تفسير سورة النحل

كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل
تفسير سورة سورة النحل من كتاب كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل .
لمؤلفه أبو بكر الحداد اليمني . المتوفي سنة 800 هـ

﴿ أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس: (لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ ٱقْتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ ﴾[القمر: ١] قَالَ الْكُفَّارُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إنْ يَزْعُمْ أنَّ الْقِيَامَةَ قَدْ قَرُبَتْ، فَأَمْسِكُواْ عَنْ بَعْضِ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ حَتَّى نَنْظُرَ مَا هُوَ كَائِنٌ، فَلَمَّا رَأواْ أنَّهُ لاَ يُنْزِلُ شَيْئاً قَالُواْ: مَا نَرَى شَيْئاً، فَأَنْزَلَ اللهُ﴿ ٱقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ ﴾[الأنبياء: ١]، فَانْتَظَرُواْ قُرْبَ السَّاعَةِ، فَلَمَّا امْتَدَّتِ الأَيَّامُ قَالُواْ: يَا مُحَمَّدُ مَا نَرَى شَيْئاَ تُخَوِّفُنَا بهِ، فَأنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ ﴿ أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ ﴾ فَوَثَبَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لاَ يَشُكُّ أنَّ الْعَذابَ قَدْ أتَى، فَقَالَ اللهُ ﴿ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ ﴾ يَعْنِي الْعَذابَ، فَجَلَسَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم). وأما ذِكرُ لفظِ الإتيان في هذا؛ فلأنَّ أمرَ اللهِ في القُرب بِمنْزِلَةِ ما قد أتَى، كما قالَ تعالى:﴿ وَمَآ أَمْرُ ٱلسَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ ٱلْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ﴾[النحل: ٧٧].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾؛أي تنزيهاً له تعالى بصفات المدحِ عمَّا يشركون بهِ من الأصنَامِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يُنَزِّلُ ٱلْمَلاۤئِكَةَ بِٱلْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ﴾؛ أي ينَزِّلُ الملائكةَ بالوحيِ.
﴿ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ ﴾؛ قرأ الأعمشُ (يَنْزِلُ) بفتح الياء وجزم النون وكسرِ الزَّاي، قال ابنُ عبَّاس: (يَعْنِي بالْمَلاَئِكَةِ جِبْرِيلَ وَحْدَهُ)، ويسمَّى الوحيُ رُوحاً؛ لأنَّهُ تَحْيَا به القلوبُ والحقُّ، ويموتُ الكفرُ والباطلُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَنْ أَنْذِرُوۤاْ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنَاْ ﴾؛ أي أنْ أعلِمُوا بالتَّخويفِ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ.
﴿ فَٱتَّقُونِ ﴾؛ أي فاتَّقوا المعاصيَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَنْ أَنْذِرُوۤاْ ﴾ في موضعِ النصب بنَزعِ الخافضِ؛ أي بأنْ أنذِرُوا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ ﴾، أي ليُستَدَلَّ بهما على توحيدِ الله، وليُعمَلَ بالحقِّ.
﴿ تَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾؛ مِن أن يكون له شريكٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ خَلَقَ ٱلإِنْسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ ﴾ قال ابنُ عبَّاس: (نَزَلَ فِي أُبَيِّ بْنِ خَلَفِ الْجَمْحِيِّ حِينَ قَالَ﴿ مَن يُحيِي ٱلْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ﴾[يس: ٧٨].
والمعنى: خلَقَ الإنسانَ من نُطفَةٍ مُنْتِنَةٍ وأنعمَ عليه حَالاً بعد حالٍ إلى أن أبلغَهُ الحالةَ التي تخاصِمُ عن نفسهِ، فيُنكِرُ إعادتَهُ بعد موتهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلأَنْعَامَ خَلَقَهَا ﴾؛ أي وخلَقَ لكم الأنعامَ، وهي ذواتُ الْحِقَافِ والأظْلاَفِ دون الحوَافِرِ. وقولهُ تعالى: ﴿ لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ ﴾؛ أي ما يُدَفِّيكُمْ من أصوافِها وأوبَارِها من الأكْسِيَةِ ونحوها، ومِن القَلاَنِسِ واللِّحَافِ، ومنافعُ أُخَرَ من ألبانِها ونَسْلِها، والرُّكوب والحمل عليها، والفُرُشِ والبيوت من أصوافِها. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴾؛ يعني لُحومَها.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ﴾؛ أي ولكم فيها منظرٌ حَسَنٌ، يقالُ: هذه مَوَاشِي فلانٍ، فيكون له في ذلك جمالٌ، قال قتادة: (وَذلِكَ أعْجَبُ مَا يَكُونُ إذا رَاحَتْ عِظَاماً ضُرُوعُهَا طِوَالاً أسْنِمَتُهَا)، وقولهُ تعالى: ﴿ حِينَ تُرِيحُونَ ﴾ أي حين تُرِيحونَها في العَشِيِّ مِن مراعيها إلى مَبَارِكِهَا التي تَأْوي إليها.
﴿ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ﴾ أي تَخرُجون بها بالغَدَاةِ من مَرَاحِهَا إلى مَسَارِحِهَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىٰ بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ ٱلأَنفُسِ ﴾؛ أرادَ به الإبلَ تحملُ أمتِعتَكم وزادَكم، وما يَثْقُلُ عليكم إلى بلدٍ قصدتُموه للحجِّ إلى مكَّة، أو تجارةٍ إلى سائرِ البُلدان، لولاَ الإبلُ لكان لا يمكِنُكم بلوغُ تلكَ البلدِ إلا بجَهْدٍ ومشَقَّة. وقولهُ تعالى: ﴿ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾؛ أي مُتَفَضِّلٌ مُنْعِمٌ عليكم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلْخَيْلَ وَٱلْبِغَالَ وَٱلْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ﴾؛ أي وخلَقَ لكم الخيلَ والبغال والحميرَ؛ لتَركَبوها وتتزَيَّنوا بها زينةٌ، فيحصلُ لكم منافعُها، وحُسْنُ منظَرِها للناسِ، كما قال تعالى:﴿ ٱلْمَالُ وَٱلْبَنُونَ زِينَةُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا ﴾[الكهف: ٤٦].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾؛ أي يخلقُ أشياءَ لا تَعرِفُونَها لم يُسَمِّها لكم. رُوي عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قالَ:" " إنَّ اللهَ تَعَالَى خَلَقَ أرْضاً بَيْضَاءَ مِثْلَ الدُّنْيَا ثَلاَثِينَ مَرَّةً مَحْشُوَّةً خَلْقاً مِنْ خَلْقِ اللهِ، لاَ يَعْلَمُونَ أنَّ اللهَ يُعْصَى طَرْفَةَ عَيْنٍ " قَالُواْ: يَا رَسُولَ اللهِ أمِنْ وَلَدِ آدَمَ هُمْ؟ قَالَ: " ما يَعْلَمُونَ أنَّ اللهَ خَلَقَ آدَمَ؟ " قَالُواْ: فَأَيْنَ إبْلِيسُ عَنْهُمْ؟ قَالَ: " مَا يَعْلَمُونَ أنَّ اللهَ خَلَقَ إبْلِيسَ " ثُمَّ قَرَأ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ﴿ وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ ". وهذه الآيةُ مما يُستَدلُّ بها على كراهيةِ لحم الخيلِ على مَذهب أبي حنيفةَ؛ لأنَّ اللهَ تعالى قال في الأنعامِ﴿ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴾[النحل: ٥] ولم يذكُرْ في آيةِ الخيل والبغال إلا الركوبَ والزينةَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَعَلَىٰ ٱللَّهِ قَصْدُ ٱلسَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ ﴾؛ أي وعلَى اللهِ بيانُ الهدى والضَّلالة ليُتَّبَعَ الهدى وتُجْتَنَبَ الضَّلالةُ، كما قالَ تعالى:﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ﴾[الانسان: ٣]، وقال تعالى:﴿ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴾[الشمس: ٨].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمِنْهَا جَآئِرٌ ﴾ أي مِن الطُّرُقِ ما هو عادلٌ عنِ الحقِّ، قال: يعني اليهوديَّةَ والنصرانية والمجوسية، وقال ابنُ المبارك: (يَعْنِي الأَهْوَاءَ وَالْبدَعَ). قولهُ: ﴿ وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ﴾؛ إلى جنَّتهِ وثوابهِ، ولأرشدَكم كلَّكم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ هُوَ ٱلَّذِي أَنْزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ مَآءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ ﴾؛ مثل البرَكِ والغُدْرَان، ِ ولكم.
﴿ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ﴾؛ تَرْعَونَ أنعامَكم، يعني الكَلأَ والأشجارَ التي ترعاهُ الإبلُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ ٱلزَّرْعَ وَٱلزَّيْتُونَ وَٱلنَّخِيلَ وَٱلأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾؛ ظاهرُ المعنى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلَّيلَ وَٱلْنَّهَارَ وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ وَٱلْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾؛ تسخيرَ الليل والنَّهار، مَجيءَ كلِّ واحدٍ منهما عَقِبَ الآخرِ بتقديرِ اللهِ؛ لينصرفَ الناسُ في معايشِهم بالنَّهار، ويَسكنُوا بالليلِ، وتسخيرَ الشمسِ والقمر والنُّجوم مجيئهُ بها في أوقاتٍ معلومة.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ ﴾؛ أي وسخَّرَ لكم ما خَلَقَ في الأرضِ من الدواب والأشجار وغيرها.
﴿ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ﴾، ومناظِرهُ وصُوَرُهُ.
﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ﴾؛ دلائلَ اللهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَهُوَ ٱلَّذِي سَخَّرَ ٱلْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً ﴾؛ يعني السَّمَكَ.
﴿ وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا ﴾؛ وهو العرضُ لاستخراجِ اللُّؤلؤ والْمَرْجَانِ لتلبسَهُ نساؤُكم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَتَرَى ٱلْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ ﴾؛ أي وترَى السُّفن في البحرِ مقبلةً ومُدبرةً تشقُّ الماءَ يَميناً وشِمالاً، يقالُ: مَخَرَتِ السفينةُ البحرَ، إذا جَرَتْ جَرْياً شقَّت الماءَ شَقّاً، والْمَخْرُ صوتُ هُبُوب الرِّيح، والسفينةُ تجري بالرِّيح، فسُمِّيت السفينةُ مَوَاخِرَ، والواحدة مَاخِرَةٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾؛ يعني لتَركَبوهُ للتِّجارةِ، فتطلبوا الربحَ من فضلِ الله لكي تشكُروا نِعَمَهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَلْقَىٰ فِي ٱلأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ ﴾؛ أي وجعلَ فيها جِبَالاً عاليةً يابسةً لئَلاَّ تحركَ بكم الأرضُ وَ؛ أجرَى فيها.
﴿ وَأَنْهَاراً ﴾، مثلَ النِّيل والفُرات ودِجلَةَ وسِيحُونَ وجِيحُون، وَجعلَ فيها.
﴿ وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾، طُرُقَ منافعكم؛ لكي تَهتَدُوا إلى الموضعِ الذي تقصدونَهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَعَلامَاتٍ وَبِٱلنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ﴾؛ أي جعلَ في الأرضِ أعْلاَماً للمسافرين من الجبالِ وغيرِ ذلك. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَعَلامَاتٍ وَبِٱلنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ﴾ معناهُ: إنَّ مَن يسيرُ بالليلِ فإنَّما يهتدِي إلى الطُّرُقِ في البرِّ والبحرِ بالنُّجوم مثل الثُّريا وبنات نَعْشٍ والفرقَدين، يهتدي بها إلى القِبلة والطُّرق.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ ﴾؛ أي أفَمَن يخلقُ هذه الأشياءَ وهو اللهُ تعالى كمَن لا يقدرُ أن يخلقَ شيئاً وهي الأصنامُ.
﴿ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ﴾ أنَّهما لا يَستويان في استحقاقِ العبادة.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَآ ﴾؛ يعني إذا أردتُّم أن تُعَرِّفوا بفاضلِ نِعَمِ الله عليكم في الخلقِ والرِّزق والتمكُّن من الأمور في الدُّنيا لم تقدرُوا على إحصاءِ هذه النِّعم.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لَغَفُورٌ ﴾؛ لذُنوب عباده إذا تابُوا.
﴿ رَّحِيمٌ ﴾؛ بهم بالإمهالِ إلى وقت التَّوبة.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * وَٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ ﴾؛ يعني الأصنامَ.
﴿ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ ﴾؛ واللهُ تعالى هو الخالقُ لَها. قولهُ: ﴿ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ ﴾؛ يعني الأصنامَ، والمعنى: كيفَ تخلقُ شيئاً، وهي أمواتٌ لا روحَ لها. وإنما جَمَعَ بين قولهِ ﴿ أَمْواتٌ ﴾ وبينَ قولهِ ﴿ غَيْرُ أَحْيَآءٍ ﴾ لأنه يقالُ: فلانٌ ميِّتٌ وإنْ كان حيّاً، إذا كان لا يُنتَفَعُ بهِ، فكأنَّ اللهَ تعالى بيَّنَ أنه لَم يُسَمِّ الأصنامَ أمواتاً من حيث أنه لا ينتفعُ بها، ولكن لأنه لا حياةَ فيها، فكيف يعبُدون ما لا يخلقُ وما لا يرزقُ ولا ينفع، وهو مع ذلك مِن الأمواتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ﴾؛ أي وما تشعرُ الأصنامُ متى يُبْعَثُ الناسُ من القبور فيُحاسَبون، فكيف يرجُو الكفارُ الجزاءَ من قِبَلِ الأصنامِ، و(أيَّانَ) كلمةُ اختصارٍِ أصلُها (أيَّ) و (أنَّ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِلٰهُكُمْ إِلٰهٌ وَاحِدٌ ﴾؛ وهو عَزَّ وَجَلَّ.
﴿ فَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ ﴾؛ للحقِّ.
﴿ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ ﴾؛ وهم مُتَعَظِّمُونَ عن قَبولِ الحقِّ أنَفةً مِن اتِّباعهِ واتِّباعِكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لاَ جَرَمَ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴾؛ أي حقّاً إنَّ اللهَ يعلمُ سِرَّهم وعلانِيَتَهم.
﴿ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُسْتَكْبِرِينَ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَّاذَآ أَنْزَلَ رَبُّكُمْ ﴾؛ أي إذا قِيْلَ لهؤلاءِ الكفار: ما الذي يدَّعِي مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم أنه يَنْزِلُ عليهِ مِن اللهِ.
﴿ قَالُواْ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ ﴾ أي الذي تذكُرون أنه مُنْزِلُ كلامِ الأولين، وما يسطِّرون في كتُبهِم من الأخبار والأقاصيصِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ ﴾؛ أي آثامَهم.
﴿ كَامِلَةً ﴾، أي وافرةً.
﴿ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ ﴾؛ ليَحمِلُوا.
﴿ وَمِنْ أَوْزَارِ ﴾؛ أي آثامِ.
﴿ ٱلَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ ﴾، يصرِفونَهم عن مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم والقرآنِ.
﴿ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾، بلا عِلْمٍ ولا حجَّة، يعني يكونُ عليهم إثْمُ إضلالِهم غيرَهم لا أن يحملوا ذنوبَ غيرِهم، كما قَالَ اللهُ تَعَالَى:﴿ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ﴾[الأنعام: ١٦٤].
وقوله تعالى: ﴿ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ ﴾؛ ظاهر المعنى.
وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَدْ مَكَرَ ٱلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى ٱللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِّنَ ٱلْقَوَاعِدِ ﴾؛ أي قد مَكَرَ الذين من قَبْلِ هؤلاءِ بأنبيائهم، كما مَكَرَ هؤلاء المقتَسِمون الذين اقتَسَمُوا أعقابَ مكَّة؛ ليصُدُّوا الناسَ عن دينِ الله، فأتَى اللهُ بُنيَانَ أولئكَ مِن القواعدِ بالعذاب.
﴿ فَخَرَّ ﴾، فوقعَ.
﴿ عَلَيْهِمُ ٱلسَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ ٱلْعَذَابُ ﴾؛ الهدمُ والاستئصالُ.
﴿ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾؛ بإتيانِ العذاب منهُ. وقد اختَلفُوا في هؤلاءِ الذي خَرَّ عليهم السقفُ، قال بعضُهم: هو نَمرُودُ بن كَنعان الذي بَنَى صَرْحاً طولهُ خمسةُ آلافٍ وخمسون ذِرَاعاً، وعرضهُ عرضُ ثلاثةِ آلاف وخمسون ذِرَاعاً؛ ليصعدَ إلى السَّماءِ، فوقعَ الصرحُ على الذي كانوا فيه، وأهلَكَ اللهُ نمرودَ بالبَعُوضِ. وقال بعضُهم: هذا على وجهِ الْمَثَلِ، فكأنه جعلَ أعمالَهم بمنْزِل البَانِي بناءً سَقَطَ عليهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ثُمَّ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ ٱلَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ ﴾؛ تُشرِكُونَهم معي في العبادةِ، وقولهُ تعالى: ﴿ قَالَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ ﴾؛ أي قالَ المؤمنون: ﴿ إِنَّ ٱلْخِزْيَ ٱلْيَوْمَ وَٱلْسُّوۤءَ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ ﴾ إنَّ الذُّلَّ اليومَ والهوانَ على الكافرين.
﴿ ٱلَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ ٱلْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ ﴾ تقبضُ أرواحَهم في حالِ ظُلمِهم لأنفُسِهم بالكفر.
﴿ فَأَلْقَوُاْ ٱلسَّلَمَ ﴾، واستَسلَمُوا وانقادوا للمذلَّةِ والهوانِ، يقولون: ﴿ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوۤءٍ ﴾؛ أي مِن معصيةٍ في الدُّنيا، فيقول المؤمنون: ﴿ بَلَىٰ ﴾؛ قد فَعَلتُمْ ذلكَ.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾؛ وتقولُ لهم خَزَنَةُ جهنَّمَ.
﴿ فَٱدْخُلُوۤاْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى ٱلْمُتَكَبِّرِينَ ﴾؛ عن توحيدِ الله وعبادته.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقِيلَ لِلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس: (وَذلِكَ أنَّ أهْلَ مَكَّةَ لَمَّا بَعَثُواْ إلَى أعْقَاب مَكَّةَ رجَالاً؛ لِيَصُدُّوا النَّاسَ عَنْ دِينِ اللهِ، بَعَثَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم رجَالاً مِنْ أصْحَابهِ: عَبْدُاللهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ، فَكَانَ وَافِدُ النَّاسِ إذا قَدِمَ فَرَدَّهُ الْكُفَّارُ عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وعَنِ الإيْمَانِ، سَأَلَ أصْحَابُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: (مَاذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ؟ قَالُواْ: خَيْراً) أيْ أنْزَلَ حَقّاً وَصَوَاباً). وعلى هذا انتصبَ قولهُ (خَيْراً)، وإنما ارتفعَ قولهُ في جواب المقتسِمين من كفَّار مكَّة (أسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ) لأنَّهم كانوا لا يُقِرُّونَ بإنزالهِ، بل كانوا يقولُون على جهةِ التكذيب هو أساطيرُ الأولين. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هٰذِهِ ٱلْدُّنْيَا حَسَنَةٌ ﴾؛ أراد بالحسَنَةِ الثناءَ والمدحَ على ألْسِنَةِ المؤمنين، وَقِيْلَ: للَّذين قالوا لا إلهَ إلا اللهُ يُضَعَّفُ لَهُ بعَشْرٍ.
﴿ وَلَدَارُ ٱلآخِرَةِ خَيْرٌ ﴾؛ يعني الجنَّةَ خيرٌ مما يصِلُ إليهم في الدُّنيا.
﴿ وَلَنِعْمَ دَارُ ٱلْمُتَّقِينَ ﴾.
ثُم فسَّرَ دارَ المتَّقين فقال: ﴿ جَنَّاتُ عَدْنٍ ﴾؛ أي بساتِينُ إقامةٍ.
﴿ يَدْخُلُونَهَا ﴾، يومَ القيامة.
﴿ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ﴾؛ أي من تحت أشجَارِها.
﴿ ٱلأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤونَ كَذَلِكَ يَجْزِي ٱللَّهُ ﴾؛ كذلك تكون مجازاةُ الله.
﴿ ٱلْمُتَّقِينَ ﴾؛ للشِّرك والمعاصِي.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱلَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ﴾؛ عند قبضِ أروَاحِهم.
﴿ طَيِّبِينَ ﴾؛ أي زَاكِيَةٌ أعمالُهم متمسِّكِين بما أُمِرُوا به مجتَنِبينَ لِمَا نُهُوا عنه، طِّيبَةٌ أرواحُهم بما يُبَشَّرُونَ به من الجنَّة.
﴿ يَقُولُونَ ﴾؛ أي يقولُ لهم الملائكة: ﴿ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ٱدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾؛ في الدُّنيا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ ٱلْمَلائِكَةُ ﴾؛ أي ما ينظرُ أهلُ مكَّة في تكذيبهم للرَّسولِ واستبطائهم العذابَ، إلاّ أن تأتيَهم الملائكةُ لقبضِ أرواحهم.
﴿ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ ﴾؛ بعذاب الاستئصال.
﴿ كَذَلِكَ فَعَلَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾؛ هؤلاءِ الكفار من تكذيب الرُّسل مثلَ ما فَعَلَ هؤلاءِ فعذبَهم اللهُ ﴿ وَمَا ظَلَمَهُمُ ٱللَّهُ ﴾؛ بذلكَ.
﴿ وَلـٰكِن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾؛ ظلَمُوا أنفُسَهم حيث فعَلُوا ما استوجَبُوا به العذابَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ ﴾؛ أي عقابُ ما عَمِلوا، أرادَ بالسَّيئات العقابَ كما قال تعالى:﴿ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ﴾[الشورى: ٤٠] ﴿ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾؛ أي وحلَّ بهم ما كانوا يستَهزِئُون به من العذاب.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَالَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلاۤ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ ﴾؛ هذا نظيرُ الآيةِ التي في الأنعامِ﴿ سَيَقُولُ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا ﴾[النحل: ١٤٨] قد تقدَّمَ تفسيرهُ، يعني كفارَ أهلِ مكَّة. وقولهُ تعالى: ﴿ كَذٰلِكَ فَعَلَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾؛ مِنَ الأُمَم الماضيةِ من تكذيب الأنبياء مثلَ ما فعلَ هؤلاءِ، فلم يكن ذلك حجَّةً لَهم.
﴿ فَهَلْ عَلَى ٱلرُّسُلِ إِلاَّ ٱلْبَلاغُ ٱلْمُبِينُ ﴾؛ عنِ الله بلُغَةٍ يَعرِفونَها. وقال بعضُهم: إنما قالوا هذا القولَ استهزاءً وسخرية كما قال قومُ شعيب: أتَنهَانَا عمَّا كان يعبدُ آباؤنا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً ﴾؛ كما بعثنَاكَ رسُولاً في هؤلاءِ.
﴿ أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجْتَنِبُواْ ٱلْطَّاغُوتَ ﴾؛ أي اجتَنِبوا الشيطانَ وعبادةَ كلِّ ما تعبدون مِن دون الله.
﴿ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى ٱللَّهُ وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ ٱلضَّلالَةُ ﴾ أي الكفرُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ ﴾؛ أي في أرضِ الذين عاقَبَهم اللهُ.
﴿ فَٱنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُكَذِّبِينَ ﴾؛ أي كيف صارَ عاقبةُ مَكرِهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِن تَحْرِصْ عَلَىٰ هُدَاهُمْ ﴾؛ أي إنْ تطلُبْ يا مُحَمَّد من جهتك هُداهم.
﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ ﴾؛ أي يحكمُ عليه بالضَّلالة، ومَن يُضْلِلْهُ اللهُ فلا يهدِي ولا يهتدي.
﴿ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ ﴾؛ أي مَن يدفعُ عنهم العذابَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ ٱللَّهُ مَن يَمُوتُ ﴾؛ أي حلفَ الكفارُ بالله مجتهدين في اليمينِ: أنه لا يبعثُ الله مَن يموتُ، وقوله تعالى: ﴿ بَلَىٰ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً ﴾؛ أي قُلْ: بلَى، وَقِيْلَ: إنَّ اللهَ تولَّى الجوابَ بنفسهِ، كأنه قال: لِيَبْعَثَهُمْ بعدَ الموتِ وَعْداً عليهِ. انتصبَ قوله ﴿ حَقّاً ﴾ على المصدرِ؛ أي وَعَدَ وَعْداً حَقّاً كأنَّما أوجبَهُ على نفسهِ.
﴿ وَلـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلْنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾؛ أنه حقٌّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ ٱلَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ ﴾؛ معناهُ: يبعَثُهم لكي يُبَيِّنَ لهم ما يختلِفون فيه من الدِّين ﴿ وَلِيَعْلَمَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ ﴾ في الدُّنيا بأنْ لا جنةَ ولا نارَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ أي إنَّما أمْرُنا في البعثِ وغيرهِ إذا أرَدْنا أن نقولَ له: كُنْ؛ فيكونُ. مَن رفعَ (فَيَكُونَ) معناهُ: فهو يكونُ، ومَن نصبَ فعلى جواب كُنْ، وَقِيْلَ: عَطفاً على (أنْ يَقُولَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي ٱللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس: (نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَصُهَيْبٍ وَبلاَلٍ وَأصْحَابهِ الَّذِينَ هَاجَرُواْ إلَى الْمَدِينَةِ مِنْ بَعْدِ مَا عَذبَهُمْ أهْلُ مَكَّةَ). والمعنَى: والذين هَجَروا أوطانَهم في طاعةِ الله، وسَارُوا إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم من بعدِ ما ظلَمَهم الكفارُ.
﴿ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً ﴾، أرضاً كَرِيمَةً وهي المدينةُ بدلَ أوطانِهم.
﴿ وَلأَجْرُ ٱلآخِرَةِ أَكْبَرُ ﴾؛ لَهم مما أعطينَاهم في الدُّنيا.
﴿ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ﴾ يعلمُ الكفَّار. ثُم وَصَفَهم فقال: ﴿ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ ﴾؛ يعني على الشَدائِد والعبادات، وصَبَروا عنِ الْمُحَرَّمَاتِ.
﴿ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ في طلب الدِّين والدُّنيا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِيۤ إِلَيْهِمْ ﴾؛ نزلت جَواباً لأهلِ مكَّة حين قالوا: لو أرادَ اللهُ أن يبعثَ إلينا رسُولاً لبعَثَ رسولاً من الملائكةِ لا رجُلاً منَّا. ومعنى الآيةِ ﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ ﴾ يا مُحَمَّدُ إلى الأُمَم الماضيةِ إلا رجَالاً أوحَينا إليهم كما أوحَينا إليكَ.
﴿ فَٱسْأَلُواْ ﴾؛ يا أهلَ مكَّة.
﴿ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ ﴾؛ أي الكتاب.
﴿ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ ﴾؛ أنَّ الرسُلَ كانت من البشَرِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ بِٱلْبَيِّنَاتِ وَٱلزُّبُرِ ﴾؛ راجعٌ إلى قولهِ تعالى﴿ نُّوحِيۤ إِلَيْهِمْ ﴾[النحل: ٤٣].
وَقِيْلَ: في هذا إضمارٌ كأنه قالَ: وأرسلنَاهم بالبيِّناتِ والزُّبُرِ. والبيناتُ: هي الدلالاتُ الواضِحَاتُ، والزُّبُرُ: جمعُ الزَّبُور وهو الكتابُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلذِّكْرَ ﴾؛ أي القرآنَ.
﴿ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ﴾؛ الحلالَ والحرامَ والحقَّ والباطل.
﴿ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾؛ فيهِ فيُؤمِنُوا بهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَفَأَمِنَ ٱلَّذِينَ مَكَرُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ ٱللَّهُ بِهِمُ ٱلأَرْضَ ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس: (يَعْنِي أهْلَ مَكَّةَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ؛ يَعْنِي الشِّرْكَ)؛ وَقِيْلَ: معناهُ: أفأَمِنَ الذين مَكَروا في تكذيب الرُّسل وأذى المسلمين أنْ يخسفَ اللهُ بهم كما خَسَفَ بقارون.
﴿ أَوْ يَأْتِيَهُمُ ٱلْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ ﴾؛ موضعُ.
﴿ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ أي لا يعلمونَ.
﴿ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ ﴾؛ أي في أسفَارِهم وتجارتِهم وتصرُّفِهم.
﴿ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ ﴾؛ اللهَ على ما يريدُ إحلالَهُ بهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَىٰ تَخَوُّفٍ ﴾؛ أي على تَنَقُّصٍ إما بقَتلٍ أو بمَوتٍ؛ الأوَّلُ فالأولُ حتى يهلَكُوا عن آخرِهم، رُوي عن عمرَ رضي الله عنه أنه قالَ: (مَا كُنْتُ أدْرِي مَا مَعْنَى (عَلَى تَخَوُّفٍ) حَتَّى سَمِعْتُ قَوْلَ الشَّاعِرِ: تَخَوَّفَ السَّيْرُ مِنْهَا تَامِكاً قَرِدَا   كَمَا تَخَوَّفَ عُودُ النَّبْعَةِ السَّفَنُوقال الحسنُ: (مَعْنَاهُ: أنْ يُخَوِّفَهُمْ بأَنْ يُهْلِكَ قَرْيَةً لِتَنْزَجِرَ قَرْيَةٌ أُخْرَى). وقولهُ تعالى: ﴿ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾؛ أي شديدُ الرَّحمة بتأخيرِ العذاب عن الكفَّار، أو شديدُ الرحمةِ على مَن تابَ منهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٍ ﴾؛ أي من شَخْصٍ قائمٍ من شَجر أو إنسان أو نحوِ ذلك.
﴿ يَتَفَيَّؤُاْ ظِلاَلُهُ عَنِ ٱلْيَمِينِ وَٱلْشَّمَآئِلِ ﴾؛ أي يتَمَيَّلُ ظِلالهُ عن اليمينِ والشَّمائلِ، إذا طلعَتِ الشمسُ وإذا غرَبت.
﴿ سُجَّداً لِلَّهِ ﴾؛ أي مَيَلانُهَا أو دوَرَانُها من موضعٍ إلى موضعٍ سجودُها، فيسجدُ الظلُّ غدوةً إلى أن يفيءَ الظلُّ، ثم يسجدُ أيضاً إلى الليلِ. وفي هذا دليلُ توحيدِ الله تعالى، قال الحسنُ: (أمَّا ظِلُّكَ فَيَسْجُدُ للهِ، وَأمَّا أنْتَ فَلاَ تَسْجُدُ). قولهُ: ﴿ وَهُمْ دَاخِرُونَ ﴾ أي صَاغِرُون ذليلُونَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ ﴾؛ أي ما دبَّ على الأرضِ.
﴿ وَٱلْمَلاۤئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ﴾؛ أي ويخضع الملائكة وهم لا يتعظَّمون عن الخضوعِ له.
﴿ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ﴾؛ أي يخافونَ عقابَ ربهم من فوقِهم. وَقِيْلَ: يخافون ربَّهم خوفَ المقهورِ من القاهر، فذكَرَ لفظَ فَوْقِ على هذا المعنى. وقولهُ تعالى: ﴿ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾؛ يعني الملائكةَ لا يعصُونَ اللهَ ما أمَرَهم. وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قالَ:" إنَّ للهِ مَلائِكَةً فِي السَّمَاءِ السَّابعَةِ سُجُوداً مُنْذُ خَلَقَهُمُ اللهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، تَرْعَدُ فَرَائِصُهُمْ مِنْ مَخَافَةِ اللهِ، وَتَجْرِي دُمُوعُهُمْ وَتَضْطَرِبُ أجْنِحَتُهُمْ، لاَ تَقَطُرُ مِنْ دُمُوعِهِمْ قَطْرَةٌ إلاَّ صَارَتْ مَلَكاً قَائِماً، فإذا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ رَفَعُوا رُؤُوسَهُمْ وَقَالُواْ: سُبْحَانَكَ مَا عَبَدْنَاكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ ". وعن ابنِ عبَّاس أنه قالَ في هذه الآيةِ: (مَنْ سَجَدَ هَذِهِ السَّجْدَةَ إيْمَاناً وَتَصْدِيقاً، أعْطَاهُ اللهُ بعَدَدِ الْمَلاَئِكَةِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ، وَقَطْرِ الْمَطَرِ وَنَبَاتِ الأَرْضِ وَتُرَابهَا وَرَمْلِهَا وَمَدَرِهَا، وَبَعَدَدِ مَا دَبَّ عَلَى وَجْهِ الأرْضِ حَسَنَةً حَسَنَةً).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَالَ ٱللَّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلـٰهَيْنِ ٱثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلـٰهٌ وَاحِدٌ ﴾؛ يجوزُ أن يكون قولهُ (اثْنَيْنِ) تأكيداً لما سَبَقَ، ويجوزُ أن يكون المعنى: لا تتَّخذوا اثنين إلَهين إنما اللهُ إلهٌ واحد.
﴿ فَإيَّايَ فَٱرْهَبُونِ ﴾؛ أي فَاخْشَوْنِ ولا تَخْشَوا أحَداً غيري.
﴿ وَلَهُ مَا فِي ٱلْسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾؛ ظاهرُ المعنى. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَهُ ٱلدِّينُ وَاصِباً ﴾؛ أي دَائِماً، وقوله تعالى (وَاصِباً) انتصبَ على القطعِ وإنْ كان فيه الوصفُ، والوَصَبُ: شدَّةُ التَّعَب؛ لأن اللهَ هو المستحقُّ أن يُعبَدَ في جميعِ الأوقات. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ تَتَّقُونَ ﴾؛ إنكارٌ عليهم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ ﴾؛ ظاهرُ المعنى. وقولهُ تعالى: ﴿ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ ٱلضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ﴾؛ أي فإليه تتضرَّعون في كشفهِ، والْجُؤَارُ في اللغة: رفعُ الصَّوتِ، فكأنَّهُ قالَ: فإليه تَضُجُّونَ وَتَصِيحُونَ.
﴿ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ ٱلضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ﴾؛ عادَ فريقٌ منكم إلى الشِّرك.
﴿ لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ ﴾؛ أي ليجْحَدوا نعمةَ اللهِ في كشف الضرِّ عنهم. ثم أوْعَدَهُمْ فقالَ: ﴿ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾؛ أي فتمتَّعوا في الدُّنيا، فسوف تعلمونَ ما يحلُّ بكم من العقاب.
قوله تعالى: ﴿ وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِّمّا رَزَقْنَاهُمْ ﴾؛ أي ويجعلون للأصنامِ التي لا تعلمُ نَصيباً مما رزقناهم، وهو ما كانوا يجعلونَ لها من السَّائبة والبَحِيرَةِ والْحَامِ وبعضِ الحرث. ويجوز أن يكون: ﴿ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ راجعاً إلى الكفارِ على معنى أنَّهم لا يعلَمون أنَّها تنفعُهم ولا تضرُّهم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ تَٱللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ ﴾؛ قَسَمٌ بأن اللهَ يسألُهم في الآخرةِ عن افترائهم فيما جعلوهُ للاصنامِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ٱلْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ ﴾؛ معناه: إنَّهم يقولون: إن الملائكةَ بناتُ الله، وقوله تعالى ﴿ سُبْحَانَهُ ﴾ تَنْزِيهاً للهِ تعالى عما لا يليقُ به. وقولهُ تعالى: ﴿ وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ ﴾؛ أي ما يختارُون لأنفسِهم من البنين دونَ البناتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِٱلأُنْثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً ﴾؛ أي ظهرَ أثرُ كراهةِ الحزن على وجههِ من ذلك، يقال لِمَن لَقِيَ مكروهاً: قَدِ اسْوَدَّ وجههُ غَمّاً وحُزناً وخَجلاً. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَهُوَ كَظِيمٌ ﴾؛ أي ممتلئ غَيظاً وغَمّاً يتردَّدُ حزنهُ في جوفهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يَتَوَارَىٰ مِنَ ٱلْقَوْمِ مِن سُوۤءِ مَا بُشِّرَ بِهِ ﴾؛ أي يختفِي من المبشِّرين له بذلكَ ومن جُلسائهِ من كراهةِ ما بُشِّرَ به من الأُنثى.
﴿ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ ﴾؛ أي أيحفظُ المبشَّرَ به على هَوْنٍ ومشقَّة، والْهَوْنُ: الْهَوَانُ.
﴿ أَمْ يَدُسُّهُ ﴾؛ أي يدفنهُ.
﴿ فِي ٱلتُّرَابِ ﴾؛ حَيّاً كما كان في عادةِ العرب كان إذا وُلد لأحدهم أُنثى حفرَ لها حفرةً وألقاهَا فيها ودفَنَها حتى تَموتَ، وهي الْمَوْءُدَةُ. وأما لفظُ التذكيرِ في قوله ﴿ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ ﴾ فإنه راجعٌ إلى المبشَّر بهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَلاَ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾؛ أي ألاَ ساءَ ما يقضُونَ من اختيار البنين لأنفُسِهم، وإضافةِ البنات إلى اللهِ وقَتلِ الْمَوْءُودَةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ مَثَلُ ٱلسَّوْءِ ﴾؛ أي لَهم صفةُ السُّوء من احتياجِهم إلى الولدِ، وكراهيتهم الإناثَ خوف العار.
﴿ وَلِلَّهِ ٱلْمَثَلُ ٱلأَعْلَىٰ ﴾؛ أي الصفةُ العليا وهي الأُلوهية والربُوبيَّة لم يلد ولم يولَدْ ولم يكن له كُفُواً أحدٌ، وقولهُ تعالى: ﴿ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ ﴾؛ أي الغالبُ الذي لا يقدرُ أحدٌ أن يغلبَهُ، الحكيمُ في أمرهِ وتدبيره.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ﴾؛ أي بعقاب معاصيهم عَاجلاً.
﴿ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا ﴾؛ أي على الأرضِ.
﴿ مِن دَآبَّةٍ وَلٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ ﴾؛ أي يُمهِلُهِم.
﴿ إلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّىٰ ﴾؛ أي إلى وقتٍ ضَرَبَهُ لامهالهم.
﴿ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ ﴾ ذلكَ الوقتُ.
﴿ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ﴾؛ لا يتقدَّمون ساعةً ولا يتأخَّرون. فإن قِيْلَ: كيف قال ﴿ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ ﴾ مع عِلمنا أن في الناسِ من هو غيرُ ظالِمٍ، قيل: معناه: (ما تركَ عليها من دابَّة ظالمةٍ). وَقِيْلَ: معناهُ: ولو يؤاخِذُ الله الناسَ بظُلمِهم عَاجلاً لانقطعَ النسلُ؛ لأنه لا أحدَ إلا وقد كان في آبائهِ وأجداده من هو ظالِمٌ. فإن قِيْلَ: في الآية تعميمُ الناسِ والدواب في الهلاكِ؛ فأيُّ شيء يوجبُ هلاكَ الدواب؟ قِيْلَ: إن الدوابَّ إنما خلقَها اللهُ لمنافعِ الناس، فإذا هلكت الناس بمنع المطرِ عنهم، لم يبقَ في الأرضِ دابَّة إلا وهلَكَت، وإذا هلكَ الناسُ بوجهٍ من الوجوه لم تبقَ الدوابُّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ ﴾؛ لأنفُسِهم. في الآيةِ إعادةُ ذكر جَهلِ الكفَّار أنَّهم يجعلون للهِ ما يكرَهون لأنفُسِهم وهو البناتُ.
﴿ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ ﴾؛ مع ذلكَ.
﴿ ٱلْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ ٱلْحُسْنَىٰ ﴾؛ أي أن لهم الجنَّة في الآخرةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ ٱلْنَّارَ ﴾؛ أي حَقّاً، وَقِيْلَ: لا بدَّ ولا محالةَ أن لهم النارَ.
﴿ وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ ﴾؛ أي مقدَّمون إلى النارِ، والفَارطُ في اللغة: هو القادمُ إلى الماءِ، ومنه قولهُ صلى الله عليه وسلم:" وَأنَا فَرْطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ "أي سَابقُكم. ومَن قرأ (مُفْرِطُونَ) بكسرِ الراء، فهُم الذين أفرَطُوا في الذنوب والمعاصي، ومَن قرأ (مُفَرّطُونَ) بالتشديدِ فهو من التَّفريطِ وهو التقصيرُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ تَٱللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ ﴾؛ تسليةٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم أي كما أرسلناكَ إلى هؤلاءِ أرسلنا إلى أُمَم من قبلِكَ، فزَيَّن لهم الشيطانُ أعمالَهم في الكفرِ والتكذيب.
﴿ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ ٱلْيَوْمَ ﴾؛ في الدُّنيا يتبَعون إغواءَهُ، ويقال: (هُوَ وَلِيُّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أي يقالُ لهم يومئذٍ: هذا وليُّكم، فيَكِلُكُم الله يومئذ إلى مَن لا يملكُ دفعَ العذاب عن نفسهِ، فكيف يدفعُ عنهم العذابَ، ومَن كان الشيطانُ ولِيُّه دخلَ النارَ.
﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ ٱلَّذِي ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ ﴾؛ أي لتُبيِّن لهم الحقَّ من الباطلِ، وَأنزلناهُ.
﴿ وَهُدًى ﴾، دلالةً.
﴿ وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾؛ أي للمؤمنين. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ ٱلْسَّمَآءِ مَآءً ﴾؛ يعني المطرَ.
﴿ فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ ﴾؛ أي يُبسِها.
﴿ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ﴾؛ أدِلَّةَ اللهِ، ويتفكَّرون فيها.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِنَّ لَكُمْ فِي ٱلأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً ﴾؛ مِن دون أن يظهرَ فيه لونُ الدمِ ولا رائحة الفَرَثِ.
﴿ سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ ﴾؛ أي مُتَيسِّرَ الجري في الحلقِ، لا يغُصُّ به شاربهُ. وإنما لم يقل في بطونِها؛ لأن الأنعامَ والنَّعيمَ واحدٌ، فكأنه ردَّ الكنايةَ إلى النَّعيمِ. وفي قوله تعالى ﴿ نُّسْقِيكُمْ ﴾ قرآءَتان: فتحُ النون وضمُّها، يقال سَقَى وأسْقَى بمعنى واحدٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمِن ثَمَرَاتِ ٱلنَّخِيلِ وَٱلأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً ﴾؛ أراد بالسَّكَرِ الْمُسْكَرَ؛ وهو من العِنَب الخمرُ، ومن النَّخيلِ نقيعُ التَّمر إذا غلَى واشتدَّ، نزلَتْ هذه الآيةُ وهُمَا لهم حلالٌ يومئذٍ، هكذا قال ابنُ عبَّاس، والرِّزقُ الحسَنُ: ما أُحِلَّ منها مثل الْخَلِّ والزبيب والتَّمر. وسُئل بعضهم عن هذهِ الآية فقال: (السَّكَرُ مَا حُرِّمَ مِنْ ثَمَرهَا، وَالرِّزْقُ الْحَسَنُ مَا حَلَّ مِن ثَمَرِهَا). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾؛ دلائلَ اللهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ ﴾؛ أي وألْهَمَ ربُّكَ النحلَ وعرَّفَها ووَفَّرَ عليها ودعَاها إلى ما هو مذكورٌ في هذه الآيةِ، وسَمَّى الإلهامَ وَحياً؛ لأن الوحيَ هو ظهورُ المعنى للنَّفسِ على وجهٍ خَفِيٍّ، وقد ألْهَمَ اللهُ كلَّ دابة التماسَ منافعها واجتنابَ مضارِّها، إلاّ أنَّ أمَر النحلِ أعجبُ؛ لأن فيها مِن لطيفِ الصَّنعة ما فيه أعظمُ مُعتَبَرٍ، فإنَّ اللهَ ألهمَها اتخاذ المنازل والمساكنَ، وأنْ تأكُلَ من كلِّ الثمرات لمنافعِ بني آدم، وأنْ لا تقذفَ ما أكلتْهُ بعد ما صارَ عَسَلاً إلا على حَجَرٍ صافٍ أو مكان نَظِيفٍ لا يخالطهُ طين ولا ترابٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَنِ ٱتَّخِذِي مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ ٱلشَّجَرِ ﴾؛ فهي تتخذُ من الجبالِ بُيوتاً إذا لم تكن لأحدٍ، وقولهُ تعالى: ﴿ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ﴾؛ يعني مما يَبنِي الناسُ لها من خلاَياها ومساكنِها، ولولا التسخيرُ وإلهام الله ما كانت تأْوِي إلى ما يُبنى لها.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ ﴾؛ أي من ألوان الثمرِ كُلِّه.
﴿ فَٱسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً ﴾؛ أي طُرُقَ ربكِ لطلب الرَّعي، وقوله تعالى ﴿ ذُلُلاً ﴾ يجوز أن يكون من نَعْتِ السُّبُلِ؛ أي لا يتوعَّرُ عليها مكان سلكَتْهُ، وهي ترعَى الأماكنَ البعيدة ذات العاصِ، قد ذلَّلَ اللهُ لها مسالِكَها أي سهَّلها. وقال ابنُ عباس: (ذُلُلاً نَعْتُ النَّحْلِ؛ أيْ مُطِيعَةً بالتَّسْخِيرِ وَإخْرَاجِ الْعَسَلِ مِنْ بُطُونِهَا). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ ﴾؛ يعني العسَلَ يلقيهِ النحلُ أبيضَ وأصفرَ وأحمر، يقالُ: إنه يَخرجُ من شبابها الأبيضُ، ومِن كهولِها الأصفرُ، ومن شُيوخها الأحمرُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ ﴾؛ أي في ذلكَ الشراب شفاءٌ للأوجاعِ التي شفاؤُها فيه، كذا قال السديُّ. وليس إذا كان في الناسِ من يضرهُ العسل لمعنى في نفسهِ ما يوجبُ أن يخرجَ العسلُ من كونهِ شفاءٌ للناس، فإنَّ اللهَ جعلَ الماءَ حياةً لكلِّ شيء، وربَّما يكون الماءُ سَبباً للهلاكِ، لكن الاعتبارَ للأعمِّ، وقال قتادةُ: (فِيْهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ مِنَ الأَدْوَاءِ)، وعن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قالت:" كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ الْحَلْوَاءَ وَالْعَسَلَ ".
﴿ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ ﴾؛ أي خلَقَكم في بُطونِ أمَّهاتكم طَوراً بعد طورٍ حتى أخرجَكم وربَّاكم إلى أن يقبضَ أرواحكم عندَ آجالِكم.
﴿ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ ٱلْعُمُرِ ﴾؛ حتى يعودَ في كِبَرهِ وهرمهِ في نُقصان قوَّته ونقصان عقلهِ إلى مثل حالِ الطُّفولة. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً ﴾؛ أي لكي يصيرَ كالصبيِّ الذي لا عقلَ له، وقال السديُّ: (أرْذلُ الْعُمُرِ الْخَرَفُ)، وقال قتادةُ: (تِسْعُونَ سَنَةً) وعن عليٍّ رضي الله عنه: (أنَّ أرْذلَ الْعُمُرِ خَمْسٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ﴾؛ أي عليمٌ بكلِّ شيء، قادرٌ على تحويلِ الأحوال.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِي ٱلْرِّزْقِ ﴾؛ أي في المالِ والْخَدَمِ والنِّعَمِ، وجعل بعضَكم سادةً وبعضكم مَماليكَ.
﴿ فَمَا ٱلَّذِينَ فُضِّلُواْ ﴾؛ أي فمَا أربابُ الأخدامِ وفُضِّلوا.
﴿ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَىٰ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ﴾؛ أي المماليكِ.
﴿ فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ ﴾؛ فيُسَوُّونَهُمْ معَ أنفُسِهم في الملكِ. فإذا لم تَرْضَوا في الحكمةِ أن يشرككم مماليككم أيبطلوا فضلكم؟ فكيف يرضَى اللهُ مِنْ خلقهِ أن يجعلوا له شَريكاً في الملكِ من خَلقِهِ، وهذا مثلٌ ضربه الله للمُشرِكين فقال: إذا لَم يكن عبيدُكم معكم سواءٌ في المِلك فكيف يجعلون عبادِي معي سواء؟قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَفَبِنِعْمَةِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ ﴾؛ أي أتَصِفُونَ نعمةَ الله إلى غيرهِ وتشكرونَهُ عليها فتَجْحَدون نعمةَ الله، فإنَّ مَن أضافَ النعمةَ إلى غير الْمُنْعِمِ وشكرَ عليها فقد جحدَ النِّعمةَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً ﴾؛ أي جعلَ لكم من جِنسِكم نساءً.
﴿ وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُم ﴾؛ أي من نسائِكم؛ ﴿ بَنِينَ وَحَفَدَةً ﴾، قِيْلَ: إن الحفدةَ الأختان، وَقِيْلَ: ولَدُ الولدِ، وَقِيْلَ: الخدَمُ، وحقيقةُ الحفَدة مَن يعاون على ما يحتاجُ، سرعة من الْحَفْدِ والإسراعِ، ويقال لكلِّ من أسرعَ في الخدمةِ والعملِ: حَفَدَةٌ، ومنه قولهم في دُعاء الوتر (نَسْعَى وَنَحْفِدُ) أي نُسرِعُ في طاعتكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَرَزَقَكُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ ﴾؛ أي من الملاذِّ والحلالِ، وقولهُ تعالى: ﴿ أَفَبِٱلْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ ﴾؛ أي أفَبالأَصنَامِ يؤمنون.
﴿ وَبِنِعْمَتِ ٱللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ ﴾؛ أي يجحَدون بإضافَتها إلى غيرِ الله.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِّنَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ شَيْئاً ﴾؛ أي ويعبدون الأصنامَ التي لا تملكُ لهم رزْقاً من السَّماوات بإنزال الغَيْثِ، ولا مِن الأرض بإنباتِ النبات شيئاً قليلاً ولا كثيراً.
﴿ وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ ﴾؛ أي لا يَملِكون، وليست لهم استطاعةٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ ٱلأَمْثَالَ ﴾؛ أي لا تجعَلُوا للهِ الأشباهَ؛ لأنه لا يشبهُ شيئاً ولا يشبههُ شيءٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ أي إن اللهَ يعلمُ ما يكون قبلَ أن يكون، وأنتُمْ لا تعلمون قَدْرَ عظَمَتي حيث أشرَكتمُونِي وعجَّزتُمونِي أن أبعثَ خَلقِي.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ ﴾؛ أي ضربَ اللهُ المثلَ بعبدٍ مَملوكٍ لا يقدرُ على شيءٍ.
﴿ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً ﴾؛ وهو الحرُّ، فهو ينفق منه خِفيةً وعلانية؛ ﴿ هَلْ يَسْتَوُونَ ﴾؛ في المثلِ، كما أن الحرَّ الذي يملكُ وينفقُ سِراً وعلانيةً، والذي لا يملكُ شيئاً ينفقهُ، لا يستويان في المثَلِ، كما لا يستوِي المنعِمُ الذي جاءَت من قِبَلِهِ النعمةُ، والأصنام المواتُ التي لا تقدر على النعمةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ﴾؛ أي قُلِ الحمدُ للهِ الذي أوضحَ لنا السبيل والطريقَ.
﴿ بَلْ أَكْثَرُهُمْ ﴾؛ الكفارُ.
﴿ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾؛ ذلكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ ﴾؛ أي وضربَ اللهُ المثلَ برَجُلين؛ أحدُهما أخرَسُ لا يقدرُ على شيءٍ من الكلام، ويقال الأبْكَمُ هو الذي وُلد أصمَّ لا يسمعُ ولا يفهمُ ولا يمكنه أن يفهمَ غيره.
﴿ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوْلاهُ ﴾؛ اي ثقِيلٌ على ولِيِّهِ وصاحبهِ.
﴿ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ ﴾؛ لا يهتدِي إلى منفعةٍ ولا إلى خيرٍ.
﴿ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ ﴾؛ ناطقٌ متكلم آمِرٌ بالعدلِ، تامُّ التمييزِ.
﴿ وَهُوَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾؛ أي دِين مستقيمٍ، وهذا مَثَلٌ للمؤمنِ والكافر.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَآ أَمْرُ ٱلسَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ ٱلْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾؛ قِيْلَ: هذه الآيةُ نزلت جَواباً عن سؤالِ قُريش: متى الساعةُ؟ وهي ظاهرةُ المعنى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً ﴾؛ أي أخرَجَكم جَاهِلين.
﴿ وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلْسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ ﴾؛ أي خلقَ لكم الحواسَّ التي بها تعلَمون نعمَتهُ وقدرتهُ.
﴿ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ ٱلطَّيْرِ مُسَخَّرَٰتٍ فِي جَوِّ ٱلسَّمَآءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ ٱللَّهُ ﴾؛ أي ألَمْ يرَوا إلى الطيرِ مذلَّلات في الهواءِ ما يُمسِكُهنَّ حتى يسقُطنَ على الأرضِ إلا اللهُ ﴿ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لأََيٰتٍ ﴾؛ أي دلالاتٍ على وحدانيَّة الله.
﴿ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً ﴾؛ أي بيوتِ الْمَدَرِ والحجَرِ مواضعَ تسكُنون فيها.
﴿ وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ ٱلأَنْعَامِ بُيُوتاً ﴾؛ وهي الخيَامُ.
﴿ تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ ﴾، تَخُفُّ عليكم نقلُها وحملها من مكانِ إلى مكان، يومَ سفَرِكم ويومَ إقامتكم.
﴿ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ ﴾؛ وجعلَ لكم من أصوافِ الضَّأْنِ، وأوبَار الإبلِ، وأشعَار الماعزِ.
﴿ أَثَاثاً ﴾؛ أي مَتَاعاً للبيتِ من الفُرُشِ والأكْسِيَةِ والبُسُطِ.
﴿ وَمَتَاعاً إِلَىٰ حِينٍ ﴾؛ أي منفعةً تنتفعون بها إلى حينِ آجَالِكم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً ﴾؛ أي أشياءَ تستظِلُّون بها مثلَ الأشجارِ ونحوها.
﴿ وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلْجِبَالِ أَكْنَاناً ﴾؛ وهي الكهوفُ والغِيرَانُ يدخلُها الناس ليسكنوا فيها من الحرِّ والبرد. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ ٱلْحَرَّ ﴾؛ أي جعلَ لكم سَرابيلَ يعني القَمِيصَ من القُطنِ والكتَّان والصوف يدفعُ عنكم الحرَّ في الصيفِ والبردَ في الشتاء. ولم يذكرِ البردَ في الآية؛ لأنه لَمَّا ذكرَ الحرَّ فقد دلَّ به على ما في مقابلتهِ من البرد. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ ﴾؛ أرادَ به الدُّورعَ من الحديدِ يتَّقون بها في الحرب سلاحَ العدوِّ، يعني الطعنَ والضرب والرميَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ ﴾؛ في سائرِ الأشياء، كما أتَمَّها عليكم في هذه الأشياءِ.
﴿ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ ﴾؛ لكي تُسلِمُوا، قال ابنُ عبَّاس: (مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ ﴾ أيْ لَعَلَّكُمْ يَا أهْلَ مَكَّةَ تَعْلَمُونَ أنَّهُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى هَذا غَيْرُ اللهِ فَتُؤْمِنُوا بهِ وَتُصَدِّقُواْ رَسُولَهُ). وفي قراءةِ ابن عبَّاس (لَعَلَّكُمْ تَسْلَمُونَ) بنصب التاء من الجراحاتِ إذا لبستُم الدروعَ من الحديدِ، ومن الحرِّ والبرد إذا لبستُم القميصَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ ﴾ أي إنْ أعرَضُوا عن الإيمانِ، فإنما عليكَ يا مُحْمَّدُ البلاغُ الظاهر، وهو أن تُبَلِّغَ الرسالةَ، وتُبَيِّنَ الدلالَة، فلما ذكَرَ لهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم هذه النِّعَمَ، قالوا: أنْعِمْ يَا مُحَمَّدُ هَذِهِ كُلُّهَا مِنَ اللهِ؟ثُمَّ قَالُواْ: شَفَاعَةُ آلِهَتَنَا، فأنزلَ اللهُ تعالى قولَهُ: ﴿ يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ ٱللَّهِ ﴾؛ أي يعرفون أنَّ هذه النعمَ كلَّها من اللهِ.
﴿ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا ﴾، بإضافتها إلى الأوثانِ، ويشكرونَ الأوثانَ عليها. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَكْثَرُهُمُ ٱلْكَافِرُونَ ﴾؛ أي كلُّهم يكفرون باللهِ وبنعمته، فذكر الأكثرَ والمراد به الجميعَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ﴾؛ يعني يومَ القيامةِ تشهدُ الأنبياء على أُمَمِهم بما فعلوا من التصديقِ والتكذيب، وتشهد العدولُ مِن كلِّ عصرٍ على أهلِ عصرهم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾؛ أي لا يُؤذنُ لهم بعدَ شهادةِ الرُّسل في الاعتذار.
﴿ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ﴾؛ ولا ينفعُهم الاعتذارُ يومئذٍ ولا يُجابُونَ إلى الردِّ إلى الدُّنيا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِذَا رَأى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ٱلْعَذَابَ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ ﴾؛ أي إذا رأوْهُ بالدخول فيه، فلا نرفعهُ عنهم في وقتٍ ونشدِّدُ في وقتٍ.
﴿ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ ﴾؛ ولا يؤجَّلون بتأخيرِ العذاب إلى وقتٍ آخرَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِذَا رَأى ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ ﴾؛ أي إذا رأى الذين أشرَكوا الأصنامَ مع اللهِ في العبادةِ.
﴿ شُرَكَآءَهُمْ ﴾، يعني الأصنامَ.
﴿ قَالُواْ رَبَّنَا هَـٰؤُلآءِ ﴾؛ الأصنام.
﴿ شُرَكَآؤُنَا ٱلَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوْا مِن دُونِكَ ﴾؛ التي أشرَكناها معكَ في العبادةِ، فألقَى الأصنامَ ﴿ فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ ٱلْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ في أنَّا آلهةً وفي أنَّا أمَرنَاكم بالعبادةِ.
﴿ وَأَلْقَوْاْ إِلَىٰ ٱللَّهِ يَوْمَئِذٍ ٱلسَّلَمَ ﴾، واستَسلَمُوا كلُّهم لأمرِ الله يومئذ.
﴿ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴾.
والفائدةُ في إعادةِ الأصنام يومئذ: أنْ يُعَيِّرَهم اللهُ بها، وأن يُعذِّبَهم بها في الدُّنيا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ ٱلْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ ﴾؛ الذين كَفَروا باللهِ ورسُله، وصَدُّوا عن سبيلِ الله بامتناعهم عنهُ ومنعِ الناس عنه، زِدنَاهُمْ عذاباً فوقَ العذاب، قال ابنُ مسعود: (زيدُواْ عَقَارِبَ لَهَا أنْيَابٌ كَالنَّخْلِ الطِّوَالِ)، وَقِيْلَ: زيدُوا حَيَّاتٍ كأمثالِ الفِيَلَةِ. وَقِيْلَ: تجرِي فوق رؤُوسِهم أنْهَارٌ من نُحاسٍ ذائبٍ إذا وقعَ على كفِّ الرجل اشتعلَ الجسدُ منه ناراً، فليس فيها عذابٌ أشدَّ منه.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِّنْ أَنْفُسِهِمْ ﴾؛ فيه بيانٌ أنَّ كلَّ عصرٍ لا يخلو من شهيدٍ على الناس.
﴿ وَجِئْنَا بِكَ ﴾؛ يا مُحَمَّدُ.
﴿ شَهِيداً عَلَىٰ هَـٰؤُلآءِ ﴾؛ يعني قومَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ ﴾؛ أي القرآنَ.
﴿ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ ﴾؛ من أمورِ الدِّين.
﴿ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ ﴾ وبشارةً.
﴿ لِلْمُسْلِمِينَ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإحْسَانِ ﴾؛ يعني بالعدلِ في الأفعالِ، والإحسانِ في الأقوالِ، ولا يفعلُ إلا ما هو عدلٌ، ولا يقولُ إلا ما هو حسَنٌ، قال ابنُ عبَّاس: (الْعَدْلُ شَهَادَةُ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ، وَالإحْسَانُ أدَاءُ الْفَرَائِضِ). وَقِيْلَ: العدلُ هو الإنصافُ، ويدخل فيه إنصافُ المرءِ من نفسه لغيرهِ في الحقوق والأمانَاتِ، ومن نفسهِ لنفسه فيما يكون حَقّاً عليه من شُكر نِعَمِ اللهِ، وأن لا يَعبدَ غيره، وأن لا يصفَ اللهَ بما لا يليقُ به من الصفاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلإحْسَانِ ﴾ يدخلُ في ذلك المتفضِّلُ على الغيرِ، إما بالمال، وإما بالمعاشرة الجميلة من قولٍ أو فعل، أو إكرام أو بحسَبٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِيتَآءِ ذِي ٱلْقُرْبَىٰ ﴾؛ أي صلةِ الأرحام. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاءِ وَٱلْمُنْكَرِ وَٱلْبَغْيِ ﴾؛ فالفحشاءُ: الزِّنَى، والمنكرُ: الشِّركُ، والبَغْيُ: الظُّلمُ والكِبْرُ. وَقْيْلَ: الفحشاءُ: ما عَظُمَ قبحهُ من قولٍ أو فعل، سرّاً كان أو علانيةً، والْمُنْكَرُ: ما يظهرُ للناسِ، فيجبُ إنكارهُ، والبغيُ: الاستطالَةُ والظلمُ. وقيل في معنى الآيةِ: إنَّ اللهَ يأمرُ بالعدلِ: بالتوحيدِ، والإحسان: الإخلاصُ، وَقِيْلَ: الإحْسَانُ أنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ. وَقِيْلَ: الإحسان العفوُ عن الناسِ، وَقِيْلَ: العدلُ: استواءُ السرِّ والعلانيَةِ، والإحسان: أن تكون سَريرتهُ أحسنَ من علانيتهِ، والفحشاء والمنكر: تكون علانيتهُ أحسنَ من سَريرتهِ. رُوي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قرأ على الوليدِ: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاءِ وَٱلْمُنْكَرِ وَٱلْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ فقالَ: يَا ابْنَ أخِي أعِدْ عَلَيَّ، فَأَعَادَ عَلَيْهِ فَقَالَ: إنَّ لَهُ لَحَلاَوَةً وَإنَّ عَلَيْهِ لَطَلاَوَةً، وَإنَّ أعْلاَهُ لَمُورِفٌ وَإنَّ أسْفَلَهُ لَمُغْدِقٌ، وَمَا هُوَ بقَوْلِ الْبَشَرِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾؛ معناهُ يأمرُكم بثلاثٍ أن تفعَلوهُنَّ، وينهاكم عن ثلاثٍ؛ لتَنتَهُوا عنهنَّ لعلكم تتَّعظون بما تُؤمَرون، وتَحْتَرِزُونَ عن التقصيرِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ ٱللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ ﴾؛ أي أتِمُّوا العهودَ التي بينكم وبين الناسِ إذا حلَفتُم باللهِ تعالى.
﴿ وَلاَ تَنقُضُواْ ٱلأَيْمَانَ ﴾؛ العهودَ.
﴿ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا ﴾؛ توثِيقها باسمٍ.
﴿ وَقَدْ جَعَلْتُمُ ﴾؛ قُلتم: ﴿ ٱللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً ﴾؛ شهيداً عَليكم بالوفاءِ.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ﴾؛ من النَّقضِ والوفاءِ فيَجزِيَكم عليه. وفي الآيةِ دلالةٌ على أنَّ الرجلَ إذا قال: عليَّ عهدُ اللهِ إنْ فعلتُ كذا كان يَميناً؛ لأنه تعالى ذكرَ العهدَ في أوَّل الآيةِ، ثم عَقَّبَهُ بقوله: ﴿ وَلاَ تَنقُضُواْ ٱلأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً ﴾؛ أي لا تكُونوا في نقضِ العهود كالتي نَقَضَتْ غزْلَها من بعدِ إبرامٍ وإحكامٍ، وهي امرأةٌ من قُريش أُمُّ أخنسَ بنِ شُريق تُعرَفُ بـ (رَيْطَةِ الْحَمْقَاء)، كانت تغزلُ من الصُّوف والشعر والوبَرِ بمغزَلٍ عظيمٍ مثلَ طُولِ الذِّراع وصنَّارَة في رأسِ المغزلِ مثل طُولِ الإصبَعِ وفُلكَةٌ عظيمةٍ، فإذا غَزَلَتْهُ وأبرمتْهُ أمَرَت جاريَتها فنقَضتْهُ. والأنْكَاثُ: جمعُ نَكْثٍ، وهو ما تَنَقَّضَ من غزلِ الشَّعر والقُطْنِ ونحوهما، والمعنى: لا تكونوا في نقضِ الإيمان كهذه المرأةِ، غَزَلَتْ غَزْلاً، وأحكمَتْهُ ثم نقضتهُ فجعلته أنْكَاثاً، والأنكاثُ: ما يُقطع من الخيوطِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ ﴾؛ أي تتَّخذون عهُودَكم دَخَلاً وخديعةً وغِشًا وخيانةً بينكم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَىٰ مِنْ أُمَّةٍ ﴾؛ أي لأنْ تكون جماعةٌ هي أعزَّ وأكثرَ من جماعة، قال مجاهدُ: (إنَّهُمْ كَانُوا يُحَالِفُونَ الْحُلَفَاءَ فَيَجِدُونَ أكْثَرَ مِنْهُمْ وَأعَزَّ، فَيَنْقُضُونَ حِلْفَ هَؤُلاَءِ، وَيُحَالِفُونَ الأَكْثَرَ، فَنَهَاهُمُ اللهُ عَنْ ذلِكَ). وحاصلُ التأويلِ النهيُ عن أن تَحْلِفَ على شيءٍ وهو مُنْطَوٍ على خلافهِ، وأن يَغُرَّ غَيْرَهُ يَمِينُهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ ٱللَّهُ بِهِ ﴾؛ أي إنما يُخبرُكم بأَمْرهِ إياكم بالوفاءِ بالعهد.
﴿ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾؛ في الدُّنيا من الحقِّ والباطلِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾؛ أي أهلَ مِلَّةٍ واحدة ودِينٍ واحد.
﴿ وَلـٰكِن يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ ﴾؛ بتوفيقهِ فَضلاً منه.
﴿ وَلَتُسْأَلُنَّ ﴾، يوم القيامة.
﴿ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾؛ من الخيرِ والشرِّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ تَتَّخِذُوۤاْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ ﴾؛ أي مَكْراً وخديعةً.
﴿ فَتَزِلَّ قَدَمٌ ﴾؛ فتَزِلُّوا عن طاعةِ الله كما تَزِلُّ قدمُ الرجلِ.
﴿ بَعْدَ ثُبُوتِهَا ﴾ جعلَ اللهُ زلَّةَ القدَمِ عبارةً عن سُخطِ الله، وثَبَاتَ القَدَمِ عبارةٌ عن رِضَى اللهِ. وَقِيْلَ: معنى قولهِ تعالى: ﴿ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا ﴾ أي فتهلَكُوا بعد أنْ كنتم آمنين، وقال ابنُ عبَّاس: (فَتَزِلَّ عَنِ الإيْمَانِ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَتَذُوقُواْ ٱلْسُّوۤءَ ﴾؛ يعني العذابَ.
﴿ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾؛ أي بما منَعتُم الناسَ عن دينِ الله.
﴿ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾؛ في الآخرةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ ٱللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً ﴾؛ أي لا تختَارُوا الحِلْفَ باللهِ كَذِباً عَرَضاً يَسيراً من الدُّنيا، ولكن أوْفُوا بها.
﴿ إِنَّمَا عِنْدَ ٱللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ أي فإنَّ ما عندَ اللهِ من الثواب في الآخرة على الوفَاءِ هو خير لكم مما عِندَكم.
﴿ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾؛ ثوابَ اللهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ ﴾؛ أي يَفْنَى ولا يبقَى.
﴿ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ ﴾؛ من الثواب في الآخرةِ على الوفاء.
﴿ بَاقٍ ﴾، هو خيرٌ لكم مما عندَكم يدومُ ويبقى. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَنَجْزِيَنَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُوۤاْ ﴾؛ قرأ ابنُ كثيرٍ وعاصم بالنُّون، وقرأ الباقون بالياءِ، ومعناهُ: الذين صَبَروا على الوفاءِ وعلى الطاعةِ.
﴿ أَجْرَهُمْ ﴾؛ بالطاعاتِ.
﴿ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾؛ دون إسرَارِها، ويعفُو عن سيِّئاتِها. قال ابنُ عبَّاس:" (وَذلِكَ أنَّ رَجُلاً مِنْ حَضْرَمَوْتَ يُقَالُ لَهُ عِيدَانُ بْنُ الأَشْوَعِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إنَّ الأَشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ الْكِنْدِيَّ جَاوَرَنِي فِي أرْضِي فَاقْتَطَعَهَا، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " لِيَشْهَدْ لَكَ أحْدٌ " قَالَ: إنَّ الْقَوْمَ كُلَّهُمْ يَعْلَمُونَ أنِّي صَادِقٌ، وَلَكِنَّهُ أكْرَمُ عَلَيْهِمْ مِنِّي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِلأَشْعَثِ: " مَا يَقُولُ صَاحِبُكَ؟ " قَالَ: الْبَاطِلَ وَالْكَذِبَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: " أتَحْلِفُ؟ " قَالَ: نَعَمْ، فَهَمَّ بالْحَلْفِ. فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ: ﴿ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ ٱللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً... ﴾ إلَى آخِرِ الآيَتَيْنِ. فَقَرَأهُمَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الأَشْعَثِ فَقَالَ: أمَّا مَا عِنْدِي فَيَنْفَذُ، وَأمَّا مَا بصَاحِبي فَيُجْزَى بأَحْسَنَ مَا كَانَ يَعْمَلُ، اللَّهُمَّ إنَّهُ صَادِقٌ فِي مَا قَالَ، لَقَدِ اقْتَطَعْتُ أرْضَهُ، وَاللهِ مَا أدْري كَمْ هِيَ، وَلَكِنْ يَأْخُذُ مَا شَاءَ مِنْ أرْضِي وَمِثْلَهَا مَعَهَا بمَا أكَلْتُ مِنْ ثَمَرِهَا "فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ بَعْدَ ذلِكَ فِي الأَشْعَثِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ﴾؛ أي مَن عَمِلَ صَالحاً فيما بينه وبين ربهِ وأقرَّ بالحقِّ وهو مع ذلك مؤمنٌ ﴿ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾، قِيْلَ: المرادُ بها القَنَاعَةُ بما يُؤتَى من الرِّزق الحلالِ، كما رُوي عن وهب بن مُنبه أنه قالَ: (الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ هِيَ الْقَنَاعَةُ بمَا رُزقَ). وَقِيْلَ: هي أنْ يكون صدرهُ مُنفَرِجاً بما يعتقدهُ من دلائلِ الله تعالى، وبما يعرفهُ من وجوب مفارقةِ المعاصي، فيصيرُ قليلَ الْهَمِّ في أمورِ دنياهُ. وَقِيْلَ: الحياة الطيِّبة الجنةُ؛ لأنه لم يَطِبْ لأحدٍ حياةً إلاّ فيها.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرْآنَ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ مِنَ ٱلشَّيْطَانِ ٱلرَّجِيمِ ﴾ أي إذا أردتَ قراءةَ القرآن، ونظيرهُ﴿ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاةِ فٱغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ ﴾[المائدة: ٦]، وقولهُ تعالى:﴿ وَإِذَا قُلْتُمْ فَٱعْدِلُواْ ﴾[الأنعام: ١٥٢].
وفائدة الأمرِ بالاستعاذةِ قبلَ القراءةِ نَفْيُ وَسْوَاسِ الشَّيطانِ عند القراءة، وقد أجمعتِ الفقهاءُ على أنَّ الاستعاذةَ قبلَ القراءة إلاَّ ما رُوي عن أبي داود بن عليّ ومالك أنّهم قالوا: (الاسْتِعَاذةُ بَعْدَ الْقِراءَةِ) أخذُوا بظاهرِ الآية.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَىٰ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾؛ أي إنَّ الشيطانَ ليس له سَلْطَنَةٌ على المؤمنِ إلا في الوسوسةِ.
﴿ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَىٰ ٱلَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ ﴾؛ على الذين يقبَلون دُعاءَهُ.
﴿ وَٱلَّذِينَ هُم بِهِ ﴾؛ باللهِ.
﴿ مُشْرِكُونَ ﴾؛ فإنَّهم جعَلُوا له سُلطاناً على أنفُسِهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ ﴾؛ أي اذا نسَخنا آيةً أو أتَينا مكانَها أُخرى.
﴿ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ ﴾؛ أي بمصالح العبادِ، يُنَزِّلُ فِي كُلِّ وقتٍ ما هو الأصلحُ لَهم.
﴿ قَالُوۤاْ ﴾؛ أي قالت كفارُ قريش: ﴿ إِنَّمَآ أَنتَ ﴾؛ يا مُحَمَّدُ.
﴿ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾؛ كاذبٌ في الناسخِ والمنسوخ، مختلِقٌ من تلقاءِ نفسِكَ! وذلك أن المشركين قالوا: إنَّكَ يا مُحْمَّدُ تَسْحَرُ أصحابَكَ، وتأمرُهم اليومَ بأمرٍ وتنهاهم عنه غداً! قال اللهُ: ولكنَّ أكثرَهم لا يعلَمُون صدقَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ولا حقيقةَ القرآنِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ ٱلْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ ﴾؛ أي قل نَزَّلَ القرآنَ جبريلُ من ربكَ.
﴿ بِٱلْحَقِّ لِيُثَبِّتَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾؛ ويُقَوِّيَهم لإيمانِهم؛ ليزدَادُوا تَصديقاً ويقيناً.
﴿ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس: (وَذلِكَ أنَّ كُفَّارَ مَكَّةَ كَانُواْ يَقُولُونَ: إنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وإنَّمَا يُعَلِّمُ النَّبيَّ بَشَرٌ، أرَادُوا بذلِكَ جَبْراً وَيَسَاراً كَانَا عَالِمَيْنِ نَصْرَانِيَّيْنِ، وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يُحَدِّثُهُمَا وَيُعَلِّمُهُمَا، وَكَانَا يَقْرَءآنِ كِتَابَهُمَا بالْعَرَبيَّةِ، وَكَانَا قَدْ أسْلَمَا). وَقِيْلَ: كانوا يَعْنُونَ بقولِهم (بَشَرٌ): سلمانَ الفارسيَّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لِّسَانُ ٱلَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ ﴾؛ أي لسانُ الذي يَمِيلُونَ إليه ويزعُمون أنَّهُ يُعلِّمُكَ أعْجَمِيٌّ.
﴿ وَهَـٰذَا ﴾؛ القرآنُ الذي يقرَءُونَه.
﴿ لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ ﴾؛ فكيف يقدرُ الأعجميُّ على تعليمِ مثلهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ ٱللَّهُ ﴾؛ إلى ثوابهِ.
﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾؛ وجيعٌ في الآخرةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّمَا يَفْتَرِي ٱلْكَذِبَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَأُوْلـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَاذِبُونَ ﴾؛ معناهُ: إنما يكذبُ على اللهِ مَن لا يؤمنُ بدلائلهِ، بَيَّنَ اللهُ أن الذين نَسبوهُ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم من الافتراءِ هم أحقُّ به.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِٱلإِيمَانِ ﴾؛ يجوزُ أن يكون مَن كَفَرَ رفعا على البدلِ من (الْكَاذِبينَ)، ويجوز أن يكون كَلاماً مبتدأ، وقولهُ تعالى ﴿ فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ ٱللَّهِ ﴾ خبرٌ له أو خبرٌ لقولهِ ﴿ وَلَـٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً ﴾.
والمرادُ بقولهِ ﴿ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ ﴾: عَمَّارُ بنُ يَاسِرٍ. رُوي:" أنَّ الْمُشْرِكِينَ أخَذُوهُ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ، فَعَذبُوهُ حَتَّى سَبَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وَذكَرَ آلِهَتَهُمْ بخَيْرٍ، فَلَمَّا فَعَلَ ذلِكَ تَرَكُوهُ، فَأَتَى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَمْسَحُ الدُّمُوعَ مِنْ عَيْنَيْهِ، فَأَخْبَرَهُ الْقِصَّةَ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ، فَقَالَ لَهُ صلى الله عليه وسلم: " كَيْفَ وَجَدْتَ قَلْبَكَ؟ " قَالَ: مُطْمَئِناً بالإيْمَانِ. فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " إنْ عَادُوا فَعُدْ " ". وقوله عليه السلام:" إنْ عَادُوا فَعُدْ "على جهةِ الإباحة والرُّخصة دون الإيجاب، فإنَّ الْمُكْرَهَ على الكفرِ إذا صبرَ حتى قُتِلَ كان أعظمَ لأجرهِ، والإكراهُ السماح لإجراءِ كلمة الكُفرِ على اللِّسان، وهو أن يخافَ التلفَ على نفسهِ، أو على عُضو من أعضائهِ إن لم يفعل ما أُمِرَ بهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَـٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً ﴾، أي فَسَحَ صدرَهُ للكفرِ بالقَبُولِ وأتَى به على الاختيارِ.
﴿ فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ قِيْلَ: إنَّها نزلت في أبي سَرْحٍ القرشي رجعَ إلى الشركِ، وباحَ بالكفرِ ولَحِقَ بمكَّة.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمُ ٱسْتَحَبُّواْ ٱلْحَيَاةَ ٱلْدُّنْيَا عَلَىٰ ٱلآخِرَةِ ﴾؛ أي ذلك العذابُ بأنَّهم اختَارُوا الحياةَ الدُّنيا على ثواب الآخرة.
﴿ وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ ﴾؛ إلى جنَّتهِ وثوابهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْغَافِلُونَ ﴾؛ قد تقدَّمَ تفسيرهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ ﴾؛ أي حَقّاً ﴿ فِي ٱلآخِرَةِ هُمُ ٱلْخَاسِرونَ ﴾؛ أي خَسِروا أنفُسَهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ﴾؛ نزلت في قومٍ بمكَّة بعدَ هجرةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينةَ، ثم إنَّهم هاجَروا إلى المدينةِ من بعدِ ما عذبَهم أهلُ مكة.
﴿ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ ﴾؛ مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم فَصَبَروا على الجهادِ، فوعَدَهم اللهُ المغفرةَ لِمَا كان فيهم من التخلُّفِ عن الهجرةِ. وذلك أنَّهم كانوا مُستضعَفين بمكَّة وكانوا مؤمنين، فعذبَهم أهلُ مكة حتى ارتَدُّوا عن الإسلام ليَسْلَمُوا من شرِّهم، ثم هاجَرُوا مِن بعدِ ما فُتنوا؛ أي من بعدِ ما عُذِّبوا، ثم جاهَدُوا مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم وصَبَروا على الجهادِ.
﴿ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا ﴾؛ تلك الفتنةِ وتلك الفِعْلَةِ التي فعَلُوها من التلفُّظِ بكلمة الكفرِ.
﴿ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾؛ وقرأ ابنُ عامرٍ (فَتَنُوا) بفتحِ الفاء؛ أي فَتَنُوا أنفُسَهم بإظهارِ ما أظهَرُوا للفتنةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا ﴾؛ يجوزُ أن يكون ﴿ يَوْمَ ﴾ منصوباً بنَزعِ الخافض أي في يومِ تأتِي كلُّ نفسٍ، ويجوزُ أن يكون المعنى: واذْكُرْ يومَ تأتِي كلُّ نفسٍ، وهو يومُ القيامةِ، يجادلُ فيه كلُّ إنسانٍ عن نفسهِ.
﴿ وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ ﴾؛ بَرَّةٍ أو فاجرةٍ.
﴿ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾، جزاءَ ما عمِلَتْ من خيرٍ أو شرٍّ، لا ينقصُ من ثواب محسنٍ، ولا يزادُ على عقاب مُسِيء. واختلَفُوا في الْمُجَادَلَةِ المذكورةِ في الآية، قال بعضُهم: هو قولُ الكفَّار: مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ، وقولُهم: رَبَّنَا هَؤُلاَءِ أضَلُّونَا. ومعنى الآية: إنَّ كلَّ أحدٍ لا تَهُمُّهُ إلا نفسهُ، فهو يخاصِمُ ويحتجُّ عن نفسهِ، لا يتفرَّغُ إلى غيرهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً ﴾؛ يعني مكَّةَ كان أهلُها آمِنِينَ لا يُهَاجُ أهلُها ولا يُغَارُ عليها، بخلافِ قُرَى سائرِ العرب، لأن العربَ كانت لا تقصدُ مكَّة احتراماً لِحَرَمِ اللهِ، وقولهُ تعالى: ﴿ مُّطْمَئِنَّةً ﴾ أي قارَّةً بأهلِها لا يحتاجون إلى الانتجاعِ ولا الانتقال، كما يحتاجُ إليه سائرُ العرب. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ ﴾؛ أي كان الرزقُ وَاسِعاً على أهلِ مكَّة يُحمَلُ إليهم من البَرِّ والبحرِ، كما قالَ تعالى﴿ يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾[القصص: ٥٧].
﴿ فَكَفَرَتْ ﴾؛ فكَفَرَ أهلُ مكَّة.
﴿ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ ﴾، حين كذبُوا بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وخالفوهُ، وكذبُوا بالقرآنِ بعدَ قيام الحجَّة عليهم.
﴿ فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ ﴾، فعاقَبَهم اللهُ سبعَ سنين بالقَحْطِ، وخوَّفَهم من النبيِّ صلى الله عليه وسلم ومن عساكرهِ وسراياهُ.
﴿ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ ﴾، من تكذيبهِ. رُوي أنه بَلَغَ بهم من الجوعِ ما لا غايةَ بعدَهُ حتى أكلُوا العظامَ الْمُحْرَقَة والْجِيَفَ والكلابَ، وكان ذلك بدعاءِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:" اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، اللَّهُمَّ سِنِينَ كَسِنِيِّ يُوسُفَ "فاستجابَ اللهُ دعاءَهُ حتى صارَ أمرُهم إلى هذه الحالةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ ﴾؛ أرادَ به مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم.
﴿ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ ٱلْعَذَابُ ﴾؛ الذي تقدَّم ذِكرهُ من الجوعِ والخوف.
﴿ وَهُمْ ظَالِمُونَ ﴾؛ وكانوا ظَالِمين لأنفسهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلَـٰلاً طَيِّباً وَٱشْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةَ وَٱلْدَّمَ وَلَحْمَ ٱلْخَنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾؛ أي كُلُو يا معشرَ المؤمنين مما رزَقَكم اللهُ حَلالاً طيِّباً إلى آخرِ الآيتين، قد تقدَّمَ تفسيرهُما في سورة البقرةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ ٱلْكَذِبَ هَـٰذَا حَلاَلٌ وَهَـٰذَا حَرَامٌ ﴾؛ أي ولا تقولُوا الكذبَ لِمَا تصفهُ ألسِنتُكم بالحلِّ والحرمةِ، فتُحِلُّوا الميتةَ، وتُحَرِّمُوا بعضَ الزَّرعِ والأنعامِ، كما تقدَّم ذِكرهُ في سورةِ الأنعام. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لِّتَفْتَرُواْ عَلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ ﴾؛ أي لتَكْذِبُوا على اللهِ بقولِكم أنَّ هذا من عندِ الله. وقولهُ تعالى: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ ﴾؛ أي لا يَظْفَرونَ بالْمُرادِ، ولا يَنْجُونَ يومَ القيامةِ، إنما لهم في الدُّنيا ﴿ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ﴾؛ ثم يتعقَّبُهم.
﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَعَلَىٰ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ ﴾؛ أرادَ به ما بَيَّنَهُ اللهُ في سورةِ الأنعامِ، وقد تقدَّمَ هناك، وفيه بيانُ أن التحريمَ الذي كان في اليهودِ كان من قِبَلَ اللهِ، وأنه مخالفٌ للتحريمِ الذي كان في كفَّار مكة. وقولهُ تعالى: ﴿ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ﴾؛ أي وما ظلَمنَاهم بتحريم ذلك، فإنَّ تحريْمَها كان عقوبةً لهم، ولا تكون العقوبةُ ظُلماً.
﴿ وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾؛ بمخالفَتِهم أمرَ اللهِ تعالى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ ٱلسُّوۤءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوۤاْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾؛ فيه بيانٌ أنَّ مَنِ ارتكبَ المعاصي، وخالفَ أمرَ اللهِ، واستعملَ الجهالةَ في ارتكابهِ، لَمْ يَمْنَعْهُ ذلك من التوبةِ، فإنه إذا تابَ وأصلحَ في المستقبلِ، مَحَا اللهُ عنه كلَّ السيئاتِ، قال ابنُ عبَّاس: (كُلُّ سُوءٍ يَعْمَلُهُ ابْنُ آدَمَ فَهُوَ جَاهِلٌ فِيْهِ، وَإنْ كَانَ يَعْلَمُ أنَّ ارْتِكَابَهُ رُكُوبَ سَيِّئَةٍ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً ﴾؛ فيه بيانُ أنَّ إبراهيمَ كان هو القُدْوَةَ للناسِ بالخيرِ، وسُمِّيَ الإمامُ (أُمَّةً)؛ لأنه يجمعُ خِصَالَ الخيرِ، ويقالُ للرجلِ الْمُنْفَرِدِ بدِينٍ لا يشركهُ فيه غيره: أُمَّةٌ، ويقالُ للعالِمِ: أُمَّةُ، والأُمَّةُ: الرجلُ الجامعُ للخيرِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً ﴾ القَانِتُ: هو الدائمُ على الطاعةِ، والقُنُوتُ: هو الدوامُ على الطاعةِ، والقَانِتُ: هو المطيعُ، والحنيفُ قد تقدَم تفسيرهُ.
﴿ وَلَمْ يَكُ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ﴾؛ كما ادَّعاهُ كفارُ قريش، فإنَّهم يدَّعون أنَّهم يتبعون دينِ إبراهيم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ شَاكِراً لأَنْعُمِهِ ﴾؛ أي كان إبراهيمُ شَاكرًا لنِعَمِ اللهِ عليه، وانتصبَ قولهُ ﴿ شَاكِراً ﴾ على البَدلِ من قولهِ﴿ أُمَّةً قَانِتاً ﴾[النحل: ١٢٠].
وقوله: ﴿ ٱجْتَبَاهُ ﴾؛ أي اصْطَفَاهُ بالنبوَّةِ واختارَهُ.
﴿ وَهَدَاهُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾؛ أي إلى دينِ الإسلام.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَآتَيْنَاهُ فِي ٱلْدُّنْيَا حَسَنَةً ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس: (يَعْنِي الذِّكْرَ الْحَسَنَ)، وقال الحسنُ: (هِيَ النُّبُوَّةُ)، وقال مجاهدُ: (لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ) وقال مقاتلُ: (يَعْنِي الصَّلاَةَ عَلَيْهِ مَقْرُونَةً بالصَّلاَةِ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ قَوْلُهُمْ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِنَّهُ فِي ٱلآخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ ﴾؛ أي معَ الْمُرْسَلِينَ في الجنَّة.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ ٱتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ﴾؛ أي أمَرنَاكَ يا مُحَمَّدُ باتِّباعِ مِلَّةِ إبراهيمَ في مُجانَبةِ الكفَّار، كما كان إبراهيمُ يَتَجَنَّبُهم. فإنْ قِيْلَ: كيف يجوزُ أن يُوصِي الفاضلَ بمتابعةِ المفضُولِ، ونبيُّنا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم كان أفضلَ الأنبياءِ؟ فكيفَ أمرَهُ الله بمتابعةِ إبراهيمَ عليه السلام؟ قِيْلَ: إنَّ إبراهيمَ عليه السلام كان قد سَبَقَ إلى اتَّباعِ الحقِّ، ولا يكون في سَبْقٍ المفضولِ إلى اتِّباعِ الحقِّ عيبٌ على الفاضلِ في اتِّباعهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّمَا جُعِلَ ٱلسَّبْتُ عَلَىٰ ٱلَّذِينَ ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾؛ وهم اليهودُ، وذلك أنَّ موسى قال لبَني إسرائيلَ: تفرَّغُوا إلى اللهِ في كلِّ سبعةِ أيَّام يوماً واحداً، فاعبدوهُ في يومِ الجمعةِ، ولا تعمَلُوا فيه شيئاً من أمُورِ الدُّنيا، وستَّة أيامٍ لمعايشِكم وصنائعِكم، فأَبَوا أن يقبَلُوا ذلكَ منهُ، وقالوا: لاَ نبتَغِي إلاَّ اليومَ الذي فرَغَ فيه مِن الخلقِ، يعنون السَّبت، فجعلَ ذلك عليهم فيهِ، وقالت جماعةٌ منهم: بل أعظمُ الأيَّامِ يومُ الأحَدِ؛ لأنه اليومُ الذي بدأ اللهُ فيه بخلقُ الأشياءَ، فاختارُوا تعظيمَ غيرِ ما فَرَضَ اللهُ عليهم، أي ترَكُوا تعظيمَ يومِ الجمعة.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱدْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ ﴾؛ أي أدعُ إلى سبيلِ دين الله ﴿ بِٱلْحِكْمَةِ ﴾ يعني بالنبوَّةِ.
﴿ وَٱلْمَوْعِظَةِ ﴾ يعني القرآنَ، وَقِيْلَ: التخويفُ بالعذاب على جهةِ إظهار الشَّفقة عليهم ليكون ذلك أقربَ إلى إجابتهم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَجَٰدِلْهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾؛ أي بالرِّفقِ واللُّطفِ، وذِكرِ أحسنِ ما عنده من الحجَجِ، وأعرضْ عن أذاهُم، ولا تقصِّر في أداءِ الرسالة والدُّعاء إلى الحقِّ، قِيْلَ: إن هذه الآيةَ نسَخَتها آيةُ السَّيف. وقولهُ تعالى: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ ﴾؛ أي هو أعلمُ بمَن يقبلُ الهدى ومَن لا يقبلهُ، فيجزِي كُلاًّ على ما عَمِلَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ﴾؛ وذلك" أنَّ حمزةَ ابنَ عبدِالمطَّلب وأصحابه الذين قُتلوا يومَ أُحُد مَثَّلَ بهم المشرِكون، عَمَدُوا إلى حمزة فشَقُّوا بطنَهُ، وأخذت منه هندُ بنت عتبة كَبدَهُ، فجعلت تلوكُها ثم تطرَحُها، وقطَعُوا مذاكيرَهُ وجدَعُوا أنفه وأذُنيه، ومثَّلوا به أشدَّ الْمُثْلَةِ، وكذلك سائرُ شهداء أحُد مَثَّلَ بهم المشركون، بقَرُوا بطونَهم، وقطعُوا مذاكيرَهم. فلما نَظَرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى عمِّه حمزةَّ لم ينظُرْ إلى شيءٍ قَطُّ أوجعَ إلى قلبهِ منه، فقال: " رَحْمَةُ اللهِ علَيْكَ، فَإنَّكَ كُنْتَ فَعَّالاً لِلخَيْرِ، وَصَّالاً لِلرَّحِمِ، وَاللهِ لَئِنْ أظْفَرَنِي اللهُ بهِمْ لأَقْتُلَنَّ بكَ سَبْعِينَ مِنْهُمْ، وَلأُمَثِلَنَّ سَبْعِينَ مِنْهُمْ " وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: وَاللهِ لَئِنْ أمْكَنَنَا اللهُ مِنْهُمْ، لَنُمَثِّلَنَّ بالأَحْيَاءِ فَضْلاً عَنِ الأَمْوَاتِ. فأنزلَ اللهُ تعالى هذه الآيةَ ﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ ﴾؛ فقالَ صلى الله عليه وسلم: " أصْبرُ وَلاَ أُمَثِّلُ " وكَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ "، فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِٱللَّهِ ﴾؛ أي ما صبرُكَ إلاّ بمعونةِ الله وتوفيقه، ولا تقدرُ على الصَّبرِ في الحزن الذي لَحِقَكَ بسبب الشُّهداء، إلا أنْ يُسَهِّلَ اللهُ عليكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ﴾؛ أي لا تحزَنْ على الكفَّار إذا امتنَعُوا من الاستجابةِ لكَ. وَقْيَلَ: لا تحزَنْ على الشُّهداء، فإن اللهَ أنزَلَهم منَازِلَهم في الجنَّة، لو رأيتَهم في الكرامةِ التي أكرمَهَم اللهُ بها لَغَبطْتَهُمْ عليها. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ ﴾؛ أي لا يَضِيقُ صَدرُكَ من مَكرِهم، فيكون ذلك شاغلاً عن ما كُلِّفْتَهُ من الدُّعاء إلى سَبيل ربكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّٱلَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ ﴾؛ أي مع المتَّقِينَ الْمُحسِنِينَ، وهم المسلمون يَنصرُهم ويُظهِرُهم على الكفار ويُعِينُهم عليه.
Icon