ الْمُبْتَدَأُ نَكِرَةً.
وَالشَّرَابُ: اسْمٌ لِلْمَشْرُوبِ، وَهُوَ الْمَائِعُ الَّذِي تَشْتَفُّهُ الشَّفَتَانِ وَتُبْلِغُهُ إِلَى الْحَلْقِ فَيُبْلَعُ دُونَ مَضْغٍ.
وَ (مِنْ) تَبْعِيضَيَّةٌ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْهُ شَجَرٌ نَظِيرُ قَوْلِهِ: مِنْهُ شَرابٌ. وَأُعِيدَ حَرْفُ (مِنْ) بَعْدَ وَاوِ الْعَطْفِ لِأَنَّ حَرْفَ (مِنْ) هُنَا لِلِابْتِدَاءِ، أَوْ لِلسَّبَبِيَّةِ فَلَا يَحْسُنُ عَطْفُ شَجَرٌ عَلَى شَرابٌ.
وَالشَّجَرُ: يُطْلَقُ عَلَى النَّبَاتِ ذِي السَّاقِ الصُّلْبَةِ، وَيُطْلَقُ عَلَى مُطْلَقِ الْعُشْبِ وَالْكَلَأِ تَغْلِيبًا.
وَرُوعِيَ هَذَا التَّغْلِيبُ هُنَا لِأَنَّهُ غَالِبُ مَرْعَى أَنْعَامِ أَهْلِ الْحِجَازِ لِقِلَّةِ الْكَلَأِ فِي أَرْضِهِمْ، فَهُمْ يَرْعَوْنَ الشَّعَارِي وَالْغَابَاتِ.
وَفِي حَدِيثِ «ضَالَّةُ الْإِبِلِ تَشْرَبُ الْمَاءَ وَتَرْعَى الشّجر حَتَّى يأتيا رَبُّهَا»
. وَمِنَ الدَّقَائِقِ الْبَلَاغِيَّةِ الْإِتْيَانُ بِحَرْفِ (فِي) الظَّرْفِيَّةِ، فَالْإِسَامَةُ فِيهِ تَكُونُ بِالْأَكْلِ مِنْهُ وَالْأَكْلُ مِمَّا تَحْتَهُ مِنَ الْعُشْبِ.
وَالْإِسَامَةُ: إِطْلَاقُ الْإِبِلِ لِلسَّوْمِ وَهُوَ الرَّعْيُ. يُقَالُ: سَامَتِ الْمَاشِيَةُ فَهِيَ سَائِمَةٌ وأسامها ربّها.
[١١]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ١١]
يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١)
جُمْلَةُ يُنْبِتُ حَالٌ مِنْ ضمير أَنْزَلَ [سُورَة النَّحْل: ١٠]، أَيْ يُنْبِتُ اللَّهُ لَكُمْ.
وَإِنَّمَا لَمْ يُعْطَفْ هَذَا على الْجُمْلَة لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ [سُورَة النَّحْل: ١٠] لِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا يَحْصُلُ بِنُزُولِ الْمَاءِ وَحْدَهُ بَلْ لَا بُدَّ مَعَه من زَرْعٌ وغرس.
وَهَذَا الإنبات مِنْ دَلَائِلِ عَظِيمِ الْقُدْرَةِ الرَّبَّانِيَّةِ، فَالْغَرَضُ مِنْهُ الِاسْتِدْلَالُ مَمْزُوجًا
بِالتَّذْكِيرِ بِالنِّعْمَةِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لَكُمْ عَلَى وِزَانِ مَا
وَ (مِنْ) تَبْعِيضَيَّةٌ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْهُ شَجَرٌ نَظِيرُ قَوْلِهِ: مِنْهُ شَرابٌ. وَأُعِيدَ حَرْفُ (مِنْ) بَعْدَ وَاوِ الْعَطْفِ لِأَنَّ حَرْفَ (مِنْ) هُنَا لِلِابْتِدَاءِ، أَوْ لِلسَّبَبِيَّةِ فَلَا يَحْسُنُ عَطْفُ شَجَرٌ عَلَى شَرابٌ.
وَالشَّجَرُ: يُطْلَقُ عَلَى النَّبَاتِ ذِي السَّاقِ الصُّلْبَةِ، وَيُطْلَقُ عَلَى مُطْلَقِ الْعُشْبِ وَالْكَلَأِ تَغْلِيبًا.
وَرُوعِيَ هَذَا التَّغْلِيبُ هُنَا لِأَنَّهُ غَالِبُ مَرْعَى أَنْعَامِ أَهْلِ الْحِجَازِ لِقِلَّةِ الْكَلَأِ فِي أَرْضِهِمْ، فَهُمْ يَرْعَوْنَ الشَّعَارِي وَالْغَابَاتِ.
وَفِي حَدِيثِ «ضَالَّةُ الْإِبِلِ تَشْرَبُ الْمَاءَ وَتَرْعَى الشّجر حَتَّى يأتيا رَبُّهَا»
. وَمِنَ الدَّقَائِقِ الْبَلَاغِيَّةِ الْإِتْيَانُ بِحَرْفِ (فِي) الظَّرْفِيَّةِ، فَالْإِسَامَةُ فِيهِ تَكُونُ بِالْأَكْلِ مِنْهُ وَالْأَكْلُ مِمَّا تَحْتَهُ مِنَ الْعُشْبِ.
وَالْإِسَامَةُ: إِطْلَاقُ الْإِبِلِ لِلسَّوْمِ وَهُوَ الرَّعْيُ. يُقَالُ: سَامَتِ الْمَاشِيَةُ فَهِيَ سَائِمَةٌ وأسامها ربّها.
[١١]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ١١]
يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١)
جُمْلَةُ يُنْبِتُ حَالٌ مِنْ ضمير أَنْزَلَ [سُورَة النَّحْل: ١٠]، أَيْ يُنْبِتُ اللَّهُ لَكُمْ.
وَإِنَّمَا لَمْ يُعْطَفْ هَذَا على الْجُمْلَة لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ [سُورَة النَّحْل: ١٠] لِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا يَحْصُلُ بِنُزُولِ الْمَاءِ وَحْدَهُ بَلْ لَا بُدَّ مَعَه من زَرْعٌ وغرس.
وَهَذَا الإنبات مِنْ دَلَائِلِ عَظِيمِ الْقُدْرَةِ الرَّبَّانِيَّةِ، فَالْغَرَضُ مِنْهُ الِاسْتِدْلَالُ مَمْزُوجًا
بِالتَّذْكِيرِ بِالنِّعْمَةِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لَكُمْ عَلَى وِزَانِ مَا
114
تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ [سُورَة النَّحْل: ٥] الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها [سُورَة النَّحْل: ٨] الْآيَةَ.
وَأُسْنِدَ الْإِنْبَاتُ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ الْمُلْهِمُ لِأَسْبَابِهِ وَالْخَالِقُ لِأُصُولِهِ تَنْبِيهًا لِلنَّاسِ عَلَى دَفْعِ غُرُورِهِمْ بِقُدْرَةِ أَنْفُسِهِمْ، وَلِذَلِكَ قَالَ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ لِكَثْرَةِ مَا تَحْتَ ذَلِكَ مِنَ الدَّقَائِقِ.
وَذِكْرُ الزَّرْعِ وَالزَّيْتُونِ وَمَا مَعَهُمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ فِي سُورَة الْأَنْعَام.
والتفكّر تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٥٠].
وَإِقْحَامُ لَفْظِ «قَوْمٍ» لِلدَّلَالَةِ على أَن التفكّر مِنْ سَجَايَاهُمْ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٤].
وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ عَطْفٌ عَلَى الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ، أَيْ وَيُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ من كل الثَّمَرَاتِ مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ هُنَا.
وَالتَّعْرِيفُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ. وَالْمُرَادُ: أَجْنَاسُ ثَمَرَاتِ الْأَرْضِ الَّتِي يُنْبِتُهَا الْمَاءُ، وَلِكُلِّ قَوْمٍ مِنَ النَّاسِ ثَمَرَاتُ أَرْضِهِمْ وَجَوِّهِمْ. ومِنْ تَبْعِيضِيَّةٌ قُصِدَ مِنْهَا تَنْوِيعُ الِامْتِنَانِ عَلَى كُلِّ قَوْمٍ بِمَا نَالَهُمْ مِنْ نِعَمِ الثَّمَرَاتِ. وَإِنَّمَا لَمْ تَدْخُلْ عَلَى الزَّرْعِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ لِأَنَّهَا مِنَ الثَّمَرَاتِ الَّتِي تَنْبُتُ فِي كُلِّ مَكَانٍ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ تَذْيِيلٌ.
وَالْآيَةُ: الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى الْمُبْدِعُ الْحَكِيمُ. وَتِلْكَ هِيَ إِنْبَاتُ أَصْنَافٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ، كَمَا قَالَ: تسقى بِمَاءٍ وَاحِدٍ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [٤].
وَنِيطَتْ دَلَالَةُ هَذِهِ بِوَصْفِ التَّفْكِيرِ لِأَنَّهَا دَلَالَةٌ خَفِيَّةٌ لِحُصُولِهَا بِالتَّدْرِيجِ. وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَمْ يَهْتَدُوا بِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ دَلَالَةٍ عَلَى تَفَرُّدِ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَتَفَكَّرُونَ.
وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ [سُورَة النَّحْل: ٥] الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها [سُورَة النَّحْل: ٨] الْآيَةَ.
وَأُسْنِدَ الْإِنْبَاتُ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ الْمُلْهِمُ لِأَسْبَابِهِ وَالْخَالِقُ لِأُصُولِهِ تَنْبِيهًا لِلنَّاسِ عَلَى دَفْعِ غُرُورِهِمْ بِقُدْرَةِ أَنْفُسِهِمْ، وَلِذَلِكَ قَالَ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ لِكَثْرَةِ مَا تَحْتَ ذَلِكَ مِنَ الدَّقَائِقِ.
وَذِكْرُ الزَّرْعِ وَالزَّيْتُونِ وَمَا مَعَهُمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ فِي سُورَة الْأَنْعَام.
والتفكّر تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٥٠].
وَإِقْحَامُ لَفْظِ «قَوْمٍ» لِلدَّلَالَةِ على أَن التفكّر مِنْ سَجَايَاهُمْ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٤].
وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ عَطْفٌ عَلَى الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ، أَيْ وَيُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ من كل الثَّمَرَاتِ مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ هُنَا.
وَالتَّعْرِيفُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ. وَالْمُرَادُ: أَجْنَاسُ ثَمَرَاتِ الْأَرْضِ الَّتِي يُنْبِتُهَا الْمَاءُ، وَلِكُلِّ قَوْمٍ مِنَ النَّاسِ ثَمَرَاتُ أَرْضِهِمْ وَجَوِّهِمْ. ومِنْ تَبْعِيضِيَّةٌ قُصِدَ مِنْهَا تَنْوِيعُ الِامْتِنَانِ عَلَى كُلِّ قَوْمٍ بِمَا نَالَهُمْ مِنْ نِعَمِ الثَّمَرَاتِ. وَإِنَّمَا لَمْ تَدْخُلْ عَلَى الزَّرْعِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ لِأَنَّهَا مِنَ الثَّمَرَاتِ الَّتِي تَنْبُتُ فِي كُلِّ مَكَانٍ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ تَذْيِيلٌ.
وَالْآيَةُ: الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى الْمُبْدِعُ الْحَكِيمُ. وَتِلْكَ هِيَ إِنْبَاتُ أَصْنَافٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ، كَمَا قَالَ: تسقى بِمَاءٍ وَاحِدٍ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [٤].
وَنِيطَتْ دَلَالَةُ هَذِهِ بِوَصْفِ التَّفْكِيرِ لِأَنَّهَا دَلَالَةٌ خَفِيَّةٌ لِحُصُولِهَا بِالتَّدْرِيجِ. وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَمْ يَهْتَدُوا بِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ دَلَالَةٍ عَلَى تَفَرُّدِ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَتَفَكَّرُونَ.
115
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُنْبِتُ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ. وَقَرَأَهُ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بنُون العظمة.
[١٢]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ١٢]
وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢)
آيَاتٌ أُخْرَى عَلَى دَقِيقِ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِلْمِهِ مَمْزُوجَةٌ بِامْتِنَانٍ.
وَتَقَدَّمَ مَا يُفَسِّرُ هَذِهِ الْآيَةَ فِي صَدْرِ سُورَةِ يُونُسَ. وَتَسْخِيرُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٥٤] وَفِي أَوَائِلِ سُورَةِ الرَّعْدِ وَفِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ.
وَهَذَا انْتِقَالٌ لِلِاسْتِدْلَالِ بِإِتْقَانِ الصُّنْعِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ الصَّانِعِ وَعِلْمِهِ، وَإِدْمَاجٌ بَيْنَ الِاسْتِدْلَالِ وَالِامْتِنَانِ. وَنِيطَتِ الدَّلَالَاتُ بِوَصْفِ الْعَقْلِ لِأَنَّ أَصْلَ الْعَقْلِ كَافٍ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَالْقُدْرَةِ، إِذْ هِيَ دَلَائِلُ بَيِّنَةٌ وَاضِحَةٌ حَاصِلَةٌ بِالْمُشَاهَدَةِ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ.
وَتَقَدَّمَ وَجْهُ إِقْحَامِ لَفْظِ (قَوْمٍ) آنِفًا، وَأَنَّ الْجُمْلَةَ تَذْيِيلٌ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ جَمِيعَ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ مَنْصُوبَةً عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لِفِعْلِ «سَخَّرَ». وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَرَفَعَ مُسَخَّراتٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ عَنْهَا. فَنُكْتَةُ اخْتِلَافِ الْإِعْرَابِ الْإِشَارَةُ إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ التَّسْخِيرَيْنِ. وَقَرَأَ حَفْصٌ بِرَفْعِ النُّجُومُ ومُسَخَّراتٌ. وَنُكْتَةُ اخْتِلَافِ الْأُسْلُوبِ الْفَرْقُ بَيْنَ التَّسْخِيرَيْنِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْأَوَّلَ وَاضِحٌ وَالْآخَرَ خَفِيٌّ لِقِلَّةِ مَنْ يَرْقُبُ حَرَكَاتِ النُّجُومِ.
وَالْمُرَادُ بِأَمْرِهِ أَمْرُ التَّكْوِينِ لِلنِّظَامِ الشَّمْسِيِّ الْمَعْرُوفِ.
وَقَدْ أَبْدَى الْفَخْرُ فِي كِتَابِ «دُرَّةِ التَّنْزِيلِ» وَجْهًا لِلْفَرْقِ بَيْنَ إِفْرَادِ آيَةً فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى وَالثَّالِثَةِ وَبَيْنَ جَمْعِ آيَاتٍ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ: بِأَنَّ مَا ذُكِرَ
[١٢]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ١٢]
وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢)
آيَاتٌ أُخْرَى عَلَى دَقِيقِ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِلْمِهِ مَمْزُوجَةٌ بِامْتِنَانٍ.
وَتَقَدَّمَ مَا يُفَسِّرُ هَذِهِ الْآيَةَ فِي صَدْرِ سُورَةِ يُونُسَ. وَتَسْخِيرُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٥٤] وَفِي أَوَائِلِ سُورَةِ الرَّعْدِ وَفِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ.
وَهَذَا انْتِقَالٌ لِلِاسْتِدْلَالِ بِإِتْقَانِ الصُّنْعِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ الصَّانِعِ وَعِلْمِهِ، وَإِدْمَاجٌ بَيْنَ الِاسْتِدْلَالِ وَالِامْتِنَانِ. وَنِيطَتِ الدَّلَالَاتُ بِوَصْفِ الْعَقْلِ لِأَنَّ أَصْلَ الْعَقْلِ كَافٍ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَالْقُدْرَةِ، إِذْ هِيَ دَلَائِلُ بَيِّنَةٌ وَاضِحَةٌ حَاصِلَةٌ بِالْمُشَاهَدَةِ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ.
وَتَقَدَّمَ وَجْهُ إِقْحَامِ لَفْظِ (قَوْمٍ) آنِفًا، وَأَنَّ الْجُمْلَةَ تَذْيِيلٌ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ جَمِيعَ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ مَنْصُوبَةً عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لِفِعْلِ «سَخَّرَ». وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَرَفَعَ مُسَخَّراتٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ عَنْهَا. فَنُكْتَةُ اخْتِلَافِ الْإِعْرَابِ الْإِشَارَةُ إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ التَّسْخِيرَيْنِ. وَقَرَأَ حَفْصٌ بِرَفْعِ النُّجُومُ ومُسَخَّراتٌ. وَنُكْتَةُ اخْتِلَافِ الْأُسْلُوبِ الْفَرْقُ بَيْنَ التَّسْخِيرَيْنِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْأَوَّلَ وَاضِحٌ وَالْآخَرَ خَفِيٌّ لِقِلَّةِ مَنْ يَرْقُبُ حَرَكَاتِ النُّجُومِ.
وَالْمُرَادُ بِأَمْرِهِ أَمْرُ التَّكْوِينِ لِلنِّظَامِ الشَّمْسِيِّ الْمَعْرُوفِ.
وَقَدْ أَبْدَى الْفَخْرُ فِي كِتَابِ «دُرَّةِ التَّنْزِيلِ» وَجْهًا لِلْفَرْقِ بَيْنَ إِفْرَادِ آيَةً فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى وَالثَّالِثَةِ وَبَيْنَ جَمْعِ آيَاتٍ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ: بِأَنَّ مَا ذُكِرَ
أَوَّلًا وَثَالِثًا يَرْجِعُ إِلَى مَا نَجَمَ مِنَ الْأَرْضِ، فَجَمِيعُهُ آيَةٌ وَاحِدَةٌ تَابِعَةٌ لِخَلْقِ الْأَرْضِ وَمَا تَحْتَوِيهِ (أَيْ وَهُوَ كُلُّهُ ذُو حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ حَالَةُ النَّبَاتِ فِي الْأَرْضِ فِي الْأَوَّلِ وَحَالَةٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ حَالَةُ الذَّرْءِ فِي التَّنَاسُلِ فِي الْحَيَوَانِ فِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ) وَأَمَّا مَا ذُكِرَ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ فَإِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ، وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا نِظَامٌ يَخُصُّهُ وَدَلَائِلُ تُخَالِفُ دَلَائِلَ غَيْرِهِ، فَكَانَ مَا ذُكِرَ فِي ذَلِكَ مَجْمُوعُ آيَاتٍ (أَيْ لِأَنَّ بَعْضَهَا أَعْرَاضٌ كَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَبَعْضَهَا أَجْرَامٌ لَهَا أَنْظِمَةٌ مُخْتَلِفَةٌ ودلالات مُتعَدِّدَة).
[١٣]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ١٣]
وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٣)
عَطْفٌ عَلَى اللَّيْلَ وَالنَّهارَ [سُورَة النَّحْل: ١٢]، أَيْ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ. وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى دَقِيقِ الصُّنْعِ وَالْحِكْمَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ. وأومئ إِلَى مَا فِيهِ مِنْ مِنَّةٍ بِقَوْلِهِ لَكُمْ.
وَالذَّرْءُ: الْخَلْقُ بِالتَّنَاسُلِ وَالتَّوَلُّدُ بِالْحَمْلِ وَالتَّفْرِيخِ، فَلَيْسَ الْإِنْبَاتُ ذَرْءًا، وَهُوَ شَامِلٌ لِلْأَنْعَامِ وَالْكُرَاعِ (وَقَدْ مَضَتِ الْمِنَّةُ بِهِ) وَلِغَيْرِهَا مِثْلِ كِلَابِ الصَّيْدِ وَالْحِرَاسَةِ، وَجَوَارِحِ الصَّيْدِ، وَالطُّيُورِ، وَالْوُحُوشِ الْمَأْكُولَةِ، وَمِنَ الشَّجَرِ وَالنَّبَاتِ.
وَزِيدَ هُنَا وَصْفُ اخْتِلَافِ أَلْوَانِهِ وَهُوَ زِيَادَةٌ لِلتَّعْجِيبِ وَلَا دَخْلَ لَهُ فِي الِامْتِنَانِ، فَهُوَ كَقَوْلِه تَعَالَى: تسقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [٤]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِي سُورَةِ فَاطِرٍ [٢٧]. وَبِذَلِكَ صَارَ هَذَا آيَةً مُسْتَقِلَّةً فَلِذَلِكَ ذَيَّلَهُ بِجُمْلَةِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ، وَلِكَوْنِ مَحَلِّ الِاسْتِدْلَالِ هُوَ اخْتِلَافُ الْأَلْوَانِ مَعَ اتِّحَادِ أَصْلِ الذَّرْءِ أُفْرِدَتِ الْآيَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً.
[١٣]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ١٣]
وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٣)
عَطْفٌ عَلَى اللَّيْلَ وَالنَّهارَ [سُورَة النَّحْل: ١٢]، أَيْ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ. وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى دَقِيقِ الصُّنْعِ وَالْحِكْمَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ. وأومئ إِلَى مَا فِيهِ مِنْ مِنَّةٍ بِقَوْلِهِ لَكُمْ.
وَالذَّرْءُ: الْخَلْقُ بِالتَّنَاسُلِ وَالتَّوَلُّدُ بِالْحَمْلِ وَالتَّفْرِيخِ، فَلَيْسَ الْإِنْبَاتُ ذَرْءًا، وَهُوَ شَامِلٌ لِلْأَنْعَامِ وَالْكُرَاعِ (وَقَدْ مَضَتِ الْمِنَّةُ بِهِ) وَلِغَيْرِهَا مِثْلِ كِلَابِ الصَّيْدِ وَالْحِرَاسَةِ، وَجَوَارِحِ الصَّيْدِ، وَالطُّيُورِ، وَالْوُحُوشِ الْمَأْكُولَةِ، وَمِنَ الشَّجَرِ وَالنَّبَاتِ.
وَزِيدَ هُنَا وَصْفُ اخْتِلَافِ أَلْوَانِهِ وَهُوَ زِيَادَةٌ لِلتَّعْجِيبِ وَلَا دَخْلَ لَهُ فِي الِامْتِنَانِ، فَهُوَ كَقَوْلِه تَعَالَى: تسقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [٤]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِي سُورَةِ فَاطِرٍ [٢٧]. وَبِذَلِكَ صَارَ هَذَا آيَةً مُسْتَقِلَّةً فَلِذَلِكَ ذَيَّلَهُ بِجُمْلَةِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ، وَلِكَوْنِ مَحَلِّ الِاسْتِدْلَالِ هُوَ اخْتِلَافُ الْأَلْوَانِ مَعَ اتِّحَادِ أَصْلِ الذَّرْءِ أُفْرِدَتِ الْآيَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً.
وَالْأَلْوَانُ: جَمْعُ لَوْنٍ. وَهُوَ كَيْفِيَّةٌ لِسُطُوحِ الْأَجْسَامِ مُدْرَكَةٌ بِالْبَصَرِ تَنْشَأُ مِنَ امْتِزَاجِ بَعْضِ الْعَنَاصِرِ بِالسَّطْحِ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ أَوْ بِصَبْغِهَا بِعُنْصُرٍ ذِي لَوْنٍ مَعْرُوفٍ. وَتَنْشَأُ مِنَ اخْتِلَاطِ عُنْصُرَيْنِ فَأَكْثَرَ أَلْوَانٌ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا لَوْنُها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٦٩].
وَنِيطَ الِاسْتِدْلَالُ بِاخْتِلَافِ الْأَلْوَانِ بِوَصْفِ التَّذَكُّرِ لِأَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ تَذَكُّرِ الْأَلْوَانِ الْمُخْتَلِفَةِ إِذْ هِيَ مَشْهُورَةٌ.
وَإِقْحَامُ لَفْظِ (قَوْمٍ) وَكَوْنُ الْجُمْلَةِ تَذْيِيلًا تَقَدَّمَ آنِفًا.
وَأَبْدَى الْفَخْرُ فِي «دُرَّةِ التَّنْزِيلِ» وَجْهًا لِاخْتِلَافِ الْأَوْصَافِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [سُورَة النَّحْل: ١١] وَقَوْلِهِ: لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [سُورَة النَّحْل: ١٢] وَقَوْلِهِ: لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ: بِأَنَّ ذَلِكَ لِمُرَاعَاةِ اخْتِلَافِ شِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَى قُوَّةِ التَّأَمُّلِ بِدَلَالَةِ الْمَخْلُوقَاتِ النَّاجِمَةِ عَنِ الْأَرْضِ يحْتَاج إِلَى التفكر، وَهُوَ إِعْمَالُ النَّظَرِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْعِلْمِ. وَدَلَالَةُ مَا ذَرَأَهُ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْحَيَوَانِ مُحْتَاجَةٌ إِلَى مَزِيدِ تَأَمُّلٍ فِي التَّفْكِيرِ لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِهَا وَتَنَاسُلِهَا وَفَوَائِدِهَا، فَكَانَتْ بحاجة إِلَى التذكّر، وَهُوَ التَّفَكُّرُ مَعَ تَذَكُّرِ أَجْنَاسِهَا
وَاخْتِلَافِ خَصَائِصِهَا. وَأَمَّا دَلَالَةُ تَسْخِيرِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْعَوَالِمِ الْعُلْوِيَّةِ فَلِأَنَّهَا أَدَقُّ وَأَحْوَجُ إِلَى التَّعَمُّقِ. عَبَّرَ عَنِ الْمُسْتَدِلِّينَ عَلَيْهَا بِأَنَّهُمْ يَعْقِلُونَ، وَالتَّعَقُّلُ هُوَ أَعْلَى أَحْوَالِ الِاسْتِدْلَال اه.
[١٤]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ١٤]
وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٤)
الْقَوْلُ فِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ وَإِدْمَاجُ الِامْتِنَانِ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِيمَا سَبَقَ.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى تَسْخِيرِ الْفُلْكِ فِي الْبَحْرِ وَتَسْخِيرِ الْأَنْهَارِ فِي أَثْنَاءِ سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ.
وَنِيطَ الِاسْتِدْلَالُ بِاخْتِلَافِ الْأَلْوَانِ بِوَصْفِ التَّذَكُّرِ لِأَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ تَذَكُّرِ الْأَلْوَانِ الْمُخْتَلِفَةِ إِذْ هِيَ مَشْهُورَةٌ.
وَإِقْحَامُ لَفْظِ (قَوْمٍ) وَكَوْنُ الْجُمْلَةِ تَذْيِيلًا تَقَدَّمَ آنِفًا.
وَأَبْدَى الْفَخْرُ فِي «دُرَّةِ التَّنْزِيلِ» وَجْهًا لِاخْتِلَافِ الْأَوْصَافِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [سُورَة النَّحْل: ١١] وَقَوْلِهِ: لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [سُورَة النَّحْل: ١٢] وَقَوْلِهِ: لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ: بِأَنَّ ذَلِكَ لِمُرَاعَاةِ اخْتِلَافِ شِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَى قُوَّةِ التَّأَمُّلِ بِدَلَالَةِ الْمَخْلُوقَاتِ النَّاجِمَةِ عَنِ الْأَرْضِ يحْتَاج إِلَى التفكر، وَهُوَ إِعْمَالُ النَّظَرِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْعِلْمِ. وَدَلَالَةُ مَا ذَرَأَهُ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْحَيَوَانِ مُحْتَاجَةٌ إِلَى مَزِيدِ تَأَمُّلٍ فِي التَّفْكِيرِ لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِهَا وَتَنَاسُلِهَا وَفَوَائِدِهَا، فَكَانَتْ بحاجة إِلَى التذكّر، وَهُوَ التَّفَكُّرُ مَعَ تَذَكُّرِ أَجْنَاسِهَا
وَاخْتِلَافِ خَصَائِصِهَا. وَأَمَّا دَلَالَةُ تَسْخِيرِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْعَوَالِمِ الْعُلْوِيَّةِ فَلِأَنَّهَا أَدَقُّ وَأَحْوَجُ إِلَى التَّعَمُّقِ. عَبَّرَ عَنِ الْمُسْتَدِلِّينَ عَلَيْهَا بِأَنَّهُمْ يَعْقِلُونَ، وَالتَّعَقُّلُ هُوَ أَعْلَى أَحْوَالِ الِاسْتِدْلَال اه.
[١٤]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ١٤]
وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٤)
الْقَوْلُ فِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ وَإِدْمَاجُ الِامْتِنَانِ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِيمَا سَبَقَ.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى تَسْخِيرِ الْفُلْكِ فِي الْبَحْرِ وَتَسْخِيرِ الْأَنْهَارِ فِي أَثْنَاءِ سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ.
118
وَمِنْ تَسْخِيرِ الْبَحْرِ خَلْقُهُ عَلَى هَيْئَةٍ يُمْكِنُ مَعَهَا السَّبْحُ وَالسَّيْرُ بِالْفُلْكِ، وَتَمْكِينُ السَّابِحِينَ وَالْمَاخِرِينَ مِنْ صَيْدِ الْحِيتَانِ الْمَخْلُوقَةِ فِيهِ وَالْمُسَخَّرَةِ لِحِيَلِ الصَّائِدِينَ. وَزِيدَ فِي الِامْتِنَانِ أَنَّ لَحْمَ صَيْدِهِ طَرِيٌّ.
وَ (مِنْ) ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيْ تَأْكُلُوا لَحْمًا طَرِيًّا صَادِرًا مِنَ الْبَحْرِ.
وَالطَّرِيُّ: ضِدُّ الْيَابِسِ. وَالْمَصْدَرُ: الطَّرَاوَةُ. وَفِعْلُهُ: طَرُوَ، بِوَزْنِ خَشُنَ.
وَالْحِلْيَةُ: مَا يَتَحَلَّى بِهِ النَّاسُ، أَيْ يَتَزَيَّنُونَ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [١٧]. وَذَلِكَ اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ فَاللُّؤْلُؤُ يُوجَدُ فِي بَعْضِ الْبِحَارِ مِثْلِ الْخَلِيجِ الْفَارِسِيِّ، وَالْمَرْجَانُ يُوجِدُ فِي جَمِيعِ الْبِحَارِ وَيَكْثُرُ وَيَقِلُّ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى اللُّؤْلُؤِ فِي سُورَةِ الْحَجِّ، وَفِي سُورَة الرحمان. وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الْمَرْجَانِ فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ.
وَالِاسْتِخْرَاجُ: كَثْرَةُ الْإِخْرَاجِ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلتَّأْكِيدِ مِثْلُ: اسْتَجَابَ لِمَعْنَى أَجَابَ.
وَاللُّبْسُ: جَعْلُ الثَّوْبِ وَالْعِمَامَةِ وَالْمَصُوغِ عَلَى الْجَسَدِ. يُقَالُ: لُبْسُ التَّاجِ، وَلُبْسُ الْخَاتَمِ، وَلُبْسُ الْقَمِيصِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٢٦].
وَإِسْنَادُ لِبَاسِ الْحِلْيَةِ إِلَى ضَمِيرِ جَمْعِ الذُّكُورِ تَغْلِيبٌ، وَإِلَّا فَإِنَّ غَالِبَ الْحِلْيَةِ يَلْبَسُهَا النِّسَاءُ عَدَا الْخَوَاتِيمِ وَحِلْيَةِ السُّيُوفِ.
وَجُمْلَةُ وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْجُمَلِ الْمُتَعَاطِفَةِ مَعَ إِمْكَانِ الْعَطْفِ
لِقَصْدِ مُخَالَفَةِ الْأُسْلُوبِ لِلتَّعْجِيبِ مِنْ تَسْخِيرِ السَّيْرِ فِي الْبَحْرِ بِاسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ الْعَجِيبَةِ بِوَاسِطَةِ فِعْلِ الرُّؤْيَةِ. وَهُوَ يُسْتَعْمَلُ فِي التَّعْجِيبِ كَثِيرًا بِصِيَغٍ كَثِيرَةٍ نَحْوَ: وَلَو ترى، وأ رَأَيْت، وَمَاذَا تَرَى. وَاجْتِلَابُ فِعْلِ الرُّؤْيَةِ فِي أَمْثَالِهِ يُفِيدُ الْحَثَّ عَلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ. فَهَذَا النَّظْمُ لِلْكَلَامِ لِإِفَادَةِ هَذَا الْمَعْنَى وَلَوْلَاهَا لَكَانَ الْكَلَامُ هَكَذَا: وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ فِي فُلْكٍ مَوَاخِرَ.
وَ (مِنْ) ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيْ تَأْكُلُوا لَحْمًا طَرِيًّا صَادِرًا مِنَ الْبَحْرِ.
وَالطَّرِيُّ: ضِدُّ الْيَابِسِ. وَالْمَصْدَرُ: الطَّرَاوَةُ. وَفِعْلُهُ: طَرُوَ، بِوَزْنِ خَشُنَ.
وَالْحِلْيَةُ: مَا يَتَحَلَّى بِهِ النَّاسُ، أَيْ يَتَزَيَّنُونَ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [١٧]. وَذَلِكَ اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ فَاللُّؤْلُؤُ يُوجَدُ فِي بَعْضِ الْبِحَارِ مِثْلِ الْخَلِيجِ الْفَارِسِيِّ، وَالْمَرْجَانُ يُوجِدُ فِي جَمِيعِ الْبِحَارِ وَيَكْثُرُ وَيَقِلُّ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى اللُّؤْلُؤِ فِي سُورَةِ الْحَجِّ، وَفِي سُورَة الرحمان. وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الْمَرْجَانِ فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ.
وَالِاسْتِخْرَاجُ: كَثْرَةُ الْإِخْرَاجِ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلتَّأْكِيدِ مِثْلُ: اسْتَجَابَ لِمَعْنَى أَجَابَ.
وَاللُّبْسُ: جَعْلُ الثَّوْبِ وَالْعِمَامَةِ وَالْمَصُوغِ عَلَى الْجَسَدِ. يُقَالُ: لُبْسُ التَّاجِ، وَلُبْسُ الْخَاتَمِ، وَلُبْسُ الْقَمِيصِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٢٦].
وَإِسْنَادُ لِبَاسِ الْحِلْيَةِ إِلَى ضَمِيرِ جَمْعِ الذُّكُورِ تَغْلِيبٌ، وَإِلَّا فَإِنَّ غَالِبَ الْحِلْيَةِ يَلْبَسُهَا النِّسَاءُ عَدَا الْخَوَاتِيمِ وَحِلْيَةِ السُّيُوفِ.
وَجُمْلَةُ وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْجُمَلِ الْمُتَعَاطِفَةِ مَعَ إِمْكَانِ الْعَطْفِ
لِقَصْدِ مُخَالَفَةِ الْأُسْلُوبِ لِلتَّعْجِيبِ مِنْ تَسْخِيرِ السَّيْرِ فِي الْبَحْرِ بِاسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ الْعَجِيبَةِ بِوَاسِطَةِ فِعْلِ الرُّؤْيَةِ. وَهُوَ يُسْتَعْمَلُ فِي التَّعْجِيبِ كَثِيرًا بِصِيَغٍ كَثِيرَةٍ نَحْوَ: وَلَو ترى، وأ رَأَيْت، وَمَاذَا تَرَى. وَاجْتِلَابُ فِعْلِ الرُّؤْيَةِ فِي أَمْثَالِهِ يُفِيدُ الْحَثَّ عَلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ. فَهَذَا النَّظْمُ لِلْكَلَامِ لِإِفَادَةِ هَذَا الْمَعْنَى وَلَوْلَاهَا لَكَانَ الْكَلَامُ هَكَذَا: وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ فِي فُلْكٍ مَوَاخِرَ.
119
وَعَطْفُ وَلِتَبْتَغُوا عَلَى وَتَسْتَخْرِجُوا لِيَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ النِّعَمِ الَّتِي نَشَأَتْ عَنْ حِكْمَةِ تَسْخِيرِ الْبَحْرِ. وَلَمْ يُجْعَلْ عِلَّةً لِمَخْرِ الْفُلْكِ كَمَا جُعِلَ فِي سُورَةِ فَاطِرٍ [١٢] وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ لِأَنَّ تِلْكَ لَمْ تُصَدَّرْ بِمِنَّةِ تَسْخِيرِ الْبَحْرِ بَلْ جَاءَتْ فِي غَرَضٍ آخَرَ.
وَأُعِيدَ حَرْفُ التَّعْلِيلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ لِأَجْلِ الْبُعْدِ بِسَبَبِ الْجُمْلَةِ الْمُعْتَرِضَةِ.
وَالِابْتِغَاءُ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ: التِّجَارَةُ كَمَا عَبَّرَ عَنْهَا بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٩٨].
وَعَطْفُ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ عَلَى بَقِيَّةِ الْعِلَلِ لِأَنَّهُ مِنَ الْحِكَمِ الَّتِي سَخَّرَ اللَّهُ بِهَا الْبَحْرَ لِلنَّاسِ حَمْلًا لَهُمْ عَلَى الِاعْتِرَافِ لِلَّهِ بِالْعُبُودِيَّةِ وَنَبْذَهُمْ إشراك غير ربّه فِيهَا. وَهُوَ تَعْرِيضٌ بالذين أشركوا.
[١٥، ١٦]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : الْآيَات ١٥ إِلَى ١٦]
وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦)
انْتِقَالٌ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ وَالِامْتِنَانِ بِمَا عَلَى سَطْحِ الْأَرْضِ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي فِي وُجُودِهَا لُطْفٌ بِالْإِنْسَانِ. وَهَذِهِ الْمَخْلُوقَاتُ لَمَّا كَانَتْ مَجْعُولَةً كَالتَّكْمِلَةِ لِلْأَرْضِ وَمَوْضُوعَةً عَلَى ظَاهِرِ سَطْحِهَا عَبَّرَ عَنْ خَلْقِهَا وَوَضْعِهَا بِالْإِلْقَاءِ الَّذِي هُوَ رَمْيُ شَيْءٍ عَلَى الْأَرْضِ. وَلَعَلَّ خَلْقَهَا كَانَ مُتَأَخِّرًا عَنْ خَلْقِ الْأَرْضِ، إِذْ لَعَلَّ الْجِبَالَ انْبَثَقَتْ بِاضْطِرَابَاتٍ أَرْضِيَّةٍ كَالزِّلْزَالِ الْعَظِيمِ ثُمَّ حَدَثَتِ الْأَنْهَارُ بِتَهَاطُلِ الْأَمْطَارِ. وَأَمَّا السُّبُلُ وَالْعَلَامَاتُ فَتَأَخُّرُ وَجُودِهَا ظَاهِرٌ، فَصَارَ خَلْقُ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ شَبِيهًا بِإِلْقَاءِ شَيْءٍ فِي شَيْءٍ بَعْدَ تَمَامِهِ.
وَلَعَلَّ أَصْلَ تَكْوِينِ الْجِبَالِ كَانَ مِنْ شَظَايَا رَمَتْ بِهَا الْكَوَاكِبُ فَصَادَفَتْ سَطْحَ
الْأَرْضِ، كَمَا أَنَّ الْأَمْطَارَ تَهَاطَلَتْ فَكَوَّنَتِ الْأَنْهَارَ فَيَكُونُ تَشْبِيهُ حُصُولِ
وَأُعِيدَ حَرْفُ التَّعْلِيلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ لِأَجْلِ الْبُعْدِ بِسَبَبِ الْجُمْلَةِ الْمُعْتَرِضَةِ.
وَالِابْتِغَاءُ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ: التِّجَارَةُ كَمَا عَبَّرَ عَنْهَا بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٩٨].
وَعَطْفُ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ عَلَى بَقِيَّةِ الْعِلَلِ لِأَنَّهُ مِنَ الْحِكَمِ الَّتِي سَخَّرَ اللَّهُ بِهَا الْبَحْرَ لِلنَّاسِ حَمْلًا لَهُمْ عَلَى الِاعْتِرَافِ لِلَّهِ بِالْعُبُودِيَّةِ وَنَبْذَهُمْ إشراك غير ربّه فِيهَا. وَهُوَ تَعْرِيضٌ بالذين أشركوا.
[١٥، ١٦]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : الْآيَات ١٥ إِلَى ١٦]
وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦)
انْتِقَالٌ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ وَالِامْتِنَانِ بِمَا عَلَى سَطْحِ الْأَرْضِ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي فِي وُجُودِهَا لُطْفٌ بِالْإِنْسَانِ. وَهَذِهِ الْمَخْلُوقَاتُ لَمَّا كَانَتْ مَجْعُولَةً كَالتَّكْمِلَةِ لِلْأَرْضِ وَمَوْضُوعَةً عَلَى ظَاهِرِ سَطْحِهَا عَبَّرَ عَنْ خَلْقِهَا وَوَضْعِهَا بِالْإِلْقَاءِ الَّذِي هُوَ رَمْيُ شَيْءٍ عَلَى الْأَرْضِ. وَلَعَلَّ خَلْقَهَا كَانَ مُتَأَخِّرًا عَنْ خَلْقِ الْأَرْضِ، إِذْ لَعَلَّ الْجِبَالَ انْبَثَقَتْ بِاضْطِرَابَاتٍ أَرْضِيَّةٍ كَالزِّلْزَالِ الْعَظِيمِ ثُمَّ حَدَثَتِ الْأَنْهَارُ بِتَهَاطُلِ الْأَمْطَارِ. وَأَمَّا السُّبُلُ وَالْعَلَامَاتُ فَتَأَخُّرُ وَجُودِهَا ظَاهِرٌ، فَصَارَ خَلْقُ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ شَبِيهًا بِإِلْقَاءِ شَيْءٍ فِي شَيْءٍ بَعْدَ تَمَامِهِ.
وَلَعَلَّ أَصْلَ تَكْوِينِ الْجِبَالِ كَانَ مِنْ شَظَايَا رَمَتْ بِهَا الْكَوَاكِبُ فَصَادَفَتْ سَطْحَ
الْأَرْضِ، كَمَا أَنَّ الْأَمْطَارَ تَهَاطَلَتْ فَكَوَّنَتِ الْأَنْهَارَ فَيَكُونُ تَشْبِيهُ حُصُولِ
120
هَذَيْنِ بِالْإِلْقَاءِ بَيِّنًا. وَإِطْلَاقُهُ عَلَى وَضْعِ السُّبُلِ وَالْعَلَامَاتِ تَغْلِيبٌ. وَمِنْ إِطْلَاقِ الْإِلْقَاءِ عَلَى الْإِعْطَاءِ وَنَحْوِهِ قَوْله تَعَالَى: أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا [سُورَة الْقَمَر: ٢٥].
ورَواسِيَ جَمْعُ رَاسٍ. وَهُوَ وَصْفٌ مِنَ الرَّسْوِ- بِفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ السِّينِ-.
وَيُقَالُ- بِضَمِّ الرَّاءِ وَالسِّينِ مُشَدَّدَةً وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ-. وَهُوَ الثَّبَاتُ وَالتَّمَكُّنُ فِي الْمَكَانِ، قَالَ تَعَالَى: وَقُدُورٍ راسِياتٍ [سُورَة سبأ: ١٣].
وَيُطْلَقُ عَلَى الْجَبَلِ رَاسٍ بِمَنْزِلَةِ الْوَصْفِ الْغَالِبِ. وَجَمْعُهُ عَلَى زِنَةِ فَوَاعِلَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ. وَهُوَ مِنَ النَّوَادِرِ مِثْلُ عَوَاذِلَ وَفَوَارِسَ. وَتَقَدَّمَ بَعْضُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ الرَّعْدِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ تَعْلِيلٌ لِإِلْقَاءِ الرَّوَاسِي فِي الْأَرْضِ. وَالْمَيْدُ:
الِاضْطِرَابُ. وَضَمِيرُ تَمِيدَ عَائِدٌ إِلَى الْأَرْضِ بِقَرِينَةِ قَرْنِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: بِكُمْ، لِأَنَّ الْمَيْدَ إِذَا عُدِّيَ بِالْبَاءِ عُلِمَ أَنَّ الْمَجْرُورَ بِالْبَاءِ هُوَ الشَّيْءُ الْمُسْتَقِرُّ فِي الظَّرْفِ الْمَائِدِ، وَالِاضْطِرَابُ يُعَطِّلُ مَصَالِحَ النَّاسِ وَيُلْحِقُ بِهِمْ آلَامًا.
وَلَمَّا كَانَ الْمَقَامُ مَقَامَ امْتِنَانٍ عُلِمَ أَنَّ الْمُعَلَّلَ بِهِ هُوَ انْتِفَاءُ الْمَيْدِ لَا وُقُوعُهُ. فَالْكَلَامُ جَارٍ عَلَى حَذْفٍ تَقْتَضِيهِ الْقَرِينَةُ، وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ، قَالَ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ:
فَعَجَّلْنَا الْقِرَى أَنْ تَشْتُمُونَا أَرَادَ أَنْ لَا تَشْتُمُونَا. فَالْعِلَّةُ هِيَ انْتِفَاءُ الشَّتْمِ لَا وُقُوعُهُ. وَنُحَاةُ الْكُوفَةِ يُخَرِّجُونَ أَمْثَالَ ذَلِكَ عَلَى حَذْفِ حَرْفِ النَّفْيِ بَعْدَ أَنْ. وَالتَّقْدِيرُ: لِأَنْ لَا تَمِيدَ بِكُمْ وَلِئَلَّا تَشْتُمُونَا، وَهُوَ الظَّاهِرُ. وَنُحَاةُ الْبَصْرَةِ يُخَرِّجُونَ مِثْلَهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ بَيْنَ الْفِعْلِ الْمُعَلَّلِ وأَنْ.
تَقْدِيرُهُ: كَرَاهِيَةَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ.
وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي أَشَارَتْ إِلَيْهِ الْآيَةُ مَعْنًى غَامِضٌ. وَلَعَلَّ اللَّهَ جَعَلَ نُتُوءَ الْجِبَالِ عَلَى سَطْحِ الْأَرْضِ مُعَدَّلًا لِكُرَوِيَّتِهَا بِحَيْثُ لَا تَكُونُ بِحَدٍّ مِنَ الْمَلَاسَةِ يُخَفِّفُ حَرَكَتَهَا فِي الْفَضَاءِ تَخْفِيفًا يُوجِبُ شِدَّةَ اضْطِرَابِهَا.
ورَواسِيَ جَمْعُ رَاسٍ. وَهُوَ وَصْفٌ مِنَ الرَّسْوِ- بِفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ السِّينِ-.
وَيُقَالُ- بِضَمِّ الرَّاءِ وَالسِّينِ مُشَدَّدَةً وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ-. وَهُوَ الثَّبَاتُ وَالتَّمَكُّنُ فِي الْمَكَانِ، قَالَ تَعَالَى: وَقُدُورٍ راسِياتٍ [سُورَة سبأ: ١٣].
وَيُطْلَقُ عَلَى الْجَبَلِ رَاسٍ بِمَنْزِلَةِ الْوَصْفِ الْغَالِبِ. وَجَمْعُهُ عَلَى زِنَةِ فَوَاعِلَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ. وَهُوَ مِنَ النَّوَادِرِ مِثْلُ عَوَاذِلَ وَفَوَارِسَ. وَتَقَدَّمَ بَعْضُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ الرَّعْدِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ تَعْلِيلٌ لِإِلْقَاءِ الرَّوَاسِي فِي الْأَرْضِ. وَالْمَيْدُ:
الِاضْطِرَابُ. وَضَمِيرُ تَمِيدَ عَائِدٌ إِلَى الْأَرْضِ بِقَرِينَةِ قَرْنِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: بِكُمْ، لِأَنَّ الْمَيْدَ إِذَا عُدِّيَ بِالْبَاءِ عُلِمَ أَنَّ الْمَجْرُورَ بِالْبَاءِ هُوَ الشَّيْءُ الْمُسْتَقِرُّ فِي الظَّرْفِ الْمَائِدِ، وَالِاضْطِرَابُ يُعَطِّلُ مَصَالِحَ النَّاسِ وَيُلْحِقُ بِهِمْ آلَامًا.
وَلَمَّا كَانَ الْمَقَامُ مَقَامَ امْتِنَانٍ عُلِمَ أَنَّ الْمُعَلَّلَ بِهِ هُوَ انْتِفَاءُ الْمَيْدِ لَا وُقُوعُهُ. فَالْكَلَامُ جَارٍ عَلَى حَذْفٍ تَقْتَضِيهِ الْقَرِينَةُ، وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ، قَالَ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ:
فَعَجَّلْنَا الْقِرَى أَنْ تَشْتُمُونَا أَرَادَ أَنْ لَا تَشْتُمُونَا. فَالْعِلَّةُ هِيَ انْتِفَاءُ الشَّتْمِ لَا وُقُوعُهُ. وَنُحَاةُ الْكُوفَةِ يُخَرِّجُونَ أَمْثَالَ ذَلِكَ عَلَى حَذْفِ حَرْفِ النَّفْيِ بَعْدَ أَنْ. وَالتَّقْدِيرُ: لِأَنْ لَا تَمِيدَ بِكُمْ وَلِئَلَّا تَشْتُمُونَا، وَهُوَ الظَّاهِرُ. وَنُحَاةُ الْبَصْرَةِ يُخَرِّجُونَ مِثْلَهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ بَيْنَ الْفِعْلِ الْمُعَلَّلِ وأَنْ.
تَقْدِيرُهُ: كَرَاهِيَةَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ.
وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي أَشَارَتْ إِلَيْهِ الْآيَةُ مَعْنًى غَامِضٌ. وَلَعَلَّ اللَّهَ جَعَلَ نُتُوءَ الْجِبَالِ عَلَى سَطْحِ الْأَرْضِ مُعَدَّلًا لِكُرَوِيَّتِهَا بِحَيْثُ لَا تَكُونُ بِحَدٍّ مِنَ الْمَلَاسَةِ يُخَفِّفُ حَرَكَتَهَا فِي الْفَضَاءِ تَخْفِيفًا يُوجِبُ شِدَّةَ اضْطِرَابِهَا.
121
وَنِعْمَةُ الْأَنْهَارِ عَظِيمَةٌ، فَإِنَّ مِنْهَا شَرَابَهُمْ وَسَقْيَ حَرْثِهِمْ، وَفِيهَا تَجْرِي سُفُنُهُمْ لِأَسْفَارِهِمْ.
وَلِهَذِهِ الْمِنَّةِ الْأَخِيرَةِ عَطَفَ عَلَيْهَا وَسُبُلًا جَمْعُ سَبِيلٍ. وَهُوَ الطَّرِيقُ الَّذِي يُسَافَرُ فِيهِ بَرًّا.
وَجُمْلَةُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ مُعْتَرِضَةٌ، أَيْ رَجَاءَ اهْتِدَائِكُمْ. وَهُوَ كَلَامٌ مُوَجَّهٌ يَصْلُحُ لِلِاهْتِدَاءِ إِلَى الْمَقَاصِدِ فِي الْأَسْفَارِ مِنْ رَسْمِ الطُّرُقِ وَإِقَامَةِ الْمَرَاسِي عَلَى الْأَنْهَارِ وَاعْتِبَارِ الْمَسَافَاتِ. وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ جَعْلِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ ذَلِكَ حَاصِلٌ بِإِلْهَامِهِ. وَيَصْلُحُ لِلِاهْتِدَاءِ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ وَهُوَ دِينُ التَّوْحِيدِ، لِأَنَّ فِي تِلْكَ الْأَشْيَاءِ دَلَالَةً عَلَى الْخَالِقِ الْمُتَوَحِّدِ بِالْخَلْقِ.
وَالْعَلَامَاتُ: الْأَمَارَاتُ الَّتِي أَلْهَمَ اللَّهُ النَّاسَ أَنْ يَضَعُوهَا أَوْ يَتَعَارَفُوهَا لِتَكُونَ دَلَالَةً عَلَى الْمَسَافَاتِ وَالْمَسَالِكِ الْمَأْمُونَةِ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ فَتَتْبَعُهَا السَّابِلَةُ.
وَجُمْلَةُ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ، لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى: وَهَدَاكُمْ بِالنَّجْمِ فَأَنْتُمْ تَهْتَدُونَ بِهِ. وَهَذِهِ مِنَّةٌ بِالِاهْتِدَاءِ فِي اللَّيْلِ لِأَنَّ السَّبِيلَ وَالْعَلَامَاتِ إِنَّمَا تَهْدِي فِي النَّهَارِ، وَقَدْ يَضْطَرُّ السَّالِكُ إِلَى السَّيْرِ لَيْلًا فَمَوَاقِعُ النُّجُومِ عَلَامَاتٌ لِاهْتِدَاءِ النَّاسِ السَّائِرِينَ لَيْلًا تعرف بهَا السَّمَوَات، وَأَخَصُّ مَنْ يَهْتَدِي بِهَا الْبَحَّارَةُ لِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ الْإِرْسَاءَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ فَهُمْ مُضْطَرُّونَ إِلَى السَّيْرِ لَيْلًا، وَهِيَ هِدَايَةٌ عَظِيمَةٌ فِي وَقْتِ ارْتِبَاكِ الطَّرِيقِ عَلَى السَّائِرِ، وَلِذَلِكَ قَدَّمَ الْمُتَعَلِّقُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَبِالنَّجْمِ تَقْدِيمًا يُفِيدُ الِاهْتِمَامَ، وَكَذَلِكَ بِالْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هُمْ يَهْتَدُونَ.
وَعَدَلَ عَنِ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَة التفاتا يومىء إِلَى فَرِيقٍ خَاصٍّ وَهُمُ السَّيَّارَةُ وَالْمَلَّاحُونَ فَإِنَّ هِدَايَتَهُمْ بِهَذِهِ النُّجُومِ لَا غَيْرَ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي «النَّجْمِ» تَعْرِيفُ الْجِنْسِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ النُّجُومُ الَّتِي تَعَارَفَهَا النَّاسُ لِلِاهْتِدَاءِ بِهَا مِثْلُ الْقُطْبِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي [سُورَةِ الْأَنْعَامِ: ٩٧].
وَلِهَذِهِ الْمِنَّةِ الْأَخِيرَةِ عَطَفَ عَلَيْهَا وَسُبُلًا جَمْعُ سَبِيلٍ. وَهُوَ الطَّرِيقُ الَّذِي يُسَافَرُ فِيهِ بَرًّا.
وَجُمْلَةُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ مُعْتَرِضَةٌ، أَيْ رَجَاءَ اهْتِدَائِكُمْ. وَهُوَ كَلَامٌ مُوَجَّهٌ يَصْلُحُ لِلِاهْتِدَاءِ إِلَى الْمَقَاصِدِ فِي الْأَسْفَارِ مِنْ رَسْمِ الطُّرُقِ وَإِقَامَةِ الْمَرَاسِي عَلَى الْأَنْهَارِ وَاعْتِبَارِ الْمَسَافَاتِ. وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ جَعْلِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ ذَلِكَ حَاصِلٌ بِإِلْهَامِهِ. وَيَصْلُحُ لِلِاهْتِدَاءِ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ وَهُوَ دِينُ التَّوْحِيدِ، لِأَنَّ فِي تِلْكَ الْأَشْيَاءِ دَلَالَةً عَلَى الْخَالِقِ الْمُتَوَحِّدِ بِالْخَلْقِ.
وَالْعَلَامَاتُ: الْأَمَارَاتُ الَّتِي أَلْهَمَ اللَّهُ النَّاسَ أَنْ يَضَعُوهَا أَوْ يَتَعَارَفُوهَا لِتَكُونَ دَلَالَةً عَلَى الْمَسَافَاتِ وَالْمَسَالِكِ الْمَأْمُونَةِ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ فَتَتْبَعُهَا السَّابِلَةُ.
وَجُمْلَةُ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ، لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى: وَهَدَاكُمْ بِالنَّجْمِ فَأَنْتُمْ تَهْتَدُونَ بِهِ. وَهَذِهِ مِنَّةٌ بِالِاهْتِدَاءِ فِي اللَّيْلِ لِأَنَّ السَّبِيلَ وَالْعَلَامَاتِ إِنَّمَا تَهْدِي فِي النَّهَارِ، وَقَدْ يَضْطَرُّ السَّالِكُ إِلَى السَّيْرِ لَيْلًا فَمَوَاقِعُ النُّجُومِ عَلَامَاتٌ لِاهْتِدَاءِ النَّاسِ السَّائِرِينَ لَيْلًا تعرف بهَا السَّمَوَات، وَأَخَصُّ مَنْ يَهْتَدِي بِهَا الْبَحَّارَةُ لِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ الْإِرْسَاءَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ فَهُمْ مُضْطَرُّونَ إِلَى السَّيْرِ لَيْلًا، وَهِيَ هِدَايَةٌ عَظِيمَةٌ فِي وَقْتِ ارْتِبَاكِ الطَّرِيقِ عَلَى السَّائِرِ، وَلِذَلِكَ قَدَّمَ الْمُتَعَلِّقُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَبِالنَّجْمِ تَقْدِيمًا يُفِيدُ الِاهْتِمَامَ، وَكَذَلِكَ بِالْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هُمْ يَهْتَدُونَ.
وَعَدَلَ عَنِ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَة التفاتا يومىء إِلَى فَرِيقٍ خَاصٍّ وَهُمُ السَّيَّارَةُ وَالْمَلَّاحُونَ فَإِنَّ هِدَايَتَهُمْ بِهَذِهِ النُّجُومِ لَا غَيْرَ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي «النَّجْمِ» تَعْرِيفُ الْجِنْسِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ النُّجُومُ الَّتِي تَعَارَفَهَا النَّاسُ لِلِاهْتِدَاءِ بِهَا مِثْلُ الْقُطْبِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي [سُورَةِ الْأَنْعَامِ: ٩٧].
122
وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى هُمْ يَهْتَدُونَ لِمُجَرَّدِ تَقَوِّي الْحُكْمِ، إِذْ لَا يَسْمَحُ الْمَقَامُ بِقَصْدِ الْقَصْرِ وَإِنْ تَكَلَّفَهُ فِي «الْكَشَّاف».
[١٧، ١٨]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : الْآيَات ١٧ إِلَى ١٨]
أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٧) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨)
بَعْدَ أَنْ أُقِيمَتِ الدَّلَائِلُ عَلَى انْفِرَادِ اللَّهِ بِالْخَلْقِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ [سُورَة النَّحْل: ٣] وَثَبَتَتِ الْمِنَّةُ وَحُقَّ الشُّكْرُ، فَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ هَاتَانِ الْجُمْلَتَانِ لِتَكُونَا كَالنَّتِيجَتَيْنِ لِلْأَدِلَّةِ السَّابِقَةِ إِنْكَارًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ. فَالِاسْتِفْهَامُ عَنِ الْمُسَاوَاةِ إِنْكَارِيٌّ، أَيْ لَا يَسْتَوِي مَنْ يَخْلُقُ بِمَنْ لَا يَخْلُقُ. فَالْكَافُ لِلْمُمَاثَلَةِ، وَهِيَ مَوْرِدُ الْإِنْكَارِ حَيْثُ جَعَلُوا الْأَصْنَامَ آلِهَةً شَرِيكَةً لِلَّهِ تَعَالَى. وَمِنْ مَضْمُونِ الصِّلَتَيْنِ يُعْرَفُ أَيُّ الْمَوْصُولَيْنِ أَوْلَى بِالْإِلَهِيَّةِ فَيَظْهَرُ مَوْرِدُ الْإِنْكَارِ.
وَحِينَ كَانَ الْمُرَادُ بِمَنْ لَا يَخْلُقُ الْأَصْنَامَ كَانَ إِطْلَاقُ «مَنْ» الْغَالِبَةُ فِي الْعَاقِلِ مُشَاكَلَةً لِقَوْلِهِ أَفَمَنْ يَخْلُقُ.
وَفُرِّعَ عَلَى إِنْكَارِ التَّسْوِيَةِ اسْتِفْهَامٌ عَنْ عَدَمِ التَّذَكُّرِ فِي انْتِفَائِهَا. فَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ:
أَفَلا تَذَكَّرُونَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْكَارِ عَلَى انْتِفَاءِ التَّذَكُّرِ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُخَاطَبِينَ، فَهُوَ إِنْكَارٌ عَلَى إِعْرَاضِ الْمُشْرِكِينَ عَنِ التَّذَكُّرِ فِي ذَلِكَ.
جملَة وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ. وَهِيَ كَالتَّكْمِلَةِ لَهَا لِأَنَّهَا نَتِيجَةٌ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ تِلْكَ الْأَدِلَّةُ مِنْ الِامْتِنَانِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ لِلِامْتِنَانِ لِأَنَّ فِيهَا عُمُومًا يَشْمَلُ النِّعَمَ الْمَذْكُورَةَ وَغَيْرَهَا.
وَهَذَا كَلَامٌ جَامِعٌ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى وَفْرَةِ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى النَّاسِ بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُ عَدَّهَا الْعَادُّونَ، وَإِذَا كَانَتْ كَذَلِكَ فَقَدْ حَصَلَ التَّنْبِيهُ إِلَى كَثْرَتِهَا بِمَعْرِفَةِ أُصُولِهَا وَمَا يَحْوِيهَا مِنَ الْعَوَالِمِ.
[١٧، ١٨]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : الْآيَات ١٧ إِلَى ١٨]
أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٧) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨)
بَعْدَ أَنْ أُقِيمَتِ الدَّلَائِلُ عَلَى انْفِرَادِ اللَّهِ بِالْخَلْقِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ [سُورَة النَّحْل: ٣] وَثَبَتَتِ الْمِنَّةُ وَحُقَّ الشُّكْرُ، فَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ هَاتَانِ الْجُمْلَتَانِ لِتَكُونَا كَالنَّتِيجَتَيْنِ لِلْأَدِلَّةِ السَّابِقَةِ إِنْكَارًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ. فَالِاسْتِفْهَامُ عَنِ الْمُسَاوَاةِ إِنْكَارِيٌّ، أَيْ لَا يَسْتَوِي مَنْ يَخْلُقُ بِمَنْ لَا يَخْلُقُ. فَالْكَافُ لِلْمُمَاثَلَةِ، وَهِيَ مَوْرِدُ الْإِنْكَارِ حَيْثُ جَعَلُوا الْأَصْنَامَ آلِهَةً شَرِيكَةً لِلَّهِ تَعَالَى. وَمِنْ مَضْمُونِ الصِّلَتَيْنِ يُعْرَفُ أَيُّ الْمَوْصُولَيْنِ أَوْلَى بِالْإِلَهِيَّةِ فَيَظْهَرُ مَوْرِدُ الْإِنْكَارِ.
وَحِينَ كَانَ الْمُرَادُ بِمَنْ لَا يَخْلُقُ الْأَصْنَامَ كَانَ إِطْلَاقُ «مَنْ» الْغَالِبَةُ فِي الْعَاقِلِ مُشَاكَلَةً لِقَوْلِهِ أَفَمَنْ يَخْلُقُ.
وَفُرِّعَ عَلَى إِنْكَارِ التَّسْوِيَةِ اسْتِفْهَامٌ عَنْ عَدَمِ التَّذَكُّرِ فِي انْتِفَائِهَا. فَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ:
أَفَلا تَذَكَّرُونَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْكَارِ عَلَى انْتِفَاءِ التَّذَكُّرِ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُخَاطَبِينَ، فَهُوَ إِنْكَارٌ عَلَى إِعْرَاضِ الْمُشْرِكِينَ عَنِ التَّذَكُّرِ فِي ذَلِكَ.
جملَة وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ. وَهِيَ كَالتَّكْمِلَةِ لَهَا لِأَنَّهَا نَتِيجَةٌ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ تِلْكَ الْأَدِلَّةُ مِنْ الِامْتِنَانِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ لِلِامْتِنَانِ لِأَنَّ فِيهَا عُمُومًا يَشْمَلُ النِّعَمَ الْمَذْكُورَةَ وَغَيْرَهَا.
وَهَذَا كَلَامٌ جَامِعٌ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى وَفْرَةِ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى النَّاسِ بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُ عَدَّهَا الْعَادُّونَ، وَإِذَا كَانَتْ كَذَلِكَ فَقَدْ حَصَلَ التَّنْبِيهُ إِلَى كَثْرَتِهَا بِمَعْرِفَةِ أُصُولِهَا وَمَا يَحْوِيهَا مِنَ الْعَوَالِمِ.
وَفِي هَذَا إِيمَاءٌ إِلَى الِاسْتِكْثَارِ مِنَ الشُّكْرِ عَلَى مُجْمَلِ النِّعَمِ، وَتَعْرِيضٌ بِفَظَاعَةِ كُفْرِ مَنْ كَفَرُوا بِهَذَا الْمُنْعِمِ، وَتَغْلِيظُ التَّهْدِيدِ لَهُمْ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهَا فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ اسْتِئْنَافٌ عَقَّبَ بِهِ تَغْلِيظَ الْكُفْرِ وَالتَّهْدِيدِ عَلَيْهِ تَنْبِيهًا عَلَى تَمَكُّنِهِمْ مِنْ تَدَارُكِ أَمْرِهِمْ بِأَنْ يُقْلِعُوا عَنِ الشِّرْكِ، وَيَتَأَهَّبُوا لِلشُّكْرِ بِمَا يُطِيقُونَ، عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ مِنْ تَعْقِيبِ الزَّوَاجِرِ بِالرَّغَائِبِ كَيْلَا يَقْنَطَ الْمُسْرِفُونَ.
وَقَدْ خُولِفَ بَيْنَ خِتَامِ هَذِهِ الْآيَةِ وَخِتَامِ آيَةِ سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ، إِذْ وَقع هُنَا لَك وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [سُورَة إِبْرَاهِيم: ٣٤] لِأَنَّ تِلْكَ جَاءَتْ فِي سِيَاقِ وَعِيدٍ وَتَهْدِيدٍ عَقِبَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً [سُورَة إِبْرَاهِيم: ٢٨] فَكَانَ الْمُنَاسِبُ لَهَا تَسْجِيلَ ظُلْمِهِمْ وَكُفْرِهِمْ بِنِعْمَةِ اللَّهِ.
وَأَمَّا هَذِهِ الْآيَةُ فَقَدْ جَاءَتْ خِطَابًا لِلْفَرِيقَيْنِ كَمَا كَانَتِ النِّعَمُ الْمَعْدُودَةُ عَلَيْهِمْ مُنْتَفِعًا بِهَا
كِلَاهُمَا.
ثُمَّ كَانَ مِنَ اللَّطَائِفِ أَنْ قُوبِلَ الْوَصْفَانِ اللَّذَانِ فِي آيَةِ سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ بِوَصْفَيْنِ هُنَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ تِلْكَ النِّعَمَ كَانَتْ سَبَبًا لِظُلْمِ الْإِنْسَانِ وَكُفْرِهِ وَهِيَ سَبَبٌ لِغُفْرَانِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ. وَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ مَنُوطٌ بِعَمَل الْإِنْسَان.
[١٩]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ١٩]
وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (١٩)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ [سُورَة النَّحْل: ١٧]. فَبَعْدَ أَنْ أَثْبَتَ أَنَّ اللَّهَ مُنْفَرِدٌ بِصِفَةِ الْخَلْقِ دُونَ غَيْرِهِ بِالْأَدِلَّةِ العديدة ثمَّ باستنتاج ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ انْتَقَلَ هُنَا إِلَى إِثْبَاتِ أَنَّهُ مُنْفَرِدٌ بِعُمُومِ الْعِلْمِ.
وَلَمْ يُقَدَّمْ لِهَذَا الْخَبَرِ اسْتِدْلَالٌ وَلَا عُقِّبَ بِالدَّلِيلِ لِأَنَّهُ مِمَّا دَلَّتْ عَلَيْهِ أَدِلَّةُ الِانْفِرَادِ بِالْخَلْقِ، لِأَنَّ خَالِقَ أَجْزَاءِ الْإِنْسَانِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ يَجِبُ لَهُ أَنْ
وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ اسْتِئْنَافٌ عَقَّبَ بِهِ تَغْلِيظَ الْكُفْرِ وَالتَّهْدِيدِ عَلَيْهِ تَنْبِيهًا عَلَى تَمَكُّنِهِمْ مِنْ تَدَارُكِ أَمْرِهِمْ بِأَنْ يُقْلِعُوا عَنِ الشِّرْكِ، وَيَتَأَهَّبُوا لِلشُّكْرِ بِمَا يُطِيقُونَ، عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ مِنْ تَعْقِيبِ الزَّوَاجِرِ بِالرَّغَائِبِ كَيْلَا يَقْنَطَ الْمُسْرِفُونَ.
وَقَدْ خُولِفَ بَيْنَ خِتَامِ هَذِهِ الْآيَةِ وَخِتَامِ آيَةِ سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ، إِذْ وَقع هُنَا لَك وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [سُورَة إِبْرَاهِيم: ٣٤] لِأَنَّ تِلْكَ جَاءَتْ فِي سِيَاقِ وَعِيدٍ وَتَهْدِيدٍ عَقِبَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً [سُورَة إِبْرَاهِيم: ٢٨] فَكَانَ الْمُنَاسِبُ لَهَا تَسْجِيلَ ظُلْمِهِمْ وَكُفْرِهِمْ بِنِعْمَةِ اللَّهِ.
وَأَمَّا هَذِهِ الْآيَةُ فَقَدْ جَاءَتْ خِطَابًا لِلْفَرِيقَيْنِ كَمَا كَانَتِ النِّعَمُ الْمَعْدُودَةُ عَلَيْهِمْ مُنْتَفِعًا بِهَا
كِلَاهُمَا.
ثُمَّ كَانَ مِنَ اللَّطَائِفِ أَنْ قُوبِلَ الْوَصْفَانِ اللَّذَانِ فِي آيَةِ سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ بِوَصْفَيْنِ هُنَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ تِلْكَ النِّعَمَ كَانَتْ سَبَبًا لِظُلْمِ الْإِنْسَانِ وَكُفْرِهِ وَهِيَ سَبَبٌ لِغُفْرَانِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ. وَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ مَنُوطٌ بِعَمَل الْإِنْسَان.
[١٩]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ١٩]
وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (١٩)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ [سُورَة النَّحْل: ١٧]. فَبَعْدَ أَنْ أَثْبَتَ أَنَّ اللَّهَ مُنْفَرِدٌ بِصِفَةِ الْخَلْقِ دُونَ غَيْرِهِ بِالْأَدِلَّةِ العديدة ثمَّ باستنتاج ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ انْتَقَلَ هُنَا إِلَى إِثْبَاتِ أَنَّهُ مُنْفَرِدٌ بِعُمُومِ الْعِلْمِ.
وَلَمْ يُقَدَّمْ لِهَذَا الْخَبَرِ اسْتِدْلَالٌ وَلَا عُقِّبَ بِالدَّلِيلِ لِأَنَّهُ مِمَّا دَلَّتْ عَلَيْهِ أَدِلَّةُ الِانْفِرَادِ بِالْخَلْقِ، لِأَنَّ خَالِقَ أَجْزَاءِ الْإِنْسَانِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ يَجِبُ لَهُ أَنْ
يَكُونُ عَالِمًا بِدَقَائِقِ حَرَكَاتِ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ وَهِيَ بَيْنَ ظَاهِرٍ وَخَفِيٍّ، فَلِذَلِكَ قَالَ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ.
وَالْمُخَاطَبُ هُنَا هُمُ الْمُخَاطَبُونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَلا تَذَكَّرُونَ [سُورَة النَّحْل: ١٧].
وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالتَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ بِأَنَّ اللَّهَ مُحَاسِبُهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ.
وَفِيهِ إِعْلَامٌ بِأَنَّ أَصْنَامَهُمْ بِخِلَافِ ذَلِكَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ تَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ فَإِنَّهُ يُفِيدُ الْقَصْرَ لِرَدِّ دَعْوَى الشَّرِكَةِ.
وَقَرَأَ حَفْصٌ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ فِيهِمَا، وَهُوَ الْتِفَاتٌ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ. وَعَلَى قِرَاءَتِهِ تَكُونُ الْجُمْلَةُ أَظْهَرُ فِي التَّهْدِيدِ مِنْهَا فِي قصد التَّعْلِيم.
[٢٠، ٢١]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : الْآيَات ٢٠ إِلَى ٢١]
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٢١)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ [سُورَة النَّحْل: ١٧] وَجُمْلَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ [سُورَة النَّحْل: ١٩].
وَمَا صدق الَّذِينَ الْأَصْنَامُ. وَظَاهِرٌ أَنَّ الْخِطَابَ هُنَا مُتَمَحِّضٌ لِلْمُشْرِكِينَ وَهُمْ بَعْضُ الْمُخَاطَبِينَ فِي الضَّمَائِرِ السَّابِقَةِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ التَّصْرِيحُ بِمَا اسْتُفِيدَ ضِمْنًا مِمَّا قَبْلَهَا وَهُوَ نَفْيُ الْخَالِقِيَّةِ وَنَفْيُ الْعِلْمِ عَنِ الْأَصْنَامِ.
فَالْخَبَرُ الْأَوَّلُ وَهُوَ جُمْلَةُ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً اسْتُفِيدَ مِنْ جُمْلَةِ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ. [سُورَة النَّحْل: ١٧] وَعَطْفُ وَهُمْ يُخْلَقُونَ ارْتِقَاءٌ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى انْتِفَاءِ إِلَهِيَّتِهَا.
وَالْخَبَرُ الثَّانِي وَهُوَ جُمْلَةُ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ تَصْرِيحٌ بِمَا اسْتُفِيدَ مِنْ جُمْلَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ [سُورَة النَّحْل: ١٩] بِطَرِيقَةِ نَفْيِ الشَّيْءِ بِنَفْيِ مَلْزُومِهِ.
وَالْمُخَاطَبُ هُنَا هُمُ الْمُخَاطَبُونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَلا تَذَكَّرُونَ [سُورَة النَّحْل: ١٧].
وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالتَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ بِأَنَّ اللَّهَ مُحَاسِبُهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ.
وَفِيهِ إِعْلَامٌ بِأَنَّ أَصْنَامَهُمْ بِخِلَافِ ذَلِكَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ تَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ فَإِنَّهُ يُفِيدُ الْقَصْرَ لِرَدِّ دَعْوَى الشَّرِكَةِ.
وَقَرَأَ حَفْصٌ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ فِيهِمَا، وَهُوَ الْتِفَاتٌ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ. وَعَلَى قِرَاءَتِهِ تَكُونُ الْجُمْلَةُ أَظْهَرُ فِي التَّهْدِيدِ مِنْهَا فِي قصد التَّعْلِيم.
[٢٠، ٢١]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : الْآيَات ٢٠ إِلَى ٢١]
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٢١)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ [سُورَة النَّحْل: ١٧] وَجُمْلَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ [سُورَة النَّحْل: ١٩].
وَمَا صدق الَّذِينَ الْأَصْنَامُ. وَظَاهِرٌ أَنَّ الْخِطَابَ هُنَا مُتَمَحِّضٌ لِلْمُشْرِكِينَ وَهُمْ بَعْضُ الْمُخَاطَبِينَ فِي الضَّمَائِرِ السَّابِقَةِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ التَّصْرِيحُ بِمَا اسْتُفِيدَ ضِمْنًا مِمَّا قَبْلَهَا وَهُوَ نَفْيُ الْخَالِقِيَّةِ وَنَفْيُ الْعِلْمِ عَنِ الْأَصْنَامِ.
فَالْخَبَرُ الْأَوَّلُ وَهُوَ جُمْلَةُ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً اسْتُفِيدَ مِنْ جُمْلَةِ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ. [سُورَة النَّحْل: ١٧] وَعَطْفُ وَهُمْ يُخْلَقُونَ ارْتِقَاءٌ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى انْتِفَاءِ إِلَهِيَّتِهَا.
وَالْخَبَرُ الثَّانِي وَهُوَ جُمْلَةُ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ تَصْرِيحٌ بِمَا اسْتُفِيدَ مِنْ جُمْلَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ [سُورَة النَّحْل: ١٩] بِطَرِيقَةِ نَفْيِ الشَّيْءِ بِنَفْيِ مَلْزُومِهِ.
125
وَهِيَ طَرِيقَةُ الْكِنَايَةِ الَّتِي هِيَ كَذِكْرِ الشَّيْءِ بِدَلِيلِهِ. فَنَفْيُ الْحَيَاةِ عَنِ الْأَصْنَامِ فِي قَوْلِهِ: غَيْرُ أَحْياءٍ يَسْتَلْزِمُ نَفْيُ الْعِلْمِ عَنْهَا لِأَنَّ الْحَيَاةَ شَرْطٌ فِي قَبُولِ الْعِلْمِ، وَلِأَنَّ نَفْيَ أَنْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ مَا هُوَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ يَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءَ أَنْ يَعْلَمُوا أَحْوَالَ غَيْرِهِمْ بِدَلَالَةِ فَحْوَى الْخِطَابِ، وَمَنْ كَانَ هَكَذَا فَهُوَ غَيْرُ إِلَهٍ.
وَأُسْنِدَ يَخْلُقُونَ إِلَى النَّائِبِ لِظُهُورِ الْفَاعِلِ مِنَ الْمَقَامِ، أَيْ وَهُمْ مَخْلُوقُونَ لِلَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُمْ مِنَ الْحِجَارَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ، وَلَا يُخْرِجُهَا نَحْتُ الْبَشَرِ إِيَّاهَا عَلَى صُوَرٍ وَأَشْكَالٍ عَنْ كَوْنِ الْأَصْلِ مَخْلُوقًا لِلَّهِ تَعَالَى. كَمَا قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَوْلَهُ: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ [سُورَة الصافات: ٩٦].
وَجُمْلَةُ غَيْرُ أَحْياءٍ تَأْكِيدٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ أَمْواتٌ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى عَرَاقَةِ وَصْفِ الْمَوْتِ فِيهِمْ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ شَائِبَةُ حَيَاةٍ لِأَنَّهُمْ حِجَارَةٌ.
وَوُصِفَتِ الْحِجَارَةُ بِالْمَوْتِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِ الْمَوْتِ عَدَمَ الْحَيَاةِ. وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْوَصْفِ بِأَسْمَاءِ الْإِعْدَامِ قَبُولُ الْمَوْصُوفَاتِ بِهَا لِمَلَكَاتِهَا، كَمَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ الْحُكَمَاءُ، لِأَنَّ ذَلِكَ اصْطِلَاحٌ مَنْطِقِيٌّ دَعَا إِلَيْهِ تَنْظِيمُ أُصُولِ الْمُحَاجَّةِ.
وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَيَعْقُوبُ يَدْعُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ. وَفِيهَا زِيَادَةُ تَبْيِينٍ لِصَرْفِ الْخِطَابِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ.
وَجُمْلَةُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ إِدْمَاجٌ لِإِثْبَاتِ الْبَعْثِ عَقِبَ الْكَلَامِ عَلَى إِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ هَذَيْنِ هُمَا أَصْلُ إِبْطَالِ عَقِيدَةِ الْمُشْرِكِينَ، وَتَمْهِيدٌ لِوَجْهِ التَّلَازُمِ بَيْنَ إِنْكَارِ الْبَعْثِ وَبَيْنَ إِنْكَارِ التَّوْحِيدِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ [سُورَة النَّحْل: ٢٢]. وَلِذَلِكَ فَالظَّاهِرُ أَنَّ ضَمِيرَيْ يَشْعُرُونَ
ويُبْعَثُونَ عَائِدَانِ إِلَى الْكُفَّارِ عَلَى طَرِيقِ الِالْتِفَاتِ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، وَعَلَى تَنَاسُقِ الضَّمَائِرِ فِي قِرَاءَةِ عَاصِمٍ وَيَعْقُوبَ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ نَفْيِ شُعُورِهِمْ بِالْبَعْثِ تَهْدِيدُهُمْ بِأَنَّ الْبَعْثَ الَّذِي أَنْكَرُوهُ وَاقِعٌ وَأَنَّهُمْ لَا يَدْرُونَ مَتَّى يَبْغَتُهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً [سُورَة الْأَعْرَاف: ١٨٧].
وَأُسْنِدَ يَخْلُقُونَ إِلَى النَّائِبِ لِظُهُورِ الْفَاعِلِ مِنَ الْمَقَامِ، أَيْ وَهُمْ مَخْلُوقُونَ لِلَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُمْ مِنَ الْحِجَارَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ، وَلَا يُخْرِجُهَا نَحْتُ الْبَشَرِ إِيَّاهَا عَلَى صُوَرٍ وَأَشْكَالٍ عَنْ كَوْنِ الْأَصْلِ مَخْلُوقًا لِلَّهِ تَعَالَى. كَمَا قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَوْلَهُ: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ [سُورَة الصافات: ٩٦].
وَجُمْلَةُ غَيْرُ أَحْياءٍ تَأْكِيدٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ أَمْواتٌ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى عَرَاقَةِ وَصْفِ الْمَوْتِ فِيهِمْ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ شَائِبَةُ حَيَاةٍ لِأَنَّهُمْ حِجَارَةٌ.
وَوُصِفَتِ الْحِجَارَةُ بِالْمَوْتِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِ الْمَوْتِ عَدَمَ الْحَيَاةِ. وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْوَصْفِ بِأَسْمَاءِ الْإِعْدَامِ قَبُولُ الْمَوْصُوفَاتِ بِهَا لِمَلَكَاتِهَا، كَمَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ الْحُكَمَاءُ، لِأَنَّ ذَلِكَ اصْطِلَاحٌ مَنْطِقِيٌّ دَعَا إِلَيْهِ تَنْظِيمُ أُصُولِ الْمُحَاجَّةِ.
وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَيَعْقُوبُ يَدْعُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ. وَفِيهَا زِيَادَةُ تَبْيِينٍ لِصَرْفِ الْخِطَابِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ.
وَجُمْلَةُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ إِدْمَاجٌ لِإِثْبَاتِ الْبَعْثِ عَقِبَ الْكَلَامِ عَلَى إِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ هَذَيْنِ هُمَا أَصْلُ إِبْطَالِ عَقِيدَةِ الْمُشْرِكِينَ، وَتَمْهِيدٌ لِوَجْهِ التَّلَازُمِ بَيْنَ إِنْكَارِ الْبَعْثِ وَبَيْنَ إِنْكَارِ التَّوْحِيدِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ [سُورَة النَّحْل: ٢٢]. وَلِذَلِكَ فَالظَّاهِرُ أَنَّ ضَمِيرَيْ يَشْعُرُونَ
ويُبْعَثُونَ عَائِدَانِ إِلَى الْكُفَّارِ عَلَى طَرِيقِ الِالْتِفَاتِ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، وَعَلَى تَنَاسُقِ الضَّمَائِرِ فِي قِرَاءَةِ عَاصِمٍ وَيَعْقُوبَ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ نَفْيِ شُعُورِهِمْ بِالْبَعْثِ تَهْدِيدُهُمْ بِأَنَّ الْبَعْثَ الَّذِي أَنْكَرُوهُ وَاقِعٌ وَأَنَّهُمْ لَا يَدْرُونَ مَتَّى يَبْغَتُهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً [سُورَة الْأَعْرَاف: ١٨٧].
126
وَالْبَعْثُ: حَقِيقَتُهُ الْإِرْسَالُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ. وَيُطْلَقُ عَلَى إِثَارَةِ الْجَاثِمِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: بَعَثْتُ الْبَعِيرَ، إِذَا أَثَرْتُهُ مِنْ مَبْرَكِهِ. وَلَعَلَّهُ مِنْ إِطْلَاقِ اسْمِ الشَّيْءِ عَلَى سَبَبِهِ. وَقَدْ غَلَبَ الْبَعْثُ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ عَلَى إِحْضَارِ النَّاسِ إِلَى الْحِسَابِ بَعْدَ الْمَوْتِ. فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ مَيِّتًا فَبَعْثُهُ مِنْ جَدَثِهِ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ حَيًّا فَصَادَفَتْهُ سَاعَةُ انْتِهَاءِ الدُّنْيَا فَمَاتَ سَاعَتَئِذٍ فَبَعْثُهُ هُوَ إِحْيَاؤُهُ عَقِبَ الْمَوْتِ، وَبِذَلِكَ لَا يُعَكَّرُ إِسْنَادُ نَفْيِ الشُّعُورِ بِوَقْتِ الْبَعْثِ عَنِ الْكُفَّارِ الْأَحْيَاءِ الْمُهَدَّدِينَ. وَلَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ يَشْعُرُونَ عَائِدًا إِلَى الَّذِينَ تَدْعُونَ، أَيِ الْأَصْنَامِ.
وأَيَّانَ اسْمُ اسْتِفْهَامٍ عَنِ الزَّمَانِ. مُرَكَّبَةٌ مِنْ (أَيٍّ) وَ (آنٍ) بِمَعْنَى أَيُّ زَمَنٍ، وَهِيَ مُعَلِّقَةٌ لِفِعْلِ يَشْعُرُونَ عَنِ الْعَمَلِ بِالِاسْتِفْهَامِ، وَالْمَعْنَى: وَمَا يَشْعُرُونَ بِزَمَنِ بَعْثِهِمْ. وَتَقَدَّمَ أَيَّانَ فِي قَوْله تَعَالَى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها فِي سُورَة الْأَعْرَاف [١٨٧].
[٢٢، ٢٣]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : الْآيَات ٢٢ إِلَى ٢٣]
إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٢٢) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (٢٣)
اسْتِئْنَافُ نَتِيجَةٍ لِحَاصِلِ الْمُحَاجَّةِ الْمَاضِيَةِ، أَيْ قَدْ ثَبَتَ بِمَا تَقَدَّمَ إِبْطَالُ إِلَهِيَّةِ غَيْرِ اللَّهِ، فَثَبَتَ أَنَّ لَكُمْ إِلَهًا وَاحِدًا لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلِكَوْنِ مَا مَضَى كَافِيًا فِي إِبْطَالِ إِنْكَارِهِمُ الْوَحْدَانِيَّةِ عَرِيَتِ الْجُمْلَةُ عَنِ الْمُؤَكِّدِ تَنْزِيلًا لحَال الْمُشْركين بعد مَا سَمِعُوا مِنَ الْأَدِلَّةِ مَنْزِلَةَ مَنْ لَا يُظَنُّ بِهِ أَنَّهُ يَتَرَدَّدُ فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ قَوْله تَعَالَى: ِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ دَلِيلٌ، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٣] خِطَابٌ لِأَهْلِ الْكِتَابِ.
وأَيَّانَ اسْمُ اسْتِفْهَامٍ عَنِ الزَّمَانِ. مُرَكَّبَةٌ مِنْ (أَيٍّ) وَ (آنٍ) بِمَعْنَى أَيُّ زَمَنٍ، وَهِيَ مُعَلِّقَةٌ لِفِعْلِ يَشْعُرُونَ عَنِ الْعَمَلِ بِالِاسْتِفْهَامِ، وَالْمَعْنَى: وَمَا يَشْعُرُونَ بِزَمَنِ بَعْثِهِمْ. وَتَقَدَّمَ أَيَّانَ فِي قَوْله تَعَالَى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها فِي سُورَة الْأَعْرَاف [١٨٧].
[٢٢، ٢٣]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : الْآيَات ٢٢ إِلَى ٢٣]
إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٢٢) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (٢٣)
اسْتِئْنَافُ نَتِيجَةٍ لِحَاصِلِ الْمُحَاجَّةِ الْمَاضِيَةِ، أَيْ قَدْ ثَبَتَ بِمَا تَقَدَّمَ إِبْطَالُ إِلَهِيَّةِ غَيْرِ اللَّهِ، فَثَبَتَ أَنَّ لَكُمْ إِلَهًا وَاحِدًا لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلِكَوْنِ مَا مَضَى كَافِيًا فِي إِبْطَالِ إِنْكَارِهِمُ الْوَحْدَانِيَّةِ عَرِيَتِ الْجُمْلَةُ عَنِ الْمُؤَكِّدِ تَنْزِيلًا لحَال الْمُشْركين بعد مَا سَمِعُوا مِنَ الْأَدِلَّةِ مَنْزِلَةَ مَنْ لَا يُظَنُّ بِهِ أَنَّهُ يَتَرَدَّدُ فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ قَوْله تَعَالَى: ِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ دَلِيلٌ، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٣] خِطَابٌ لِأَهْلِ الْكِتَابِ.
127
وَتَفَرَّعَ عَلَيْهِ الْإِخْبَارُ بِجُمْلَةِ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ، وَهُوَ تَفْرِيعُ الْأَخْبَارِ عَنِ الْأَخْبَارِ، أَيْ يَتَفَرَّعُ عَلَى هَذِهِ الْقَضِيَّةِ الْقَاطِعَةِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الدَّلَائِلِ أَنَّكُمْ قُلُوبُكُمْ مُنْكِرَةٌ وَأَنْتُمْ مُسْتَكْبِرُونَ وَأَن ذَلِك ناشىء عَنْ عَدَمِ إِيمَانِكُمْ بِالْآخِرَةِ.
وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الْمُشْرِكِينَ بِالْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ «الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ» لِأَنَّهُمْ قَدْ عُرِفُوا
بِمَضْمُونِ الصِّلَةِ وَاشْتُهِرُوا بِهَا اشْتِهَارَ لَمْزٍ وَتَنْقِيصٍ عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ، كَقَوْلِهِ: وَقالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا [سُورَة الْفرْقَان: ٢١]، وَلِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ لِهَذِهِ الصِّلَةِ ارْتِبَاطًا بِاسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى الْعِنَادِ، لِأَنَّ انْتِفَاءَ إِيمَانِهِمْ بِالْبَعْثِ وَالْحِسَابِ قَدْ جَرَّأَهُمْ عَلَى نَبْذِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ ظِهْرِيًّا فَلَمْ يَتَوَقَّعُوا مُؤَاخَذَةً عَلَى نَبْذِهَا، عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهَا حَقٌّ فَيَنْظُرُوا فِي دَلَائِلِ أَحَقِّيَّتِهَا مَعَ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَكِنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِأَنَّهُ أَعَدَّ لِلنَّاسِ يَوْمَ جَزَاءٍ عَلَى أَعْمَالِهِمْ.
وَمَعْنَى قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ جَاحِدَةٌ بِمَا هُوَ وَاقِعٌ. اسْتُعْمِلَ الْإِنْكَارُ فِي جَحْدِ الْأَمْرِ الْوَاقِعِ لِأَنَّهُ ضِدُّ الْإِقْرَارِ. فَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ مُنْكِرَةٌ لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ عَلَيْهِ، أَيْ مُنْكِرَةٌ لِلْوَحْدَانِيَّةِ.
وَعَبَّرَ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْإِنْكَارَ ثَابِتٌ لَهُمْ دَائِمٌ لِاسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى الْإِنْكَارِ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ مِنَ الْأَدِلَّةِ. وَذَلِكَ يُفِيدُ أَنَّ الْإِنْكَارَ صَارَ لَهُمْ سَجِيَّةً وَتَمَكَّنَ مِنْ نُفُوسِهِمْ لِأَنَّهُمْ ضُرُّوا بِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فَاعْتَادُوا عَدَمَ التَّبَصُّرِ فِي الْعَوَاقِبِ.
وَكَذَلِكَ جُمْلَةُ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ بُنِيَتْ عَلَى الِاسْمِيَّةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَمَكُّنِ الِاسْتِكْبَارِ مِنْهُمْ. وَقَدْ خُولِفَ ذَلِكَ فِي آيَةِ سُورَةِ الْفُرْقَانِ [٢١] لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً لِأَنَّ تِلْكَ الْآيَةَ لَمْ تَتَقَدَّمْهَا دَلَائِلُ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ مِثْلُ الدَّلَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
وَجُمْلَةُ لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْمُتَعَاطِفَتَيْنِ.
وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الْمُشْرِكِينَ بِالْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ «الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ» لِأَنَّهُمْ قَدْ عُرِفُوا
بِمَضْمُونِ الصِّلَةِ وَاشْتُهِرُوا بِهَا اشْتِهَارَ لَمْزٍ وَتَنْقِيصٍ عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ، كَقَوْلِهِ: وَقالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا [سُورَة الْفرْقَان: ٢١]، وَلِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ لِهَذِهِ الصِّلَةِ ارْتِبَاطًا بِاسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى الْعِنَادِ، لِأَنَّ انْتِفَاءَ إِيمَانِهِمْ بِالْبَعْثِ وَالْحِسَابِ قَدْ جَرَّأَهُمْ عَلَى نَبْذِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ ظِهْرِيًّا فَلَمْ يَتَوَقَّعُوا مُؤَاخَذَةً عَلَى نَبْذِهَا، عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهَا حَقٌّ فَيَنْظُرُوا فِي دَلَائِلِ أَحَقِّيَّتِهَا مَعَ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَكِنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِأَنَّهُ أَعَدَّ لِلنَّاسِ يَوْمَ جَزَاءٍ عَلَى أَعْمَالِهِمْ.
وَمَعْنَى قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ جَاحِدَةٌ بِمَا هُوَ وَاقِعٌ. اسْتُعْمِلَ الْإِنْكَارُ فِي جَحْدِ الْأَمْرِ الْوَاقِعِ لِأَنَّهُ ضِدُّ الْإِقْرَارِ. فَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ مُنْكِرَةٌ لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ عَلَيْهِ، أَيْ مُنْكِرَةٌ لِلْوَحْدَانِيَّةِ.
وَعَبَّرَ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْإِنْكَارَ ثَابِتٌ لَهُمْ دَائِمٌ لِاسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى الْإِنْكَارِ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ مِنَ الْأَدِلَّةِ. وَذَلِكَ يُفِيدُ أَنَّ الْإِنْكَارَ صَارَ لَهُمْ سَجِيَّةً وَتَمَكَّنَ مِنْ نُفُوسِهِمْ لِأَنَّهُمْ ضُرُّوا بِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فَاعْتَادُوا عَدَمَ التَّبَصُّرِ فِي الْعَوَاقِبِ.
وَكَذَلِكَ جُمْلَةُ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ بُنِيَتْ عَلَى الِاسْمِيَّةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَمَكُّنِ الِاسْتِكْبَارِ مِنْهُمْ. وَقَدْ خُولِفَ ذَلِكَ فِي آيَةِ سُورَةِ الْفُرْقَانِ [٢١] لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً لِأَنَّ تِلْكَ الْآيَةَ لَمْ تَتَقَدَّمْهَا دَلَائِلُ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ مِثْلُ الدَّلَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
وَجُمْلَةُ لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْمُتَعَاطِفَتَيْنِ.
128
وَالْجَرَمُ- بِالتَّحْرِيكِ-: أَصْلُهُ الْبُدُّ. وَكَثُرَ فِي الِاسْتِعْمَالِ حَتَّى صَارَ بِمَعْنَى حَقًّا. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ فِي سُورَةِ هُودٍ [٢٢].
وَقَوْلُهُ: أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ بِحَرْفِ جَرٍّ مَحْذُوفٍ مُتَعَلِّقٍ بِ جَرَمَ. وَخَبَرُ لَا النَّافِيَةِ مَحْذُوفٌ لِظُهُورِهِ، إِذِ التَّقْدِيرُ: لَا جَرَمَ مَوْجُودٌ. وَحَذْفُ الْخَبَرِ فِي مِثْلِهِ كَثِيرٌ.
وَالتَّقْدِيرُ: لَا جَرَمَ فِي أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَوْ لَا جَرَمَ مِنْ أَنَّهُ يَعْلَمُ، أَيْ لَا بدّ من أَنَّهُ يَعْلَمُ، أَيْ لَا بُدَّ مِنْ عِلْمِهِ، أَيْ لَا شَكَّ فِي ذَلِكَ.
وَجُمْلَةُ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً عَنِ الْوَعِيدِ بِالْمُؤَاخَذَةِ بِمَا يُخْفُونَ وَمَا يُظْهِرُونَ مِنَ الْإِنْكَارِ والاستكبار وَغَيرهمَا بالمؤاخذة بِمَا يخفون وَمَا يظهرون من الْإِنْكَار وَالِاسْتِكْبَارِ وَغَيْرِهِمَا مُؤَاخَذَةِ عِقَابٍ وَانْتِقَامٍ، فَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِجُمْلَةِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ
الْمُسْتَكْبِرِينَ
الْوَاقِعَةِ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ وَالتَّذْيِيلِ لَهَا، لِأَنَّ الَّذِي لَا يُحِبُّ فِعْلًا وَهُوَ قَادِرٌ يُجَازِي فَاعِلَهُ بِالسُّوءِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْمُسْتَكْبِرِينَ لِلِاسْتِغْرَاقِ، لِأَنَّ شَأْنَ التَّذْيِيلِ الْعُمُومُ. وَيَشْمَلُ هَؤُلَاءِ الْمُتَحَدَّثُ عَنْهُمْ فَيَكُونُ إِثْبَاتُ الْعِقَابِ لَهُمْ كَإِثْبَاتِ الشَّيْء بدليله.
[٢٤، ٢٥]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : الْآيَات ٢٤ إِلَى ٢٥]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٤) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ مَا يَزِرُونَ (٢٥)
وإِذا قِيلَ لَهُمْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ [سُورَة النَّحْل: ٢٢]، لِأَنَّ مَضْمُونَ هَذِهِ مِنْ أَحْوَالِهِمُ الْمُتَقَدِّمُ بَعْضُهَا، فَإِنَّهُ ذَكَرَ اسْتِكْبَارَهُمْ وَإِنْكَارَهُمُ الْوَحْدَانِيَّةَ، وَأَتْبَعَ بِمَعَاذِيرِهِمُ الْبَاطِلَةِ لِإِنْكَارِ نُبُوءَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِصَدِّهِمُ النَّاسَ عَنِ اتِّبَاعِ الْإِسْلَامِ. وَالتَّقْدِيرُ:
قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَمُسْتَكْبِرَةٌ فَلَا يَعْتَرِفُونَ
وَقَوْلُهُ: أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ بِحَرْفِ جَرٍّ مَحْذُوفٍ مُتَعَلِّقٍ بِ جَرَمَ. وَخَبَرُ لَا النَّافِيَةِ مَحْذُوفٌ لِظُهُورِهِ، إِذِ التَّقْدِيرُ: لَا جَرَمَ مَوْجُودٌ. وَحَذْفُ الْخَبَرِ فِي مِثْلِهِ كَثِيرٌ.
وَالتَّقْدِيرُ: لَا جَرَمَ فِي أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَوْ لَا جَرَمَ مِنْ أَنَّهُ يَعْلَمُ، أَيْ لَا بدّ من أَنَّهُ يَعْلَمُ، أَيْ لَا بُدَّ مِنْ عِلْمِهِ، أَيْ لَا شَكَّ فِي ذَلِكَ.
وَجُمْلَةُ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً عَنِ الْوَعِيدِ بِالْمُؤَاخَذَةِ بِمَا يُخْفُونَ وَمَا يُظْهِرُونَ مِنَ الْإِنْكَارِ والاستكبار وَغَيرهمَا بالمؤاخذة بِمَا يخفون وَمَا يظهرون من الْإِنْكَار وَالِاسْتِكْبَارِ وَغَيْرِهِمَا مُؤَاخَذَةِ عِقَابٍ وَانْتِقَامٍ، فَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِجُمْلَةِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ
الْمُسْتَكْبِرِينَ
الْوَاقِعَةِ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ وَالتَّذْيِيلِ لَهَا، لِأَنَّ الَّذِي لَا يُحِبُّ فِعْلًا وَهُوَ قَادِرٌ يُجَازِي فَاعِلَهُ بِالسُّوءِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْمُسْتَكْبِرِينَ لِلِاسْتِغْرَاقِ، لِأَنَّ شَأْنَ التَّذْيِيلِ الْعُمُومُ. وَيَشْمَلُ هَؤُلَاءِ الْمُتَحَدَّثُ عَنْهُمْ فَيَكُونُ إِثْبَاتُ الْعِقَابِ لَهُمْ كَإِثْبَاتِ الشَّيْء بدليله.
[٢٤، ٢٥]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : الْآيَات ٢٤ إِلَى ٢٥]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٤) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ مَا يَزِرُونَ (٢٥)
وإِذا قِيلَ لَهُمْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ [سُورَة النَّحْل: ٢٢]، لِأَنَّ مَضْمُونَ هَذِهِ مِنْ أَحْوَالِهِمُ الْمُتَقَدِّمُ بَعْضُهَا، فَإِنَّهُ ذَكَرَ اسْتِكْبَارَهُمْ وَإِنْكَارَهُمُ الْوَحْدَانِيَّةَ، وَأَتْبَعَ بِمَعَاذِيرِهِمُ الْبَاطِلَةِ لِإِنْكَارِ نُبُوءَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِصَدِّهِمُ النَّاسَ عَنِ اتِّبَاعِ الْإِسْلَامِ. وَالتَّقْدِيرُ:
قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَمُسْتَكْبِرَةٌ فَلَا يَعْتَرِفُونَ
129
بِالنُّبُوءَةِ وَلَا يُخَلُّونَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ مَنْ يَتَطَلَّبُ الْهُدَى، مُضِلُّونَ لِلنَّاسِ صَادُّونَهُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ.
وَذِكْرُ فِعْلِ الْقَوْلِ يَقْتَضِي صُدُورَهُ عَنْ قَائِلٍ يَسْأَلُهُمْ عَنْ أَمْرٍ حَدَثَ بَيْنَهُمْ وَلَيْسَ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ، وَأَنَّهُمْ يُجِيبُونَ بِمَا ذُكِرَ مَكْرًا بِالدِّينِ وَتَظَاهُرًا بِمَظْهَرِ النَّاصِحِينَ لِلْمُسْتَرْشِدِينِ الْمُسْتَنْصِحِينِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [سُورَة النَّحْل:
٢٥].
وإِذا ظَرْفٌ مُضَمَّنٌ مَعْنَى الشَّرْطِ. وَهَذَا الشَّرْطُ يُؤْذِنُ بِتَكَرُّرِ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ. وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ قُرَيْشًا لَمَّا أَهَمَّهُمْ أَمْرُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَأَوْا تَأْثِيرَ الْقُرْآنِ فِي نُفُوسِ النَّاسِ، وَأَخَذَ أَتْبَاعُ الْإِسْلَامِ يَكْثُرُونَ، وَصَارَ الْوَارِدُونَ إِلَى مَكَّةَ فِي مَوْسِمِ الْحَجِّ وَغَيْرِهِ يَسْأَلُونَ النَّاسَ عَنْ هَذَا الْقُرْآنِ، وَمَاذَا يَدْعُو إِلَيْهِ، دَبَّرَ لَهُمُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ مَعَاذِيرَ وَاخْتِلَاقًا يَخْتَلِقُونَهُ لِيُقْنِعُوا السَّائِلِينَ بِهِ، فَنَدَبَ مِنْهُمْ سِتَّةَ عَشَرَ رَجُلًا بَعَثَهُمْ أَيَّامَ الْمَوْسِمِ يَقْعُدُونَ فِي عَقَبَاتِ مَكَّةَ وَطُرُقِهَا الَّتِي يَرِدُ مِنْهَا النَّاسُ، يَقُولُونَ لِمَنْ سَأَلَهُمْ: لَا تَغْتَرُّوا بِهَذَا الَّذِي يَدَّعِي أَنَّهُ نَبِيٌّ فَإِنَّهُ مَجْنُونٌ أَوْ سَاحِرٌ أَوْ شَاعِرٌ أَوْ كَاهِنٌ، وَأَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي يَقُولُهُ أَسَاطِيرُ مِنْ أَسَاطِيرِ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي آخِرِ سُورَةِ الْحِجْرِ. وَكَانَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ يَقُولُ: أَنَا أَقْرَأُ عَلَيْكُمْ مَا هُوَ أَجْمَلُ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدٍ أَحَادِيثَ رُسْتُمَ وَإِسْفَنْدِيَارَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٩٣].
وَمُسَاءَلَةُ الْعَرَبِ عَنْ بَعْثِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرَةٌ وَاقِعَةٌ. وَأَصْرَحُهَا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ قَالَ: «كُنْتُ رَجُلًا مِنْ غِفَارٍ فَبَلَغَنَا أَنَّ رَجُلًا قَدْ خَرَجَ بِمَكَّةَ يزْعم أَنه نبيء، فَقُلْتُ لِأَخِي أُنَيْسٍ: انْطَلِقْ إِلَى هَذَا الرَّجُلِ كَلِّمْهُ وَائْتِنِي بِخَبَرِهِ، فَانْطَلَقَ فَلَقِيَهُ ثُمَّ رَجَعَ، فَقُلْتُ: مَا عِنْدَكَ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا يَأْمُرُ بِالْخَيْرِ وَيَنْهَى عَنِ الشَّرِّ. فَقُلْتُ: لَمْ تشفني من الْخَيْر، فَأَخَذْتُ جِرَابًا وَعَصًا ثُمَّ أَقْبَلْتُ إِلَى مَكَّةَ فَجَعَلْتُ لَا أَعْرِفُهُ
وَذِكْرُ فِعْلِ الْقَوْلِ يَقْتَضِي صُدُورَهُ عَنْ قَائِلٍ يَسْأَلُهُمْ عَنْ أَمْرٍ حَدَثَ بَيْنَهُمْ وَلَيْسَ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ، وَأَنَّهُمْ يُجِيبُونَ بِمَا ذُكِرَ مَكْرًا بِالدِّينِ وَتَظَاهُرًا بِمَظْهَرِ النَّاصِحِينَ لِلْمُسْتَرْشِدِينِ الْمُسْتَنْصِحِينِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [سُورَة النَّحْل:
٢٥].
وإِذا ظَرْفٌ مُضَمَّنٌ مَعْنَى الشَّرْطِ. وَهَذَا الشَّرْطُ يُؤْذِنُ بِتَكَرُّرِ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ. وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ قُرَيْشًا لَمَّا أَهَمَّهُمْ أَمْرُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَأَوْا تَأْثِيرَ الْقُرْآنِ فِي نُفُوسِ النَّاسِ، وَأَخَذَ أَتْبَاعُ الْإِسْلَامِ يَكْثُرُونَ، وَصَارَ الْوَارِدُونَ إِلَى مَكَّةَ فِي مَوْسِمِ الْحَجِّ وَغَيْرِهِ يَسْأَلُونَ النَّاسَ عَنْ هَذَا الْقُرْآنِ، وَمَاذَا يَدْعُو إِلَيْهِ، دَبَّرَ لَهُمُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ مَعَاذِيرَ وَاخْتِلَاقًا يَخْتَلِقُونَهُ لِيُقْنِعُوا السَّائِلِينَ بِهِ، فَنَدَبَ مِنْهُمْ سِتَّةَ عَشَرَ رَجُلًا بَعَثَهُمْ أَيَّامَ الْمَوْسِمِ يَقْعُدُونَ فِي عَقَبَاتِ مَكَّةَ وَطُرُقِهَا الَّتِي يَرِدُ مِنْهَا النَّاسُ، يَقُولُونَ لِمَنْ سَأَلَهُمْ: لَا تَغْتَرُّوا بِهَذَا الَّذِي يَدَّعِي أَنَّهُ نَبِيٌّ فَإِنَّهُ مَجْنُونٌ أَوْ سَاحِرٌ أَوْ شَاعِرٌ أَوْ كَاهِنٌ، وَأَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي يَقُولُهُ أَسَاطِيرُ مِنْ أَسَاطِيرِ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي آخِرِ سُورَةِ الْحِجْرِ. وَكَانَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ يَقُولُ: أَنَا أَقْرَأُ عَلَيْكُمْ مَا هُوَ أَجْمَلُ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدٍ أَحَادِيثَ رُسْتُمَ وَإِسْفَنْدِيَارَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٩٣].
وَمُسَاءَلَةُ الْعَرَبِ عَنْ بَعْثِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرَةٌ وَاقِعَةٌ. وَأَصْرَحُهَا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ قَالَ: «كُنْتُ رَجُلًا مِنْ غِفَارٍ فَبَلَغَنَا أَنَّ رَجُلًا قَدْ خَرَجَ بِمَكَّةَ يزْعم أَنه نبيء، فَقُلْتُ لِأَخِي أُنَيْسٍ: انْطَلِقْ إِلَى هَذَا الرَّجُلِ كَلِّمْهُ وَائْتِنِي بِخَبَرِهِ، فَانْطَلَقَ فَلَقِيَهُ ثُمَّ رَجَعَ، فَقُلْتُ: مَا عِنْدَكَ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا يَأْمُرُ بِالْخَيْرِ وَيَنْهَى عَنِ الشَّرِّ. فَقُلْتُ: لَمْ تشفني من الْخَيْر، فَأَخَذْتُ جِرَابًا وَعَصًا ثُمَّ أَقْبَلْتُ إِلَى مَكَّةَ فَجَعَلْتُ لَا أَعْرِفُهُ
130
وَأَكْرَهُ أَنْ أَسْأَلَ عَنْهُ، وَأَشْرَبُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ وَأَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ... » إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ.
وَسُؤَالُ السَّائِلِينَ لِطَلَبِ الْخَبَرِ عَنِ الْمُنَزَّلِ مِنَ اللَّهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سُؤَالَهُمْ سُؤَالُ مُسْتَرْشِدٍ عَنْ دَعْوَى بَلَغَتْهُمْ وَشَاعَ خَبَرُهَا فِي بِلَادِ الْعَرَبِ، وَأَنَّهُمْ سَأَلُوا عَنْ حُسْنِ طَوِيَّةٍ، وَيَصُوغُونَ السُّؤَالَ عَنِ الْخَبَرِ كَمَا بَلَغَتْهُمْ دَعْوَتُهُ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ فَهُوَ جَوَابٌ بَلِيغٌ تَضَمَّنَ بَيَانَ نَوْعِ هَذَا الْكَلَامِ، وَإِبْطَالَ أَنْ يَكُونَ مُنَزَّلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِأَنَّ أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ مَعْرُوفَةٌ وَالْمُنَزَّلُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ شَأْنُهُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَعْرُوفٍ مِنْ قَبْلُ.
وماذا كَلِمَةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ (مَا) الِاسْتِفْهَامِيَّةِ وَاسْمِ الْإِشَارَةِ، وَيَقَعُ بَعْدَهَا فِعْلٌ هُوَ صِلَةٌ لِمَوْصُولٍ مَحْذُوفٍ نَابَ عَنْهُ اسْمُ الْإِشَارَةِ. وَالْمَعْنَى: مَا هَذَا الَّذِي أُنْزِلَ.
وَ (مَا) يُسْتَفْهَمُ بِهَا عَنْ بَيَانِ الْجِنْسِ وَنَحْوِهِ. وَمَوْضِعُهَا أَنَّهَا خَبَرٌ مُقَدَّمٌ. وَمَوْضِعُ اسْمِ الْإِشَارَةِ الِابْتِدَاءُ. وَالتَّقْدِيرُ: هَذَا الَّذِي أَنْزَلَ رَبُّكُمْ مَا هُوَ. وَقَدْ تَسَامَحَ النَّحْوِيُّونَ فَقَالُوا: إِنَّ (ذَا) مِنْ قَوْلِهِمْ (مَاذَا) صَارَتِ اسْمَ مَوْصُولٍ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢١٥].
وأَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَا فِي السُّؤَالِ. وَالتَّقْدِيرُ: هُوَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، أَيِ الْمَسْئُولُ عَنْهُ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ.
وَيُعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ مُنَزَّلًا مِنْ رَبِّهِمْ لِأَنَّ أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ لَا تَكُونُ مُنَزَّلَةً مِنَ اللَّهِ كَمَا قُلْنَاهُ آنِفًا. وَلِذَلِكَ لَمْ يَقَعْ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ مَنْصُوبًا لِأَنَّهُ لَوْ نُصِبَ لَاقْتَضَى التَّقْدِيرُ:
أَنْزَلَ أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ، وَهُوَ كَلَامٌ مُتَنَاقِضٌ. لِأَنَّ أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ السَّابِقَةَ لَا تَكُونُ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ الْآنَ.
وَالْأَسَاطِيرُ: جَمْعُ أَسْطَارٍ الَّذِي هُوَ جَمْعُ سَطْرٍ. فَأَسَاطِيرُ جَمْعُ الْجَمْعِ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ:
جَمْعُ أُسْطُورَةٍ- بِضَمِّ الْهَمْزَةِ- كَأُرْجُوحَةٍ. وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا
وَسُؤَالُ السَّائِلِينَ لِطَلَبِ الْخَبَرِ عَنِ الْمُنَزَّلِ مِنَ اللَّهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سُؤَالَهُمْ سُؤَالُ مُسْتَرْشِدٍ عَنْ دَعْوَى بَلَغَتْهُمْ وَشَاعَ خَبَرُهَا فِي بِلَادِ الْعَرَبِ، وَأَنَّهُمْ سَأَلُوا عَنْ حُسْنِ طَوِيَّةٍ، وَيَصُوغُونَ السُّؤَالَ عَنِ الْخَبَرِ كَمَا بَلَغَتْهُمْ دَعْوَتُهُ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ فَهُوَ جَوَابٌ بَلِيغٌ تَضَمَّنَ بَيَانَ نَوْعِ هَذَا الْكَلَامِ، وَإِبْطَالَ أَنْ يَكُونَ مُنَزَّلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِأَنَّ أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ مَعْرُوفَةٌ وَالْمُنَزَّلُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ شَأْنُهُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَعْرُوفٍ مِنْ قَبْلُ.
وماذا كَلِمَةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ (مَا) الِاسْتِفْهَامِيَّةِ وَاسْمِ الْإِشَارَةِ، وَيَقَعُ بَعْدَهَا فِعْلٌ هُوَ صِلَةٌ لِمَوْصُولٍ مَحْذُوفٍ نَابَ عَنْهُ اسْمُ الْإِشَارَةِ. وَالْمَعْنَى: مَا هَذَا الَّذِي أُنْزِلَ.
وَ (مَا) يُسْتَفْهَمُ بِهَا عَنْ بَيَانِ الْجِنْسِ وَنَحْوِهِ. وَمَوْضِعُهَا أَنَّهَا خَبَرٌ مُقَدَّمٌ. وَمَوْضِعُ اسْمِ الْإِشَارَةِ الِابْتِدَاءُ. وَالتَّقْدِيرُ: هَذَا الَّذِي أَنْزَلَ رَبُّكُمْ مَا هُوَ. وَقَدْ تَسَامَحَ النَّحْوِيُّونَ فَقَالُوا: إِنَّ (ذَا) مِنْ قَوْلِهِمْ (مَاذَا) صَارَتِ اسْمَ مَوْصُولٍ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢١٥].
وأَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَا فِي السُّؤَالِ. وَالتَّقْدِيرُ: هُوَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، أَيِ الْمَسْئُولُ عَنْهُ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ.
وَيُعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ مُنَزَّلًا مِنْ رَبِّهِمْ لِأَنَّ أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ لَا تَكُونُ مُنَزَّلَةً مِنَ اللَّهِ كَمَا قُلْنَاهُ آنِفًا. وَلِذَلِكَ لَمْ يَقَعْ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ مَنْصُوبًا لِأَنَّهُ لَوْ نُصِبَ لَاقْتَضَى التَّقْدِيرُ:
أَنْزَلَ أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ، وَهُوَ كَلَامٌ مُتَنَاقِضٌ. لِأَنَّ أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ السَّابِقَةَ لَا تَكُونُ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ الْآنَ.
وَالْأَسَاطِيرُ: جَمْعُ أَسْطَارٍ الَّذِي هُوَ جَمْعُ سَطْرٍ. فَأَسَاطِيرُ جَمْعُ الْجَمْعِ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ:
جَمْعُ أُسْطُورَةٍ- بِضَمِّ الْهَمْزَةِ- كَأُرْجُوحَةٍ. وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا
131
قِصَّةٌ مَكْتُوبَةٌ. وَهَذَا الَّذِي
ذَكَرَهُ الْمُبَرِّدُ أَوْلَى لِأَنَّهَا أَسَاطِيرُ فِي الْأَكْثَرِ يَعْنِي بِهَا الْقِصَصَ لَا كُلَّ كِتَابٍ مَسْطُورٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٢٥].
وَاللَّامُ فِي لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ تَعْلِيلٌ لِفِعْلِ قالُوا، وَهِيَ غَايَةٌ وَلَيْسَتْ بِعِلَّةٍ لِأَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ لَمْ يُرِيدُوا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ سَبَبًا لِأَنْ يَحْمِلُوا أَوْزَارَ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ، فَاللَّامُ مُسْتَعْمَلَةٌ مَجَازًا فِي الْعَاقِبَةِ مِثْلُ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [سُورَة الْقَصَص: ٨].
وَالتَّقْدِيرُ: قَالُوا ذَلِكَ الْقَوْلَ كَحَالِ مَنْ يُغْرِي عَلَى مَا يَجُرُّ إِلَيْهِ زِيَادَةُ الضُّرِّ إِذْ حَمَلُوا بِذَلِكَ أَوْزَارَ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ زِيَادَةً عَلَى أَوْزَارِهِمْ.
وَالْأَوْزَارُ: حَقِيقَتُهَا الْأَثْقَالُ، جَمْعُ وِزْرٍ- بِكَسْرِ الْوَاوِ وَسُكُونِ الزَّايِ- وَهُوَ الثِّقْلُ.
وَاسْتُعْمِلَ فِي الْجُرْمِ وَالذَّنْبِ، لِأَنَّهُ يُثْقِلُ فَاعِلَهُ عَنِ الْخَلَاصِ مِنَ الْأَلَمِ وَالْعَنَاءِ، فَأَصْلُ ذَلِكَ اسْتِعَارَةٌ بِتَشْبِيهِ الْجُرْمِ وَالذَّنْبِ بِالْوِزْرِ. وَشَاعَتْ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةُ، قَالَ تَعَالَى: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٣١]. كَمَا يُعَبِّرُ عَنِ الذُّنُوبِ بِالْأَثْقَالِ، قَالَ تَعَالَى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ [سُورَة العنكبوت: ١٣].
وَحَمْلُ الْأَوْزَارِ تَمْثِيلٌ لِحَالَةِ وُقُوعِهِمْ فِي تَبِعَاتِ جَرَائِمِهِمْ بِحَالَةِ حَامِلِ الثِّقْلِ لَا يَسْتَطِيعُ تَفَصِّيًا مِنْهُ، فَلَمَّا شُبِّهَ الْإِثْمُ بِالثِّقْلِ فَأُطْلِقَ عَلَيْهِ الْوِزْرُ شُبِّهَ التَّوَرُّطُ فِي تَبِعَاتِهِ بِحَمْلِ الثِّقْلِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّخْيِيلِيَّةِ، وَحَصَلَ مِنْ الِاسْتِعَارَتَيْنِ الْمُفَرَّقَتَيْنِ اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ لِلْهَيْئَةِ كُلِّهَا.
وَهَذَا مِنْ أَبْدَعِ التَّمْثِيلِ أَنْ تَكُونَ الِاسْتِعَارَةُ التَّمْثِيلِيَّةُ صَالِحَةً لِلتَّفْرِيقِ إِلَى عِدَّةِ تَشَابِيهَ أَوِ اسْتِعَارَاتٍ.
وَإِضَافَةُ الْأَوْزَارِ إِلَى ضَمِيرِ «هُمْ» لِأَنَّهُمْ مَصْدَرُهَا.
وَوُصِفَتِ الْأَوْزَارُ بِ كامِلَةً تَحْقِيقًا لِوَفَائِهَا وَشِدَّةِ ثِقْلِهَا لِيَسْرِيَ ذَلِكَ إِلَى شِدَّةِ ارْتِبَاكِهِمْ فِي تَبِعَاتِهَا إِذْ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ إِضَافَةِ الْحَمْلِ إِلَى الْأَوْزَارِ.
ذَكَرَهُ الْمُبَرِّدُ أَوْلَى لِأَنَّهَا أَسَاطِيرُ فِي الْأَكْثَرِ يَعْنِي بِهَا الْقِصَصَ لَا كُلَّ كِتَابٍ مَسْطُورٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٢٥].
وَاللَّامُ فِي لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ تَعْلِيلٌ لِفِعْلِ قالُوا، وَهِيَ غَايَةٌ وَلَيْسَتْ بِعِلَّةٍ لِأَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ لَمْ يُرِيدُوا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ سَبَبًا لِأَنْ يَحْمِلُوا أَوْزَارَ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ، فَاللَّامُ مُسْتَعْمَلَةٌ مَجَازًا فِي الْعَاقِبَةِ مِثْلُ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [سُورَة الْقَصَص: ٨].
وَالتَّقْدِيرُ: قَالُوا ذَلِكَ الْقَوْلَ كَحَالِ مَنْ يُغْرِي عَلَى مَا يَجُرُّ إِلَيْهِ زِيَادَةُ الضُّرِّ إِذْ حَمَلُوا بِذَلِكَ أَوْزَارَ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ زِيَادَةً عَلَى أَوْزَارِهِمْ.
وَالْأَوْزَارُ: حَقِيقَتُهَا الْأَثْقَالُ، جَمْعُ وِزْرٍ- بِكَسْرِ الْوَاوِ وَسُكُونِ الزَّايِ- وَهُوَ الثِّقْلُ.
وَاسْتُعْمِلَ فِي الْجُرْمِ وَالذَّنْبِ، لِأَنَّهُ يُثْقِلُ فَاعِلَهُ عَنِ الْخَلَاصِ مِنَ الْأَلَمِ وَالْعَنَاءِ، فَأَصْلُ ذَلِكَ اسْتِعَارَةٌ بِتَشْبِيهِ الْجُرْمِ وَالذَّنْبِ بِالْوِزْرِ. وَشَاعَتْ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةُ، قَالَ تَعَالَى: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٣١]. كَمَا يُعَبِّرُ عَنِ الذُّنُوبِ بِالْأَثْقَالِ، قَالَ تَعَالَى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ [سُورَة العنكبوت: ١٣].
وَحَمْلُ الْأَوْزَارِ تَمْثِيلٌ لِحَالَةِ وُقُوعِهِمْ فِي تَبِعَاتِ جَرَائِمِهِمْ بِحَالَةِ حَامِلِ الثِّقْلِ لَا يَسْتَطِيعُ تَفَصِّيًا مِنْهُ، فَلَمَّا شُبِّهَ الْإِثْمُ بِالثِّقْلِ فَأُطْلِقَ عَلَيْهِ الْوِزْرُ شُبِّهَ التَّوَرُّطُ فِي تَبِعَاتِهِ بِحَمْلِ الثِّقْلِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّخْيِيلِيَّةِ، وَحَصَلَ مِنْ الِاسْتِعَارَتَيْنِ الْمُفَرَّقَتَيْنِ اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ لِلْهَيْئَةِ كُلِّهَا.
وَهَذَا مِنْ أَبْدَعِ التَّمْثِيلِ أَنْ تَكُونَ الِاسْتِعَارَةُ التَّمْثِيلِيَّةُ صَالِحَةً لِلتَّفْرِيقِ إِلَى عِدَّةِ تَشَابِيهَ أَوِ اسْتِعَارَاتٍ.
وَإِضَافَةُ الْأَوْزَارِ إِلَى ضَمِيرِ «هُمْ» لِأَنَّهُمْ مَصْدَرُهَا.
وَوُصِفَتِ الْأَوْزَارُ بِ كامِلَةً تَحْقِيقًا لِوَفَائِهَا وَشِدَّةِ ثِقْلِهَا لِيَسْرِيَ ذَلِكَ إِلَى شِدَّةِ ارْتِبَاكِهِمْ فِي تَبِعَاتِهَا إِذْ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ إِضَافَةِ الْحَمْلِ إِلَى الْأَوْزَارِ.
132
وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ لِلسَّبَبِيَّةِ مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ حَرْفُ الْعَطْفِ وَحَرْفُ الْجَرِّ بَعْدَهُ إِذْ لَا بُدَّ لِحَرْفِ الْجَرِّ مِنْ مُتَعَلِّقٍ. وَتَقْدِيرُهُ:
وَيَحْمِلُوا. وَمَفْعُولُ الْفِعْلِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَفْعُولُ نَظِيرِهِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَيَحْمِلُوا أَوْزَارًا نَاشِئَةً عَنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ، أَيْ نَاشِئَةً لَهُمْ عَنْ تَسَبُّبِهِمْ فِي ضَلَالِ الْمُضَلَّلِينَ- بِفَتْحِ اللَّامِ-،
فَإِنَّ تَسَبُّبَهُمْ فِي الضَّلَالِ يَقْتَضِي مُسَاوَاةَ الْمُضَلَّلِ لِلضَّالِّ فِي جَرِيمَةِ الضَّلَالِ، إِذْ لَوْلَا إِضْلَالُهُ إِيَّاهُ لَاهْتَدَى بِنَظَرِهِ أَوْ بِسُؤَالِ النَّاصِحِينَ.
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يُنْقِصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا»
. وبِغَيْرِ عِلْمٍ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ النَّصْبِ فِي يُضِلُّونَهُمْ، أَيْ يُضِلُّونَ نَاسًا غَيْرَ عَالِمِينَ يَحْسَبُونَ إِضْلَالَهُمْ نُصْحًا. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْحَالِ تَفْظِيعُ التَّضْلِيلِ لَا تَقْيِيدُهُ فَإِنَّ التَّضْلِيلَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ عَدَمِ عِلْمٍ كُلًّا أَوْ بَعْضًا.
وَجُمْلَةُ أَلا ساءَ مَا يَزِرُونَ تَذْيِيلٌ. افْتُتِحَ بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ اهْتِمَامًا بِمَا تَتَضَمَّنُهُ لِلتَّحْذِيرِ مِنَ الْوُقُوعِ فِيهِ أَوْ للإقلاع عَنهُ.
[٢٦]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٢٦]
قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (٢٦)
لَمَّا ذَكَرَ عَاقِبَةَ إِضْلَالِهِمْ وَصَدِّهِمُ السَّائِلِينَ عَنِ الْقُرْآنِ وَالْإِسْلَامِ فِي الْآخِرَةِ أَتْبَعَ بِالتَّهْدِيدِ بِأَنْ يَقَعَ لَهُمْ مَا وَقَعَ فِيهِ أَمْثَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْخِزْيِ وَالْعَذَابِ مَعَ التَّأْيِيسِ مِنْ أَنْ يَبْلُغُوا بِصُنْعِهِمْ ذَلِكَ مَبْلَغَ مُرَادِهِمْ، وَأَنَّهُمْ خَائِبُونَ فِي صُنْعِهِمْ كَمَا خَابَ مِنْ قَبْلِهِمُ الَّذِينَ مَكَرُوا بِرُسُلِهِمْ.
وَلَمَّا كَانَ جَوَابُهُمُ السَّائِلِينَ عَنِ الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِمْ هُوَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [سُورَة النَّحْل:
٢٤] مُظْهِرِينَهُ بِمَظْهَرِ النَّصِيحَةِ وَالْإِرْشَادِ وَهُمْ يُرِيدُونَ الِاسْتِبْقَاءَ عَلَى كُفْرِهِمْ، سُمِّيَ ذَلِكَ
وَيَحْمِلُوا. وَمَفْعُولُ الْفِعْلِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَفْعُولُ نَظِيرِهِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَيَحْمِلُوا أَوْزَارًا نَاشِئَةً عَنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ، أَيْ نَاشِئَةً لَهُمْ عَنْ تَسَبُّبِهِمْ فِي ضَلَالِ الْمُضَلَّلِينَ- بِفَتْحِ اللَّامِ-،
فَإِنَّ تَسَبُّبَهُمْ فِي الضَّلَالِ يَقْتَضِي مُسَاوَاةَ الْمُضَلَّلِ لِلضَّالِّ فِي جَرِيمَةِ الضَّلَالِ، إِذْ لَوْلَا إِضْلَالُهُ إِيَّاهُ لَاهْتَدَى بِنَظَرِهِ أَوْ بِسُؤَالِ النَّاصِحِينَ.
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يُنْقِصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا»
. وبِغَيْرِ عِلْمٍ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ النَّصْبِ فِي يُضِلُّونَهُمْ، أَيْ يُضِلُّونَ نَاسًا غَيْرَ عَالِمِينَ يَحْسَبُونَ إِضْلَالَهُمْ نُصْحًا. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْحَالِ تَفْظِيعُ التَّضْلِيلِ لَا تَقْيِيدُهُ فَإِنَّ التَّضْلِيلَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ عَدَمِ عِلْمٍ كُلًّا أَوْ بَعْضًا.
وَجُمْلَةُ أَلا ساءَ مَا يَزِرُونَ تَذْيِيلٌ. افْتُتِحَ بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ اهْتِمَامًا بِمَا تَتَضَمَّنُهُ لِلتَّحْذِيرِ مِنَ الْوُقُوعِ فِيهِ أَوْ للإقلاع عَنهُ.
[٢٦]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٢٦]
قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (٢٦)
لَمَّا ذَكَرَ عَاقِبَةَ إِضْلَالِهِمْ وَصَدِّهِمُ السَّائِلِينَ عَنِ الْقُرْآنِ وَالْإِسْلَامِ فِي الْآخِرَةِ أَتْبَعَ بِالتَّهْدِيدِ بِأَنْ يَقَعَ لَهُمْ مَا وَقَعَ فِيهِ أَمْثَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْخِزْيِ وَالْعَذَابِ مَعَ التَّأْيِيسِ مِنْ أَنْ يَبْلُغُوا بِصُنْعِهِمْ ذَلِكَ مَبْلَغَ مُرَادِهِمْ، وَأَنَّهُمْ خَائِبُونَ فِي صُنْعِهِمْ كَمَا خَابَ مِنْ قَبْلِهِمُ الَّذِينَ مَكَرُوا بِرُسُلِهِمْ.
وَلَمَّا كَانَ جَوَابُهُمُ السَّائِلِينَ عَنِ الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِمْ هُوَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [سُورَة النَّحْل:
٢٤] مُظْهِرِينَهُ بِمَظْهَرِ النَّصِيحَةِ وَالْإِرْشَادِ وَهُمْ يُرِيدُونَ الِاسْتِبْقَاءَ عَلَى كُفْرِهِمْ، سُمِّيَ ذَلِكَ
133
مَكْرًا بِالْمُؤْمِنِينَ، إِذِ الْمَكْرُ إِلْحَاقُ الضُّرِّ بِالْغَيْرِ فِي صُورَةِ تَمْوِيهِهِ بِالنُّصْحِ وَالنَّفْعِ، فَنُظِّرَ فِعْلُهُمْ بِمَكْرِ مَنْ قَبْلَهُمْ، أَيْ مِنَ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ الَّذِينَ مَكَرُوا بِغَيْرِهِمْ مِثْلُ قَوْمِ هُودٍ، وَقَوْمِ صَالِحٍ، وَقَوْمِ لُوطٍ، وَقَوْمِ فِرْعَوْنَ، قَالَ تَعَالَى فِي قَوْمِ صَالِحٍ: وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً [سُورَة النَّحْل: ٥٠] الْآيَةَ، وَقَالَ: وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ [سُورَة الْأَنْعَام: ١٢٣].
فَالتَّعْرِيفُ بِالْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مُسَاوٍ لِلتَّعْرِيفِ بِلَامِ الْجِنْس.
وَمعنى «أَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ» اسْتِعَارَةٌ بِتَشْبِيهِ الْقَاصِدِ لِلِانْتِقَامِ بِالْجَائِي نَحْوَ الْمُنْتَقَمِ مِنْهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا [سُورَة الْحَشْر: ٢].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ تَمْثِيلٌ لِحَالَاتِ اسْتِئْصَالِ الْأُمَمِ، فَالْبُنْيَانُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ. أَيِ الْمَبْنِيِّ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلْقُوَّةِ وَالْعِزَّةِ وَالْمَنَعَةِ وَعُلُوِّ الْقَدْرِ.
وَإِطْلَاقُ الْبِنَاءِ عَلَى مِثْلِ هَذَا وَارِدٌ فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ. قَالَ عَبْدَةُ بْنُ الطَّبِيبِ:
وَقَالَتْ سُعْدَةُ أُمُّ الْكُمَيْتِ بْنِ مَعْرُوفٍ:
ومِنَ الْقَواعِدِ مُتَعَلِّقٌ بِ «أَتَى». وَمِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ، وَمَجْرُورُهَا هُوَ مَبْدَأُ الْإِتْيَانِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الِاسْتِئْصَالِ، فَهُوَ فِي مَعْنَى هَدْمِهِ.
والْقَواعِدِ: الْأُسُسُ وَالْأَسَاطِينُ الَّتِي تُجْعَلُ عُمُدًا لِلْبِنَاءِ يُقَامُ عَلَيْهَا السَّقْفُ. وَهُوَ تَخْيِيلٌ أَوْ تَرْشِيحٌ، إِذْ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ شَيْءٌ يُشَبَّهُ بِالْقَوَاعِدِ.
وَالْخُرُورُ: السُّقُوطُ وَالْهُوِيُّ، فَفِعْلُ خَرَّ مُسْتَعَارٌ لِزَوَالِ مَا بِهِ الْمَنَعَةُ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى:
يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ [سُورَة الْحَشْر: ٢].
فَالتَّعْرِيفُ بِالْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مُسَاوٍ لِلتَّعْرِيفِ بِلَامِ الْجِنْس.
وَمعنى «أَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ» اسْتِعَارَةٌ بِتَشْبِيهِ الْقَاصِدِ لِلِانْتِقَامِ بِالْجَائِي نَحْوَ الْمُنْتَقَمِ مِنْهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا [سُورَة الْحَشْر: ٢].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ تَمْثِيلٌ لِحَالَاتِ اسْتِئْصَالِ الْأُمَمِ، فَالْبُنْيَانُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ. أَيِ الْمَبْنِيِّ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلْقُوَّةِ وَالْعِزَّةِ وَالْمَنَعَةِ وَعُلُوِّ الْقَدْرِ.
وَإِطْلَاقُ الْبِنَاءِ عَلَى مِثْلِ هَذَا وَارِدٌ فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ. قَالَ عَبْدَةُ بْنُ الطَّبِيبِ:
فَمَا كَانَ قَيْسٌ هُلْكُهُ هُلْكُ وَاحِدٍ | وَلَكِنَّهُ بُنْيَانُ قَوْمٍ تَهَدَّمَا |
بَنَى لَكَ مَعْرُوفٌ بِنَاءً هَدَمْتَهُ | وَلِلشَّرَفِ الْعَادِيِّ بَانٍ وَهَادِمِ |
والْقَواعِدِ: الْأُسُسُ وَالْأَسَاطِينُ الَّتِي تُجْعَلُ عُمُدًا لِلْبِنَاءِ يُقَامُ عَلَيْهَا السَّقْفُ. وَهُوَ تَخْيِيلٌ أَوْ تَرْشِيحٌ، إِذْ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ شَيْءٌ يُشَبَّهُ بِالْقَوَاعِدِ.
وَالْخُرُورُ: السُّقُوطُ وَالْهُوِيُّ، فَفِعْلُ خَرَّ مُسْتَعَارٌ لِزَوَالِ مَا بِهِ الْمَنَعَةُ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى:
يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ [سُورَة الْحَشْر: ٢].
134
والسَّقْفُ: حَقِيقَتُهُ غِطَاءُ الْفَرَاغِ الَّذِي بَيْنَ جُدْرَانِ الْبَيْتِ، يُجْعَلُ على الجدران وَيكون مِنْ حَجَرٍ وَمِنْ أَعْوَادٍ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِمَا اسْتُعِيرَ لَهُ الْبِنَاءُ.
ومِنْ فَوْقِهِمْ تَأْكِيد لجملة فَسخرَ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ.
وَمِنْ مَجْمُوعِ هَذِهِ الِاسْتِعَارَاتِ تَتَرَكَّبُ الِاسْتِعَارَةُ التَّمْثِيلِيَّةُ. وَهِيَ تَشْبِيهُ هَيْئَةِ الْقَوْمِ الَّذِينَ مَكَرُوا فِي الْمَنَعَةِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِسُرْعَةٍ وَأَزَالَ تِلْكَ الْعِزَّةَ بِهَيْئَةِ قَوْمٍ أَقَامُوا بُنْيَانًا عَظِيمًا ذَا دَعَائِمَ وَآوَوْا إِلَيْهِ فَاسْتَأْصَلَهُ اللَّهُ مِنْ قَوَاعِدِهِ فَخَرَّ سَقْفُ الْبِنَاءِ دُفْعَةً عَلَى أَصْحَابِهِ فَهَلَكُوا جَمِيعًا. فَهَذَا من أبدع التَّمْثِيلِيَّةِ لِأَنَّهَا تَنْحَلُّ إِلَى عِدَّةِ اسْتِعَارَاتٍ.
وَجُمْلَةُ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ. وأل فِي الْعَذابُ لِلْعَهْدِ فَهِيَ مُفِيدَةٌ مَضْمُونَ قَوْلِهِ مِنْ فَوْقِهِمْ مَعَ زِيَادَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ. فَبِاعْتِبَارِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ وَرَدَتْ مَعْطُوفَةً لِحُصُولِ الْمُغَايَرَةِ وَإِلَّا فَإِن شَأْن الموكدة أَنْ لَا تُعْطَفَ. وَالْمَعْنَى أَنَّ الْعَذَابَ الْمَذْكُورَ حَلَّ بِهِمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فَإِن الْأَخْذ فجأ أَشَدُّ نِكَايَةً لِمَا يَصْحَبُهُ مِنَ الرُّعْبِ الشَّدِيدِ بِخِلَافِ الشَّيْءِ الْوَارِدِ تَدْرِيجًا فَإِنَّ
النَّفْسَ تَتَلَقَّاهُ بِصَبْرٍ.
[٢٧]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٢٧]
ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (٢٧)
ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ.
عَطْفٌ عَلَى لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ [سُورَة النَّحْل: ٢٥]، لِأَنَّ ذَلِكَ وَعِيدٌ لَهُمْ وَهَذَا تَكْمِلَةٌ لَهُ.
وَضَمِيرُ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُخْزِيهِمْ عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ الضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِاللَّامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَإِذا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ [سُورَة النَّحْل: ٢٤]. وَذَلِكَ عَائِد إِلَى فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ [سُورَة النَّحْل: ٢٢].
ومِنْ فَوْقِهِمْ تَأْكِيد لجملة فَسخرَ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ.
وَمِنْ مَجْمُوعِ هَذِهِ الِاسْتِعَارَاتِ تَتَرَكَّبُ الِاسْتِعَارَةُ التَّمْثِيلِيَّةُ. وَهِيَ تَشْبِيهُ هَيْئَةِ الْقَوْمِ الَّذِينَ مَكَرُوا فِي الْمَنَعَةِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِسُرْعَةٍ وَأَزَالَ تِلْكَ الْعِزَّةَ بِهَيْئَةِ قَوْمٍ أَقَامُوا بُنْيَانًا عَظِيمًا ذَا دَعَائِمَ وَآوَوْا إِلَيْهِ فَاسْتَأْصَلَهُ اللَّهُ مِنْ قَوَاعِدِهِ فَخَرَّ سَقْفُ الْبِنَاءِ دُفْعَةً عَلَى أَصْحَابِهِ فَهَلَكُوا جَمِيعًا. فَهَذَا من أبدع التَّمْثِيلِيَّةِ لِأَنَّهَا تَنْحَلُّ إِلَى عِدَّةِ اسْتِعَارَاتٍ.
وَجُمْلَةُ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ. وأل فِي الْعَذابُ لِلْعَهْدِ فَهِيَ مُفِيدَةٌ مَضْمُونَ قَوْلِهِ مِنْ فَوْقِهِمْ مَعَ زِيَادَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ. فَبِاعْتِبَارِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ وَرَدَتْ مَعْطُوفَةً لِحُصُولِ الْمُغَايَرَةِ وَإِلَّا فَإِن شَأْن الموكدة أَنْ لَا تُعْطَفَ. وَالْمَعْنَى أَنَّ الْعَذَابَ الْمَذْكُورَ حَلَّ بِهِمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فَإِن الْأَخْذ فجأ أَشَدُّ نِكَايَةً لِمَا يَصْحَبُهُ مِنَ الرُّعْبِ الشَّدِيدِ بِخِلَافِ الشَّيْءِ الْوَارِدِ تَدْرِيجًا فَإِنَّ
النَّفْسَ تَتَلَقَّاهُ بِصَبْرٍ.
[٢٧]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٢٧]
ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (٢٧)
ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ.
عَطْفٌ عَلَى لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ [سُورَة النَّحْل: ٢٥]، لِأَنَّ ذَلِكَ وَعِيدٌ لَهُمْ وَهَذَا تَكْمِلَةٌ لَهُ.
وَضَمِيرُ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُخْزِيهِمْ عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ الضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِاللَّامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَإِذا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ [سُورَة النَّحْل: ٢٤]. وَذَلِكَ عَائِد إِلَى فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ [سُورَة النَّحْل: ٢٢].
135
وَ (ثُمَّ) لِلتَّرْتِيبِ الرُّتَبِيِّ، فَإِنَّ خِزْيَ الْآخِرَةِ أَعْظَمُ مِنَ اسْتِئْصَالِ نَعِيمِ الدُّنْيَا.
وَالْخِزْيُ: الْإِهَانَةُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٨٥].
وَتَقْدِيمُ الظَّرْفِ لِلِاهْتِمَامِ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ لِأَنَّهُ يَوْمُ الْأَحْوَالِ الْأَبَدِيَّةِ فَمَا فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ مُهَوِّلٌ لِلسَّامِعِينَ.
وأَيْنَ لِلِاسْتِفْهَامِ عَنِ الْمَكَانِ، وَهُوَ يَقْتَضِي الْعِلْمَ بِوُجُودِ مَنْ يَحُلُّ فِي الْمَكَانِ.
وَلَمَّا كَانَ الْمَقَامُ هُنَا مَقَامَ تَهَكُّمٍ كَانَ الِاسْتِفْهَامُ عَنِ الْمَكَانِ مُسْتَعْمَلًا فِي التَّهَكُّمِ لِيَظْهَرَ لَهُمْ كَالطَّمَاعِيَةِ لِلْبَحْثِ عَنْ آلِهَتِهِمْ، وَهُمْ عَلِمُوا أَنْ لَا وُجُودَ لَهُمْ وَلَا مَكَانَ لِحُلُولِهِمْ.
وَإِضَافَةُ الشُّرَكَاءِ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ زِيَادَةٌ فِي التَّوْبِيخِ، لِأَنَّ مَظْهَرَ عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى يَوْمَئِذٍ لِلْعَيَانِ يُنَافِي أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ، فَالْمُخَاطَبُونَ عَالِمُونَ حِينَئِذٍ بِتَعَذُّرِ الْمُشَارَكَةِ.
وَالْمَوْصُولُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى ضَلَالِهِمْ وَخَطَئِهِمْ فِي ادِّعَاءِ الْمُشَارَكَةِ مِثْلُ الَّذِي فِي قَوْلِ عَبْدَةَ:
وَالْمُشَاقَّةُ: الْمُشَادَّةُ فِي الْخُصُومَةِ، كَأَنَّهَا خُصُومَةٌ لَا سَبِيلَ مَعَهَا إِلَى الْوِفَاقِ، إِذْ قَدْ صَارَ كُلُّ خَصْمٍ فِي شِقٍّ غَيْرِ شَقِّ الْآخَرِ.
وَقَرَأَ نَافِع تشقون- بِكَسْرِ النُّونِ- عَلَى حَذْفِ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ، أَيْ تُعَانِدُونَنِي، وَذَلِكَ بِإِنْكَارِهِمْ مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَرَأَ الْبَقِيَّةُ تُشَاقُّونَ- بِفَتْحِ النُّونِ- وَحَذْفِ الْمَفْعُولِ لِلْعِلْمِ، أَيْ تُعَانِدُونَ مَنْ يَدْعُوكُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ.
وَ (فِي) لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ مَعَ حَذْفِ مُضَافٍ، إِذِ الْمُشَاقَّةُ لَا تَكُونُ فِي الذَّوَاتِ بَلْ فِي الْمَعَانِي. وَالتَّقْدِيرُ: فِي إِلَهِيَّتِهِمْ أَوْ فِي شَأْنِهِمْ.
وَالْخِزْيُ: الْإِهَانَةُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٨٥].
وَتَقْدِيمُ الظَّرْفِ لِلِاهْتِمَامِ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ لِأَنَّهُ يَوْمُ الْأَحْوَالِ الْأَبَدِيَّةِ فَمَا فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ مُهَوِّلٌ لِلسَّامِعِينَ.
وأَيْنَ لِلِاسْتِفْهَامِ عَنِ الْمَكَانِ، وَهُوَ يَقْتَضِي الْعِلْمَ بِوُجُودِ مَنْ يَحُلُّ فِي الْمَكَانِ.
وَلَمَّا كَانَ الْمَقَامُ هُنَا مَقَامَ تَهَكُّمٍ كَانَ الِاسْتِفْهَامُ عَنِ الْمَكَانِ مُسْتَعْمَلًا فِي التَّهَكُّمِ لِيَظْهَرَ لَهُمْ كَالطَّمَاعِيَةِ لِلْبَحْثِ عَنْ آلِهَتِهِمْ، وَهُمْ عَلِمُوا أَنْ لَا وُجُودَ لَهُمْ وَلَا مَكَانَ لِحُلُولِهِمْ.
وَإِضَافَةُ الشُّرَكَاءِ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ زِيَادَةٌ فِي التَّوْبِيخِ، لِأَنَّ مَظْهَرَ عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى يَوْمَئِذٍ لِلْعَيَانِ يُنَافِي أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ، فَالْمُخَاطَبُونَ عَالِمُونَ حِينَئِذٍ بِتَعَذُّرِ الْمُشَارَكَةِ.
وَالْمَوْصُولُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى ضَلَالِهِمْ وَخَطَئِهِمْ فِي ادِّعَاءِ الْمُشَارَكَةِ مِثْلُ الَّذِي فِي قَوْلِ عَبْدَةَ:
إِنَّ الَّذِينَ تَرَوْنَهُمْ إِخْوَانَكُمْ | يَشْفِي غَلِيلَ صُدُورِهِمْ أَنْ تُصْرَعُوا |
وَقَرَأَ نَافِع تشقون- بِكَسْرِ النُّونِ- عَلَى حَذْفِ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ، أَيْ تُعَانِدُونَنِي، وَذَلِكَ بِإِنْكَارِهِمْ مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَرَأَ الْبَقِيَّةُ تُشَاقُّونَ- بِفَتْحِ النُّونِ- وَحَذْفِ الْمَفْعُولِ لِلْعِلْمِ، أَيْ تُعَانِدُونَ مَنْ يَدْعُوكُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ.
وَ (فِي) لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ مَعَ حَذْفِ مُضَافٍ، إِذِ الْمُشَاقَّةُ لَا تَكُونُ فِي الذَّوَاتِ بَلْ فِي الْمَعَانِي. وَالتَّقْدِيرُ: فِي إِلَهِيَّتِهِمْ أَوْ فِي شَأْنِهِمْ.
136
قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ جُمْلَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ حَكَتْ قَوْلَ أَفَاضِلِ الْخَلَائِقِ حِينَ يَسْمَعُونَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ مَلَائِكَةِ الْعَذَابِ: أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ.
وَجِيءَ بِجُمْلَةِ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ غَيْرَ مَعْطُوفَةٍ لِأَنَّهَا وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ الْجَوَابِ لِقَوْلِهِ: أَيْنَ شُرَكائِيَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ابْتَدَرُوا الْجَوَابَ لَمَّا وَجَمَ الْمُشْرِكُونَ فَلَمْ يُحِيرُوا جَوَابًا، فَأَجَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ جَوَابًا جَامِعًا لِنَفْيِ أَنْ يَكُونَ الشُّرَكَاءُ الْمَزْعُومُونَ مُغْنِينَ عَنِ الَّذِينَ أَشْرَكُوا شَيْئًا، وَأَنَّ الْخِزْيَ وَالسُّوءَ أَحَاطَا بالكافرين.
وَالتَّعْبِير بالماضي لِتَحْقِيقِ وُقُوعِ الْقَوْلِ.
وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ هُمُ الَّذِينَ آتَاهُمُ اللَّهُ عِلْمَ الْحَقَائِقِ مِنَ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ- عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَالْمُؤْمِنُونَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ [سُورَة الرّوم: ٥٦]، أَيْ يَقُولُونَ فِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ مِنْ جَرَّاءِ مَا يُشَاهِدُوا مِنْ مُهَيَّأِ الْعَذَابِ لِلْكَافِرِينَ كَلَامًا يَدُلُّ عَلَى حَصْرِ الْخِزْيِ وَالضُّرِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الْكَوْنِ عَلَى الْكَافِرِينَ. وَهُوَ قصر ادعائي لبلوغ الْمُعَرَّفُ بِلَامِ الْجِنْسِ حَدِّ النِّهَايَةِ فِي جِنْسِهِ حَتَّى كَأَنَّ غَيْرَهُ مِنْ جِنْسِهِ لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ.
وَتَأْكِيدُ الْجُمْلَةِ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ وَبِصِيغَةِ الْقَصْرِ وَالْإِتْيَانِ بِحَرْفِ الِاسْتِعْلَاءِ الدَّالِّ عَلَى تَمَكُّنِ الْخِزْيِ وَالسُّوءِ مِنْهُمْ يُفِيدُ مَعْنَى التَّعَجُّبِ مِنْ هَوْلِ مَا أعدّ لَهُم.
وَجِيءَ بِجُمْلَةِ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ غَيْرَ مَعْطُوفَةٍ لِأَنَّهَا وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ الْجَوَابِ لِقَوْلِهِ: أَيْنَ شُرَكائِيَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ابْتَدَرُوا الْجَوَابَ لَمَّا وَجَمَ الْمُشْرِكُونَ فَلَمْ يُحِيرُوا جَوَابًا، فَأَجَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ جَوَابًا جَامِعًا لِنَفْيِ أَنْ يَكُونَ الشُّرَكَاءُ الْمَزْعُومُونَ مُغْنِينَ عَنِ الَّذِينَ أَشْرَكُوا شَيْئًا، وَأَنَّ الْخِزْيَ وَالسُّوءَ أَحَاطَا بالكافرين.
وَالتَّعْبِير بالماضي لِتَحْقِيقِ وُقُوعِ الْقَوْلِ.
وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ هُمُ الَّذِينَ آتَاهُمُ اللَّهُ عِلْمَ الْحَقَائِقِ مِنَ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ- عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَالْمُؤْمِنُونَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ [سُورَة الرّوم: ٥٦]، أَيْ يَقُولُونَ فِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ مِنْ جَرَّاءِ مَا يُشَاهِدُوا مِنْ مُهَيَّأِ الْعَذَابِ لِلْكَافِرِينَ كَلَامًا يَدُلُّ عَلَى حَصْرِ الْخِزْيِ وَالضُّرِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الْكَوْنِ عَلَى الْكَافِرِينَ. وَهُوَ قصر ادعائي لبلوغ الْمُعَرَّفُ بِلَامِ الْجِنْسِ حَدِّ النِّهَايَةِ فِي جِنْسِهِ حَتَّى كَأَنَّ غَيْرَهُ مِنْ جِنْسِهِ لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ.
وَتَأْكِيدُ الْجُمْلَةِ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ وَبِصِيغَةِ الْقَصْرِ وَالْإِتْيَانِ بِحَرْفِ الِاسْتِعْلَاءِ الدَّالِّ عَلَى تَمَكُّنِ الْخِزْيِ وَالسُّوءِ مِنْهُمْ يُفِيدُ مَعْنَى التَّعَجُّبِ مِنْ هَوْلِ مَا أعدّ لَهُم.
137
[سُورَة النَّحْل (١٦) : الْآيَات ٢٨ إِلَى ٢٩]
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٢٩)الْقَرِينَةُ ظَاهِرَةٌ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ لَيْسَتْ مِنْ مَقُولِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِذْ لَا مُنَاسَبَةَ لِأَنْ يُعَرَّفَ الْكَافِرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَنَّهُمُ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَإِنَّ صِيغَةَ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ قَرِيبَةٌ مِنَ الصَّرِيحِ فِي أَنَّ هَذَا التَّوَفِّيَ مَحْكِيٌّ فِي حَالِ حُصُولِهِ وَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَضَتْ وَفَاتُهُمْ وَلَا فَائِدَةَ أُخْرَى فِي ذكر ذَلِك يَوْمَئِذٍ، فَالْوَجْهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا.
وَعَنْ عِكْرِمَةَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِالْمَدِينَةِ فِي قَوْمٍ أَسْلَمُوا بِمَكَّةَ وَلَمْ يُهَاجِرُوا فَأَخْرَجَهُمْ قُرَيْشٌ إِلَى بَدْرٍ كُرْهًا فَقُتِلُوا بِبَدْرٍ.
فَالْوَجْهُ أَنَّ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ بَدَلٌ مِنَ الَّذِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ [سُورَة النَّحْل: ٢٢] أَوْ صِفَةٌ لَهُم، كَمَا يومىء إِلَيْهِ وَصْفُهُمْ فِي آخِرِ الْآيَةِ بِالْمُتَكَبِّرِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ، فَهُمُ الَّذِينَ وُصِفُوا فِيمَا قَبْلُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ [سُورَة النَّحْل: ٢٢]، وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ. وَإِنْ أَبَيْتَ ذَلِكَ لِبُعْدِ مَا بَيْنَ الْمَتْبُوعِ وَالتَّابِعِ فَاجْعَلِ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. وَالتَّقْدِيرُ:
هُمُ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ.
وَحَذْفُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ جَارٍ عَلَى الِاسْتِعْمَالِ فِي أَمْثَالِهِ مِنْ كُلِّ مُسْنَدٍ إِلَيْهِ جَرَى فِيمَا سَلَفَ مِنَ الْكَلَامِ. أُخْبِرَ عَنْهُ وَحُدِّثَ عَنْ شَأْنِهِ، وَهُوَ مَا يُعْرَفُ عِنْدَ السَّكَّاكِيِّ بِالْحَذْفِ الْمُتَّبَعُ فِيهِ الِاسْتِعْمَالُ. وَيُقَابِلُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِيمَا يَأْتِي: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ [سُورَة النَّحْل: ٣٢] فَإِنَّهُ صِفَةٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا [سُورَة النَّحْل: ٣٠] فَهَذَا نَظِيرُهُ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الصِّلَةِ وَصْفُ حَالَةِ الَّذِينَ يَمُوتُونَ عَلَى الشِّرْكِ فَبَعْدَ أَنْ ذَكَرَ حَالَ حُلُولِ الْعَذَابِ بِمَنْ حَلَّ بِهِمْ الِاسْتِئْصَالُ وَمَا يَحِلُّ بِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
138
ذُكِرَتْ حَالَةُ وَفَاتِهِمُ الَّتِي هِيَ بَيْنَ حَالَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَهِيَ حَالٌ تَعْرِضُ لِجَمِيعِهِمْ سَوَاءٌ مِنْهُمْ مَنْ أَدْرَكَهُ الِاسْتِئْصَالُ وَمَنْ هَلَكَ قَبْلَ ذَلِكَ.
وَأَطْبَقَ مَنْ تَصَدَّى لِرَبْطِهِ بِمَا قَبْلَهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، عَلَى جَعْلِ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ الْآيَةَ بَدَلًا مِنَ الْكافِرِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ [سُورَة النَّحْل: ٢٧]، أَوْ صِفَةً لَهُ. وَسَكَتَ عَنْهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» (وَهُوَ سُكُوتٌ مِنْ ذَهَبٍ). وَقَالَ الْخَفَاجِيُّ: «وَهُوَ يَصِحُّ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مَقُولًا لِلْقَوْلِ وَغَيْرَ مُنْدَرِجٍ تَحْتَهُ». وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: «وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ مُرْتَفِعًا بِالِابْتِدَاءِ مُنْقَطِعًا مِمَّا قَبْلَهُ وَخَبَرُهُ فِي قَوْلِهِ: فَأَلْقَوُا السَّلَمَ [سُورَة النَّحْل: ٢٨] اه.
وَاقْتِرَانُ الْفِعْلِ بِتَاءِ الْمُضَارَعَةِ الَّتِي لِلْمُؤَنَّثِ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِاعْتِبَارِ إِسْنَادِهِ إِلَى الْجَمَاعَةِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَخَلَفٌ يَتَوَفَّاهُمْ بِالتَّحْتِيَّةِ عَلَى الْأَصْلِ.
وَظُلْمُ النَّفْسِ: الشِّرْكُ.
وَالْإِلْقَاءُ: مُسْتَعَارٌ إِلَى الْإِظْهَارِ الْمُقْتَرِنِ بِمَذَلَّةٍ. شُبِّهَ بِإِلْقَاءِ السِّلَاحِ عَلَى الْأَرْضِ، ذَلِكَ أَنَّهُمْ تَرَكُوا اسْتِكْبَارَهُمْ وَإِنْكَارَهُمْ وَأَسْرَعُوا إِلَى الِاعْتِرَاف ولخضوع لَمَّا ذَاقُوا عَذَابَ انْتِزَاعِ أَرْوَاحِهِمْ.
وَالسَّلَمُ- بِفَتْحِ السِّينِ وَفَتْحِ اللَّامِ- الِاسْتِسْلَامُ. وَتَقَدَّمَ الْإِلْقَاءُ وَالسَّلَمُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٩٠]. وَتَقَدَّمَ الْإِلْقَاءُ الْحَقِيقِيُّ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ [١٥].
وَوَصْفُهُمْ بِ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ يَرْمِي إِلَى أَنَّ تَوَفِّيَ الْمَلَائِكَةِ إِيَّاهُمْ مُلَابِسٌ لِغِلْظَةٍ وَتَعْذِيبٍ، قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ [سُورَة الْأَنْفَال: ٥٠].
وَجُمْلَةُ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ دلّ عَلَيْهِ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ، لِأَنَّ إِلْقَاءَ السَّلَمِ أَوَّلُ مَظَاهِرِهِ الْقَوْلُ الدَّالُّ عَلَى الْخُضُوعِ. يَقُولُونَ ذَلِكَ لِلْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَنْتَزِعُونَ أَرْوَاحَهُمْ لِيَكُفُّوا عَنْهُمْ تَعْذِيبَ الِانْتِزَاعِ، وَهُمْ مِنَ
وَأَطْبَقَ مَنْ تَصَدَّى لِرَبْطِهِ بِمَا قَبْلَهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، عَلَى جَعْلِ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ الْآيَةَ بَدَلًا مِنَ الْكافِرِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ [سُورَة النَّحْل: ٢٧]، أَوْ صِفَةً لَهُ. وَسَكَتَ عَنْهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» (وَهُوَ سُكُوتٌ مِنْ ذَهَبٍ). وَقَالَ الْخَفَاجِيُّ: «وَهُوَ يَصِحُّ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مَقُولًا لِلْقَوْلِ وَغَيْرَ مُنْدَرِجٍ تَحْتَهُ». وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: «وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ مُرْتَفِعًا بِالِابْتِدَاءِ مُنْقَطِعًا مِمَّا قَبْلَهُ وَخَبَرُهُ فِي قَوْلِهِ: فَأَلْقَوُا السَّلَمَ [سُورَة النَّحْل: ٢٨] اه.
وَاقْتِرَانُ الْفِعْلِ بِتَاءِ الْمُضَارَعَةِ الَّتِي لِلْمُؤَنَّثِ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِاعْتِبَارِ إِسْنَادِهِ إِلَى الْجَمَاعَةِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَخَلَفٌ يَتَوَفَّاهُمْ بِالتَّحْتِيَّةِ عَلَى الْأَصْلِ.
وَظُلْمُ النَّفْسِ: الشِّرْكُ.
وَالْإِلْقَاءُ: مُسْتَعَارٌ إِلَى الْإِظْهَارِ الْمُقْتَرِنِ بِمَذَلَّةٍ. شُبِّهَ بِإِلْقَاءِ السِّلَاحِ عَلَى الْأَرْضِ، ذَلِكَ أَنَّهُمْ تَرَكُوا اسْتِكْبَارَهُمْ وَإِنْكَارَهُمْ وَأَسْرَعُوا إِلَى الِاعْتِرَاف ولخضوع لَمَّا ذَاقُوا عَذَابَ انْتِزَاعِ أَرْوَاحِهِمْ.
وَالسَّلَمُ- بِفَتْحِ السِّينِ وَفَتْحِ اللَّامِ- الِاسْتِسْلَامُ. وَتَقَدَّمَ الْإِلْقَاءُ وَالسَّلَمُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٩٠]. وَتَقَدَّمَ الْإِلْقَاءُ الْحَقِيقِيُّ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ [١٥].
وَوَصْفُهُمْ بِ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ يَرْمِي إِلَى أَنَّ تَوَفِّيَ الْمَلَائِكَةِ إِيَّاهُمْ مُلَابِسٌ لِغِلْظَةٍ وَتَعْذِيبٍ، قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ [سُورَة الْأَنْفَال: ٥٠].
وَجُمْلَةُ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ دلّ عَلَيْهِ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ، لِأَنَّ إِلْقَاءَ السَّلَمِ أَوَّلُ مَظَاهِرِهِ الْقَوْلُ الدَّالُّ عَلَى الْخُضُوعِ. يَقُولُونَ ذَلِكَ لِلْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَنْتَزِعُونَ أَرْوَاحَهُمْ لِيَكُفُّوا عَنْهُمْ تَعْذِيبَ الِانْتِزَاعِ، وَهُمْ مِنَ
139
اضْطِرَابِ عُقُولِهِمْ يَحْسَبُونَ الْمَلَائِكَةَ إِنَّمَا يُجَرِّبُونَهُمْ بِالْعَذَابِ لِيَطَّلِعُوا عَلَى دَخِيلَةِ أَمْرِهِمْ، فَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ إِنْ كَذَبُوهُمْ رَاجَ كَذِبُهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَكَفُّوا عَنْهُمُ الْعَذَابَ، لِذَلِكَ جَحَدُوا أَنْ يَكُونُوا يَعْمَلُونَ سُوءًا مِنْ قَبْلُ.
وَلِذَلِكَ فَجُمْلَةُ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ جَوَابُ الْمَلَائِكَةِ لَهُمْ، وَلِذَلِكَ افْتُتِحَتْ بِالْحَرْفِ الَّذِي يَبْطُلُ بِهِ النَّفْيُ وَهُوَ بَلى. وَقَدْ جَعَلُوا عِلْمَ اللَّهِ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ كِنَايَةً عَنْ تَكْذِيبِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ: مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ، وَكِنَايَةً عَلَى أَنَّهُمْ مَا عَامَلُوهُمْ بِالْعَذَابِ إِلَّا بِأَمْرٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى الْعَالِمِ بِهِمْ.
وَأَسْنَدُوا الْعِلْمَ إِلَى اللَّهِ دُونَ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّا نَعْلَمُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، أَدَبًا مَعَ اللَّهِ وَإِشْعَارًا بِأَنَّهُمْ مَا عَلِمُوا ذَلِكَ إِلَّا بِتَعْلِيمٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَتَفْرِيعُ فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ عَلَى إِبْطَالِ نَفْيِهِمْ عَمَلَ السُّوءِ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ إِثْبَاتَ كَوْنِهِمْ كَانُوا يَعْمَلُونَ السُّوءَ يَقْتَضِي اسْتِحْقَاقَهُمُ الْعَذَاب، وَذَلِكَ عِنْد مَا كُشِفَ لَهُمْ عَنْ مَقَرِّهِمُ الْأَخِيرِ، كَمَا
جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «الْقَبْرُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ».
وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ [سُورَة الْأَنْفَال: ٥٠].
وَجُمْلَةُ فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ تَذْيِيلٌ. يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حِكَايَةَ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ الْحِكَايَةِ لَا مِنَ الْمَحْكِيِّ، وَوَصْفُهُمْ بِالْمُتَكَبِّرِينَ يُرَجِّحُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لِرَبْطِ هَذِهِ الصِّفَةِ بِالْمَوْصُوفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ [سُورَة النَّحْل: ٢٢]. وَاللَّامُ الدَّاخِلَةُ عَلَى «بِئْسَ» لَامُ الْقَسَمِ.
وَالْمَثْوَى. الْمَرْجِعُ. مِنْ ثَوَى إِذَا رَجَعَ، أَوِ الْمَقَامُ مِنْ ثَوَى إِذَا أَقَامَ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٢٨].
وَلَمْ يُعَبِّرْ عَنْ جَهَنَّمَ بِالدَّارِ كَمَا عَبَّرَ عَنِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَأْتِي بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ [سُورَة النَّحْل: ٣٠] تَحْقِيرًا لَهُمْ وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا فِي جَهَنَّمَ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الدَّارِ بَلْ هُمْ مُتَرَاصُّونَ فِي النَّارِ وَهُمْ فِي مَثْوًى، أَيْ مَحَلٍّ ثَوَاءٍ
وَلِذَلِكَ فَجُمْلَةُ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ جَوَابُ الْمَلَائِكَةِ لَهُمْ، وَلِذَلِكَ افْتُتِحَتْ بِالْحَرْفِ الَّذِي يَبْطُلُ بِهِ النَّفْيُ وَهُوَ بَلى. وَقَدْ جَعَلُوا عِلْمَ اللَّهِ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ كِنَايَةً عَنْ تَكْذِيبِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ: مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ، وَكِنَايَةً عَلَى أَنَّهُمْ مَا عَامَلُوهُمْ بِالْعَذَابِ إِلَّا بِأَمْرٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى الْعَالِمِ بِهِمْ.
وَأَسْنَدُوا الْعِلْمَ إِلَى اللَّهِ دُونَ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّا نَعْلَمُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، أَدَبًا مَعَ اللَّهِ وَإِشْعَارًا بِأَنَّهُمْ مَا عَلِمُوا ذَلِكَ إِلَّا بِتَعْلِيمٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَتَفْرِيعُ فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ عَلَى إِبْطَالِ نَفْيِهِمْ عَمَلَ السُّوءِ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ إِثْبَاتَ كَوْنِهِمْ كَانُوا يَعْمَلُونَ السُّوءَ يَقْتَضِي اسْتِحْقَاقَهُمُ الْعَذَاب، وَذَلِكَ عِنْد مَا كُشِفَ لَهُمْ عَنْ مَقَرِّهِمُ الْأَخِيرِ، كَمَا
جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «الْقَبْرُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ».
وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ [سُورَة الْأَنْفَال: ٥٠].
وَجُمْلَةُ فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ تَذْيِيلٌ. يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حِكَايَةَ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ الْحِكَايَةِ لَا مِنَ الْمَحْكِيِّ، وَوَصْفُهُمْ بِالْمُتَكَبِّرِينَ يُرَجِّحُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لِرَبْطِ هَذِهِ الصِّفَةِ بِالْمَوْصُوفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ [سُورَة النَّحْل: ٢٢]. وَاللَّامُ الدَّاخِلَةُ عَلَى «بِئْسَ» لَامُ الْقَسَمِ.
وَالْمَثْوَى. الْمَرْجِعُ. مِنْ ثَوَى إِذَا رَجَعَ، أَوِ الْمَقَامُ مِنْ ثَوَى إِذَا أَقَامَ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٢٨].
وَلَمْ يُعَبِّرْ عَنْ جَهَنَّمَ بِالدَّارِ كَمَا عَبَّرَ عَنِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَأْتِي بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ [سُورَة النَّحْل: ٣٠] تَحْقِيرًا لَهُمْ وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا فِي جَهَنَّمَ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الدَّارِ بَلْ هُمْ مُتَرَاصُّونَ فِي النَّارِ وَهُمْ فِي مَثْوًى، أَيْ مَحَلٍّ ثَوَاءٍ
140
[٣٠، ٣١]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : الْآيَات ٣٠ الى ٣١]وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها مَا يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (٣١)
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً.
لَمَّا افْتُتِحَتْ صِفَةُ سَيِّئَاتِ الْكَافِرِينَ وَعَوَاقِبِهَا بِأَنَّهُمْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ [سُورَة النَّحْل: ٢٤] قَالُوا: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [سُورَة النَّحْل: ٢٤]، جَاءَتْ هُنَا مُقَابَلَةُ حَالِهِمْ بِحَالِ حَسَنَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَحُسْنِ عَوَاقِبِهَا، فَافْتُتِحَ ذَلِكَ بِمُقَابِلِ مَا افْتُتِحَتْ بِهِ قِصَّةُ الْكَافرين، فجَاء التنظير بَيْنَ الْقِصَّتَيْنِ فِي أَبْدَعِ نَظْمٍ.
وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَهِيَ مُعْتَرِضَةٌ فِي خِلَالِ أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ اسْتِطْرَادًا. وَلَمْ تَقْتَرِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بِأَدَاةِ الشَّرْطِ كَمَا قُرِنَتْ مُقَابِلَتُهَا بِهَا وَإِذا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ، لِأَنَّ قَوْلَهُمْ: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ لَمَّا كَانَ كَذِبًا اخْتَلَقُوهُ كَانَ مَظِنَّةَ أَنْ يُقْلِعَ عَنْهُ قَائِلُهُ وَأَنْ يَرْعَوِيَ إِلَى الْحَقِّ وَأَنْ لَا يُجْمِعَ عَلَيْهِ الْقَائِلُونَ، قُرِنَ بِأَدَاةِ الشَّرْطِ الْمُقْتَضِيَةِ تَكَرُّرَ ذَلِكَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى إِصْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ، بِخِلَافِ مَا هُنَا فَإِنَّ الصِّدْقَ مَظَنَّةُ اسْتِمْرَارِ قَائِلِهِ عَلَيْهِ فَلَيْسَ بِحَاجَةٍ إِلَى التّنبيه على تكرّره مِنْهُ.
وَالَّذِينَ اتَّقَوْا: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ لِأَنَّ الْإِيمَانَ تَقْوَى اللَّهِ وَخَشْيَةُ غَضَبِهِ. وَالْمُرَادُ بِهِمُ
الْمُؤْمِنُونَ الْمَعْهُودُونَ فِي مَكَّةَ، فَالْمَوْصُولُ لِلْعَهْدِ.
وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ سُئِلُوا عَنِ الْقُرْآنِ، وَمَنْ جَاءَ بِهِ، فَأَرْشَدُوا السَّائِلِينَ وَلَمْ يَتَرَدَّدُوا فِي الْكَشْفِ عَنْ حَقِيقَةِ الْقُرْآنِ بِأَوْجَزِ بَيَانٍ وَأَجْمَعِهِ، وَهُوَ كَلِمَةُ خَيْراً الْمَنْصُوبَةُ، فَإِنَّ لَفْظَهَا شَامِلٌ لِكُلِّ خَيْرٍ فِي الدُّنْيَا وَكُلِّ خَيْرٍ فِي الْآخِرَةِ، وَنَصْبُهَا دَالٌّ عَلَى أَنَّهُمْ جَعَلُوهَا مَعْمُولَةً لِ أَنْزَلَ الْوَاقِعُ فِي سُؤَالِ السَّائِلِينَ، فَدَلَّ النَّصْبُ عَلَى أَنَّهُمْ مُصَدِّقُونَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَهَذَا وَجْهُ الْمُخَالَفَةِ بَيْنَ الرَّفْعِ فِي جَوَابِ الْمُشْرِكِينَ حِينَ قِيلَ لَهُمْ:
مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [سُورَة النَّحْل: ٢٤] بِالرَّفْعِ وَبَيْنَ النَّصْبِ فِي كَلَامِ الْمُؤْمِنِينَ حِينَ قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً بِالنَّصْبِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ.
141
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها مَا يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (٣١) مُسْتَأْنَفَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ، وَهِيَ كَلَامٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى مِثْلُ نَظِيرِهَا فِي آيَةِ قُلْ يَا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ [١٠]، وَلَيْسَتْ مِنْ حِكَايَةِ قَوْلِ الَّذِينَ اتَّقَوْا.
وَالَّذِينَ أَحْسَنُوا: هُمُ الْمُتَّقُونَ فَهُوَ مِنَ الْإِظْهَارِ فِي مقَام الْإِضْمَار توصّلا بِالْإِتْيَانِ بالموصول إِلَى الْإِيمَاء إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ، أَيْ جَزَاؤُهُمْ حَسَنَةٌ لِأَنَّهُمْ أَحْسَنُوا.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فِي هذِهِ الدُّنْيا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِفِعْلِ أَحْسَنُوا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا حَالًا مِنْ حَسَنَةٌ. وَانْظُرْ مَا يَأْتِي فِي نَظَرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ سُورَةِ الزُّمَرِ من نُكْتَة هَذَا التوسيط.
وَمَعْنَى وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ أَنَّهَا خَيْرٌ لَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا فَإِذَا كَانَتْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةٌ فَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ أَحْسَنُ، فَكَمَا كَانَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابُ الدُّنْيَا وَعَذَابُ جَهَنَّمَ كَانَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا خَيْرُ الدُّنْيَا وَخَيْرُ الْآخِرَةِ. فَهَذَا مُقَابِلُ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي حَقِّ الْمُشْرِكِينَ لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً [سُورَة النَّحْل: ٢٥] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ [سُورَة النَّحْل: ٢٦].
وَحَسَنَةُ الدُّنْيَا هِيَ الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ وَمَا فَتَحَ اللَّهُ لَهُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا مَعَ نِعْمَةِ الْإِيمَانِ.
وَخَيْرُ الْآخِرَةِ هُوَ النَّعِيمُ الدَّائِمُ، قَالَ تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً
وَالَّذِينَ أَحْسَنُوا: هُمُ الْمُتَّقُونَ فَهُوَ مِنَ الْإِظْهَارِ فِي مقَام الْإِضْمَار توصّلا بِالْإِتْيَانِ بالموصول إِلَى الْإِيمَاء إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ، أَيْ جَزَاؤُهُمْ حَسَنَةٌ لِأَنَّهُمْ أَحْسَنُوا.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فِي هذِهِ الدُّنْيا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِفِعْلِ أَحْسَنُوا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا حَالًا مِنْ حَسَنَةٌ. وَانْظُرْ مَا يَأْتِي فِي نَظَرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ سُورَةِ الزُّمَرِ من نُكْتَة هَذَا التوسيط.
وَمَعْنَى وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ أَنَّهَا خَيْرٌ لَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا فَإِذَا كَانَتْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةٌ فَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ أَحْسَنُ، فَكَمَا كَانَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابُ الدُّنْيَا وَعَذَابُ جَهَنَّمَ كَانَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا خَيْرُ الدُّنْيَا وَخَيْرُ الْآخِرَةِ. فَهَذَا مُقَابِلُ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي حَقِّ الْمُشْرِكِينَ لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً [سُورَة النَّحْل: ٢٥] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ [سُورَة النَّحْل: ٢٦].
وَحَسَنَةُ الدُّنْيَا هِيَ الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ وَمَا فَتَحَ اللَّهُ لَهُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا مَعَ نِعْمَةِ الْإِيمَانِ.
وَخَيْرُ الْآخِرَةِ هُوَ النَّعِيمُ الدَّائِمُ، قَالَ تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً
142
مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ [سُورَة النَّحْل: ٩٧].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها مُقَابِلُ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي ضِدِّهِمْ فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ [سُورَة النَّحْل: ٢٩].
وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا وَجْهُ تَسْمِيَةِ جَهَنَّمَ مَثْوًى وَالْجَنَّةِ دَارًا.
وَ (نِعْمَ) فِعْلُ مَدْحٍ غَيْرُ مُتَصَرِّفٍ، وَمَرْفُوعُهُ فَاعِلٌ دَالٌّ عَلَى جِنْسِ الْمَمْدُوحِ، وَيُذْكَرُ بَعْدَهُ مَرْفُوعٌ آخَرُ يُسَمَّى الْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ، أَوْ خَبَرٌ مَحْذُوفُ الْمُبْتَدَأِ. فَإِذَا تَقَدَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمَخْصُوصِ بِالْمَدْحِ لَمْ يُذْكَرْ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا هُنَا، فَإِنَّ تَقَدُّمَ وَلَدارُ الْآخِرَةِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَخْصُوصَ بِالْمَدْحِ هُوَ دَارُ الْآخِرَةِ. وَالْمَعْنَى: وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ دَارُ الْآخِرَةِ.
وَارْتَفَعَ جَنَّاتُ عَدْنٍ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ مِمَّا حُذِفَ فِيهِ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ جَرْيًا عَلَى الِاسْتِعْمَالِ فِي مُسْنَدٍ إِلَيْهِ جَرَى كَلَامٌ عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ [سُورَة النَّحْل: ٢٨]. وَالتَّقْدِيرُ: هِيَ جَنَّاتُ عَدْنٍ، أَيْ دَارُ الْمُتَّقِينَ جَنَّاتُ عَدْنٍ.
وَجُمْلَةُ يَدْخُلُونَها حَالٌ مِنَ الْمُتَّقِينَ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِهِ اسْتِحْضَارُ تِلْكَ الْحَالَةِ الْبَدِيعَةِ حَالَةِ دُخُولِهِمْ لِدَارِ الْخَيْرِ وَالْحُسْنَى وَالْجَنَّاتِ.
وَجُمْلَةُ لَهُمْ فِيها مَا يَشاؤُنَ حَالُ مِنْ ضَمِيرِ الرَّفْعِ فِي يَدْخُلُونَها. وَمَضْمُونُهَا مُكَمِّلٌ لِمَا فِي جُمْلَةِ يَدْخُلُونَها مِنَ اسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ الْبَدِيعَةِ.
وَجُمْلَةُ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ مُسْتَأْنَفَةٌ، وَالْإِتْيَانُ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِتَمْيِيزِ الْجَزَاءِ وَالتَّنْوِيهِ بِهِ. وَجَعْلِ الْجَزَاءِ لِتَمْيِيزِهِ وَكَمَالِهِ بِحَيْثُ يُشَبَّهُ بِهِ جَزَاءُ الْمُتَّقِينَ. وَالتَّقْدِيرُ: يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ جَزَاءً كَذَلِكَ الْجَزَاءِ الَّذِي عَلِمْتُمُوهُ. وَهُوَ تَذْيِيلٌ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ فِي الْمُتَّقِينَ للْعُمُوم.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها مُقَابِلُ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي ضِدِّهِمْ فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ [سُورَة النَّحْل: ٢٩].
وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا وَجْهُ تَسْمِيَةِ جَهَنَّمَ مَثْوًى وَالْجَنَّةِ دَارًا.
وَ (نِعْمَ) فِعْلُ مَدْحٍ غَيْرُ مُتَصَرِّفٍ، وَمَرْفُوعُهُ فَاعِلٌ دَالٌّ عَلَى جِنْسِ الْمَمْدُوحِ، وَيُذْكَرُ بَعْدَهُ مَرْفُوعٌ آخَرُ يُسَمَّى الْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ، أَوْ خَبَرٌ مَحْذُوفُ الْمُبْتَدَأِ. فَإِذَا تَقَدَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمَخْصُوصِ بِالْمَدْحِ لَمْ يُذْكَرْ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا هُنَا، فَإِنَّ تَقَدُّمَ وَلَدارُ الْآخِرَةِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَخْصُوصَ بِالْمَدْحِ هُوَ دَارُ الْآخِرَةِ. وَالْمَعْنَى: وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ دَارُ الْآخِرَةِ.
وَارْتَفَعَ جَنَّاتُ عَدْنٍ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ مِمَّا حُذِفَ فِيهِ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ جَرْيًا عَلَى الِاسْتِعْمَالِ فِي مُسْنَدٍ إِلَيْهِ جَرَى كَلَامٌ عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ [سُورَة النَّحْل: ٢٨]. وَالتَّقْدِيرُ: هِيَ جَنَّاتُ عَدْنٍ، أَيْ دَارُ الْمُتَّقِينَ جَنَّاتُ عَدْنٍ.
وَجُمْلَةُ يَدْخُلُونَها حَالٌ مِنَ الْمُتَّقِينَ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِهِ اسْتِحْضَارُ تِلْكَ الْحَالَةِ الْبَدِيعَةِ حَالَةِ دُخُولِهِمْ لِدَارِ الْخَيْرِ وَالْحُسْنَى وَالْجَنَّاتِ.
وَجُمْلَةُ لَهُمْ فِيها مَا يَشاؤُنَ حَالُ مِنْ ضَمِيرِ الرَّفْعِ فِي يَدْخُلُونَها. وَمَضْمُونُهَا مُكَمِّلٌ لِمَا فِي جُمْلَةِ يَدْخُلُونَها مِنَ اسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ الْبَدِيعَةِ.
وَجُمْلَةُ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ مُسْتَأْنَفَةٌ، وَالْإِتْيَانُ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِتَمْيِيزِ الْجَزَاءِ وَالتَّنْوِيهِ بِهِ. وَجَعْلِ الْجَزَاءِ لِتَمْيِيزِهِ وَكَمَالِهِ بِحَيْثُ يُشَبَّهُ بِهِ جَزَاءُ الْمُتَّقِينَ. وَالتَّقْدِيرُ: يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ جَزَاءً كَذَلِكَ الْجَزَاءِ الَّذِي عَلِمْتُمُوهُ. وَهُوَ تَذْيِيلٌ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ فِي الْمُتَّقِينَ للْعُمُوم.
143
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٣٢]
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٢)مُقَابِلُ قَوْلِهِ فِي أَضْدَادِهِمْ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ، فَمَا قِيلَ فِي
مُقَابِلِهِ يُقَالُ فِيهِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَتَوَفَّاهُمُ بِفَوْقِيَّتَيْنِ، مِثْلُ نَظِيرِهِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَخَلَفٌ بِتَحْتِيَّةٍ أُولَى كَذَلِكَ.
وَالطَّيِّبُ: بِزِنَةِ فَيْعِلَ، مِثْلُ قَيِّمٍ وَمَيِّتٍ، وَهُوَ مُبَالَغَةٌ فِي الِاتِّصَافِ بِالطِّيبِ وَهُوَ حُسْنُ الرَّائِحَةِ. وَيُطْلَقُ عَلَى مَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ وَكَمَالِ النَّفْسِ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ الْمَشْهُورِ فَتُوصَفُ بِهِ الْمَحْسُوسَاتُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: حَلالًا طَيِّباً [سُورَة الْبَقَرَة: ١٦٨] وَالْمَعَانِي وَالنَّفْسِيَّاتُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ [سُورَة الزمر: ٧٣]. وَقَوْلِهِمْ: طِبْتَ نَفْسًا. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ [سُورَة الْأَعْرَاف: ٥٨].
وَفِي الْحَدِيثِ «إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا»
أَيْ مَالًا طَيِّبًا حَلَالًا. فَقَوْلُهُ تَعَالَى هُنَا طَيِّبِينَ يَجْمَعُ كُلَّ هَذِهِ الْمَعَانِي، أَيْ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ مُنَزَّهِينَ مِنَ الشِّرْكِ مُطْمَئِنِّي النُّفُوسِ. وَهَذَا مُقَابِلُ قَوْلِهِ فِي أَضْدَادِهِمُ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ [سُورَة النَّحْل: ٢٨].
وَجُمْلَةُ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ حَالٌ مِنَ الْمَلائِكَةُ وَهِيَ حَالُ مُقَارَنَةٍ لِ تَتَوَفَّاهُمُ، أَيْ يَتَوَفَّوْنَهُمْ مُسَلِّمِينَ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ سَلَامُ تَأْنِيسٍ وَإِكْرَامٍ حِينَ مَجِيئِهِمْ لِيَتَوَفَّوْهُمْ، لِأَنَّ فعل تَتَوَفَّاهُمُ يبتدىء مِنْ وَقْتِ حُلُولِ الْمَلَائِكَةِ إِلَى أَنْ تُنْتَزَعَ الْأَرْوَاحُ وَهِيَ حِصَّةٌ قَصِيرَةٌ.
وَقَوْلُهُمُ: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ هُوَ مُقَابِلُ قَوْلِهِمْ لِأَضْدَادِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ [سُورَة النَّحْل: ٢٨، ٢٩]. وَالْقَوْلُ فِي الْأَمْرِ بِالدُّخُولِ لِلْجَنَّةِ حِينَ التَّوَفِّي كَالْقَوْلِ فِي ضِدِّهِ الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا. وَهُوَ هُنَا نعيم المكاشفة.
[سُورَة النَّحْل (١٦) : الْآيَات ٣٣ إِلَى ٣٤]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٣٣) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ مَا عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٤)اسْتِئْنَاف بياني ناشىء عَنْ جُمْلَةِ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [سُورَة الرَّعْد: ٤٢] لِأَنَّهَا تُثِيرُ سُؤَالَ مَنْ يَسْأَلُ عَنْ إِبَّانِ حُلُولِ الْعَذَابِ عَلَى هَؤُلَاءِ كَمَا حَلَّ بِالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، فَقِيلَ: مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا أَحَدَ أَمْرَيْنِ هُمَا مَجِيءُ الْمَلَائِكَةِ لَقَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ فَيَحِقُّ عَلَيْهِمُ الْوَعِيدُ الْمُتَقَدِّمُ، أَوْ أَنْ يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ. وَالْمُرَادُ بِهِ الِاسْتِئْصَالُ الْمُعَرَّضُ بِالتَّهْدِيدِ فِي قَوْلِهِ: فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ [سُورَة النَّحْل: ٢٦].
وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ فِي مَعْنَى النَّفْيِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ بعده الِاسْتِثْنَاء.
ونْظُرُونَ
هُنَا بِمَعْنَى الِانْتِظَارِ وَهُوَ النِّظَرَةُ. وَالْكَلَامُ مُوَجَّهٌ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَذْكِيرًا بِتَحْقِيقِ الْوَعِيدِ وَعَدَمِ اسْتِبْطَائِهِ وَتَعْرِيضًا بِالْمُشْرِكِينَ بِالتَّحْذِيرِ مِنَ اغْتِرَارِهِمْ بِتَأَخُّرِ الْوَعِيدِ وَحَثًّا لَهُمْ عَلَى الْمُبَادَرَةِ بِالْإِيمَانِ.
وَإِسْنَادُ الِانْتِظَارِ الْمَذْكُور إِلَيْهِم جَار عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ بِتَنْزِيلِهِمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يَنْتَظِرُ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ، لِأَنَّ حَالَهُمْ مِنَ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْوَعِيدِ وَعَدَمِ التَّفَكُّرِ فِي دَلَائِلِ صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ ظُهُورِ تِلْكَ الدَّلَائِلِ وَإِفَادَتِهَا التَّحَقُّقَ كَحَالِ مَنْ أَيْقَنَ حُلُولَ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ بِهِ فَهُوَ يَتَرَقَّبُ أَحَدَهُمَا، كَمَا تَقُولُ لِمَنْ لَا يَأْخُذُ حَذَرَهُ مِنَ الْعَدُوِّ: مَا تَتَرَقَّبُ إِلَّا أَنْ تَقَعَ أَسِيرًا. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ [سُورَة يُونُس: ١٠٢] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ [سُورَة الْقَصَص: ١٩]. وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ وَمَا هُوَ بِذَلِكَ.
145
وَجُمْلَةُ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ تَنْظِيرٌ بِأَحْوَالِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ تَحْقِيقًا لِلْغَرَضَيْنِ.
وَالْإِشَارَةُ إِلَى الِانْتِظَارِ الْمَأْخُوذِ مِنْ (يَنْظُرُونَ) الْمُرَادُ مِنْهُ الْإِعْرَاضُ وَالْإِبْطَاءُ، ، أَيْ كَإِبْطَائِهِمْ فِعْلَ الَّذِينَ من قبلهم، فيوشك أَنْ يَأْخُذَهُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً كَمَا أَخَذَ الَّذِينَ مِنْ قبلهم. وَهَذَا تحذير لَهُمْ وَقَدْ رَفَعَ اللَّهُ عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ عَنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِبَرَكَتِهِ وَلِإِرَادَتِهِ انتشار دينه.
وَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [سُورَة الرَّعْد: ٤٢].
وَجُمْلَةُ مَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
مُعْتَرضَة بَين جملةَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
[سُورَة النَّحْل: ٣٣] وَجُمْلَة فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ مَا عَمِلُوا.
وَوَجْهُ هَذَا الِاعْتِرَاضِ أَنَّ التَّعَرُّضَ إِلَى مَا فَعَلَهُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُشِيرُ إِلَى مَا كَانَ مِنْ عَاقِبَتِهِمْ وَهُوَ اسْتِئْصَالُهُمْ، فَعُقِّبَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ
، أَيْ فِيمَا أَصَابَهُمْ.
وَلَمَّا كَانَ هَذَا الِاعْتِرَاضُ مُشْتَمِلًا عَلَى أَنَّهُمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ صَارَ تَفْرِيعُ فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ مَا عَمِلُوا عَلَيْهِ أَوْ عَلَى مَا قَبْلَهُ. وَهُوَ أُسْلُوبٌ مِنْ نَظْمِ الْكَلَامِ عَزِيزٌ. وَتَقْدِيرُ
أَصْلِهِ: كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ. فَفِي تَغْيِيرِ الْأُسْلُوبِ الْمُتَعَارَفِ تَشْوِيقٌ إِلَى الْخَبَرِ، وَتَهْوِيلٌ لَهُ بِأَنَّهُ ظُلْمُ أَنْفُسِهِمْ، وَأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَظْلِمْهُمْ، فَيَتَرَقَّبُ السَّامِعُ خَبَرًا مُفْظِعًا وَهُوَ فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ مَا عَمِلُوا.
وَإِصَابَةُ السَّيِّئَاتِ إِمَّا بِتَقْدِيرٍ مُضَافٍ، أَيْ أَصَابَهُمْ جَزَاؤُهَا، أَوْ جُعِلَتْ أَعْمَالُهُمُ السَّيِّئَةُ كَأَنَّهَا هِيَ الَّتِي أَصَابَتْهُمْ لِأَنَّهَا سَبَبُ مَا أَصَابَهُمْ، فَهُوَ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ.
وحاقَ: أَحَاطَ. وَالْحَيْقُ: الْإِحَاطَةُ. ثُمَّ خَصَّ الِاسْتِعْمَالُ الْحَيْقَ بِإِحَاطَةِ الشَّرِّ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ
وَالْإِشَارَةُ إِلَى الِانْتِظَارِ الْمَأْخُوذِ مِنْ (يَنْظُرُونَ) الْمُرَادُ مِنْهُ الْإِعْرَاضُ وَالْإِبْطَاءُ، ، أَيْ كَإِبْطَائِهِمْ فِعْلَ الَّذِينَ من قبلهم، فيوشك أَنْ يَأْخُذَهُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً كَمَا أَخَذَ الَّذِينَ مِنْ قبلهم. وَهَذَا تحذير لَهُمْ وَقَدْ رَفَعَ اللَّهُ عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ عَنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِبَرَكَتِهِ وَلِإِرَادَتِهِ انتشار دينه.
وَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [سُورَة الرَّعْد: ٤٢].
وَجُمْلَةُ مَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
مُعْتَرضَة بَين جملةَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
[سُورَة النَّحْل: ٣٣] وَجُمْلَة فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ مَا عَمِلُوا.
وَوَجْهُ هَذَا الِاعْتِرَاضِ أَنَّ التَّعَرُّضَ إِلَى مَا فَعَلَهُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُشِيرُ إِلَى مَا كَانَ مِنْ عَاقِبَتِهِمْ وَهُوَ اسْتِئْصَالُهُمْ، فَعُقِّبَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ
، أَيْ فِيمَا أَصَابَهُمْ.
وَلَمَّا كَانَ هَذَا الِاعْتِرَاضُ مُشْتَمِلًا عَلَى أَنَّهُمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ صَارَ تَفْرِيعُ فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ مَا عَمِلُوا عَلَيْهِ أَوْ عَلَى مَا قَبْلَهُ. وَهُوَ أُسْلُوبٌ مِنْ نَظْمِ الْكَلَامِ عَزِيزٌ. وَتَقْدِيرُ
أَصْلِهِ: كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ. فَفِي تَغْيِيرِ الْأُسْلُوبِ الْمُتَعَارَفِ تَشْوِيقٌ إِلَى الْخَبَرِ، وَتَهْوِيلٌ لَهُ بِأَنَّهُ ظُلْمُ أَنْفُسِهِمْ، وَأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَظْلِمْهُمْ، فَيَتَرَقَّبُ السَّامِعُ خَبَرًا مُفْظِعًا وَهُوَ فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ مَا عَمِلُوا.
وَإِصَابَةُ السَّيِّئَاتِ إِمَّا بِتَقْدِيرٍ مُضَافٍ، أَيْ أَصَابَهُمْ جَزَاؤُهَا، أَوْ جُعِلَتْ أَعْمَالُهُمُ السَّيِّئَةُ كَأَنَّهَا هِيَ الَّتِي أَصَابَتْهُمْ لِأَنَّهَا سَبَبُ مَا أَصَابَهُمْ، فَهُوَ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ.
وحاقَ: أَحَاطَ. وَالْحَيْقُ: الْإِحَاطَةُ. ثُمَّ خَصَّ الِاسْتِعْمَالُ الْحَيْقَ بِإِحَاطَةِ الشَّرِّ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ
146
وَ (مَا) مَوْصُولَةٌ، ماصدقها الْعَذَابُ الْمُتَوَعَّدُونَ بِهِ. وَالْبَاءُ فِي بِهِ لِلسَّبَبِيَّةِ. وَهُوَ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ هُوَ صِفَةٌ لِمَفْعُولٍ مُطْلَقٍ. وَالتَّقْدِيرُ: الَّذِي يَسْتَهْزِئُونَ اسْتِهْزَاءً بِسَبَبِهِ، أَيْ بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمْ وُقُوعَهُ. وَهَذَا اسْتِعْمَالٌ فِي مِثْلِهِ. وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ، مِنْ ذَلِكَ مَا فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ، وَلَيْسَتِ الْبَاءُ لتعدية فعل يَسْتَهْزِؤُنَ وَقُدِّمَ الْمَجْرُورُ عَلَى عَامِلِ مَوْصُوفِهِ لِلرِّعَايَةِ على الفاصلة.
[٣٥]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٣٥]
وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٣٥)
عَطْفُ قِصَّةٍ عَلَى قِصَّةٍ لِحِكَايَةِ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِ شُبُهَاتِهِمْ وَمُكَابَرَتِهِمْ وَبَابٌ مِنْ أَبْوَابِ تَكْذِيبِهِمْ.
وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُحَاوِلُونَ إِفْحَامَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ، وَإِنَّهُ الْقَادِرُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى آلِهَتِهِمْ، وَإِنَّهُ لَا يَرْضَى بِأَنْ يُعْبَدَ مَا سِوَاهُ، وَإِنَّهُ يَنْهَاهُمْ عَنِ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَنَحْوِهِمَا، فَحَسِبُوا أَنَّهُمْ خَصَمُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَاجُّوهُ فَقَالُوا لَهُ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ لَا نَعْبُدَ أَصْنَامًا لَمَا أَقْدَرَنَا عَلَى عِبَادَتِهَا، وَلَوْ شَاءَ أَنْ لَا نُحَرِّمَ مَا حَرَّمْنَا مِنْ نَحْوِ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ لَمَا أَقَرَّنَا عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ. وَذَلِكَ قَصْدُ إِفْحَامٍ وَتَكْذِيبٍ.
وَهَذَا رَدَّهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِتَنْظِيرِ أَعْمَالِهِمْ بِأَعْمَالِ الْأُمَمِ الَّذِينَ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ فَلَوْ كَانَ اللَّهُ يَرْضَى بِمَا عَمِلُوهُ لَمَا عَاقَبَهُمْ بِالِاسْتِئْصَالِ، فَكَانَتْ عَاقِبَتُهُمْ نُزُولُ الْعَذَابِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، ثُمَّ بِقَطْعِ الْمُحَاجَّةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ، أَيْ وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِ الرُّسُلِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- الْمُنَاظَرَةُ مَعَ الْأُمَّةِ.
[٣٥]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٣٥]
وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٣٥)
عَطْفُ قِصَّةٍ عَلَى قِصَّةٍ لِحِكَايَةِ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِ شُبُهَاتِهِمْ وَمُكَابَرَتِهِمْ وَبَابٌ مِنْ أَبْوَابِ تَكْذِيبِهِمْ.
وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُحَاوِلُونَ إِفْحَامَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ، وَإِنَّهُ الْقَادِرُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى آلِهَتِهِمْ، وَإِنَّهُ لَا يَرْضَى بِأَنْ يُعْبَدَ مَا سِوَاهُ، وَإِنَّهُ يَنْهَاهُمْ عَنِ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَنَحْوِهِمَا، فَحَسِبُوا أَنَّهُمْ خَصَمُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَاجُّوهُ فَقَالُوا لَهُ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ لَا نَعْبُدَ أَصْنَامًا لَمَا أَقْدَرَنَا عَلَى عِبَادَتِهَا، وَلَوْ شَاءَ أَنْ لَا نُحَرِّمَ مَا حَرَّمْنَا مِنْ نَحْوِ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ لَمَا أَقَرَّنَا عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ. وَذَلِكَ قَصْدُ إِفْحَامٍ وَتَكْذِيبٍ.
وَهَذَا رَدَّهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِتَنْظِيرِ أَعْمَالِهِمْ بِأَعْمَالِ الْأُمَمِ الَّذِينَ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ فَلَوْ كَانَ اللَّهُ يَرْضَى بِمَا عَمِلُوهُ لَمَا عَاقَبَهُمْ بِالِاسْتِئْصَالِ، فَكَانَتْ عَاقِبَتُهُمْ نُزُولُ الْعَذَابِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، ثُمَّ بِقَطْعِ الْمُحَاجَّةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ، أَيْ وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِ الرُّسُلِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- الْمُنَاظَرَةُ مَعَ الْأُمَّةِ.
147
وَقَالَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٤٨] سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا، فَسَمَّى قَوْلَهُمْ هَذَا تَكْذِيبًا كَتَكْذِيبِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ التَّكْذِيبُ وَتَعْضِيدُ تَكْذِيبِهِمْ بِحُجَّةٍ أَسَاءُوا الْفَهْمَ فِيهَا، فَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّ اللَّهَ يَتَوَلَّى تَحْرِيكَ النَّاسِ لِأَعْمَالِهِمْ كَمَا يُحَرِّكُ صَاحِبُ خَيَالِ الظِّلِّ وَمُحَرِّكُ اللُّعَبِ أَشْبَاحَهُ وَتَمَاثِيلَهُ، وَذَلِكَ جَهْلٌ مِنْهُمْ بِالْفَرْقِ بَيْنَ تَكْوِينِ الْمَخْلُوقَاتِ وَبَيْنَ مَا يَكْسِبُونَهُ بِأَنْفُسِهِمْ، وَبِالْفَرْقِ بَيْنَ أَمْرِ التَّكْذِيبِ وَأَمْرِ التَّكْلِيفِ، وَتَخْلِيطٌ بَيْنَ الرِّضَى وَالْإِرَادَةِ، وَلَوْلَا هَذَا التَّخْلِيطُ لَكَانَ قَوْلُهُمْ إِيمَانًا.
وَالْإِشَارَةُ بِ كَذلِكَ إِلَى الْإِشْرَاكِ وَتَحْرِيمِ أَشْيَاءَ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ، أَيْ كَفِعْلِ هَؤُلَاءِ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَهُمُ الْمَذْكُورُونَ فِيمَا تَقَدَّمَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [سُورَة النَّحْل: ٢٦] وَبِقَوْلِهِ: ذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ
[سُورَة النَّحْل:
٣٣]. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّهُمْ فَعَلُوا كَفِعْلِهِمْ فَكَانَتْ عَاقِبَتُهُمْ مَا عَلِمْتُمْ، فَلَوْ كَانَ فِعْلُهُمْ مُرْضِيًا لِلَّهِ لَمَا أَهْلَكَهُمْ، فَهَلَّا اسْتَدَلُّوا بِهَلَاكِهِمْ عَلَى أَنَّ اللَّهَ غَيْرُ رَاضٍ بِفِعْلِهِمْ، فَإِنَّ دَلَالَةَ الِانْتِقَامِ أَظْهَرُ مِنْ دَلَالَةِ الْإِمْلَاءِ، لِأَنَّ دَلَالَةَ الِانْتِقَامِ وُجُودِيَّةٌ وَدَلَالَةُ الْإِمْهَالِ عَدَمِيَّةٌ.
وَضَمِيرُ نَحْنُ تَأْكِيدٌ لِلضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ فِي عَبَدْنا. وَحَصَلَ بِهِ تَصْحِيحُ الْعَطْفِ عَلَى ضَمِيرِ الرَّفْعِ الْمُتَّصِلِ. وَإِعَادَةُ حَرْفِ النَّفْيِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا آباؤُنا لِتَأْكِيدِ مَا النَّافِيَةِ.
وَقَدْ فُرِّعَ عَلَى ذَلِكَ قَطْعُ الْمُحَاجَّةِ مَعَهُمْ وَإِعْلَامُهُمْ أَنَّ الرُّسُلَ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- مَا عَلَيْهِمْ إِلَّا الْبَلَاغُ وَمِنْهُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحْذَرُوا أَنْ تَكُونَ عَاقِبَتُكُمْ عَاقِبَةَ أَقْوَامِ الرُّسُلِ السَّالِفِينَ.
وَلَيْسَ الرُّسُلُ بِمُكَلَّفِينَ بِإِكْرَاهِ النَّاسِ عَلَى الْإِيمَانِ حَتَّى تَسْلُكُوا مَعَهُمُ التَّحَكُّكَ بِهِمْ وَالْإِغَاظَةَ لَهُمْ.
وَالْبَلَاغُ اسْمُ مَصْدَرِ الْإِبْلَاغِ. وَالْمُبِينُ: الْمُوَضِّحُ الصَّرِيحُ.
وَالِاسْتِفْهَامُ بِ (هَلْ) إِنْكَارِيٌّ بِمَعْنَى النَّفْيِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ الِاسْتِثْنَاءُ عَقِبَهُ.
وَالْإِشَارَةُ بِ كَذلِكَ إِلَى الْإِشْرَاكِ وَتَحْرِيمِ أَشْيَاءَ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ، أَيْ كَفِعْلِ هَؤُلَاءِ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَهُمُ الْمَذْكُورُونَ فِيمَا تَقَدَّمَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [سُورَة النَّحْل: ٢٦] وَبِقَوْلِهِ: ذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ
[سُورَة النَّحْل:
٣٣]. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّهُمْ فَعَلُوا كَفِعْلِهِمْ فَكَانَتْ عَاقِبَتُهُمْ مَا عَلِمْتُمْ، فَلَوْ كَانَ فِعْلُهُمْ مُرْضِيًا لِلَّهِ لَمَا أَهْلَكَهُمْ، فَهَلَّا اسْتَدَلُّوا بِهَلَاكِهِمْ عَلَى أَنَّ اللَّهَ غَيْرُ رَاضٍ بِفِعْلِهِمْ، فَإِنَّ دَلَالَةَ الِانْتِقَامِ أَظْهَرُ مِنْ دَلَالَةِ الْإِمْلَاءِ، لِأَنَّ دَلَالَةَ الِانْتِقَامِ وُجُودِيَّةٌ وَدَلَالَةُ الْإِمْهَالِ عَدَمِيَّةٌ.
وَضَمِيرُ نَحْنُ تَأْكِيدٌ لِلضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ فِي عَبَدْنا. وَحَصَلَ بِهِ تَصْحِيحُ الْعَطْفِ عَلَى ضَمِيرِ الرَّفْعِ الْمُتَّصِلِ. وَإِعَادَةُ حَرْفِ النَّفْيِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا آباؤُنا لِتَأْكِيدِ مَا النَّافِيَةِ.
وَقَدْ فُرِّعَ عَلَى ذَلِكَ قَطْعُ الْمُحَاجَّةِ مَعَهُمْ وَإِعْلَامُهُمْ أَنَّ الرُّسُلَ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- مَا عَلَيْهِمْ إِلَّا الْبَلَاغُ وَمِنْهُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحْذَرُوا أَنْ تَكُونَ عَاقِبَتُكُمْ عَاقِبَةَ أَقْوَامِ الرُّسُلِ السَّالِفِينَ.
وَلَيْسَ الرُّسُلُ بِمُكَلَّفِينَ بِإِكْرَاهِ النَّاسِ عَلَى الْإِيمَانِ حَتَّى تَسْلُكُوا مَعَهُمُ التَّحَكُّكَ بِهِمْ وَالْإِغَاظَةَ لَهُمْ.
وَالْبَلَاغُ اسْمُ مَصْدَرِ الْإِبْلَاغِ. وَالْمُبِينُ: الْمُوَضِّحُ الصَّرِيحُ.
وَالِاسْتِفْهَامُ بِ (هَلْ) إِنْكَارِيٌّ بِمَعْنَى النَّفْيِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ الِاسْتِثْنَاءُ عَقِبَهُ.
148
وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنَ النَّفْيِ وَالِاسْتِثْنَاءِ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ لِقَلْبِ اعْتِقَادِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ مُعَامَلَتِهِمُ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ لِلرَّسُولِ غَرَضًا شَخْصِيًّا فِيمَا يَدْعُو إِلَيْهِ.
وَأُثْبِتَ الْحُكْمُ لِعُمُومِ الرُّسُلِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- وَإِنْ كَانَ الْمَرْدُودُ عَلَيْهِمْ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِمْ أَمْرُ الرُّسُلِ الْأَوَّلِينَ لِتَكُونَ الْجُمْلَةُ تَذْيِيلًا لِلْمُحَاجَّةِ، فَتُفِيدُ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنَ الْمَرْدُودِ.
وَالْكَلَامُ مُوَجَّهٌ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْلِيمًا وَتَسْلِيَةً، وَيَتَضَمَّنُ تَعْرِيضًا بإبلاغ الْمُشْركين.
[٣٦]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٣٦]
وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [سُورَة النَّحْل: ٣٥]. وَهُوَ تَكْمِلَةٌ لِإِبْطَالِ شُبْهَةِ الْمُشْرِكِينَ إِبْطَالًا بِطَرِيقَةِ التَّفْصِيلِ بَعْدَ الْإِجْمَالِ لِزِيَادَةِ تَقْرِيرِ الْحُجَّةِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ بَيَانٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النَّحْل: ٣٥].
وَجُمْلَةُ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ إِلَى آخِرِهَا بَيَانٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ بَيَّنَ لِلْأُمَمِ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- أَنَّهُ يَأْمُرُهُمْ بِعِبَادَتِهِ وَاجْتِنَابِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ فَمِنْ كُلِّ أُمَّةٍ أَقْوَامٌ هَدَاهُمُ اللَّهُ فَصَدَّقُوا
وَأُثْبِتَ الْحُكْمُ لِعُمُومِ الرُّسُلِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- وَإِنْ كَانَ الْمَرْدُودُ عَلَيْهِمْ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِمْ أَمْرُ الرُّسُلِ الْأَوَّلِينَ لِتَكُونَ الْجُمْلَةُ تَذْيِيلًا لِلْمُحَاجَّةِ، فَتُفِيدُ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنَ الْمَرْدُودِ.
وَالْكَلَامُ مُوَجَّهٌ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْلِيمًا وَتَسْلِيَةً، وَيَتَضَمَّنُ تَعْرِيضًا بإبلاغ الْمُشْركين.
[٣٦]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٣٦]
وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [سُورَة النَّحْل: ٣٥]. وَهُوَ تَكْمِلَةٌ لِإِبْطَالِ شُبْهَةِ الْمُشْرِكِينَ إِبْطَالًا بِطَرِيقَةِ التَّفْصِيلِ بَعْدَ الْإِجْمَالِ لِزِيَادَةِ تَقْرِيرِ الْحُجَّةِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ بَيَانٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النَّحْل: ٣٥].
وَجُمْلَةُ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ إِلَى آخِرِهَا بَيَانٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ بَيَّنَ لِلْأُمَمِ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- أَنَّهُ يَأْمُرُهُمْ بِعِبَادَتِهِ وَاجْتِنَابِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ فَمِنْ كُلِّ أُمَّةٍ أَقْوَامٌ هَدَاهُمُ اللَّهُ فَصَدَّقُوا
149
وَآمَنُوا، وَمِنْهُمْ أَقْوَامٌ تَمَكَّنَتْ مِنْهُمُ الضَّلَالَةُ فَهَلَكُوا. وَمَنْ سَارَ فِي الْأَرْضِ رَأَى دَلَائِلَ اسْتِئْصَالِهِمْ.
وأَنِ تفسيرية لجملة بَعَثْنا لِأَنَّ الْبَعْثَ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْقَوْلِ، إِذْ هُوَ بَعْثٌ لِلتَّبْلِيغِ.
والطَّاغُوتَ: جِنْسُ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنَ الْأَصْنَامِ. وَقَدْ يَذْكُرُونَهُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، فَيُقَالُ: الطَّوَاغِيتُ، وَهِيَ الْأَصْنَامُ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٥١].
وَأُسْنِدَتْ هِدَايَةُ بَعْضِهِمْ إِلَى اللَّهِ مَعَ أَنَّهُ أَمَرَ جَمِيعَهُمْ بِالْهُدَى تَنْبِيهًا لِلْمُشْرِكِينَ عَلَى إِزَالَةِ شُبْهَتِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ: لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ [سُورَة النَّحْل: ٣٥] بِأَنَّ اللَّهَ بَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى، فَاهْتِدَاءُ الْمُهْتَدِينَ بِسَبَبِ بَيَانِهِ، فَهُوَ الْهَادِي لَهُمْ.
وَالتَّعْبِيرُ فِي جَانِبِ الضَّلَالَةِ بِلَفْظِ «حَقَّتْ عَلَيْهِمْ» دُونَ إِسْنَادِ الْإِضْلَالِ إِلَى اللَّهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ لَمَّا نَهَاهُمْ عَنِ الضَّلَالَةِ فَقَدْ كَانَ تَصْمِيمُهُمْ عَلَيْهَا إِبْقَاءً لِضَلَالَتِهِمُ السَّابِقَةِ «فَحَقَّتْ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ»، أَيْ ثَبَتَتْ وَلَمْ تَرْتَفِعْ.
وَفِي ذَلِكَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ بَقَاءَ الضَّلَالَةِ مِنْ كَسْبِ أَنْفُسِهِمْ وَلَكِنْ وَرَدَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى أَنَّ اللَّهَ يُضِلُّ الضَّالِّينَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً [سُورَة الْأَنْعَام: ١٢٥]، وَقَوْلِهِ عَقِبَ هَذَا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ [سُورَة النَّحْل:
٣٧] عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، لِيَحْصُلَ مِنْ مَجْمُوعِ ذَلِكَ عِلْمٌ بِأَنَّ اللَّهَ كَوَّنَ أَسْبَابًا عَدِيدَةً بَعْضُهَا جَاءَ مِنْ تَوَالُدِ الْعُقُولِ وَالْأَمْزِجَةِ وَاقْتِبَاسِ بَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ، وَبَعْضُهَا تَابِعٌ لِلدَّعَوَاتِ الضَّالَّةِ بِحَيْثُ تَهَيَّأَتْ مِنَ اجْتِمَاعِ أُمُورٍ شَتَّى لَا يُحْصِيهَا إِلَّا اللَّهُ، أَسْبَابٌ تَامَّةٌ تَحُولُ بَيْنَ الضَّالِّ وَبَيْنَ الْهُدَى. فَلَا جَرَمَ كَانَتْ تِلْكَ الْأَسْبَابُ هِيَ سَبَبُ حَقِّ الضَّلَالَةِ عَلَيْهِمْ، فَبِاعْتِبَارِ الْأَسْبَابِ الْمُبَاشِرَةِ كَانَ ضلالهم من حالات أنفسهم، وَبِاعْتِبَار الْأَسْبَاب الْعَالِيَة المتوالدة كَانَ ضَلَالُهُمْ مِنْ لَدُنْ خَالِقِ تِلْكَ الْأَسْبَابِ وَخَالِقِ نَوَامِيسِهَا فِي مُتَقَادِمِ الْعُصُورِ. فَافْهَمْ.
وأَنِ تفسيرية لجملة بَعَثْنا لِأَنَّ الْبَعْثَ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْقَوْلِ، إِذْ هُوَ بَعْثٌ لِلتَّبْلِيغِ.
والطَّاغُوتَ: جِنْسُ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنَ الْأَصْنَامِ. وَقَدْ يَذْكُرُونَهُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، فَيُقَالُ: الطَّوَاغِيتُ، وَهِيَ الْأَصْنَامُ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٥١].
وَأُسْنِدَتْ هِدَايَةُ بَعْضِهِمْ إِلَى اللَّهِ مَعَ أَنَّهُ أَمَرَ جَمِيعَهُمْ بِالْهُدَى تَنْبِيهًا لِلْمُشْرِكِينَ عَلَى إِزَالَةِ شُبْهَتِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ: لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ [سُورَة النَّحْل: ٣٥] بِأَنَّ اللَّهَ بَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى، فَاهْتِدَاءُ الْمُهْتَدِينَ بِسَبَبِ بَيَانِهِ، فَهُوَ الْهَادِي لَهُمْ.
وَالتَّعْبِيرُ فِي جَانِبِ الضَّلَالَةِ بِلَفْظِ «حَقَّتْ عَلَيْهِمْ» دُونَ إِسْنَادِ الْإِضْلَالِ إِلَى اللَّهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ لَمَّا نَهَاهُمْ عَنِ الضَّلَالَةِ فَقَدْ كَانَ تَصْمِيمُهُمْ عَلَيْهَا إِبْقَاءً لِضَلَالَتِهِمُ السَّابِقَةِ «فَحَقَّتْ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ»، أَيْ ثَبَتَتْ وَلَمْ تَرْتَفِعْ.
وَفِي ذَلِكَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ بَقَاءَ الضَّلَالَةِ مِنْ كَسْبِ أَنْفُسِهِمْ وَلَكِنْ وَرَدَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى أَنَّ اللَّهَ يُضِلُّ الضَّالِّينَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً [سُورَة الْأَنْعَام: ١٢٥]، وَقَوْلِهِ عَقِبَ هَذَا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ [سُورَة النَّحْل:
٣٧] عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، لِيَحْصُلَ مِنْ مَجْمُوعِ ذَلِكَ عِلْمٌ بِأَنَّ اللَّهَ كَوَّنَ أَسْبَابًا عَدِيدَةً بَعْضُهَا جَاءَ مِنْ تَوَالُدِ الْعُقُولِ وَالْأَمْزِجَةِ وَاقْتِبَاسِ بَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ، وَبَعْضُهَا تَابِعٌ لِلدَّعَوَاتِ الضَّالَّةِ بِحَيْثُ تَهَيَّأَتْ مِنَ اجْتِمَاعِ أُمُورٍ شَتَّى لَا يُحْصِيهَا إِلَّا اللَّهُ، أَسْبَابٌ تَامَّةٌ تَحُولُ بَيْنَ الضَّالِّ وَبَيْنَ الْهُدَى. فَلَا جَرَمَ كَانَتْ تِلْكَ الْأَسْبَابُ هِيَ سَبَبُ حَقِّ الضَّلَالَةِ عَلَيْهِمْ، فَبِاعْتِبَارِ الْأَسْبَابِ الْمُبَاشِرَةِ كَانَ ضلالهم من حالات أنفسهم، وَبِاعْتِبَار الْأَسْبَاب الْعَالِيَة المتوالدة كَانَ ضَلَالُهُمْ مِنْ لَدُنْ خَالِقِ تِلْكَ الْأَسْبَابِ وَخَالِقِ نَوَامِيسِهَا فِي مُتَقَادِمِ الْعُصُورِ. فَافْهَمْ.
150
ثُمَّ فَرَّعَ عَلَى ذَلِك الْأَمر باليسر فِي الْأَرْضِ لِيَنْظُرُوا آثَارَ الْأُمَمِ فَيَرَوْا مِنْهَا آثَارَ اسْتِئْصَالٍ مُخَالِفٍ لِأَحْوَالِ الْفَنَاءِ الْمُعْتَادِ، وَلِذَلِكَ كَانَ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا مُتَوَقِّفًا عَلَى السَّيْرِ فِي الْأَرْضِ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مُطْلَقُ الْفَنَاءِ لَأَمَرَهُمْ بِمُشَاهَدَةِ الْمَقَابِرِ وَذِكْرِ السّلف الْأَوَائِل.
[٣٧]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٣٧]
إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٧)
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، لِأَنَّ تَقْسِيمَ كُلِّ أُمَّةٍ ضَالَّةٍ إِلَى مُهْتَدٍ مِنْهَا وَبَاقٍ عَلَى الضَّلَالِ يُثِيرُ سُؤَالًا فِي نَفْسِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ حَالِ هَذِهِ الْأُمَّةِ: أَهُوَ جَارٍ عَلَى حَالِ الْأُمَمِ الَّتِي قَبْلَهَا، أَوْ أَنَّ اللَّهَ يَهْدِيهِمْ جَمِيعًا. وَذَلِكَ مِنْ حِرْصِهِ عَلَى خَيْرِهِمْ وَرَأْفَتِهِ بِهِمْ، فَأَعْلَمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ مَعَ حِرْصِهِ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّهُمْ سَيَبْقَى مِنْهُمْ فَرِيقٌ عَلَى ضَلَالَةٍ.
وَفِي الْآيَةِ لَطِيفَتَانِ:
الْأُولَى: التَّعْرِيضُ بِالثَّنَاءِ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حِرْصِهِ عَلَى خَيْرِهِمْ مَعَ مَا لَقِيَهُ مِنْهُمْ مِنَ الْأَذَى الَّذِي شَأْنُهُ أَنْ يُثِيرَ الْحَنَقَ فِي نَفْسِ مَنْ يَلْحَقُهُ الْأَذَى وَلَكِنَّ نَفْسَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. مُطَهَّرَةٌ مِنْ كُلِّ نَقْصٍ يَنْشَأُ عَنِ الْأَخْلَاقِ الْحَيَوَانِيَّةِ.
واللَّطِيفَةُ الثَّانِيَةُ: الْإِيمَاءُ إِلَى أَنَّ غَالِبَ أُمَّةِ الدَّعْوَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ سَيَكُونُونَ مُهْتَدِينَ وَأَنَّ الضَّلَالَ مِنْهُمْ فِئَةٌ قَلِيلَةٌ، وَهُمُ الَّذِينَ لَمْ يُقَدِّرِ اللَّهُ هَدْيَهُمْ فِي سَابِقِ عِلْمِهِ بِمَا نَشَأَ عَنْ خَلْقِهِ وَقُدْرَتِهِ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي هَيَّأَتْ لَهُمُ الْبَقَاءَ فِي الضَّلَالِ.
وَالْحِرْصُ: فَرْطُ الْإِرَادَةِ الْمُلِحَّةِ فِي تَحْصِيلِ الْمُرَادِ بِالسَّعْيِ فِي أَسْبَابِهِ.
وَالشَّرْطُ هُنَا لَيْسَ لِتَعْلِيقِ حُصُولِ مَضْمُونِ الْجَوَابِ عَلَى حُصُولِ مَضْمُونِ الشَّرْطِ، لِأَنَّ مَضْمُونَ الشَّرْطِ مَعْلُومُ الْحُصُولِ، لِأَنَّ عَلَامَاتِهِ ظَاهِرَةٌ بِحَيْثُ يَعْلَمُهُ
[٣٧]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٣٧]
إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٧)
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، لِأَنَّ تَقْسِيمَ كُلِّ أُمَّةٍ ضَالَّةٍ إِلَى مُهْتَدٍ مِنْهَا وَبَاقٍ عَلَى الضَّلَالِ يُثِيرُ سُؤَالًا فِي نَفْسِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ حَالِ هَذِهِ الْأُمَّةِ: أَهُوَ جَارٍ عَلَى حَالِ الْأُمَمِ الَّتِي قَبْلَهَا، أَوْ أَنَّ اللَّهَ يَهْدِيهِمْ جَمِيعًا. وَذَلِكَ مِنْ حِرْصِهِ عَلَى خَيْرِهِمْ وَرَأْفَتِهِ بِهِمْ، فَأَعْلَمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ مَعَ حِرْصِهِ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّهُمْ سَيَبْقَى مِنْهُمْ فَرِيقٌ عَلَى ضَلَالَةٍ.
وَفِي الْآيَةِ لَطِيفَتَانِ:
الْأُولَى: التَّعْرِيضُ بِالثَّنَاءِ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حِرْصِهِ عَلَى خَيْرِهِمْ مَعَ مَا لَقِيَهُ مِنْهُمْ مِنَ الْأَذَى الَّذِي شَأْنُهُ أَنْ يُثِيرَ الْحَنَقَ فِي نَفْسِ مَنْ يَلْحَقُهُ الْأَذَى وَلَكِنَّ نَفْسَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. مُطَهَّرَةٌ مِنْ كُلِّ نَقْصٍ يَنْشَأُ عَنِ الْأَخْلَاقِ الْحَيَوَانِيَّةِ.
واللَّطِيفَةُ الثَّانِيَةُ: الْإِيمَاءُ إِلَى أَنَّ غَالِبَ أُمَّةِ الدَّعْوَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ سَيَكُونُونَ مُهْتَدِينَ وَأَنَّ الضَّلَالَ مِنْهُمْ فِئَةٌ قَلِيلَةٌ، وَهُمُ الَّذِينَ لَمْ يُقَدِّرِ اللَّهُ هَدْيَهُمْ فِي سَابِقِ عِلْمِهِ بِمَا نَشَأَ عَنْ خَلْقِهِ وَقُدْرَتِهِ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي هَيَّأَتْ لَهُمُ الْبَقَاءَ فِي الضَّلَالِ.
وَالْحِرْصُ: فَرْطُ الْإِرَادَةِ الْمُلِحَّةِ فِي تَحْصِيلِ الْمُرَادِ بِالسَّعْيِ فِي أَسْبَابِهِ.
وَالشَّرْطُ هُنَا لَيْسَ لِتَعْلِيقِ حُصُولِ مَضْمُونِ الْجَوَابِ عَلَى حُصُولِ مَضْمُونِ الشَّرْطِ، لِأَنَّ مَضْمُونَ الشَّرْطِ مَعْلُومُ الْحُصُولِ، لِأَنَّ عَلَامَاتِهِ ظَاهِرَةٌ بِحَيْثُ يَعْلَمُهُ
151
النَّاسُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ [سُورَة التَّوْبَة: ١٢٨] وَإِنَّمَا هُوَ لِتَعْلِيقِ الْعِلْمِ بِمَضْمُونِ الْجَوَابِ عَلَى دَوَامِ حُصُولِ مَضْمُونِ الشَّرْطِ. فَالْمَعْنَى: إِنْ كُنْتَ حَرِيصًا عَلَى هُدَاهُمْ حِرْصًا مُسْتَمِرًّا فَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ لَا تَسْتَطِيعُ هَدْيَهُ وَلَا تَجِدُ لِهَدْيهِ وَسِيلَةً وَلَا يَهْدِيهِ أَحَدٌ. فَالْمُضَارِعُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى التَّجَدُّدِ لَا غَيْرَ، كَقَوْلِ عَنْتَرَةَ:
وَأَظْهَرُ مِنْهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ أَيْضًا:
فَإِنَّ فِعْلَ الشَّرْطِ فِي الْبَيْتَيْنِ فِي مَعْنَى: إِنْ كَانَ ذَلِكَ تَصْمِيمًا، وَجَوَابُ الشَّرْطِ فِيهِمَا فِي مَعْنَى إِفَادَةِ الْعِلْمِ.
وَجُعِلَ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ فِي جُمْلَةِ الْإِخْبَارِ عَنِ اسْتِمْرَارِ ضَلَالِهِمُ اسْمَ الْجَلَالَةِ لِلتَّهْوِيلِ الْمُشَوِّقِ إِلَى اسْتِطْلَاعِ الْخَبَرِ. وَالْخَبَرُ هُوَ أَنَّ هُدَاهُمْ لَا يَحْصُلُ إِلَّا إِذَا أَرَادَهُ اللَّهُ وَلَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ تَحْصِيلَهُ لَا أَنْتَ وَلَا غَيْرُكَ، فَمَنْ قَدَّرَ اللَّهُ دَوَامَ ضَلَالِهِ فَلَا هَادِيَ لَهُ. وَلَوْلَا هَذِهِ النُّكْتَةُ لَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يَكُونَ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ ضَمِيرَ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ بِأَنْ يُقَالَ: فَإِنَّهُمْ لَا يَهْدِيهِمْ غَيْرُ اللَّهِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ لَا يَهْدِي- بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الدَّالِ- مَبْنِيًّا لِلنَّائِبِ، وَحُذِفَ الْفَاعِلُ لِلتَّعْمِيمِ، أَيْ لَا يَهْدِيهِ هَادٍ.
ومَنْ نَائِبُ فَاعِلٍ، وَضَمِيرُ يُضِلُّ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ، أَيْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْمُضَلَّلَ- بِفَتْحِ اللَّامِ- مِنْهُ. فَالْمُسْنَدُ سَبَبِيٌّ وَحُذِفَ الضَّمِيرُ السَّبَبِيُّ الْمَنْصُوبُ لِظُهُورِهِ وَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ [سُورَة الرَّعْد: ٣٣] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ [سُورَة الْأَعْرَاف: ١٨٦].
وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ لَا يَهْدِي- بِفَتْحِ الْيَاءِ- بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، وَضَمِيرُ اسْمِ الْجَلَالَةِ هُوَ الْفَاعِلُ، ومَنْ مَفْعُولُ يَهْدِي، وَالضَّمِيرُ
حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ [سُورَة التَّوْبَة: ١٢٨] وَإِنَّمَا هُوَ لِتَعْلِيقِ الْعِلْمِ بِمَضْمُونِ الْجَوَابِ عَلَى دَوَامِ حُصُولِ مَضْمُونِ الشَّرْطِ. فَالْمَعْنَى: إِنْ كُنْتَ حَرِيصًا عَلَى هُدَاهُمْ حِرْصًا مُسْتَمِرًّا فَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ لَا تَسْتَطِيعُ هَدْيَهُ وَلَا تَجِدُ لِهَدْيهِ وَسِيلَةً وَلَا يَهْدِيهِ أَحَدٌ. فَالْمُضَارِعُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى التَّجَدُّدِ لَا غَيْرَ، كَقَوْلِ عَنْتَرَةَ:
إِنْ تُغْدِ فِي دُونِي الْقِنَاعِ فَإِنَّنِي | طَبٌّ بِأَخْذِ الْفَارِسِ الْمُسْتَلْئِمِ |
إِنْ كُنْتِ أَزْمَعْتِ الْفِرَاقَ فَإِنَّمَا | زُمَّتْ رِكَابُكُمُ بِلَيْلٍ مُظْلِمِ |
وَجُعِلَ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ فِي جُمْلَةِ الْإِخْبَارِ عَنِ اسْتِمْرَارِ ضَلَالِهِمُ اسْمَ الْجَلَالَةِ لِلتَّهْوِيلِ الْمُشَوِّقِ إِلَى اسْتِطْلَاعِ الْخَبَرِ. وَالْخَبَرُ هُوَ أَنَّ هُدَاهُمْ لَا يَحْصُلُ إِلَّا إِذَا أَرَادَهُ اللَّهُ وَلَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ تَحْصِيلَهُ لَا أَنْتَ وَلَا غَيْرُكَ، فَمَنْ قَدَّرَ اللَّهُ دَوَامَ ضَلَالِهِ فَلَا هَادِيَ لَهُ. وَلَوْلَا هَذِهِ النُّكْتَةُ لَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يَكُونَ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ ضَمِيرَ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ بِأَنْ يُقَالَ: فَإِنَّهُمْ لَا يَهْدِيهِمْ غَيْرُ اللَّهِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ لَا يَهْدِي- بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الدَّالِ- مَبْنِيًّا لِلنَّائِبِ، وَحُذِفَ الْفَاعِلُ لِلتَّعْمِيمِ، أَيْ لَا يَهْدِيهِ هَادٍ.
ومَنْ نَائِبُ فَاعِلٍ، وَضَمِيرُ يُضِلُّ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ، أَيْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْمُضَلَّلَ- بِفَتْحِ اللَّامِ- مِنْهُ. فَالْمُسْنَدُ سَبَبِيٌّ وَحُذِفَ الضَّمِيرُ السَّبَبِيُّ الْمَنْصُوبُ لِظُهُورِهِ وَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ [سُورَة الرَّعْد: ٣٣] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ [سُورَة الْأَعْرَاف: ١٨٦].
وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ لَا يَهْدِي- بِفَتْحِ الْيَاءِ- بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، وَضَمِيرُ اسْمِ الْجَلَالَةِ هُوَ الْفَاعِلُ، ومَنْ مَفْعُولُ يَهْدِي، وَالضَّمِيرُ
152
فِي يُضِلُّ لِلَّهِ، وَالضَّمِيرُ السَّبَبِيُّ أَيْضًا مَحْذُوفٌ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ قَدَّرَ دَوَامَ ضَلَالِهِ، كَقَوْلِهِ
تَعَالَى: وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ [سُورَة الجاثية: ٢٣] إِلَى قَوْلِهِ: فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ [سُورَة الجاثية: ٢٣].
وَمَعْنَى وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ مَا لَهُمْ نَاصِرٌ يُنْجِيهِمْ مِنَ الْعَذَابِ، أَيْ كَمَا أَنَّهُمْ مَا لَهُمْ مُنْقِذٌ مِنَ الضَّلَالِ الْوَاقِعِينَ فِيهِ مَا لَهُمْ نَاصِرٌ يَدْفَعُ عَنْهُمْ عواقب الضلال.
[٣٨]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٣٨]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٣٨)
انْتِقَالٌ لِحِكَايَةِ مَقَالَةٍ أُخْرَى مِنْ شَنِيعِ مَقَالَاتِهِمْ فِي كُفْرِهِمْ، وَاسْتِدْلَالٌ مِنْ أَدِلَّةِ تَكْذِيبِهِمُ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يخبر بِهِ إِظْهَارًا لِدَعْوَتِهِ فِي مَظْهَرِ الْمُحَالِ، وَذَلِكَ إِنْكَارُهُمُ الْحَيَاة الثَّانِيَة ولبعث بَعْدَ الْمَوْتِ. وَذَلِكَ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ فِي هَذِهِ السُّورَةِ سِوَى الِاسْتِطْرَادِ بِقَوْلِهِ:
فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ [سُورَة النَّحْل: ٢٢].
وَالْقَسَمُ عَلَى نَفْيِ الْبَعْثِ أَرَادُوا بِهِ الدَّلَالَةَ على يقينهم بانتفانه.
وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي جَهْدَ أَيْمانِهِمْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [٥٣].
وَإِنَّمَا أَيْقَنُوا بِذَلِكَ وَأَقْسَمُوا عَلَيْهِ لِأَنَّهُمْ تَوَهَّمُوا أَنَّ سَلَامَةَ الْأَجْسَامِ وَعَدَمَ انْخِرَامِهَا شَرْطٌ لِقَبُولِهَا الْحَيَاةَ، وَقَدْ رَأَوْا أَجْسَادَ الْمَوْتَى مُعَرَّضَةً لِلِاضْمِحْلَالِ فَكَيْفَ تُعَادُ كَمَا كَانَتْ.
وَجُمْلَةُ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ عَطْفُ بَيَانٍ لِجُمْلَةِ أَقْسَمُوا وَهِيَ مَا أَقْسَمُوا عَلَيْهِ.
وَالْبَعْثُ تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [سُورَة النَّمْل: ٦٥].
تَعَالَى: وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ [سُورَة الجاثية: ٢٣] إِلَى قَوْلِهِ: فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ [سُورَة الجاثية: ٢٣].
وَمَعْنَى وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ مَا لَهُمْ نَاصِرٌ يُنْجِيهِمْ مِنَ الْعَذَابِ، أَيْ كَمَا أَنَّهُمْ مَا لَهُمْ مُنْقِذٌ مِنَ الضَّلَالِ الْوَاقِعِينَ فِيهِ مَا لَهُمْ نَاصِرٌ يَدْفَعُ عَنْهُمْ عواقب الضلال.
[٣٨]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٣٨]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٣٨)
انْتِقَالٌ لِحِكَايَةِ مَقَالَةٍ أُخْرَى مِنْ شَنِيعِ مَقَالَاتِهِمْ فِي كُفْرِهِمْ، وَاسْتِدْلَالٌ مِنْ أَدِلَّةِ تَكْذِيبِهِمُ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يخبر بِهِ إِظْهَارًا لِدَعْوَتِهِ فِي مَظْهَرِ الْمُحَالِ، وَذَلِكَ إِنْكَارُهُمُ الْحَيَاة الثَّانِيَة ولبعث بَعْدَ الْمَوْتِ. وَذَلِكَ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ فِي هَذِهِ السُّورَةِ سِوَى الِاسْتِطْرَادِ بِقَوْلِهِ:
فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ [سُورَة النَّحْل: ٢٢].
وَالْقَسَمُ عَلَى نَفْيِ الْبَعْثِ أَرَادُوا بِهِ الدَّلَالَةَ على يقينهم بانتفانه.
وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي جَهْدَ أَيْمانِهِمْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [٥٣].
وَإِنَّمَا أَيْقَنُوا بِذَلِكَ وَأَقْسَمُوا عَلَيْهِ لِأَنَّهُمْ تَوَهَّمُوا أَنَّ سَلَامَةَ الْأَجْسَامِ وَعَدَمَ انْخِرَامِهَا شَرْطٌ لِقَبُولِهَا الْحَيَاةَ، وَقَدْ رَأَوْا أَجْسَادَ الْمَوْتَى مُعَرَّضَةً لِلِاضْمِحْلَالِ فَكَيْفَ تُعَادُ كَمَا كَانَتْ.
وَجُمْلَةُ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ عَطْفُ بَيَانٍ لِجُمْلَةِ أَقْسَمُوا وَهِيَ مَا أَقْسَمُوا عَلَيْهِ.
وَالْبَعْثُ تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [سُورَة النَّمْل: ٦٥].
153
وَالْعُدُولُ عَنِ (الْمَوْتَى) إِلَى مَنْ يَمُوتُ لِقَصْدِ إِيذَانِ الصِّلَةِ بِتَعْلِيلِ نَفْيِ الْبَعْثِ، فَإِنَّ الصِّلَةَ أَقْوَى دَلَالَةً عَلَى التَّعْلِيلِ مِنْ دَلَالَةِ الْمُشْتَقِّ عَلَى عِلِّيَّةِ الِاشْتِقَاقِ، فَهُمْ جَعَلُوا الِاضْمِحْلَالَ مُنَافِيًا لِإِعَادَةِ الْحَيَاةِ، كَمَا حُكِيَ عَنْهُمْ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ [سُورَة النَّمْل: ٦٧].
وبَلى حَرْفٌ لِإِبْطَالِ النَّفْيِ فِي الْخَبَرِ وَالِاسْتِفْهَامِ، أَيْ بَلْ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ. وَانْتَصَبَ وَعْداً عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ مُؤَكِّدًا لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَرْفُ الْإِبْطَالِ مِنْ حُصُولِ الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَيُسَمَّى هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ مُؤَكِّدًا لِنَفْسِهِ، أَيْ مُؤَكِّدًا لِمَعْنَى فِعْلٍ هُوَ
عَيْنُ مَعْنَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ.
وعَلَيْهِ صِفَةٌ لِ وَعْداً، أَيْ وَعْدًا كَالْوَاجِبِ عَلَيْهِ فِي أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الْخُلْفَ. فَفِي الْكَلَامِ اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ. شُبِّهَ الْوَعْدُ الَّذِي وَعَدَهُ اللَّهُ بِمَحْضِ إِرَادَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ بِالْحَقِّ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ وَرَمَزَ إِلَيْهِ بِحَرْفِ الِاسْتِعْلَاءِ.
وحَقًّا صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِ وَعْداً. وَالْحَقُّ هُنَا بِمَعْنَى الصِّدْقِ الَّذِي لَا يُتَخَلَّفُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٍ [١١١].
وَالْمُرَادُ بِأَكْثَرِ النَّاسِ الْمُشْرِكُونَ، وَهُمْ يَوْمَئِذٍ أَكْثَرُ النَّاسِ. وَمَعْنَى لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ فَيُقِيمُونَ مِنْ الِاسْتِبْعَادِ دَلِيلَ اسْتِحَالَةِ حُصُولِ الْبَعْثِ بَعْدَ الفناء.
والاستدراك ناشىء عَنْ جَعْلِهِ وَعْدًا عَلَى اللَّهِ حَقًّا، إِذْ يَتَوَهَّمُ السَّامِعُ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لَا يَجْهَلُهُ أَحَدٌ فَجَاءَ الِاسْتِدْرَاكُ لِرَفْعِ هَذَا التَّوَهُّمِ، وَلِأَنَّ جُمْلَةَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا تَقْتَضِي إِمْكَانَ وُقُوعِهِ وَالنَّاسُ يستبعدون ذَلِك.
وبَلى حَرْفٌ لِإِبْطَالِ النَّفْيِ فِي الْخَبَرِ وَالِاسْتِفْهَامِ، أَيْ بَلْ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ. وَانْتَصَبَ وَعْداً عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ مُؤَكِّدًا لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَرْفُ الْإِبْطَالِ مِنْ حُصُولِ الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَيُسَمَّى هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ مُؤَكِّدًا لِنَفْسِهِ، أَيْ مُؤَكِّدًا لِمَعْنَى فِعْلٍ هُوَ
عَيْنُ مَعْنَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ.
وعَلَيْهِ صِفَةٌ لِ وَعْداً، أَيْ وَعْدًا كَالْوَاجِبِ عَلَيْهِ فِي أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الْخُلْفَ. فَفِي الْكَلَامِ اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ. شُبِّهَ الْوَعْدُ الَّذِي وَعَدَهُ اللَّهُ بِمَحْضِ إِرَادَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ بِالْحَقِّ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ وَرَمَزَ إِلَيْهِ بِحَرْفِ الِاسْتِعْلَاءِ.
وحَقًّا صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِ وَعْداً. وَالْحَقُّ هُنَا بِمَعْنَى الصِّدْقِ الَّذِي لَا يُتَخَلَّفُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٍ [١١١].
وَالْمُرَادُ بِأَكْثَرِ النَّاسِ الْمُشْرِكُونَ، وَهُمْ يَوْمَئِذٍ أَكْثَرُ النَّاسِ. وَمَعْنَى لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ فَيُقِيمُونَ مِنْ الِاسْتِبْعَادِ دَلِيلَ اسْتِحَالَةِ حُصُولِ الْبَعْثِ بَعْدَ الفناء.
والاستدراك ناشىء عَنْ جَعْلِهِ وَعْدًا عَلَى اللَّهِ حَقًّا، إِذْ يَتَوَهَّمُ السَّامِعُ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لَا يَجْهَلُهُ أَحَدٌ فَجَاءَ الِاسْتِدْرَاكُ لِرَفْعِ هَذَا التَّوَهُّمِ، وَلِأَنَّ جُمْلَةَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا تَقْتَضِي إِمْكَانَ وُقُوعِهِ وَالنَّاسُ يستبعدون ذَلِك.
154
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٣٩]
لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (٣٩)لِيُبَيِّنَ تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا [سُورَة النَّحْل: ٣٨] لِقَصْدِ بَيَانِ حِكْمَةِ جَعْلِهِ وَعْدًا لَازِمًا لَا يَتَخَلَّفُ، لِأَنَّهُ مَنُوطٌ بِحِكْمَةٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى حَكِيمٌ لَا تَجْرِي أَفْعَالُهُ عَلَى خِلَافِ الْحِكْمَةِ التَّامَّةِ، أَيْ جَعَلَ الْبَعْثَ لِيُبَيِّنَ لِلنَّاسِ الشَّيْءَ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فَيَظْهَرُ حَقُّ الْمُحِقِّ وَيَظْهَرُ بَاطِلُ الْمُبْطِلِ فِي الْعَقَائِدِ وَنَحْوِهَا مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَمَا أُلْحِقَ بِهَا.
وَشَمَلَ قَوْلُهُ: يَخْتَلِفُونَ كُلَّ مَعَانِي الْمُحَاسَبَةِ عَلَى الْحُقُوقِ لِأَنَّ تَمْيِيزَ الْحُقُوقِ مِنَ الْمَظَالِمِ كُلَّهُ مَحَلُّ اخْتِلَافِ النَّاسِ وَتَنَازُعِهِمْ.
وَعَطَفَ عَلَى هَذِهِ الْحِكْمَةِ الْعَامَّةِ حِكْمَةً فَرْعِيَّةً خَاصَّةً بِالْمَرْدُودِ عَلَيْهِمْ هُنَا، وَهِيَ حُصُولُ الْعِلْمِ لِلَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ فِيمَا اخْتَرَعُوهُ مِنَ الشِّرْكِ وَتَحْرِيمِ الْأَشْيَاءِ وَإِنْكَارِ الْبَعْثِ.
وَفِي حُصُولِ عِلْمِهِمْ بِذَلِكَ يَوْمَ الْبَعْثِ مَثَارٌ لِلنَّدَامَةِ وَالتَّحَسُّرِ عَلَى مَا فَرَطَ مِنْهُمْ مَنْ
إِنْكَارِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ حِكْمَةِ الْجَزَاءِ فِي يَوْمِ الْبَعْثِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ يُونُسَ.
وكانُوا كاذِبِينَ أَقْوَى فِي الْوَصْفِ بِالْكَذِبِ مِنْ (كَذَّبُوا أَوْ كَاذِبُونَ)، لِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ (كَانَ) مِنَ الْوُجُودِ زِيَادَةً عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ اسْمُ الْفَاعِلِ مِنْ الِاتِّصَافِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وُجِدَ كَذِبُهُمْ وَوُصِفُوا بِهِ. وَكَذِبُهُمْ يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُمْ مُعَذَّبُونَ عُقُوبَةً عَلَى كَذِبِهِمْ. فَفِيهِ شَتْمٌ صَرِيحٌ تَعْرِيض بالعقاب.
[٤٠]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٤٠]
إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٠)
هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُتَّصِلَةٌ بِجُمْلَةِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [سُورَة النَّحْل: ٣٨] لِبَيَانِ أَنَّ جَهْلَهُمْ بِمَدَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ الَّذِي جَرَّأَهُمْ عَلَى إِنْكَارِ الْبَعْثِ وَاسْتِحَالَتِهِ
155
عِنْدَهُمْ، فَهِيَ بَيَانٌ لِلْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ، وَوَقَعَتْ جُمْلَةُ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا [سُورَة النَّحْل: ٣٩] إِلَى آخِرِهَا اعْتِرَاضًا بَيْنَ الْبَيَانِ وَالْمُبَيَّنِ.
وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ تَكْوِينُ شَيْءٍ إِذَا أَرَادَهُ اللَّهُ إِلَّا عَلَى أَنْ تَتَعَلَّقَ قُدْرَتُهُ بِتَكْوِينِهِ.
وَلَيْسَ إِحْيَاءُ الْأَمْوَاتِ إِلَّا مِنْ جُمْلَةِ الْأَشْيَاءِ، وَمَا الْبَعْثُ إِلَّا تَكْوِينٌ، فَمَا بَعْثُ الْأَمْوَاتِ إِلَّا مِنْ جُمْلَةِ تَكْوِينِ الْمَوْجُودَاتِ، فَلَا يَخْرُجُ عَنْ قُدْرَتِهِ.
وَأَفَادَتْ إِنَّما قَصْرًا هُوَ قَصْرُ وُقُوعِ التَّكْوِينِ عَلَى صُدُورِ الْأَمْرِ بِهِ، وَهُوَ قَصْرُ قَلْبٍ لِإِبْطَالِ اعْتِقَادِ الْمُشْرِكِينَ تَعَذُّرَ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا إِذَا سَلِمَتِ الْأَجْسَادُ مِنَ الْفَسَادِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، فَأُرِيدَ بِ قَوْلُنا لِشَيْءٍ تَكْوِينُنَا شَيْئًا، أَيْ تَعَلُّقُ الْقُدْرَةِ بِخَلْقِ شَيْءٍ. وَأُرِيدَ بِقَوْلِهِ: إِذا أَرَدْناهُ إِذَا تَعَلَّقَتْ بِهِ الْإِرَادَةُ الْإِلَهِيَّةُ تَعَلُّقًا تَنْجِيزِيًا، فَإِذَا كَانَ سَبَبُ التَّكْوِينِ لَيْسَ زَائِدًا عَلَى قَوْلِ كُنْ فَقَدْ بَطَلَ تَعَذُّرُ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى. وَلِذَلِكَ كَانَ هَذَا قَصْرَ قَلْبٍ لِإِبْطَالِ اعْتِقَادِ الْمُشْرِكِينَ.
وَالشَّيْءُ: أُطْلِقَ هُنَا عَلَى الْمَعْدُومِ بِاعْتِبَارِ إِرَادَةِ وَجُودِهِ، فَهُوَ مِنْ إِطْلَاقِ اسْم مَا يؤول إِلَيْهِ، أَوِ الْمُرَادُ بِالشَّيْءِ مُطْلَقُ الْحَقِيقَةِ الْمَعْلُومَةِ وَإِنْ كَانَتْ مَعْدُومَةً، وَإِطْلَاقُ الشَّيْءِ عَلَى الْمَعْدُومِ مُسْتَعْمَلٌ.
وأَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ خَبَرٌ عَنْ قَوْلُنا.
وَالْمُرَادُ بِقَوْلِ كُنْ تَوَجُّهُ الْقُدْرَةِ إِلَى إِيجَادِ الْمَقْدُورِ. عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ التَّوَجُّهِ بِالْقَوْلِ بِالْكَلَامِ كَمَا عَبَّرَ عَنْهُ بِالْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
[سُورَة يس: ٨٢] وَشُبِّهَ الشَّيْءُ الْمُمْكِنُ حُصُولُهُ بِشَخْصٍ مَأْمُورٍ، وَشُبِّهَ انْفِعَالُ الْمُمْكِنِ لِأَمْرِ التَّكْوِينِ بِامْتِثَالِ الْمَأْمُورِ لِأَمْرِ الْآمِرِ. وَكُلُّ ذَلِكَ تَقْرِيبٌ لِلنَّاسِ بِمَا يَعْقِلُونَ، وَلَيْسَ هُوَ خِطَابًا لِلْمَعْدُومِ وَلَا أَنَّ لِلْمَعْدُومِ سَمْعًا يَعْقِلُ بِهِ الْكَلَامَ فَيَمْتَثِلُ لِلْآمِرِ.
وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ تَكْوِينُ شَيْءٍ إِذَا أَرَادَهُ اللَّهُ إِلَّا عَلَى أَنْ تَتَعَلَّقَ قُدْرَتُهُ بِتَكْوِينِهِ.
وَلَيْسَ إِحْيَاءُ الْأَمْوَاتِ إِلَّا مِنْ جُمْلَةِ الْأَشْيَاءِ، وَمَا الْبَعْثُ إِلَّا تَكْوِينٌ، فَمَا بَعْثُ الْأَمْوَاتِ إِلَّا مِنْ جُمْلَةِ تَكْوِينِ الْمَوْجُودَاتِ، فَلَا يَخْرُجُ عَنْ قُدْرَتِهِ.
وَأَفَادَتْ إِنَّما قَصْرًا هُوَ قَصْرُ وُقُوعِ التَّكْوِينِ عَلَى صُدُورِ الْأَمْرِ بِهِ، وَهُوَ قَصْرُ قَلْبٍ لِإِبْطَالِ اعْتِقَادِ الْمُشْرِكِينَ تَعَذُّرَ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا إِذَا سَلِمَتِ الْأَجْسَادُ مِنَ الْفَسَادِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، فَأُرِيدَ بِ قَوْلُنا لِشَيْءٍ تَكْوِينُنَا شَيْئًا، أَيْ تَعَلُّقُ الْقُدْرَةِ بِخَلْقِ شَيْءٍ. وَأُرِيدَ بِقَوْلِهِ: إِذا أَرَدْناهُ إِذَا تَعَلَّقَتْ بِهِ الْإِرَادَةُ الْإِلَهِيَّةُ تَعَلُّقًا تَنْجِيزِيًا، فَإِذَا كَانَ سَبَبُ التَّكْوِينِ لَيْسَ زَائِدًا عَلَى قَوْلِ كُنْ فَقَدْ بَطَلَ تَعَذُّرُ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى. وَلِذَلِكَ كَانَ هَذَا قَصْرَ قَلْبٍ لِإِبْطَالِ اعْتِقَادِ الْمُشْرِكِينَ.
وَالشَّيْءُ: أُطْلِقَ هُنَا عَلَى الْمَعْدُومِ بِاعْتِبَارِ إِرَادَةِ وَجُودِهِ، فَهُوَ مِنْ إِطْلَاقِ اسْم مَا يؤول إِلَيْهِ، أَوِ الْمُرَادُ بِالشَّيْءِ مُطْلَقُ الْحَقِيقَةِ الْمَعْلُومَةِ وَإِنْ كَانَتْ مَعْدُومَةً، وَإِطْلَاقُ الشَّيْءِ عَلَى الْمَعْدُومِ مُسْتَعْمَلٌ.
وأَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ خَبَرٌ عَنْ قَوْلُنا.
وَالْمُرَادُ بِقَوْلِ كُنْ تَوَجُّهُ الْقُدْرَةِ إِلَى إِيجَادِ الْمَقْدُورِ. عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ التَّوَجُّهِ بِالْقَوْلِ بِالْكَلَامِ كَمَا عَبَّرَ عَنْهُ بِالْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
[سُورَة يس: ٨٢] وَشُبِّهَ الشَّيْءُ الْمُمْكِنُ حُصُولُهُ بِشَخْصٍ مَأْمُورٍ، وَشُبِّهَ انْفِعَالُ الْمُمْكِنِ لِأَمْرِ التَّكْوِينِ بِامْتِثَالِ الْمَأْمُورِ لِأَمْرِ الْآمِرِ. وَكُلُّ ذَلِكَ تَقْرِيبٌ لِلنَّاسِ بِمَا يَعْقِلُونَ، وَلَيْسَ هُوَ خِطَابًا لِلْمَعْدُومِ وَلَا أَنَّ لِلْمَعْدُومِ سَمْعًا يَعْقِلُ بِهِ الْكَلَامَ فَيَمْتَثِلُ لِلْآمِرِ.
156
وَ (كَانَ) تَامَّةٌ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَيَكُونُ- بِالرَّفْعِ- أَيْ فَهُوَ يَكُونُ، عَطْفًا عَلَى الْخَبَرِ وَهُوَ جُمْلَةُ أَنْ نَقُولَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ- بِالنَّصْبِ- عَطْفًا عَلَى نَقُولَ، أَيْ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ وَأَن يكون.
[٤١، ٤٢]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : الْآيَات ٤١ إِلَى ٤٢]
وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٤٢)
لَمَّا ثَبَتَتْ حِكْمَةُ الْبَعْثِ بِأَنَّهَا تَبْيِينُ الَّذِي اخْتَلَفَ فِيهِ النَّاسُ مِنْ هُدًى وَضَلَالَةٍ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَتَبَيَّنَ أَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ يُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّهُ بِتَبْيِينٍ بِالْبَعْثِ أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا كَانُوا صَادِقِينَ بِدَلَالَةِ الْمُضَادَّةِ وَأَنَّهُمْ مُثَابُونَ وَمُكَرَّمُونَ. فَلَمَّا عُلِمَ ذَلِكَ مِنَ السِّيَاقِ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
وَأُدْمِجَ مَعَ ذَلِكَ وَعْدُهُمْ بِحُسْنِ الْعَاقِبَةِ فِي الدُّنْيَا مُقَابَلَةَ وَعِيدِ الْكَافِرِينَ بِسُوءِ الْعَاقِبَةِ فِيهَا الْوَاقِعِ بِالتَّعْرِيضِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [سُورَة النَّحْل: ٣٦].
فَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ [سُورَة النَّحْل:
٣٩].
وَالْمُهَاجِر: مُتَارَكَةُ الدِّيَارِ لِغَرَضٍ مَا.
وفِي مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّعْلِيلِ، أَيْ لِأَجْلِ اللَّهِ. وَالْكَلَامُ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ يَظْهَرُ مِنَ السِّيَاقِ. تَقْدِيرُهُ: هَاجَرُوا لِأَجْلِ مَرْضَاةِ اللَّهِ.
وَإِسْنَادُ فِعْلِ ظُلِمُوا إِلَى الْمَجْهُولِ لِظُهُورِ الْفَاعِلِ مِنَ السِّيَاقِ وَهُوَ الْمُشْرِكُونَ.
وَالظُّلْمُ يَشْمَلُ أَصْنَافَ الِاعْتِدَاءِ مِنَ الْأَذَى وَالتَّعْذِيبِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَيَكُونُ- بِالرَّفْعِ- أَيْ فَهُوَ يَكُونُ، عَطْفًا عَلَى الْخَبَرِ وَهُوَ جُمْلَةُ أَنْ نَقُولَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ- بِالنَّصْبِ- عَطْفًا عَلَى نَقُولَ، أَيْ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ وَأَن يكون.
[٤١، ٤٢]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : الْآيَات ٤١ إِلَى ٤٢]
وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٤٢)
لَمَّا ثَبَتَتْ حِكْمَةُ الْبَعْثِ بِأَنَّهَا تَبْيِينُ الَّذِي اخْتَلَفَ فِيهِ النَّاسُ مِنْ هُدًى وَضَلَالَةٍ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَتَبَيَّنَ أَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ يُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّهُ بِتَبْيِينٍ بِالْبَعْثِ أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا كَانُوا صَادِقِينَ بِدَلَالَةِ الْمُضَادَّةِ وَأَنَّهُمْ مُثَابُونَ وَمُكَرَّمُونَ. فَلَمَّا عُلِمَ ذَلِكَ مِنَ السِّيَاقِ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
وَأُدْمِجَ مَعَ ذَلِكَ وَعْدُهُمْ بِحُسْنِ الْعَاقِبَةِ فِي الدُّنْيَا مُقَابَلَةَ وَعِيدِ الْكَافِرِينَ بِسُوءِ الْعَاقِبَةِ فِيهَا الْوَاقِعِ بِالتَّعْرِيضِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [سُورَة النَّحْل: ٣٦].
فَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ [سُورَة النَّحْل:
٣٩].
وَالْمُهَاجِر: مُتَارَكَةُ الدِّيَارِ لِغَرَضٍ مَا.
وفِي مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّعْلِيلِ، أَيْ لِأَجْلِ اللَّهِ. وَالْكَلَامُ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ يَظْهَرُ مِنَ السِّيَاقِ. تَقْدِيرُهُ: هَاجَرُوا لِأَجْلِ مَرْضَاةِ اللَّهِ.
وَإِسْنَادُ فِعْلِ ظُلِمُوا إِلَى الْمَجْهُولِ لِظُهُورِ الْفَاعِلِ مِنَ السِّيَاقِ وَهُوَ الْمُشْرِكُونَ.
وَالظُّلْمُ يَشْمَلُ أَصْنَافَ الِاعْتِدَاءِ مِنَ الْأَذَى وَالتَّعْذِيبِ.
157
وَالتَّبْوِئَةُ: الْإِسْكَانُ. وَأُطْلِقَتْ هُنَا عَلَى الْجَزَاءِ بِالْحُسْنَى عَلَى الْمُهَاجَرَةِ بِطَرِيقِ الْمُضَادَّةِ لِلْمُهَاجَرَةِ، لِأَنَّ الْمُهَاجَرَةَ الْخُرُوجُ مِنَ الدِّيَارِ فَيُضَادُّهَا الْإِسْكَانُ.
وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ هاجَرُوا ولَنُبَوِّئَنَّهُمْ مُحَسِّنُ الطِّبَاقِ. وَالْمَعْنَى: لَنُجَازِيَنَّهُمْ جَزَاءً حَسَنًا. فَعَبَّرَ عَنِ الْجَزَاءِ بِالتَّبْوِئَةِ لِأَنَّهُ جَزَاءٌ عَلَى تَرْكِ الْمُبَاءَةِ.
وحَسَنَةً صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ جَارٍ عَلَى «نُبَوِّئَنَّهُمْ»، أَيْ تَبْوِئَةً حَسَنَةً.
وَهَذَا الْجَزَاءُ يَجْبُرُ كُلَّ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الْمُهَاجَرَةُ مِنَ الْأَضْرَارِ الَّتِي لَقِيَهَا الْمُهَاجِرُونَ مِنْ مُفَارقَة دِيَارهمْ وأهليهم وَأَمْوَالِهِمْ، وَمَا لَاقَوْهُ مِنَ الْأَذَى الَّذِي أَلْجَأَهُمْ إِلَى الْمُهَاجَرَةِ مِنْ تَعْذِيبٍ وَاسْتِهْزَاءٍ وَمَذَلَّةٍ وَفِتْنَةٍ، فَالْحَسَنَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى تَعْوِيضِهِمْ دِيَارًا خَيْرًا مِنْ دِيَارِهِمْ، وَوَطَنًا خَيْرًا مِنْ وَطَنِهِمْ، وَهُوَ الْمَدِينَةُ، وَأَمْوَالًا خَيْرًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَهِيَ مَا نَالُوهُ مِنَ الْمَغَانِمِ وَمِنَ الْخَرَاجِ. رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- كَانَ إِذَا أَعْطَى رَجُلًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ عَطَاءً قَالَ لَهُ: «هَذَا مَا وَعَدَكَ رَبُّكَ فِي الدُّنْيَا، وَمَا ذَخَرَ لَكَ فِي الْآخِرَةِ أَكْبَرُ» وَغَلَبَةً لِأَعْدَائِهِمْ فِي الْفُتُوحِ وَأَهَمُّهَا فَتْحُ مَكَّةَ، وَأَمْنًا فِي حَيَاتِهِمْ بِمَا نَالُوهُ مِنَ السُّلْطَانِ، قَالَ تَعَالَى: وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً [سُورَة النُّور: ٥٥]. وَسَبَبُ النُّزُولِ الَّذِينَ هَاجَرُوا إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَا مَحَالَةَ، أَوِ الَّذِينَ هَاجَرُوا إِلَى الْمَدِينَةِ الْهِجْرَةَ الْأُولَى قَبْلَ هِجْرَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَقِيَّةُ أَصْحَابِهِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- مِثْلُ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ وَأَصْحَابِهِ إِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ نَازِلَةً بَعْدَ الْهِجْرَةِ الْأُولَى إِلَى الْمَدِينَةِ. وَكِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ لَا يُنَافِي كَوْنَ السُّورَةُ مَكِّيَّةً. وَلَا يَقْتَضِي تَخْصِيصَ أُولَئِكَ بِهَذَا الْوَعْدِ.
ثُمَّ أَعْقَبَ هَذَا الْوَعْدَ بِالْوَعْدِ الْعَظِيمِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ.
وَمَعْنَى أَكْبَرُ أَنَّهُ أَهَمُّ وَأَنْفَعُ. وَإِضَافَتُهُ إِلَى الْآخِرَةِ عَلَى مَعْنَى (فِي)، أَيِ الْأَمْرُ الَّذِي فِي الْآخِرَةِ.
وَجُمْلَةُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ مُعْتَرِضَةٌ، وَهِيَ اسْتِئْنَاف بياني ناشىء عَنْ جُمْلَةِ الْوَعْدِ كُلِّهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ الْوَعْدَ الْعَظِيمَ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ يُثِيرُ فِي نُفُوسِ
وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ هاجَرُوا ولَنُبَوِّئَنَّهُمْ مُحَسِّنُ الطِّبَاقِ. وَالْمَعْنَى: لَنُجَازِيَنَّهُمْ جَزَاءً حَسَنًا. فَعَبَّرَ عَنِ الْجَزَاءِ بِالتَّبْوِئَةِ لِأَنَّهُ جَزَاءٌ عَلَى تَرْكِ الْمُبَاءَةِ.
وحَسَنَةً صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ جَارٍ عَلَى «نُبَوِّئَنَّهُمْ»، أَيْ تَبْوِئَةً حَسَنَةً.
وَهَذَا الْجَزَاءُ يَجْبُرُ كُلَّ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الْمُهَاجَرَةُ مِنَ الْأَضْرَارِ الَّتِي لَقِيَهَا الْمُهَاجِرُونَ مِنْ مُفَارقَة دِيَارهمْ وأهليهم وَأَمْوَالِهِمْ، وَمَا لَاقَوْهُ مِنَ الْأَذَى الَّذِي أَلْجَأَهُمْ إِلَى الْمُهَاجَرَةِ مِنْ تَعْذِيبٍ وَاسْتِهْزَاءٍ وَمَذَلَّةٍ وَفِتْنَةٍ، فَالْحَسَنَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى تَعْوِيضِهِمْ دِيَارًا خَيْرًا مِنْ دِيَارِهِمْ، وَوَطَنًا خَيْرًا مِنْ وَطَنِهِمْ، وَهُوَ الْمَدِينَةُ، وَأَمْوَالًا خَيْرًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَهِيَ مَا نَالُوهُ مِنَ الْمَغَانِمِ وَمِنَ الْخَرَاجِ. رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- كَانَ إِذَا أَعْطَى رَجُلًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ عَطَاءً قَالَ لَهُ: «هَذَا مَا وَعَدَكَ رَبُّكَ فِي الدُّنْيَا، وَمَا ذَخَرَ لَكَ فِي الْآخِرَةِ أَكْبَرُ» وَغَلَبَةً لِأَعْدَائِهِمْ فِي الْفُتُوحِ وَأَهَمُّهَا فَتْحُ مَكَّةَ، وَأَمْنًا فِي حَيَاتِهِمْ بِمَا نَالُوهُ مِنَ السُّلْطَانِ، قَالَ تَعَالَى: وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً [سُورَة النُّور: ٥٥]. وَسَبَبُ النُّزُولِ الَّذِينَ هَاجَرُوا إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَا مَحَالَةَ، أَوِ الَّذِينَ هَاجَرُوا إِلَى الْمَدِينَةِ الْهِجْرَةَ الْأُولَى قَبْلَ هِجْرَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَقِيَّةُ أَصْحَابِهِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- مِثْلُ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ وَأَصْحَابِهِ إِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ نَازِلَةً بَعْدَ الْهِجْرَةِ الْأُولَى إِلَى الْمَدِينَةِ. وَكِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ لَا يُنَافِي كَوْنَ السُّورَةُ مَكِّيَّةً. وَلَا يَقْتَضِي تَخْصِيصَ أُولَئِكَ بِهَذَا الْوَعْدِ.
ثُمَّ أَعْقَبَ هَذَا الْوَعْدَ بِالْوَعْدِ الْعَظِيمِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ.
وَمَعْنَى أَكْبَرُ أَنَّهُ أَهَمُّ وَأَنْفَعُ. وَإِضَافَتُهُ إِلَى الْآخِرَةِ عَلَى مَعْنَى (فِي)، أَيِ الْأَمْرُ الَّذِي فِي الْآخِرَةِ.
وَجُمْلَةُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ مُعْتَرِضَةٌ، وَهِيَ اسْتِئْنَاف بياني ناشىء عَنْ جُمْلَةِ الْوَعْدِ كُلِّهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ الْوَعْدَ الْعَظِيمَ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ يُثِيرُ فِي نُفُوسِ
158
السَّامِعِينَ أَنْ يَسْأَلُوا كَيْفَ لَمْ يَقْتَدِ بِهِمْ مَنْ بَقُوا عَلَى الْكُفْرِ فَتَقَعُ جُمْلَةُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ بَيَانًا لِمَا اسْتُبْهِمَ عَلَى السَّائِلِ. وَالتَّقْدِيرُ: لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ لَاقْتَدَوْا بِهِمْ وَلَكِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ. فَضَمِيرُ يَعْلَمُونَ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا [سُورَة النَّحْل: ٣٩].
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ الْمُثَارُ هُوَ: كَيْفَ يَحْزَنُ الْمُهَاجِرُونَ عَلَى مَا تَرَكُوهُ مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ، فَيَكُونُ: الْمَعْنَى لَوْ كَانَ الْمُهَاجِرُونَ يَعْلَمُونَ مَا أُعِدَّ لَهُمْ عِلْمَ مُشَاهَدَةٍ لَمَا حَزِنُوا عَلَى مُفَارَقَةِ دِيَارِهِمْ وَلَكَانَتْ هِجْرَتُهُمْ عَنْ شَوْقٍ إِلَى مَا يُلَاقُونَهُ بَعْدَ هِجْرَتِهِمْ، لِأَنَّ تَأْثِيرَ الْعِلْمِ الْحِسِّيِّ عَلَى الْمِزَاجِ الْإِنْسَانِيِّ أَقْوَى مِنَ الْعلم الْعقلِيّ لعدم
احْتِيَاج الْعلم الحسّي إِلَى اسْتِعْمَال نظر واستدلال، وَلعدم اشْتِمَال الْعِلْمِ الْعَقْلِيِّ عَلَى تَفَاصِيلِ الْكَيْفِيَّاتِ الَّتِي تُحِبُّهَا النُّفُوسُ وَتَرْتَمِي إِلَيْهَا الشَّهَوَاتُ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْله تَعَالَى:
قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [سُورَة الْبَقَرَة: ٢٦٠]. فَلَيْسَ المُرَاد بقوله تَعَالَى: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ لَوْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ وَيُؤْمِنُونَ، لَأَنَّ ذَلِكَ حَاصِلٌ لَا يُنَاسِبُ مَوْقِعَ لَوْ الِامْتِنَاعِيَّةِ.
فَضَمِيرُ يَعْلَمُونَ عَلَى هَذَا «لِلَّذِينَ هَاجَرُوا». وَفِي هَذَا الْوَجْهِ تَتَنَاسَقُ الضَّمَائِرُ.
والَّذِينَ صَبَرُوا صِفَةٌ «لِلَّذِينَ هَاجَرُوا». وَالصَّبْرُ: تَحَمُّلُ الْمَشَاقِّ. وَالتَّوَكُّلُ:
الِاعْتِمَادُ.
وَتَقَدَّمَ الصَّبْرُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ أَوَائِل سُورَة الْبَقَرَةِ [٤٥]. وَالتَّوَكُّلُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فِي سُورَة آلِ عِمْرَانَ [١٥٩].
وَالتَّعْبِيرُ فِي جَانِبِ الصَّبْرِ بِالْمُضِيِّ وَفِي جَانِبِ التَّوَكُّلِ بِالْمُضَارِعِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ صَبْرَهُمْ قَدْ آذَنَ بِالِانْقِضَاءِ لِانْقِضَاءِ أَسْبَابِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ لَهُمْ فَرَجًا بِالْهِجْرَةِ الْوَاقِعَةِ وَالْهِجْرَةِ الْمُتَرَقَّبَةِ. فَهَذَا بِشَارَةٌ لَهُمْ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ الْمُثَارُ هُوَ: كَيْفَ يَحْزَنُ الْمُهَاجِرُونَ عَلَى مَا تَرَكُوهُ مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ، فَيَكُونُ: الْمَعْنَى لَوْ كَانَ الْمُهَاجِرُونَ يَعْلَمُونَ مَا أُعِدَّ لَهُمْ عِلْمَ مُشَاهَدَةٍ لَمَا حَزِنُوا عَلَى مُفَارَقَةِ دِيَارِهِمْ وَلَكَانَتْ هِجْرَتُهُمْ عَنْ شَوْقٍ إِلَى مَا يُلَاقُونَهُ بَعْدَ هِجْرَتِهِمْ، لِأَنَّ تَأْثِيرَ الْعِلْمِ الْحِسِّيِّ عَلَى الْمِزَاجِ الْإِنْسَانِيِّ أَقْوَى مِنَ الْعلم الْعقلِيّ لعدم
احْتِيَاج الْعلم الحسّي إِلَى اسْتِعْمَال نظر واستدلال، وَلعدم اشْتِمَال الْعِلْمِ الْعَقْلِيِّ عَلَى تَفَاصِيلِ الْكَيْفِيَّاتِ الَّتِي تُحِبُّهَا النُّفُوسُ وَتَرْتَمِي إِلَيْهَا الشَّهَوَاتُ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْله تَعَالَى:
قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [سُورَة الْبَقَرَة: ٢٦٠]. فَلَيْسَ المُرَاد بقوله تَعَالَى: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ لَوْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ وَيُؤْمِنُونَ، لَأَنَّ ذَلِكَ حَاصِلٌ لَا يُنَاسِبُ مَوْقِعَ لَوْ الِامْتِنَاعِيَّةِ.
فَضَمِيرُ يَعْلَمُونَ عَلَى هَذَا «لِلَّذِينَ هَاجَرُوا». وَفِي هَذَا الْوَجْهِ تَتَنَاسَقُ الضَّمَائِرُ.
والَّذِينَ صَبَرُوا صِفَةٌ «لِلَّذِينَ هَاجَرُوا». وَالصَّبْرُ: تَحَمُّلُ الْمَشَاقِّ. وَالتَّوَكُّلُ:
الِاعْتِمَادُ.
وَتَقَدَّمَ الصَّبْرُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ أَوَائِل سُورَة الْبَقَرَةِ [٤٥]. وَالتَّوَكُّلُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فِي سُورَة آلِ عِمْرَانَ [١٥٩].
وَالتَّعْبِيرُ فِي جَانِبِ الصَّبْرِ بِالْمُضِيِّ وَفِي جَانِبِ التَّوَكُّلِ بِالْمُضَارِعِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ صَبْرَهُمْ قَدْ آذَنَ بِالِانْقِضَاءِ لِانْقِضَاءِ أَسْبَابِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ لَهُمْ فَرَجًا بِالْهِجْرَةِ الْوَاقِعَةِ وَالْهِجْرَةِ الْمُتَرَقَّبَةِ. فَهَذَا بِشَارَةٌ لَهُمْ.
159
وَأَنَّ التَّوَكُّلَ دَيْدَنُهُمْ لِأَنَّهُمْ يَسْتَقْبِلُونَ أَعْمَالًا جَلِيلَةً تَتِمُّ لَهُمْ بِالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ فِي أُمُورِهِمْ فَهُمْ يُكَرِّرُونَهُ. وَفِي هَذَا بِشَارَةٌ بِضَمَانِ النَّجَاحِ.
وَفِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ [سُورَة الزمر: ١٠].
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ لِلْقَصْرِ، أَيْ لَا يَتَوَكَّلُونَ إِلَّا عَلَى رَبِّهِمْ دُونَ التَّوَكُّلِ عَلَى سَادَةِ الْمُشْرِكِينَ وَوَلَائِهِمْ.
[٤٣، ٤٤]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : الْآيَات ٤٣ الى ٤٤]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٤٣) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٤٤)
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ٤٣ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ.
كَانَتِ الْآيَاتُ السَّابِقَةُ جَارِيَةً عَلَى حِكَايَةِ تَكْذِيبِ الْمُشْرِكِينَ نُبُوءَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْكَارِهِمْ أَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَأَنَّ الْقُرْآنَ وَحْيُ اللَّهِ إِلَيْهِ، ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [سُورَة النَّحْل: ٢٤]، وَرَدِّ مَزَاعِمِهِمُ الْبَاطِلَةِ بِالْأَدِلَّةِ الْقَارِعَةِ لَهُمْ مُتَخَلِّلًا بِمَا أُدْمِجَ فِي أَثْنَائِهِ مِنْ مَعَانٍ أُخْرَى تَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ، فَعَادَ هُنَا إِلَى إِبْطَالِ شُبْهَتِهِمْ فِي إِنْكَارِ نُبُوءَتِهِ مِنْ أَنَّهُ بَشَرٌ لَا يَلِيقُ بِأَنْ يَكُونَ سَفِيرًا بَيْنَ اللَّهِ وَالنَّاسِ، إِبْطَالًا بِقِيَاسِ التَّمْثِيلِ بِالرُّسُلِ الْأَسْبَقِينَ الَّذِينَ لَا تُنْكِرُ قُرَيْشٌ رِسَالَتَهُمْ مِثْلُ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ-.
وَهَذَا يَنْظُرُ إِلَى قَوْلِهِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ [سُورَة النَّحْل: ١].
وَقَدْ غُيِّرَ أُسْلُوبُ نَظْمِ الْكَلَامِ هُنَا بِتَوْجِيهِ الْخِطَابِ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَنْ كَانَ جَارِيًا عَلَى أُسْلُوبِ الْغَيْبَةِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ [سُورَة النَّحْل: ٢٢]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا [سُورَة النَّحْل: ٣٥] الْآيَةَ، تأنيسا للنبيء- عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام- لِأَنَّ فِيمَا مَضَى مِنَ
وَفِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ [سُورَة الزمر: ١٠].
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ لِلْقَصْرِ، أَيْ لَا يَتَوَكَّلُونَ إِلَّا عَلَى رَبِّهِمْ دُونَ التَّوَكُّلِ عَلَى سَادَةِ الْمُشْرِكِينَ وَوَلَائِهِمْ.
[٤٣، ٤٤]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : الْآيَات ٤٣ الى ٤٤]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٤٣) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٤٤)
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ٤٣ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ.
كَانَتِ الْآيَاتُ السَّابِقَةُ جَارِيَةً عَلَى حِكَايَةِ تَكْذِيبِ الْمُشْرِكِينَ نُبُوءَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْكَارِهِمْ أَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَأَنَّ الْقُرْآنَ وَحْيُ اللَّهِ إِلَيْهِ، ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [سُورَة النَّحْل: ٢٤]، وَرَدِّ مَزَاعِمِهِمُ الْبَاطِلَةِ بِالْأَدِلَّةِ الْقَارِعَةِ لَهُمْ مُتَخَلِّلًا بِمَا أُدْمِجَ فِي أَثْنَائِهِ مِنْ مَعَانٍ أُخْرَى تَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ، فَعَادَ هُنَا إِلَى إِبْطَالِ شُبْهَتِهِمْ فِي إِنْكَارِ نُبُوءَتِهِ مِنْ أَنَّهُ بَشَرٌ لَا يَلِيقُ بِأَنْ يَكُونَ سَفِيرًا بَيْنَ اللَّهِ وَالنَّاسِ، إِبْطَالًا بِقِيَاسِ التَّمْثِيلِ بِالرُّسُلِ الْأَسْبَقِينَ الَّذِينَ لَا تُنْكِرُ قُرَيْشٌ رِسَالَتَهُمْ مِثْلُ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ-.
وَهَذَا يَنْظُرُ إِلَى قَوْلِهِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ [سُورَة النَّحْل: ١].
وَقَدْ غُيِّرَ أُسْلُوبُ نَظْمِ الْكَلَامِ هُنَا بِتَوْجِيهِ الْخِطَابِ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَنْ كَانَ جَارِيًا عَلَى أُسْلُوبِ الْغَيْبَةِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ [سُورَة النَّحْل: ٢٢]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا [سُورَة النَّحْل: ٣٥] الْآيَةَ، تأنيسا للنبيء- عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام- لِأَنَّ فِيمَا مَضَى مِنَ
160
الْكَلَامِ آنِفًا حِكَايَةُ تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ تَصْرِيحًا وَتَعْرِيضًا، فَأَقْبَلَ اللَّهُ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخِطَابِ لِمَا فِي هَذَا الْكَلَامِ مِنْ تَنْوِيهِ مَنْزِلَتِهِ بِأَنَّهُ فِي مَنْزِلَةِ الرُّسُلِ الْأَوَّلِينَ- عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-.
وَفِي هَذَا الْخِطَابِ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ، وَلِذَلِكَ الْتَفَتَ إِلَى خِطَابِهِمْ بقوله تَعَالَى:
فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ.
وَصِيغَةُ الْقَصْرِ لِقَلْبِ اعْتِقَادِ الْمُشْرِكِينَ وَقَوْلِهِمْ: أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا [سُورَة الْإِسْرَاء: ٩٤]، فَقُصِرَ الْإِرْسَالُ عَلَى التَّعَلُّقِ بِرِجَالٍ مَوْصُوفِينَ بِأَنَّهُمْ يُوحَى إِلَيْهِمْ.
ثُمَّ أَشْهَدَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِشَوَاهِدِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ وَأَقْبَلَ عَلَيْهِمْ بِالْخِطَابِ تَوْبِيخًا لَهُمْ لِأَنَّ التَّوْبِيخَ يُنَاسِبُهُ الْخِطَابُ لِكَوْنِهِ أَوْقَعَ فِي نَفْسِ الْمُوَبَّخِ، فَاحْتَجَّ عَلَيْهِم بقوله: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ إِلَخْ. فَهَذَا احْتِجَاجٌ بِأَهْلِ الْأَدْيَانِ السَّابِقِينَ أَهْلِ الْكُتُبِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئَةِ.
والذِّكْرِ: كِتَابُ الشَّرِيعَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ فِي أول سُورَة الْحِجْرِ [٦].
وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُمْ قَصَدُوا الْمُكَابَرَةَ وَالتَّمْوِيهَ لِتَضْلِيلِ الدَّهْمَاءِ، فَلِذَلِكَ جِيءَ فِي الشَّرْطِ بِحَرْفِ إِنْ الَّتِي تَرِدُ فِي
الشَّرْطِ الْمَظْنُونِ عَدَمَ وجوده.
وَجُمْلَة فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَما أَرْسَلْنا وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ.
وَالْجُمْلَةُ الْمُعْتَرِضَةُ تَقْتَرِنُ بِالْفَاءِ إِذَا كَانَ مَعْنَى الْجُمْلَةِ مُفَرَّعًا عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَقَدْ جَعَلَهَا فِي «الْكَشَّافِ» مُعْتَرِضَةً عَلَى اعْتِبَارِ وُجُوهٍ ذَكَرَهَا فِي مُتَعَلِّقِ قَوْلِهِ تَعَالَى: بِالْبَيِّناتِ.
وَنُقِلَ عَنْهُ فِي سُورَةِ الْإِنْسَانِ [٢٩] عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا أَنَّهُ لَا تَقْتَرِنُ الْجُمْلَةُ الْمُعْتَرِضَةُ بِالْفَاءِ. وَتَرَدَّدَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِي صِحَّةِ ذَلِكَ عَنْهُ لِمُخَالَفَتِهِ كَلَامَهُ فِي آيَةِ سُورَةِ النَّحْلِ.
وَفِي هَذَا الْخِطَابِ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ، وَلِذَلِكَ الْتَفَتَ إِلَى خِطَابِهِمْ بقوله تَعَالَى:
فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ.
وَصِيغَةُ الْقَصْرِ لِقَلْبِ اعْتِقَادِ الْمُشْرِكِينَ وَقَوْلِهِمْ: أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا [سُورَة الْإِسْرَاء: ٩٤]، فَقُصِرَ الْإِرْسَالُ عَلَى التَّعَلُّقِ بِرِجَالٍ مَوْصُوفِينَ بِأَنَّهُمْ يُوحَى إِلَيْهِمْ.
ثُمَّ أَشْهَدَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِشَوَاهِدِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ وَأَقْبَلَ عَلَيْهِمْ بِالْخِطَابِ تَوْبِيخًا لَهُمْ لِأَنَّ التَّوْبِيخَ يُنَاسِبُهُ الْخِطَابُ لِكَوْنِهِ أَوْقَعَ فِي نَفْسِ الْمُوَبَّخِ، فَاحْتَجَّ عَلَيْهِم بقوله: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ إِلَخْ. فَهَذَا احْتِجَاجٌ بِأَهْلِ الْأَدْيَانِ السَّابِقِينَ أَهْلِ الْكُتُبِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئَةِ.
والذِّكْرِ: كِتَابُ الشَّرِيعَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ فِي أول سُورَة الْحِجْرِ [٦].
وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُمْ قَصَدُوا الْمُكَابَرَةَ وَالتَّمْوِيهَ لِتَضْلِيلِ الدَّهْمَاءِ، فَلِذَلِكَ جِيءَ فِي الشَّرْطِ بِحَرْفِ إِنْ الَّتِي تَرِدُ فِي
الشَّرْطِ الْمَظْنُونِ عَدَمَ وجوده.
وَجُمْلَة فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَما أَرْسَلْنا وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ.
وَالْجُمْلَةُ الْمُعْتَرِضَةُ تَقْتَرِنُ بِالْفَاءِ إِذَا كَانَ مَعْنَى الْجُمْلَةِ مُفَرَّعًا عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَقَدْ جَعَلَهَا فِي «الْكَشَّافِ» مُعْتَرِضَةً عَلَى اعْتِبَارِ وُجُوهٍ ذَكَرَهَا فِي مُتَعَلِّقِ قَوْلِهِ تَعَالَى: بِالْبَيِّناتِ.
وَنُقِلَ عَنْهُ فِي سُورَةِ الْإِنْسَانِ [٢٩] عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا أَنَّهُ لَا تَقْتَرِنُ الْجُمْلَةُ الْمُعْتَرِضَةُ بِالْفَاءِ. وَتَرَدَّدَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِي صِحَّةِ ذَلِكَ عَنْهُ لِمُخَالَفَتِهِ كَلَامَهُ فِي آيَةِ سُورَةِ النَّحْلِ.
161
وَقَوْلُهُ بِالْبَيِّناتِ مُتَعَلِّقٌ بِمُسْتَقَرِّ صِفَةٍ أَوْ حَالًا مِنْ رِجالًا. وَفِي تَعَلُّقِهِ وُجُوهٌ أُخَرُ ذَكَرَهَا فِي «الْكَشَّافِ»، وَالْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ، أَيْ مَصْحُوبِينَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ، فَالْبَيِّنَاتُ دَلَائِلُ الصِّدْقِ مِنْ مُعْجِزَاتٍ أَوْ أَدِلَّةٍ عَقْلِيَّةٍ. وَقَدِ اجْتَمَعَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ وَافْتَرَقَ بَيْنَ الرُّسُلِ الْأَوَّلِينَ كَمَا تَفَرَّقَ مِنْهُ كَثِيرٌ لِرَسُولِنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والزُّبُرِ: جَمْعُ زَبُورٍ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الزَّبْرِ أَيِ الْكِتَابَةِ، فَفَعُولُ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ.
والزُّبُرِ الْكُتُبُ الَّتِي كُتِبَ فِيهَا مَا أُوحِيَ إِلَى الرُّسُلِ مِثْلُ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَالتَّوْرَاةِ وَمَا كَتَبَهُ الْحَوَارِيُّونَ مِنَ الْوَحْيِ إِلَى عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَإِنْ لَمْ يَكْتُبْهُ عِيسَى.
وَلَعَلَّ عطف الزُّبُرِ عَلَى بِالْبَيِّناتِ عَطْفُ تَقْسِيمٍ بِقَصْدِ التَّوْزِيعِ، أَيْ بَعْضُهُمْ مَصْحُوبٌ بِالْبَيِّنَاتِ وَبَعْضُهُمْ بِالْأَمْرَيْنِ لِأَنَّهُ قد تَجِيء رُسُلٌ بِدُونِ كُتُبٍ، مِثْلُ حَنْظَلَةَ بْنِ صَفْوَانَ رَسُولِ أَهْلِ الرَّسِّ وَخَالِدِ بْنِ سِنَانٍ رَسُولِ عَبْسٍ. وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ لِنُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- كِتَابًا.
وَقَدْ تُجْعَلُ الزُّبُرِ خَاصَّةً بِالْكُتُبِ الْوَجِيزَةِ الَّتِي لَيْسَتْ فِيهَا شَرِيعَةٌ وَاسِعَةٌ مِثْلُ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَزَبُورِ دَاوُدَ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- وَالْإِنْجِيلُ كَمَا فَسَّرُوهَا بِهِ فِي سُورَةِ فَاطِرٍ.
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ لَمَّا اتَّضَحَتِ الْحُجَّةُ بِشَوَاهِدِ التَّارِيخِ الَّذِي لَا يُنْكَرُ ذُكِرَتِ النَّتِيجَةُ الْمَقْصُودَةُ، وَهُوَ أَنَّ مَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا هُوَ ذِكْرٌ وَلَيْسَ أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ.
والزُّبُرِ: جَمْعُ زَبُورٍ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الزَّبْرِ أَيِ الْكِتَابَةِ، فَفَعُولُ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ.
والزُّبُرِ الْكُتُبُ الَّتِي كُتِبَ فِيهَا مَا أُوحِيَ إِلَى الرُّسُلِ مِثْلُ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَالتَّوْرَاةِ وَمَا كَتَبَهُ الْحَوَارِيُّونَ مِنَ الْوَحْيِ إِلَى عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَإِنْ لَمْ يَكْتُبْهُ عِيسَى.
وَلَعَلَّ عطف الزُّبُرِ عَلَى بِالْبَيِّناتِ عَطْفُ تَقْسِيمٍ بِقَصْدِ التَّوْزِيعِ، أَيْ بَعْضُهُمْ مَصْحُوبٌ بِالْبَيِّنَاتِ وَبَعْضُهُمْ بِالْأَمْرَيْنِ لِأَنَّهُ قد تَجِيء رُسُلٌ بِدُونِ كُتُبٍ، مِثْلُ حَنْظَلَةَ بْنِ صَفْوَانَ رَسُولِ أَهْلِ الرَّسِّ وَخَالِدِ بْنِ سِنَانٍ رَسُولِ عَبْسٍ. وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ لِنُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- كِتَابًا.
وَقَدْ تُجْعَلُ الزُّبُرِ خَاصَّةً بِالْكُتُبِ الْوَجِيزَةِ الَّتِي لَيْسَتْ فِيهَا شَرِيعَةٌ وَاسِعَةٌ مِثْلُ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَزَبُورِ دَاوُدَ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- وَالْإِنْجِيلُ كَمَا فَسَّرُوهَا بِهِ فِي سُورَةِ فَاطِرٍ.
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ لَمَّا اتَّضَحَتِ الْحُجَّةُ بِشَوَاهِدِ التَّارِيخِ الَّذِي لَا يُنْكَرُ ذُكِرَتِ النَّتِيجَةُ الْمَقْصُودَةُ، وَهُوَ أَنَّ مَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا هُوَ ذِكْرٌ وَلَيْسَ أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ.
162
وَالذِّكْرُ الْكَلَامُ الَّذِي شَأْنُهُ أَنْ يُذْكَرَ، أَيْ يُتْلَى وَيُكَرَّرَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَقالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [٦]. أَيْ مَا كُنْتَ بِدَعًا مِنَ الرُّسُلِ فَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ. وَالذِّكْرُ: مَا أُنْزِلَ ليقرأه النَّاس ويتلونه تَكْرَارًا لِيَتَذَكَّرُوا مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ. وَتَقْدِيمُ الْمُتَعَلِّقِ الْمَجْرُورِ عَلَى الْمَفْعُولِ لِلِاهْتِمَامِ بِضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ.
وَفِي الِاقْتِصَارِ عَلَى إِنْزَالِ الذِّكْرِ عَقِبَ قَوْلِهِ: بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْكِتَابَ الْمُنَزَّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ بَيِّنَةٌ وَزَبُورٌ مَعًا، أَيْ هُوَ مُعْجِزَةٌ وَكِتَابُ شَرْعٍ. وَذَلِكَ مِنْ مَزَايَا الْقُرْآنِ الَّتِي لَمْ يُشَارِكْهُ فِيهَا كِتَابٌ آخَرُ، وَلَا مُعْجِزَةٌ أُخْرَى، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ سُورَة العنكبوت [٥٠، ٥١].
وَفِي الْحَدِيثِ: أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيءٌ إِلَّا أُوتِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
. وَالتَّبْيِينُ: إِيضَاحُ الْمَعْنَى.
وَالتَّعْرِيفُ فِي «النَّاسِ» لِلْعُمُومِ.
وَالْإِظْهَارُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ يَقْتَضِي أَن مَا صدق الْمَوْصُولَ غَيْرُ الذِّكْرِ الْمُتَقَدِّمِ، إِذْ لَوْ كَانَ إِيَّاهُ لَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ لِتُبَيِّنَهُ: لِلنَّاسِ. وَلِذَا فَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِمَا نَزَّلَ إِلَيْهِمُ الشَّرَائِعَ الَّتِي أَرْسَلَ اللَّهُ بِهَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ الْقُرْآنَ جَامِعًا لَهَا وَمُبَيِّنًا لَهَا بِبَلِيغِ نَظْمِهِ وَوَفْرَةِ مَعَانِيهِ، فَيَكُونُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ [سُورَة النَّحْل: ٨٩].
وَإِسْنَادُ التَّبْيِينِ إِلَى النَّبِيءِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ الْمُبَلِّغُ لِلنَّاسِ هَذَا الْبَيَان. واللّام عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِذِكْرِ الْعِلَّةِ الْأَصْلِيَّةِ فِي إِنْزَالِ الْقُرْآنِ.
وَقالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [٦]. أَيْ مَا كُنْتَ بِدَعًا مِنَ الرُّسُلِ فَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ. وَالذِّكْرُ: مَا أُنْزِلَ ليقرأه النَّاس ويتلونه تَكْرَارًا لِيَتَذَكَّرُوا مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ. وَتَقْدِيمُ الْمُتَعَلِّقِ الْمَجْرُورِ عَلَى الْمَفْعُولِ لِلِاهْتِمَامِ بِضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ.
وَفِي الِاقْتِصَارِ عَلَى إِنْزَالِ الذِّكْرِ عَقِبَ قَوْلِهِ: بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْكِتَابَ الْمُنَزَّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ بَيِّنَةٌ وَزَبُورٌ مَعًا، أَيْ هُوَ مُعْجِزَةٌ وَكِتَابُ شَرْعٍ. وَذَلِكَ مِنْ مَزَايَا الْقُرْآنِ الَّتِي لَمْ يُشَارِكْهُ فِيهَا كِتَابٌ آخَرُ، وَلَا مُعْجِزَةٌ أُخْرَى، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ سُورَة العنكبوت [٥٠، ٥١].
وَفِي الْحَدِيثِ: أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيءٌ إِلَّا أُوتِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
. وَالتَّبْيِينُ: إِيضَاحُ الْمَعْنَى.
وَالتَّعْرِيفُ فِي «النَّاسِ» لِلْعُمُومِ.
وَالْإِظْهَارُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ يَقْتَضِي أَن مَا صدق الْمَوْصُولَ غَيْرُ الذِّكْرِ الْمُتَقَدِّمِ، إِذْ لَوْ كَانَ إِيَّاهُ لَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ لِتُبَيِّنَهُ: لِلنَّاسِ. وَلِذَا فَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِمَا نَزَّلَ إِلَيْهِمُ الشَّرَائِعَ الَّتِي أَرْسَلَ اللَّهُ بِهَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ الْقُرْآنَ جَامِعًا لَهَا وَمُبَيِّنًا لَهَا بِبَلِيغِ نَظْمِهِ وَوَفْرَةِ مَعَانِيهِ، فَيَكُونُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ [سُورَة النَّحْل: ٨٩].
وَإِسْنَادُ التَّبْيِينِ إِلَى النَّبِيءِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ الْمُبَلِّغُ لِلنَّاسِ هَذَا الْبَيَان. واللّام عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِذِكْرِ الْعِلَّةِ الْأَصْلِيَّةِ فِي إِنْزَالِ الْقُرْآنِ.
163
وَفُسِّرَ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ بِأَنَّهُ عَيْنُ الذِّكْرِ الْمُنَزَّلِ، أَيْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَهُ للنَّاس، فَيكون إِظْهَارًا فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِإِفَادَةِ أَنَّ إِنْزَالَ الذِّكْرِ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ إِنْزَالُهُ إِلَى النَّاسِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ [سُورَة الْأَنْبِيَاء: ١٠].
وَإِنَّمَا أُتِيَ بِلَفْظِهِ مَرَّتَيْنِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى التَّفَاوُتِ بَيْنَ الْإِنْزَالَيْنِ: فَإِنْزَالُهُ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَاشَرَةً، وَإِنْزَالُهُ إِلَى إِبْلَاغِهِ إِلَيْهِمْ.
فَالْمُرَادُ بِالتَّبْيِينِ عَلَى هَذَا تَبْيِينُ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْمَعَانِي، وَتَكُونُ اللَّامُ لِتَعْلِيلِ بعض
الحكم الحاقّة بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهَا كَثِيرَةٌ، فَمِنْهَا أَنْ يُبَيِّنَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَحْصُلُ فَوَائِدُ الْعِلْمِ وَالْبَيَانِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ [سُورَة آل عمرَان: ١٨٧].
وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ لِمَسَائِلِ تَخْصِيصِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ، وَبَيَانُ مُجْمَلِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ، وَتَرْجِيحُ دَلِيلِ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَلَى دَلِيلِ الْكِتَابِ عِنْدَ التَّعَارُضِ الْمَفْرُوضَاتِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ إِذْ كُلٌّ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ هُوَ من تَبْيِينُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ هُوَ وَاسِطَتُهُ.
عطف لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ حِكْمَةٌ أُخْرَى مِنْ حِكَمِ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ، وَهِيَ تَهْيِئَةُ تَفَكُّرِ النَّاسِ فِيهِ وَتَأَمُّلِهِمْ فِيمَا يُقَرِّبُهُمْ إِلَى رِضَى اللَّهِ تَعَالَى. فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فِي تَفْسِيرِ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ يَكُونُ الْمُرَادُ أَنْ يَتَفَكَّرُوا بِأَنْفُسِهِمْ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ وَفَهْمِ فَوَائِدِهِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي أَنْ يَتَفَكَّرُوا فِي بَيَانِكَ ويعوه بأفهامهم.
[٤٥]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٤٥]
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (٤٥)
بَعْدَ أَنْ ذُكِرَتْ مَسَاوِيهِمْ وَمَكَائِدُهُمْ وَبَعْدَ تَهْدِيدِهِمْ بِعَذَابِ يَوْمِ الْبَعْثِ تَصْرِيحًا وَبِعَذَابِ الدُّنْيَا تَعْرِيضًا، فَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ تَهْدِيدَهُمُ الصَّرِيحَ بِعَذَابِ الدُّنْيَا بِطَرِيقِ اسْتِفْهَامِ التَّعْجِيبِ مِنَ اسْتِرْسَالِهِمْ فِي الْمُعَانَدَةِ غَيْرُ مُقَدِّرِينَ أَنْ
وَإِنَّمَا أُتِيَ بِلَفْظِهِ مَرَّتَيْنِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى التَّفَاوُتِ بَيْنَ الْإِنْزَالَيْنِ: فَإِنْزَالُهُ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَاشَرَةً، وَإِنْزَالُهُ إِلَى إِبْلَاغِهِ إِلَيْهِمْ.
فَالْمُرَادُ بِالتَّبْيِينِ عَلَى هَذَا تَبْيِينُ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْمَعَانِي، وَتَكُونُ اللَّامُ لِتَعْلِيلِ بعض
الحكم الحاقّة بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهَا كَثِيرَةٌ، فَمِنْهَا أَنْ يُبَيِّنَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَحْصُلُ فَوَائِدُ الْعِلْمِ وَالْبَيَانِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ [سُورَة آل عمرَان: ١٨٧].
وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ لِمَسَائِلِ تَخْصِيصِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ، وَبَيَانُ مُجْمَلِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ، وَتَرْجِيحُ دَلِيلِ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَلَى دَلِيلِ الْكِتَابِ عِنْدَ التَّعَارُضِ الْمَفْرُوضَاتِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ إِذْ كُلٌّ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ هُوَ من تَبْيِينُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ هُوَ وَاسِطَتُهُ.
عطف لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ حِكْمَةٌ أُخْرَى مِنْ حِكَمِ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ، وَهِيَ تَهْيِئَةُ تَفَكُّرِ النَّاسِ فِيهِ وَتَأَمُّلِهِمْ فِيمَا يُقَرِّبُهُمْ إِلَى رِضَى اللَّهِ تَعَالَى. فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فِي تَفْسِيرِ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ يَكُونُ الْمُرَادُ أَنْ يَتَفَكَّرُوا بِأَنْفُسِهِمْ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ وَفَهْمِ فَوَائِدِهِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي أَنْ يَتَفَكَّرُوا فِي بَيَانِكَ ويعوه بأفهامهم.
[٤٥]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٤٥]
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (٤٥)
بَعْدَ أَنْ ذُكِرَتْ مَسَاوِيهِمْ وَمَكَائِدُهُمْ وَبَعْدَ تَهْدِيدِهِمْ بِعَذَابِ يَوْمِ الْبَعْثِ تَصْرِيحًا وَبِعَذَابِ الدُّنْيَا تَعْرِيضًا، فَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ تَهْدِيدَهُمُ الصَّرِيحَ بِعَذَابِ الدُّنْيَا بِطَرِيقِ اسْتِفْهَامِ التَّعْجِيبِ مِنَ اسْتِرْسَالِهِمْ فِي الْمُعَانَدَةِ غَيْرُ مُقَدِّرِينَ أَنْ
164
يَقَعَ مَا يُهَدِّدُهُمْ بِهِ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يُقْلِعُونَ عَنْ تَدْبِيرِ الْمَكْرِ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَتْ حَالُهُمْ فِي اسْتِرْسَالِهِمْ كَحَالِ مَنْ هُمْ آمِنُونَ بَأْسَ اللَّهِ. فَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ الْمَشُوبِ بِالتَّوْبِيخِ.
والَّذِينَ مَكَرُوا: هُمُ الْمُشْرِكُونَ.
وَالْمَكْرُ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: السَّيِّئاتِ صِفَةٌ لِمَصْدَرِ مَكَرُوا مَحْذُوفًا يُقَدَّرُ مُنَاسِبًا لِتَأْنِيثِ صِفَتِهِ.
فَالتَّقْدِيرُ: مَكَرُوا الْمَكَرَاتِ السَّيِّئَاتِ، كَمَا وُصِفَ الْمَكْرُ بِالسَّيِّئِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [سُورَة فاطر: ٤٣]. وَالتَّأْنِيثُ فِي مِثْلِ هَذَا يُقْصَدُ مِنْهُ الدَّلَالَةُ عَلَى مَعْنَى الْخَصْلَةِ أَوِ الْفِعْلَةِ، كَالْغَدْرَةِ لِلْغَدْرِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُضَمَّنَ مَكَرُوا مَعْنَى (اقْتَرَفُوا) فَانْتَصَبَ السَّيِّئاتِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ بِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ وَهُوَ بَاءُ الْجَرِّ الَّتِي مَعْنَاهَا الْآلَةُ.
وَالْخَسْفُ: زِلْزَالٌ شَدِيدٌ تَنْشَقُّ بِهِ الْأَرْضُ فَتَحْدُثُ بِانْشِقَاقِهَا هُوَّةٌ عَظِيمَةٌ تَسْقُطُ فِيهَا الدِّيَارُ وَالنَّاسُ، ثُمَّ تَنْغَلِقُ الْأَرْضُ عَلَى مَا دَخَلَ فِيهَا. وَقَدْ أَصَابَ ذَلِكَ أَهْلَ بَابِلَ، وَمَكَانُهُمْ يُسَمَّى خَسْفُ بَابِلَ. وَأَصَابَ قَوْمَ لُوطٍ إِذْ جَعَلَ اللَّهُ عَالِيَهَا سَافِلَهَا. وَبِلَادُهُمْ مَخْسُوفَةٌ الْيَوْمَ فِي بُحَيْرَةِ لُوطٍ مِنْ فِلَسْطِينَ.
وَخَسَفَ مِنْ بَابِ ضَرَبَ. وَيُسْتَعْمَلُ قَاصِرًا وَمُتَعَدِّيًا. يُقَالُ: خَسَفَتِ الْأَرْضُ، وَيُقَالُ:
خَسَفَ اللَّهُ الْأَرْضَ، قَالَ تَعَالَى: فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ [سُورَة الْقَصَص: ٨١]، وَلَا يَتَعَدَّى إِلَى مَا زَادَ عَلَى الْمَفْعُولِ إِلَّا بِحَرْفِ التَّعْدِيَةِ، وَالْأَكْثَرُ أَنْ يُعَدَّى بِالْبَاءِ كَمَا هُنَا وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ، أَيْ جَعَلْنَاهَا خَاسِفَةً بِهِ، فَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ، كَمَا يُقَالُ:
ذَهَبَ بِهِ.
والْعَذابُ يَعُمُّ كُلَّ مَا فِيهِ تَأْلِيمٌ يَسْتَمِرُّ زَمَنًا، فَلِذَلِكَ عَطَفَ عَلَى الْخَسْفِ. وَإِتْيَانُ الْعَذَابِ إِلَيْهِمْ: إِصَابَتُهُ إِيَّاهُمْ. شُبِّهَ ذَلِكَ بِالْإِتْيَانِ.
والَّذِينَ مَكَرُوا: هُمُ الْمُشْرِكُونَ.
وَالْمَكْرُ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: السَّيِّئاتِ صِفَةٌ لِمَصْدَرِ مَكَرُوا مَحْذُوفًا يُقَدَّرُ مُنَاسِبًا لِتَأْنِيثِ صِفَتِهِ.
فَالتَّقْدِيرُ: مَكَرُوا الْمَكَرَاتِ السَّيِّئَاتِ، كَمَا وُصِفَ الْمَكْرُ بِالسَّيِّئِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [سُورَة فاطر: ٤٣]. وَالتَّأْنِيثُ فِي مِثْلِ هَذَا يُقْصَدُ مِنْهُ الدَّلَالَةُ عَلَى مَعْنَى الْخَصْلَةِ أَوِ الْفِعْلَةِ، كَالْغَدْرَةِ لِلْغَدْرِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُضَمَّنَ مَكَرُوا مَعْنَى (اقْتَرَفُوا) فَانْتَصَبَ السَّيِّئاتِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ بِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ وَهُوَ بَاءُ الْجَرِّ الَّتِي مَعْنَاهَا الْآلَةُ.
وَالْخَسْفُ: زِلْزَالٌ شَدِيدٌ تَنْشَقُّ بِهِ الْأَرْضُ فَتَحْدُثُ بِانْشِقَاقِهَا هُوَّةٌ عَظِيمَةٌ تَسْقُطُ فِيهَا الدِّيَارُ وَالنَّاسُ، ثُمَّ تَنْغَلِقُ الْأَرْضُ عَلَى مَا دَخَلَ فِيهَا. وَقَدْ أَصَابَ ذَلِكَ أَهْلَ بَابِلَ، وَمَكَانُهُمْ يُسَمَّى خَسْفُ بَابِلَ. وَأَصَابَ قَوْمَ لُوطٍ إِذْ جَعَلَ اللَّهُ عَالِيَهَا سَافِلَهَا. وَبِلَادُهُمْ مَخْسُوفَةٌ الْيَوْمَ فِي بُحَيْرَةِ لُوطٍ مِنْ فِلَسْطِينَ.
وَخَسَفَ مِنْ بَابِ ضَرَبَ. وَيُسْتَعْمَلُ قَاصِرًا وَمُتَعَدِّيًا. يُقَالُ: خَسَفَتِ الْأَرْضُ، وَيُقَالُ:
خَسَفَ اللَّهُ الْأَرْضَ، قَالَ تَعَالَى: فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ [سُورَة الْقَصَص: ٨١]، وَلَا يَتَعَدَّى إِلَى مَا زَادَ عَلَى الْمَفْعُولِ إِلَّا بِحَرْفِ التَّعْدِيَةِ، وَالْأَكْثَرُ أَنْ يُعَدَّى بِالْبَاءِ كَمَا هُنَا وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ، أَيْ جَعَلْنَاهَا خَاسِفَةً بِهِ، فَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ، كَمَا يُقَالُ:
ذَهَبَ بِهِ.
والْعَذابُ يَعُمُّ كُلَّ مَا فِيهِ تَأْلِيمٌ يَسْتَمِرُّ زَمَنًا، فَلِذَلِكَ عَطَفَ عَلَى الْخَسْفِ. وَإِتْيَانُ الْعَذَابِ إِلَيْهِمْ: إِصَابَتُهُ إِيَّاهُمْ. شُبِّهَ ذَلِكَ بِالْإِتْيَانِ.
165
وَ (مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ) مِنْ مَكَانٍ لَا يَتَرَقَّبُونَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ مِنْهُ ضُرٌّ. فَمَعْنَى مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ أَنَّهُ يَأْتِيهِمْ بَغْتَةً لَا يَسْتَطِيعُونَ دَفْعَهُ، لِأَنَّهُمْ لِبَأْسِهِمْ وَمَنَعَتِهِمْ لَا يَبْغَتُهُمْ مَا يَحْذَرُونَهُ إِذْ قَدْ أَعَدُّوا لَهُ عُدَّتَهُ، فَكَانَ الْآتِي مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ عَذَابًا غَيْرَ مَعْهُودٍ. فَوَقَعَ قَوْلُهُ: مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ كِنَايَةً عَنْ عَذَابٍ لَا يُطِيقُونَ دَفْعَهُ بِحَسَبِ اللُّزُومِ الْعُرْفِيِّ، وَإِلَّا فَقَدَ جَاءَ الْعَذَابُ عَادًا مِنْ مَكَانٍ يَشْعُرُونَ بِهِ، قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هَذَا عارِضٌ مُمْطِرُنا [سُورَة الْأَحْقَاف: ٢٤]. وَحَلَّ بِقَوْمِ نُوحٍ عَذَابُ الطُّوفَانِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ، وَكَذَلِكَ عَذَابُ الْغَرَقِ لفرعون وَقَومه.
[٤٦، ٤٧]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : الْآيَات ٤٦ إِلَى ٤٧]
أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٤٦) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٤٧)
الْأَخْذُ مُسْتَعَارٌ لِلْإِهْلَاكِ قَالَ تَعَالَى: فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً [سُورَة الحاقة: ١٠].
وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٤٤].
وَالتَّقَلُّبُ: السَّعْي فِي شؤون الْحَيَاةِ مِنْ مُتَاجَرَةٍ وَمُعَامَلَةٍ وَسَفَرٍ وَمُحَادَثَةٍ وَمُزَاحَمَةٍ.
وَأَصْلُهُ: الْحَرَكَةُ إِقْبَالًا وَإِدْبَارًا، وَالْمَعْنَى: أَنْ يُهْلِكَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ شَاعِرُونَ بِمَجِيءِ الْعَذَابِ.
وَهَذَا قَسِيمُ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ [سُورَة النَّحْل:
٤٥]. وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ [سُورَة الْأَعْرَاف: ٩٨].
وَتَفْرِيعُ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ اعْتِرَاضٌ، أَيْ لَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ أَخْذِهِ إِيَّاهُمْ تَقَلُّبُهُمْ شَيْءٌ إِذْ لَا يُعْجِزُهُ اجْتِمَاعُهُمْ وَتَعَاوُنُهُمْ.
وفِي لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ، أَيِ الْمُلَابَسَةِ، وَهِيَ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي يَأْخُذَهُمْ.
[٤٦، ٤٧]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : الْآيَات ٤٦ إِلَى ٤٧]
أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٤٦) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٤٧)
الْأَخْذُ مُسْتَعَارٌ لِلْإِهْلَاكِ قَالَ تَعَالَى: فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً [سُورَة الحاقة: ١٠].
وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٤٤].
وَالتَّقَلُّبُ: السَّعْي فِي شؤون الْحَيَاةِ مِنْ مُتَاجَرَةٍ وَمُعَامَلَةٍ وَسَفَرٍ وَمُحَادَثَةٍ وَمُزَاحَمَةٍ.
وَأَصْلُهُ: الْحَرَكَةُ إِقْبَالًا وَإِدْبَارًا، وَالْمَعْنَى: أَنْ يُهْلِكَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ شَاعِرُونَ بِمَجِيءِ الْعَذَابِ.
وَهَذَا قَسِيمُ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ [سُورَة النَّحْل:
٤٥]. وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ [سُورَة الْأَعْرَاف: ٩٨].
وَتَفْرِيعُ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ اعْتِرَاضٌ، أَيْ لَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ أَخْذِهِ إِيَّاهُمْ تَقَلُّبُهُمْ شَيْءٌ إِذْ لَا يُعْجِزُهُ اجْتِمَاعُهُمْ وَتَعَاوُنُهُمْ.
وفِي لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ، أَيِ الْمُلَابَسَةِ، وَهِيَ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي يَأْخُذَهُمْ.
166
وَالتَّخَوُّفُ فِي اللُّغَةِ يَأْتِي مَصْدَرُ تَخَوَّفَ الْقَاصِرُ بِمَعْنَى خَافَ وَمَصْدَرُ تَخَوَّفَ الْمُتَعَدِّي بِمَعْنَى تَنَقَّصَ، وَهَذَا الثَّانِي لُغَةُ هُذَيْلٍ، وَهِيَ مِنَ اللُّغَاتِ الْفَصِيحَةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْقُرْآنُ.
فَلِلْآيَةِ مَعْنَيَانِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى يَأْخُذُهُمْ وَهُمْ فِي حَالَةِ تَوَقُّعِ نُزُولِ الْعَذَابِ بِأَنْ يُرِيَهُمْ مُقَدَّمَاتِهِ مِثْلَ الرَّعْدِ قَبْلَ الصَّوَاعِقِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى يَأْخُذُهُمْ وَهُمْ فِي حَالَةِ تَنَقُّصٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَنَقَّصَهُمْ قَبْلَ الْأَخْذِ بِأَنْ يُكْثِرَ فِيهِمُ الْمَوَتَانَ وَالْفَقْرَ وَالْقَحْطَ.
وَحَرْفُ عَلى مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّمَكُّنِ عَلَى كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ، وَمَحَلُّ الْمَجْرُورِ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ النَّصْبِ فِي يَأْخُذَهُمْ وَهُوَ كَقَوْلِهِمْ: أَخَذَهُ عَلَى غِرَّةٍ.
رَوَى الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ يَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- خَفِيَ عَلَيْهِ مَعْنَى التَّخَوُّفِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَأَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى الْأَمْصَارِ، وَأَنَّهُ سَأَلَ النَّاسَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: مَا تَقُولُونَ فِيهَا؟ فَقَامَ شَيْخٌ مِنْ هُذَيْلٍ فَقَالَ: هَذِهِ لُغَتُنَا. التَّخَوُّفُ:
التَّنَقُّصُ. قَالَ: فَهَلْ تَعْرِفُ الْعَرَبُ ذَلِكَ فِي أَشْعَارِهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ شَاعِرُنَا:
فَقَالَ عُمَرُ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: «أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ بِدِيوَانِكُمْ لَا يَضِلُّ، قَالُوا وَمَا دِيوَانُنَا؟ قَالَ شِعْرُ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّ فِيهِ تَفْسِيرَ كِتَابِكُمْ».
وَتَفَرَّعَ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ عَلَى الْجُمَلِ الْمَاضِيَةِ تَفْرِيعَ الْعِلَّةِ عَلَى الْمُعَلَّلِ.
وَحَرْفُ (إِنَّ) هُنَا مُفِيدٌ لِلتَّعْلِيلِ وَمُغْنٍ عَنْ فَاءِ التَّفْرِيعِ كَمَا
_________
(١) قلت: نسب فِي «الْكَشَّاف» هَذَا الْبَيْت إِلَى زُهَيْر وَكَذَلِكَ فِي الأساس وَلَيْسَ زُهَيْر بهذلي. وَنسبه صَاحب «اللِّسَان» إِلَى ابْن مقبل وَلَيْسَ ابْن مقبل بهذلي وَكَيف وَقد قَالَ الشَّيْخ الْهُذلِيّ لعمر قَالَ شَاعِرنَا فَهُوَ هذلي وَوَقع فِي «تَفْسِير الْبَيْضَاوِيّ» أَن الشَّيْخ الْهُذلِيّ أجَاب عمر بقوله نعم: «قَالَ شَاعِرنَا أَبُو كَبِير وَقَالَ الخفاجي الْبَيْت من قصيدة لَهُ مَذْكُورَة فِي شعر هُذَيْل فنسبة الْبَيْت إِلَى أبي كَبِير أثبت، وَهَذَا الْبَيْت فِي وصف رَاحِلَة أثر الرحل فِي سنامها فتنقص من وبره. والتامك:
بِكَسْر الْمِيم السنام المشرف. والقرد بِكَسْر الرَّاء المتلبد الْوَبر، والنبعة قَصَبَة شجر النبع تتَّخذ مِنْهُ القسي. والسفن بِالتَّحْرِيكِ الْبرد. [.....]
فَلِلْآيَةِ مَعْنَيَانِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى يَأْخُذُهُمْ وَهُمْ فِي حَالَةِ تَوَقُّعِ نُزُولِ الْعَذَابِ بِأَنْ يُرِيَهُمْ مُقَدَّمَاتِهِ مِثْلَ الرَّعْدِ قَبْلَ الصَّوَاعِقِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى يَأْخُذُهُمْ وَهُمْ فِي حَالَةِ تَنَقُّصٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَنَقَّصَهُمْ قَبْلَ الْأَخْذِ بِأَنْ يُكْثِرَ فِيهِمُ الْمَوَتَانَ وَالْفَقْرَ وَالْقَحْطَ.
وَحَرْفُ عَلى مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّمَكُّنِ عَلَى كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ، وَمَحَلُّ الْمَجْرُورِ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ النَّصْبِ فِي يَأْخُذَهُمْ وَهُوَ كَقَوْلِهِمْ: أَخَذَهُ عَلَى غِرَّةٍ.
رَوَى الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ يَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- خَفِيَ عَلَيْهِ مَعْنَى التَّخَوُّفِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَأَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى الْأَمْصَارِ، وَأَنَّهُ سَأَلَ النَّاسَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: مَا تَقُولُونَ فِيهَا؟ فَقَامَ شَيْخٌ مِنْ هُذَيْلٍ فَقَالَ: هَذِهِ لُغَتُنَا. التَّخَوُّفُ:
التَّنَقُّصُ. قَالَ: فَهَلْ تَعْرِفُ الْعَرَبُ ذَلِكَ فِي أَشْعَارِهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ شَاعِرُنَا:
تَخَوَّفَ الرَّحْلُ مِنْهَا تَامِكًا قَرِدَا | كَمَا تَخَوَّفَ عُودَ النَّبْعَةِ السَّفَنُ (١) |
وَتَفَرَّعَ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ عَلَى الْجُمَلِ الْمَاضِيَةِ تَفْرِيعَ الْعِلَّةِ عَلَى الْمُعَلَّلِ.
وَحَرْفُ (إِنَّ) هُنَا مُفِيدٌ لِلتَّعْلِيلِ وَمُغْنٍ عَنْ فَاءِ التَّفْرِيعِ كَمَا
_________
(١) قلت: نسب فِي «الْكَشَّاف» هَذَا الْبَيْت إِلَى زُهَيْر وَكَذَلِكَ فِي الأساس وَلَيْسَ زُهَيْر بهذلي. وَنسبه صَاحب «اللِّسَان» إِلَى ابْن مقبل وَلَيْسَ ابْن مقبل بهذلي وَكَيف وَقد قَالَ الشَّيْخ الْهُذلِيّ لعمر قَالَ شَاعِرنَا فَهُوَ هذلي وَوَقع فِي «تَفْسِير الْبَيْضَاوِيّ» أَن الشَّيْخ الْهُذلِيّ أجَاب عمر بقوله نعم: «قَالَ شَاعِرنَا أَبُو كَبِير وَقَالَ الخفاجي الْبَيْت من قصيدة لَهُ مَذْكُورَة فِي شعر هُذَيْل فنسبة الْبَيْت إِلَى أبي كَبِير أثبت، وَهَذَا الْبَيْت فِي وصف رَاحِلَة أثر الرحل فِي سنامها فتنقص من وبره. والتامك:
بِكَسْر الْمِيم السنام المشرف. والقرد بِكَسْر الرَّاء المتلبد الْوَبر، والنبعة قَصَبَة شجر النبع تتَّخذ مِنْهُ القسي. والسفن بِالتَّحْرِيكِ الْبرد. [.....]
167
بَيَّنَهُ عَبْدُ الْقَاهِرِ، فَهِيَ مُؤَكِّدَةٌ لِمَا أَفَادَتْهُ الْفَاءُ. وَالتَّعْلِيلُ هُنَا لِمَا فُهِمَ مِنْ مَجْمُوعِ الْمَذْكُورَاتِ فِي الْآيَةِ مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى تَعْجِيلِ هَلَاكِهِمْ وَأَنَّهُ أَمْهَلَهُمْ حَتَّى نَسُوا بَأْسَ اللَّهِ فَصَارُوا كَالْآمَنِينَ مِنْهُ بِحَيْثُ يَسْتَفْهِمُ عَنْهُمْ:
أَهُمْ آمِنُونَ مِنْ ذَلِكَ أم لَا.
[٤٨]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٤٨]
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (٤٨)
بَعْدَ أَنْ نَهَضَتْ بَرَاهِينُ انْفِرَادِهِ تَعَالَى بِالْخَلْقِ بِمَا ذَكَرَ مِنْ تَعْدَادِ مَخْلُوقَاتِهِ الْعَظِيمَةِ جَاءَ الِانْتِقَالُ إِلَى دَلَالَةٍ مِنْ حَالِ الْأَجْسَامِ الَّتِي عَلَى الْأَرْضِ كُلِّهَا مُشْعِرَةً بِخُضُوعِهَا لِلَّهِ تَعَالَى خُضُوعًا مُقَارِنًا لِوُجُودِهَا وَتَقَلُّبِهَا آنًا فَآنًا عَلِمَ بِذَلِكَ مَنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ. وَأَنْبَأَ عَنْهُ لِسَانُ الْحَالِ بِالنِّسْبَةِ لِمَا لَا عِلْمَ لَهُ، وَهُوَ مَا خَلَقَ اللَّهُ عَلَيْهِ النِّظَامَ الْأَرْضِيَّ خَلْقًا يَنْطِقُ لِسَانُ حَالِهِ بِالْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ فِي أَشَدِّ الْأَعْرَاضِ مُلَازَمَةً لِلذَّوَاتِ، وَمُطَابَقَةً لِأَشْكَالِهَا وَهُوَ الظِّلُّ.
وَقَدْ مَضَى تَفْصِيلُ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [١٥].
فَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهَا عَطْفَ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ، أَيْ قَدْ رَأَوْا، وَالرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةٌ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَوَلَمْ يَرَوْا بِتَحْتِيَّةٍ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ أَوَلَمْ تَرَوْا بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ.
ومِنْ شَيْءٍ بَيَانٌ لِلْإِبْهَامِ الَّذِي فِي مَا الْمَوْصُولَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ بَيَانًا بِاعْتِبَارِ مَا جَرَى عَلَيْهِ مِنَ الْوَصْف بجملة يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ الْآيَةَ.
أَهُمْ آمِنُونَ مِنْ ذَلِكَ أم لَا.
[٤٨]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٤٨]
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (٤٨)
بَعْدَ أَنْ نَهَضَتْ بَرَاهِينُ انْفِرَادِهِ تَعَالَى بِالْخَلْقِ بِمَا ذَكَرَ مِنْ تَعْدَادِ مَخْلُوقَاتِهِ الْعَظِيمَةِ جَاءَ الِانْتِقَالُ إِلَى دَلَالَةٍ مِنْ حَالِ الْأَجْسَامِ الَّتِي عَلَى الْأَرْضِ كُلِّهَا مُشْعِرَةً بِخُضُوعِهَا لِلَّهِ تَعَالَى خُضُوعًا مُقَارِنًا لِوُجُودِهَا وَتَقَلُّبِهَا آنًا فَآنًا عَلِمَ بِذَلِكَ مَنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ. وَأَنْبَأَ عَنْهُ لِسَانُ الْحَالِ بِالنِّسْبَةِ لِمَا لَا عِلْمَ لَهُ، وَهُوَ مَا خَلَقَ اللَّهُ عَلَيْهِ النِّظَامَ الْأَرْضِيَّ خَلْقًا يَنْطِقُ لِسَانُ حَالِهِ بِالْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ فِي أَشَدِّ الْأَعْرَاضِ مُلَازَمَةً لِلذَّوَاتِ، وَمُطَابَقَةً لِأَشْكَالِهَا وَهُوَ الظِّلُّ.
وَقَدْ مَضَى تَفْصِيلُ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [١٥].
فَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهَا عَطْفَ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ، أَيْ قَدْ رَأَوْا، وَالرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةٌ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَوَلَمْ يَرَوْا بِتَحْتِيَّةٍ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ أَوَلَمْ تَرَوْا بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ.
ومِنْ شَيْءٍ بَيَانٌ لِلْإِبْهَامِ الَّذِي فِي مَا الْمَوْصُولَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ بَيَانًا بِاعْتِبَارِ مَا جَرَى عَلَيْهِ مِنَ الْوَصْف بجملة يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ الْآيَةَ.
168
وَالتَّفَيُّؤُ: تَفَعُّلُ مِنْ فَاءَ الظِّلُّ فَيْئًا، أَيْ عَادَ بَعْدَ أَنْ أَزَالَهُ ضَوْءُ الشَّمْسِ. لَعَلَّ أَصْلَهُ مِنْ فَاءَ إِذَا رَجَعَ بَعْدَ مُغَادَرَةِ الْمَكَانِ، وَتَفَيُّؤُ الظِّلَالِ تَنَقُّلُهَا مِنْ جِهَاتٍ بَعْدَ شُرُوقِ الشَّمْسِ وَبَعْدَ
زَوَالِهَا.
وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الظِّلَالِ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [١٥].
وَقَوْلُهُ: عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ، أَيْ عَنْ جِهَاتِ الْيَمِينِ وَجِهَاتِ الشَّمَائِلِ مَقْصُودٌ بِهِ إِيضَاحُ الْحَالَةِ الْعَجِيبَةِ لِلظِّلِّ إِذْ يَكُونُ عَنْ يَمِينِ الشَّخْصِ مَرَّةً وَعَنْ شِمَالِهِ أُخْرَى، أَيْ إِذَا اسْتَقْبَلَ جِهَةً مَا ثُمَّ اسْتَدْبَرَهَا.
وَلَيْسَ الْمُرَادُ خُصُوصَ الْيَمِينِ وَالشِّمَالِ بَلْ كَذَلِكَ الْأَمَامُ وَالْخَلْفُ، فَاخْتُصِرَ الْكَلَامُ.
وَأُفْرِدَ الْيَمِينُ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ جِنْسُ الْجِهَةِ كَمَا يُقَالُ الْمَشْرِقُ. وَجَمْعُ الشَّمائِلِ مُرَادًا بِهِ تَعَدُّدُ جِنْسِ جِهَةِ الشَّمَالِ بِتَعَدُّدِ أَصْحَابِهَا، كَمَا قَالَ: فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ [سُورَة المعارج: ٤٠]. فَالْمُخَالَفَةُ بِالْإِفْرَادِ وَالْجَمْعِ تَفَنُّنٌ.
ومجيء فعل يَتَفَيَّؤُا بِتَحْتِيَّةٍ فِي أَوَّلِهِ عَلَى صِيغَةِ الْإِفْرَادِ جَرَى عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ فِي الْفِعْلِ إِذَا كَانَ فَاعِلُهُ جَمْعًا غَيْرَ جَمْعِ تَصْحِيحٍ، وَبِذَلِكَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ تَتَفَيَّأُ بِفَوْقِيَّتَيْنِ عَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ.
وَأُفْرِدَ الضَّمِيرُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ (ظِلَالُ) مُرَاعَاةً لِلَفْظِ شَيْءٍ وَإِنْ كَانَ فِي الْمَعْنَى مُتَعَدِّدًا، وَبِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى أُضِيفَ إِلَيْهِ الْجَمْعُ.
وسُجَّداً حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ ظِلالُهُ الْعَائِدِ إِلَى مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ قَيْدٌ لِلتَّفَيُّؤِ، أَيْ أَنَّ ذَلِكَ التَّفَيُّؤَ يُقَارِنُهُ السُّجُودُ مُقَارَنَةَ الْحُصُولِ ضِمْنَهُ. وَقَدْ مَضَى بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ.
وَجُمْلَةُ وَهُمْ داخِرُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي ظِلالُهُ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ لِرُجُوعِهِ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ. وَجُمِعَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ الْخَاصَّةِ بِالْعُقَلَاءِ تَغْلِيبًا لِأَنَّ فِي جُمْلَةِ الْخَلَائِقِ الْعُقَلَاءَ وَهُمُ الْجِنْسُ الْأَهَمُّ.
زَوَالِهَا.
وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الظِّلَالِ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [١٥].
وَقَوْلُهُ: عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ، أَيْ عَنْ جِهَاتِ الْيَمِينِ وَجِهَاتِ الشَّمَائِلِ مَقْصُودٌ بِهِ إِيضَاحُ الْحَالَةِ الْعَجِيبَةِ لِلظِّلِّ إِذْ يَكُونُ عَنْ يَمِينِ الشَّخْصِ مَرَّةً وَعَنْ شِمَالِهِ أُخْرَى، أَيْ إِذَا اسْتَقْبَلَ جِهَةً مَا ثُمَّ اسْتَدْبَرَهَا.
وَلَيْسَ الْمُرَادُ خُصُوصَ الْيَمِينِ وَالشِّمَالِ بَلْ كَذَلِكَ الْأَمَامُ وَالْخَلْفُ، فَاخْتُصِرَ الْكَلَامُ.
وَأُفْرِدَ الْيَمِينُ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ جِنْسُ الْجِهَةِ كَمَا يُقَالُ الْمَشْرِقُ. وَجَمْعُ الشَّمائِلِ مُرَادًا بِهِ تَعَدُّدُ جِنْسِ جِهَةِ الشَّمَالِ بِتَعَدُّدِ أَصْحَابِهَا، كَمَا قَالَ: فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ [سُورَة المعارج: ٤٠]. فَالْمُخَالَفَةُ بِالْإِفْرَادِ وَالْجَمْعِ تَفَنُّنٌ.
ومجيء فعل يَتَفَيَّؤُا بِتَحْتِيَّةٍ فِي أَوَّلِهِ عَلَى صِيغَةِ الْإِفْرَادِ جَرَى عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ فِي الْفِعْلِ إِذَا كَانَ فَاعِلُهُ جَمْعًا غَيْرَ جَمْعِ تَصْحِيحٍ، وَبِذَلِكَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ تَتَفَيَّأُ بِفَوْقِيَّتَيْنِ عَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ.
وَأُفْرِدَ الضَّمِيرُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ (ظِلَالُ) مُرَاعَاةً لِلَفْظِ شَيْءٍ وَإِنْ كَانَ فِي الْمَعْنَى مُتَعَدِّدًا، وَبِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى أُضِيفَ إِلَيْهِ الْجَمْعُ.
وسُجَّداً حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ ظِلالُهُ الْعَائِدِ إِلَى مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ قَيْدٌ لِلتَّفَيُّؤِ، أَيْ أَنَّ ذَلِكَ التَّفَيُّؤَ يُقَارِنُهُ السُّجُودُ مُقَارَنَةَ الْحُصُولِ ضِمْنَهُ. وَقَدْ مَضَى بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ.
وَجُمْلَةُ وَهُمْ داخِرُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي ظِلالُهُ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ لِرُجُوعِهِ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ. وَجُمِعَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ الْخَاصَّةِ بِالْعُقَلَاءِ تَغْلِيبًا لِأَنَّ فِي جُمْلَةِ الْخَلَائِقِ الْعُقَلَاءَ وَهُمُ الْجِنْسُ الْأَهَمُّ.
169
وَالدَّاخِرُ: الْخَاضِعُ الذَّلِيلُ، أَيْ دَاخِرُونَ لِعَظَمَةِ الله تَعَالَى.
[٤٩، ٥٠]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : الْآيَات ٤٩ إِلَى ٥٠]
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (٥٠)
لَمَّا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ السُّجُودُ الْقَسْرِيُّ ذُكِرَ بَعْدَهُ هُنَا سُجُودٌ آخَرُ بَعْضُهُ اخْتِيَارٌ وَفِي
بَعْضِهِ شِبْهُ اخْتِيَارٍ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى فِعْلِهِ مُؤْذِنٌ بالحصر، أَي سجد لِلَّهِ لَا لِغَيْرِهِ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ إِذْ يَسْجُدُونَ لِلْأَصْنَامِ.
وَأُوثِرَتْ مَا الْمَوْصُولَةُ دُونَ (مَنْ) تَغْلِيبًا لِكَثْرَةِ غَيْرِ الْعُقَلَاءِ.
ومِنْ دابَّةٍ بَيَانٌ لِ مَا فِي الْأَرْضِ، إِذِ الدَّابَّةُ مَا يَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ غَيْرُ الْإِنْسَانِ.
وَمَعْنَى سُجُودِ الدَّوَابِّ لِلَّهِ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ فِي تَفْكِيرِهَا الْإِلْهَامِيِّ الْتِذَاذَهَا بِوُجُودِهَا وَبِمَا هِيَ فِيهِ مِنَ الْمَرَحِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَتَطْلُبُ الدَّفْعَ عَنْ نَفْسِهَا مِنَ الْمُتَغَلِّبِ وَمِنَ الْعَوَارِضِ بِالْمُدَافَعَةِ أَوْ بِالتَّوَقِّي، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْمُلَائِمَاتِ. فَحَالُهَا بِذَلِكَ كَحَالِ شَاكِرٍ تَتَيَسَّرُ تِلْكَ الْمُلَائِمَاتُ لَهَا، وَإِنَّمَا تَيْسِيرُهَا لَهَا مِمَّنْ فَطَرَهَا. وَقَدْ تَصْحَبُ أَحْوَالَ تَنَعُّمِهَا حَرَكَاتٌ تُشْبِهُ إِيمَاءَ الشَّاكِرِ الْمُقَارِبِ لِلسُّجُودِ، وَلَعَلَّ مِنْ حَرَكَاتِهَا مَا لَا يَشْعُرُ بِهِ النَّاسُ لِخَفَائِهِ وَجَهْلِهِمْ بِأَوْقَاتِهِ، وَإِطْلَاقُ السُّجُودِ عَلَى هَذَا مَجَازٌ.
وَيَشْمَلُ مَا فِي السَّماواتِ مَخْلُوقَاتٍ غَيْرَ الْمَلَائِكَةِ، مِثْلَ الْأَرْوَاحِ، أَو يُرَاد بالسماوات الْأَجْوَاءُ فَيُرَادُ بِمَا فِيهَا الطُّيُورُ وَالْفَرَاشُ.
[٤٩، ٥٠]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : الْآيَات ٤٩ إِلَى ٥٠]
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (٥٠)
لَمَّا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ السُّجُودُ الْقَسْرِيُّ ذُكِرَ بَعْدَهُ هُنَا سُجُودٌ آخَرُ بَعْضُهُ اخْتِيَارٌ وَفِي
بَعْضِهِ شِبْهُ اخْتِيَارٍ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى فِعْلِهِ مُؤْذِنٌ بالحصر، أَي سجد لِلَّهِ لَا لِغَيْرِهِ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ إِذْ يَسْجُدُونَ لِلْأَصْنَامِ.
وَأُوثِرَتْ مَا الْمَوْصُولَةُ دُونَ (مَنْ) تَغْلِيبًا لِكَثْرَةِ غَيْرِ الْعُقَلَاءِ.
ومِنْ دابَّةٍ بَيَانٌ لِ مَا فِي الْأَرْضِ، إِذِ الدَّابَّةُ مَا يَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ غَيْرُ الْإِنْسَانِ.
وَمَعْنَى سُجُودِ الدَّوَابِّ لِلَّهِ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ فِي تَفْكِيرِهَا الْإِلْهَامِيِّ الْتِذَاذَهَا بِوُجُودِهَا وَبِمَا هِيَ فِيهِ مِنَ الْمَرَحِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَتَطْلُبُ الدَّفْعَ عَنْ نَفْسِهَا مِنَ الْمُتَغَلِّبِ وَمِنَ الْعَوَارِضِ بِالْمُدَافَعَةِ أَوْ بِالتَّوَقِّي، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْمُلَائِمَاتِ. فَحَالُهَا بِذَلِكَ كَحَالِ شَاكِرٍ تَتَيَسَّرُ تِلْكَ الْمُلَائِمَاتُ لَهَا، وَإِنَّمَا تَيْسِيرُهَا لَهَا مِمَّنْ فَطَرَهَا. وَقَدْ تَصْحَبُ أَحْوَالَ تَنَعُّمِهَا حَرَكَاتٌ تُشْبِهُ إِيمَاءَ الشَّاكِرِ الْمُقَارِبِ لِلسُّجُودِ، وَلَعَلَّ مِنْ حَرَكَاتِهَا مَا لَا يَشْعُرُ بِهِ النَّاسُ لِخَفَائِهِ وَجَهْلِهِمْ بِأَوْقَاتِهِ، وَإِطْلَاقُ السُّجُودِ عَلَى هَذَا مَجَازٌ.
وَيَشْمَلُ مَا فِي السَّماواتِ مَخْلُوقَاتٍ غَيْرَ الْمَلَائِكَةِ، مِثْلَ الْأَرْوَاحِ، أَو يُرَاد بالسماوات الْأَجْوَاءُ فَيُرَادُ بِمَا فِيهَا الطُّيُورُ وَالْفَرَاشُ.
وَفِي ذِكْرِ أَشْرَفِ الْمَخْلُوقَاتِ وَأَقَلِّهَا تَعْرِيضٌ بِذَمِّ مَنْ نَزَلَ مِنَ الْبَشَرِ عَنْ مَرْتَبَةِ الدَّوَابِّ فِي كُفْرَانِ الْخَالِقِ، وَبِمَدْحِ مَنْ شَابَهَ مِنَ الْبَشَرِ حَالَ الْمَلَائِكَةِ.
وَفِي جَعْلِ الدَّوَابِّ وَالْمَلَائِكَةِ مَعْمُولَيْنِ لِ يَسْجُدُ اسْتِعْمَالٌ لِلَفْظٍ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ.
وَوَصْفُ الْمَلَائِكَةِ بِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ تَعْرِيضٌ بِبُعْدِ الْمُشْرِكِينَ عَنْ أَوْجِ تِلْكَ الْمَرْتَبَةِ الْمَلَكِيَّةِ. وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنَ الْمَلائِكَةُ.
وَجُمْلَةُ يَخافُونَ رَبَّهُمْ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ.
وَالْفَوْقِيَّةُ فِي قَوْلِهِ: مِنْ فَوْقِهِمْ فَوْقِيَّةُ تَصَرُّفٍ وَمِلْكٍ وَشَرَفٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ [سُورَة الْأَنْعَام: ١٨] وَقَوْلِهِ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ [سُورَة الْأَعْرَاف:
١٢٧].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ، أَيْ يُطِيعُونَ وَلَا تَصْدُرُ مِنْهُمْ مُخَالَفَةٌ.
وَهُنَا مَوضِع سُجُود للقارىء بِالِاتِّفَاقِ. وَحِكْمَتُهُ هُنَا إِظْهَارُ الْمُؤْمِنِ أَنَّهُ مِنَ الْفَرِيقِ
الْمَمْدُوحِ بِأَنَّهُ مُشَابِهٌ لِلْمَلَائِكَةِ فِي السُّجُودِ لله تَعَالَى.
[٥١]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٥١]
وَقالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٥١)
لَمَّا أُشْبِعَ الْقَوْلُ فِي إِبْطَالِ تَعَدُّدِ الْآلِهَةِ الشَّائِعِ فِي جَمِيعِ قَبَائِلِ الْعَرَبِ، وَأُتْبِعَ بِإِبْطَالِ الِاخْتِلَاقِ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنِ، نُقِلَ الْكَلَامُ إِلَى إِبْطَالِ نَوْعٍ آخَرَ مِنَ الشِّرْكِ مُتَّبَعٍ عِنْدَ قَبَائِلَ مِنَ الْعَرَبِ وَهُوَ الْإِشْرَاكُ بِإِلَهِيَّةِ أَصْلَيْنِ لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ، تَقَلَّدَتْهُ قَبَائِلُ الْعَرَبِ الْمُجَاوِرَةُ بِلَادُ فَارِسَ وَالسَّارِي فِيهِمْ سُلْطَانُ كِسْرَى وَعَوَائِدُهُمْ، مِثْلُ بَنِي بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ وَبَنِي تَمِيمٍ، فَقَدْ دَانَ مِنْهُمْ كَثِيرٌ بِالْمَجُوسِيَّةِ، أَيِ الْمَزْدَكِيَّةِ وَالْمَانَوِيَّةِ فِي زَمَنِ كِسْرَى أَبْرُويِشَ وَفِي زَمَنِ كِسْرَى أَنُوشُرْوَانَ، وَالْمَجُوسِيَّةُ تُثْبِتُ عَقِيدَةً بِإِلَهَيْنِ:
وَفِي جَعْلِ الدَّوَابِّ وَالْمَلَائِكَةِ مَعْمُولَيْنِ لِ يَسْجُدُ اسْتِعْمَالٌ لِلَفْظٍ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ.
وَوَصْفُ الْمَلَائِكَةِ بِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ تَعْرِيضٌ بِبُعْدِ الْمُشْرِكِينَ عَنْ أَوْجِ تِلْكَ الْمَرْتَبَةِ الْمَلَكِيَّةِ. وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنَ الْمَلائِكَةُ.
وَجُمْلَةُ يَخافُونَ رَبَّهُمْ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ.
وَالْفَوْقِيَّةُ فِي قَوْلِهِ: مِنْ فَوْقِهِمْ فَوْقِيَّةُ تَصَرُّفٍ وَمِلْكٍ وَشَرَفٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ [سُورَة الْأَنْعَام: ١٨] وَقَوْلِهِ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ [سُورَة الْأَعْرَاف:
١٢٧].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ، أَيْ يُطِيعُونَ وَلَا تَصْدُرُ مِنْهُمْ مُخَالَفَةٌ.
وَهُنَا مَوضِع سُجُود للقارىء بِالِاتِّفَاقِ. وَحِكْمَتُهُ هُنَا إِظْهَارُ الْمُؤْمِنِ أَنَّهُ مِنَ الْفَرِيقِ
الْمَمْدُوحِ بِأَنَّهُ مُشَابِهٌ لِلْمَلَائِكَةِ فِي السُّجُودِ لله تَعَالَى.
[٥١]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٥١]
وَقالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٥١)
لَمَّا أُشْبِعَ الْقَوْلُ فِي إِبْطَالِ تَعَدُّدِ الْآلِهَةِ الشَّائِعِ فِي جَمِيعِ قَبَائِلِ الْعَرَبِ، وَأُتْبِعَ بِإِبْطَالِ الِاخْتِلَاقِ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنِ، نُقِلَ الْكَلَامُ إِلَى إِبْطَالِ نَوْعٍ آخَرَ مِنَ الشِّرْكِ مُتَّبَعٍ عِنْدَ قَبَائِلَ مِنَ الْعَرَبِ وَهُوَ الْإِشْرَاكُ بِإِلَهِيَّةِ أَصْلَيْنِ لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ، تَقَلَّدَتْهُ قَبَائِلُ الْعَرَبِ الْمُجَاوِرَةُ بِلَادُ فَارِسَ وَالسَّارِي فِيهِمْ سُلْطَانُ كِسْرَى وَعَوَائِدُهُمْ، مِثْلُ بَنِي بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ وَبَنِي تَمِيمٍ، فَقَدْ دَانَ مِنْهُمْ كَثِيرٌ بِالْمَجُوسِيَّةِ، أَيِ الْمَزْدَكِيَّةِ وَالْمَانَوِيَّةِ فِي زَمَنِ كِسْرَى أَبْرُويِشَ وَفِي زَمَنِ كِسْرَى أَنُوشُرْوَانَ، وَالْمَجُوسِيَّةُ تُثْبِتُ عَقِيدَةً بِإِلَهَيْنِ:
171
إِلَهٍ لِلْخَيْرِ وَهُوَ النُّورُ، وَإِلَهٍ لِلشَّرِّ وَهُوَ الظُّلْمَةُ، فَإِلَهُ الْخَيْرِ لَا يَصْدُرُ مِنْهُ إِلَّا الْخَيْرَ وَالْإِنْعَامَ، وَإِلَهُ الشَّرِّ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ إِلَّا الشَّرُّ وَالْآلَامُ، وَسَمُّوا إِلَهَ الْخَيْرِ (يَزْدَانُ)، وَسَمُّوا إِلَهَ الشَّرِّ (آهْرُمُنُ) (١). وَزَعَمُوا أَنَّ يَزْدَانَ كَانَ مُنْفَرِدًا بِالْإِلَهِيَّةِ وَكَانَ لَا يَخْلُقُ إِلَّا الْخَيْرَ فَلَمْ يَكُنْ فِي الْعَالَمِ إِلَّا الْخَيْرُ، فَخَطَرَ فِي نَفْسِهِ مَرَّةً خَاطِرُ شَرٍّ فَتَوَلَّدَ عَنْهُ إِلَهٌ آخَرُ شَرِيكٌ لَهُ هُوَ إِلَهُ الشَّرِّ، وَقَدْ حَكَى هَذَا الْمَعَرِّي فِي لُزُومِيَّاتِهِ بِقَوْلِهِ:
وَلَمْ يَكُونُوا يَجْعَلُونَ لِهَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ صُوَرًا مُجَسَّمَةً، فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ دِينُهُمْ مِنْ عِدَادِ عِبَادَةِ الطَّاغُوتِ لِاخْتِصَاصِ اسْمِ الطَّاغُوتِ بِالصُّوَرِ وَالْأَجْسَامِ الْمَعْبُودَةِ. وَهَذَا الدِّينُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ يُشْبِهُ الْأَدْيَانَ الَّتِي لَا تَعْبُدُ صُوَرًا مَحْسُوسَةً. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الْمَجُوسِيَّةِ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا إِلَى قَوْلِهِ وَالْمَجُوسَ فِي سُورَةِ الْحَجِّ [١٧].
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الدِّينَ هُوَ الْمُرَادُ التَّعْقِيبُ بِآيَةِ مَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ [سُورَة النَّحْل: ٥٣] كَمَا سَيَأْتِي.
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ عَطْفُ قِصَّةٍ عَلَى قِصَّةٍ وَهُوَ مُرْتَبِطٌ بِجُمْلَةِ وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [سُورَة النَّحْل:
٣٦].
وَمَعْنَى وَقالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ أَنَّهُ دَعَا النَّاسَ وَنَصَبَ الْأَدِلَّةَ عَلَى بُطْلَانِ اعْتِقَادِهِ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ [سُورَة الْفَتْح: ١٥] وَقَوْلِهِ:
كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ [سُورَة الْفَتْح: ١٥].
وَصِيغَةُ التَّثْنِيَةِ مِنْ قَوْلِهِ: إِلهَيْنِ أُكِّدَتْ بِلَفْظِ اثْنَيْنِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الِاثْنِينِيَّةَ مَقْصُودَةٌ بِالنَّهْيِ إِبْطَالًا لِشِرْكٍ مَخْصُوصٍ مِنْ إِشْرَاكِ الْمُشْرِكِينَ، وَأَنَّ لَا
_________
(١) يَزْدَان بتحتية مَفْتُوحَة وزاي سَاكِنة. وأهرمن بِهَمْزَة مَفْتُوحَة وهاء سَاكِنة وَرَاء وَمِيم مضمومتين وَنون سَاكِنة.
فَكَّرَ يَزْدَانُ عَلَى غِرَّةٍ | فَصِيغَ مِنْ تَفْكِيرِهِ أَهْرُمُنْ |
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الدِّينَ هُوَ الْمُرَادُ التَّعْقِيبُ بِآيَةِ مَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ [سُورَة النَّحْل: ٥٣] كَمَا سَيَأْتِي.
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ عَطْفُ قِصَّةٍ عَلَى قِصَّةٍ وَهُوَ مُرْتَبِطٌ بِجُمْلَةِ وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [سُورَة النَّحْل:
٣٦].
وَمَعْنَى وَقالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ أَنَّهُ دَعَا النَّاسَ وَنَصَبَ الْأَدِلَّةَ عَلَى بُطْلَانِ اعْتِقَادِهِ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ [سُورَة الْفَتْح: ١٥] وَقَوْلِهِ:
كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ [سُورَة الْفَتْح: ١٥].
وَصِيغَةُ التَّثْنِيَةِ مِنْ قَوْلِهِ: إِلهَيْنِ أُكِّدَتْ بِلَفْظِ اثْنَيْنِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الِاثْنِينِيَّةَ مَقْصُودَةٌ بِالنَّهْيِ إِبْطَالًا لِشِرْكٍ مَخْصُوصٍ مِنْ إِشْرَاكِ الْمُشْرِكِينَ، وَأَنَّ لَا
_________
(١) يَزْدَان بتحتية مَفْتُوحَة وزاي سَاكِنة. وأهرمن بِهَمْزَة مَفْتُوحَة وهاء سَاكِنة وَرَاء وَمِيم مضمومتين وَنون سَاكِنة.
172
اكْتِفَاءَ بِالنَّهْيِ عَنْ تَعَدُّدِ الْإِلَهِ بَلِ الْمَقْصُودُ النَّهْيُ عَنِ التَّعَدُّدِ الْخَاصِّ وَهُوَ قَوْلُ الْمَجُوسِ بِإِلَهَيْنِ. وَوَقَعَ فِي «الْكَشَّافِ» تَوْجِيهُ ذِكْرِ اثْنَيْنِ بِأَنَّهُ لِدَفْعِ احْتِمَالِ إِرَادَةِ الْجِنْسِ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا.
وَإِذْ نُهُوا عَنِ اتِّخَاذِ إِلَهَيْنِ فَقَدْ دَلَّ بِدَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ عَلَى إِبْطَالِ اتِّخَاذِ آلِهَةٍ كَثِيرَةٍ.
وَجُمْلَةُ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَيَانًا لِجُمْلَةِ لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ، فَالْجُمْلَةُ مَقُولَةٌ لِفِعْلِ وَقالَ اللَّهُ لِأَنَّ عَطْفَ الْبَيَانِ تَابِعٌ لِلْمُبَيَّنِ كَمَوْقِعِ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ (١) :
أَقُولُ لَهُ ارْحَلْ لَا تُقِيمَنَّ عِنْدَنَا فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ، وَبِذَلِكَ أُفِيدَ بِالْمَنْطُوقِ مَا أُفِيدَ قَبْلُ بِدَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ.
وَالضَّمِيرُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ:
وَقالَ اللَّهُ، أَيْ قَالَ اللَّهُ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ، وَهَذَا جَرْيٌ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ فِي حِكَايَةِ الْقَوْلِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ بِالْمَعْنَى كَمَا هُنَا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ [سُورَة الْمَائِدَة: ١١٧] فَ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مُفَسِّرُ «أَمَرْتَنِي»، وَفِعْلُ «أَمَرْتَنِي» فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ، وَاللَّهُ قَالَ لَهُ: قُلْ لَهُمُ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبَّكَ وَرَبَّهُمْ، فَحَكَاهُ بِالْمَعْنَى، فَقَالَ: رَبِّي.
وَالْقَصْرُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ قَصْرٌ مَوْصُوفٌ عَلَى صِفَةٍ، أَيِ اللَّهُ مُخْتَصٌّ بِصِفَةِ تَوَحُّدِ الْإِلَهِيَّةِ، وَهُوَ قَصْرُ قَلْبٍ لِإِبْطَالِ دَعْوَى تَثْنِيَةِ الْإِلَهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ مُعْتَرِضَةً وَاقِعَةً تَعْلِيلًا لِجُمْلَةِ لَا تَتَّخِذُوا
إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ أَيْ نَهَى اللَّهُ عَنِ اتِّخَاذِ إِلَهَيْنِ لِأَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ، أَيْ وَاللَّهُ هُوَ مُسَمَّى إِلَهٍ فَاتِّخَاذُ إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ قَلْبٌ لِحَقِيقَةِ الْإِلَهِيَّةِ.
_________
(١) هَذَا الْبَيْت من شَوَاهِد النَّحْو وَعلم الْمعَانِي وَتَمام الْبَيْت:
وَلَا فَكُن فِي السِّرّ والجهر مُسلما وَلَا يعرف قَائِله.
وَإِذْ نُهُوا عَنِ اتِّخَاذِ إِلَهَيْنِ فَقَدْ دَلَّ بِدَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ عَلَى إِبْطَالِ اتِّخَاذِ آلِهَةٍ كَثِيرَةٍ.
وَجُمْلَةُ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَيَانًا لِجُمْلَةِ لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ، فَالْجُمْلَةُ مَقُولَةٌ لِفِعْلِ وَقالَ اللَّهُ لِأَنَّ عَطْفَ الْبَيَانِ تَابِعٌ لِلْمُبَيَّنِ كَمَوْقِعِ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ (١) :
أَقُولُ لَهُ ارْحَلْ لَا تُقِيمَنَّ عِنْدَنَا فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ، وَبِذَلِكَ أُفِيدَ بِالْمَنْطُوقِ مَا أُفِيدَ قَبْلُ بِدَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ.
وَالضَّمِيرُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ:
وَقالَ اللَّهُ، أَيْ قَالَ اللَّهُ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ، وَهَذَا جَرْيٌ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ فِي حِكَايَةِ الْقَوْلِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ بِالْمَعْنَى كَمَا هُنَا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ [سُورَة الْمَائِدَة: ١١٧] فَ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مُفَسِّرُ «أَمَرْتَنِي»، وَفِعْلُ «أَمَرْتَنِي» فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ، وَاللَّهُ قَالَ لَهُ: قُلْ لَهُمُ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبَّكَ وَرَبَّهُمْ، فَحَكَاهُ بِالْمَعْنَى، فَقَالَ: رَبِّي.
وَالْقَصْرُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ قَصْرٌ مَوْصُوفٌ عَلَى صِفَةٍ، أَيِ اللَّهُ مُخْتَصٌّ بِصِفَةِ تَوَحُّدِ الْإِلَهِيَّةِ، وَهُوَ قَصْرُ قَلْبٍ لِإِبْطَالِ دَعْوَى تَثْنِيَةِ الْإِلَهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ مُعْتَرِضَةً وَاقِعَةً تَعْلِيلًا لِجُمْلَةِ لَا تَتَّخِذُوا
إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ أَيْ نَهَى اللَّهُ عَنِ اتِّخَاذِ إِلَهَيْنِ لِأَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ، أَيْ وَاللَّهُ هُوَ مُسَمَّى إِلَهٍ فَاتِّخَاذُ إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ قَلْبٌ لِحَقِيقَةِ الْإِلَهِيَّةِ.
_________
(١) هَذَا الْبَيْت من شَوَاهِد النَّحْو وَعلم الْمعَانِي وَتَمام الْبَيْت:
وَلَا فَكُن فِي السِّرّ والجهر مُسلما وَلَا يعرف قَائِله.
173
وَحَصْرُ صِفَةِ الْوَحْدَانِيَّةِ فِي عَلَمِ الْجَلَالَةِ بِالنَّظَرِ إِلَى أَنَّ مُسَمَّى ذَلِكَ الْعَلَمِ مُسَاوٍ لِمُسَمَّى إِلَهٍ، إِذِ الْإِلَهُ مُنْحَصِرٌ فِي مُسَمَّى ذَلِكَ الْعَلَمِ.
وَتَفْرِيعُ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَفْرِيعًا عَلَى جُمْلَةِ لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ فَيَكُونُ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ مِنْ مَقُولِ الْقَوْلِ، وَيَكُونُ فِي ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ قَوْلِهِ:
فَارْهَبُونِ الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَفْرِيعًا عَلَى فِعْلِ وَقالَ اللَّهُ فَلَا يَكُونُ مِنْ مَقُولِ الْقَوْلِ، أَيْ قَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ فَلَا تَرْهَبُوا غَيْرِي. وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ الْتِفَاتٌ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ.
وَتَفَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ بِصِيغَةِ الْقَصْرِ، أَيْ قَصْرَ قَلْبٍ إِضَافِيًّا، أَيْ قَصَرَ الرَّهْبَةَ التَّامَّةَ مِنْهُ عَلَيْهِ فَلَا اعْتِدَادَ بِقُدْرَةِ غَيْرِهِ عَلَى ضُرِّ أَحَدٍ. وَهُوَ رَدٌّ عَلَى الَّذِينَ يَرْهَبُونَ إِلَهَ الشَّرِّ فَالْمَقْصُودُ هُوَ الْمَرْهُوبُ.
وَالِاقْتِصَارُ عَلَى الْأَمْرِ بِالرَّهْبَةِ وَقَصْرُهَا عَلَى كَوْنِهَا مِنَ اللَّهِ يُفْهَمُ مِنْهُ الْأَمْرُ بِقَصْرِ الرَّغْبَةِ عَلَيْهِ لِدَلَالَةِ قَصْرِ الرَّهْبَةِ عَلَى اعْتِقَادِ قَصْرِ الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ عَلَيْهِ تَعَالَى فَيُفِيدُ الرَّدَّ عَلَى الَّذِينَ يَطْمَعُونَ فِي إِلَهِ الْخَيْرِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى الرَّهْبَةِ لِأَن شَأْن المزدكية أَنْ تَكُونَ عِبَادَتُهُمْ عَنْ خَوْفِ إِلَهِ الشَّرِّ لِأَنَّ إِلَهَ الْخَيْرِ هُمْ فِي أَمْنٍ مِنْهُ فَإِنَّهُ مَطْبُوعٌ عَلَى الْخَيْرِ.
وَوَقَعَ فِي ضَمِيرِ فَإِيَّايَ الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ لِمُنَاسَبَةِ انْتِقَالِ الْكَلَامِ مِنْ تَقْرِيرِ دَلِيلِ وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ عَلَى وَجْهٍ كُلِّيٍّ إِلَى تَعْيِينِ هَذَا الْوَاحِدِ أَنَّهُ اللَّهُ مُنَزِّلُ الْقُرْآنِ تَحْقِيقًا لِتَقْرِيرِ الْعَقِيدَةِ الْأَصْلِيَّةِ. وَفِي هَذَا الِالْتِفَاتِ اهْتِمَامٌ بِالرَّهْبَةِ لِمَا فِي الِالْتِفَاتِ مِنْ هَزِّ فَهْمِ الْمُخَاطَبِينَ. وَتَقَدَّمَ تَرْكِيبُ نَظِيرِهِ بِدُونِ الْتِفَاتٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَاقْتِرَانُ فِعْلِ فَارْهَبُونِ بِالْفَاءِ لِيَكُونَ تَفْرِيعًا عَلَى تَفْرِيعٍ فَيُفِيدُ مَفَادَ التَّأْكِيدِ لِأَنَّ تَعَلُّقَ فِعْلِ «ارْهَبُونِ» بِالْمَفْعُولِ لَفْظًا يَجْعَلُ الضَّمِيرَ
وَتَفْرِيعُ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَفْرِيعًا عَلَى جُمْلَةِ لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ فَيَكُونُ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ مِنْ مَقُولِ الْقَوْلِ، وَيَكُونُ فِي ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ قَوْلِهِ:
فَارْهَبُونِ الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَفْرِيعًا عَلَى فِعْلِ وَقالَ اللَّهُ فَلَا يَكُونُ مِنْ مَقُولِ الْقَوْلِ، أَيْ قَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ فَلَا تَرْهَبُوا غَيْرِي. وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ الْتِفَاتٌ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ.
وَتَفَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ بِصِيغَةِ الْقَصْرِ، أَيْ قَصْرَ قَلْبٍ إِضَافِيًّا، أَيْ قَصَرَ الرَّهْبَةَ التَّامَّةَ مِنْهُ عَلَيْهِ فَلَا اعْتِدَادَ بِقُدْرَةِ غَيْرِهِ عَلَى ضُرِّ أَحَدٍ. وَهُوَ رَدٌّ عَلَى الَّذِينَ يَرْهَبُونَ إِلَهَ الشَّرِّ فَالْمَقْصُودُ هُوَ الْمَرْهُوبُ.
وَالِاقْتِصَارُ عَلَى الْأَمْرِ بِالرَّهْبَةِ وَقَصْرُهَا عَلَى كَوْنِهَا مِنَ اللَّهِ يُفْهَمُ مِنْهُ الْأَمْرُ بِقَصْرِ الرَّغْبَةِ عَلَيْهِ لِدَلَالَةِ قَصْرِ الرَّهْبَةِ عَلَى اعْتِقَادِ قَصْرِ الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ عَلَيْهِ تَعَالَى فَيُفِيدُ الرَّدَّ عَلَى الَّذِينَ يَطْمَعُونَ فِي إِلَهِ الْخَيْرِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى الرَّهْبَةِ لِأَن شَأْن المزدكية أَنْ تَكُونَ عِبَادَتُهُمْ عَنْ خَوْفِ إِلَهِ الشَّرِّ لِأَنَّ إِلَهَ الْخَيْرِ هُمْ فِي أَمْنٍ مِنْهُ فَإِنَّهُ مَطْبُوعٌ عَلَى الْخَيْرِ.
وَوَقَعَ فِي ضَمِيرِ فَإِيَّايَ الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ لِمُنَاسَبَةِ انْتِقَالِ الْكَلَامِ مِنْ تَقْرِيرِ دَلِيلِ وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ عَلَى وَجْهٍ كُلِّيٍّ إِلَى تَعْيِينِ هَذَا الْوَاحِدِ أَنَّهُ اللَّهُ مُنَزِّلُ الْقُرْآنِ تَحْقِيقًا لِتَقْرِيرِ الْعَقِيدَةِ الْأَصْلِيَّةِ. وَفِي هَذَا الِالْتِفَاتِ اهْتِمَامٌ بِالرَّهْبَةِ لِمَا فِي الِالْتِفَاتِ مِنْ هَزِّ فَهْمِ الْمُخَاطَبِينَ. وَتَقَدَّمَ تَرْكِيبُ نَظِيرِهِ بِدُونِ الْتِفَاتٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَاقْتِرَانُ فِعْلِ فَارْهَبُونِ بِالْفَاءِ لِيَكُونَ تَفْرِيعًا عَلَى تَفْرِيعٍ فَيُفِيدُ مَفَادَ التَّأْكِيدِ لِأَنَّ تَعَلُّقَ فِعْلِ «ارْهَبُونِ» بِالْمَفْعُولِ لَفْظًا يَجْعَلُ الضَّمِيرَ
174
الْمُنْفَصِلَ الْمَذْكُورَ قَبْلَهُ فِي تَقْدِيرِ مَعْمُولٍ لِفِعْلٍ آخَرَ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: فَإِيَّايَ ارْهَبُوا فَارْهَبُونِ، أَيْ أَمَرْتُكُمْ بِأَنْ تَقْصُرُوا رَهْبَتَكُمْ عَلَيَّ فَارْهَبُونِ امتثالا لِلْأَمْرِ.
[٥٢]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٥٢]
وَلَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (٥٢)
مُنَاسَبَةُ مَوْقِعِ جُمْلَةِ وَلَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَعْدَ جُمْلَةِ وَقالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ [سُورَة النَّحْل: ٥١] أَنَّ الَّذِينَ جَعَلُوا إِلَهَيْنِ جَعَلُوهُمَا النُّورَ وَالظُّلْمَةَ. وَإِذْ كَانَ النُّورُ وَالظُّلْمَةُ مَظْهَرَيْنِ مِنْ مَظَاهِرِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ كَانَ الْمَعْنَى: أَنَّ مَا تَزْعُمُونَهُ إِلَهًا لِلْخَيْرِ وَإِلَهَا لِلشَّرِّ هُمَا مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ يُفِيدُ الْحَصْرَ فَدَخَلَ جَمِيعُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فِي مُفَادِ لَامِ الْمِلْكِ، فَأَفَادَ أَنَّ لَيْسَ لِغَيْرِهِ شَيْءٌ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا. فَانْتَفَى أَنْ يَكُونَ مَعَهُ إِلَهٌ آخَرُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعَهُ إِلَهٌ آخَرُ لَكَانَ لَهُ بَعْضُ الْمَخْلُوقَاتِ إِذْ لَا يُعْقَلُ إِلَهٌ بِدُونِ مَخْلُوقَاتٍ.
وَضَمِيرُ لَهُ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ مِنْ قَوْلِهِ: وَقالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ.
فَعَطْفُهُ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ [سُورَة النَّحْل: ٥١] لِأَنَّ عَظَمَةَ الْإِلَهِيَّةِ اقْتَضَتِ الرَّهْبَةَ مِنْهُ وَقَصْرَهَا عَلَيْهِ، فَنَاسَبَ أَنْ يُشَارَ إِلَى أَنَّ صِفَةَ الْمَالِكِيَّةِ تَقْتَضِي إِفْرَادَهُ بِالْعِبَادَةِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَهُ الدِّينُ واصِباً فَالدِّينُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الطَّاعَةَ، مِنْ قَوْلِهِمْ: دَانَتِ الْقَبِيلَةُ لِلْمَلِكِ، أَيْ أَطَاعَتْهُ، فَهُوَ مِنْ مُتَمِّمَاتِ جُمْلَةِ وَلَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، لِأَنَّهُ لَمَّا قَصَرَ الْمَوْجُودَاتِ عَلَى الْكَوْنِ فِي مِلْكِهِ كَانَ حَقِيقًا بِقَصْرِ الطَّاعَةِ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ قَدَّمَ الْمَجْرُورَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى فِعْلِهِ كَمَا وَقَعَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا.
[٥٢]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٥٢]
وَلَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (٥٢)
مُنَاسَبَةُ مَوْقِعِ جُمْلَةِ وَلَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَعْدَ جُمْلَةِ وَقالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ [سُورَة النَّحْل: ٥١] أَنَّ الَّذِينَ جَعَلُوا إِلَهَيْنِ جَعَلُوهُمَا النُّورَ وَالظُّلْمَةَ. وَإِذْ كَانَ النُّورُ وَالظُّلْمَةُ مَظْهَرَيْنِ مِنْ مَظَاهِرِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ كَانَ الْمَعْنَى: أَنَّ مَا تَزْعُمُونَهُ إِلَهًا لِلْخَيْرِ وَإِلَهَا لِلشَّرِّ هُمَا مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ يُفِيدُ الْحَصْرَ فَدَخَلَ جَمِيعُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فِي مُفَادِ لَامِ الْمِلْكِ، فَأَفَادَ أَنَّ لَيْسَ لِغَيْرِهِ شَيْءٌ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا. فَانْتَفَى أَنْ يَكُونَ مَعَهُ إِلَهٌ آخَرُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعَهُ إِلَهٌ آخَرُ لَكَانَ لَهُ بَعْضُ الْمَخْلُوقَاتِ إِذْ لَا يُعْقَلُ إِلَهٌ بِدُونِ مَخْلُوقَاتٍ.
وَضَمِيرُ لَهُ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ مِنْ قَوْلِهِ: وَقالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ.
فَعَطْفُهُ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ [سُورَة النَّحْل: ٥١] لِأَنَّ عَظَمَةَ الْإِلَهِيَّةِ اقْتَضَتِ الرَّهْبَةَ مِنْهُ وَقَصْرَهَا عَلَيْهِ، فَنَاسَبَ أَنْ يُشَارَ إِلَى أَنَّ صِفَةَ الْمَالِكِيَّةِ تَقْتَضِي إِفْرَادَهُ بِالْعِبَادَةِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَهُ الدِّينُ واصِباً فَالدِّينُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الطَّاعَةَ، مِنْ قَوْلِهِمْ: دَانَتِ الْقَبِيلَةُ لِلْمَلِكِ، أَيْ أَطَاعَتْهُ، فَهُوَ مِنْ مُتَمِّمَاتِ جُمْلَةِ وَلَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، لِأَنَّهُ لَمَّا قَصَرَ الْمَوْجُودَاتِ عَلَى الْكَوْنِ فِي مِلْكِهِ كَانَ حَقِيقًا بِقَصْرِ الطَّاعَةِ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ قَدَّمَ الْمَجْرُورَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى فِعْلِهِ كَمَا وَقَعَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الدِّينُ بِمَعْنَى الدِّيَانَةِ، فَيَكُونُ تَذْيِيلًا لِجُمْلَةِ وَقالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ، لِأَنَّ إِبْطَالَ دِينِ الشِّرْكِ يُنَاسِبُهُ أَنْ لَا يَدِينَ النَّاسُ إِلَّا بِمَا يُشَرِّعُهُ اللَّهُ لَهُمْ، أَيْ هُوَ الَّذِي يُشَرِّعُ لَكُمُ الدِّينَ لَا غَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ الضَّلَالِ مِثْلُ عَمْرو بن لحيي، وَزَرَادَشْتَ، وَمَزْدَكَ، وَمَانِي، قَالَ تَعَالَى: أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [سُورَة الشورى: ٢١].
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الدِّينُ بِمَعْنَى الْجَزَاءِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَلِكِ يَوْم الدَّين [سُورَة الْفَاتِحَة: ٤]، فَيَكُونُ إِدْمَاجًا لِإِثْبَاتِ الْبَعْثِ الَّذِي يُنْكِرُهُ أُولَئِكَ أَيْضًا. وَالْمَعْنَى: لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَرْجِعُونَ إِلَى غَيْرِهِ وَلَا يَنْفَعُهُمْ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ.
وَالْوَاصِبُ: الثَّابِتُ الدَّائِمُ، وَهُوَ صَالِحٌ لِلِاحْتِمَالَاتِ الثَّلَاثَةِ، وَيَزِيدُ عَلَى الِاحْتِمَالِ الثَّالِثِ لِأَنَّهُ تَأْكِيدٌ لِرَدِّ إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ.
وَتَفَرَّعَ عَلَى هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ التَّوْبِيخُ عَلَى تَقْوَاهُمْ غَيْرَهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَّقُونَ إِلَهَ الشَّرِّ وَيَتَقَرَّبُونَ إِلَيْهِ ليأمنوا شرّه.
[٥٣، ٥٤]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : الْآيَات ٥٣ إِلَى ٥٤]
وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (٥٣) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٥٤)
عَطْفُ خَبَرٍ عَلَى خَبَرٍ. وَهُوَ انْتِقَالٌ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِمَصْنُوعَاتِ اللَّهِ الْكَائِنَةِ فِي ذَاتِ الْإِنْسَانِ وَفِيمَا يُحِيطُ بِهِ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِمَا سَاقَ اللَّهُ مِنَ النِّعَمِ، فَمِنَ النَّاسِ مُعْرِضُونَ عَنِ التَّدَبُّرِ فِيهَا وَعَنْ شُكْرِهَا وَهُمُ الْكَافِرُونَ، فَكَانَ فِي الْأَدِلَّةِ الْمَاضِيَةِ الْقَصْدُ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ ابْتِدَاءً مَتْبُوعًا بِالِامْتِنَانِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الدِّينُ بِمَعْنَى الْجَزَاءِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَلِكِ يَوْم الدَّين [سُورَة الْفَاتِحَة: ٤]، فَيَكُونُ إِدْمَاجًا لِإِثْبَاتِ الْبَعْثِ الَّذِي يُنْكِرُهُ أُولَئِكَ أَيْضًا. وَالْمَعْنَى: لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَرْجِعُونَ إِلَى غَيْرِهِ وَلَا يَنْفَعُهُمْ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ.
وَالْوَاصِبُ: الثَّابِتُ الدَّائِمُ، وَهُوَ صَالِحٌ لِلِاحْتِمَالَاتِ الثَّلَاثَةِ، وَيَزِيدُ عَلَى الِاحْتِمَالِ الثَّالِثِ لِأَنَّهُ تَأْكِيدٌ لِرَدِّ إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ.
وَتَفَرَّعَ عَلَى هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ التَّوْبِيخُ عَلَى تَقْوَاهُمْ غَيْرَهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَّقُونَ إِلَهَ الشَّرِّ وَيَتَقَرَّبُونَ إِلَيْهِ ليأمنوا شرّه.
[٥٣، ٥٤]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : الْآيَات ٥٣ إِلَى ٥٤]
وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (٥٣) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٥٤)
عَطْفُ خَبَرٍ عَلَى خَبَرٍ. وَهُوَ انْتِقَالٌ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِمَصْنُوعَاتِ اللَّهِ الْكَائِنَةِ فِي ذَاتِ الْإِنْسَانِ وَفِيمَا يُحِيطُ بِهِ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِمَا سَاقَ اللَّهُ مِنَ النِّعَمِ، فَمِنَ النَّاسِ مُعْرِضُونَ عَنِ التَّدَبُّرِ فِيهَا وَعَنْ شُكْرِهَا وَهُمُ الْكَافِرُونَ، فَكَانَ فِي الْأَدِلَّةِ الْمَاضِيَةِ الْقَصْدُ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ ابْتِدَاءً مَتْبُوعًا بِالِامْتِنَانِ.
176
وَتَغَيَّرَ الْأُسْلُوبُ هُنَا فَصَارَ الْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ هُوَ الِامْتِنَانُ بِالنِّعَمِ مُدْمَجًا فِيهِ الِاعْتِبَارُ بِالْخَلْقِ. فَالْخِطَابُ مُوَجَّهٌ إِلَى الْأُمَّةِ كُلِّهَا، وَلِذَلِكَ جَاءَ عَقِبَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ.
وَابْتُدِئَ بِالنِّعَمِ عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ إِجْمَالًا ثُمَّ ذُكِرَتْ مُهِمَّاتٌ مِنْهَا.
وَالْخِطَابُ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ تَذْكِيرًا لَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ رَبُّهُمْ لَا غَيْرُهُ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُنْعِمُ.
وَمَوْقِعُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ هُنَا أَنَّهُ لَمَّا أَبْطَلَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ وُجُودَ إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ (أَحَدُهُمَا فِعْلُهُ الْخَيْرُ وَالْآخَرُ فِعْلُهُ الشَّرُّ) أَعْقَبَهُ هُنَا بِأَنَّ الْخَيْرَ وَالضُّرَّ مِنْ تَصَرُّفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ يُعْطِي النِّعْمَةَ وَهُوَ كَاشِفُ الضُّرِّ.
وَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ مَا لَابَسَكُمْ وَاسْتَقَرَّ عِنْدَكُمْ، ومِنْ نِعْمَةٍ لِبَيَانِ إِبْهَامِ مَا الْمَوْصُولَةِ.
و (مِنْ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمِنَ اللَّهِ ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيْ وَاصِلَةٌ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ، أَيْ مِنْ عَطَاءِ اللَّهِ، لِأَنَّ النِّعْمَةَ لَا تَصْدُرُ عَنْ ذَاتِ اللَّهِ وَلَكِنْ عَنْ صِفَةِ قُدْرَتِهِ أَوْ عَنْ صِفَةِ فِعْلِهِ عِنْدَ مُثْبِتِي صِفَاتِ الْأَفْعَالِ. وَلَمَّا كَانَ مَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ مُفِيدًا لِلْعُمُومِ كَانَ الْإِخْبَارُ عَنْهُ بِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُغْنِيًا عَنِ الْإِتْيَانِ بِصِيغَةِ قَصْرٍ.
وثُمَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ لِلتَّرَاخِي الرُّتَبِي كَمَا هُوَ شَأْنُهَا الْغَالِبُ فِي عَطْفِهَا الْجُمَلَ، لِأَنَّ اللَّجَأَ إِلَى اللَّهِ عِنْدَ حُصُولِ الضُّرِّ أَعْجَبُ إِخْبَارًا مِنَ الْإِخْبَارِ
بِأَنَّ النِّعَمَ كُلَّهَا مِنَ اللَّهِ، وَمَضْمُونُ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ أَبْعَدُ فِي النَّظَرِ مِنْ مَضْمُونِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا.
وَالْمَقْصُودُ: تَقْرِيرُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ مُدَبِّرُ أَسْبَابِ مَا بِهِمْ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ يَخْلُقُ إِلَّا هُوَ، وَإِنَّهُمْ لَا يَلْتَجِئُونَ إِلَّا إِلَيْهِ إِذَا أَصَابَهُمْ ضُرٌّ، وَهُوَ ضِدُّ النِّعْمَةِ.
وَابْتُدِئَ بِالنِّعَمِ عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ إِجْمَالًا ثُمَّ ذُكِرَتْ مُهِمَّاتٌ مِنْهَا.
وَالْخِطَابُ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ تَذْكِيرًا لَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ رَبُّهُمْ لَا غَيْرُهُ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُنْعِمُ.
وَمَوْقِعُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ هُنَا أَنَّهُ لَمَّا أَبْطَلَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ وُجُودَ إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ (أَحَدُهُمَا فِعْلُهُ الْخَيْرُ وَالْآخَرُ فِعْلُهُ الشَّرُّ) أَعْقَبَهُ هُنَا بِأَنَّ الْخَيْرَ وَالضُّرَّ مِنْ تَصَرُّفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ يُعْطِي النِّعْمَةَ وَهُوَ كَاشِفُ الضُّرِّ.
وَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ مَا لَابَسَكُمْ وَاسْتَقَرَّ عِنْدَكُمْ، ومِنْ نِعْمَةٍ لِبَيَانِ إِبْهَامِ مَا الْمَوْصُولَةِ.
و (مِنْ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمِنَ اللَّهِ ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيْ وَاصِلَةٌ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ، أَيْ مِنْ عَطَاءِ اللَّهِ، لِأَنَّ النِّعْمَةَ لَا تَصْدُرُ عَنْ ذَاتِ اللَّهِ وَلَكِنْ عَنْ صِفَةِ قُدْرَتِهِ أَوْ عَنْ صِفَةِ فِعْلِهِ عِنْدَ مُثْبِتِي صِفَاتِ الْأَفْعَالِ. وَلَمَّا كَانَ مَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ مُفِيدًا لِلْعُمُومِ كَانَ الْإِخْبَارُ عَنْهُ بِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُغْنِيًا عَنِ الْإِتْيَانِ بِصِيغَةِ قَصْرٍ.
وثُمَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ لِلتَّرَاخِي الرُّتَبِي كَمَا هُوَ شَأْنُهَا الْغَالِبُ فِي عَطْفِهَا الْجُمَلَ، لِأَنَّ اللَّجَأَ إِلَى اللَّهِ عِنْدَ حُصُولِ الضُّرِّ أَعْجَبُ إِخْبَارًا مِنَ الْإِخْبَارِ
بِأَنَّ النِّعَمَ كُلَّهَا مِنَ اللَّهِ، وَمَضْمُونُ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ أَبْعَدُ فِي النَّظَرِ مِنْ مَضْمُونِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا.
وَالْمَقْصُودُ: تَقْرِيرُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ مُدَبِّرُ أَسْبَابِ مَا بِهِمْ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ يَخْلُقُ إِلَّا هُوَ، وَإِنَّهُمْ لَا يَلْتَجِئُونَ إِلَّا إِلَيْهِ إِذَا أَصَابَهُمْ ضُرٌّ، وَهُوَ ضِدُّ النِّعْمَةِ.
177
وَمَسُّ الضُّرِّ: حُلُولُهُ. اسْتُعِيرَ الْمَسُّ لِلْحُصُولِ الْخَفِيفِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى ضِيقِ صَبْرِ الْإِنْسَانِ بِحَيْثُ إِنَّهُ يَجْأَرُ إِلَى اللَّهِ بِحُصُولِ أَدْنَى شَيْءٍ مِنَ الضُّرِّ لَهُ. وَتَقَدَّمَ اسْتِعْمَالُ الْمَسِّ فِي الْإِصَابَةِ الْخَفِيفَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ فِي سُورَة الْأَنْعَام [١٧].
وتَجْئَرُونَ تَصْرُخُونَ بِالتَّضَرُّعِ. وَالْمَصْدَرُ: الْجُؤَارُ، بِصِيغَةِ أَسْمَاءِ الْأَصْوَاتِ.
وَأَتْبَعَ هَذِهِ بِنِعْمَةٍ أُخْرَى وَهِيَ نِعْمَةُ كَاشِفِ الضُّرِّ عَنِ النَّاسِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ الْآيَةَ.
وثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتَبِيِّ كَمَا هُوَ شَأْنُهَا فِي عَطْفِ الْجُمَلِ. وَجِيءَ بِحَرْفِ ثُمَّ لِأَنَّ مَضْمُونَ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ أَبْعَدُ فِي النَّظَرِ مِنْ مَضْمُونِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا فَإِنَّ الْإِعْرَاضَ عَنِ الْمُنْعِمِ بِكَشْفِ الضُّرِّ وَإِشْرَاكِ غَيْرِهِ بِهِ فِي الْعِبَادَةِ أَعْجَبُ حَالًا وَأَبْعَدُ حُصُولًا مِنَ اللَّجَأِ إِلَيْهِ عِنْدَ الشِّدَّةِ.
وَالْمَقْصُودُ تَسْجِيلُ كُفْرَانِ الْمُشْرِكِينَ، وَإِظْهَارُ رَأْفَةِ اللَّهِ بِالْخَلْقِ بِكَشْفِ الضُّرِّ عَنْهُمْ عِنْدَ الْتِجَائِهِمْ إِلَيْهِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ مِنْ أُولَئِكَ مَنْ يُشْرِكُ بِهِ وَيَسْتَمِرُّ عَلَى شِرْكِهِ بَعْدَ كَشْفِ الضُّرِّ عَنْهُ.
وإِذا الْأُولَى مُضَمَّنَةٌ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَهِيَ ظَرْفٌ. وإِذا الثَّانِيَةُ فُجَائِيَّةٌ. وَالْإِتْيَانُ بِحَرْفِ الْمُفَاجَأَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى إِسْرَاعِ هَذَا الْفَرِيقِ بِالرُّجُوعِ إِلَى الشِّرْكِ وَأَنَّهُ لَا يَتَرَيَّثُ إِلَى أَنْ يَبْعُدَ الْعَهْدُ بِنِعْمَةِ كَشْفِ الضُّرِّ عَنْهُ بِحَيْثُ يُفْجَأُونَ بِالْكُفْرِ دُفْعَةً دُونَ أَنْ يَتَرَقَّبَهُ مِنْهُمْ مُتَرَقِّبٌ، فَكَانَ الْفَرِيقُ الْمَعْنِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ فريق الْمُشْركين.
[٥٥]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٥٥]
لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٥٥)
لَامُ التَّعْلِيلِ مُتَعَلِّقَةٌ بِفعل يُشْرِكُونَ [سُورَة النَّحْل: ٥٤] الَّذِي هُوَ مِنْ جَوَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ [سُورَة النَّحْل: ٥٤]. وَالْكُفْرُ هُنَا كُفْرُ النِّعْمَةِ، وَلِذَلِكَ
عَلَّقَ بِهِ قَوْلَهُ تَعَالَى:
وتَجْئَرُونَ تَصْرُخُونَ بِالتَّضَرُّعِ. وَالْمَصْدَرُ: الْجُؤَارُ، بِصِيغَةِ أَسْمَاءِ الْأَصْوَاتِ.
وَأَتْبَعَ هَذِهِ بِنِعْمَةٍ أُخْرَى وَهِيَ نِعْمَةُ كَاشِفِ الضُّرِّ عَنِ النَّاسِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ الْآيَةَ.
وثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتَبِيِّ كَمَا هُوَ شَأْنُهَا فِي عَطْفِ الْجُمَلِ. وَجِيءَ بِحَرْفِ ثُمَّ لِأَنَّ مَضْمُونَ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ أَبْعَدُ فِي النَّظَرِ مِنْ مَضْمُونِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا فَإِنَّ الْإِعْرَاضَ عَنِ الْمُنْعِمِ بِكَشْفِ الضُّرِّ وَإِشْرَاكِ غَيْرِهِ بِهِ فِي الْعِبَادَةِ أَعْجَبُ حَالًا وَأَبْعَدُ حُصُولًا مِنَ اللَّجَأِ إِلَيْهِ عِنْدَ الشِّدَّةِ.
وَالْمَقْصُودُ تَسْجِيلُ كُفْرَانِ الْمُشْرِكِينَ، وَإِظْهَارُ رَأْفَةِ اللَّهِ بِالْخَلْقِ بِكَشْفِ الضُّرِّ عَنْهُمْ عِنْدَ الْتِجَائِهِمْ إِلَيْهِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ مِنْ أُولَئِكَ مَنْ يُشْرِكُ بِهِ وَيَسْتَمِرُّ عَلَى شِرْكِهِ بَعْدَ كَشْفِ الضُّرِّ عَنْهُ.
وإِذا الْأُولَى مُضَمَّنَةٌ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَهِيَ ظَرْفٌ. وإِذا الثَّانِيَةُ فُجَائِيَّةٌ. وَالْإِتْيَانُ بِحَرْفِ الْمُفَاجَأَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى إِسْرَاعِ هَذَا الْفَرِيقِ بِالرُّجُوعِ إِلَى الشِّرْكِ وَأَنَّهُ لَا يَتَرَيَّثُ إِلَى أَنْ يَبْعُدَ الْعَهْدُ بِنِعْمَةِ كَشْفِ الضُّرِّ عَنْهُ بِحَيْثُ يُفْجَأُونَ بِالْكُفْرِ دُفْعَةً دُونَ أَنْ يَتَرَقَّبَهُ مِنْهُمْ مُتَرَقِّبٌ، فَكَانَ الْفَرِيقُ الْمَعْنِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ فريق الْمُشْركين.
[٥٥]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٥٥]
لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٥٥)
لَامُ التَّعْلِيلِ مُتَعَلِّقَةٌ بِفعل يُشْرِكُونَ [سُورَة النَّحْل: ٥٤] الَّذِي هُوَ مِنْ جَوَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ [سُورَة النَّحْل: ٥٤]. وَالْكُفْرُ هُنَا كُفْرُ النِّعْمَةِ، وَلِذَلِكَ
عَلَّقَ بِهِ قَوْلَهُ تَعَالَى:
178
بِما آتَيْناهُمْ أَيْ مِنَ النِّعَمِ. وَكُفْرُ النِّعْمَةِ لَيْسَ هُوَ الْبَاعِثُ عَلَى الْإِشْرَاكِ فَإِنَّ إِشْرَاكَهُمْ سَابِقٌ عَلَى ذَلِكَ وَقَدِ اسْتَصْحَبُوهُ عَقِبَ كَشْفِ الضُّرِّ عَنْهُمْ، وَلَكِنْ شُبِّهَتْ مُقَارَنَةُ عَوْدِهِمْ إِلَى الشِّرْكِ بَعْدَ كَشْفِ الضُّرِّ عَنْهُمْ بِمُقَارَنَةِ الْعِلَّةِ الْبَاعِثَةِ عَلَى عَمَلٍ لِذَلِكَ الْعَمَلِ. وَوَجْهُ الشَّبَهِ مُبَادَرَتُهُمْ لِكُفْرِ النِّعْمَةِ دُونَ تَرَيُّثٍ.
فَاسْتُعِيرَ لِهَذِهِ الْمُقَارَنَةِ لَامُ التَّعْلِيلِ، وَهِيَ اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ تَمْلِيحِيَّةٌ تَهَكُّمِيَّةٌ وَمِثْلُهَا كَثِيرُ الْوُقُوعِ فِي الْقُرْآنِ. وَقَدْ سَمَّى كَثِيرٌ مِنَ النُّحَاةِ هَذِهِ اللَّامَ لَامَ الْعَاقِبَةِ، وَمِثَالُهَا عِنْدَهُمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [سُورَة الْقَصَص: ٨]، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي مَوَاضِعَ آخِرُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ فِي هَذِه السُّورَة [النَّحْل: ٢٥].
وَضَمِيرُ لِيَكْفُرُوا عَائِدٌ إِلَى فَرِيقٌ [سُورَة النَّحْل: ٥٤] بِاعْتِبَارِ دَلَالَتِهِ عَلَى جَمْعٍ مِنَ النَّاسِ.
وَالْإِيتَاءُ: الْإِعْطَاءُ. وَهُوَ مُسْتَعَارٌ لِلْإِنْعَامِ بِالْحَالَةِ النَّافِعَةِ، لِأَنَّ شَأْنَ الْإِعْطَاءِ أَنْ يَكُونَ تَمْكِينًا بِالْمَأْخُوذِ الْمَحْبُوبِ.
وَعَبَّرَ بِالْمَوْصُولِ بِما آتَيْناهُمْ لِمَا تُؤْذِنُ بِهِ الصِّلَةُ مِنْ كَوْنِهِ نِعْمَةً تَفْظِيعًا لِكُفْرَانِهِمْ بِهَا، لِأَنَّ كُفْرَانَ النِّعْمَةِ قَبِيح عِنْد تجميع الْعُقَلَاءِ.
وَفَرَّعَ عَلَيْهِ مُخَاطَبَتَهُمْ بِأَمْرِهِمْ بِالتَّمَتُّعِ أَمْرَ إِمْهَالٍ وَقِلَّةَ اكْتِرَاثٍ بِهِمْ وَهُوَ فِي مَعْنَى التَّخْلِيَةِ.
وَالتَّمَتُّعُ: الِانْتِفَاعُ بِالْمَتَاعِ. وَالْمَتَاعُ الشَّيْءُ الَّذِي يُنْتَفَعُ بِهِ انْتِفَاعًا مَحْبُوبًا وَيُسَرُّ بِهِ.
وَيُقَالُ: تَمَتَّعَ بِكَذَا وَاسْتَمْتَعَ. وَتَقَدَّمَ الْمَتَاعُ فِي آخِرِ سُورَةِ بَرَاءَةٍ.
وَالْخِطَابُ لِلْفَرِيقِ الَّذِينَ يُشْرِكُونَ بِرَبِّهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مَقُولٌ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ. لِأَنَّهُ جَاءَ مُفَرَّعًا عَلَى كَلَامٍ خُوطِبَ بِهِ النَّاسُ كُلُّهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ، فَيَكُونُ الْمُفَرَّعُ مِنْ تَمَامِ مَا تَفَرَّعَ عَلَيْهِ. وَذَلِكَ يُنَافِي الِالْتِفَاتَ الَّذِي يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَرْجِعُ الضَّمِيرِ إِلَى مَرْجِعِ مَا قبله.
وَالْمعْنَى: فَنَقُول تَمَتَّعُوا بِالنِّعَمِ الَّتِي أَنْتُمْ فِيهَا إِلَى أَمَدٍ.
فَاسْتُعِيرَ لِهَذِهِ الْمُقَارَنَةِ لَامُ التَّعْلِيلِ، وَهِيَ اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ تَمْلِيحِيَّةٌ تَهَكُّمِيَّةٌ وَمِثْلُهَا كَثِيرُ الْوُقُوعِ فِي الْقُرْآنِ. وَقَدْ سَمَّى كَثِيرٌ مِنَ النُّحَاةِ هَذِهِ اللَّامَ لَامَ الْعَاقِبَةِ، وَمِثَالُهَا عِنْدَهُمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [سُورَة الْقَصَص: ٨]، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي مَوَاضِعَ آخِرُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ فِي هَذِه السُّورَة [النَّحْل: ٢٥].
وَضَمِيرُ لِيَكْفُرُوا عَائِدٌ إِلَى فَرِيقٌ [سُورَة النَّحْل: ٥٤] بِاعْتِبَارِ دَلَالَتِهِ عَلَى جَمْعٍ مِنَ النَّاسِ.
وَالْإِيتَاءُ: الْإِعْطَاءُ. وَهُوَ مُسْتَعَارٌ لِلْإِنْعَامِ بِالْحَالَةِ النَّافِعَةِ، لِأَنَّ شَأْنَ الْإِعْطَاءِ أَنْ يَكُونَ تَمْكِينًا بِالْمَأْخُوذِ الْمَحْبُوبِ.
وَعَبَّرَ بِالْمَوْصُولِ بِما آتَيْناهُمْ لِمَا تُؤْذِنُ بِهِ الصِّلَةُ مِنْ كَوْنِهِ نِعْمَةً تَفْظِيعًا لِكُفْرَانِهِمْ بِهَا، لِأَنَّ كُفْرَانَ النِّعْمَةِ قَبِيح عِنْد تجميع الْعُقَلَاءِ.
وَفَرَّعَ عَلَيْهِ مُخَاطَبَتَهُمْ بِأَمْرِهِمْ بِالتَّمَتُّعِ أَمْرَ إِمْهَالٍ وَقِلَّةَ اكْتِرَاثٍ بِهِمْ وَهُوَ فِي مَعْنَى التَّخْلِيَةِ.
وَالتَّمَتُّعُ: الِانْتِفَاعُ بِالْمَتَاعِ. وَالْمَتَاعُ الشَّيْءُ الَّذِي يُنْتَفَعُ بِهِ انْتِفَاعًا مَحْبُوبًا وَيُسَرُّ بِهِ.
وَيُقَالُ: تَمَتَّعَ بِكَذَا وَاسْتَمْتَعَ. وَتَقَدَّمَ الْمَتَاعُ فِي آخِرِ سُورَةِ بَرَاءَةٍ.
وَالْخِطَابُ لِلْفَرِيقِ الَّذِينَ يُشْرِكُونَ بِرَبِّهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مَقُولٌ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ. لِأَنَّهُ جَاءَ مُفَرَّعًا عَلَى كَلَامٍ خُوطِبَ بِهِ النَّاسُ كُلُّهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ، فَيَكُونُ الْمُفَرَّعُ مِنْ تَمَامِ مَا تَفَرَّعَ عَلَيْهِ. وَذَلِكَ يُنَافِي الِالْتِفَاتَ الَّذِي يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَرْجِعُ الضَّمِيرِ إِلَى مَرْجِعِ مَا قبله.
وَالْمعْنَى: فَنَقُول تَمَتَّعُوا بِالنِّعَمِ الَّتِي أَنْتُمْ فِيهَا إِلَى أَمَدٍ.
179
وَفُرِّعَ عَلَيْهِ التَّهْدِيدُ بِأَنَّهُمْ سَيَعْلَمُونَ عَاقِبَةَ كُفْرَانِ النِّعْمَةِ بَعْدَ زَوَالِ التَّمَتُّعِ. وَحَذْفُ
مَفْعُولِ تَعْلَمُونَ لِظُهُورِهِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ أَيْ تَعْلَمُونَ جَزَاء كفركم.
[٥٦]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٥٦]
وَيَجْعَلُونَ لِما لَا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (٥٦)
عَطْفُ حَالَةٍ مِنْ أَحْوَالِ كُفْرِهِمْ لَهَا مِسَاسٌ بِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النِّعْمَةِ، فَهِيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [سُورَة النَّحْل: ٥٣]. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ عَلَى طَرِيقِ الِالْتِفَاتِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى يُشْرِكُونَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ [سُورَة النَّحْل: ٥٤].
وَمَا حُكِيَ هُنَا هُوَ من تَفَارِيعُ دِينِهِمُ النَّاشِئَةُ عَنْ إِشْرَاكِهِمْ وَالَّتِي هِيَ مِنْ تَفَارِيعِ كُفْرَانِ نِعْمَةِ رَبِّهِمْ، إِذْ جَعَلُوا فِي أَمْوَالِهِمْ حَقًّا لِلْأَصْنَامِ الَّتِي لَمْ تَرْزُقْهُمْ شَيْئًا. وَقَدْ مَرَّ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا [سُورَة النَّحْل: ١٣٦].
إِلَّا أَنَّهُ اقْتَصَرَ هُنَا عَلَى ذِكْرِ مَا جَعَلُوهُ لِشُرَكَائِهِمْ دُونَ مَا جَعَلُوهُ لِلَّهِ لِأَنَّ الْمَقَامَ هُنَا لِتَفْصِيلِ كُفْرَانِهِمُ النِّعْمَةَ، بِخِلَافِ مَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فَهُوَ مَقَامُ تَعْدَادِ أَحْوَالِ جَاهِلِيَّتِهِمْ وَإِنْ كَانَ كُلُّ ذَلِكَ مُنْكَرًا عَلَيْهِمْ، إِلَّا أَنَّ بَعْضَ الْكُفْرِ أَشَدُّ مِنْ بَعْضٍ.
وَالْجَعْلُ: التَّصْيِيرُ وَالْوَضْعُ. تَقُولُ: جَعَلْتُ لَكَ فِي مَالِي كَذَا. وَجِيءَ هُنَا بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَجَدُّدِ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَاسْتِمْرَارِهِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ [سُورَة النَّحْل: ٣٨] بِأَنَّهُ حِكَايَةُ قَضِيَّةٍ مَضَتْ مِنْ عِنَادِهِمْ وَجِدَالِهِمْ فِي أَمْرِ الْبَعْثِ.
مَفْعُولِ تَعْلَمُونَ لِظُهُورِهِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ أَيْ تَعْلَمُونَ جَزَاء كفركم.
[٥٦]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٥٦]
وَيَجْعَلُونَ لِما لَا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (٥٦)
عَطْفُ حَالَةٍ مِنْ أَحْوَالِ كُفْرِهِمْ لَهَا مِسَاسٌ بِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النِّعْمَةِ، فَهِيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [سُورَة النَّحْل: ٥٣]. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ عَلَى طَرِيقِ الِالْتِفَاتِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى يُشْرِكُونَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ [سُورَة النَّحْل: ٥٤].
وَمَا حُكِيَ هُنَا هُوَ من تَفَارِيعُ دِينِهِمُ النَّاشِئَةُ عَنْ إِشْرَاكِهِمْ وَالَّتِي هِيَ مِنْ تَفَارِيعِ كُفْرَانِ نِعْمَةِ رَبِّهِمْ، إِذْ جَعَلُوا فِي أَمْوَالِهِمْ حَقًّا لِلْأَصْنَامِ الَّتِي لَمْ تَرْزُقْهُمْ شَيْئًا. وَقَدْ مَرَّ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا [سُورَة النَّحْل: ١٣٦].
إِلَّا أَنَّهُ اقْتَصَرَ هُنَا عَلَى ذِكْرِ مَا جَعَلُوهُ لِشُرَكَائِهِمْ دُونَ مَا جَعَلُوهُ لِلَّهِ لِأَنَّ الْمَقَامَ هُنَا لِتَفْصِيلِ كُفْرَانِهِمُ النِّعْمَةَ، بِخِلَافِ مَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فَهُوَ مَقَامُ تَعْدَادِ أَحْوَالِ جَاهِلِيَّتِهِمْ وَإِنْ كَانَ كُلُّ ذَلِكَ مُنْكَرًا عَلَيْهِمْ، إِلَّا أَنَّ بَعْضَ الْكُفْرِ أَشَدُّ مِنْ بَعْضٍ.
وَالْجَعْلُ: التَّصْيِيرُ وَالْوَضْعُ. تَقُولُ: جَعَلْتُ لَكَ فِي مَالِي كَذَا. وَجِيءَ هُنَا بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَجَدُّدِ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَاسْتِمْرَارِهِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ [سُورَة النَّحْل: ٣٨] بِأَنَّهُ حِكَايَةُ قَضِيَّةٍ مَضَتْ مِنْ عِنَادِهِمْ وَجِدَالِهِمْ فِي أَمْرِ الْبَعْثِ.
180
وَمَفْعُولُ يَعْلَمُونَ مَحْذُوفٌ لِظُهُورِهِ، وَهُوَ ضَمِيرُ (مَا)، أَيْ لَا يَعْلَمُونَهُ. وَمِثْلُ حَذْفِ هَذَا الضَّمِيرِ كَثِيرٌ فِي الْكَلَام.
وَمَا صدق صلَة لِما لَا يَعْلَمُونَ هُوَ الْأَصْنَامُ، وَإِنَّمَا عُبِّرَ عَنْهَا بِهَذِهِ الصِّلَةِ زِيَادَةً فِي تَفْظِيعِ سَخَافَةِ آرَائِهِمْ، إِذْ يَفْرِضُونَ فِي أَمْوَالِهِمْ عَطَاءً يُعْطُونَهُ لِأَشْيَاءَ لَا يَعْلَمُونَ حَقَائِقَهَا بَلْهَ مَبْلَغِ مَا يَنَالُهُمْ مِنْهَا، وَتَخَيُّلَاتٍ يَتَخَيَّلُونَهَا لَيست من الْوُجُودِ وَلَا من الْإِدْرَاكِ وَلَا مِنَ الصَّلَاحِيَةِ لِلِانْتِفَاعِ فِي شَيْءٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ
مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ
. وَضمير تَعْلَمُونَ [سُورَة الْحجر: ٥٥] عَائِدٌ إِلَى مَعَادِ ضَمِيرِ يَجْعَلُونَ.
وَوَصْفُ النَّصِيبِ بِأَنَّهُ مِمَّا رَزَقْناهُمْ لِتَشْنِيعِ ظُلْمِهِمْ إِذْ تَرَكُوا الْمُنْعِمَ فَلَمْ يَتَقَرَّبُوا إِلَيْهِ بِمَا يُرْضِيهِ فِي أَمْوَالِهِمْ مِمَّا أَمَرَهُمْ بِالْإِنْفَاقِ فِيهِ كَإِعْطَاءِ الْمُحْتَاجِ، وَأَنْفَقُوا ذَلِكَ فِي التَّقَرُّبِ إِلَى أَشْيَاءَ مَوْهُومَةٍ لَمْ تَرْزُقْهُمْ شَيْئًا.
ثُمَّ وُجِّهَ الْخِطَابُ إِلَيْهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ لِقَصْدِ التَّهْدِيدِ. وَلَا مَانِعَ مِنْ الِالْتِفَاتِ هُنَا لِعَدَمِ وُجُودِ فَاءِ التَّفْرِيعِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَتَمَتَّعُوا [سُورَة النَّحْل: ٥٥].
وَتَصْدِيرُ جُمْلَةِ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ بِالْقَسَمِ لِتَحْقِيقِهِ، إِذِ السُّؤَالُ الْمَوْعُودُ بِهِ يَكُونُ يَوْمَ الْبَعْثِ وَهُمْ يُنْكِرُونَهُ فَنَاسَبَ أَنْ يُؤَكَّدَ.
وَالْقَسَمُ بِالتَّاءِ يَخْتَصُّ بِمَا يَكُونُ الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ أَمْرًا عَجِيبًا وَمُسْتَغْرَبًا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ فِي سُورَةِ يُوسُفَ [٧٣].
وَسَيَأْتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [٥٧]. فَالْإِتْيَانُ فِي الْقَسَمِ هُنَا بِحَرْفِ التَّاءِ مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُمْ يَسْأَلُونَ سُؤَالًا عَجِيبًا بِمِقْدَارِ غَرَابَةِ الْجُرْمِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ.
وَالسُّؤَالُ كِنَايَةٌ عَمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْعِقَابِ، لِأَنَّ عِقَابَ الْعَادِلِ يَكُونُ فِي الْعُرْفِ عَقِبَ سُؤَالِ الْمُجْرِمِ عَمَّا اقْتَرَفَهُ إِذْ لَعَلَّ لَهُ مَا يَدْفَعُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ،
وَمَا صدق صلَة لِما لَا يَعْلَمُونَ هُوَ الْأَصْنَامُ، وَإِنَّمَا عُبِّرَ عَنْهَا بِهَذِهِ الصِّلَةِ زِيَادَةً فِي تَفْظِيعِ سَخَافَةِ آرَائِهِمْ، إِذْ يَفْرِضُونَ فِي أَمْوَالِهِمْ عَطَاءً يُعْطُونَهُ لِأَشْيَاءَ لَا يَعْلَمُونَ حَقَائِقَهَا بَلْهَ مَبْلَغِ مَا يَنَالُهُمْ مِنْهَا، وَتَخَيُّلَاتٍ يَتَخَيَّلُونَهَا لَيست من الْوُجُودِ وَلَا من الْإِدْرَاكِ وَلَا مِنَ الصَّلَاحِيَةِ لِلِانْتِفَاعِ فِي شَيْءٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ
مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ
. وَضمير تَعْلَمُونَ [سُورَة الْحجر: ٥٥] عَائِدٌ إِلَى مَعَادِ ضَمِيرِ يَجْعَلُونَ.
وَوَصْفُ النَّصِيبِ بِأَنَّهُ مِمَّا رَزَقْناهُمْ لِتَشْنِيعِ ظُلْمِهِمْ إِذْ تَرَكُوا الْمُنْعِمَ فَلَمْ يَتَقَرَّبُوا إِلَيْهِ بِمَا يُرْضِيهِ فِي أَمْوَالِهِمْ مِمَّا أَمَرَهُمْ بِالْإِنْفَاقِ فِيهِ كَإِعْطَاءِ الْمُحْتَاجِ، وَأَنْفَقُوا ذَلِكَ فِي التَّقَرُّبِ إِلَى أَشْيَاءَ مَوْهُومَةٍ لَمْ تَرْزُقْهُمْ شَيْئًا.
ثُمَّ وُجِّهَ الْخِطَابُ إِلَيْهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ لِقَصْدِ التَّهْدِيدِ. وَلَا مَانِعَ مِنْ الِالْتِفَاتِ هُنَا لِعَدَمِ وُجُودِ فَاءِ التَّفْرِيعِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَتَمَتَّعُوا [سُورَة النَّحْل: ٥٥].
وَتَصْدِيرُ جُمْلَةِ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ بِالْقَسَمِ لِتَحْقِيقِهِ، إِذِ السُّؤَالُ الْمَوْعُودُ بِهِ يَكُونُ يَوْمَ الْبَعْثِ وَهُمْ يُنْكِرُونَهُ فَنَاسَبَ أَنْ يُؤَكَّدَ.
وَالْقَسَمُ بِالتَّاءِ يَخْتَصُّ بِمَا يَكُونُ الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ أَمْرًا عَجِيبًا وَمُسْتَغْرَبًا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ فِي سُورَةِ يُوسُفَ [٧٣].
وَسَيَأْتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [٥٧]. فَالْإِتْيَانُ فِي الْقَسَمِ هُنَا بِحَرْفِ التَّاءِ مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُمْ يَسْأَلُونَ سُؤَالًا عَجِيبًا بِمِقْدَارِ غَرَابَةِ الْجُرْمِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ.
وَالسُّؤَالُ كِنَايَةٌ عَمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْعِقَابِ، لِأَنَّ عِقَابَ الْعَادِلِ يَكُونُ فِي الْعُرْفِ عَقِبَ سُؤَالِ الْمُجْرِمِ عَمَّا اقْتَرَفَهُ إِذْ لَعَلَّ لَهُ مَا يَدْفَعُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ،
181
فَأَجْرَى اللَّهُ أَمرَ الْحِسَابِ يَوْمَ الْبَعْثِ عَلَى ذَلِكَ السَّنَنِ الشَّرِيفِ. وَالتَّعْبِيرُ عَنْهُ بِ كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ كِنَايَةٌ عَنِ اسْتِحْقَاقِهِمُ الْعِقَابَ لِأَنَّ الْكَذِبَ عَلَى اللَّهِ جَرِيمَةٌ.
وَالْإِتْيَانُ بِفِعْلِ الْكَوْنِ وَبِالْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الِافْتِرَاءَ كَانَ مِنْ شَأْنِهِمْ، وَكَانَ مُتَجَدِّدًا وَمُسْتَمِرًّا مِنْهُمْ، فَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ أَنْ يُقَالَ: عَمَّا تَفْتَرُونَ، وعمّا افتريتم.
[٥٧]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٥٧]
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (٥٧)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَيَجْعَلُونَ لِما لَا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ [سُورَة النَّحْل:
٥٦].
هَذَا اسْتِدْلَالٌ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِالْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ، وَهِيَ نِعْمَةُ النَّسْلِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ، أَيْ مَا يَشْتَهُونَ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ مِنَ الذُّرِّيَّةِ.
وَأُدْمِجَ فِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ وَهَذَا الِامْتِنَانِ ذِكْرُ ضَرْبٍ شَنِيعٍ مِنْ ضُرُوبِ كُفْرِهِمْ. وَهُوَ
افْتِرَاؤُهُمْ: أَنْ زَعَمُوا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ مِنْ سَرَوَاتِ الْجِنِّ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً [سُورَة الصافات: ١٥٨]. وَهُوَ اعْتِقَادُ قَبَائِلِ كِنَانَةَ وَخُزَاعَةَ.
وَالْجَعْلُ: هُنَا النِّسْبَةُ بِالْقَوْلِ.
وسُبْحانَهُ مَصْدَرٌ نَائِبٌ عَنِ الْفِعْلِ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ، وَهُوَ فِي مَحَلِّ جُمْلَةٍ مُعْتَرِضَةٍ وَقَعَتْ جَوَابًا عَنْ مَقَالَتِهِمُ السَّيِّئَةِ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا حِكَايَةُ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ إِذِ الْجَعْلُ فِيهِ جعل بالْقَوْل، فَقَوْلُهُ: سُبْحانَهُ مِثْلُ قَوْلِهِمْ: حَاشَ لِلَّهِ وَمَعَاذَ اللَّهِ، أَيْ تَنْزِيهًا لَهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ ذَلِك.
وَإِنَّا قُدِّمَ سُبْحانَهُ عَلَى قَوْلِهِ: وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ لِيَكُونَ نَصًّا فِي أَنَّ التَّنْزِيهَ عَنْ هَذَا الْجَعْلِ لِذَاتِهِ وَهُوَ نِسْبَةُ الْبُنُوَّةِ لِلَّهِ، لَا عَنْ جَعْلِهِمْ لَهُ خُصُوصَ الْبَنَاتِ دُونَ الذُّكُورِ الَّذِي هُوَ أَشَدُّ فَظَاعَةً، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَهُمْ
وَالْإِتْيَانُ بِفِعْلِ الْكَوْنِ وَبِالْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الِافْتِرَاءَ كَانَ مِنْ شَأْنِهِمْ، وَكَانَ مُتَجَدِّدًا وَمُسْتَمِرًّا مِنْهُمْ، فَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ أَنْ يُقَالَ: عَمَّا تَفْتَرُونَ، وعمّا افتريتم.
[٥٧]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٥٧]
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (٥٧)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَيَجْعَلُونَ لِما لَا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ [سُورَة النَّحْل:
٥٦].
هَذَا اسْتِدْلَالٌ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِالْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ، وَهِيَ نِعْمَةُ النَّسْلِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ، أَيْ مَا يَشْتَهُونَ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ مِنَ الذُّرِّيَّةِ.
وَأُدْمِجَ فِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ وَهَذَا الِامْتِنَانِ ذِكْرُ ضَرْبٍ شَنِيعٍ مِنْ ضُرُوبِ كُفْرِهِمْ. وَهُوَ
افْتِرَاؤُهُمْ: أَنْ زَعَمُوا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ مِنْ سَرَوَاتِ الْجِنِّ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً [سُورَة الصافات: ١٥٨]. وَهُوَ اعْتِقَادُ قَبَائِلِ كِنَانَةَ وَخُزَاعَةَ.
وَالْجَعْلُ: هُنَا النِّسْبَةُ بِالْقَوْلِ.
وسُبْحانَهُ مَصْدَرٌ نَائِبٌ عَنِ الْفِعْلِ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ، وَهُوَ فِي مَحَلِّ جُمْلَةٍ مُعْتَرِضَةٍ وَقَعَتْ جَوَابًا عَنْ مَقَالَتِهِمُ السَّيِّئَةِ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا حِكَايَةُ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ إِذِ الْجَعْلُ فِيهِ جعل بالْقَوْل، فَقَوْلُهُ: سُبْحانَهُ مِثْلُ قَوْلِهِمْ: حَاشَ لِلَّهِ وَمَعَاذَ اللَّهِ، أَيْ تَنْزِيهًا لَهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ ذَلِك.
وَإِنَّا قُدِّمَ سُبْحانَهُ عَلَى قَوْلِهِ: وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ لِيَكُونَ نَصًّا فِي أَنَّ التَّنْزِيهَ عَنْ هَذَا الْجَعْلِ لِذَاتِهِ وَهُوَ نِسْبَةُ الْبُنُوَّةِ لِلَّهِ، لَا عَنْ جَعْلِهِمْ لَهُ خُصُوصَ الْبَنَاتِ دُونَ الذُّكُورِ الَّذِي هُوَ أَشَدُّ فَظَاعَةً، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَهُمْ
مَا يَشْتَهُونَ، لِأَنَّ ذَلِكَ زِيَادَةٌ فِي التَّفْظِيعِ، فَقَوْلُهُ: وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَتَقْدِيمُ الْخَبَرِ فِي الْجُمْلَةِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِمْ فِي ذَلِكَ عَلَى طَرِيقَةِ التهكّم.
وَمَا صدق مَا يَشْتَهُونَ الْأَبْنَاءُ الذُّكُورُ بِقَرِينَةِ مُقَابَلَتِهِ بِالْبَنَاتِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى [سُورَة النَّحْل: ٥٨]، أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ لَهُمْ ذُكُورًا مِنْ أَبْنَائِهِمْ فَهَلَّا جَعَلُوا لِلَّهِ بَنِينَ وَبَنَاتٍ. وَهَذَا ارْتِقَاءٌ فِي إِفْسَاد معتقدهم بِحَسَبِ عُرْفِهِمْ وَإِلَّا فَإِنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ سَوَاءٌ لِلِاسْتِوَاءِ فِي التَّوَلُّدِ الَّذِي هُوَ مِنْ مُقْتَضَى الْحُدُوثِ الْمُنَزَّهِ عَنْهُ وَاجِبُ الْوُجُودِ.
وَسَيُخَصُّ هَذَا بِالْإِبْطَالِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ [سُورَة النَّحْل:
٦٢]. وَلِهَذَا اقْتُصِرَ هُنَا عَلَى لَفْظِ الْبَنَاتِ الدَّالِّ عَلَى الذَّوَاتِ، وَاقْتُصِرَ عَلَى أَنَّهُمْ يَشْتَهُونَ الْأَبْنَاءَ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ إِلَى كَرَاهَتِهِمُ الْبَنَاتِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَأْخُوذًا بِالْمَفْهُومِ لِأَنَّ ذَلِكَ دَرَجَةٌ أُخْرَى مِنْ كُفْرِهِمْ ستخصّ بالذّكر.
[٥٨، ٥٩]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : الْآيَات ٥٨ إِلَى ٥٩]
وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ مَا يَحْكُمُونَ (٥٩)
الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ وَاوَ الْحَالِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةً وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ اقْتَضَى الْإِطَالَةَ بِهَا أَنَّهَا مِنْ تفاريع
شركهم، فَهِيَ لذَلِك جديرة بِأَن تكون مَقْصُودَة بِالذكر كأخواتها. وَهَذَا أَوْلَى مِنْ أَنْ تُجْعَلَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ [سُورَة النَّحْل: ٥٧] الَّتِي هِيَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُفِيتُ قَصْدَهَا بِالْعَدِّ. وَهَذَا الْقَصْدُ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْمَقَامِ وَإِنْ كَانَ مَآلُ الِاعْتِبَارَيْنِ وَاحِدًا فِي حَاصِلِ الْمَعْنَى.
وَمَا صدق مَا يَشْتَهُونَ الْأَبْنَاءُ الذُّكُورُ بِقَرِينَةِ مُقَابَلَتِهِ بِالْبَنَاتِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى [سُورَة النَّحْل: ٥٨]، أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ لَهُمْ ذُكُورًا مِنْ أَبْنَائِهِمْ فَهَلَّا جَعَلُوا لِلَّهِ بَنِينَ وَبَنَاتٍ. وَهَذَا ارْتِقَاءٌ فِي إِفْسَاد معتقدهم بِحَسَبِ عُرْفِهِمْ وَإِلَّا فَإِنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ سَوَاءٌ لِلِاسْتِوَاءِ فِي التَّوَلُّدِ الَّذِي هُوَ مِنْ مُقْتَضَى الْحُدُوثِ الْمُنَزَّهِ عَنْهُ وَاجِبُ الْوُجُودِ.
وَسَيُخَصُّ هَذَا بِالْإِبْطَالِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ [سُورَة النَّحْل:
٦٢]. وَلِهَذَا اقْتُصِرَ هُنَا عَلَى لَفْظِ الْبَنَاتِ الدَّالِّ عَلَى الذَّوَاتِ، وَاقْتُصِرَ عَلَى أَنَّهُمْ يَشْتَهُونَ الْأَبْنَاءَ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ إِلَى كَرَاهَتِهِمُ الْبَنَاتِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَأْخُوذًا بِالْمَفْهُومِ لِأَنَّ ذَلِكَ دَرَجَةٌ أُخْرَى مِنْ كُفْرِهِمْ ستخصّ بالذّكر.
[٥٨، ٥٩]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : الْآيَات ٥٨ إِلَى ٥٩]
وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ مَا يَحْكُمُونَ (٥٩)
الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ وَاوَ الْحَالِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةً وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ اقْتَضَى الْإِطَالَةَ بِهَا أَنَّهَا مِنْ تفاريع
شركهم، فَهِيَ لذَلِك جديرة بِأَن تكون مَقْصُودَة بِالذكر كأخواتها. وَهَذَا أَوْلَى مِنْ أَنْ تُجْعَلَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ [سُورَة النَّحْل: ٥٧] الَّتِي هِيَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُفِيتُ قَصْدَهَا بِالْعَدِّ. وَهَذَا الْقَصْدُ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْمَقَامِ وَإِنْ كَانَ مَآلُ الِاعْتِبَارَيْنِ وَاحِدًا فِي حَاصِلِ الْمَعْنَى.
183
وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الْإِعْلَامِ بِازْدِيَادِ الْأُنْثَى بِفِعْلِ بُشِّرَ فِي مَوْضِعَيْنِ لِأَنَّهُ كَذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ إِذِ ازْدِيَادُ الْمَوْلُودِ نِعْمَةٌ عَلَى الْوَالِدِ لِمَا يَتَرَقَّبُهُ مِنَ التَّأَنُّسِ بِهِ وَمِزَاحِهِ وَالِانْتِفَاعِ بِخِدْمَتِهِ وَإِعَانَتِهِ عِنْدَ الِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ تَكْثِيرِ نَسْلِ الْقَبِيلَةِ الْمُوجِبِ عِزَّتَهَا، وَآصِرَةِ الصِّهْرِ.
ثُمَّ إِنَّ هَذَا مَعَ كَوْنِهِ بِشَارَةً فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَالتَّعْبِيرُ بِهِ يُفِيدُ تَعْرِيضًا بِالتَّهَكُّمِ بِهِمْ إِذْ يَعُدُّونَ الْبِشَارَةَ مُصِيبَةً وَذَلِكَ مِنْ تَحْرِيفِهِمُ الْحَقَائِقَ. وَالتَّعْرِيضُ مِنْ أَقْسَامِ الْكِنَايَةِ وَالْكِنَايَةُ تُجَامِعُ الْحَقِيقَةَ.
وَالْبَاءُ فِي بِالْأُنْثى لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ الْبِشَارَةِ وَعُلِّقَتْ بِذَاتِ الْأُنْثَى. وَالْمُرَادُ بِوِلَادَتِهَا، فَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ مَعْلُومٍ.
وَفِعْلُ ظَلَّ مِنْ أَفْعَالِ الْكَوْنِ أَخَوَاتِ كَانَ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى اتِّصَافِ فَاعِلِهَا بِحَالَةٍ لَازِمَةٍ فَلِذَلِكَ تَقْتَضِي فَاعِلًا مَرْفُوعًا يُدْعَى اسْمًا وَحَالًا لَازِمًا لَهُ مَنْصُوبًا يُدْعَى خَبَرًا لِأَنَّهُ شَبِيهٌ بِخَبَرِ الْمُبْتَدَأِ. وَسَمَّاهَا النُّحَاةُ لِذَلِكَ نَوَاسِخَ لِأَنَّهَا تَعْمَلُ فِيمَا لَوْلَاهَا لَكَانَ مُبْتَدَأً وَخَبَرًا فَلَمَّا تَغَيَّرَ مَعَهَا حُكْمُ الْخَبَرِ سُمِّيَتْ نَاسِخَةً لِرَفْعِهِ، كَمَا سُمِّيَتْ (إِنَّ) وَأَخَوَاتُهَا وَ (ظَنَّ) وَأَخَوَاتُهَا كَذَلِكَ. وَهُوَ اصْطِلَاحٌ تَقْرِيبِيٌّ وَلَيْسَ بِرَشِيقٍ.
وَيُسْتَعْمَلُ ظَلَّ بِمَعْنَى صَارَ. وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا.
وَاسْوِدَادُ الْوَجْهِ: مُسْتَعْمَلٌ فِي لَوْنِ وَجْهِ الْكَئِيبِ إِذْ تَرْهَقُهُ غَبَرَةٌ، فَشُبِّهَتْ بِالسَّوَادِ مُبَالَغَةً.
وَالْكَظِيمُ: الْغَضْبَانُ الْمَمْلُوءُ حَنَقًا. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَهُوَ كَظِيمٌ فِي سُورَةِ يُوسُفَ [٨٤]، أَيْ أَصْبَحَ حَنِقًا عَلَى امْرَأَتِهِ. وَهَذَا مِنْ جَاهِلِيَّتِهِمُ الْجَهْلَاءِ وَظُلْمِهِمْ، إِذْ يُعَامِلُونَ الْمَرْأَةَ مُعَامَلَةَ مَنْ لَوْ كَانَتْ وِلَادَةُ الذُّكُور باختيارها، وَلماذَا لَا يَحْنَقُ عَلَى نَفْسِهِ إِذْ يُلَقِّحُ امْرَأَتَهُ بِأُنْثَى، قَالَتْ إِحْدَى نِسَائِهِمْ أَنْشَدَهُ الْأَصْمَعِيُّ تَذْكُرُ بَعْلَهَا وَقَدْ هَجَرَهَا لِأَنَّهَا تَلِدُ الْبَنَاتِ:
ثُمَّ إِنَّ هَذَا مَعَ كَوْنِهِ بِشَارَةً فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَالتَّعْبِيرُ بِهِ يُفِيدُ تَعْرِيضًا بِالتَّهَكُّمِ بِهِمْ إِذْ يَعُدُّونَ الْبِشَارَةَ مُصِيبَةً وَذَلِكَ مِنْ تَحْرِيفِهِمُ الْحَقَائِقَ. وَالتَّعْرِيضُ مِنْ أَقْسَامِ الْكِنَايَةِ وَالْكِنَايَةُ تُجَامِعُ الْحَقِيقَةَ.
وَالْبَاءُ فِي بِالْأُنْثى لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ الْبِشَارَةِ وَعُلِّقَتْ بِذَاتِ الْأُنْثَى. وَالْمُرَادُ بِوِلَادَتِهَا، فَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ مَعْلُومٍ.
وَفِعْلُ ظَلَّ مِنْ أَفْعَالِ الْكَوْنِ أَخَوَاتِ كَانَ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى اتِّصَافِ فَاعِلِهَا بِحَالَةٍ لَازِمَةٍ فَلِذَلِكَ تَقْتَضِي فَاعِلًا مَرْفُوعًا يُدْعَى اسْمًا وَحَالًا لَازِمًا لَهُ مَنْصُوبًا يُدْعَى خَبَرًا لِأَنَّهُ شَبِيهٌ بِخَبَرِ الْمُبْتَدَأِ. وَسَمَّاهَا النُّحَاةُ لِذَلِكَ نَوَاسِخَ لِأَنَّهَا تَعْمَلُ فِيمَا لَوْلَاهَا لَكَانَ مُبْتَدَأً وَخَبَرًا فَلَمَّا تَغَيَّرَ مَعَهَا حُكْمُ الْخَبَرِ سُمِّيَتْ نَاسِخَةً لِرَفْعِهِ، كَمَا سُمِّيَتْ (إِنَّ) وَأَخَوَاتُهَا وَ (ظَنَّ) وَأَخَوَاتُهَا كَذَلِكَ. وَهُوَ اصْطِلَاحٌ تَقْرِيبِيٌّ وَلَيْسَ بِرَشِيقٍ.
وَيُسْتَعْمَلُ ظَلَّ بِمَعْنَى صَارَ. وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا.
وَاسْوِدَادُ الْوَجْهِ: مُسْتَعْمَلٌ فِي لَوْنِ وَجْهِ الْكَئِيبِ إِذْ تَرْهَقُهُ غَبَرَةٌ، فَشُبِّهَتْ بِالسَّوَادِ مُبَالَغَةً.
وَالْكَظِيمُ: الْغَضْبَانُ الْمَمْلُوءُ حَنَقًا. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَهُوَ كَظِيمٌ فِي سُورَةِ يُوسُفَ [٨٤]، أَيْ أَصْبَحَ حَنِقًا عَلَى امْرَأَتِهِ. وَهَذَا مِنْ جَاهِلِيَّتِهِمُ الْجَهْلَاءِ وَظُلْمِهِمْ، إِذْ يُعَامِلُونَ الْمَرْأَةَ مُعَامَلَةَ مَنْ لَوْ كَانَتْ وِلَادَةُ الذُّكُور باختيارها، وَلماذَا لَا يَحْنَقُ عَلَى نَفْسِهِ إِذْ يُلَقِّحُ امْرَأَتَهُ بِأُنْثَى، قَالَتْ إِحْدَى نِسَائِهِمْ أَنْشَدَهُ الْأَصْمَعِيُّ تَذْكُرُ بَعْلَهَا وَقَدْ هَجَرَهَا لِأَنَّهَا تَلِدُ الْبَنَاتِ:
184
يَغْضَبُ إِنْ لَمْ نَلِدِ الْبَنِينَا | وَإِنَّمَا نُعْطِي الَّذِي أُعْطِينَا |
ومِنَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ لِلِابْتِدَاءِ الْمَجَازِيِّ الْمُفِيدِ مَعْنَى التَّعْلِيلِ، لِأَنَّهُ يُقَالُ: فَعَلْتُ كَذَا مِنْ أَجْلِ كَذَا، قَالَ تَعَالَى: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ [سُورَة الْأَنْعَام: ١٥١]، أَيْ يَتَوَارَى مِنْ أَجْلِ تِلْكَ الْبِشَارَةِ.
وَجُمْلَةُ أَيُمْسِكُهُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ يَتَوارى، لِأَنَّهُ يَتَوَارَى حَيَاءً مِنَ النَّاسِ فَيَبْقَى مُتَوَارِيًا من قومه أَيَّامًا حَتَّى تُنْسَى قَضِيَّتُهُ. وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَيُمْسِكُهُ إِلَخْ، أَيْ يَتَوَارَى ويتردّد بَيْنَ أَحَدِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ بِحَيْثُ يَقُولُ فِي نَفْسِهِ: أَأُمْسِكُهُ عَلَى هَوْنٍ أَمْ أَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ. وَالْمُرَادُ: التَّرَدُّدُ فِي جَوَابِ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ.
وَالْهُونُ: الذُّلُّ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٩٣].
وَالدَّسُّ: إِخْفَاءُ الشَّيْءِ بَيْنَ أَجْزَاءِ شَيْءٍ آخَرَ كَالدَّفْنِ. وَالْمُرَادُ: الدَّفْنُ فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْوَأْدُ. وَكَانُوا يَئِدُونَ بَنَاتِهِمْ، بَعْضُهُمْ يَئِدُ بِحِدْثَانِ الْوِلَادَةِ، وَبَعْضُهُمْ يَئِدُ إِذَا يَفَعَتِ الْأُنْثَى وَمَشَتْ وَتَكَلَّمَتْ، أَيْ حِينَ تَظْهَرُ لِلنَّاسِ لَا يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهَا. وَذَلِكَ مِنْ أَفْظَعِ أَعْمَالِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانُوا مُتَمَالِئِينَ عَلَيْهِ وَيَحْسَبُونَهُ حَقًّا لِلْأَبِ فَلَا يُنْكِرُهَا الْجَمَاعَةُ عَلَى الْفَاعِلِ.
وَلِذَلِكَ سَمَّاهُ اللَّهُ حُكْمًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلا ساءَ مَا يَحْكُمُونَ. وَأَعْلَنَ ذَمُّهُ بِحَرْفِ أَلا لِأَنَّهُ جَوْرٌ عَظِيمٌ قَدْ تَمَالَأُوا عَلَيْهِ وَخَوَّلُوهُ لِلنَّاسِ ظُلْمًا للمخلوقات، فأسند الحكم إِلَى ضَمِيرِ الْجَمَاعَةِ مَعَ أَنَّ الْكَلَامَ كَانَ جَارِيًا عَلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ قَضَاءً لِحَقِّ هَذِه النُّكْتَة.
185
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٦٠]
لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٠)هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ جَوَابًا عَنْ مَقَالَتِهِمُ الَّتِي تَضَمَّنَهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى [سُورَة النَّحْل: ٥٨] فَإِن لَهَا ارتباطا بِجُمْلَةِ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ [سُورَة النَّحْل: ٥٧] كَمَا تَقَدَّمَ، فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ، جُمْلَةِ سُبْحانَهُ، غَيْرَ أَنَّ جُمْلَةَ سُبْحانَهُ جَوَابٌ بِتَنْزِيهِ اللَّهِ عَمَّا نَسَبُوهُ إِلَيْهِ، وَهَذِهِ جَوَابٌ بِتَحْقِيرِهِمْ عَلَى مَا يُعَامِلُونَ بِهِ الْبَنَاتِ مَعَ نِسْبَتِهِمْ إِلَى اللَّهِ هَذَا الصِّنْفَ الْمُحَقَّرَ عِنْدَهُمْ.
وَقَدْ جَرَى الْجَوَابُ عَلَى اسْتِعْمَال الْعَرَب عِنْد مَا يَسْمَعُونَ كَلَامًا مَكْرُوهًا أَوْ مُنْكَرًا أَنْ يَقُولُوا لِلنَّاطِقِ بِهِ: بفيك الْحجر، وبفيك الْكَثْكَثُ، وَيَقُولُونَ: تَرِبَتْ يَدَاكَ، وَتَرِبَتْ يَمِينُكَ، وَاخْسَأْ.
وَكَذَلِكَ جَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ شَتْمًا لَهُمْ.
وَالْمَثَلُ: الْحَالُ الْعَجِيبَةُ فِي الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى السُّوءِ لِلْبَيَانِ.
وَعُرِّفُوا بِ «الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ» لِأَنَّهُمُ اشْتَهَرُوا بِهَذِهِ الصِّلَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ [سُورَة النَّحْل:
٢٢]، وَقَوْلِهِ: بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ [سُورَة سبأ:
٨].
وَجُمْلَةُ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى عُطِفَتْ عَلَى جُمْلَةِ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ لِأَنَّ بِهَا تَكْمِلَةَ إِفْسَادِ قَوْلِهِمْ وَذَمِّ رَأْيِهِمْ، إِذْ نَسَبُوا إِلَى اللَّهِ الْوَلَدَ وَهُوَ مِنْ لَوَازِمِ الِاحْتِيَاجِ وَالْعَجْزِ. وَلَمَّا نَسَبُوا إِلَيْهِ ذَلِكَ خَصُّوهُ بِأَخَسِّ الصِّنْفَيْنِ عِنْدَهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ [سُورَة النَّحْل: ٦٢]، وَإِنْ لم يكن كَذَلِك فِي الْوَاقِعِ وَلَكِنَّ هَذَا جَرَى عَلَى اعْتِقَادِهِمْ وَمُؤَاخَذَةً لَهُمْ بِرَأْيِهِمْ.
وَ (الْأَعْلى) تَفْضِيلٌ، وَحُذِفَ الْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ لِقَصْدِ الْعُمُومِ، أَيْ أَعْلَى مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فِي الْعُلُوِّ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ.
وَالسَّوْءُ:- بِفَتْحِ السِّينِ- مَصْدَرُ سَاءَهُ، إِذَا عَمِلَ مَعَهُ مَا يَكْرَهُ. وَالسُّوءُ- بِضَمِّ السِّينِ- الِاسْمُ، تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٤٩].
وَالْمَثَلُ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ مَعَانِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فِي سُورَة الْبَقَرَةِ [١٧].
والْعَزِيزُ الْحَكِيمُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فِي سُورَة الْبَقَرَة [٢٠٩].
[٦١]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٦١]
وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٦١)
هَذَا اعْتِرَاضٌ فِي أَثْنَاءِ التَّوْبِيخِ عَلَى كُفْرِهِمُ الَّذِي مِنْ شَرَائِعِهِ وَأْدُ الْبَنَاتِ. فَأَمَّا وَصْفُ
جَعْلِهِمْ لِلَّهِ الْبَنَاتِ اللَّاتِي يَأْنَفُونَ مِنْهَا لِأَنْفُسِهِمْ، وَوَصَفَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ حُكْمُ سُوءٍ، وَوَصَفَ حَالَهُمْ بِأَنَّهَا مَثَلُ سَوْءٍ، وَعَرَّفَهُمْ بِأَخَصِّ عَقَائِدِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِالْوَعِيدِ عَلَى أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ.
وَالظُّلْمُ: الِاعْتِدَاءُ عَلَى الْحَقِّ. وَأَعْظَمُهُ الِاعْتِدَاءُ عَلَى حَقِّ الْخَالِقِ عَلَى مَخْلُوقَاتِهِ، وَهُوَ حَقُّ إِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ، وَلِذَلِكَ كَانَ الظُّلْمُ فِي الْقُرْآنِ إِذَا لَمْ يُعَدَّ إِلَى مفعول نحولَمُوا أَنْفُسَهُمْ
[سُورَة آل عمرَان: ١١٧] مُرَادًا مِنْهُ أَعْظَمُ الظُّلْمِ وَهُوَ الشِّرْكُ حَتَّى صَارَ ذَلِكَ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً فِي مُصْطَلَحِ الْقُرْآنِ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا مِنْ هَذَا الْإِنْذَارِ. وَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي هُوَ دُونَ الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ فَغَيْرُ مُرَادٍ هُنَا لِأَنَّهُ مَرَاتِبُ مُتَفَاوِتَةٌ كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا فَلَا يَقْتَضِي عِقَابَ الِاسْتِئْصَالِ عَلَى عُمُومِهِ.
وَالسَّوْءُ:- بِفَتْحِ السِّينِ- مَصْدَرُ سَاءَهُ، إِذَا عَمِلَ مَعَهُ مَا يَكْرَهُ. وَالسُّوءُ- بِضَمِّ السِّينِ- الِاسْمُ، تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٤٩].
وَالْمَثَلُ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ مَعَانِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فِي سُورَة الْبَقَرَةِ [١٧].
والْعَزِيزُ الْحَكِيمُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فِي سُورَة الْبَقَرَة [٢٠٩].
[٦١]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٦١]
وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٦١)
هَذَا اعْتِرَاضٌ فِي أَثْنَاءِ التَّوْبِيخِ عَلَى كُفْرِهِمُ الَّذِي مِنْ شَرَائِعِهِ وَأْدُ الْبَنَاتِ. فَأَمَّا وَصْفُ
جَعْلِهِمْ لِلَّهِ الْبَنَاتِ اللَّاتِي يَأْنَفُونَ مِنْهَا لِأَنْفُسِهِمْ، وَوَصَفَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ حُكْمُ سُوءٍ، وَوَصَفَ حَالَهُمْ بِأَنَّهَا مَثَلُ سَوْءٍ، وَعَرَّفَهُمْ بِأَخَصِّ عَقَائِدِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِالْوَعِيدِ عَلَى أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ.
وَالظُّلْمُ: الِاعْتِدَاءُ عَلَى الْحَقِّ. وَأَعْظَمُهُ الِاعْتِدَاءُ عَلَى حَقِّ الْخَالِقِ عَلَى مَخْلُوقَاتِهِ، وَهُوَ حَقُّ إِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ، وَلِذَلِكَ كَانَ الظُّلْمُ فِي الْقُرْآنِ إِذَا لَمْ يُعَدَّ إِلَى مفعول نحولَمُوا أَنْفُسَهُمْ
[سُورَة آل عمرَان: ١١٧] مُرَادًا مِنْهُ أَعْظَمُ الظُّلْمِ وَهُوَ الشِّرْكُ حَتَّى صَارَ ذَلِكَ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً فِي مُصْطَلَحِ الْقُرْآنِ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا مِنْ هَذَا الْإِنْذَارِ. وَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي هُوَ دُونَ الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ فَغَيْرُ مُرَادٍ هُنَا لِأَنَّهُ مَرَاتِبُ مُتَفَاوِتَةٌ كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا فَلَا يَقْتَضِي عِقَابَ الِاسْتِئْصَالِ عَلَى عُمُومِهِ.
187
وَالتَّعْرِيفُ فِي النَّاسَ يُحْمَلُ عَلَى تَعْرِيفِ الْجِنْسِ لِيَشْمَلَ جَمِيعَ النَّاسِ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَنْسَبُ بِمَقَامِ الزَّجْرِ، فَلَيْسَ قَوْلُهُ تَعَالَى: النَّاسَ مُرَادًا بِهِ خُصُوصُ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ الَّذِينَ عَادَتْ عَلَيْهِمُ الضَّمَائِرُ الْمُتَقَدِّمَةُ فِي قَوْلِهِ: لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ [سُورَة النَّحْل:
٥٥] وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الضَّمَائِرِ، وَبِذَلِكَ لَا يَكُونُ لَفْظُ النَّاسَ إِظْهَارًا فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ.
وَضَمِيرُ عَلَيْها صَادِقٌ عَلَى الْأَرْضِ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ فِي الْكَلَامِ فَإِنَّ الْمَقَامَ دَالٌّ عَلَيْهَا. وَذَلِكَ اسْتِعْمَالٌ مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ [سُورَة ص: ٣٢] يَعْنِي الشَّمْسَ، وَيَقُولُونَ: أَصْبَحَتْ بَارِدَةً، يُرِيدُونَ الْغَدَاةَ، وَيَقُولُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ:
مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا أَحَدٌ يَفْعَلُ كَذَا، يُرِيدُونَ لَابَتَيِ الْمَدِينَةِ.
وَالدَّابَّةُ: اسْمٌ لِمَا يَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ، أَيْ يَمْشِي، وَتَأْنِيثُهُ بِتَأْوِيلِ ذَاتٍ. وَخُصَّ اسْمُ دَابَّةٍ فِي الِاسْتِعْمَالِ بِالْإِطْلَاقِ عَلَى مَا عَدَا الْإِنْسَانِ مِمَّا يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ.
وَحَرْفُ لَوْ حَرْفُ امْتِنَاعٍ لِامْتِنَاعٍ، أَيْ حَرْفُ شَرْطٍ يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ وُقُوعِ جَوَابِهِ لِأَجْلِ امْتِنَاعِ وُقُوعِ شَرْطِهِ. وَشَرْطُ لَوْ مُلَازِمٌ لِلزَّمَنِ الْمَاضِي فَإِذَا وَقَعَ بَعْدَ لَوْ مُضَارِعٌ انْصَرَفَ إِلَى الْمَاضِي غَالِبًا.
فَالْمَعْنَى: لَوْ كَانَ اللَّهُ مُؤَاخِذًا الْخَلْقَ عَلَى شِرْكِهِمْ لَأَفْنَاهُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَأَفْنَى الدَّوَابَّ مَعَهُمْ، أَيْ وَلَكِنَّهُ لَمْ يُؤَاخِذْهُمْ.
وَدَلِيلُ انْتِفَاءِ شَرْطِ لَوْ هُوَ انْتِفَاءُ جَوَابِهَا، وَدَلِيلُ انْتِفَاءِ جَوَابِهَا هُوَ الْمُشَاهَدَةُ، فَإِنَّ النَّاسَ وَالدَّوَابَّ مَا زَالُوا مَوْجُودِينَ عَلَى الْأَرْضِ.
وَوَجْهُ الْمُلَازَمَةِ بَيْنَ مُؤَاخَذَةِ الظَّالِمِينَ بِذُنُوبِهِمْ وَبَيْنَ إِفْنَاءِ النَّاسِ غَيْرِ الظَّالِمِينَ وَإِفْنَاءِ الدَّوَابِّ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ النَّاسَ لِيَعْبُدُوهُ، أَيْ لِيَعْتَرِفُوا لَهُ بِالْإِلَهِيَّةِ وَالْوَحْدَانِيَّةِ فِيهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [سُورَة الذاريات: ٥٦]، وَأَنَّ ذَلِكَ مُودَعٌ فِي الْفِطْرَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَاتِهِمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا [سُورَة الْأَعْرَاف: ١٧٢].
٥٥] وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الضَّمَائِرِ، وَبِذَلِكَ لَا يَكُونُ لَفْظُ النَّاسَ إِظْهَارًا فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ.
وَضَمِيرُ عَلَيْها صَادِقٌ عَلَى الْأَرْضِ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ فِي الْكَلَامِ فَإِنَّ الْمَقَامَ دَالٌّ عَلَيْهَا. وَذَلِكَ اسْتِعْمَالٌ مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ [سُورَة ص: ٣٢] يَعْنِي الشَّمْسَ، وَيَقُولُونَ: أَصْبَحَتْ بَارِدَةً، يُرِيدُونَ الْغَدَاةَ، وَيَقُولُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ:
مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا أَحَدٌ يَفْعَلُ كَذَا، يُرِيدُونَ لَابَتَيِ الْمَدِينَةِ.
وَالدَّابَّةُ: اسْمٌ لِمَا يَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ، أَيْ يَمْشِي، وَتَأْنِيثُهُ بِتَأْوِيلِ ذَاتٍ. وَخُصَّ اسْمُ دَابَّةٍ فِي الِاسْتِعْمَالِ بِالْإِطْلَاقِ عَلَى مَا عَدَا الْإِنْسَانِ مِمَّا يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ.
وَحَرْفُ لَوْ حَرْفُ امْتِنَاعٍ لِامْتِنَاعٍ، أَيْ حَرْفُ شَرْطٍ يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ وُقُوعِ جَوَابِهِ لِأَجْلِ امْتِنَاعِ وُقُوعِ شَرْطِهِ. وَشَرْطُ لَوْ مُلَازِمٌ لِلزَّمَنِ الْمَاضِي فَإِذَا وَقَعَ بَعْدَ لَوْ مُضَارِعٌ انْصَرَفَ إِلَى الْمَاضِي غَالِبًا.
فَالْمَعْنَى: لَوْ كَانَ اللَّهُ مُؤَاخِذًا الْخَلْقَ عَلَى شِرْكِهِمْ لَأَفْنَاهُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَأَفْنَى الدَّوَابَّ مَعَهُمْ، أَيْ وَلَكِنَّهُ لَمْ يُؤَاخِذْهُمْ.
وَدَلِيلُ انْتِفَاءِ شَرْطِ لَوْ هُوَ انْتِفَاءُ جَوَابِهَا، وَدَلِيلُ انْتِفَاءِ جَوَابِهَا هُوَ الْمُشَاهَدَةُ، فَإِنَّ النَّاسَ وَالدَّوَابَّ مَا زَالُوا مَوْجُودِينَ عَلَى الْأَرْضِ.
وَوَجْهُ الْمُلَازَمَةِ بَيْنَ مُؤَاخَذَةِ الظَّالِمِينَ بِذُنُوبِهِمْ وَبَيْنَ إِفْنَاءِ النَّاسِ غَيْرِ الظَّالِمِينَ وَإِفْنَاءِ الدَّوَابِّ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ النَّاسَ لِيَعْبُدُوهُ، أَيْ لِيَعْتَرِفُوا لَهُ بِالْإِلَهِيَّةِ وَالْوَحْدَانِيَّةِ فِيهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [سُورَة الذاريات: ٥٦]، وَأَنَّ ذَلِكَ مُودَعٌ فِي الْفِطْرَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَاتِهِمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا [سُورَة الْأَعْرَاف: ١٧٢].
188
فَنِعْمَةُ الْإِيجَادِ تَقْضِي عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَشْكُرَ مُوجِدَهُ، فَإِذَا جَحَدَ وُجُودَهُ أَوْ جَحَدَ انْفِرَادَهُ بِالْإِلَهِيَّةِ فَقَدْ نَقَضَ الْعَهْدَ الَّذِي وُجِدَ عَلَى شَرْطِهِ، فَاسْتَحَقَّ الْمَحْوَ مِنَ الْوُجُودِ بِالِاسْتِئْصَالِ وَالْإِفْنَاءِ.
وَبِذَلِكَ تَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الظُّلْمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بِظُلْمِهِمْ الْإِشْرَاكُ أَوِ التَّعْطِيلُ.
وَأَمَّا مَا دُونَ ذَلِك من الاهتداء عَلَى حَقِّ اللَّهِ بِمَعْصِيَةِ أَمْرِهِ، أَوْ عَلَى حُقُوقِ الْمَخْلُوقَاتِ بِاغْتِصَابِهَا فَهُوَ مَرَاتِبُ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا اعْتِدَاءُ أَحَدٍ عَلَى وُجُودِ إِنْسَانٍ آخَرَ مُحْتَرَمِ الْحَيَاةِ فيعدمه عمدا، لذَلِك جَزَاؤُهُ الْإِفْنَاءُ لِأَنَّهُ أَفْنَى مُمَاثِلَهُ، وَلَا يَتَعَدَّاهُ إِلَى إِفْنَاءِ مَنْ مَعَهُ، وَمَا دُونُ ذَلِكَ مِنَ الظُّلْمِ لَهُ عِقَابٌ دُونَ ذَلِكَ، فَلَا يَسْتَحِقُّ شَيْءٌ غَيْرُ الشِّرْكِ الْإِهْلَاكَ، وَلَكِنْ شَأْنُ الْعِقَابِ أَنْ يُقْصَرَ عَلَى الْجَانِي.
فَوَجْهُ اقْتِضَاءِ الْعِقَابِ عَلَى الشِّرْكِ إِفْنَاءُ جَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ وَدَوَابِّهِمْ أَنَّ إِهْلَاكَ الظَّالِمِينَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِحَوَادِثَ عَظِيمَةٍ لَا تَتَحَدَّدُ بِمِسَاحَةِ دِيَارِهِمْ، لِأَنَّ أَسْبَابَ الْإِهْلَاكِ لَا تَتَحَدَّدُ فِي عَادَةِ نِظَامِ هَذَا الْعَالَمِ، فَلِذَلِكَ يَتَنَاوَلُ الْإِهْلَاكُ النَّاسَ غَيْرَ الظَّالِمِينَ وَيَتَنَاوَلُ دَوَابَّهُمْ.
وَإِذْ قَدْ كَانَ الظُّلْمُ، أَيِ الْإِشْرَاكُ لَمْ تَخْلُ مِنْهُ الْأَرْضُ لَزِمَ مِنْ إِهْلَاكِ أَهْلِ الظُّلْمِ سَرَيَانُ الْإِهْلَاكِ إِلَى جَمِيعِ بِقَاعِ الْأَرْضِ فَاضْمَحَلَّ النَّاسُ وَالدَّوَابُّ فَيَأْتِي الْفَنَاءُ فِي قُرُونٍ مُتَوَالِيَةٍ مِنْ زَمَنِ نُوحٍ مَثَلًا، فَلَا يُوجَدُ عَلَى الْأَرْضِ دَابَّةٌ فِي وَقْتِ نُزُولِ الْآيَةِ.
فَأَمَّا مَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْأُمَّةِ الْمُشْرِكَةِ مِنْ صَالِحِينَ فَإِنَّ اللَّهَ يُقَدِّرُ لِلصَّالِحِينَ أَسْبَابَ النَّجَاةِ بِأَحْوَالٍ خَارِقَةٍ لِلْعَادَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [سُورَة الزمر: ٦١]. وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ نَجَّى هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ، وَأَخْبَرَ بِأَنَّهُ نَجَّى أَنْبِيَاءَ آخَرِينَ. وَكَفَاكَ نَجَاةُ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مِنَ الطُّوفَانِ فِي السَّفِينَةِ.
وَقَدْ دَلَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أَنَّ تَأْخِيرَهُمْ مُتَفَاوِتُ
الْآجَالِ، فَفِي مَدَدِ تِلْكَ الْآجَالِ تَبْقَى أَقْوَامٌ كَثِيرَةٌ تَعْمُرُ بِهِمُ الْأَرْضُ، فَذَلِكَ سَبَبُ بَقَاءِ أُمَمٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَمِنْ حَوْلِهِمْ.
وَبِذَلِكَ تَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الظُّلْمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بِظُلْمِهِمْ الْإِشْرَاكُ أَوِ التَّعْطِيلُ.
وَأَمَّا مَا دُونَ ذَلِك من الاهتداء عَلَى حَقِّ اللَّهِ بِمَعْصِيَةِ أَمْرِهِ، أَوْ عَلَى حُقُوقِ الْمَخْلُوقَاتِ بِاغْتِصَابِهَا فَهُوَ مَرَاتِبُ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا اعْتِدَاءُ أَحَدٍ عَلَى وُجُودِ إِنْسَانٍ آخَرَ مُحْتَرَمِ الْحَيَاةِ فيعدمه عمدا، لذَلِك جَزَاؤُهُ الْإِفْنَاءُ لِأَنَّهُ أَفْنَى مُمَاثِلَهُ، وَلَا يَتَعَدَّاهُ إِلَى إِفْنَاءِ مَنْ مَعَهُ، وَمَا دُونُ ذَلِكَ مِنَ الظُّلْمِ لَهُ عِقَابٌ دُونَ ذَلِكَ، فَلَا يَسْتَحِقُّ شَيْءٌ غَيْرُ الشِّرْكِ الْإِهْلَاكَ، وَلَكِنْ شَأْنُ الْعِقَابِ أَنْ يُقْصَرَ عَلَى الْجَانِي.
فَوَجْهُ اقْتِضَاءِ الْعِقَابِ عَلَى الشِّرْكِ إِفْنَاءُ جَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ وَدَوَابِّهِمْ أَنَّ إِهْلَاكَ الظَّالِمِينَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِحَوَادِثَ عَظِيمَةٍ لَا تَتَحَدَّدُ بِمِسَاحَةِ دِيَارِهِمْ، لِأَنَّ أَسْبَابَ الْإِهْلَاكِ لَا تَتَحَدَّدُ فِي عَادَةِ نِظَامِ هَذَا الْعَالَمِ، فَلِذَلِكَ يَتَنَاوَلُ الْإِهْلَاكُ النَّاسَ غَيْرَ الظَّالِمِينَ وَيَتَنَاوَلُ دَوَابَّهُمْ.
وَإِذْ قَدْ كَانَ الظُّلْمُ، أَيِ الْإِشْرَاكُ لَمْ تَخْلُ مِنْهُ الْأَرْضُ لَزِمَ مِنْ إِهْلَاكِ أَهْلِ الظُّلْمِ سَرَيَانُ الْإِهْلَاكِ إِلَى جَمِيعِ بِقَاعِ الْأَرْضِ فَاضْمَحَلَّ النَّاسُ وَالدَّوَابُّ فَيَأْتِي الْفَنَاءُ فِي قُرُونٍ مُتَوَالِيَةٍ مِنْ زَمَنِ نُوحٍ مَثَلًا، فَلَا يُوجَدُ عَلَى الْأَرْضِ دَابَّةٌ فِي وَقْتِ نُزُولِ الْآيَةِ.
فَأَمَّا مَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْأُمَّةِ الْمُشْرِكَةِ مِنْ صَالِحِينَ فَإِنَّ اللَّهَ يُقَدِّرُ لِلصَّالِحِينَ أَسْبَابَ النَّجَاةِ بِأَحْوَالٍ خَارِقَةٍ لِلْعَادَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [سُورَة الزمر: ٦١]. وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ نَجَّى هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ، وَأَخْبَرَ بِأَنَّهُ نَجَّى أَنْبِيَاءَ آخَرِينَ. وَكَفَاكَ نَجَاةُ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مِنَ الطُّوفَانِ فِي السَّفِينَةِ.
وَقَدْ دَلَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أَنَّ تَأْخِيرَهُمْ مُتَفَاوِتُ
الْآجَالِ، فَفِي مَدَدِ تِلْكَ الْآجَالِ تَبْقَى أَقْوَامٌ كَثِيرَةٌ تَعْمُرُ بِهِمُ الْأَرْضُ، فَذَلِكَ سَبَبُ بَقَاءِ أُمَمٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَمِنْ حَوْلِهِمْ.
189
وَاقْتَضَى قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ دَابَّةٍ إِهْلَاكَ دَوَابِّ النَّاسِ مَعَهُمْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ ذَلِكَ، لَأَنَّ اسْتِئْصَالَ أُمَّةٍ يَشْتَمِلُ عَلَى اسْتِئْصَالِ دَوَابِّهَا، لِأَنَّ الدَّوَابَّ خُلِقَتْ لِنَفْعِ النَّاسِ فَلَا بِدَعَ أَنْ يَسْتَأْصِلَهَا اللَّهُ إِذَا اسْتَأْصَلَ ذَوِيهَا.
وَالِاقْتِصَارُ عَلَى ذِكْرِ دَابَّةٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِيجَازٌ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ ظُلْمُ النَّاسِ مُفْضِيًا إِلَى اسْتِئْصَالِ الدَّوَابِّ كَانَ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ مُفْضٍ إِلَى اسْتِئْصَالِ الظَّالِمِينَ حَاصِلًا بِدَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ.
وَهَذَا فِي عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ، وَأَمَّا مَا يُصِيبُ النَّاسَ مِنَ الْمَصَائِبِ وَالْفِتَنِ الْوَارِدُ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [سُورَة الْأَنْفَال: ٢٥] فَذَلِكَ مَنُوطٌ بِأَسْبَابٍ عَادِيَّةٍ، فَاسْتِثْنَاءُ الصَّالِحِينَ يَقْتَضِي تَعْطِيلَ دَوَالِيبَ كَثِيرَةٍ مِنْ دَوَالِيبِ النِّظَامِ الْفِطْرِيِّ الْعَامِّ، وَذَلِكَ لَا يُرِيدُ اللَّهُ تَعْطِيلَهُ لِمَا يَسْتَتْبِعُ تَعْطِيلَهُ مِنْ تَعْطِيلِ مَصَالِحَ عَظِيمَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ.
فَقَدْ
جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِذا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ عَذَابًا أَصَابَ الْعَذَابُ مَنْ كَانَ فِيهِمْ ثُمَّ يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ»
، أَيْ يَكُونُ لِلْمُحْسِنِ الَّذِي أَصَابَهُ الْعَذَابُ تَبَعًا جَزَاءٌ عَلَى مَا أَصَابَهُ مِنْ مُصِيبَةِ غَيْرِهِ. وَإِنَّمَا الَّذِي لَا يَنَالُ الْبَرِيءَ هُوَ الْعِقَابُ الْأُخْرَوِيُّ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ جَزَاءً عَلَى التَّكْلِيفِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [سُورَة الْأَنْعَام: ١٦٤].
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الدَّوَابَّ الَّتِي عَلَى الْأَرْضِ مَخْلُوقَةٌ لِأَجْلِ انْتِفَاعِ الْإِنْسَانِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنِ اسْتِعْمَالُ الْإِنْسَانِ إِيَّاهَا فِيمَا تَصْلُحُ لَهُ ظُلْمًا لَهَا، وَلَا قَتْلُهَا لِأَكْلِهَا ظُلْمًا لَهَا.
وَالْمُؤَاخَذَةُ: الْأَخْذُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْجَزَاءُ، فَهُوَ أَخْذٌ شَدِيدٌ، وَلِذَلِكَ صِيغَتْ لَهُ صِيغَةَ الْمُفَاعَلَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْكَثْرَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ الْمُنْتَفِيَةَ بِ لَوْ هِيَ الْأَخْذُ الْعَاجِلُ الْمُنَاسِبُ لِلْمُجَازَاةِ، لَأَنَّ شَأْنَ الْجَزَاءِ فِي الْعُرْفِ أَنْ لَا يَتَأَخَّرَ عَنْ وَقْتِ حُصُولِ الذَّنْبِ.
وَالِاقْتِصَارُ عَلَى ذِكْرِ دَابَّةٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِيجَازٌ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ ظُلْمُ النَّاسِ مُفْضِيًا إِلَى اسْتِئْصَالِ الدَّوَابِّ كَانَ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ مُفْضٍ إِلَى اسْتِئْصَالِ الظَّالِمِينَ حَاصِلًا بِدَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ.
وَهَذَا فِي عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ، وَأَمَّا مَا يُصِيبُ النَّاسَ مِنَ الْمَصَائِبِ وَالْفِتَنِ الْوَارِدُ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [سُورَة الْأَنْفَال: ٢٥] فَذَلِكَ مَنُوطٌ بِأَسْبَابٍ عَادِيَّةٍ، فَاسْتِثْنَاءُ الصَّالِحِينَ يَقْتَضِي تَعْطِيلَ دَوَالِيبَ كَثِيرَةٍ مِنْ دَوَالِيبِ النِّظَامِ الْفِطْرِيِّ الْعَامِّ، وَذَلِكَ لَا يُرِيدُ اللَّهُ تَعْطِيلَهُ لِمَا يَسْتَتْبِعُ تَعْطِيلَهُ مِنْ تَعْطِيلِ مَصَالِحَ عَظِيمَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ.
فَقَدْ
جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِذا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ عَذَابًا أَصَابَ الْعَذَابُ مَنْ كَانَ فِيهِمْ ثُمَّ يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ»
، أَيْ يَكُونُ لِلْمُحْسِنِ الَّذِي أَصَابَهُ الْعَذَابُ تَبَعًا جَزَاءٌ عَلَى مَا أَصَابَهُ مِنْ مُصِيبَةِ غَيْرِهِ. وَإِنَّمَا الَّذِي لَا يَنَالُ الْبَرِيءَ هُوَ الْعِقَابُ الْأُخْرَوِيُّ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ جَزَاءً عَلَى التَّكْلِيفِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [سُورَة الْأَنْعَام: ١٦٤].
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الدَّوَابَّ الَّتِي عَلَى الْأَرْضِ مَخْلُوقَةٌ لِأَجْلِ انْتِفَاعِ الْإِنْسَانِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنِ اسْتِعْمَالُ الْإِنْسَانِ إِيَّاهَا فِيمَا تَصْلُحُ لَهُ ظُلْمًا لَهَا، وَلَا قَتْلُهَا لِأَكْلِهَا ظُلْمًا لَهَا.
وَالْمُؤَاخَذَةُ: الْأَخْذُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْجَزَاءُ، فَهُوَ أَخْذٌ شَدِيدٌ، وَلِذَلِكَ صِيغَتْ لَهُ صِيغَةَ الْمُفَاعَلَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْكَثْرَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ الْمُنْتَفِيَةَ بِ لَوْ هِيَ الْأَخْذُ الْعَاجِلُ الْمُنَاسِبُ لِلْمُجَازَاةِ، لَأَنَّ شَأْنَ الْجَزَاءِ فِي الْعُرْفِ أَنْ لَا يَتَأَخَّرَ عَنْ وَقْتِ حُصُولِ الذَّنْبِ.
190
وَلِهَذَا جَاءَ الِاسْتِدْرَاكُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى. فَمَوْقِعُ الِاسْتِدْرَاكِ هُنَا أَنَّهُ تَعْقِيبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ.
وَالْأَجَلُ: الْمُدَّةُ الْمُعَيَّنَةُ لِفِعْلٍ مَا. وَالْمُسَمَّى: الْمُعَيَّنُ، لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ تَعْيِينُ الشَّيْءِ
وَتَمْيِيزُهُ، وَتَسْمِيَةُ الْآجَالِ تَحْدِيدُهَا.
وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ فِي سُورَة الْأَعْرَاف [٣٤].
[٦٢]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٦٢]
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (٦٢)
هَذَا ضِغْثٌ عَلَى إِبَّالَةٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ فِي إِشْرَاكِهِمْ تُخَالِفُ قِصَّةَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ [سُورَة النَّحْل: ٥٧] بِاعْتِبَارِ مَا يَخْتَصُّ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ إِضَافَتِهِمُ الْأَشْيَاءَ الْمَكْرُوهَةَ عِنْدَهُمْ إِلَى اللَّهِ مِمَّا اقْتَضَتْهُ كَرَاهَتُهُمُ الْبَنَاتَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ [سُورَة النَّحْل: ٥٧]، فَكَانَ ذَلِكَ الْجَعْلُ يَنْطَوِي عَلَى خَصْلَتَيْنِ مِنْ دِينِ الشِّرْكِ، وَهُمَا: نِسْبَةُ الْبُنُوَّةِ إِلَى اللَّهِ، وَنِسْبَةُ أَخَسِّ أَصْنَافِ الْأَبْنَاءِ فِي نَظَرِهِمْ إِلَيْهِ، فَخَصَّتِ الْأُولَى بِالذِّكْرِ بِقَوْلِهِ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ مَعَ الْإِيمَاءِ إِلَى كَرَاهَتِهِمُ الْبَنَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَخَصَّتْ هَذِهِ بِذِكْرِ الْكَرَاهِيَةِ تَصْرِيحًا، وَلِذَلِكَ كَانَ الْإِتْيَانُ بِالْمَوْصُولِ وَالصِّلَةِ مَا يَكْرَهُونَ هُوَ مُقْتَضَى الْمَقَامِ الَّذِي هُوَ تَفْظِيعُ قَوْلِهِمْ وَتَشْنِيعُ اسْتِئْثَارِهِمْ. وَقَدْ يَكُونُ الْمَوْصُولُ لِلْعُمُومِ فَيُشِيرُ إِلَى أَنَّهُمْ جَعَلُوا لِلَّهِ أَشْيَاءَ يَكْرَهُونَهَا لِأَنْفُسِهِمْ مِثْلَ الشَّرِيكِ فِي التَّصَرُّفِ وَأَشْيَاءَ لَا يَرْضَوْنَهَا لِآلِهَتِهِمْ وَنَسَبُوهَا لِلَّهِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ مَا يَحْكُمُونَ [سُورَة الْأَنْعَام: ١٣٦].
وَفِي «الْكَشَّافِ» :«يَجْعَلُونَ لِلَّهِ أَرْذَلَ أَمْوَالِهِمْ وَلِأَصْنَامِهِمْ أَكْرَمَهَا». فَهُوَ مُرَاد من عُمُومِ الْمَوْصُولِ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْقِصَّةُ أَعَمَّ مِنْ قِصَّةِ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَالْأَجَلُ: الْمُدَّةُ الْمُعَيَّنَةُ لِفِعْلٍ مَا. وَالْمُسَمَّى: الْمُعَيَّنُ، لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ تَعْيِينُ الشَّيْءِ
وَتَمْيِيزُهُ، وَتَسْمِيَةُ الْآجَالِ تَحْدِيدُهَا.
وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ فِي سُورَة الْأَعْرَاف [٣٤].
[٦٢]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٦٢]
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (٦٢)
هَذَا ضِغْثٌ عَلَى إِبَّالَةٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ فِي إِشْرَاكِهِمْ تُخَالِفُ قِصَّةَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ [سُورَة النَّحْل: ٥٧] بِاعْتِبَارِ مَا يَخْتَصُّ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ إِضَافَتِهِمُ الْأَشْيَاءَ الْمَكْرُوهَةَ عِنْدَهُمْ إِلَى اللَّهِ مِمَّا اقْتَضَتْهُ كَرَاهَتُهُمُ الْبَنَاتَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ [سُورَة النَّحْل: ٥٧]، فَكَانَ ذَلِكَ الْجَعْلُ يَنْطَوِي عَلَى خَصْلَتَيْنِ مِنْ دِينِ الشِّرْكِ، وَهُمَا: نِسْبَةُ الْبُنُوَّةِ إِلَى اللَّهِ، وَنِسْبَةُ أَخَسِّ أَصْنَافِ الْأَبْنَاءِ فِي نَظَرِهِمْ إِلَيْهِ، فَخَصَّتِ الْأُولَى بِالذِّكْرِ بِقَوْلِهِ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ مَعَ الْإِيمَاءِ إِلَى كَرَاهَتِهِمُ الْبَنَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَخَصَّتْ هَذِهِ بِذِكْرِ الْكَرَاهِيَةِ تَصْرِيحًا، وَلِذَلِكَ كَانَ الْإِتْيَانُ بِالْمَوْصُولِ وَالصِّلَةِ مَا يَكْرَهُونَ هُوَ مُقْتَضَى الْمَقَامِ الَّذِي هُوَ تَفْظِيعُ قَوْلِهِمْ وَتَشْنِيعُ اسْتِئْثَارِهِمْ. وَقَدْ يَكُونُ الْمَوْصُولُ لِلْعُمُومِ فَيُشِيرُ إِلَى أَنَّهُمْ جَعَلُوا لِلَّهِ أَشْيَاءَ يَكْرَهُونَهَا لِأَنْفُسِهِمْ مِثْلَ الشَّرِيكِ فِي التَّصَرُّفِ وَأَشْيَاءَ لَا يَرْضَوْنَهَا لِآلِهَتِهِمْ وَنَسَبُوهَا لِلَّهِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ مَا يَحْكُمُونَ [سُورَة الْأَنْعَام: ١٣٦].
وَفِي «الْكَشَّافِ» :«يَجْعَلُونَ لِلَّهِ أَرْذَلَ أَمْوَالِهِمْ وَلِأَصْنَامِهِمْ أَكْرَمَهَا». فَهُوَ مُرَاد من عُمُومِ الْمَوْصُولِ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْقِصَّةُ أَعَمَّ مِنْ قِصَّةِ قَوْلِهِ تَعَالَى:
191
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ، وَيَكُونُ تَخْصِيصُهَا بِالذِّكْرِ مِنْ جِهَتَيْنِ: جِهَةِ اخْتِلَافِ الِاعْتِبَارِ، وَجِهَةِ زِيَادَةِ أَنْوَاعِ هَذَا الْجَعْلِ.
وَجُمْلَةُ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ عَطْفُ قِصَّةٍ عَلَى قِصَّةٍ أُخْرَى مِنْ أَحْوَالِ كُفْرِهِمْ.
وَمَعْنَى تَصِفُ تَذْكُرُ بِشَرْحٍ وَبَيَانٍ وَتَفْصِيلٍ، حَتَّى كَأَنَّهَا تَذْكُرُ أَوْصَافَ الشَّيْءِ.
وَحَقِيقَةُ الْوَصْفِ: ذِكْرُ الصِّفَاتِ وَالْحُلَى. ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الْقَوْلِ الْمُبِينِ الْمُفَصِّلِ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ فِي أَوَاخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ: «هَذَا مِنْ فَصِيحِ الْكَلَامِ وَبَلِيغِهِ. جَعَلَ الْقَوْلَ كَأَنَّهُ عَيْنُ الْكَذِبِ فَإِذَا نَطَقَتْ بِهِ أَلْسِنَتُهُمْ فَقَدْ صَوَّرَتِ الْكَذِبَ بِصُورَتِهِ، كَقَوْلِهِمْ:
وَجْهُهَا يَصِفُ الْجَمَالَ، وَعَيْنُهَا تَصِفُ السِّحْرَ» اه.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٠٠].
وَسَيَأْتِي فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ [سُورَة النَّحْل: ١١٦]. وَمِنْهُ قَوْلُ الْمَعَرِّي:
أَيْ يَشْكُو الْإِعْيَاءَ مِنْ قَطْعِ مَسَافَةٍ طَوِيلَةٍ فِي زَمَنٍ قَلِيلٍ، وَهُوَ مِنْ بَدِيعِ اسْتِعَارَاتِهِ.
وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْكَذِبِ كُلُّ مَا يَقُولُونَهُ مِنْ أَقْوَالِ خَاصَّتِهِمْ وَدَهْمَائِهِمْ بِاعْتِقَادٍ أَوْ تَهَكُّمٍ. فَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُ الْعَاصِي بْنِ وَائِلٍ الْمَحْكِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَداً [سُورَة مَرْيَم: ٧٧] وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى [سُورَة فصلت: ٥٠]. وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُهُمْ فِي الْبَلِيَّةِ: أَنَّ صَاحِبَهَا يَرْكَبُهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِكَيْلَا يُعْيَى.
وَانْتَصَبَ الْكَذِبَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ تَصِفُ.
وأَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى بَدَلٌ مِنَ الْكَذِبَ أَوِ الْحُسْنى صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ، أَيِ الْحَالَةُ الْحُسْنَى.
وَجُمْلَةُ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ عَطْفُ قِصَّةٍ عَلَى قِصَّةٍ أُخْرَى مِنْ أَحْوَالِ كُفْرِهِمْ.
وَمَعْنَى تَصِفُ تَذْكُرُ بِشَرْحٍ وَبَيَانٍ وَتَفْصِيلٍ، حَتَّى كَأَنَّهَا تَذْكُرُ أَوْصَافَ الشَّيْءِ.
وَحَقِيقَةُ الْوَصْفِ: ذِكْرُ الصِّفَاتِ وَالْحُلَى. ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الْقَوْلِ الْمُبِينِ الْمُفَصِّلِ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ فِي أَوَاخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ: «هَذَا مِنْ فَصِيحِ الْكَلَامِ وَبَلِيغِهِ. جَعَلَ الْقَوْلَ كَأَنَّهُ عَيْنُ الْكَذِبِ فَإِذَا نَطَقَتْ بِهِ أَلْسِنَتُهُمْ فَقَدْ صَوَّرَتِ الْكَذِبَ بِصُورَتِهِ، كَقَوْلِهِمْ:
وَجْهُهَا يَصِفُ الْجَمَالَ، وَعَيْنُهَا تَصِفُ السِّحْرَ» اه.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٠٠].
وَسَيَأْتِي فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ [سُورَة النَّحْل: ١١٦]. وَمِنْهُ قَوْلُ الْمَعَرِّي:
سَرَى بَرَقُ الْمَعَرَّةِ بَعْدَ وَهْنٍ | فَبَاتَ بِرَامَةٍ يَصِفُ الْكَلَالَا |
وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْكَذِبِ كُلُّ مَا يَقُولُونَهُ مِنْ أَقْوَالِ خَاصَّتِهِمْ وَدَهْمَائِهِمْ بِاعْتِقَادٍ أَوْ تَهَكُّمٍ. فَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُ الْعَاصِي بْنِ وَائِلٍ الْمَحْكِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَداً [سُورَة مَرْيَم: ٧٧] وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى [سُورَة فصلت: ٥٠]. وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُهُمْ فِي الْبَلِيَّةِ: أَنَّ صَاحِبَهَا يَرْكَبُهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِكَيْلَا يُعْيَى.
وَانْتَصَبَ الْكَذِبَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ تَصِفُ.
وأَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى بَدَلٌ مِنَ الْكَذِبَ أَوِ الْحُسْنى صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ، أَيِ الْحَالَةُ الْحُسْنَى.
192
وَجُمْلَةُ لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمُ الْمَحْكِيِّ. وَمَعْنَى لَا جَرَمَ لَا شَكَّ، أَيْ حَقًّا. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ هُودٍ.
ومُفْرَطُونَ- بِكَسْرِ الرَّاءِ الْمُخَفَّفَةِ- فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَفْرَطَ، إِذَا بَلَغَ غَايَةَ شَيْءٍ مَا، أَيْ مُفْرِطُونَ فِي الْأَخْذِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ.
وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ- بِكَسْرِ الرَّاءِ مُشَدِّدَةً- مِنْ فَرَّطَ الْمُضَاعَفِ. وَقَرَأَهُ الْبَقِيَّةُ- بِفَتْحِ الرَّاءِ مُخَفَّفَةً- عَلَى زِنَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ، أَيْ مَجْعُولُونَ فَرَطًا- بِفَتْحَتَيْنِ- وَهُوَ الْمُقَدَّمُ إِلَى الْمَاءِ لِيَسْقِيَ.
وَالْمُرَادُ: أَنَّهُمْ سَابِقُونَ إِلَى النَّارِ مُعَجِّلُونَ إِلَيْهَا لِأَنَّهُمْ أَشَدُّ أَهْلِ النَّارِ اسْتِحْقَاقًا لَهَا، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ إِطْلَاقُ الْإِفْرَاطِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى اسْتِعَارَةً تَهَكُّمِيَّةً كَقَوْلِ عَمْرِو بْنِ كُلْثُومٍ:
فَعَجَّلْنَا الْقِرَى أَنْ تَشْتُمُونَا أَرَادَ فَبَادَرْنَا بِقِتَالِكُمْ حِينَ نَزَلْتُمْ بِنَا مغيرين علينا.
وفيهَا مَعَ ذِكْرِ النَّارِ فِي مُقَابَلَتِهَا مُحَسِّنُ الطِّبَاقِ. عَلَى أَنَّ قِرَاءَةَ نَافِعٍ تَحْتَمِلُ التَّفْسِيرَ بِهَذَا أَيْضًا لِجَوَازِ أَنْ يُقَالَ: أَفْرَطَ إِلَى الْمَاءِ إِذَا تقدّم لَهُ.
[٦٣]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٦٣]
تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ دَاخِلٌ فِي الْكَلَامِ الِاعْتِرَاضِيِّ قُصِدَ مِنْهُ تَنْظِيرُ حَالِ الْمُشْرِكِينَ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ وَكُفْرِهِمْ فِي سُوءِ أَعْمَالِهِمْ وَأَحْكَامِهِمْ بِحَالِ الْأُمَمِ الضَّالَّةِ مِنْ قَبْلِهِمُ الَّذِينَ اسْتَهْوَاهُمُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْأُمَمِ الْبَائِدَةِ مِثْلُ عَادٍ وَثَمُودَ، وَالْحَاضِرَةِ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.
ومُفْرَطُونَ- بِكَسْرِ الرَّاءِ الْمُخَفَّفَةِ- فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَفْرَطَ، إِذَا بَلَغَ غَايَةَ شَيْءٍ مَا، أَيْ مُفْرِطُونَ فِي الْأَخْذِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ.
وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ- بِكَسْرِ الرَّاءِ مُشَدِّدَةً- مِنْ فَرَّطَ الْمُضَاعَفِ. وَقَرَأَهُ الْبَقِيَّةُ- بِفَتْحِ الرَّاءِ مُخَفَّفَةً- عَلَى زِنَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ، أَيْ مَجْعُولُونَ فَرَطًا- بِفَتْحَتَيْنِ- وَهُوَ الْمُقَدَّمُ إِلَى الْمَاءِ لِيَسْقِيَ.
وَالْمُرَادُ: أَنَّهُمْ سَابِقُونَ إِلَى النَّارِ مُعَجِّلُونَ إِلَيْهَا لِأَنَّهُمْ أَشَدُّ أَهْلِ النَّارِ اسْتِحْقَاقًا لَهَا، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ إِطْلَاقُ الْإِفْرَاطِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى اسْتِعَارَةً تَهَكُّمِيَّةً كَقَوْلِ عَمْرِو بْنِ كُلْثُومٍ:
فَعَجَّلْنَا الْقِرَى أَنْ تَشْتُمُونَا أَرَادَ فَبَادَرْنَا بِقِتَالِكُمْ حِينَ نَزَلْتُمْ بِنَا مغيرين علينا.
وفيهَا مَعَ ذِكْرِ النَّارِ فِي مُقَابَلَتِهَا مُحَسِّنُ الطِّبَاقِ. عَلَى أَنَّ قِرَاءَةَ نَافِعٍ تَحْتَمِلُ التَّفْسِيرَ بِهَذَا أَيْضًا لِجَوَازِ أَنْ يُقَالَ: أَفْرَطَ إِلَى الْمَاءِ إِذَا تقدّم لَهُ.
[٦٣]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٦٣]
تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ دَاخِلٌ فِي الْكَلَامِ الِاعْتِرَاضِيِّ قُصِدَ مِنْهُ تَنْظِيرُ حَالِ الْمُشْرِكِينَ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ وَكُفْرِهِمْ فِي سُوءِ أَعْمَالِهِمْ وَأَحْكَامِهِمْ بِحَالِ الْأُمَمِ الضَّالَّةِ مِنْ قَبْلِهِمُ الَّذِينَ اسْتَهْوَاهُمُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْأُمَمِ الْبَائِدَةِ مِثْلُ عَادٍ وَثَمُودَ، وَالْحَاضِرَةِ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.
193
وَوَجْهُ الْخِطَابِ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَصْدِ إِبْلَاغِهِ إِلَى أَسْمَاعِ النَّاسِ فَإِنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ لِهَدْيِ النَّاسِ، فَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِالْقَسَمِ مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى الْمَقْصُودِينَ بِالْخَبَرِ لَا إِلَى الْمُوَجَّهِ إِلَيْهِ الْخَبَرُ، لِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَشُكُّ فِي ذَلِكَ.
وَمَصَبُّ الْقَسَمِ هُوَ التَّفْرِيعُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ.
وَأَمَّا الْإِرْسَالُ إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَا يَشُكُّ فِيهِ الْمُشْرِكُونَ. وَشَأْنُ التَّاءِ الْمُثَنَّاةِ أَنْ تَقَعَ فِي قَسَمٍ عَلَى مُسْتَغْرَبٍ مَصَبُّ الْقَسَمِ هُنَا هُوَ الْمُفْرَدُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ لِأَنَّ تَأْثِيرَ تَزْيِينِ الشَّيْطَانِ لَهُم أَعْمَالهم بعد مَا جَاءَهُمْ مِنْ إِرْشَادِ رُسُلِهِمْ أَمْرٌ عَجِيبٌ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَرْفِ تَاءِ الْقَسَمِ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ [سُورَة النَّحْل: ٥٦].
وَجُمْلَةُ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ مَعْطُوفَةٌ على جملَة جَوَاب الْقَسَمِ. وَالتَّقْدِيرُ:
أَرْسَلْنَا فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ.
وَتَزْيِينُ الشَّيْطَانِ أَعْمَالَهُمْ كِنَايَةٌ عَنِ الْمَعَاصِي. فَمِنْ ذَلِكَ عَدَمُ الْإِيمَانِ بِالرُّسُلِ وَهُوَ كَمَالُ التَّنْظِيرِ. وَمِنْهَا الِابْتِدَاعَاتُ الْمُنَافِيَةُ لِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- مِثْلُ ابْتِدَاعِ الْمُشْرِكِينَ الْبَحِيرَةَ وَالسَّائِبَةَ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ سَلَكُوا مَسْلَكَ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ الَّتِي زَيَّنَّ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ.
وَجُمْلَةُ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُفَرَّعَةً عَلَى جُمْلَةِ الْقَسَمِ بِتَمَامِهَا، عَلَى أَنْ يَكُونَ التَّفْرِيعُ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ جُمْلَةِ الِاسْتِئْنَافِ لِلتَّنْظِيرِ، فَيَكُونُ ضَمِيرُ وَلِيُّهُمُ عَائِدًا إِلَى الْمُنَظِّرِينَ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ. وَلَا مَانِعَ مِنَ اخْتِلَافٍ مُعَادِي ضَمِيرَيْنِ مُتَقَارِبَيْنِ مَعَ الْقَرِينَةِ، كَقَوْلِهِ
تَعَالَى: وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها [سُورَة الرّوم: ٩].
وَالْمَعْنَى: فَالشَّيْطَانُ وَلِيُّ الْمُشْرِكِينَ الْيَوْمَ، أَيْ مُتَوَلِّي أَمْرَهُمْ كَمَا كَانَ وَلِيَّ الْأُمَمِ مِنْ قَبْلِهِمْ إِذْ زَيَّنَ لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ، أَيْ لَا وَلِيَّ لَهُمُ الْيَوْمَ غَيْرُهُ رَدًّا
وَمَصَبُّ الْقَسَمِ هُوَ التَّفْرِيعُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ.
وَأَمَّا الْإِرْسَالُ إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَا يَشُكُّ فِيهِ الْمُشْرِكُونَ. وَشَأْنُ التَّاءِ الْمُثَنَّاةِ أَنْ تَقَعَ فِي قَسَمٍ عَلَى مُسْتَغْرَبٍ مَصَبُّ الْقَسَمِ هُنَا هُوَ الْمُفْرَدُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ لِأَنَّ تَأْثِيرَ تَزْيِينِ الشَّيْطَانِ لَهُم أَعْمَالهم بعد مَا جَاءَهُمْ مِنْ إِرْشَادِ رُسُلِهِمْ أَمْرٌ عَجِيبٌ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَرْفِ تَاءِ الْقَسَمِ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ [سُورَة النَّحْل: ٥٦].
وَجُمْلَةُ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ مَعْطُوفَةٌ على جملَة جَوَاب الْقَسَمِ. وَالتَّقْدِيرُ:
أَرْسَلْنَا فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ.
وَتَزْيِينُ الشَّيْطَانِ أَعْمَالَهُمْ كِنَايَةٌ عَنِ الْمَعَاصِي. فَمِنْ ذَلِكَ عَدَمُ الْإِيمَانِ بِالرُّسُلِ وَهُوَ كَمَالُ التَّنْظِيرِ. وَمِنْهَا الِابْتِدَاعَاتُ الْمُنَافِيَةُ لِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- مِثْلُ ابْتِدَاعِ الْمُشْرِكِينَ الْبَحِيرَةَ وَالسَّائِبَةَ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ سَلَكُوا مَسْلَكَ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ الَّتِي زَيَّنَّ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ.
وَجُمْلَةُ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُفَرَّعَةً عَلَى جُمْلَةِ الْقَسَمِ بِتَمَامِهَا، عَلَى أَنْ يَكُونَ التَّفْرِيعُ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ جُمْلَةِ الِاسْتِئْنَافِ لِلتَّنْظِيرِ، فَيَكُونُ ضَمِيرُ وَلِيُّهُمُ عَائِدًا إِلَى الْمُنَظِّرِينَ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ. وَلَا مَانِعَ مِنَ اخْتِلَافٍ مُعَادِي ضَمِيرَيْنِ مُتَقَارِبَيْنِ مَعَ الْقَرِينَةِ، كَقَوْلِهِ
تَعَالَى: وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها [سُورَة الرّوم: ٩].
وَالْمَعْنَى: فَالشَّيْطَانُ وَلِيُّ الْمُشْرِكِينَ الْيَوْمَ، أَيْ مُتَوَلِّي أَمْرَهُمْ كَمَا كَانَ وَلِيَّ الْأُمَمِ مِنْ قَبْلِهِمْ إِذْ زَيَّنَ لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ، أَيْ لَا وَلِيَّ لَهُمُ الْيَوْمَ غَيْرُهُ رَدًّا
194
عَلَى زَعْمِهِمْ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى.
وَيَكُونُ فِي الْكَلَامِ شِبْهُ الِاحْتِبَاكِ. وَالتَّقْدِيرُ: لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَكَانَ وَلِيَّهُمْ حِينَئِذٍ، وَهُوَ وَلِيُّ الْمُشْرِكِينَ الْيَوْمَ يُزَيِّنُ لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ كَمَا كَانَ وَلِيَّ مَنْ قَبْلَهُمْ.
وَقَوْلُهُ: الْيَوْمَ مُسْتَعْمَلٌ فِي زَمَانٍ مَعْهُودٍ بِعَهْدِ الْحُضُورِ، أَيْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْآنَ. وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ اسْتِمْرَارِ وِلَايَتِهِ لَهُمْ إِلَى زَمَنِ الْمُتَكَلِّمِ مُطْلَقًا بِدُونِ قَصْدٍ، لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُهُ مِنَ الْوَقْتِ الَّذِي مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ. وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ لِلزَّمَانِ الْحَاضِرِ. وَأَصْلُهُ: الْيَوْمُ الْحَاضِرُ، وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [٣].
وَلَا يُسْتَعْمَلُ فِي يَوْمٍ مَضَى مُعَرَّفًا بِاللَّامِ إِلَّا بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ، نَحْوَ: ذَلِكَ الْيَوْمُ، أَوْ مثل: يَوْمئِذٍ.
[٦٤]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٦٤]
وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٦٤)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ الْقَسَمِ. وَالْمُنَاسَبَةُ أَنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ لِإِتْمَامِ الْهِدَايَةِ وَكَشْفِ الشُّبْهَاتِ الَّتِي عَرَضَتْ لِلْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ وَالْحَاضِرَةِ فَتُرِكَتْ أَمْثَالُهَا فِي الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ.
فَلَمَّا ذُكِرَتْ ضَلَالَاتُهُمْ وَشُبْهَاتُهُمْ عُقِّبَ ذَلِكَ بِبَيَانِ الْحِكْمَةِ فِي إِرْسَالِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْزَالِ الْقُرْآنِ إِلَيْهِ، فَالْقُرْآنُ جَاءَ مُبَيِّنًا لِلْمُشْرِكِينَ ضَلَالَهُمْ بَيَانًا لَا يَتْرُكُ لِلْبَاطِلِ مَسْلَكًا إِلَى النُّفُوسِ، وَمُفْصِحًا عَنِ الْهُدَى إِفْصَاحًا لَا يَتْرُكُ لِلْحِيرَةِ مَجَالًا فِي الْعُقُولِ، وَرَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ بِمَا جَازَاهُمْ عَنْ إِيمَانِهِمْ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَيَكُونُ فِي الْكَلَامِ شِبْهُ الِاحْتِبَاكِ. وَالتَّقْدِيرُ: لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَكَانَ وَلِيَّهُمْ حِينَئِذٍ، وَهُوَ وَلِيُّ الْمُشْرِكِينَ الْيَوْمَ يُزَيِّنُ لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ كَمَا كَانَ وَلِيَّ مَنْ قَبْلَهُمْ.
وَقَوْلُهُ: الْيَوْمَ مُسْتَعْمَلٌ فِي زَمَانٍ مَعْهُودٍ بِعَهْدِ الْحُضُورِ، أَيْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْآنَ. وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ اسْتِمْرَارِ وِلَايَتِهِ لَهُمْ إِلَى زَمَنِ الْمُتَكَلِّمِ مُطْلَقًا بِدُونِ قَصْدٍ، لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُهُ مِنَ الْوَقْتِ الَّذِي مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ. وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ لِلزَّمَانِ الْحَاضِرِ. وَأَصْلُهُ: الْيَوْمُ الْحَاضِرُ، وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [٣].
وَلَا يُسْتَعْمَلُ فِي يَوْمٍ مَضَى مُعَرَّفًا بِاللَّامِ إِلَّا بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ، نَحْوَ: ذَلِكَ الْيَوْمُ، أَوْ مثل: يَوْمئِذٍ.
[٦٤]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٦٤]
وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٦٤)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ الْقَسَمِ. وَالْمُنَاسَبَةُ أَنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ لِإِتْمَامِ الْهِدَايَةِ وَكَشْفِ الشُّبْهَاتِ الَّتِي عَرَضَتْ لِلْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ وَالْحَاضِرَةِ فَتُرِكَتْ أَمْثَالُهَا فِي الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ.
فَلَمَّا ذُكِرَتْ ضَلَالَاتُهُمْ وَشُبْهَاتُهُمْ عُقِّبَ ذَلِكَ بِبَيَانِ الْحِكْمَةِ فِي إِرْسَالِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْزَالِ الْقُرْآنِ إِلَيْهِ، فَالْقُرْآنُ جَاءَ مُبَيِّنًا لِلْمُشْرِكِينَ ضَلَالَهُمْ بَيَانًا لَا يَتْرُكُ لِلْبَاطِلِ مَسْلَكًا إِلَى النُّفُوسِ، وَمُفْصِحًا عَنِ الْهُدَى إِفْصَاحًا لَا يَتْرُكُ لِلْحِيرَةِ مَجَالًا فِي الْعُقُولِ، وَرَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ بِمَا جَازَاهُمْ عَنْ إِيمَانِهِمْ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
195
وَعَبَّرَ عَنِ الضَّلَالِ بِطَرِيقَةِ الْمَوْصُولِيَّةِ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ سَبَبَ الضَّلَالِ هُوَ اخْتِلَافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَالْعَرَبُ اخْتَلَفَتْ ضَلَالَتُهُمْ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، عَبَدَتْ كُلُّ قَبِيلَةٍ مِنْهُمْ صَنَمًا، وَعَبَدَ بَعْضُهُمُ الشَّمْسَ وَالْكَوَاكِبَ، وَاتَّخَذَتْ كُلُّ قَبِيلَةٍ لِنَفْسِهَا أَعْمَالًا يَزْعُمُونَهَا دِينًا صَحِيحًا. وَاخْتَلَفُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ الدِّينِ.
وَالْإِتْيَانُ بِصِيغَةِ الْقَصْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لِقَصْدِ الْإِحَاطَةِ بِالْأَهَمِّ مِنْ غَايَةِ الْقُرْآنِ وَفَائِدَتِهِ الَّتِي أُنْزِلَ لِأَجْلِهَا. فَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ لِيَرْغَبَ السَّامِعُونَ فِي تَلَقِّيهِ وَتَدَبُّرِهِ مِنْ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ كُلٌّ بِمَا يَلِيقُ بِحَالِهِ حَتَّى يَسْتَوُوا فِي الِاهْتِدَاءِ.
ثمَّ إِن هَذَا الْقَصْرَ يُعَرِّضُ بِتَفْنِيدِ أَقْوَالِ مَنْ حَسِبُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ لِذِكْرِ الْقَصَصِ لِتَعْلِيلِ الْأَنْفُسِ فِي الْأَسْمَارِ وَنَحْوِهَا حَتَّى قَالَ مُضِلُّهُمْ: أَنَا آتِيكُمْ بِأَحْسَنِ مِمَّا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ، آتِيكُمْ بِقصَّة (رستم) و (إسفنديار). فَالْقُرْآنُ أَهَمُّ مَقَاصِدِهِ هَذِهِ الْفَوَائِدُ الْجَامِعَةُ لِأُصُولِ الْخَيْرِ، وَهِيَ كَشْفُ الْجَهَالَاتِ وَالْهُدَى إِلَى الْمَعَارِفِ الْحَقِّ وَحُصُولُ أَثَرِ ذَيْنَكِ الْأَمْرَيْنِ، وَهُوَ الرَّحْمَةُ النَّاشِئَةُ عَنْ مُجَانَبَةِ الضَّلَالِ وَإِتْبَاعِ الْهُدَى.
وَأُدْخِلَتْ لَامُ التَّعْلِيلِ عَلَى فِعْلِ «تَبَيَّنَ» الْوَاقِعِ مَوْقِعَ الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ لِأَنَّهُ مِنْ فِعْلِ الْمُخَاطَبِ لَا مِنْ فِعْلِ فَاعِلِ أَنْزَلْنا، فَالنَّبِيءُ هُوَ الْمُبَاشِرُ لِلْبَيَانِ بِالْقُرْآنِ تَبْلِيغًا وَتَفْسِيرًا.
فَلَا يَصِحُّ فِي الْعَرَبِيَّةِ الْإِتْيَانُ بِالتَّبْيِينِ مَصْدَرًا مَنْصُوبًا عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لِأَجْلِهِ إِذْ لَيْسَ مُتَّحِدًا مَعَ الْعَامِلِ فِي الْفَاعِلِ، وَلِذَلِكَ خُولِفَ فِي الْمَعْطُوفِ فَنُصِبَ هُدىً وَرَحْمَةً لِأَنَّهُمَا مِنْ أَفْعَالِ مُنْزِلِ الْقُرْآنِ، فَاللَّهُ هُوَ الْهَادِي وَالرَّاحِمُ بِالْقُرْآنِ، وَكُلٌّ مِنَ الْبَيَانِ وَالْهُدَى وَالرَّحْمَةِ حَاصِلٌ بِالْقُرْآنِ فَآلَتِ الصِّفَاتُ الثَّلَاثُ إِلَى أَنَّهَا صِفَاتٌ لِلْقُرْآنِ أَيْضًا.
وَالْإِتْيَانُ بِصِيغَةِ الْقَصْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لِقَصْدِ الْإِحَاطَةِ بِالْأَهَمِّ مِنْ غَايَةِ الْقُرْآنِ وَفَائِدَتِهِ الَّتِي أُنْزِلَ لِأَجْلِهَا. فَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ لِيَرْغَبَ السَّامِعُونَ فِي تَلَقِّيهِ وَتَدَبُّرِهِ مِنْ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ كُلٌّ بِمَا يَلِيقُ بِحَالِهِ حَتَّى يَسْتَوُوا فِي الِاهْتِدَاءِ.
ثمَّ إِن هَذَا الْقَصْرَ يُعَرِّضُ بِتَفْنِيدِ أَقْوَالِ مَنْ حَسِبُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ لِذِكْرِ الْقَصَصِ لِتَعْلِيلِ الْأَنْفُسِ فِي الْأَسْمَارِ وَنَحْوِهَا حَتَّى قَالَ مُضِلُّهُمْ: أَنَا آتِيكُمْ بِأَحْسَنِ مِمَّا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ، آتِيكُمْ بِقصَّة (رستم) و (إسفنديار). فَالْقُرْآنُ أَهَمُّ مَقَاصِدِهِ هَذِهِ الْفَوَائِدُ الْجَامِعَةُ لِأُصُولِ الْخَيْرِ، وَهِيَ كَشْفُ الْجَهَالَاتِ وَالْهُدَى إِلَى الْمَعَارِفِ الْحَقِّ وَحُصُولُ أَثَرِ ذَيْنَكِ الْأَمْرَيْنِ، وَهُوَ الرَّحْمَةُ النَّاشِئَةُ عَنْ مُجَانَبَةِ الضَّلَالِ وَإِتْبَاعِ الْهُدَى.
وَأُدْخِلَتْ لَامُ التَّعْلِيلِ عَلَى فِعْلِ «تَبَيَّنَ» الْوَاقِعِ مَوْقِعَ الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ لِأَنَّهُ مِنْ فِعْلِ الْمُخَاطَبِ لَا مِنْ فِعْلِ فَاعِلِ أَنْزَلْنا، فَالنَّبِيءُ هُوَ الْمُبَاشِرُ لِلْبَيَانِ بِالْقُرْآنِ تَبْلِيغًا وَتَفْسِيرًا.
فَلَا يَصِحُّ فِي الْعَرَبِيَّةِ الْإِتْيَانُ بِالتَّبْيِينِ مَصْدَرًا مَنْصُوبًا عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لِأَجْلِهِ إِذْ لَيْسَ مُتَّحِدًا مَعَ الْعَامِلِ فِي الْفَاعِلِ، وَلِذَلِكَ خُولِفَ فِي الْمَعْطُوفِ فَنُصِبَ هُدىً وَرَحْمَةً لِأَنَّهُمَا مِنْ أَفْعَالِ مُنْزِلِ الْقُرْآنِ، فَاللَّهُ هُوَ الْهَادِي وَالرَّاحِمُ بِالْقُرْآنِ، وَكُلٌّ مِنَ الْبَيَانِ وَالْهُدَى وَالرَّحْمَةِ حَاصِلٌ بِالْقُرْآنِ فَآلَتِ الصِّفَاتُ الثَّلَاثُ إِلَى أَنَّهَا صِفَاتٌ لِلْقُرْآنِ أَيْضًا.
196
وَالتَّعْبِيرُ بِ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ دُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ، أَوْ لِلَّذِينَ آمَنُوا، لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّهُمُ الَّذِينَ الْإِيمَانُ كَالسَّجِيَّةِ لَهُمْ وَالْعَادَةُ الرَّاسِخَةُ الَّتِي تَتَقَوَّمُ بِهَا قَوْمِيَّتُهُمْ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٤].
وَهَاتِهِ الْآيَةُ بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ لِلْعِبَرِ وَالْحُجَجِ النَّاشِئَةِ عَنْ وَصْفِ أَحْوَالِ الْمَخْلُوقَاتِ وَنِعَمِ الْخَالِقِ عَلَى النَّاسِ الْمُبْتَدِئَةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ [سُورَة النَّحْل:
١٧].
[٦٥]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٦٥]
وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٥)
انْتَهَى الْكَلَامُ الْمُعْتَرَضُ بِهِ وَعَادَ الْكَلَامُ إِلَى دَلَائِلِ الِانْفِرَادِ بِالْخَلْقِ مَعَ مَا أُدْمِجَ فِيهِ ذَلِكَ مِنَ التَّذْكِيرِ بِالنِّعَمِ. فَهَذِهِ مِنَّةٌ مِنَ الْمِنَنِ وَعِبْرَةٌ مِنَ الْعِبَرِ وَحُجَّةٌ مِنَ الْحُجَجِ الْمُتَفَرِّعَةِ عَنِ التَّذْكِيرِ بِنِعَمِ اللَّهِ وَالِاعْتِبَارِ بِعَجِيبِ صُنْعِهِ.
عَادَ الْكَلَامُ إِلَى تَعْدَادِ نِعَمٍ جَمَّةٍ وَمَعَهَا مَا فِيهَا مِنَ الْعِبَرِ أَيْضًا جَمْعًا عَجِيبًا بَيْنَ الِاسْتِدْلَالِ وَوَصْلًا لِلْكَلَامِ الْمُفَارِقِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [سُورَة النَّحْل:
١٦]، كَمَا عَلِمْتَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ. فَكَانَ ذِكْرُ إِنْزَالِ الْمَاءِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ مَسُوقًا مَسَاقَ الِاسْتِدْلَالِ، وَهُوَ هُنَا مَسُوقٌ مَسَاقَ الِامْتِنَانِ بِنِعْمَةِ إِحْيَاءِ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا بِالْمَاءِ النَّازِلِ مِنَ السَّمَاءِ.
وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ خَالَفَتْ هَذِهِ النِّعْمَةُ النِّعْمَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي قَوْلِهِ سَابِقًا هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ [سُورَة النَّحْل: ١٠] بِاخْتِلَافِ الْغَرَضِ الْأَوَّلِيِّ، فَهُوَ هُنَا لَك الِاسْتِدْلَالُ بِتَكْوِينِ الْمَاءِ وَهُنَا الِامْتِنَانُ.
وَبِنَاءُ الْجُمْلَةِ عَلَى الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ لِإِفَادَةِ التَّخْصِيصِ، أَيِ اللَّهُ لَا غَيْرُهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً. وَذَلِكَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ
لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٤].
وَهَاتِهِ الْآيَةُ بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ لِلْعِبَرِ وَالْحُجَجِ النَّاشِئَةِ عَنْ وَصْفِ أَحْوَالِ الْمَخْلُوقَاتِ وَنِعَمِ الْخَالِقِ عَلَى النَّاسِ الْمُبْتَدِئَةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ [سُورَة النَّحْل:
١٧].
[٦٥]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٦٥]
وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٥)
انْتَهَى الْكَلَامُ الْمُعْتَرَضُ بِهِ وَعَادَ الْكَلَامُ إِلَى دَلَائِلِ الِانْفِرَادِ بِالْخَلْقِ مَعَ مَا أُدْمِجَ فِيهِ ذَلِكَ مِنَ التَّذْكِيرِ بِالنِّعَمِ. فَهَذِهِ مِنَّةٌ مِنَ الْمِنَنِ وَعِبْرَةٌ مِنَ الْعِبَرِ وَحُجَّةٌ مِنَ الْحُجَجِ الْمُتَفَرِّعَةِ عَنِ التَّذْكِيرِ بِنِعَمِ اللَّهِ وَالِاعْتِبَارِ بِعَجِيبِ صُنْعِهِ.
عَادَ الْكَلَامُ إِلَى تَعْدَادِ نِعَمٍ جَمَّةٍ وَمَعَهَا مَا فِيهَا مِنَ الْعِبَرِ أَيْضًا جَمْعًا عَجِيبًا بَيْنَ الِاسْتِدْلَالِ وَوَصْلًا لِلْكَلَامِ الْمُفَارِقِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [سُورَة النَّحْل:
١٦]، كَمَا عَلِمْتَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ. فَكَانَ ذِكْرُ إِنْزَالِ الْمَاءِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ مَسُوقًا مَسَاقَ الِاسْتِدْلَالِ، وَهُوَ هُنَا مَسُوقٌ مَسَاقَ الِامْتِنَانِ بِنِعْمَةِ إِحْيَاءِ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا بِالْمَاءِ النَّازِلِ مِنَ السَّمَاءِ.
وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ خَالَفَتْ هَذِهِ النِّعْمَةُ النِّعْمَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي قَوْلِهِ سَابِقًا هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ [سُورَة النَّحْل: ١٠] بِاخْتِلَافِ الْغَرَضِ الْأَوَّلِيِّ، فَهُوَ هُنَا لَك الِاسْتِدْلَالُ بِتَكْوِينِ الْمَاءِ وَهُنَا الِامْتِنَانُ.
وَبِنَاءُ الْجُمْلَةِ عَلَى الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ لِإِفَادَةِ التَّخْصِيصِ، أَيِ اللَّهُ لَا غَيْرُهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً. وَذَلِكَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ
197
مِنْ شَيْءٍ [سُورَة الرّوم: ٤٠]. وَإِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ دُونَ الْإِضْمَارِ الَّذِي هُوَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِقَصْدِ التَّنْوِيهِ بِالْخَبَرِ إِذِ افْتُتِحَ بِهَذَا الِاسْمِ، وَلِأَنَّ دَلَالَةَ الِاسْمِ الْعَلَمِ أَوْضَحُ وَأَصْرَحُ. فَهُوَ مُقْتَضَى مَقَامِ تَحْقِيقِ الِانْفِرَادِ بِالْخَلْقِ وَالْإِنْعَامِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ شُرَكَائِهِمْ، لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ يُقِرُّونَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ فَاعِلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ.
وَإِحْيَاءُ الْأَرْضِ: إِخْرَاجُ مَا فِيهِ الْحَيَاةُ، وَهُوَ الْكَلَأُ وَالشَّجَرُ. وَمَوْتُهَا ضِدُّ ذَلِكَ، فَتَعْدِيَةُ فِعْلِ (أَحْيَا) إِلَى الْأَرْضِ تَعْدِيَةٌ مَجَازِيَّةٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٤]، وَتَقَدَّمَ وَجْهُ الْعِبْرَةِ فِي آيَةِ نزُول الْمَطَر هُنَا لَك.
وَجُمْلَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً مُسْتَأْنَفَةٌ. وَالتَّأْكِيدُ بِ إِنَّ وَلَامِ الِابْتِدَاءِ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَهْتَدِ بِذَلِكَ إِلَى الْوَحْدَانِيَّةِ يُنْكِرُونَ أَنَّ الْقَوْمَ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ ذَلِكَ قَدْ عَلِمُوا دَلَالَتَهُ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ، أَيْ يُنْكِرُونَ صَلَاحِيَةَ ذَلِكَ لِلِاسْتِدْلَالِ.
وَالْإِتْيَانُ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ دُونَ الضَّمِيرِ لِيَكُونَ مَحَلُّ الْآيَةِ جَمِيعَ الْمَذْكُورَاتِ مِنْ إِنْزَالِ الْمَطَرِ وَإِحْيَاءِ الْأَرْضِ بِهِ وَمَوْتِهَا مِنْ قَبْلِ الْإِحْيَاءِ.
وَالْكَلَامُ فِي «قَوْمٍ يَسْمَعُونَ» كَالْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ آنِفًا: لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [سُورَة النَّحْل:
٦٤].
وَالسَّمْعُ: هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِ مَعْنَاهُ عَلَى سَبِيلِ الْكِنَايَةِ، وَهُوَ سَمَاعُ التَّدَبُّرِ
وَالْإِنْصَافِ لِمَا تَدَبَّرُوا بِهِ. وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَمْ يَفْهَمُوا دَلَالَةَ ذَلِكَ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ. وَلِذَلِكَ اخْتِيرَ وَصْفُ السَّمْعِ هُنَا الْمُرَادُ مِنْهُ الْإِنْصَافُ وَالِامْتِثَالُ لِأَنَّ دَلَالَةَ الْمَطَرِ وَحَيَاةَ الْأَرْضِ بِهِ مَعْرُوفَةٌ مَشْهُورَةٌ وَدَلَالَةُ ذَلِكَ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى ظَاهِرَةٌ لَا يَصُدُّ عَنْهَا إِلَّا المكابرة.
وَإِحْيَاءُ الْأَرْضِ: إِخْرَاجُ مَا فِيهِ الْحَيَاةُ، وَهُوَ الْكَلَأُ وَالشَّجَرُ. وَمَوْتُهَا ضِدُّ ذَلِكَ، فَتَعْدِيَةُ فِعْلِ (أَحْيَا) إِلَى الْأَرْضِ تَعْدِيَةٌ مَجَازِيَّةٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٤]، وَتَقَدَّمَ وَجْهُ الْعِبْرَةِ فِي آيَةِ نزُول الْمَطَر هُنَا لَك.
وَجُمْلَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً مُسْتَأْنَفَةٌ. وَالتَّأْكِيدُ بِ إِنَّ وَلَامِ الِابْتِدَاءِ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَهْتَدِ بِذَلِكَ إِلَى الْوَحْدَانِيَّةِ يُنْكِرُونَ أَنَّ الْقَوْمَ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ ذَلِكَ قَدْ عَلِمُوا دَلَالَتَهُ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ، أَيْ يُنْكِرُونَ صَلَاحِيَةَ ذَلِكَ لِلِاسْتِدْلَالِ.
وَالْإِتْيَانُ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ دُونَ الضَّمِيرِ لِيَكُونَ مَحَلُّ الْآيَةِ جَمِيعَ الْمَذْكُورَاتِ مِنْ إِنْزَالِ الْمَطَرِ وَإِحْيَاءِ الْأَرْضِ بِهِ وَمَوْتِهَا مِنْ قَبْلِ الْإِحْيَاءِ.
وَالْكَلَامُ فِي «قَوْمٍ يَسْمَعُونَ» كَالْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ آنِفًا: لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [سُورَة النَّحْل:
٦٤].
وَالسَّمْعُ: هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِ مَعْنَاهُ عَلَى سَبِيلِ الْكِنَايَةِ، وَهُوَ سَمَاعُ التَّدَبُّرِ
وَالْإِنْصَافِ لِمَا تَدَبَّرُوا بِهِ. وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَمْ يَفْهَمُوا دَلَالَةَ ذَلِكَ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ. وَلِذَلِكَ اخْتِيرَ وَصْفُ السَّمْعِ هُنَا الْمُرَادُ مِنْهُ الْإِنْصَافُ وَالِامْتِثَالُ لِأَنَّ دَلَالَةَ الْمَطَرِ وَحَيَاةَ الْأَرْضِ بِهِ مَعْرُوفَةٌ مَشْهُورَةٌ وَدَلَالَةُ ذَلِكَ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى ظَاهِرَةٌ لَا يَصُدُّ عَنْهَا إِلَّا المكابرة.
198
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٦٦]
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (٦٦)هَذِهِ حُجَّةٌ أُخْرَى وَمِنَّةٌ مِنَ الْمِنَنِ النَّاشِئَةِ عَنْ مَنَافِعِ خَلْقِ الْأَنْعَامِ، أُدْمِجَ فِي مِنَّتِهَا الْعِبْرَةُ بِمَا فِي دَلَالَتِهَا عَلَى بَدِيعِ صُنْعِ اللَّهِ تَبَعًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ إِلَى قَوْله: لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ [سُورَة النَّحْل: ٥- ٧].
وَمُنَاسَبَةُ ذِكْرِ هَذِهِ النِّعْمَةِ هُنَا أَنَّ بِأَلْبَانِ الْأَنْعَامِ حَيَاةَ الْإِنْسَانِ كَمَا تَحْيَا الْأَرْضُ بِمَاءِ السَّمَاءِ، وَأَنَّ لِآثَارِ مَاءِ السَّمَاءِ أَثَرًا فِي تَكْوِينِ أَلْبَانِ الْحَيَوَانِ بِالْمَرْعَى.
وَاخْتَصَّتْ هَذِهِ الْعِبْرَةُ بِمَا تُنَبِّهُ إِلَيْهِ مِنْ بَدِيعِ الصُّنْعِ وَالْحِكْمَةِ فِي خَلْقِ الْأَلْبَانِ بِقَوْلِهِ:
مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً، ثُمَّ بِالتَّذْكِيرِ بِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ النِّعْمَةِ عَلَى النَّاسِ إِدْمَاجًا لِلْعِبْرَةِ بِالْمِنَّةِ.
فَجُمْلَةُ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ [سُورَة النَّحْل: ٦٥]، أَيْ كَمَا كَانَ الْقَوْم يَسْمَعُونَ عِبْرَةٌ فِي إِنْزَالِ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ عِبْرَةٌ أَيْضًا، إِذْ قَدْ كَانَ الْمُخَاطَبُونَ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ الْقَوْمَ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ.
وَضَمِيرُ الْخِطَابِ الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ. وَتَوْكِيدُهَا بِ إِنَّ وَلَامِ الِابْتِدَاءِ كَتَأْكِيدِ الْجُمْلَةِ قَبْلَهَا.
والْأَنْعامِ: اسْمُ جَمْعٍ لِكُلِّ جَمَاعَةٍ مِنْ أَحَدِ أَصْنَافِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالضَّأْنِ وَالْمَعْزِ.
وَالْعِبْرَةُ: مَا يُتَّعَظُ بِهِ وَيُعْتَبَرُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي نِهَايَةِ سُورَةِ يُوسُفَ.
وَجُمْلَةُ نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ الْبَيَانِ لِجُمْلَةِ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً.
وَالْبُطُونُ: جَمْعُ بَطْنٍ، وَهُوَ اسْمٌ لِلْجَوْفِ الْحَاوِيَةِ لِلْجِهَازِ الْهَضْمِيِّ كُلِّهِ مِنْ مَعِدَةٍ وَكَبِدٍ
وَأَمْعَاءَ.
199
وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِمَّا فِي بُطُونِهِ ابْتِدَائِيَّةٌ، لِأَنَّ اللَّبَنَ يُفْرَزُ عَنِ الْعَلَفِ الَّذِي فِي الْبُطُون. وَمَا صدق «مَا فِي بُطُونِهِ» الْعَلَفُ. وَيَجُوزُ جَعْلُهَا تَبْعِيضِيَّةً وَيكون مَا صدق «مَا فِي بُطُونِهِ» هُوَ اللَّبَنُ اعْتِدَادًا بِحَالَةِ مُرُورِهِ فِي دَاخِلِ الْأَجْهِزَةِ الْهَضْمِيَّةِ قَبْلَ انْحِدَارِهِ فِي الضَّرْعِ.
ومِنْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ زَائِدَةٌ لِتَوْكِيدِ التَّوَسُّطِ، أَيْ يُفْرَزُ فِي حَالَةٍ بَيْنَ حَالَتَيِ الْفَرْثِ وَالدَّمِ.
وَوَقَعَ الْبَيَانُ بِ نُسْقِيكُمْ دُونَ أَنْ يُقَالَ: تَشْرَبُونَ أَوْ نَحْوُهُ، إِدْمَاجًا لِلْمِنَّةِ مَعَ الْعِبْرَةِ.
وَوَجْهُ الْعِبْرَةِ فِي ذَلِكَ أَنَّ مَا تَحْتَوِيهِ بُطُونُ الْأَنْعَامِ مِنَ الْعَلَفِ وَالْمَرْعَى يَنْقَلِبُ بِالْهَضْمِ فِي الْمَعِدَةِ، ثُمَّ الْكَبِدِ، ثُمَّ غُدَدِ الضَّرْعِ، مَائِعًا يُسْقَى وَهُوَ مُفْرَزٌ مِنْ بَيْنِ إِفْرَازِ فَرْثٍ وَدَمٍ.
وَالْفَرْثُ: الْفَضَلَاتُ الَّتِي تَرَكَهَا الْهَضْمُ الْمُعْدِي فَتَنْحَدِرُ إِلَى الْأَمْعَاءِ فَتَصِيرُ فَرْثًا.
وَالدَّمُ: إِفْرَازٌ تَفْرِزُهُ الْكَبِدُ مِنَ الْغِذَاءِ الْمُنْحَدِرِ إِلَيْهَا وَيَصْعَدُ إِلَى الْقَلْبِ فَتَدْفَعُهُ حَرَكَة الْقلب الميكانيكية إِلَى الشَّرَايِينِ وَالْعُرُوقِ وَيَبْقَى يَدُورُ كَذَلِكَ بِوَاسِطَةِ الْقَلْبِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [٣].
وَمَعْنَى كَونِ اللَّبَنِ مِنْ بَيْنِ الْفَرْثِ وَالدَّمِ أَنَّهُ إِفْرَازٌ حَاصِلٌ فِي حِينِ إِفْرَازِ الدَّمِ وَإِفْرَازِ الْفَرْثِ. وَعَلَاقَتُهُ بِالْفَرْثِ أَنَّ الدَّمَ الَّذِي يَنْحَدِرُ فِي عُرُوقِ الضَّرع يمرّ بجوار الْفَضَلَاتِ الْبَوْلِيَّةِ وَالثُّفْلِيَّةِ، فَتُفْرِزُهُ غُدَدُ الضَّرْعِ لَبَنًا كَمَا تُفْرِزُهُ غُدَدُ الْكُلْيَتَيْنِ بَوْلًا بِدُونِ مُعَالَجَةٍ زَائِدَةٍ، وَكَمَا تُفْرِزُ تَكَامِيشُ الْأَمْعَاءِ ثُفْلًا بِدُونِ مُعَالَجَةٍ بِخِلَافِ إِفْرَازِ غُدَدِ الْمَثَانَةِ لِلْمَنِيِّ لِتَوَقُّفِهِ عَلَى مُعَالَجَةٍ يَنْحَدِرُ بِهَا الدَّمُ إِلَيْهَا.
وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ اللَّبَنَ يَتَمَيَّعُ مِنْ بَيْنِ طَبَقَتَيْ فَرْثٍ وَدَمٍ، وَإِنَّمَا الَّذِي أَوْهَمَ ذَلِكَ مَنْ تَوَهَّمَهُ حَمْلُهُ بَيْنِ عَلَى حَقِيقَتِهَا مِنْ ظَرْفِ الْمَكَانِ، وَإِنَّمَا هِيَ
ومِنْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ زَائِدَةٌ لِتَوْكِيدِ التَّوَسُّطِ، أَيْ يُفْرَزُ فِي حَالَةٍ بَيْنَ حَالَتَيِ الْفَرْثِ وَالدَّمِ.
وَوَقَعَ الْبَيَانُ بِ نُسْقِيكُمْ دُونَ أَنْ يُقَالَ: تَشْرَبُونَ أَوْ نَحْوُهُ، إِدْمَاجًا لِلْمِنَّةِ مَعَ الْعِبْرَةِ.
وَوَجْهُ الْعِبْرَةِ فِي ذَلِكَ أَنَّ مَا تَحْتَوِيهِ بُطُونُ الْأَنْعَامِ مِنَ الْعَلَفِ وَالْمَرْعَى يَنْقَلِبُ بِالْهَضْمِ فِي الْمَعِدَةِ، ثُمَّ الْكَبِدِ، ثُمَّ غُدَدِ الضَّرْعِ، مَائِعًا يُسْقَى وَهُوَ مُفْرَزٌ مِنْ بَيْنِ إِفْرَازِ فَرْثٍ وَدَمٍ.
وَالْفَرْثُ: الْفَضَلَاتُ الَّتِي تَرَكَهَا الْهَضْمُ الْمُعْدِي فَتَنْحَدِرُ إِلَى الْأَمْعَاءِ فَتَصِيرُ فَرْثًا.
وَالدَّمُ: إِفْرَازٌ تَفْرِزُهُ الْكَبِدُ مِنَ الْغِذَاءِ الْمُنْحَدِرِ إِلَيْهَا وَيَصْعَدُ إِلَى الْقَلْبِ فَتَدْفَعُهُ حَرَكَة الْقلب الميكانيكية إِلَى الشَّرَايِينِ وَالْعُرُوقِ وَيَبْقَى يَدُورُ كَذَلِكَ بِوَاسِطَةِ الْقَلْبِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [٣].
وَمَعْنَى كَونِ اللَّبَنِ مِنْ بَيْنِ الْفَرْثِ وَالدَّمِ أَنَّهُ إِفْرَازٌ حَاصِلٌ فِي حِينِ إِفْرَازِ الدَّمِ وَإِفْرَازِ الْفَرْثِ. وَعَلَاقَتُهُ بِالْفَرْثِ أَنَّ الدَّمَ الَّذِي يَنْحَدِرُ فِي عُرُوقِ الضَّرع يمرّ بجوار الْفَضَلَاتِ الْبَوْلِيَّةِ وَالثُّفْلِيَّةِ، فَتُفْرِزُهُ غُدَدُ الضَّرْعِ لَبَنًا كَمَا تُفْرِزُهُ غُدَدُ الْكُلْيَتَيْنِ بَوْلًا بِدُونِ مُعَالَجَةٍ زَائِدَةٍ، وَكَمَا تُفْرِزُ تَكَامِيشُ الْأَمْعَاءِ ثُفْلًا بِدُونِ مُعَالَجَةٍ بِخِلَافِ إِفْرَازِ غُدَدِ الْمَثَانَةِ لِلْمَنِيِّ لِتَوَقُّفِهِ عَلَى مُعَالَجَةٍ يَنْحَدِرُ بِهَا الدَّمُ إِلَيْهَا.
وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ اللَّبَنَ يَتَمَيَّعُ مِنْ بَيْنِ طَبَقَتَيْ فَرْثٍ وَدَمٍ، وَإِنَّمَا الَّذِي أَوْهَمَ ذَلِكَ مَنْ تَوَهَّمَهُ حَمْلُهُ بَيْنِ عَلَى حَقِيقَتِهَا مِنْ ظَرْفِ الْمَكَانِ، وَإِنَّمَا هِيَ
200
تُسْتَعْمَلُ كَثِيرًا فِي الْمَكَانِ الْمَجَازِيِّ فَيُرَادُ بِهَا الْوَسَطُ بَيْنَ مَرْتَبَتَيْنِ كَقَوْلِهِمُ: الشَّجَاعَةُ صِفَةٌ بَيْنَ التَّهَوُّرِ وَالْجُبْنِ. فَمِنْ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ هَذَا التَّعْبِيرُ الْقَرِيبُ لِلْأَفْهَامِ لِكُلِّ طَبَقَةٍ مِنَ النَّاسِ بِحَسَبِ مَبَالِغِ عِلْمِهِمْ، مَعَ كَوْنِهِ مُوَافِقًا لِلْحَقِيقَةِ.
وَالْمَعْنَى: إِفْرَازٌ لَيْسَ هُوَ بِدَمٍ لِأَنَّهُ أَلْيَنُ مِنَ الدَّمِ، وَلِأَنَّهُ غَيْرُ بَاقٍ فِي عُرُوقِ الضَّرْعِ كَبَقَاءِ الدَّمِ فِي الْعُرُوقِ، فَهُوَ شَبِيهٌ بِالْفَضَلَاتِ فِي لُزُومِ إِفْرَازِهِ، وَلَيْسَ هُوَ بِالْفَضْلَةِ لِأَنَّهُ إِفْرَازٌ
طَاهِرٌ نَافِعٌ مُغَذٍّ، وَلَيْسَ قَذَرًا ضَارًّا غَيْرَ صَالِحٍ لِلتَّغْذِيَةِ كَالْبَوْلِ وَالثُّفْلِ.
وَمَوْقِعُ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ مَوْقِعُ الصِّفَةِ لِ لَبَناً، قُدِّمَتْ عَلَيْهِ لِلِاهْتِمَامِ بِهَا لِأَنَّهَا مَوْضِعُ الْعِبْرَةِ، فَكَانَ لَهَا مَزِيدُ اهْتِمَامٍ، وَقَدْ صَارَتْ بِالتَّقْدِيمِ حَالًا.
وَلَمَّا كَانَ اللَّبَنُ يَحْصُلُ فِي الضَّرْعِ لَا فِي الْبَطْنِ جُعِلَ مَفْعُولًا لِ نُسْقِيكُمْ، وَجُعِلَ مِمَّا فِي بُطُونِهِ تَبْيِينًا لِمَصْدَرِهِ لَا لِمَوْرِدِهِ، فَلَيْسَ اللَّبَنُ مِمَّا فِي الْبُطُونِ وَلِذَلِكَ كَانَ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مُتَقَدِّمًا فِي الذِّكْرِ لِيَظْهَرَ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ نُسْقِيكُمْ وَلَيْسَ وَصْفًا لِلَّبَنِ.
وَقَدْ أَحَاطَ بِالْأَوْصَافِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا لِلَّبَنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ.
فَخُلُوصُهُ نَزَاهَتُهُ مِمَّا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْبَوْلُ وَالثُّفْلُ، وَسَوْغُهُ لِلشَّارِبِينَ سَلَامَتُهُ مِمَّا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الدَّمُ مِنَ الْمَضَارِّ لِمَنْ شَرِبَهُ، فَلِذَلِكَ لَا يُسِيغُهُ الشَّارِبُ وَيَتَجَهَّمُهُ.
وَهَذَا الْوَصْفُ الْعَجِيبُ مِنْ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ الْعِلْمِيَّةِ، إِذْ هُوَ وَصْفٌ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ يَوْمَئِذٍ أَنْ يَعْرِفَ دَقَائِقَ تَكْوِينِهِ، وَلَا أَنْ يَأْتِيَ عَلَى وَصْفِهِ بِمَا لَوْ وَصَفَ بِهِ الْعَالِمُ الطَّبِيعِيُّ لَمْ يَصِفْهُ بِأَوْجَزَ مِنْ هَذَا وَأَجْمَعِ.
وَإِفْرَادُ ضَمِيرِ الْأَنْعَامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِمَّا فِي بُطُونِهِ مُرَاعَاةً لِكَوْنِ اللَّفْظِ مُفْرَدًا لِأَنَّ اسْمَ الْجَمْعِ لَفْظٌ مُفْرَدٌ، إِذْ لَيْسَ مِنْ صِيَغِ الْجُمُوعِ، فَقَدْ يُرَاعَى
وَالْمَعْنَى: إِفْرَازٌ لَيْسَ هُوَ بِدَمٍ لِأَنَّهُ أَلْيَنُ مِنَ الدَّمِ، وَلِأَنَّهُ غَيْرُ بَاقٍ فِي عُرُوقِ الضَّرْعِ كَبَقَاءِ الدَّمِ فِي الْعُرُوقِ، فَهُوَ شَبِيهٌ بِالْفَضَلَاتِ فِي لُزُومِ إِفْرَازِهِ، وَلَيْسَ هُوَ بِالْفَضْلَةِ لِأَنَّهُ إِفْرَازٌ
طَاهِرٌ نَافِعٌ مُغَذٍّ، وَلَيْسَ قَذَرًا ضَارًّا غَيْرَ صَالِحٍ لِلتَّغْذِيَةِ كَالْبَوْلِ وَالثُّفْلِ.
وَمَوْقِعُ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ مَوْقِعُ الصِّفَةِ لِ لَبَناً، قُدِّمَتْ عَلَيْهِ لِلِاهْتِمَامِ بِهَا لِأَنَّهَا مَوْضِعُ الْعِبْرَةِ، فَكَانَ لَهَا مَزِيدُ اهْتِمَامٍ، وَقَدْ صَارَتْ بِالتَّقْدِيمِ حَالًا.
وَلَمَّا كَانَ اللَّبَنُ يَحْصُلُ فِي الضَّرْعِ لَا فِي الْبَطْنِ جُعِلَ مَفْعُولًا لِ نُسْقِيكُمْ، وَجُعِلَ مِمَّا فِي بُطُونِهِ تَبْيِينًا لِمَصْدَرِهِ لَا لِمَوْرِدِهِ، فَلَيْسَ اللَّبَنُ مِمَّا فِي الْبُطُونِ وَلِذَلِكَ كَانَ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مُتَقَدِّمًا فِي الذِّكْرِ لِيَظْهَرَ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ نُسْقِيكُمْ وَلَيْسَ وَصْفًا لِلَّبَنِ.
وَقَدْ أَحَاطَ بِالْأَوْصَافِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا لِلَّبَنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ.
فَخُلُوصُهُ نَزَاهَتُهُ مِمَّا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْبَوْلُ وَالثُّفْلُ، وَسَوْغُهُ لِلشَّارِبِينَ سَلَامَتُهُ مِمَّا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الدَّمُ مِنَ الْمَضَارِّ لِمَنْ شَرِبَهُ، فَلِذَلِكَ لَا يُسِيغُهُ الشَّارِبُ وَيَتَجَهَّمُهُ.
وَهَذَا الْوَصْفُ الْعَجِيبُ مِنْ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ الْعِلْمِيَّةِ، إِذْ هُوَ وَصْفٌ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ يَوْمَئِذٍ أَنْ يَعْرِفَ دَقَائِقَ تَكْوِينِهِ، وَلَا أَنْ يَأْتِيَ عَلَى وَصْفِهِ بِمَا لَوْ وَصَفَ بِهِ الْعَالِمُ الطَّبِيعِيُّ لَمْ يَصِفْهُ بِأَوْجَزَ مِنْ هَذَا وَأَجْمَعِ.
وَإِفْرَادُ ضَمِيرِ الْأَنْعَامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِمَّا فِي بُطُونِهِ مُرَاعَاةً لِكَوْنِ اللَّفْظِ مُفْرَدًا لِأَنَّ اسْمَ الْجَمْعِ لَفْظٌ مُفْرَدٌ، إِذْ لَيْسَ مِنْ صِيَغِ الْجُمُوعِ، فَقَدْ يُرَاعَى
201
اللَّفْظُ فَيَأْتِي ضَمِيرُهُ مُفْرَدًا، وَقَدْ يُرَاعَى مَعْنَاهُ فَيُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الْجُمُوعِ، كَمَا فِي آيَةِ سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ [٢١] نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها.
وَالْخَالِصُ: الْمُجَرَّدُ مِمَّا يُكَدِّرُ صَفَاءَهُ، فَهُوَ الصَّافِي. وَالسَّائِغُ: السَّهْلُ الْمُرُورِ فِي الْحَلْقِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَيَعْقُوبَ نُسْقِيكُمْ- بِفَتْحِ النُّونِ- مُضَارِعُ سَقَى. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ- بِضَمِّ النُّونِ- عَلَى أَنَّهُ مُضَارِعُ أَسْقَى، وَهُمَا لُغَتَانِ، وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ بِمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ مَفْتُوحَةٍ عِوَضًا عَنِ النُّونِ عَلَى أَنَّ الضَّمِير للأنعام.
[٦٧]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٦٧]
وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٦٧)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً [سُورَة النَّحْل: ٦٦].
وَوُجُودُ مِنْ فِي صَدْرِ الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى تَقْدِيرِ فِعْلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ الَّذِي فِي الْجُمْلَةِ قَبْلَهَا وَهُوَ نُسْقِيكُمْ [النَّحْل: ٦٦]. فَالتَّقْدِيرُ: وَنَسْقِيكُمْ مِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ. وَلَيْسَ مُتَعَلِّقًا بِ تَتَّخِذُونَ، كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ وُجُودُ (مِنْ) الثَّانِيَةِ فِي قَوْلِهِ:
تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً الْمَانِعُ مِنَ اعْتِبَارِ تَعَلُّقِ مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ بِ تَتَّخِذُونَ، فَإِنَّ نُظُمَ الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى قَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ وَلَا يَصِحُّ جَعْلُهُ مُتَعَلِّقًا بِ تَتَّخِذُونَ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ يَبْعُدُ الْمَعْنَى عَنْ الِامْتِنَانِ بِلُطْفِ اللَّهِ تَعَالَى إِذْ جَعَلَ نَفْسَهُ السَّاقِي لِلنَّاسِ.
وَهَذَا عَطْفٌ مِنْهُ عَلَى مِنَّةٍ، لِأَنَّ نُسْقِيكُمْ وَقَعَ بَيَانًا لِجُمْلَةِ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً.
وَمُفَادُ فِعْلِ نُسْقِيكُمْ مُفَادُ الِامْتِنَانِ لِأَنَّ السَّقْيَ مَزِيَّةٌ. وَكِلْتَا الْعِبْرَتَيْنِ فِي السَّقْيِ.
وَالْمُنَاسَبَةُ أَنَّ كِلْتَيْهِمَا مَاءٌ وَأَنَّ كِلْتَيْهِمَا يُضْغَطُ بِالْيَدِ، وَقَدْ أَطْلَقَ
وَالْخَالِصُ: الْمُجَرَّدُ مِمَّا يُكَدِّرُ صَفَاءَهُ، فَهُوَ الصَّافِي. وَالسَّائِغُ: السَّهْلُ الْمُرُورِ فِي الْحَلْقِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَيَعْقُوبَ نُسْقِيكُمْ- بِفَتْحِ النُّونِ- مُضَارِعُ سَقَى. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ- بِضَمِّ النُّونِ- عَلَى أَنَّهُ مُضَارِعُ أَسْقَى، وَهُمَا لُغَتَانِ، وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ بِمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ مَفْتُوحَةٍ عِوَضًا عَنِ النُّونِ عَلَى أَنَّ الضَّمِير للأنعام.
[٦٧]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٦٧]
وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٦٧)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً [سُورَة النَّحْل: ٦٦].
وَوُجُودُ مِنْ فِي صَدْرِ الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى تَقْدِيرِ فِعْلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ الَّذِي فِي الْجُمْلَةِ قَبْلَهَا وَهُوَ نُسْقِيكُمْ [النَّحْل: ٦٦]. فَالتَّقْدِيرُ: وَنَسْقِيكُمْ مِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ. وَلَيْسَ مُتَعَلِّقًا بِ تَتَّخِذُونَ، كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ وُجُودُ (مِنْ) الثَّانِيَةِ فِي قَوْلِهِ:
تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً الْمَانِعُ مِنَ اعْتِبَارِ تَعَلُّقِ مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ بِ تَتَّخِذُونَ، فَإِنَّ نُظُمَ الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى قَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ وَلَا يَصِحُّ جَعْلُهُ مُتَعَلِّقًا بِ تَتَّخِذُونَ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ يَبْعُدُ الْمَعْنَى عَنْ الِامْتِنَانِ بِلُطْفِ اللَّهِ تَعَالَى إِذْ جَعَلَ نَفْسَهُ السَّاقِي لِلنَّاسِ.
وَهَذَا عَطْفٌ مِنْهُ عَلَى مِنَّةٍ، لِأَنَّ نُسْقِيكُمْ وَقَعَ بَيَانًا لِجُمْلَةِ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً.
وَمُفَادُ فِعْلِ نُسْقِيكُمْ مُفَادُ الِامْتِنَانِ لِأَنَّ السَّقْيَ مَزِيَّةٌ. وَكِلْتَا الْعِبْرَتَيْنِ فِي السَّقْيِ.
وَالْمُنَاسَبَةُ أَنَّ كِلْتَيْهِمَا مَاءٌ وَأَنَّ كِلْتَيْهِمَا يُضْغَطُ بِالْيَدِ، وَقَدْ أَطْلَقَ
202
الْعَرَبُ الْحَلْبَ عَلَى عَصِيرِ الْخَمْرِ وَالنَّبِيذِ، قَالَ حَسَّانٌ يَذْكُرُ الْخَمْرَ الْمَمْزُوجَةَ وَالْخَالِصَةَ:
وَيُشِيرُ إِلَى كَوْنِهِمَا عِبْرَتَيْنِ مِنْ نَوْعٍ مُتَقَارِبٍ جَعْلُ التَّذْيِيلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً عَقِبَ ذِكْرِ السَّقْيَيْنِ دُونَ أَنْ يُذَيِّلَ سَقْيَ الْأَلْبَانِ بِكَوْنِهِ آيَةً، فَالْعِبْرَةُ فِي خلق تِلْكَ الثِّمَارِ صَالِحَةً لِلْعَصْرِ وَالِاخْتِمَارِ، وَمُشْتَمِلَةً عَلَى مَنَافِعَ لِلنَّاسِ وَلَذَّاتٍ. وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ. فَهَذَا مُرْتَبِطٌ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْعِبْرَةِ بِخَلْقِ النَّبَاتِ وَالثَّمَرَاتِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ [سُورَة النَّحْل: ١١] الْآيَةَ.
وَجُمْلَةُ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً إِلَخْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ.
وَ (مِنْ) فِي الْمَوْضِعَيْنِ ابْتِدَائِيَّةٌ، فَالْأُولَى مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلِ نُسْقِيكُمْ الْمُقَدَّرِ، وَالثَّانِيَةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلِ تَتَّخِذُونَ. وَلَيْسَتِ الثَّانِيَةُ تَبْعِيضِيَّةً، لِأَنَّ السَّكَرَ لَيْسَ بَعْضَ الثَّمَرَاتِ، فَمَعْنَى الِابْتِدَاءِ يَنْتَظِمُ كِلَا الْحَرْفَيْنِ.
وَالسَّكَرُ- بِفَتْحَتَيْنِ-: الشَّرَابُ الْمُسْكِرُ.
وَهَذَا امْتِنَانٌ بِمَا فِيهِ لَذَّتُهُمُ الْمَرْغُوبَةُ لَدَيْهِمْ وَالْمُتَفَشِّيَةُ فِيهِمْ (وَذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ وَتَحْرِيمُ الْخَمْرِ نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ) فَالِامْتِنَانُ حِينَئِذٍ بِمُبَاحٍ.
وَالرِّزْقُ: الطَّعَامُ، وَوُصِفَ بِ حَسَناً لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَنَافِعِ، وَذَلِكَ التَّمْرُ وَالْعِنَبُ
لِأَنَّهُمَا حُلْوَانِ لَذِيذَانِ يُؤْكَلَانِ رَطْبَيْنِ وَيَابِسَيْنِ قَابِلَانِ لِلِادِّخَارِ، وَمِنْ أَحْوَالِ عَصِيرِ الْعِنَبِ أَنْ يَصِيرَ خَلًّا وَرُبًّا.
وَجُمْلَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ تَكْرِيرٌ لِتَعْدَادِ الْآيَةِ لِأَنَّهَا آيَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ.
كِلْتَاهُمَا حَلَبَ الْعَصِيرَ فَعَاطِنِي | بِزُجَاجَةٍ أَرْخَاهُمَا لِلْمَفْصِلِ |
وَجُمْلَةُ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً إِلَخْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ.
وَ (مِنْ) فِي الْمَوْضِعَيْنِ ابْتِدَائِيَّةٌ، فَالْأُولَى مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلِ نُسْقِيكُمْ الْمُقَدَّرِ، وَالثَّانِيَةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلِ تَتَّخِذُونَ. وَلَيْسَتِ الثَّانِيَةُ تَبْعِيضِيَّةً، لِأَنَّ السَّكَرَ لَيْسَ بَعْضَ الثَّمَرَاتِ، فَمَعْنَى الِابْتِدَاءِ يَنْتَظِمُ كِلَا الْحَرْفَيْنِ.
وَالسَّكَرُ- بِفَتْحَتَيْنِ-: الشَّرَابُ الْمُسْكِرُ.
وَهَذَا امْتِنَانٌ بِمَا فِيهِ لَذَّتُهُمُ الْمَرْغُوبَةُ لَدَيْهِمْ وَالْمُتَفَشِّيَةُ فِيهِمْ (وَذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ وَتَحْرِيمُ الْخَمْرِ نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ) فَالِامْتِنَانُ حِينَئِذٍ بِمُبَاحٍ.
وَالرِّزْقُ: الطَّعَامُ، وَوُصِفَ بِ حَسَناً لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَنَافِعِ، وَذَلِكَ التَّمْرُ وَالْعِنَبُ
لِأَنَّهُمَا حُلْوَانِ لَذِيذَانِ يُؤْكَلَانِ رَطْبَيْنِ وَيَابِسَيْنِ قَابِلَانِ لِلِادِّخَارِ، وَمِنْ أَحْوَالِ عَصِيرِ الْعِنَبِ أَنْ يَصِيرَ خَلًّا وَرُبًّا.
وَجُمْلَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ تَكْرِيرٌ لِتَعْدَادِ الْآيَةِ لِأَنَّهَا آيَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ.
203
وَالْقَوْلُ فِي جُمْلَةِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ مِثْلُ قَوْلِهِ آنِفًا: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ [سُورَة النَّحْل: ٦٥]. وَالْإِشَارَةُ إِلَى جَمِيعِ مَا ذُكِرَ مِنْ نِعْمَةِ سَقْيِ الْأَلْبَانِ وَسَقْيِ السَّكَرِ وَطُعْمِ الثَّمَرِ.
وَاخْتِيرَ وَصْفُ الْعَقْلِ هُنَا لِأَنَّ دَلَالَةَ تَكْوِينِ أَلْبَانِ الْأَنْعَامِ عَلَى حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى يَحْتَاجُ إِلَى تَدَبُّرٍ فِيمَا وَصَفَتْهُ الْآيَةُ هُنَا، وَلَيْسَ هُوَ بِبَدِيهِيٍّ كَدَلَالَةِ الْمَطَرِ كَمَا تقدم.
[٦٨، ٦٩]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : الْآيَات ٦٨ إِلَى ٦٩]
وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٨) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٦٩)
عَطْفُ عِبْرَةٍ عَلَى عِبْرَةٍ وَمِنَّةٍ عَلَى مِنَّةٍ. وَغَيَّرَ أُسْلُوبَ الِاعْتِبَارِ لِمَا فِي هَذِهِ الْعِبْرَةِ مِنْ تَنْبِيهٍ عَلَى عَظِيمِ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، إِذْ أَوْدَعَ فِي خِلْقَةِ الْحَشَرَةِ الضَّعِيفَةِ هَذِهِ الصَّنْعَةَ الْعَظِيمَةَ وَجَعَلَ فِيهَا هَذِهِ الْمَنْفَعَةَ، كَمَا أَوْدَعَ فِي الْأَنْعَامِ أَلْبَانَهَا وَأَوْدَعَ فِي ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ شَرَابًا، وَكَانَ مَا فِي بُطُونِ النَّحْلِ وَسَطًا بَيْنَ مَا فِي بُطُونِ الْأَنْعَامِ وَمَا فِي قَلْبِ الثِّمَارِ، فَإِنَّ النَّحْلَ يَمْتَصُّ مَا فِي الثَّمَرَاتِ وَالْأَنْوَارِ مِنَ الْمَوَادِّ السُّكَّرِيَّةِ الْعَسَلِيَّةِ ثُمَّ يُخْرِجُهُ عَسَلًا كَمَا يَخْرُجُ اللَّبَنُ مِنْ خُلَاصَةِ الْمَرْعَى.
وَفِيهِ عِبْرَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنْ أَوْدَعَ اللَّهُ فِي ذُبَابَةِ النَّحْلِ إِدْرَاكًا لِصُنْعٍ مُحْكَمٍ مَضْبُوطٍ مُنْتِجٍ شَرَابًا نَافِعًا لَا يَحْتَاجُ إِلَى حَلْبِ الْحَالِبِ.
فَافْتُتِحَتِ الْجُمْلَةُ بِفِعْلِ أَوْحى دُونَ أَنْ تُفْتَتَحَ بِاسْمِ الْجَلَالَةِ مِثْلُ جُمْلَةِ وَاللَّهُ أَنْزَلَ [سُورَة النَّحْل: ٦٥]، لِمَا فِي أَوْحى مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى إِلْهَامِ تِلْكَ الْحَشَرَةِ الضَّعِيفَةِ تَدْبِيرًا عَجِيبًا وَعَمَلًا مُتْقَنًا وَهَنْدَسَةً فِي الْجِبِلَّةِ.
وَاخْتِيرَ وَصْفُ الْعَقْلِ هُنَا لِأَنَّ دَلَالَةَ تَكْوِينِ أَلْبَانِ الْأَنْعَامِ عَلَى حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى يَحْتَاجُ إِلَى تَدَبُّرٍ فِيمَا وَصَفَتْهُ الْآيَةُ هُنَا، وَلَيْسَ هُوَ بِبَدِيهِيٍّ كَدَلَالَةِ الْمَطَرِ كَمَا تقدم.
[٦٨، ٦٩]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : الْآيَات ٦٨ إِلَى ٦٩]
وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٨) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٦٩)
عَطْفُ عِبْرَةٍ عَلَى عِبْرَةٍ وَمِنَّةٍ عَلَى مِنَّةٍ. وَغَيَّرَ أُسْلُوبَ الِاعْتِبَارِ لِمَا فِي هَذِهِ الْعِبْرَةِ مِنْ تَنْبِيهٍ عَلَى عَظِيمِ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، إِذْ أَوْدَعَ فِي خِلْقَةِ الْحَشَرَةِ الضَّعِيفَةِ هَذِهِ الصَّنْعَةَ الْعَظِيمَةَ وَجَعَلَ فِيهَا هَذِهِ الْمَنْفَعَةَ، كَمَا أَوْدَعَ فِي الْأَنْعَامِ أَلْبَانَهَا وَأَوْدَعَ فِي ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ شَرَابًا، وَكَانَ مَا فِي بُطُونِ النَّحْلِ وَسَطًا بَيْنَ مَا فِي بُطُونِ الْأَنْعَامِ وَمَا فِي قَلْبِ الثِّمَارِ، فَإِنَّ النَّحْلَ يَمْتَصُّ مَا فِي الثَّمَرَاتِ وَالْأَنْوَارِ مِنَ الْمَوَادِّ السُّكَّرِيَّةِ الْعَسَلِيَّةِ ثُمَّ يُخْرِجُهُ عَسَلًا كَمَا يَخْرُجُ اللَّبَنُ مِنْ خُلَاصَةِ الْمَرْعَى.
وَفِيهِ عِبْرَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنْ أَوْدَعَ اللَّهُ فِي ذُبَابَةِ النَّحْلِ إِدْرَاكًا لِصُنْعٍ مُحْكَمٍ مَضْبُوطٍ مُنْتِجٍ شَرَابًا نَافِعًا لَا يَحْتَاجُ إِلَى حَلْبِ الْحَالِبِ.
فَافْتُتِحَتِ الْجُمْلَةُ بِفِعْلِ أَوْحى دُونَ أَنْ تُفْتَتَحَ بِاسْمِ الْجَلَالَةِ مِثْلُ جُمْلَةِ وَاللَّهُ أَنْزَلَ [سُورَة النَّحْل: ٦٥]، لِمَا فِي أَوْحى مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى إِلْهَامِ تِلْكَ الْحَشَرَةِ الضَّعِيفَةِ تَدْبِيرًا عَجِيبًا وَعَمَلًا مُتْقَنًا وَهَنْدَسَةً فِي الْجِبِلَّةِ.
204
فَكَانَ ذَلِكَ الْإِلْهَامُ فِي ذَاتِهِ دَلِيلًا عَلَى عَظِيمِ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَضْلًا عَلَى مَا بَعْدَهُ مِنْ دَلَالَةٍ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمِنَّةً مِنْهُ.
وَالْوَحْيُ: الْكَلَامُ الْخَفِيُّ وَالْإِشَارَةُ الدَّالَّةُ عَلَى مَعْنًى كَلَامِيٍّ. وَمِنْهُ سُمِّيَ مَا يُلْقِيهِ
الْمَلَكُ إِلَى الرَّسُولِ وَحْيًا لِأَنَّهُ خَفِيٌّ عَنْ أَسْمَاعِ النَّاسِ.
وَأُطْلِقَ الْوَحْيُ هُنَا عَلَى التَّكْوِينِ الْخَفِيِّ الَّذِي أَوْدَعَهُ اللَّهُ فِي طَبِيعَةِ النَّحْلِ، بِحَيْثُ تَنْسَاقُ إِلَى عَمَلٍ مُنَظَّمٍ مُرَتَّبٍ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ آحَادُهَا تَشْبِيهًا لِلْإِلْهَامِ بِكَلَامٍ خَفِيٍّ يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ التَّرْتِيبَ الشَّبِيهَ بِعَمَلِ الْمُتَعَلِّمِ بِتَعْلِيمِ الْمُعَلِّمِ، أَوِ الْمُؤْتَمَرِ بِإِرْشَادِ الْآمِرِ، الَّذِي تَلَقَّاهُ سِرًّا، فَإِطْلَاقُ الْوَحْيِ اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ.
والنَّحْلِ: اسْمُ جِنْسٍ جَمْعِيٍّ، وَاحِدُهُ نَحْلَةٌ، وَهُوَ ذُبَابٌ لَهُ جِرْمٌ بِقَدْرِ ضِعْفَيْ جِرْمِ الذُّبَابِ الْمُتَعَارَفِ، وَأَرْبَعَةُ أَجْنِحَةٍ، وَلَوْنُ بَطْنِهِ أَسْمَرُ إِلَى الْحُمْرَةِ، وَفِي خُرْطُومِهِ شَوْكَةٌ دَقِيقَةٌ كَالشَّوْكَةِ الَّتِي فِي ثَمَرَةِ التِّينِ الْبَرْبَرِيِّ (الْمُسَمَّى بِالْهِنْدِيِّ) مُخْتَفِيَةٌ تَحْتَ خُرْطُومِهِ يَلْسَعُ بِهَا مَا يَخَافُهُ مِنَ الْحَيَوَانِ، فَتَسُمَّ الْمَوْضِعَ سُمًّا غَيْرَ قَوِيٍّ، وَلَكِنَّ الذُّبَابَةَ إِذَا انْفَصَلَتْ شَوْكَتُهَا تَمُوتُ. وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ: ذَكَرٌ وَأُنْثَى وَخُنْثَى، فَالذُّكُورُ هِيَ الَّتِي تَحْرُسُ بُيُوتَهَا وَلِذَلِكَ تَكُونُ مُحَوِّمَةً بِالطَّيَرَانِ وَالدَّوِيِّ أَمَامَ الْبَيْتِ وَهِيَ تُلَقِّحُ الْإِنَاثَ لَقَاحًا بِهِ تَلِدُ الْإِنَاثُ إِنَاثًا.
وَالْإِنَاثُ هِيَ الْمُسَمَّاةُ الْيَعَاسِيبَ، وَهِيَ أَضْخَمُ جِرْمًا مِنَ الذُّكُورِ. وَلَا تَكُونُ الَّتِي تَلِدُ فِي الْبُيُوتِ إِلَّا أُنْثَى وَاحِدَةٌ، وَهِيَ قَدْ تَلِدُ بِدُونِ لِقَاحِ ذَكَرٍ وَلَكِنَّهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا تَلِدُ إِلَّا ذُكُورًا فَلَيْسَ فِي أَفْرَاخِهَا فَائِدَةٌ لِإِنْتَاجِ الْوَالِدَاتِ.
وَأَمَّا الْخُنْثَى فَهِيَ الَّتِي تُفْرِزُ الْعَسَلَ، وَهِيَ الْعَوَاسِلُ، وَهِيَ أَصْغَرُ جِرْمًا مِنَ الذُّكُورِ وَهِيَ مُعْظَمُ سُكَّانِ بَيْتِ النَّحْلِ.
وَالْوَحْيُ: الْكَلَامُ الْخَفِيُّ وَالْإِشَارَةُ الدَّالَّةُ عَلَى مَعْنًى كَلَامِيٍّ. وَمِنْهُ سُمِّيَ مَا يُلْقِيهِ
الْمَلَكُ إِلَى الرَّسُولِ وَحْيًا لِأَنَّهُ خَفِيٌّ عَنْ أَسْمَاعِ النَّاسِ.
وَأُطْلِقَ الْوَحْيُ هُنَا عَلَى التَّكْوِينِ الْخَفِيِّ الَّذِي أَوْدَعَهُ اللَّهُ فِي طَبِيعَةِ النَّحْلِ، بِحَيْثُ تَنْسَاقُ إِلَى عَمَلٍ مُنَظَّمٍ مُرَتَّبٍ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ آحَادُهَا تَشْبِيهًا لِلْإِلْهَامِ بِكَلَامٍ خَفِيٍّ يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ التَّرْتِيبَ الشَّبِيهَ بِعَمَلِ الْمُتَعَلِّمِ بِتَعْلِيمِ الْمُعَلِّمِ، أَوِ الْمُؤْتَمَرِ بِإِرْشَادِ الْآمِرِ، الَّذِي تَلَقَّاهُ سِرًّا، فَإِطْلَاقُ الْوَحْيِ اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ.
والنَّحْلِ: اسْمُ جِنْسٍ جَمْعِيٍّ، وَاحِدُهُ نَحْلَةٌ، وَهُوَ ذُبَابٌ لَهُ جِرْمٌ بِقَدْرِ ضِعْفَيْ جِرْمِ الذُّبَابِ الْمُتَعَارَفِ، وَأَرْبَعَةُ أَجْنِحَةٍ، وَلَوْنُ بَطْنِهِ أَسْمَرُ إِلَى الْحُمْرَةِ، وَفِي خُرْطُومِهِ شَوْكَةٌ دَقِيقَةٌ كَالشَّوْكَةِ الَّتِي فِي ثَمَرَةِ التِّينِ الْبَرْبَرِيِّ (الْمُسَمَّى بِالْهِنْدِيِّ) مُخْتَفِيَةٌ تَحْتَ خُرْطُومِهِ يَلْسَعُ بِهَا مَا يَخَافُهُ مِنَ الْحَيَوَانِ، فَتَسُمَّ الْمَوْضِعَ سُمًّا غَيْرَ قَوِيٍّ، وَلَكِنَّ الذُّبَابَةَ إِذَا انْفَصَلَتْ شَوْكَتُهَا تَمُوتُ. وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ: ذَكَرٌ وَأُنْثَى وَخُنْثَى، فَالذُّكُورُ هِيَ الَّتِي تَحْرُسُ بُيُوتَهَا وَلِذَلِكَ تَكُونُ مُحَوِّمَةً بِالطَّيَرَانِ وَالدَّوِيِّ أَمَامَ الْبَيْتِ وَهِيَ تُلَقِّحُ الْإِنَاثَ لَقَاحًا بِهِ تَلِدُ الْإِنَاثُ إِنَاثًا.
وَالْإِنَاثُ هِيَ الْمُسَمَّاةُ الْيَعَاسِيبَ، وَهِيَ أَضْخَمُ جِرْمًا مِنَ الذُّكُورِ. وَلَا تَكُونُ الَّتِي تَلِدُ فِي الْبُيُوتِ إِلَّا أُنْثَى وَاحِدَةٌ، وَهِيَ قَدْ تَلِدُ بِدُونِ لِقَاحِ ذَكَرٍ وَلَكِنَّهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا تَلِدُ إِلَّا ذُكُورًا فَلَيْسَ فِي أَفْرَاخِهَا فَائِدَةٌ لِإِنْتَاجِ الْوَالِدَاتِ.
وَأَمَّا الْخُنْثَى فَهِيَ الَّتِي تُفْرِزُ الْعَسَلَ، وَهِيَ الْعَوَاسِلُ، وَهِيَ أَصْغَرُ جِرْمًا مِنَ الذُّكُورِ وَهِيَ مُعْظَمُ سُكَّانِ بَيْتِ النَّحْلِ.
205
وَ (أَن) تَفْسِيرِيَّةٌ، وَهِيَ تَرْشِيحٌ لِلِاسْتِعَارَةِ التَّمْثِيلِيَّةِ، لِأَنَّ أَنِ التَّفْسِيرِيَّةَ مِنْ رَوَادِفِ الْأَفْعَالِ الدَّالَّةِ عَلَى مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ.
وَاتِّخَاذُ الْبُيُوتِ هُوَ أَوَّلُ مَرَاتِبِ الصُّنْعِ الدَّقِيقِ الَّذِي أَوْدَعَهُ اللَّهُ فِي طَبَائِعِ النَّحْلِ فَإِنَّهَا تَبْنِي بُيُوتًا بِنِظَامٍ دَقِيقٍ، ثُمَّ تُقَسِّمُ أَجْزَاءَهَا أَقْسَامًا مُتَسَاوِيَةً بِأَشْكَالٍ مُسَدَّسَةِ الْأَضْلَاعِ بِحَيْثُ لَا يَتَخَلَّلُ بَيْنَهَا فَرَاغٌ تَنْسَابُ مِنْهُ الْحَشَرَاتُ، لِأَنَّ خَصَائِصَ الْأَشْكَالِ الْمُسَدَّسَةِ إِذَا ضُمَّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ أَنْ تَتَّصِلَ فَتَصِيرُ كَقِطْعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَمَا عَدَاهَا مِنَ الْأَشْكَالِ مِنَ الْمُثَلَّثِ إِلَى الْمُعَشَّرِ إِذَا جُمِعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا إِلَى أَمْثَالِهِ لَمْ تَتَّصِلْ وَحَصَلَتْ بَيْنَهَا فُرَجٌ، ثُمَّ تَغُشِّي عَلَى سُطُوحِ الْمُسَدَّسَاتِ بِمَادَّةِ الشَّمْعِ، وَهُوَ مَادَّةٌ دُهْنِيَّةٌ مُتَمَيِّعَةٌ أَقْرَبُ إِلَى الْجُمُودِ، تَتَكَوَّنُ فِي كِيسٍ دَقِيقٍ جدا تَحت حَلقَة بَطْنِ النَّحْلَةِ الْعَامِلَةِ فَتَرْفَعُهُ النَّحْلَةُ بِأَرْجُلِهَا إِلَى فَمِهَا وَتَمْضُغُهُ وَتَضَعُ بَعْضَهُ لَصْقَ بَعْضٍ لِبِنَاءِ الْمُسَدَّسِ الْمُسَمَّى بِالشَّهْدِ لِتَمْنَعَ تَسَرُّبَ الْعَسَلِ مِنْهَا.
وَلَمَّا كَانَتْ بُيُوتُ النَّحْلِ مَعْرُوفَةٌ لِلْمُخَاطَبِينَ اكْتُفِيَ فِي الِاعْتِبَارِ بِهَا بِالتَّنْبِيهِ عَلَيْهَا وَالتَّذْكِيرِ بِهَا.
وَأُشِيرَ إِلَى أَنَّهَا تُتَّخَذُ فِي أَحْسَنِ الْبِقَاعِ مِنَ الْجِبَالِ أَوِ الشَّجَرِ أَوِ الْعَرْشِ دُونَ بُيُوتِ الْحَشَرَاتِ الْأُخْرَى، وَذَلِكَ لِشَرَفِهَا بِمَا تَحْتَوِيهِ مِنَ الْمَنَافِعِ، وَبِمَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنْ دَقَائِقِ الصَّنْعَةِ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي ضِدِّهَا: وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ [سُورَة الْعَنْكَبُوتِ: ٤١].
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْجِبَالِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٦٠].
ومِنَ الدَّاخِلَةُ عَلَى الْجِبالِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا بِمَعْنَى (فِي)، وَأَصْلُهَا مِنَ الِابْتِدَائِيَّةُ، فَالتَّعْبِيرُ بِهَا دُونَ (فِي) الظَّرْفِيَّةِ لِأَنَّ النَّحْلَ تَبْنِي لِنَفْسِهَا بُيُوتًا وَلَا تَجْعَلُ بُيُوتَهَا جُحُورَ الْجِبَالِ وَلَا أَغْصَانَ الشَّجَرِ وَلَا أَعْوَادَ الْعَرِيشِ
وَاتِّخَاذُ الْبُيُوتِ هُوَ أَوَّلُ مَرَاتِبِ الصُّنْعِ الدَّقِيقِ الَّذِي أَوْدَعَهُ اللَّهُ فِي طَبَائِعِ النَّحْلِ فَإِنَّهَا تَبْنِي بُيُوتًا بِنِظَامٍ دَقِيقٍ، ثُمَّ تُقَسِّمُ أَجْزَاءَهَا أَقْسَامًا مُتَسَاوِيَةً بِأَشْكَالٍ مُسَدَّسَةِ الْأَضْلَاعِ بِحَيْثُ لَا يَتَخَلَّلُ بَيْنَهَا فَرَاغٌ تَنْسَابُ مِنْهُ الْحَشَرَاتُ، لِأَنَّ خَصَائِصَ الْأَشْكَالِ الْمُسَدَّسَةِ إِذَا ضُمَّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ أَنْ تَتَّصِلَ فَتَصِيرُ كَقِطْعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَمَا عَدَاهَا مِنَ الْأَشْكَالِ مِنَ الْمُثَلَّثِ إِلَى الْمُعَشَّرِ إِذَا جُمِعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا إِلَى أَمْثَالِهِ لَمْ تَتَّصِلْ وَحَصَلَتْ بَيْنَهَا فُرَجٌ، ثُمَّ تَغُشِّي عَلَى سُطُوحِ الْمُسَدَّسَاتِ بِمَادَّةِ الشَّمْعِ، وَهُوَ مَادَّةٌ دُهْنِيَّةٌ مُتَمَيِّعَةٌ أَقْرَبُ إِلَى الْجُمُودِ، تَتَكَوَّنُ فِي كِيسٍ دَقِيقٍ جدا تَحت حَلقَة بَطْنِ النَّحْلَةِ الْعَامِلَةِ فَتَرْفَعُهُ النَّحْلَةُ بِأَرْجُلِهَا إِلَى فَمِهَا وَتَمْضُغُهُ وَتَضَعُ بَعْضَهُ لَصْقَ بَعْضٍ لِبِنَاءِ الْمُسَدَّسِ الْمُسَمَّى بِالشَّهْدِ لِتَمْنَعَ تَسَرُّبَ الْعَسَلِ مِنْهَا.
وَلَمَّا كَانَتْ بُيُوتُ النَّحْلِ مَعْرُوفَةٌ لِلْمُخَاطَبِينَ اكْتُفِيَ فِي الِاعْتِبَارِ بِهَا بِالتَّنْبِيهِ عَلَيْهَا وَالتَّذْكِيرِ بِهَا.
وَأُشِيرَ إِلَى أَنَّهَا تُتَّخَذُ فِي أَحْسَنِ الْبِقَاعِ مِنَ الْجِبَالِ أَوِ الشَّجَرِ أَوِ الْعَرْشِ دُونَ بُيُوتِ الْحَشَرَاتِ الْأُخْرَى، وَذَلِكَ لِشَرَفِهَا بِمَا تَحْتَوِيهِ مِنَ الْمَنَافِعِ، وَبِمَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنْ دَقَائِقِ الصَّنْعَةِ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي ضِدِّهَا: وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ [سُورَة الْعَنْكَبُوتِ: ٤١].
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْجِبَالِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٦٠].
ومِنَ الدَّاخِلَةُ عَلَى الْجِبالِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا بِمَعْنَى (فِي)، وَأَصْلُهَا مِنَ الِابْتِدَائِيَّةُ، فَالتَّعْبِيرُ بِهَا دُونَ (فِي) الظَّرْفِيَّةِ لِأَنَّ النَّحْلَ تَبْنِي لِنَفْسِهَا بُيُوتًا وَلَا تَجْعَلُ بُيُوتَهَا جُحُورَ الْجِبَالِ وَلَا أَغْصَانَ الشَّجَرِ وَلَا أَعْوَادَ الْعَرِيشِ
206
وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى [سُورَة الْبَقَرَة: ١٢٥]. وَلَيْسَتْ مِثْلَ (مِنْ) الَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً [سُورَة النَّحْل: ٨١].
وَ «مَا يَعْرِشُونَ» أَيْ مَا يَجْعَلُونَهُ عروشا، جمع عرش، وَهُوَ مَجْلِسٌ مُرْتَفِعٌ عَلَى الْأَرْضِ فِي الْحَائِطِ أَوِ الْحَقْلِ يُتَّخَذُ مِنْ أَعْوَادٍ وَيُسَقَّفُ أَعْلَاهُ بِوَرَقٍ وَنَحْوِهِ لِيَكُونَ لَهُ ظِلٌّ فَيَجْلِسُ فِيهِ صَاحِبُهُ مُشْرِفًا عَلَى مَا حَوْلَهُ.
يُقَالُ: عَرَّشَ، إِذَا بَنَى وَرَفَعَ، وَمِنْهُ سُمِّيَ السَّرِيرُ الَّذِي يَرْتَفِعُ عَنِ الْأَرْضِ لِيَجْلِسَ عَلَيْهِ الْعُظَمَاءُ عَرْشًا.
وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٤١]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانُوا يَعْرِشُونَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٣٧].
وَقَرَأَ جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ- بِكَسْرِ رَاءِ- يَعْرِشُونَ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ- بِضَمِّهَا-.
وثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتَبِيِّ، لِأَنَّ إِلْهَامَ النَّحْلِ لِلْأَكْلِ مِنَ الثَّمَرَاتِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ تَكَوُّنُ الْعَسَلِ فِي بُطُونِهَا، وَذَلِكَ أَعْلَى رُتْبَةً مِنَ اتِّخَاذِهَا الْبُيُوتَ لِاخْتِصَاصِهَا بِالْعَسَلِ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْحَشَرَاتِ الَّتِي تَبْنِي الْبُيُوتَ، وَلِأَنَّهُ أَعْظَمُ فَائِدَةً لِلْإِنْسَانِ، وَلِأَنَّ مِنْهُ قُوتَهَا الَّذِي بِهِ بَقَاؤُهَا. وَسُمِّيَ امْتِصَاصُهَا أَكْلًا لِأَنَّهَا تَقْتَاتَهُ فَلَيْسَ هُوَ بِشُرْبٍ.
والثَّمَراتِ: جَمْعُ ثَمَرَةٍ. وَأَصْلُ الثَّمَرَةِ مَا تُخْرِجُهُ الشَّجَرَةُ مِنْ غَلَّةٍ، مِثْلُ التَّمْرِ وَالْعِنَبِ وَالنَّحْلُ يَمْتَصُّ مِنَ الْأَزْهَارِ قَبْلَ أَنْ تَصِيرَ ثَمَرَاتٍ، فَأُطْلِقَ الثَّمَراتِ فِي الْآيَةِ عَلَى الْأَزْهَارِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ بِعَلَاقَةِ الْأَوَّلِ.
وَعُطِفَتْ جُمْلَةُ فَاسْلُكِي بِفَاءِ التَّفْرِيعِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ اللَّهَ أَوْدَعَ فِي طَبْعِ النَّحْلِ عِنْدَ الرَّعْيِ التَّنَقُّلَ مِنْ زَهْرَةٍ إِلَى زَهْرَةٍ وَمِنْ رَوْضَةٍ إِلَى رَوْضَةٍ، وَإِذَا لَمْ تَجِدْ زَهْرَةً أَبْعَدَتْ الِانْتِجَاعَ ثُمَّ إِذَا شَبِعَتْ قَصَدَتِ الْمُبَادَرَةَ بِالطَّيَرَانِ عَقِبَ الشِّبَعِ لِتَرْجِعَ إِلَى بُيُوتِهَا فَتَقْذِفُ مِنْ بُطُونِهَا الْعَسَلَ الَّذِي يَفْضُلُ عَنْ قُوتِهَا، فَذَلِكَ السُّلُوكُ مُفَرَّعٌ عَلَى طَبِيعَةِ أَكْلِهَا.
وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً [سُورَة النَّحْل: ٨١].
وَ «مَا يَعْرِشُونَ» أَيْ مَا يَجْعَلُونَهُ عروشا، جمع عرش، وَهُوَ مَجْلِسٌ مُرْتَفِعٌ عَلَى الْأَرْضِ فِي الْحَائِطِ أَوِ الْحَقْلِ يُتَّخَذُ مِنْ أَعْوَادٍ وَيُسَقَّفُ أَعْلَاهُ بِوَرَقٍ وَنَحْوِهِ لِيَكُونَ لَهُ ظِلٌّ فَيَجْلِسُ فِيهِ صَاحِبُهُ مُشْرِفًا عَلَى مَا حَوْلَهُ.
يُقَالُ: عَرَّشَ، إِذَا بَنَى وَرَفَعَ، وَمِنْهُ سُمِّيَ السَّرِيرُ الَّذِي يَرْتَفِعُ عَنِ الْأَرْضِ لِيَجْلِسَ عَلَيْهِ الْعُظَمَاءُ عَرْشًا.
وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٤١]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانُوا يَعْرِشُونَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٣٧].
وَقَرَأَ جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ- بِكَسْرِ رَاءِ- يَعْرِشُونَ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ- بِضَمِّهَا-.
وثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتَبِيِّ، لِأَنَّ إِلْهَامَ النَّحْلِ لِلْأَكْلِ مِنَ الثَّمَرَاتِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ تَكَوُّنُ الْعَسَلِ فِي بُطُونِهَا، وَذَلِكَ أَعْلَى رُتْبَةً مِنَ اتِّخَاذِهَا الْبُيُوتَ لِاخْتِصَاصِهَا بِالْعَسَلِ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْحَشَرَاتِ الَّتِي تَبْنِي الْبُيُوتَ، وَلِأَنَّهُ أَعْظَمُ فَائِدَةً لِلْإِنْسَانِ، وَلِأَنَّ مِنْهُ قُوتَهَا الَّذِي بِهِ بَقَاؤُهَا. وَسُمِّيَ امْتِصَاصُهَا أَكْلًا لِأَنَّهَا تَقْتَاتَهُ فَلَيْسَ هُوَ بِشُرْبٍ.
والثَّمَراتِ: جَمْعُ ثَمَرَةٍ. وَأَصْلُ الثَّمَرَةِ مَا تُخْرِجُهُ الشَّجَرَةُ مِنْ غَلَّةٍ، مِثْلُ التَّمْرِ وَالْعِنَبِ وَالنَّحْلُ يَمْتَصُّ مِنَ الْأَزْهَارِ قَبْلَ أَنْ تَصِيرَ ثَمَرَاتٍ، فَأُطْلِقَ الثَّمَراتِ فِي الْآيَةِ عَلَى الْأَزْهَارِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ بِعَلَاقَةِ الْأَوَّلِ.
وَعُطِفَتْ جُمْلَةُ فَاسْلُكِي بِفَاءِ التَّفْرِيعِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ اللَّهَ أَوْدَعَ فِي طَبْعِ النَّحْلِ عِنْدَ الرَّعْيِ التَّنَقُّلَ مِنْ زَهْرَةٍ إِلَى زَهْرَةٍ وَمِنْ رَوْضَةٍ إِلَى رَوْضَةٍ، وَإِذَا لَمْ تَجِدْ زَهْرَةً أَبْعَدَتْ الِانْتِجَاعَ ثُمَّ إِذَا شَبِعَتْ قَصَدَتِ الْمُبَادَرَةَ بِالطَّيَرَانِ عَقِبَ الشِّبَعِ لِتَرْجِعَ إِلَى بُيُوتِهَا فَتَقْذِفُ مِنْ بُطُونِهَا الْعَسَلَ الَّذِي يَفْضُلُ عَنْ قُوتِهَا، فَذَلِكَ السُّلُوكُ مُفَرَّعٌ عَلَى طَبِيعَةِ أَكْلِهَا.
207
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ لِلْأَزْهَارِ وَلِلثِّمَارِ غُدَدًا دَقِيقَةً تَفْرِزُ سَائِلًا سُكَّرِيًّا تَمْتَصُّهُ النَّحْلُ وَتَمْلَأُ بِهِ مَا هُوَ كَالْحَوَاصِلِ فِي بُطُونِهَا وَهُوَ يَزْدَادُ حَلَاوَةً فِي بُطُونِ النَّحْلِ بِاخْتِلَاطِهِ بِمَوَادٍّ كِيمْيَائِيَّةٍ مُودَعَةٍ فِي بُطُونِ النَّحْلِ، فَإِذَا رَاحَتْ مِنْ مَرْعَاهَا إِلَى بُيُوتِهَا أَخْرَجَتْ مِنْ أَفْوَاهِهَا مَا حَصَلَ فِي بُطُونِهَا بَعْدَ أَنْ أَخَذَ مِنْهُ جِسْمُهَا مَا يَحْتَاجُهُ لِقُوتِهِ، وَذَلِكَ يُشْبِهُ اجْتِرَارَ الْحَيَوَانِ الْمُجْتَرِّ.
فَذَلِكَ هُوَ الْعَسَلُ.
وَالْعَسَلُ حِينَ الْقَذْفِ بِهِ فِي خَلَايَا الشَّهْدِ يَكُونُ مَائِعًا رَقِيقًا، ثُمَّ يَأْخُذُ فِي جَفَافِ مَا فِيهِ مِنْ رُطُوبَةِ مِيَاهِ الْأَزْهَارِ بِسَبَبِ حَرَارَةِ الشَّمْعِ الْمُرَكَّبِ مِنْهُ الشَّهْدُ وَحَرَارَةِ بَيْتِ النَّحْلِ حَتَّى يصير خائرا، وَيَكُونُ أَبْيَضَ فِي الرَّبِيعِ وَأَسْمَرَ فِي الصَّيْفِ.
وَالسُّلُوكُ: الْمُرُورُ وَسَطَ الشَّيْءِ مِنْ طَرِيقٍ وَنَحْوِهِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [١٢].
وَيُسْتَعْمَلُ فِي الْأَكْثَرِ مُتَعَدِّيًا كَمَا فِي آيَةِ الْحِجْرِ بِمَعْنَى أَسْلُكُهُ، وَقَاصِرًا بِمَعْنَى مَرَّ كَمَا هُنَا، لِأَنَّ السُّبُلَ لَا تَصْلُحُ لِأَنْ تَكُونَ مَفْعُولَ (سَلَكَ) الْمُتَعَدِّي، فَانْتِصَابُ سُبُلَ هُنَا عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ تَوَسُّعًا.
وَإِضَافَةُ السُّبُلِ إِلَى رَبِّكِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ النَّحْلَ مُسَخَّرَةٌ لِسُلُوكِ تِلْكَ السُّبُلِ لَا يَعْدِلُهَا عَنْهَا شَيْءٌ، لِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تَسْلُكْهَا لَاخْتَلَّ نِظَامُ إِفْرَازِ الْعَسَلِ مِنْهَا.
وذُلُلًا جَمْعُ ذَلُولٍ، أَيْ مُذَلَّلَةٌ مُسَخَّرَةٌ لِذَلِكَ السُّلُوكِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٧١].
وَجُمْلَةُ يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا، لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْخَبَرِ عَنْ إِلْهَامِ النَّحْلِ تِلْكَ الْأَعْمَالِ يُثِيرُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ الْغَايَةِ مِنْ هَذَا التَّكْوِينِ
الْعَجِيبِ، فَيَكُونُ مَضْمُونُ جُمْلَةِ يَخْرُجُ مِنْ
فَذَلِكَ هُوَ الْعَسَلُ.
وَالْعَسَلُ حِينَ الْقَذْفِ بِهِ فِي خَلَايَا الشَّهْدِ يَكُونُ مَائِعًا رَقِيقًا، ثُمَّ يَأْخُذُ فِي جَفَافِ مَا فِيهِ مِنْ رُطُوبَةِ مِيَاهِ الْأَزْهَارِ بِسَبَبِ حَرَارَةِ الشَّمْعِ الْمُرَكَّبِ مِنْهُ الشَّهْدُ وَحَرَارَةِ بَيْتِ النَّحْلِ حَتَّى يصير خائرا، وَيَكُونُ أَبْيَضَ فِي الرَّبِيعِ وَأَسْمَرَ فِي الصَّيْفِ.
وَالسُّلُوكُ: الْمُرُورُ وَسَطَ الشَّيْءِ مِنْ طَرِيقٍ وَنَحْوِهِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [١٢].
وَيُسْتَعْمَلُ فِي الْأَكْثَرِ مُتَعَدِّيًا كَمَا فِي آيَةِ الْحِجْرِ بِمَعْنَى أَسْلُكُهُ، وَقَاصِرًا بِمَعْنَى مَرَّ كَمَا هُنَا، لِأَنَّ السُّبُلَ لَا تَصْلُحُ لِأَنْ تَكُونَ مَفْعُولَ (سَلَكَ) الْمُتَعَدِّي، فَانْتِصَابُ سُبُلَ هُنَا عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ تَوَسُّعًا.
وَإِضَافَةُ السُّبُلِ إِلَى رَبِّكِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ النَّحْلَ مُسَخَّرَةٌ لِسُلُوكِ تِلْكَ السُّبُلِ لَا يَعْدِلُهَا عَنْهَا شَيْءٌ، لِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تَسْلُكْهَا لَاخْتَلَّ نِظَامُ إِفْرَازِ الْعَسَلِ مِنْهَا.
وذُلُلًا جَمْعُ ذَلُولٍ، أَيْ مُذَلَّلَةٌ مُسَخَّرَةٌ لِذَلِكَ السُّلُوكِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٧١].
وَجُمْلَةُ يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا، لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْخَبَرِ عَنْ إِلْهَامِ النَّحْلِ تِلْكَ الْأَعْمَالِ يُثِيرُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ الْغَايَةِ مِنْ هَذَا التَّكْوِينِ
الْعَجِيبِ، فَيَكُونُ مَضْمُونُ جُمْلَةِ يَخْرُجُ مِنْ
208
بُطُونِها شَرابٌ بَيَانًا لِمَا سَأَلَ عَنْهُ. وَهُوَ أَيْضًا مَوْضِعُ الْمِنَّةِ كَمَا كَانَ تَمَامَ الْعِبْرَةِ.
وَجِيءَ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَجَدُّدِ الْخُرُوجِ وَتَكَرُّرِهِ.
وَعَبَّرَ عَنِ الْعَسَلِ بِاسْمِ الشَّرَابِ دُونَ الْعَسَل لما يومىء إِلَيْهِ اسْمُ الْجِنْسِ مِنْ مَعْنَى الِانْتِفَاعِ بِهِ وَهُوَ مَحَلُّ الْمِنَّةِ، وَلِيُرَتِّبَ عَلَيْهِ جُمْلَةَ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ. وَسُمِّيَ شَرَابًا لِأَنَّهُ مَائِعٌ يُشْرَبُ شُرْبًا وَلَا يُمْضَغُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الشَّرَابِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ فِي أَوَائِلِ هَذِه السُّورَة [النَّحْل: ١٠].
وَوَصْفُهُ بِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ لِأَنَّ لَهُ مَدْخَلًا فِي الْعِبْرَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: تُسْقَى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ [سُورَة الرَّعْد: ٤]، فَذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ وَدَقِيقِ الْحِكْمَةِ.
وَفِي الْعَسَلِ خَوَاصٌّ كَثِيرَةُ الْمَنَافِعِ مُبَيَّنَةٌ فِي عِلْمِ الطِّبِّ.
وَجُعِلَ الشِّفَاءُ مَظْرُوفًا فِي الْعَسَلِ عَلَى وَجْهِ الظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ. وَهِيَ الْمُلَابَسَةُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَمَكُّنِ مُلَابَسَةِ الشِّفَاءِ إِيَّاهُ، وَإِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَطَّرِدَ الشِّفَاءُ بِهِ فِي كُلِّ حَالَةٍ مِنْ أَحْوَالِ الْأَمْزِجَةِ، أَوْ قَدْ تَعْرِضُ لِلْأَمْزِجَةِ عَوَارِضُ تَصِيرُ غَيْرَ مُلَائِمٍ لَهَا شُرْبُ الْعَسَلِ.
فَالظَّرْفِيَّةُ تَصْلُحُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَخَلُّفِ الْمَظْرُوفِ عَنْ بَعْضِ أَجْزَاءِ الظَّرْفِ، لِأَنَّ الظَّرْفَ يَكُونُ أَوْسَعَ مِنَ الْمَظْرُوفِ غَالِبًا. شَبَّهَ تَخَلُّفَ الْمُقَارَنَةِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ بِقِلَّةِ كَمِّيَّةِ الْمَظْرُوفِ عَنْ سِعَةِ الظَّرْفِ فِي بَعْضِ أَحْوَالِ الظُّرُوفِ وَمَظْرُوفَاتِهَا، وَبِذَلِكَ يَبْقَى تَعْرِيفُ «النَّاسِ» عَلَى عُمُومِهِ، وَإِنَّمَا التَّخَلُّفُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ الْعَارِضَةِ، وَلَوْلَا الْعَارِضُ لَكَانَتِ الْأَمْزِجَةُ كُلُّهَا صَالِحَةٌ لِلِاسْتِشْفَاءِ بِالْعَسَلِ.
وَتَنْكِيرُ شِفاءٌ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ لَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ فَلَا يَقْتَضِي أَنَّهُ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ، كَمَا أَنَّ مُفَادَ (فِي) مِنَ الظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ لَا يَقْتَضِي عُمُومَ الْأَحْوَالِ.
وَعُمُومُ التَّعْرِيفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِلنَّاسِ لَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ الشُّمُولِيَّ لِكُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ بَلْ لَفْظُ (النَّاسِ) عُمُومُهُ بَدَلِيٌّ. وَالشِّفَاءُ ثَابِتٌ لِلْعَسَلِ فِي
وَجِيءَ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَجَدُّدِ الْخُرُوجِ وَتَكَرُّرِهِ.
وَعَبَّرَ عَنِ الْعَسَلِ بِاسْمِ الشَّرَابِ دُونَ الْعَسَل لما يومىء إِلَيْهِ اسْمُ الْجِنْسِ مِنْ مَعْنَى الِانْتِفَاعِ بِهِ وَهُوَ مَحَلُّ الْمِنَّةِ، وَلِيُرَتِّبَ عَلَيْهِ جُمْلَةَ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ. وَسُمِّيَ شَرَابًا لِأَنَّهُ مَائِعٌ يُشْرَبُ شُرْبًا وَلَا يُمْضَغُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الشَّرَابِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ فِي أَوَائِلِ هَذِه السُّورَة [النَّحْل: ١٠].
وَوَصْفُهُ بِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ لِأَنَّ لَهُ مَدْخَلًا فِي الْعِبْرَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: تُسْقَى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ [سُورَة الرَّعْد: ٤]، فَذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ وَدَقِيقِ الْحِكْمَةِ.
وَفِي الْعَسَلِ خَوَاصٌّ كَثِيرَةُ الْمَنَافِعِ مُبَيَّنَةٌ فِي عِلْمِ الطِّبِّ.
وَجُعِلَ الشِّفَاءُ مَظْرُوفًا فِي الْعَسَلِ عَلَى وَجْهِ الظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ. وَهِيَ الْمُلَابَسَةُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَمَكُّنِ مُلَابَسَةِ الشِّفَاءِ إِيَّاهُ، وَإِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَطَّرِدَ الشِّفَاءُ بِهِ فِي كُلِّ حَالَةٍ مِنْ أَحْوَالِ الْأَمْزِجَةِ، أَوْ قَدْ تَعْرِضُ لِلْأَمْزِجَةِ عَوَارِضُ تَصِيرُ غَيْرَ مُلَائِمٍ لَهَا شُرْبُ الْعَسَلِ.
فَالظَّرْفِيَّةُ تَصْلُحُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَخَلُّفِ الْمَظْرُوفِ عَنْ بَعْضِ أَجْزَاءِ الظَّرْفِ، لِأَنَّ الظَّرْفَ يَكُونُ أَوْسَعَ مِنَ الْمَظْرُوفِ غَالِبًا. شَبَّهَ تَخَلُّفَ الْمُقَارَنَةِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ بِقِلَّةِ كَمِّيَّةِ الْمَظْرُوفِ عَنْ سِعَةِ الظَّرْفِ فِي بَعْضِ أَحْوَالِ الظُّرُوفِ وَمَظْرُوفَاتِهَا، وَبِذَلِكَ يَبْقَى تَعْرِيفُ «النَّاسِ» عَلَى عُمُومِهِ، وَإِنَّمَا التَّخَلُّفُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ الْعَارِضَةِ، وَلَوْلَا الْعَارِضُ لَكَانَتِ الْأَمْزِجَةُ كُلُّهَا صَالِحَةٌ لِلِاسْتِشْفَاءِ بِالْعَسَلِ.
وَتَنْكِيرُ شِفاءٌ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ لَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ فَلَا يَقْتَضِي أَنَّهُ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ، كَمَا أَنَّ مُفَادَ (فِي) مِنَ الظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ لَا يَقْتَضِي عُمُومَ الْأَحْوَالِ.
وَعُمُومُ التَّعْرِيفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِلنَّاسِ لَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ الشُّمُولِيَّ لِكُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ بَلْ لَفْظُ (النَّاسِ) عُمُومُهُ بَدَلِيٌّ. وَالشِّفَاءُ ثَابِتٌ لِلْعَسَلِ فِي
209
أَفْرَادِ النَّاسِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ حَاجَاتِ الْأَمْزِجَةِ إِلَى الِاسْتِشْفَاءِ. وَعَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ مَحْمَلُ مَا
جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ أَخِي اسْتُطْلِقَ بَطْنُهُ، فَقَالَ: اسْقِهِ عَسَلًا. فَذَهَبَ فَسَقَاهُ عَسَلًا. ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
سَقَيْتُهُ عَسَلًا فَمَا زَادَهُ إِلَّا اسْتِطْلَاقًا قَالَ: اذْهَبْ فَاسْقِهِ عَسَلًا، فَذَهَبَ فَسَقَاهُ عَسَلًا ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا زَادَهُ إِلَّا اسْتِطْلَاقًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «صَدَقَ اللَّهُ وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ فَذَهَبَ فَسَقَاهُ عسلا فبرىء»
. إِذِ الْمَعْنَى أَنَّ الشِّفَاءَ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ بِوُجُودِهِ فِي الْعَسَلِ ثَابِتٌ، وَأَنَّ مِزَاجَ أَخِي السَّائِلِ لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ مُعَارِضُ ذَلِكَ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ أَمْرُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُ أَنْ يَسْقِيَهُ الْعَسَلَ، فَإِنَّ خَبَرَهُ يَتَضَمَّنُ أَنَّ الْعَسَلَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ بَاقٍ عَلَى مَا جَعَلَ اللَّهُ فِيهِ مِنَ الشِّفَاءِ.
وَمِنْ لَطِيفِ النَّوَادِرِ مَا فِي «الْكَشَّافِ» : أَنَّ مِنْ تَأْوِيلَاتِ الرَّوَافِضِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّحْلِ فِي الْآيَةِ عَلِيٌّ وَآلِهِ. وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ عِنْدَ الْمَهْدِيِّ: إِنَّمَا النَّحْلُ بَنُو هَاشِمٍ يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهِمُ الْعِلْمُ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: جَعَلَ اللَّهُ طَعَامك وشرابك مِمَّا يخرج من بطُون بني هَاشم، فَضَحِك الْمهْدي وحدّث بِهِ الْمَنْصُور فاتّخذوه أُضْحُوكَةً مِنْ أَضَاحِيكِهِمْ.
قُلْتُ: الرَّجُلُ الَّذِي أَجَابَ الرَّافِضِيَّ هُوَ بَشَّارُ بْنُ بُرْدٍ. وَهَذِهِ الْقِصَّةُ مَذْكُورَةٌ فِي أَخْبَارِ بِشَّارٍ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ مِثْلُ الْجُمْلَتَيْنِ الْمُمَاثِلَتَيْنِ لَهَا. وَهُوَ تَكْرِيرٌ لِتَعْدَادِ الِاسْتِدْلَالِ، وَاخْتِيرَ وَصْفُ التَّفَكُّرِ هُنَا لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِتَفْصِيلِ مَا أَجْمَلَتْهُ الْآيَةُ فِي نِظَامِ النَّحْلِ مُحْتَاجٌ إِلَى إِعْمَالِ فِكْرٍ دَقِيقٍ، وَنظر عميق.
جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ أَخِي اسْتُطْلِقَ بَطْنُهُ، فَقَالَ: اسْقِهِ عَسَلًا. فَذَهَبَ فَسَقَاهُ عَسَلًا. ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
سَقَيْتُهُ عَسَلًا فَمَا زَادَهُ إِلَّا اسْتِطْلَاقًا قَالَ: اذْهَبْ فَاسْقِهِ عَسَلًا، فَذَهَبَ فَسَقَاهُ عَسَلًا ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا زَادَهُ إِلَّا اسْتِطْلَاقًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «صَدَقَ اللَّهُ وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ فَذَهَبَ فَسَقَاهُ عسلا فبرىء»
. إِذِ الْمَعْنَى أَنَّ الشِّفَاءَ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ بِوُجُودِهِ فِي الْعَسَلِ ثَابِتٌ، وَأَنَّ مِزَاجَ أَخِي السَّائِلِ لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ مُعَارِضُ ذَلِكَ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ أَمْرُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُ أَنْ يَسْقِيَهُ الْعَسَلَ، فَإِنَّ خَبَرَهُ يَتَضَمَّنُ أَنَّ الْعَسَلَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ بَاقٍ عَلَى مَا جَعَلَ اللَّهُ فِيهِ مِنَ الشِّفَاءِ.
وَمِنْ لَطِيفِ النَّوَادِرِ مَا فِي «الْكَشَّافِ» : أَنَّ مِنْ تَأْوِيلَاتِ الرَّوَافِضِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّحْلِ فِي الْآيَةِ عَلِيٌّ وَآلِهِ. وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ عِنْدَ الْمَهْدِيِّ: إِنَّمَا النَّحْلُ بَنُو هَاشِمٍ يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهِمُ الْعِلْمُ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: جَعَلَ اللَّهُ طَعَامك وشرابك مِمَّا يخرج من بطُون بني هَاشم، فَضَحِك الْمهْدي وحدّث بِهِ الْمَنْصُور فاتّخذوه أُضْحُوكَةً مِنْ أَضَاحِيكِهِمْ.
قُلْتُ: الرَّجُلُ الَّذِي أَجَابَ الرَّافِضِيَّ هُوَ بَشَّارُ بْنُ بُرْدٍ. وَهَذِهِ الْقِصَّةُ مَذْكُورَةٌ فِي أَخْبَارِ بِشَّارٍ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ مِثْلُ الْجُمْلَتَيْنِ الْمُمَاثِلَتَيْنِ لَهَا. وَهُوَ تَكْرِيرٌ لِتَعْدَادِ الِاسْتِدْلَالِ، وَاخْتِيرَ وَصْفُ التَّفَكُّرِ هُنَا لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِتَفْصِيلِ مَا أَجْمَلَتْهُ الْآيَةُ فِي نِظَامِ النَّحْلِ مُحْتَاجٌ إِلَى إِعْمَالِ فِكْرٍ دَقِيقٍ، وَنظر عميق.
210
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٧٠]
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٧٠)انْتِقَالٌ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِدَقَائِقِ صُنْعِ اللَّهِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِتَصَرُّفِهِ فِي الْخَلْقِ التَّصَرُّفَ الْغَالِبَ لَهُمُ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُونَ دَفْعَهُ، عَلَى انْفِرَادِهِ بِرُبُوبِيَّتِهِمْ، وَعَلَى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ.
كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ تَذْيِيلُهَا بِجُمْلَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ فَهُوَ خَلَقَهُمْ بِدُونِ اخْتِيَارٍ مِنْهُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاهُمْ كَرْهًا عَلَيْهِمْ أَوْ يَرُدُّهُمْ إِلَى حَالَةٍ يَكْرَهُونَهَا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدًّا لِذَلِكَ وَلَا خَلَاصًا مِنْهُ، وَبِذَلِكَ يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْعُبُودِيَّةِ بِأَوْضَحِ مَظْهَرٍ.
وَابْتُدِئَتِ الْجُمْلَةُ بِاسْمِ الْجَلَالَةِ لِلْغَرَضِ الَّذِي شَرَحْنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاء [سُورَة النَّحْل: ٦٥]. وَأَمَّا إِعَادَةُ اسْمِ الْجَلَالَةِ هُنَا دُونَ الْإِضْمَارِ فَلِأَنَّ مَقَامَ الِاسْتِدْلَالِ يَقْتَضِي تَكْرِيرَ اسْمِ الْمُسْتَدَلِّ- بِفَتْحِ الدَّالِ- عَلَى إِثْبَاتِ صِفَاتِهِ تَصْرِيحًا
وَاضِحًا.
وَجِيءَ بِالْمُسْنَدِ فِعْلِيًّا لِإِفَادَةِ تَخْصِيصِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ بِالْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ فِي الْإِثْبَاتِ، نَحْوَ:
أَنَا سَعَيْتُ فِي حَاجَتِكَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً.
فَهَذِهِ عِبْرَةٌ وَهِيَ أَيْضًا مِنَّةٌ، لِأَنَّ الْخَلْقَ وَهُوَ الْإِيجَادُ نِعْمَةٌ لِشَرَفِ الْوُجُودِ وَالْإِنْسَانِيَّةِ، وَفِي التَّوَفِّي أَيْضًا نِعَمٌ عَلَى الْمُتَوَفِّي لِأَنَّ بِهِ تَنْدَفِعُ آلَامُ الْهَرَمِ، وَنِعَمٌ عَلَى نَوْعِهِ إِذْ بِهِ يَنْتَظِمُ حَالُ أَفْرَادِ النَّوْعِ الْبَاقِينَ بَعْدَ ذَهَابِ مَنْ قَبْلَهُمْ، هَذَا كُلُّهُ بِحَسَبِ الْغَالِبِ فَرْدًا وَنَوْعًا، وَاللَّهُ يَخُصُّ بِنِعْمَتِهِ وَبِمِقْدَارِهَا مَنْ يَشَاءُ.
وَلَمَّا قوبل «ثمَّ توفّاكم» بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ عُلِمَ أَنَّ الْمَعْنَى ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ فِي إِبَّانِ الْوَفَاةِ، وَهُوَ السِّنُّ الْمُعْتَادَةُ الْغَالِبَةُ لِأَنَّ الْوُصُولَ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ نَادِرٌ.
وَالْأَرْذَلُ: تَفْضِيلٌ فِي الرَّذَالَةِ، وَهِيَ الرَّدَاءَةُ فِي صِفَاتِ الِاسْتِيَاءِ.
211
والْعُمُرِ: مُدَّةُ الْبَقَاءِ فِي الْحَيَاةِ، لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعُمُرِ، وَهُوَ شَغْلُ الْمَكَانِ، أَيْ عُمُرَ الْأَرْضِ، قَالَ تَعَالَى: وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها [سُورَة الرّوم: ٩]. فَإِضَافَةُ أَرْذَلِ إِلَى الْعُمُرِ الَّتِي هِيَ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ، لِأَنَّ الْمَوْصُوفَ بِالْأَرْذَلِ حَقِيقَةً هُوَ حَالُ الْإِنْسَانِ فِي عُمُرِهِ لَا نَفْسَ الْعُمُرِ. فَأَرْذَلُ الْعُمُرِ هُوَ حَالُ هَرَمِ الْبَدَنِ وَضَعْفِ الْعَقْلِ، وَهُوَ حَالٌ فِي مُدَّةِ الْعُمُرِ. وَأَمَّا نَفْسُ مُدَّةِ الْعُمُرِ فَهِيَ هِيَ لَا تُوصَفُ بِرَذَالَةٍ وَلَا شَرَفٍ.
وَالْهَرَمُ لَا يَنْضَبِطُ حُصُولُهُ بِعَدَدٍ مِنَ السِّنِينَ، لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَبْدَانِ والبلدان وَالصِّحَّة والاعتدال عَلَى تَفَاوُتِ الْأَمْزِجَةِ الْمُعْتَدِلَةِ، وَهَذِهِ الرَّذَالَةُ رَذَالَةٌ فِي الصِّحَّةِ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِحَالَةِ النَّفْسِ، فَهِيَ مِمَّا يَعْرِضُ لِلْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ فَتُسَمَّى أَرْذَلَ الْعُمُرِ فِيهِمَا، وَقَدِ اسْتَعَاذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنْ يُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ.
وَلَامُ التَّعْلِيلِ الدَّاخِلَةُ عَلَى (كَيْ) الْمَصْدَرِيَّةِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَى الصَّيْرُورَةِ وَالْعَاقِبَةِ تَشْبِيهًا لِلصَّيْرُورَةِ بِالْعِلَّةِ اسْتِعَارَةً تُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ لَا غَايَةَ لِلْمَرْءِ فِي ذَلِكَ التَّعْمِيرِ تَعْرِيضًا بِالنَّاسِ، إِذْ يَرْغَبُونَ فِي طُولِ الْحَيَاةِ وَتَنْبِيهًا عَلَى وُجُوبِ الْإِقْصَارِ مِنْ تِلْكَ الرَّغْبَةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِيَصِيرَ غَيْرَ قَابِلٍ لِعِلْمِ مَا لَمْ يُعلمهُ لِأَنَّهُ يبطىء قَبُولَهُ لِلْعِلْمِ. وَرُبَّمَا لَمْ يَتَصَوَّرْ مَا يَتَلَقَّاهُ ثُمَّ يُسْرِعُ إِلَيْهِ النِّسْيَانُ. وَالْإِنْسَانُ يَكْرَهُ حَالَةَ انْحِطَاطِ عِلْمِهِ
لِأَنَّهُ يَصِيرُ شَبِيهًا بِالْعَجْمَاوَاتِ.
وَاسْتِعَارَةُ حَرْفِ الْعِلَّةِ إِلَى مَعْنَى الْعَاقِبَةِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ فِي مَقَامِ التَّوْبِيخِ أَوِ التَّخْطِئَةِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: [١٧٨]. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ قَرِيبًا فِي ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٥٥].
وَتَنْكِيرُ عِلْمٍ تَنْكِيرُ الْجِنْسِ. وَالْمَعْنَى: لِكَيْلَا يَعْلَمَ شَيْئًا بَعْدَ أَنْ كَانَ لَهُ عِلْمٌ، أَيْ لِيَزُولَ مِنْهُ قَبُولُ الْعِلْمِ.
وَالْهَرَمُ لَا يَنْضَبِطُ حُصُولُهُ بِعَدَدٍ مِنَ السِّنِينَ، لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَبْدَانِ والبلدان وَالصِّحَّة والاعتدال عَلَى تَفَاوُتِ الْأَمْزِجَةِ الْمُعْتَدِلَةِ، وَهَذِهِ الرَّذَالَةُ رَذَالَةٌ فِي الصِّحَّةِ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِحَالَةِ النَّفْسِ، فَهِيَ مِمَّا يَعْرِضُ لِلْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ فَتُسَمَّى أَرْذَلَ الْعُمُرِ فِيهِمَا، وَقَدِ اسْتَعَاذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنْ يُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ.
وَلَامُ التَّعْلِيلِ الدَّاخِلَةُ عَلَى (كَيْ) الْمَصْدَرِيَّةِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَى الصَّيْرُورَةِ وَالْعَاقِبَةِ تَشْبِيهًا لِلصَّيْرُورَةِ بِالْعِلَّةِ اسْتِعَارَةً تُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ لَا غَايَةَ لِلْمَرْءِ فِي ذَلِكَ التَّعْمِيرِ تَعْرِيضًا بِالنَّاسِ، إِذْ يَرْغَبُونَ فِي طُولِ الْحَيَاةِ وَتَنْبِيهًا عَلَى وُجُوبِ الْإِقْصَارِ مِنْ تِلْكَ الرَّغْبَةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِيَصِيرَ غَيْرَ قَابِلٍ لِعِلْمِ مَا لَمْ يُعلمهُ لِأَنَّهُ يبطىء قَبُولَهُ لِلْعِلْمِ. وَرُبَّمَا لَمْ يَتَصَوَّرْ مَا يَتَلَقَّاهُ ثُمَّ يُسْرِعُ إِلَيْهِ النِّسْيَانُ. وَالْإِنْسَانُ يَكْرَهُ حَالَةَ انْحِطَاطِ عِلْمِهِ
لِأَنَّهُ يَصِيرُ شَبِيهًا بِالْعَجْمَاوَاتِ.
وَاسْتِعَارَةُ حَرْفِ الْعِلَّةِ إِلَى مَعْنَى الْعَاقِبَةِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ فِي مَقَامِ التَّوْبِيخِ أَوِ التَّخْطِئَةِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: [١٧٨]. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ قَرِيبًا فِي ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٥٥].
وَتَنْكِيرُ عِلْمٍ تَنْكِيرُ الْجِنْسِ. وَالْمَعْنَى: لِكَيْلَا يَعْلَمَ شَيْئًا بَعْدَ أَنْ كَانَ لَهُ عِلْمٌ، أَيْ لِيَزُولَ مِنْهُ قَبُولُ الْعِلْمِ.
212
وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ تَذْيِيلٌ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْجُمْلَةِ الدَّلَالَةُ عَلَى عِظَمِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَعِظَمِ عِلْمِهِ. وَقُدِّمَ وَصْفُ الْعَلِيمِ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ تَتَعَلَّقُ عَلَى وَفْقِ الْعِلْمِ، وَبِمِقْدَارِ سِعَةِ الْعِلْمِ يَكُونُ عِظَمُ الْقُدْرَةِ، فَضَعِيفُ الْقُدْرَةِ يَنَالُهُ تَعَبٌ مِنْ قُوَّةِ عِلْمِهِ لِأَنَّ هِمَّتَهُ تَدْعُوهُ إِلَى مَا لَيْسَ بِالنَّائِلِ، كَمَا قَالَ أَبُو الطَّيِّبِ:
[٧١]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٧١]
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٧١)
هَذَا مِنْ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّ التَّصَرُّفَ الْقَاهِرَ لِلَّهِ تَعَالَى. وَذَلِكَ أَنَّهُ أَعْقَبَ الِاسْتِدْلَالَ بِالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنْ هَرَمٍ بِالِاسْتِدْلَالِ بِالرِّزْقِ.
وَلَمَّا كَانَ الرِّزْقُ حَاصِلًا لِكُلِّ مَوْجُودٍ بُنِيَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى التَّفَاوُتِ فِيهِ بِخِلَافِ الِاسْتِدْلَالِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ [سُورَة النَّحْل: ٧٠].
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى التَّصَرُّفِ الْقَاهِرِ أَنَّ الرِّزْقَ حَاصِلٌ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ وَأَنَّ تَفَاضُلَ النَّاسِ فِيهِ غَيْرُ جَارٍ عَلَى رَغَبَاتِهِمْ وَلَا عَلَى اسْتِحْقَاقِهِمْ فَقَدْ تَجِدُ أَكْيَسَ النَّاسِ وَأَجْوَدَهُمْ عَقْلًا وَفَهْمًا مُقَتَّرًا عَلَيْهِ فِي الرِّزْقِ، وَبِضِدِّهِ تَرَى أَجْهَلَ النَّاسِ وَأَقَلَّهُمْ تَدْبِيرًا مُوَسَّعًا عَلَيْهِ فِي الرِّزْقِ، وَكِلَا الرَّجُلَيْنِ قد حصل لَهُ مَا حَصَلَ قَهْرًا عَلَيْهِ، فَالْمُقَتَّرُ عَلَيْهِ لَا يَدْرِي أَسْبَابَ التَّقْتِيرِ، وَالْمُوَسَّعُ عَلَيْهِ لَا يَدْرِي أَسْبَابَ تَيْسِيرِ رِزْقِهِ، ذَلِك لِأَنَّ الْأَسْبَابَ كَثِيرَةٌ مُتَوَالِدَةٌ وَمُتَسَلْسِلَةٌ وَمُتَوَغِّلَةٌ فِي الْخَفَاءِ حَتَّى يَظُنَّ أَنَّ أَسْبَابَ الْأَمْرَيْنِ مَفْقُودَةٌ وَمَا هِيَ بِمَفْقُودَةٍ وَلَكِنَّهَا غَيْرُ مُحَاطٍ بِهَا. وَمِمَّا يُنْسَبُ إِلَى الشَّافِعِيِّ:
وَإِذَا كَانَتِ النُّفُوسُ كِبَارًا | تَعِبَتْ فِي مرادها الْأَجْسَام |
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٧١]
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٧١)
هَذَا مِنْ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّ التَّصَرُّفَ الْقَاهِرَ لِلَّهِ تَعَالَى. وَذَلِكَ أَنَّهُ أَعْقَبَ الِاسْتِدْلَالَ بِالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنْ هَرَمٍ بِالِاسْتِدْلَالِ بِالرِّزْقِ.
وَلَمَّا كَانَ الرِّزْقُ حَاصِلًا لِكُلِّ مَوْجُودٍ بُنِيَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى التَّفَاوُتِ فِيهِ بِخِلَافِ الِاسْتِدْلَالِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ [سُورَة النَّحْل: ٧٠].
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى التَّصَرُّفِ الْقَاهِرِ أَنَّ الرِّزْقَ حَاصِلٌ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ وَأَنَّ تَفَاضُلَ النَّاسِ فِيهِ غَيْرُ جَارٍ عَلَى رَغَبَاتِهِمْ وَلَا عَلَى اسْتِحْقَاقِهِمْ فَقَدْ تَجِدُ أَكْيَسَ النَّاسِ وَأَجْوَدَهُمْ عَقْلًا وَفَهْمًا مُقَتَّرًا عَلَيْهِ فِي الرِّزْقِ، وَبِضِدِّهِ تَرَى أَجْهَلَ النَّاسِ وَأَقَلَّهُمْ تَدْبِيرًا مُوَسَّعًا عَلَيْهِ فِي الرِّزْقِ، وَكِلَا الرَّجُلَيْنِ قد حصل لَهُ مَا حَصَلَ قَهْرًا عَلَيْهِ، فَالْمُقَتَّرُ عَلَيْهِ لَا يَدْرِي أَسْبَابَ التَّقْتِيرِ، وَالْمُوَسَّعُ عَلَيْهِ لَا يَدْرِي أَسْبَابَ تَيْسِيرِ رِزْقِهِ، ذَلِك لِأَنَّ الْأَسْبَابَ كَثِيرَةٌ مُتَوَالِدَةٌ وَمُتَسَلْسِلَةٌ وَمُتَوَغِّلَةٌ فِي الْخَفَاءِ حَتَّى يَظُنَّ أَنَّ أَسْبَابَ الْأَمْرَيْنِ مَفْقُودَةٌ وَمَا هِيَ بِمَفْقُودَةٍ وَلَكِنَّهَا غَيْرُ مُحَاطٍ بِهَا. وَمِمَّا يُنْسَبُ إِلَى الشَّافِعِيِّ: