تفسير سورة النحل

التفسير الشامل
تفسير سورة سورة النحل من كتاب التفسير الشامل .
لمؤلفه أمير عبد العزيز . المتوفي سنة 2005 هـ
بيان إجمالي للسورة
هذه السورة مكية. وقيل : مكية باستثناء آيات ثلاث. وتسمى سورة النعم ؛ لما عدد الله فيها من نعمه على العباد، كخلق الأنعام للناس ليكون لهم فيها دفء ومنافع وطعام. ولهم فيها جمال إذا راحوا أو سرحوا. ومن نعمه إنزال الماء من السماء ليكون لهم منه شراب وسوم ومختلف الزروع والثمرات. ومن نعمه عليهم أيضا تسخير الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم والبحار والأنهار والجبال. وفي ذلك من أصناف النعم والمنافع ما لا يحصى. إلى غير ذلك من ضروب القصص والأخبار والحقائق في الطبيعة والأحياء والمجتمع. ومن جملة ذلك : التنديد بما كانت تتلطخ به تصورات الجاهليين من إحساس مستقبح عن الأنثى ؛ إذ كانوا يتوارون من بعضهم لفرط امتعاضهم وضيقهم من ولادة الأنثى. هذا الشعور الظالم البغيض قد ندد به الإسلام واستفظعه استفظاعا.

بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون ﴾ ( أتى )، بمعنى يأتي. فقد أقام الماضي مقام المستقبل، لتحقيق إثبات الأمر وصدقه. يعني عبّر بصيغة الماضي ليدل على التحقيق والوقوع لا محالة١. والمراد بأمر الله : قيام الساعة، وذلك وعيد من الله للمشركين الظالمين بأن الساعة قد اقتربت وأن عذابهم قد دنا أجله. وذلك رد على استسخارهم الحقير ؛ فقد كانوا لجهالتهم وسفاهتهم يستعجلون قيام الساعة ونزول العذاب بهم. وذلك على سبيل الاستهزاء والتكذيب. والمعنى : أنه قرب قيام الساعة وما فيها من بالغ العقاب لكم فلا تطلبوا مجيء الساعة والعذاب قبل وقتهما المكتوب.
قوله :( سبحانه وتعالى عما يشركون ) ينزه الله نفسه عن الشرك والشركاء والأنداد. وما، في قوله :( عما ) تحتمل كونها مصدرية. والتقدير : سبحانه وتعالى عن إشراكهم. وتحتمل كونها موصولة بمعنى الذي. والتقدير : سبحانه وتعالى عن الشركاء والأضداد والأنداد ؛ فهو خالق كل شيء، وله ملكوت كل شيء ليس له في ذلك نديد٢.
١ - البيان للأنباري جـ ٢ ص ٧٤..
٢ - تفسير الرازي جـ١٩ ص ٢٢٣ وتفسير النسفي جـ٢ ص ٢٨٠ وفتح القدير جـ٣ ص ١٤٧..
قوله تعالى :﴿ ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون ﴾ ( الملائكة )، منصوب، على أنه مفعول للفعل ( ينزّّل ) أي ينزل الله الملائكة بالروح ؛ فالله هو المنزل ملائكته بوحيه إلى رسله، وبذلك فإن المراد بالروح الوحي وهو جبريل عليه السلام. والباء في قوله :( بالروح ) بمعنى مع فيكون المعنى : ينزل الملائكة مع الروح جبريل. وقيل الروح بمعنى القرآن. ونظير ذلك قوله تعالى :( وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ) أي القرآن. وهو كلام الله النوراني، فإن فيه حياة للبشر بما ينشر فيهم من العلم والوضاءة والبهجة والرحمة. لا جرم أن القرآن حياة للقلوب يستحيي فيها الوازع الرهيف والرحمة الفياضة. وهو كذلك حياة للأذهان ينشر فيها الاستقامة والاعتدال، وسلامة التصور من الشطط، وبراءة العقول من مثالب الزلل والخطل والاعوجاج.
قوله :( من أمره ) أي هذا التنزيل لا يكون إلا بأمر الله.
قوله :( على من يشاء من عباده ) أي على النبيين الذين اصطفاهم الله لرسالته وتبليغ دينه للناس.
قوله :( أن أنذروا انه لا إله إلا أنا فاتقون ) ( أن أنذروا )، فيه وجهان :
أحدهما : البدل على قوله :( بالروح ) والمعنى : ينزل الملائكة بأنهم أنذروا أي أعلموا الناس أو بلغوهم أنه لا إله إلا أنا. والإنذار معناه الإعلام مع التخويف.
ثانيهما : أن تكون ( أن ) مفسرة ؛ لأن تنزيل الملائكة بالوحي فيه معنى القول١.
والمعنى : أن الله ينزل الملائكة بالروح بأمره على الذين يختارهم ليكونوا أنبياء من بين عباده بأن أنذروا الناس وحذروهم عقابي وانتقامي بسبب كفرهم وعصيانهم ؛ فإنه ليس من إله خالق ما تنبغي لغيره الألوهية سواي ( فاتقون ) أي خافوني بإفرادي بالعبادة وإخلاص الربوبية لي دون أحد من خلقي٢.
١ - البيان للأنباري جـ ٢ ص ٧٥ والكشاف للزمخشري جـ٢ ص ٤٠٠..
٢ - الكشاف جـ٢ ص ٤٠٠ وتفسير الرازي جـ١٩ ص ٢٢٥..
قوله تعالى :﴿ خلق السماوات والأرض بالحق تعالى عما يشركون ( ٣ ) خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين ( ٤ ) ﴾ هذه واحدة من الدلالات التي يحتج الله بها على العباد في وحدانيته وأنه ليس من إله غيره ؛ بل لا تصلح الإلهية لأحد سواه ؛ فهو خالق السماوات والأرض وما فيهن وما بينهن من الخلائق والأشياء مما لا يقدر على فعله سوى الله ؛ فقد خلق كل ذلك ( بالحق ) أي بالعدل. وقيل : ليدل بذلك على وحدانيته وبالغ قدرته.
قوله :( تعالى عما يشركون ) أي عز الله وعلا عن شرك المشركين فالله منزّه عما يفتريه المبطلون ويصطنعونه من الآلهة المزعومة الموهومة.
قوله :﴿ خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين ﴾ نزلت هذه الآية في أبي بن خلف الجمحي حين جاء بعظم رميم إلى رسول الله ( ص ) فقال : يا محمد أترى الله يحيي هذا بعد ما قد رمَّ١. النطفة في اللغة بمعنى الماء الصافي قل أو كثر. وبمعنى القطرة. والمني وهو ماء الرجل، والجمع أنطاف٢ والخصيم، شديد الخصومة والمجادلة.
والمعنى المراد : أن الله يمتن على الإنسان أن خلقه من نطفة قذرة من الماء المستقذر المهين ليمر في مراحل وأطوار مقدورة شتى، ما بين نطفة وعلقة ومضغة في داخل الرحم حتى إذا اندلق إلى الدنيا طفلا رضيعا تقلب في مراحل نشوئه من طور إلى طور، ما بين الرضاعة وطفولة وفتوة وشباب واكتهال وكبر ثم ارتداد إلى أرذل العمر. وما ينهض الإنسان قويا مكتملا في قدراته واستعدادته وتطوره حتى ينقلب إلى مخاصم لله في قدرته وعظمته. فيجترئ على ربه بالخصومة الشديدة في توقح ظاهر وكفران شديد مستبين بعد أن خلقه من ماء مستقذر بالغ المهانة٣.
١ - أسباب النزول للنيسابوري ص ١٨٨..
٢ - القاموس المحيط جـ ١٩ ص ٢٣١ وفتح القدير جـ٣ ص ١٤٧ وتفسير النسفي جـ٢ ص ٢٨٠..
٣ - تفسير الرازي جـ١٩ ص ٢٣١ وفتح القدير جـ ٣ ص ١٤٧ وتفسير النسفي جـ٢ ص ٢٨٠..
قوله تعالى :﴿ والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون ( ٥ ) ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون ( ٦ ) وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرؤوف رحيم ( ٧ ) ﴾ ( الأنعام ) جمع نعم، وهي الإبل والبقر والغنم. قيل : سميت بالأنعام لنعومة مشيها بخلاف ذات الحافر. ولا يقال أنعام إلا إذا كان فيها إبل. ونصبت الأنعام على المفعولية لفعل مضمر يفسره قوله :( خلقها ).
والأنعام من أصناف ما أنعم الله به على عباده لما فيها من عظيم المنافع والفوائد. وذلك ما يبينه قوله :( لكم فيها دفء ) فيها خبر مقدم، ودفء مبتدأ مؤخر. والمراد بالدفء ما يُستدفأ به من أوبارها وأشعارها وأصوافها. وفسره ابن عباس بالثياب والعموم أولى استنادا إلى الظاهر.
قوله :( منافع ) ما ينتفع به من الركوب والحراثة ونضح الماء، والدر والنسل. وغير ذلك من وجوه المنافع المستفادة من الأنعام.
قوله :( ومنها تأكلون ) أي مما يؤكل من الأنعام كلحومها وشحومها وألبانها وعلى هذا تكون ( من ) للتبعيض.
قوله :( ولكم فيها جمال ) فوق المنافع المستفادة من الأنعام من أكل وشرب ودفء ولبس ؛ فإن فيها جمالا، وهو الزينة في أعين الناس. فلقد كانت الأنعام في نظر العرب موضع زينة وابتهاج. وهي عندهم مظهر من مظاهر الحُسن والكمال والجمال، فضلا عن استعمالها في استجلاب المصالح ودفع المفاسد في كل الأزمنة، حتى زماننا الراهن هذا ؛ إذ تقع الحاجة في كثير من الأحوال لاستعمال الخيل في مطاردة اللصوص وأمثالهم من المفسدين في الأرض، إذا اختبأوا في منعطفات الأزقة والدهاليز التي يعز على الحافلات المصنوعة الحديثة أن تبلغها، فضلا عن استعمال الخيل في فن المسابقة وهو من الفنون المرغوبة في كل زمان.
قوله :( حين تريحون وحين تسرحون ) ( تريحون ) من الإراحة، وهو رجوعها من المراعي عشيا إلى حظائرها. و ( تسرحون ) من السرح والسروح، وهو إخراجها في الغدو من مبيتها إلى مسارحها وهي مراعيها.
قوله :﴿ وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس ﴾ الأثقال جمع ثقل وهو المتاع الذي يثقل حمله. وهذه واحدة من الفوائد الكبيرة التي يجنيها العباد من الأنعام، إذ تحمل أحمالهم الثقيلة ( إلى بلد ) أي بلد بعيد، كاليمن أو الشام أو مصر بالنسبة لسكان الحجاز. وهذه المسافة في حسابات الأعراف الماضية كانت كبيرة فلا يقطعها المسافرون إلا بعد جهد بالغ ونصب شديد وهو قوله :( لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس ) بكسر الشين ؛ أي لا تصلون ما تبتغون من بلد بعيد إلا بمشقة الأنفس وإعيائها وتكليفها الجهد المضني.
قوله :( إن ربكم لرؤوف رحيم ) رؤوف من الرأفة وهي أشد الرحمة١. والله جل وعلا عظيم الرحمة بعباده، ومما يكشف عن بالغ رحمته هذه : ما ذرأه لهم من صنوف المخلوقات مما جعله مذللا ميسرا لتحصيل المنافع للناس، ومن بين ذلك الأنعام٢.
١ - مختار الصحاح ص ٢٢٦..
٢ - التبيان للطوسي جـ٦ ص ٣٦٢ وروح المعاني جـ٧ ص ٩٩، ١٠٠..
قوله تعالى :( والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون ( ٨ ) وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين ( ٩ ) } هذه الأسماء :( والخيل والبغال والحمير ) منصوبة ؛ لأنها معطوفة على قوله :( والأنعام خلقها لكم ) والتقدير : وخلق الخيل والبغال والحمير. ( وزينة )، منصوب بفعل مقدر وتقديره : وجعلها زينة. وقيل : منصوب ؛ لأنه مفعول له ؛ أي للزينة١ ( والخيل )، اسم جنس للفرس وليس له مفرد من لفظه. وذلك كالإبل.
قوله :( والبغال والحمير ) البغال جمع بغل وهو معروف. وكذا الحمير، جمع حمار. فقد خلق الله هذه البهائم مضافة إلى الأنعام ؛ ليكون سائر ذلك مذللا للناس كيما ينتفعوا به ويستفيدوا منه على اختلاف وجوه المنافع والفوائد.
ومن جملة المنافع المستفادة من هذه البهائم والدواب : ركوبها، وحمل الأثقال على ظهورها، والتزين بها.
والتزين المستفاد من بهيمة البغال والحمير كان ظاهرة معروفة ومألوفة لدى الأمم السابقة سواء الأمة التي تنزل عليها القرآن، أو من تبعها من الأمم والأجيال. لقد كانت ظاهرة التزين بهذا الصنف من البهائم مستطابة ومرغوبة لحاجة الناس إذ ذاك إليها. وبعد تقلص الحاجة إلى الانتفاع ببهائم الخيل والبغال والحمير ؛ فإنه لا ينبغي التقليل من أهمية هذه البهائم من حيث الصورة والمنظر. لا جرم أن بهيمة الخيل والبغال والحمير تثير في ذهن المتدبر البصير التفكر في عظمة الخالق الذي برأ الخلائق على اختلاف أشكالها وأجسامها وهيئاتها وصورها ؛ فما ينظر المرء إلى أي صنف من أصناف الدواب والبهائم، ومنها الخيل والبغال والحمير إلا ويستثار فيه الإعجاب والرغبة في إطالة النظر وروعة التملي لجمال الصور التي جاءت عليها هاتيك الأحياء العجاب.
قوله :( ويخلق ما لا تعلمون ) يخلق الله غير ما ذكر من أصناف النعم والبهائم سواء كان ذلك في سمائه مما لا نعلم عن عجيب خلقه الكثير الباهر. أو في الأرض من مختلف الخلائق والكائنات مما نعلم ومما لا نعلم. الله قادر على إيجاد ما يشاء من خلق مما ليس له مثال أو نظير ؛ فهو سبحانه الظاهر القاهر القادر على صنع ما يشاء في الطبيعة أو الأحياء أو الكائنات على اختلاف أنواعها وأشكالها.
ولدى الحديث عما لا نعلم ؛ فإنه يلزم التدبر في قوله عز وعلا :( علم الإنسان ما لم يعلم ) لقد رزق الله الإنسان عقله، فكان سببا فيما وصلت إليه البشرية في عصرها الراهن من عجيب المخترعات والصناعات العلمية، ما بين حافلة نارية تقطع القفار والأمصار والبراري في سهولة ولين ويسر. أو سفينة تمخر عباب البحر لتحمل على متنها الأحمال الهائلة الثقال. أو طائر تجوب أجواز الفضاء في سرعة مذهلة تفوق سرعة الصوت إلى غير ذلك من ضروب المخترعات العلمية الحديثة ؛ فإن ذلك وغيره في زماننا هذا أو بعده لهو من إفرازات القدرة العقلية العظيمة التي امتن الله بها على الإنسان ؛ فالله جل وعلا لهو المتفضل المنان الذي أودع في الإنسان عقله ليكون سبيلا لتحقيق هذه المنجزات العلمية المثيرة مما نعلم ومما لا نعلم.
١ - البيان للأنباري جـ ٢ ص ٧٥، ٧٦..
قوله :( وعلى الله قصد السبيل ) القصد، مصدر قصد يقصد. وهو الوجه الذي يؤمه السالك لا يعدل عنه. أو هو استقامة الطريق، أو الرشد١ وأل، في ( السبيل ) للعهد، وهي سبيل الشرع وليست للجنس. والمعنى : وعلى الله تبيين طريق الهدى وذلك بنصب الأدلة وبعث المرسلين هداة للعالمين. وقال ابن عباس : معناه بيان قصد السبيل ؛ أي بيان الهدى من الضلال.
قوله :( ومنها جائر ) الضمير عائد على السبيل ؛ أي ومن السبيل جائر، يعني عادل من المحجة، منحرف عن الحق. وقيل : المراد بذلك فِرق الضلال من أمة محمد ( ص ) ؛ فإنه جائر عن قصد السبيل.
قوله :( ولو شاء لهداكم أجمعين ) أي لهداكم قسرا وإلجاء ؛ فالله قادر على فعل ما يشاء من هداية أو إضلال. وهو سبحانه لا يهدي أو يضل إلا لحكمة لا يعلمها إلا هو٢.
١ - القاموس المحيط جـ١ ص ٣٣٩ والمصباح المنير جـ٢ ص ١٦٣..
٢ - التبيان للطوسي جـ٦ ص ٣٦٣ والبحر المحيط جـ٥ ص ٤٧٧ وروح المعاني جـ٧ ص ١٠٠- ١٠٢.
قوله تعالى :﴿ هو الذي أنزل من السماء ماء لكن منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ( ١٠ ) ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون ( ١١ ) ﴾ وهذا صنف آخر من أنعم الله امتنّ بها سبحانه على عباده وهو الماء بكل فوائده ومنافعه. والمعنى : أن الله هو الذي أنزل من السماء ماء المطر ؛ ليكون غيثا يُغاث به الناس فمنه شرابهم واستقاؤهم. وبسببه ينبت الشجر. وهو مطلق النبات على اختلاف أنواعه ( فيه تسيمون ) من السوم وهو الرعي. سامت الماشية أي رعت. والسائمة التي ترعى بنفسها حيث شاءت. وأسامها صاحبها، أي أخرجها إلى المرعى١. و ( تسيمون )، أي ترعون أنعامكم فتستفيدون منها اللحم والدر والنسل وغير ذلك من المنافع.
١ - مختار الصحاح ص ٣٢٣..
قوله :( ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات ) وهذه أصناف أخرى مضافة يبينها الله في آياته ليمتن بها على عباده ؛ فهو سبحانه ينبت للناس- بما أنزله من مطر- الزرع على اختلاف أنواعه. وقد بدأ به ( الزرع ) ؛ لأنه عماد الأقوات للناس. وهو يستفاد منه الكلأ لتتغذى به الأنعام والدواب. ثم ذكر الزيتون، هذه الشجرة المباركة التي تؤتي الزيت. وهو نعم الغذاء ونعم الدواء ؛ إذ تستشفي به الأبدان من كثير من العلل والأسقام. ثم النخيل وهو ذو ثمر لذيذ مستطاب. وهو كثيرا ما يقتات به بعض الناس. وكذلك الأعناب ؛ فإنها فاكهة طيبة ومطعوم مستلذ تشتهيه كل الأنفس. قوله :( ومن كل الثمرات ) ( من ) للتبعيض أي وينبت لكم بعض كل الثمرات. لأن كل الثمرات لا يكون إلا في الجنة. أما في الدنيا : فقد أنبت الله فيها بعضا من أنعمه الكثيرة التي لا يعلم عدد أصنافها وأنواعها إلا هو سبحانه.
قوله :( إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون ) أي فيما بينه الله من وجوه النعم والخيرات التي خلقها للعباد لأكبر دليل على تفرد الله تعالى بالإلهية، وعلى حقيقة الكمال في جلاله العظيم وهو ما تجلى في قدرته البالغة وعلمه المطلق وحكمته العليا ( لقوم يتفكرون ) أي للمتبصرين المدّكرين الذين يتدبرون الآيات ويتفكرون في خلق الله. أما اللاهية قلوبهم وعقولهم عن التبصرة والذكرى، فلا تتفهم مثل هذه الآيات الواضحات البينات١.
١ - روح المعاني جـ٧ ص ١٠٧ والبحر المحيط حـ ٥ ص ٤٧٨..
قوله تعالى :﴿ وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ( ١٢ ) وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون ( ١٣ ) ﴾.
الليل والنهار آيتان من آيات الله، جعلهما متعاقبين خلفه ؛ إذ يخلف أحدهما الآخر. وقد ذللهما الله لبني آدم أيما تذليل لكي يستفيدوا من طبيعتهما وتعاقبهما ؛ فقد جعل الله الليل فيه منام للعباد ؛ إذ يرقدون فيه ويهجعون. وجعل النهار من أجل السعي والكد والبذل في نشاط وجد. ففيه تتحقق المصالح، وتندرئ المضار، ويتعهد الناس أسباب المعاش والمكاسب من تجارة وصناعة وزراعة وغير ذلك.
قوله :( والشمس والقمر ) وهذان كذلك آيتان عظيمتان من آيات الله الكبريات الباهرات مما يستديم العجب من هذين الجرمين في عظيم خلقتهما وعجيب منظرهما ؛ ففي الشمس دفء وحرارة وحياة للآدميين وكل الخلائق. وفي القمر نور وضياء تبتهج به النفس أشد ابتهاج وتجد من حلاوة الصورة والمنظر ما يستنفر في النفس الخيال ويهيج فيها الحس، فيظل الناظر متمليا محبورا، فضلا عما يناط بالقمر من مزية التوازن مع الأرض بفعل الجاذبية المشتركة بينهما، وبفعل الدوران المنتظم للقمر من حول الشمس. ولولا وجود القمر في مكانه المناسب المقدور لاضطراب وجه الأرض وماد.
قوله :( والنجوم مسخرات بأمره ) الواو للاستئناف. والنجوم، مبتدأ، وخبره ( مسخرات ) ؛ أي أن سائر النجوم في حركاتها وسطوعها ودورانها في أفلاكها وكل أحوالها مسخرات لما خلقها الله له. وذلك بقدرته وتدبيره وحكمته سبحانه.
قوله :( إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ) الإشارة عائدة إلى تسخير ما بينه الله من الخلائق المسخرة ؛ فإن في هذا التسخير لدلالات كبيرة على أن الله هو الخالق الصانع ؛ وأنه المقدر الحكيم. قوله :( لقوم يعقلون ) أي للمتفكرين أولي النهي والأبصار الذين يتدبرون ما خلق الله من عجيب مخلوقاته.
قوله :( وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه ) ما، في موضع جر، لأنه معطوف على ( ذلك ) وتقديره : إن في ذلك وما ذرأ لكم. وقيل : ما، في موضع نصب. والتقدير : وسخر ما ذرأ لكم في الأرض١، أو وخلق لكم ما ذرأ لكم في الأرض من حيوان ونبات ومعادن. و ( ذرأ ) أي فطر وأنشأ. والذرء إظهار الشيء بإيجاده.
قوله :( مختلفا ألوانه ) أي أصنافه. وهو قول كثير من المفسرين ؛ فإنه يعبر بالألوان عن الأجناس والأنواع. وقيل : المراد المعنى الحقيقي ؛ أي مختلفا ألوانه من البياض والسواد وغيرهما من الألوان. والأظهر العموم ؛ فقد جعل الله ما في الأرض مختلف الأصناف والألوان ليتحقق للعباد ما يبتغونه من ضروب المنافع والمصالح.
قوله :( إن في ذلك لآية لقوم يذكرون ) ( يذكرون )، أصلها يتذكرون فأدغمت التاء في الذال. والمعنى : أنه فيما ذرأه الله على هذه الحال من اختلاف الألوان والأصناف ( لآية لقوم يذكرون ) أي لهو علامة ظاهرة ودلالة مكشوفة يعيها المتعظون المعتبرون٢.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ٧٦.
٢ - البحر المحيط جـ٥ ص ٤٧٩ وروح المعاني جـ٧ ص ١١٠، ١١١.
.

قوله تعالى :﴿ وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ( ١٤ ) وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهار وسبلا لعلكم تهتدون ( ١٥ ) وعلامات وبالنجم هم يهتدون ( ١٦ ) ﴾ ذلك شروع في ذكر نوع آخر من النعم التي أسبغها الله على عباده. وهي من نعم البحار ؛ فقد سخر الله البحر بتذليله وتسهيله للإنسان ليجني منه منافع كثيرة في حياته. فقال سبحانه مبينا ذلك ( لتأكلوا منه لحما طريا ) وهو السمك. وقد عبّر عنه باللحم إشارة إلى قلة عظامه ؛ فهو ميسور الأكل كبير الفائدة.
قوله :( وتستخرجوا منه حلية تلبسونها ) ومن نعم الله على الناس ما ذلله لهم من مذخور البحر وما فيه من حلية ثمينة كاللؤلؤ والمرجان وغيرهما من ذخائر البحر ( تلبسونها ) وهذه من ملبوسات النساء جعلها الله لهن ليتزيّن لها فتعم الفائدة كلا الطرفين. الرجال والنساء ؛ فالنساء بلباس الحلي يستشعرون الحلاوة والبهجة. وكذلك الرجال يُسرون ويتلذذون برؤية زوجاتهم وهن يرفلن بألبسة الزينة الجميلة ؛ فهم جميعا يجدون في حلية البحر المستخرجة ما ينشر في حياتهم الجمال والبهجة والسرور، وتلك نعمة من نعم الله على العباد.
قوله :( وترى الفلك مواخر فيه ) المواخر يعني الجواري، جميع ماخرة ؛ أي جارية. والمخر معناه الشق. نقول : مخر السابحُ ؛ أي شق الماء بيديه. وسميت الفلك وهي السفن مواخر ؛ لأنها تشق الماء بجئاجئها، جمع جؤجؤ، وهو مقدمة السفينة١.
قوله :( ولتبتغوا من فضله ) معطوف على قوله :( وتستخرجوا ) و ( من فضله ) أي من واسع رزقه ؛ فالناس بركوبهم السفن الجواري وهي تمخر عباب البحار، يرومون الرزق والكسب بالتجارة وغيرها. وهذا كله من فضل الله ؛ أي من جزيل عطائه وامتنانه وواسع بره ورحمته.
قوله :( ولعلكم تشكرون ) أي تذكرون ما منّ الله به عليكم من خير، وما أسبغه عليكم من وافر العطاء والنعمة مما تجدونه من خيرات البر والبحر فتبادرون إلى طاعته وعبادته.
١ - القاموس المحيط ص ٦٠٩..
قوله :( وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم ) الرواسي، جمع راسية، وهي الجبل العالي الثابت.
قوله :( أن تميد بكم ) ( أن تميد ) في موضع نصب على المفعول له ؛ أي كراهة أن تميد بكم. وكراهة منصوب على أنه مفعول له. أو لئلا تميد بكم١ ؛ أي لئلا تضطرب بكم. و ( تميد )، من الميد وهو الميل يمينا وشمالا وهو الاضطراب. ماد يميد ميدا وهو مائد. ماء الشيء أي تحرك. ومادت الأغصان ؛ أي تمايلت٢.
والمعنى : أن الله عز وعلا قد رسّخ الجبال الشامخات الثقال في الأرض لتستقر بثقلها فلا تتحرك أو تتمايل وتضطرب.
قوله :( وأنهار وسبلا لعلكم تهتدون ) عطف ( أنهارا ) على ( رواسي ) وعطف ( سبلا ) على ( أنهار ) أي جعل الله في الأرض أنهارا. وذلك دليل يضاف إلى الأدلة الكثيرة على قدرة الصانع العظيم. وكذلك جعل ( سبلا ) أي طرقا تسلكونها ( لعلكم تهتدون ) أي تهتدون بهذه السبل إلى مقاصدكم وانتقالكم من أجل أغراضكم وحاجاتكم.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ٧٦..
٢ - مختار الصحاح ص ٦٤٠..
قوله :( وعلامات ) منصوب. بالعطف على قوله :( سخّر ) أي سخر الليل والنهار وعلامات. أو منصوب بتقدير خلق ؛ أي وخلق لكم علامات١. والعلامات هي معالم الطرق مما يستدل به المسافرون كنحو جبل أو سهل أو نهر أو غير ذلك من المعالم.
قوله :( وبالنجم هم يهتدون ) النجم، اسم جنس، فيشمل عامة النجوم التي يهتدى بها في معرفة القبلة، أو في الأسفار ليلا سواء في البر أو البحر٢.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ٧٦..
٢ - تفسير الماوردي جـ٣ ص ١٨٢ والبحر المحيط جـ٥ ص ٤٧٨-٤٨٠ والتبيان جـ٦ ص ٣٦٨..
قوله تعالى :﴿ أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون ( ١٧ ) وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم ( ١٨ ) ﴾ الاستفهام للإنكار والتوبيخ. والمراد التذكير بالتباين غير المحدود بين من يخلق وهو البارئ عز وعلا، وبين من لا يخلق وذلك لمختلف الأنداد المزعومة والآلهة المصطنعة المفتراة من دون الله. وذكر في المعبودين مختلف الأصنام التي لا تعقل وغيرها ممن يعقل كالملائكة وعزير وعيسى ابن مريم، أو غيرهم من الطغاة الجبابرة من البشر الذين ادعوا الإلهية واستعبدوا الناس استعبادا.
وفي الآية هذه تكبيت بليغ للمشركين الواهمين الذين يعبدون آلهة مصطنعة مفتراة من دون الله. لا جرم أن التباين عظيم بين الذي يخلق ما تقدم ذكره من سماء وأرض وجبال وأنهار وبحار، وفلك ونجوم، وهو الله جل وعلا، وبين المخاليق من مختلف الموجودات. وما المخاليق إلا الكائنات من أجناس شتى سواء فيها الأصنام الجوامد التي لا تعي ولا تنطق ولا تضر ولا تنفع، أو غير الأصنام من الأحياء كعزير والمسيح أو الجن والملائكة أو غيرهم ممن عبدتهم الأمم الضالة سفها وجهالة كنمروذ وفرعون. وأولئك جميعا ليسوا غير أصناف مختلفة من المخاليق أولي الطبائع الضعيفة والهيئات القاصرة المحدودة. فما ينبغي لذي عقل أن يعبد شيئا من هذه الكائنات ثم يعرض عن عبادة الله الخالق البارئ القادر. وهذا ما يقتضيه قوله سبحانه :( أفلا تذكرون ) استفهام إنكار وتوبيخ ؛ أي أفلا تتدبرون وتتفكرون فتعتبروا وتتعظوا وتوقنوا مبلغ ما أنتم عليه من الباطل والضلال والغفلة ؟ !
قوله :( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) أي نعم الله عليكم كثيرة لا تقدرون أن تعدوها أو تحصوها ؛ فهي لكثرتها وانتفاء القدرة على عدّها لا تستطيعون القيام بحق هذه النعم من الشكر.
قوله :( إن الله لغفور رحيم ) الله جل وعلا يستر ذنوب المقصرين ويتجاوز عن خطايا المذنبين المفرطين الذين لم يشكروا الله حق شكره ( رحيم ) يفيض برحمته على عباده مع بالغ تفريطهم في حق الله وشديد تقصيرهم في شكره واستحقاقهم من أجل ذلك الحرمان من النعم١.
١ - البحر المحيط جـ٥ ص ٤٨٢ وروح المعاني جـ٧ ص ١١٨ وفتح القدير جـ٣ ص ١٥٦ والكشاف جـ٢ ص ٤٠٦..
قوله تعالى :﴿ والله يعلم ما تسرون وما تعلنون ( ١٩ ) والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ( ٢٠ ) أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون ( ٢١ ) ﴾ ذلك إخبار من الله أنه عليم بأسراركم وما تخفونه من مكنون النوايا. وفي هذا إيماء إلى نفس هذه الصفة عن الآلهة المصنوعة التي لا تعي ولا تفهم ولا تنفع ولا تضر.
وفي ذلك من الوعيد للكافرين الظالمين ما لا يخفى. وكذلك فإن الله يعلم ( ما تعلنون ) أي ما أظهرتموه من العقائد والأعمال ؛ فكل ذلك عند الله سواء. وهو سبحانه يعلم السر والجهر ؛ بل إنهما بالنسبة إلى جلال الله سواء. وهذه خصيصة ليست لغير الله الذي يستوي عنده الظاهر المشهود، والغائب المستور.
قوله :﴿ والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ﴾ أي ما يعبده هؤلاء المشركون الضالون من الأصنام والأنداد والآلهة الموهومة والمصطنعة ( لا يخلقون شيئا ) ليسوا غير مخاليق تترسخ في طبائعهم وأعماقهم ظواهر الضعف والقصور والمحدودية، فأنى لهم بذلك أن يخلقوا شيئا من الأشياء ولو كان في حجم النملة أو الذبابة ( وهم يخلقون ) إنهم هم أنفسهم المخلوقون. ومن كان مخلوقا لا جرم أنه لا يخلُق وليت شعري هل يعقل أن يكون المخلوق خالقا ؟ ! أي تناقض أعظم من ذلك، بل أية جهالة وسفاهة أفظع من هذا الإسفاف في تفكير المشركين وتصورهم ؟ !.
قوله :( أموات غير أحياء ) ( أموات ) خبر ثان للمبتدأ ( وهم ) وخبره الأول ( يخلقون ) ١. والمعنى : أن الأصنام التي يعبدها الجاهلون السفهاء ليست غير أموات جامدة لا تعي ولا تتحرك ( غير أحياء ) لا روح فيها ولا حياة. ويجوز أن يكون المراد من المخبر عنه ما يتناول جميع المعبودات ممن يعقل أو لا يعقل. فيكون المراد بقوله :( أموات ) عموم المجاز ليشمل ما كان له حياة ثم مات كعزير، أو سيموت فيما بعد كالمسيح عيسى.
وكذلك الملائكة عليهم الصلاة والسلام. وكذلك ما ليس من شأنه الحياة أصلا كالأصنام الجامدة الميتة التي لا تريم.
قوله :( وما يشعرون أيان يبعثون ) ( أيان )، استفهام عن الزمان بمعنى متى. و ( أيان ) مبني لتضمنه معنى الحرف وهو همزة الاستفهام٢. والمعنى : أن هذه المعبودات المصطنعة أموات لا حياة فيها ولا حركة، فأنى لهم العلم بوقت البعث. ومن كان هذا شأنه في الجهل والقصور كيف يليق بذي عقل من البشر أن يتخذ منه إلها ؟ ! ٣.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ٧٦..
٢ - نفسه..
٣ - تفسير الطبري جـ١٤ ص ٦٤ وتفسير القرطبي جـ١٠ ص ٩٤..
قوله تعالى :﴿ إلهكم إله واحد فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون ( ٢٢ ) لا جرم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه لا يحب المستكبرين ( ٢٣ ) ﴾ بعد أن بين الله تبينا قاطعا أن تصور المشركين الذين اتخذوا مع الله آلهة أخرى، لهو بالغ الضلالة والفساد والسفه، شرع في التذكير بأن الإلهية إنما تكون لله وحده وليست لأحد سواه ؛ فهو الإله الخالق المعبود الذي تتجلى فيه كل صفات الإله القادر الحكيم. فقال سبحانه :( إلهكم إله واحد ).
قوله :( فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة ) هذا وصف للضالين الخاسرين الذين يكذبون بيوم الدين ويجحدون حقيقة القيامة واليوم الموعود ؛ فهم صنف من البشر التائه الزائغ الذي لا يقبل الوعظ ولا يؤثر فيهم التذكير أو النصح لفرط غيّهم وتماديهم وكزازة طبائعهم ؛ إنهم أناس ضالون مضلون قد ارتابت قلوبهم، وفسدت فطرتهم ؛ فكانوا أولي قلوب جاحدة ( منكرة ) أي تستنكر كل يقين مما هو ظاهر وجلي ومستبين بأن الله خالق كل شيء، وله ملكوت كل شيء ؛ فيجب إفراده وحده بالإلهية والربوبية والحاكمية كيلا يكون من إله أو رب أو مشرع سواه.
قوله :( وهم مستكبرون ) هذا وصف للجاحدين الظالمين الذين أبوا إلا العتو والتكذيب، جريا وراء أهوائهم الزائغة الفاسدة ( وهم مستكبرون ) أي متكبرون عن الإقرار لله بالوحدانية وإفراده وحده بالإلهية والربوبية والحاكمية ؛ بل إنهم طوّعت لهم أنفسهم المعوجة التي تستمرئ الباطل أن يعبدوا مع الله آلهة أخرى، أو يتخذوا من دونه أربابا شتى ليصطنعوا لهم من التشريع غير ما أنزله الله للعباد.
قوله :( لاجرم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ) ( لا جرم ) أي لابد، ولا محالة. وقيل : معناه حقا. والعرب تقول : لا جرم لآتينك. لا جرم لقد أحسنت ؛ فتراها بمنزلة اليمين. وقيل : لا جرم كلمة كانت في الأصل بمنزلة لا بد ولا محالة، فجرت على ذلك وكثرت حتى تحولت إلى معنى القسم وصارت بمنزلة حقا. فلذلك يجاب عنها باللام كما يجاب بها عن القسم كقولهم : لا جرم لآتينك. وهو قول الفراء١.
وفي الآية تأكيد جازم على أن الله يعلم ما يخفيه هؤلاء المشركون الظالمون في قلوبهم من مكنونات السوء والكيد، وما يضمرونه للإسلام والمسلمين من نوايا الخبث والمكر. وهو كذلك يعلم ما يعلنون للبشرية من مجاهرة بالضلال والكفر وما يشيعونه على الملأ من أقاويل الظلم والباطل ليثيروا من حول الإسلام الشبهات والافتراءات فيثنوا المسلمين عن دينهم ويثبطونهم تثبيطا.
قوله :( إنه لا يحب المستكبرين ) ليس من ذنب ولا خطيئة أشد شناعة وأفدح فظاعة بعد الإشراك بالله من الكبر ؛ لأن الكبر داء يستحوذ على القلب فيسوّل له الإدبار عن دين الله ويزين له التمرد على الله في شرعه للناس. ولا يحمل المرء في نفسه شيئا من استكبار إلا ويوشك أن يبوء بالشقوة والخسران إلا أن يبادر إلى التوبة والخشوع ؛ فإن من يستكبر يسلس قياده من قبل الشيطان ليجد طريقه ممهدا إلى النار. وهؤلاء المستكبرون لا يحبهم الله ولا يثني عليهم ؛ بل يجزيهم ما يستحقونه من أليم الجزاء.
١ - لسان العرب جـ١٢ ص ٩٤..
قوله تعالى :﴿ وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين ( ٢٤ ) ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون ( ٢٥ ) ﴾ ( ماذا )، ما استفهامية في موضع رفع مبتدأ. وذا، بمعنى الذي هو خبره. و ( أنزل ربكم ) صلة الموصول١. قيل : نزلت في النضر بن الحارث، فكان قد خرج إلى الحيرة فاشترى أحاديث كليلة ودمنة، فكان يقرأ على قريش ويقول : ما يقرأ محمد على أصحابه إلا أساطير الأولين، أي ليس القرآن من تنزيل الله. وقيل : المؤمنون هم القائلون لهم ذلك على سبيل الاختيار فأجابوهم قائلين ( أساطير الأولين ). ( أساطير )، خبر لمبتدأ محذوف، وتقديره : هو أساطير الأولين٢. والمراد بأساطير الأولين : أحاديث الأولين وأباطيلهم. وذلك ليقولوا إن هذا القرآن معجز ولا هو من كلام الله. وذلك من صور التمادي في الباطل الذي تلبس به الجاهليون الخاسرون وهم يتمردون في استكبار ومعاندة. وهم موقنون في قرارة أنفسهم أن القرآن حق وأنه من كلام الله ؛ لكنه الجحود واللجوج في معاندة واستكبار يغشى بصائر الظالمين الأشقياء في كل زمان ليصمهم ويعمي أبصارهم.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ٧٧..
٢ - نفسه..
قوله :( ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ) اللام، لام العاقبة ؛ لأنه لما وصفوا القرآن بأنه أساطير الأولين، استحقوا هذه العاقبة الوخيمة. ونظير ذلك قوله تعالى :( فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا ) فقد أودى بهم جحودهم وتكذيبهم إلى أن يبوءوا بسوء مصيرهم يوم القيامة، وأن يحملوا أوزارهم، وهي ذنوبهم ( كاملة ) غير مخففة ولا منقوصة.
قوله :( ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ) الأوزار، جمع وزر بالكسر والتسكين، ومعناه الإثم والثقل والحمل الثقيل١ ( ومن )، للجنس وليست للتبعيض ؛ فالذين يدعون إلى الضلال والباطل عليهم من الذنوب فوق ذنوبهم أنفسهم مثل ذنوب الذين أضلوا وأغووهم. قال ابن كثير في هذا المعنى : يصير عليهم خطيئة ضلالهم في أنفسهم، وخطيئة إغوائهم لغيرهم، واقتداء أولئك بهم كما جاء في الحديث : " من دعا إلى هدى ؛ كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا. ومن دعا إلى ضلالة ؛ كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا ".
قوله :( بغير علم ) أي أن هؤلاء التابعين قد سقطوا في الضلالة والغواية وهم لا يعلمون أنهم ضالون.
وقيل : إن هؤلاء السادة والكبراء الذين يضلون أتباعهم من الناس إنما يضلونهم جهلا منهم بما يستحقونه من شديد العقاب عما جنوه من إضلال غيرهم ( ألا ساء ما ساء ما يزرون ) ألا ساء إثمهم الذي يأثمون والثقل الذي يتحملون. أو بئس ما يحملونه من وزر ثقيل. والمقصود من ذلك، المبالغة في الزجر والتخويف٢.
١ - القاموس المحيط جـ٢ ص ١٥٩..
٢ - تفسير الرازي جـ ٢٠ ص ١٨، ١٩ وتفسير البيضاوي ص ٣٥٤ وفتح القدير جـ٣ ص ١٥٦ وتفسير القرطبي جـ ١٠ ص ٩٧..
قوله تعالى :﴿ قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ( ٢٦ ) ثم يوم القيامة يخزيهم ويقول أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم قال الذين أوتوا العلم إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين ( ٢٧ ) ﴾ المراد بالماكرين الذين من قبلهم هو النمرود بن كنعان الذي بنى صرحا عظيما ببابل طوله خمسة آلاف ذراع ورام منه أن يصعد إلى السماء ليقاتل أهلها. وبذلك فإن المراد بالمكر هنا : بناء الصرح لقتال أهل السماء.
وقيل : إن هذا عام في سائر أهل الظلم والباطل الذين يشيعون الكفر والفساد في الأرض والذين يضلون الناس بغير علم ليبعدوهم عن ملة الحق والتوحيد ويهدوهم إلى طريق جهنم طريق الكفر والعصيان والتمرد على منهج الله.
قوله :( فأتى الله بنيانهم من القواعد ) القواعد جمع قاعدة وهي الأساس. أي هدم الله بنيانهم باجتثاثه من أصوله فماتوا تحته.
قوله :( فخر عليهم السقف من فوقهم ) أي تهدم عليهم البنيان وكانوا هم تحته فهلكوا.
قوله :( وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ) أي بعث الله عليهم عذابا من عنده بعد أن ظنوا أنهم آمنون، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر. وقيل : إن ذلك كله من باب التمثيل. والمقصود : أن هؤلاء الضالين المبطلين الذين يصدون عن دين الله ويحادون الله ورسوله والمؤمنين، مصيرهم الهلاك والتدمير وسوء المصير في الدنيا.
قوله :( ثم يوم القيامة يخزيهم ) فوق العذاب الذي يحل بالظالمين الخاسرين في الدنيا، أعد الله لهم يوم القيامة من سوء العذاب والنكال ما هو أشد وأخزى.
قوله :( ويقول أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم ) يسأل الله المشركين الضالين يوم القيامة سؤال توبيخ وتقريع : أين الآلهة التي كنتم تزعمون في الدنيا أنهم شركائي والذين كنتم ( تشاقون فيهم ) أي تعادون المؤمنين وتخاصمونهم من أجلهم – أي أجل الشركاء. والمشاقة هي أن يكون أحد الخصمين في شق، والآخر في الشق الآخر. فما لهؤلاء الشركاء لا يحضرون اليوم ولا يدفعون عنكم شيئا من العذاب والخزي.
قوله :( قال الذين أوتوا العلم إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين ) المراد بالذين أوتوا العلم، العلماء الذين كانوا يدعون الناس إلى دين الله ؛ فهم يقولون للخاسرين الذين باءوا بالعذاب والخزي يوم القيامة : إن الذل والهوان والويل اليوم على الذين كفروا بربهم وشاقوا الله ورسله والمؤمنين. لا جرم أن إظهار الشماتة بالخاسرين يوم القيامة يزيد في إيلامهم والتنكيل بهم١.
١ - تفسير الرازي جـ ٢٠ ص ٢١ وتفسير النسفي جـ٢ ص ٢٨٤..
قوله تعالى :﴿ الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون ( ٢٨ ) فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين ( ٢٩ ) ﴾ ( الذين )، اسم موصول في محل جر نعت للكافرين. وقيل : بدل منه. وقيل : في محل رفع على أنه مبتدأ. و ( ظالمي )، منصوب على الحال ؛ أي وهم ظالمون أنفسهم. وذلك إخبار من الله عن حال الكافرين الخاسرين الذين ظلموا أنفسهم بإيرادها موارد الخسران والهلكة ؛ فهم إذا جاءهم الموت وحضرتهم الملائكة لانتزاع أرواحهم ( ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ). أي استسلموا وأخبتوا لله خاشعين مسلمين وأيقنوا للملائكة أن الله حق، وأظهروا خلاف ما كانوا عليه في الدنيا من الكفر والشقاق. وقالوا :( ما كنا نعمل من سوء ) أي جحدوا أنهم كانوا مشركين في الدنيا أو أنهم كانوا يشاقون الله ورسوله والمؤمنين. فردت عليهم الملائكة ( بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون ) وقيل : قائل هذا القول هو الله جل جلاله، مكذبا لهم فيما زعموه. والمعنى : أن الله عليم بما صنعتم وما كنتم عليه في الدنيا من المعاصي والكفران.
قوله :﴿ فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين ﴾ أي يقال لهؤلاء الخاسرين الذين ظلموا أنفسهم : ادخلوا طبقات جهنم ماكثين فيها أبدا.
قوله :( فلبئس مثوى المتكبرين ) أي ساء مقام هؤلاء المتكبرين الذين استكبروا على الله فعصوه وجحدوا وحدانيته ولم يقروا بربوبيته. ومقامهم النار وبئس المثوى والقرار١.
١ - فتح القدير جـ٣ ص ١٥٩ وتفسير الطبري جـ ١٤ ص ٦٩..
قوله تعالى :﴿ وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين ( ٣٠ ) جنات عدن يدخلونها تجري من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشاءون كذلك يجزي الله المتقين ( ٣١ ) الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون ( ٣٢ ) ﴾ بعد أن أخبر عن حال الأشقياء، شرع في الإخبار عن حال السعداء من أهل الجنة، الذين كانوا متقين ؛ فإنهم يقال لهم يوم القيامة :( ماذا أنزل ربكم ) ثم يبين الله أنهم ( قالوا خيرا ) أي أنزل الله الخير والهداية والرحمة والمراد بذلك القرآن. وذلك في مقابلة الجواب الظالم الذي كان يجيب به المشركون الجاحدون، وهو قولهم عن القرآن ( أساطير الأولين ) وقوله :( خيرا ) منصوب بتقدير فعل محذوف ؛ أي أنزل خيرا.
قوله :( للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ) ذلك من قول الله عن الذين آمنوا به في الدنيا فأطاعوه والتزموا دينه وشرعه فقد وعدهم الله في هذه الدنيا حسنة أي الثواب الجزيل والجزاء الحسن. أو وعدهم النصر والغلبة والظهور على الأعداء.
قوله :( ولدار الآخرة خير ) ذلك تأكيد من الله على أن ما أعده للمتقين الصالحين من عظيم الجزاء والمثوبة لهو خير وأعظم مما حوته الدنيا من الخيرات والمباهج والنعم ؛ فهذه الدار صائرة إلى الفناء والاندثار لكن الدار الآخرة باقية خالدة لا يعتريها زوال.
قوله :( ولنعم دار المتقين ) المراد بدار المتقين الدار الآخرة حيث الجنة والنعيم المقيم. والمخصوص بالمدح محذوف لتقدم ذكره.
قوله :( جنات عدن يدخلونها ) ( جنات ) مرفوعة على أنها بدل من الدار، وقيل : خبر لمبتدأ تقديره هي، فهي بذلك مبينة لدار المتقين. ( يدخلونها ) في محل نصب على الحال. وقيل : صفة لجنات ؛ أي مدخولة.
قول :( تجري من تحتها الأنهار ) تنساب المياه خلال الجنة ومن حولها ومن تحت أشجارها الوارفة الظليلة، وذلك على الهيئة البديعة والصورة العجيبة التي لا نعي حقيقتها وماهيتها إلا بقدر ما نتصوره من خلال هذه الكلمات الربانية.
قوله :( لهم فيها ما يشاءون ) وذلك هو النعيم بكماله المطلق الذي لا يعتريه عيب ولا نقيصة. كمال النعيم في الجنة التي يجد فيها المتقون الفائزون من الخيرات والمسرات والمباهج ما لا تتصوره عقول أهل هذه الدنيا.
قوله :( كذلك يجزي الله المتقين ) الكاف صفة لمصدر محذوف ؛ أي مثل ذلك الجزاء يجزي الله أهل التقوى١.
١ - تفسير الرازي جـ٢٠ ص ٢٥ والكشاف جـ٢ ص ٤٠٨ وفتح القدير جـ ٣ ص ١٥٩..
قوله :( الذين تتوفاهم الملائكة طيبين ) ( طيبين ) منصوب على الحال من الهاء في ( تتوفاهم ) ١ والمعنى : أن الملائكة تتوفى المتقين وهم طيبون ؛ أي طاهرون من دنس الحياة الدنيا ولوثاتها من الذنوب والهموم والآفات. وهم كذلك آمنون مطمئنون لما يلقونه من جزيل الثواب وعظيم الرضوان.
قوله :( يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون ) السلام معناه الأمان، وهذه بشارة من الملائكة لعباد الله المتقين بأنهم ناجون آمنون، صائرون إلى جنات النعيم بما قدموه في حياتهم الدنيا من الصالحات والطاعات.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ٧٧..
قوله تعالى :﴿ هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك كذلك فعل الذين من قبلهم وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ( ٣٣ ) فأصابهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون ( ٣٤ ) ﴾ ذلك تخويف للكافرين الذين ظلموا أنفسهم بإيرادها في الشرك والمعاصي وتكذيب الرسول.
والمعنى : ماذا ينتظر هؤلاء الضالون المكذبون إلا أن تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم فيفضوا بعد ذلك إلى النار ( أو يأتي أمر ربك ) وهو التدمير، والاستئصال. أو يحشرهم يوم القيامة ليساقوا إلى جهنم زمرا.
قوله :( كذلك فعل الذين من قبلهم ) أي هكذا تمادى السابقون الظالمون في غيهم وضلالهم حتى أذاقهم الله عذاب الذل والهوان. وذلك تخويف من الله لهؤلاء المستكبرين الغازين الذين كذبوا كلام لله وجحدوا نبوة رسوله ( ص ).
قوله :( وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) ما ظلم الله هؤلاء المشركين المكذبين بما حل بهم من السخط والذل والهوان ؛ فقد أعذر الله إليهم كامل الإعذار، وأقام عليه الحجة البالغة بما أرسله إليهم من النبيين. لكن المشركين المكذبين هم الذين ظلموا أنفسهم بتلبسهم بالكفر والعصيان والجحود، فاستحقوا ما حل بهم من العذاب المهين.
قوله :( فأصابهم سيئات ما عملوا ) أي أصاب الأمم الظالمة السالفة النقم والعقاب لما فعلوه من المعاصي والكفران ( وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون ) أي نزل بهم جزاء تكذيبهم وجحودهم واستهزائهم برسل الله١.
١ - تفسير الطبري جـ١٤ ص ٧١ وتفسير النسفي جـ٢ ص ٢٨٥..
قوله تعالى :﴿ وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين ( ٣٥ ) ﴾.
قال المشركون في اغترار وضلال : إننا لم نعبد هذه الأصنام ولم نشرك بالله ونحرم ما حرمنا من البحائر والسوائب والوصال والحوامي إلا لأن الله شاء لنا أن نفعل ذلك وقد رضيه لنا. وكذلك فعل الآباء والأجداد من عبادة الأصنام وتحريم البحائر والسوائب، ولو لم يقبل الله منا ومن آياتنا ذلك أو كرهه لنا ولهم لعاقبنا وإياهم على فعله، أو لهدانا وإياهم إلى غيره.
هكذا قال المشركون الضالعون في الخطيئة والإشراك. وما قالوا ذلك إلا وهم تستحوذ على قلوبهم وعقولهم أغشية كثاف من الوهم والغرور والسفه. ثم جاء الرد القاطع من الله على مقالة هؤلاء الضالين الواهمين السفهاء ( فهل على الرسل إلا البلاغ المبين ) ليس الشأن كما زعم هؤلاء المشركون الضالون ؛ بل إن الله قد أنكر على الكافرين كفرهم وضلالهم. ونهاهم عن كل وجوه الإشراك أشد نهي. وبعث فيهم النبيين والمرسلين ليدعوهم إلى عبادة الله وحده ويحذروهم من الإشراك به ومن عصيانه ومخالفة أمره. والنبيون المرسلون إنما تناط بهم أمانة التبليغ للناس وكفى. وما عليهم بعد ذلك شيء من زور المكذبين الجاحدين أو الناكلين المستهزئين١.
١ - تفسير الطبري جـ١٠ ص ٧١ وتفسير النسفي جـ٢ ص ٢٨٥ وتفسير الرازي جـ٢٠ ص ٢٨..
قوله تعالى :﴿ ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ( ٣٦ ) إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين ( ٣٧ ) ﴾.
لله الحجة البالغة على الناس جميعا ؛ فإنه ما من أمة من الأمم على وجه هذه الأرض إلا أرسل الله فيهم نذيرا منهم ليدعوهم إلى عبادة الله وحده وليقلعوا عن الشرك بكل صوره وأشكاله وأن يبتعدوا عن ( الطاغوت ) ويحذروه أشد تحذير.
و ( الطاغوت )، معناه : الطاغي المعتدي، أو كثير الطغيان، والمراد به هنا كل رأس في الضلال يصرف عن طريق الخير. وهو الشيطان والكاهن والساحر وكل معبود من دون الله من الجن والإنس والأصنام١.
وينبغي التذكير بحقيقة الطاغوت في مفهومه المستجد ليكون المسلمون على بينة من أمرهم، وأن يأخذوا لأنفسهم بالغ الحيطة والحذر مما يدور من حولهم من افتراءات ومؤامرات وخيانات ومكائد. وذلك بالنظر لتطور الأساليب في الإطغاء والإضلال، وبالنظر للتغيير في وجوه الكفر مع أنها في حقيقتها وماهيتها ليست إلا الجحود والنكول عن منهج الله والإعراض عن دينه، دين التوحيد والرحمة والعدل والمساواة.
وأساليب الإطغاء والإضلال كثيرة وفظيعة. وهي في هذا الزمان قد اتخذت منحى في غاية الفضاعة والباطل والنكر، وغاية التأثير الماحق الذي يأتي على القلوب والضمائر فيبدد فيها معالم الصلة بالله، ويأتي على الفطرة الإنسانية الأساسية فيسومها الإفساد والتمييع والانحراف، وهو كذلك يأتي على العقول ليصب فيها الثقافات الضالة الجاحدة التي تزين للإنسان إعلان الحرب على منهج الله وعلى دينه الحق، دين التوحيد والاستقامة والفضيلة كل ذلك بفعل الشياطين من طواغيت البشر الذين يصدون الناس عن منهج الله. منهج الإسلام. وذلك بمختلف الأسباب والوسائل في الخداع والتضليل والتشويه والافتراء، واصطناع الشبهات والحملات الثقافية المكذوبة على الإسلام في عقيدته وتشريعه وتاريخه ومجتمعه.
إن ذلكم كله من فعل الطاغوت الذي حذرنا الله منه وحرضنا على اجتنابه كيلا نقع في شراكه، شراك الكفر والظلم والضلال.
قوله :( فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة ) أي من هذه الأمم التي بعث الله فيهم النبيين من أرشده الله إلى دينه الحق القويم فآمن وصدق واستقام. ومنهم من ثبتت عليه الضلالة والزيغ عن الحق لعناده وإصراره على الكفر والباطل.
وهذه من الوسائل الدقيقة التي خاض فيها العلماء من أهل السنة والمعتزلة.
وخلاصة القول في هذه المسألة عند أهل السنة : أن الله سبحانه هدى البعض وأضل البعض. فالهدى والضلال بيد الله سبحانه، لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون ؛ فقد أمر الله الرسل بالتبليغ. وهذا التبليغ واجب عليهم والله تعالى يهدي من يشاء بإحسانه ويضل من يشاء بخذلانه.
وقال المعتزلة : إن الله لم يمنع أحدا من الإيمان ولم يوقعه في الكفر. والرسل ليس عليهم إلا التبليغ، فما بلغوا ما كلفوا بتبليغه ؛ كان الإنسان بعد ذلك مختارا ما يريده من الحق أو الضلال.
قوله :( فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ) أي إن كنتم تكذبون ما نذكره لكم عن حال الأمم السابقة وما حل بهم من البأس والتدمير بسبب جحودهم وعصيانهم فسيروا أنتم في الأرض التي كانت مقامهم، والبلاد التي عمروها وبنوا فيها الحضارة وشيدوا فيها المباني والعمران، ثم انظروا إلى آثار عذاب الله فيهم، وكيف أعقبهم تكذيبهم وعصيانهم ما حاق بهم من الهلاك والسوء. وسوف تعلمون إذ ذاك صدق ما نقوله لكم لكي تعتبروا وتتعظوا وتتزجروا عن الشرك والضلال.
١ - المعجم الوسيط جـ١ ص ٥٥٨ ومختار الصحاح ص ٣٩٣..
قوله :( إن تحرص على هداهم فإن لله لا يهدي من يضل ) أي إن تطلب بجهدك وبالغ اهتمامك هداية هؤلاء الضالين المشركين ؛ فإن الله لا يهدي ولا يرشد من أضله. ونظير ذلك قوله تعالى :( من يضلل الله فلا هادي له ) وهذا إخبار من الله لرسوله ( ص ) بأن حرصه الشديد على هداية قومه المشركين لا ينفعهم إذا كان الله قد أراد إضلالهم، فمن أضله الله فإنه ليس من أحد يهديه.
قوله :( وما لهم من ناصرين ) الناصر والنصير بمعنى المعين ؛ أي ليس من أحد غير الله من يعين هؤلاء الضالين الظالمين، أو ينقذهم من عقاب الله إن أراد الله أن يعذبهم١.
١ - تفسير الطبري جـ١٤ ص ٧٢ وتفسير الرازي جـ ٢٠ ص ٣٠..
قوله تعالى :﴿ وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون ( ٣٨ ) ليبين لهم الذي يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين ( ٣٩ ) إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ( ٤٠ ) ﴾.
ذكر في سبب نزول هذه الآية : أن رجلا من المسلمين كان له على رجل من المشركين دين فأتاه يتقاضاه، فكان فيما تكلم به : والذي أرجوه بعد الموت. فقال المشرك : وإنك لتزعم أنك لتبعث بعد الموت، فأقسم بالله لا يبعث الله من يموت ؛ فأنزل الله هذه الآية١ وفيها إخبار من الله عن المشركين أنهم حلفوا فأقسموا بالله ( جهد أيمانهم ) أي اجتهدوا في الحلف وبالغوا في تغليظ اليمين على أن الله لا يبعث من يموت. وهذا تكذيب فاجر فاضح بيوم القيامة. هذا الركن الركين في عقيدة هذا الدين ! فإنه لا يجترئ على التكذيب بالبعث أو بقيام الساعة إلا خاسر هالك تاعس، مردود في زمرة الأشقياء الأذلين، أو هو في عداد الكافرين الضالين الذين سقطوا في براثن الجحود والتكذيب المتوقح لرب العالمين.
قوله :( بلى ) وهذا إثبات لما بعد النفي ؛ أي بلى ليبعثنهم يوم القيامة ليناقشوا الحساب ثم يلاقوا ما يستحقونه من جزاء.
قوله :( وعدا عليه حقا ) ( وعدا )، مصدر مؤكد. و ( حقا ) صفة للوعد ؛ أي وَعَدَ العبث وعدا حقا. والبعث حقيقة كونية هائلة تصدقها الأذهان في بساطة، وتركن إليها القلوب والفطر السليمة في راحة ورضى ؛ إذ تحس من أعماق أعماقها حقيقة هذا الحدث الكوني الأكبر، الحدث المزلزل الجلل الذي يأتي على الحياة والكائنات والوجود كله ليصير إلى الفناء الكامل، والانهيار المريع. وذلكم وعد من الله كتبه في الأزل. ووعد الله حق وصدق. وهو سبحانه لا يخلف الميعاد.
قوله :( ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) أكثر الناس لا يصدقون قيام الساعة، وأن يبعث في القبور ليساقوا بعد ذلك مهطعين مذعورين إلى الحشر. أكثر الناس ذاهلون غافلون عن هذه الحقيقة الآتية الكبرى. وذلك لفرط جهالتهم وضلالهم وإغراقهم في شهواتهم وملذاتهم وأهوائهم ؛ ولان الشياطين من الجن والإنس جهدوا جهدا بالغا في إضلال الناس وإثارة الشكوك والظنون في تصوراتهم فسدروا خلف الشياطين والطواغيت منقادين خائرين.
١ - أسباب النزول للنيسابوري ص ١٨٨..
قوله :( ليبين لهم الذي يختلفون فيه ) التبيين متعلق بما دل عليه قوله :( بلى ) أي ليبعثن الله الموتى جميعا ( ليبين لهم الذين يختلفون فيه ) أي ليظهر لهم ما اختلفوا فيه من الحق، أو من أمر البعث، فيعلم الجاحدون صحة وعد الله بقيام الساعة وأنهم كانوا في قيلهم عن إنكارها كاذبين وهو قوله :( وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين ).
قوله :﴿ إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ﴾ هذا إعلان رباني مجلجل يبين الله فيه لعباده أنه هو المبدئ وهو المعيد وأنه لا يعز عليه فعل شيء في هذا الكون أو إحداثه ؛ فهو يقول : إنا إذا أردنا أن نبعث من يموت فلسنا عاجزين عن فعل ذلك، فما علينا من نصب ولا تعب في صنع ما نريده من إحياء أو إماتة أو غير ذلك، فما علينا من نصب ولا تعب في صنع ما نريده من إحياء أو إماتة أو غير ذلك من أمور الكون كله ؛ لأنا إذا أردنا أن نخلق شيئا أو نفعله أو نحدثه ؛ فليس علينا إلا ( أن نقول له كن فيكون ) فلا جرم أن من صفات الله القدرة البالغة التي لا تعرف القيود أو الحدود. إن قدرة الله مطلقة، وعلمه كامل ومحيط، وإرادته غالبة على كل شيء، وهو سبحانه الفعال لما يريد١.
١ - تفسير الطبري جـ١٤ ص ٧٣ وتفسير ابن كثير جـ٢ ص ٥٦٩ والبيضاوي ص ٣٥٦ وتفسير النسفي جـ٢ ص ٢٨٦..
قوله تعالى :﴿ والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون ( ٤١ ) الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون ( ٤٢ ) ﴾ هذه الآية نزلت في أصحاب النبي ( ص ) بمكة بلال وصهيب وخباب وعامر وجندل بن صهيب ؛ إذ أخذهم المشركون بمكة فعذبوهم وآذوهم، فبوأهم الله تعالى بعد ذلك المدينة. وقيل : ذلك إخبار عن جزاء الله لكل الذين هاجروا في سبيله ابتغاء مرضاته ؛ فقد فارقوا الأوطان والأهل والخلان راجين الثواب وحسن الجزاء من الله. وقيل : سبب نزولها في مهاجرة الحبشة الذين اشتد أذى قومهم لهم بمكة حتى خرجوا من بين أظهرهم إلى بلاد الحبشة ليتمكنوا من عبادة الله في حرية وأمان. وكان من بينهم عثمان بن عفان وزوجته رقية بنت رسول الله ( ص )، وجعفر بن أبي طالب وغيرهما في جماعة قريب من ثمانين ما بين رجل وامرأة رضي الله عنهم أجمعين١. والمعنى : أن المؤمنين الذين تركوا أوطانهم وأهليهم وقراباتهم وكل ما لديهم من أموال وممتلكات وصداقات وذكريات ( في الله ) أي لله أو لوجهه وابتغاء مرضاته وثوابه ورحمته، ورغبة في نصرة دينه، وليعبدوا الله آمنين أحرارا ( من بعد ما ظلموا ) أي من بعد ما عذبهم الكافرون ليفتنوهم عن دينهم، وليصدوهم عن دعوة الله إن استطاعوا، لكنهم مضوا ثابتين صابرين لا تثنيهم الشدائد ولا توهنهم الملمات والفتن والنوائب عن عقيدتهم ( لنبوئنهم في الدنيا حسنة ) ( لنبوئنهم ) لنسكننهم. بوأه منزلة، أسكنه أو أنزله فيه. والمباءة المنزل٢، و ( حسنة )، صفة للمصدر ؛ أي تبوئة حسنة أو مباءة أو منزلة حسنة. والمراد بها : الحلول بالمدينة ليجدوا فيها أمنهم وسكينتهم واستقرارهم. وليكون لهم فيها السلطان والغلبة والظهور.
وقيل : لننزلنهم في الدنيا منزلة حسنة وهي الغلبة على أهل مكة حيث الشرك والظلم وحيث يقيم الضالون الذين عذبوهم واضطروهم للخروج والهجرة ؛ بل الغلبة على سائر البلاد.
قوله :( ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون ) ذلك تأكيد من الله على أن ثواب المؤمنين المهاجرين في سبيل الله أكبر مما أوتوه في الدنيا من حسنة ؛ فإن ثوابهم في الآخرة الجنة وهي النعيم المقيم الذي لا يزول ولا يبيد.
قوله :( لو كانوا يعلمون ) الضمير عائد إلى المؤمنين ؛ أي لو رأوا مبلغ ثوابهم في الآخرة وما أعده الله لهم من عظيم الجزاء ؛ لزادوا في اجتهادهم وصبرهم. وقيل : الضمير عائد إلى الكافرين ؛ أي لو علم الكافرون ما أعده الله لعباده المؤمنين يوم القيامة من النعيم لآمنوا ورغبوا في دين الله، دين الإسلام.
١ - أسباب النزول للنيسابوري ص ١٨٨ وتفسير ابن كثير جـ٢ ص ٥٦٩..
٢ - القاموس المحيط جـ١ ص ٩..
قوله :﴿ الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون ﴾ ( الذين )، يجوز فيه الرفع والنصب، فالرفع على البدل من ( والذين هاجروا ) والنصب، من وجهين. أحدهما : أن يكون في موضع نصب على البدل من الهاء والميم في قوله :( لنبوئنهم ). وثانيهما : أن يكون منصوبا بتقدير الفعل : أعني١. والمعنى المراد، إطراء المؤمنين الصابرين الذين يحتملون الأذى والمكاره، وما نزل بهم من ظلم الكافرين وعدوانهم، ومن هجرة الديار والأوطان والصّحاب ( وعلى ربهم يتوكلون ) أي يفوضون كل أمورهم إلى ربهم معتمدين عليه راضين بقضائه وقدره مطمئنين بحكمه وحكمته٢.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ٧٨..
٢ - تفسير الرازي جـ٢٠ ص ٣٥ وتفسير النسفي جـ٢ ص ٢٨٧..
قوله تعالى :﴿ وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ( ٤٢ ) بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون ( ٤٣ ) ﴾ نزلت في مشركي مكة ؛ إذ أنكروا نبوة محمد ( ص ) وقالوا : الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا، فهلا بعث إلينا ملكا١ !
والإنسان بطبيعته مجبول على استعدادات منسجمة متسقة من طاقات النفس والروح والعقل. ويأتي في الطليعة من البشر هذه الفئة الممتازة الفضلى من الناس وهم النبيون المرسلون ؛ فإنهم صنف من الخليقة مفضال ومميز بما جبل عليه من هائل القدرات الروحية وبالغ الكفاءات النفسية والعقلية والفكرية بما لا يضاهيه في الكائنات نظير. فلا جرم أن يصلح النبيون أكمل صلوح لحمل رسالة السماء، وتبليغ الناس إياها. أما ما يظنه الجاهليون في هذا الصدد ؛ فليس إلا الوهم والتخريص والتقول بغير علم. ومن أجل ذلك رد الله مقالة العرب الجاهليين ووهمهم وتخريصهم بقوله :( وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم ) يعني ما أرسلنا من قبلك يا محمد في أمة من الأمم لدعوة الناس إلى دين الله وطاعته والإقرار بوحدانيته والتزام شرعه ومنهاجه إلا رجالا من جنسهم من البشر نوحي إليهم على ألسنة الملائكة.
قوله :( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) إن كنتم لا تعلمون هذه الحقيقة وهي إرسال الرسل إلى الناس من جنسهم من بني آدم فاسألوا أهل الذكر. وهم العالمون بالكتب السماوية من قبلكم كالتوراة والإنجيل ؛ ففيهما ما ينبئكم أن المرسلين السابقين من قبلكم ما كانوا إلا من بني آدم.
وقيل : المراد بأهل الذكر : الذين أسلموا من أهل الكتاب، فعندهم العلم بهذه الحقيقة مما وعوه من التوراة والإنجيل.
١ - أسباب النزول للنيسابوري ص ١٨٨..
قوله :( بالبينات والزبر ) البينات متعلق بقوله :( أرسلنا ) وكذا ( الزبر ). أي أرسلنا من قبلك بالبينات والزبر رجالا نوحي إليهم. والمراد بالبينات الأدلة والبراهين والمعجزات التي أوتيها النبيون لتكون شاهدة لهم بصدق دعوتهم وصدق ما جاءوا به من رسالة ودين. وأما ( الزبر ) فهي الكتب، وهي جمع زبور.
تقول العرب : زبرت الكتاب إذا كتبته. والزبور، الكتاب الذي أنزل على داود عليه السلام١.
قوله :( وأنزلنا إليك الذكر لنبين للناس ما نزل إليهم ) المراد بالذكر هنا القرآن ؛ فقد أنيط برسول الله ( ص ) تبيان هذا الكتاب الحكيم للناس ؛ إذ يبين لهم ما أجمله الله فيه من الأحكام في العبادات والمعاملات والجنايات وغير ذلك من المسائل والقضايا مما ورد في كتاب الله على نحو من الإجمال أو الإشكال أو العموم، فتفصيل ذلك وتبيينه وتوضيحه منوط برسول الله ( ص ) ؛ فهو أعلم الناس بما حواه القرآن من أصول الأحكام والمعاني.
قوله :( لعلهم يتفكرون ) أي يتدبرون ما جاء به الكتاب الكريم من جليل الآيات والعظات والمعاني فيعتبرون ويهتدون٢.
١ - مختار الصحاح ص ٢٦٧..
٢ - تفسير ابن كثير جـ٢ ص ٥٧١ وتفسير الرازي جـ٢٠ ص ٣٧..
قوله تعالى :﴿ أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون ( ٤٥ ) أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين ( ٤٦ ) أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرؤوف رحيم ( ٤٧ ) ﴾.
الاستفهام للإنكار. والمراد المشركون الظالمون الذين يعتدون على المسلمين بالصد والأذية والفتنة. فيقول الله لهم في توعد وتهديد : أفأمن هؤلاء الظالمون ( الذين مكروا السيئات ) ( السيئات ) صفة لمحذوف ؛ أي الذين مكروا المكرات السيئات. والمراد بمكرهم هنا سعيهم في إيذاء رسول الله ( ص ) وفتنة المسلمين وتعذيبهم ؛ لإغوائهم واجتيالهم عن دينهم. من أجل كيدهم وتمالئهم ومكرهم بالنبي والذين معه من المؤمنين ؛ فقد توعدهم الله بجملة نزاول أولها :( أن يخسف الله بهم الأرض ) وخسف المكان معناه الذهاب به في الأرض ؛ وخسف الله بهم الأرض أي غاب بهم فيها كما خسف بقارون ؛ إذ خسف الله به وبداره الأرض١.
وثانيهما :( أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون ) المراد أن يأخذهم عذاب الله بغتة فيهلكهم من حيث لم يحتسبوا، كما فعل بقوم لوط وغيرهم ممن أتاهم أمر الله بالعذاب فجأة.
١ - مختار الصحاح ص ١٧٥..
وثالثها :﴿ أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين ﴾ والتقلب معناه السفر. أي يأخذهم الله بالإهلاك في أسفارهم وتصرفهم حال كونهم آمنين مطمئنين ( فما هم بمعجزين ) أي لا يعجزون الله أن يفعل بهم ذلك إن أراج أن يأخذهم.
ورابعها :( أو يأخذهم على تخوف ) التخوف من الخوف. وكيفية ذلك : أن لا يأخذهم الله بالعذاب مرة واحدة. بل يخفيهم أولا، ثم يأخذهم بالعذاب. وذلك أن يأخذ طائفة فتخاف التي تليها، ثم تظل زمانا طويلا في الخوف والوحشة تنتظر الهلاك.
وقيل : التخوف معناه التنقص. تخوفت الشيء وتخيفته إذا تنقصته. والمراد به هنا : ما يقع في أطراف بلادهم من النقص في الأموال والأنفس والثمرات. ويأخذهم على تخوف أي على تنقص من أنفسهم وأموالهم وأرضهم. كقوله تعالى :( أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها ) أي أن الله لا يعاجلهم بالعذاب ؛ بل ينقص من أطراف بلادهم إلى القرى التي تجاورهم حتى يخلص الأمر إليهم فحينئذ يهلكهم١.
قوله :( فإن ربكم لرؤوف رحيم ) ويدل على رحمة الله ورأفته بالعباد : إمهاله إياهم ؛ إذ لا يعاجلهم بالعذاب فيبعث فيهم النبيين هداة مبلغين ليعظوهم ويحذروهم ويبينوا لهم سبيل الهداية والحق.
١ - تفسير الطبري جـ١٤ ص ٧٧ وتفسير الرازي جـ٢٠ ث ٣٩، ٤٠..
قوله تعالى :﴿ أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيّؤا ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون ( ٤٨ ) ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون ( ٤٩ ) يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون ( ٥٠ ) ﴾ الاستفهام للإنكار. وما، اسم موصول مبهم، فسره قوله :( من شيء يتفيؤا ظلاله ) والضمير في ( يروا ) عائد إلى الذين مكروا السيئات ؛ لأن الإخبار عنهم ؛ فهو يستنكر عليهم ترك النظر في أدلته والاستفادة منها والاعتبار بها. والمراد بالشيء ما له ظل من جبل أو شجر أو بناء أو جسم قائم. و ( يتفيؤا ظلاله )، من الفيء، يقال : فاء الظل يفيء فيئا : إذا رجع وعاد بعد ما نسخه ضياء الشمس. وأصل الفيء الرجوع.
ويتفيأ ظلال ؛ أي يميل من جانب إلى جانب، فيكون أول النهار على حال ويتقلص، ثم يعود في آخر النهار على حالة أخرى.
والمراد إنكار الغفلة التي تحيط بعقول هؤلاء الظالمين الذين يمكرون بالنبي والذين معه من المؤمنين ؛ إذ لم يتدبروا آيات الله وحججه ودلائله في الكون والطبيعة. ومنها، أنه ما من جسم قائم كشجر أو جبل أو بناء أو غير ذلك إلا ( يتفيؤا ظلاله عن اليمين والشمائل ) أي يرجع من موضع إلى موضع. والمقصود باليمين أول النهار، وأما الشمائل فآخر النهار، وقد أفرد اليمين وجمع الشمائل ؛ لأن العرب إذا ذكرت صيغتي جمع، عبرت عن أحدهما بلفظ الواحد، وعن الثاني بلفظ الجمع ؛ كقوله تعالى :( ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم ) وقيل غير ذلك من التأويل.
على أن ظاهرة الظل وحدها عجيبة من العجائب التي صنعها الله في هذا العالم. وتلك واحدة من ظواهر الطبيعة الكاثرة التي تستوقف النظر وتستثير الحس. وما أكثر الظواهر المثيرة في هذا الوجود والتي تستحق بالغ التدبر والتفكر والذكرى، وتقطع في الدلالة على أن الله حق، وأنه في بالغ قدرته وكمال علمه وسلطانه موجود الوجود.
قوله :( سجدا لله وهم داخرون ) ( سجدا ) حال من الظلال ؛ أي حال كون الظلال سجدا. واختلف المفسرون في تأويل قوله :( سجدا لله ) والأظهر أن الموصوف بالسجود في هذه الآية هي ظلال الأشياء ؛ فإنما يسجد ظلالها دون التي لها الظلال. وهو اختيار الإمام الطبري إذ قال : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله أخبر في هذه الآية ظلال الأشياء هي التي تسجد وسجودها ميلانها ودورانها من جانب إلى جانب وناحية إلى ناحية ( وهم داخرون ) أي صاغرون، يقال : دخر يدْخر دخورا ؛ أي صغر يصغر صغارا، أو ذل وهان١. والمراد : أن هذه الأشياء منقادة لقدرة الله تعالى وتدبيره سواء في ذلك سكونها أو دورانها أو ميلانها. والجملة ( وهم داخرون ) حال كذلك من الظلال.
١ - المصباح المنير جـ١ ص ٢٠٣ وتفسير الرازي جـ٢٠ ص ٤٤..
قوله :( ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة ) المراد بالدابة كل ما دب على الأرض من الكائنات الحية سواء فيها العاقل وهم بنو آدم، أو غير العاقل من العجماوات. فما من كائن إلا ويسجد لله. على أن سجود المؤمنين الصادقين من بني آدم معروف. لكن سجود غيرهم من الكافرين والذين لا يعقلون يقع على هيئة يعلمها الله.
وقد أطلعنا القرآن على أن ظلال الأشياء والأجسام جميعا تسجد لله. وقيل في هذا الصدد : ظل كل شيء يسجد لله سواء كان ذلك الشيء ساجدا أم لا.
قوله :( والملائكة ) معطوف على ما قبله مما ذكر. وقد عطف للتعظيم كعطف جبريل على الملائكة. والمراد ملائكة السماء والأرض. والمعنى : أن الله يسجد له ما في السموات وما في الأرض من الدواب والملائكة ( وهم لا يستكبرون ) عن التذلل له والخشوع، والجاحدون المستكبرون قلوبهم منكرة لكن ظلالهم تسجد لله بميلانها ودورانها وحركتها.
قوله :﴿ يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون ﴾ المراد بالخائفين الملائكة ؛ فإنهم ( يخافون ربهم من فوقهم ) أي يخافون عذاب ربهم أن ينزل عليهم من فوقهم. وقيل : المراد مخافة الإجلال والتعظيم لله سبحانه. كقوله :( وهو القاهر فوق عباده ) قال الرازي : هذه الفوقية عبارة عن الفوقية بالرتبة والشرف والقدرة والقوة. فظاهر الآية يدل على كونهم أفضل المخلوقات. قوله :( ويفعلون ما يؤمرون ) يؤدون حقوق الله وينتهون عن نواهيه غير مفرطين ولا مقصرين١.
١ - تفسير الرازي جـ٢٠ ص ٤٨ وتفسير البيضاوي ص ٣٥٨ وفتح القدير جـ٣ ص ١٦٧..
قوله تعالى :﴿ وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون ( ٥١ ) وله ما في السماوات والأرض وله الدين واصبا أفغير الله تتقون ( ٥٢ ) وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون ( ٥٣ ) ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون ( ٥٤ ) ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون ( ٥٥ ) ﴾.
ينهى الله عباده عن الإشراك به أو عبادة غيره من الخلائق. فيقول :( ولا تتخذوا إلهين اثنين ) ( اثنين ) توكيد ؛ فهو يؤكد على تفظيع الشرك، ناهيا العباد عن اتخاذ إله ثان مع الله. فما ينبغي لذي عقل يجد أمامه ومِنْ حوله من الدلائل والبراهين المستفيضة على وحدانية الله ما يملأ العالمين- ما ينبغي له أن يعبد أحدا غير الله. وإنما الإلهية محصورة في إله مقتدر واحد وهو الله جل جلاله، خالق الكائنات وبديع الأرض والسماوات.
قوله :( فإياي فارهبون ) أي خافون واتقوا عقابي بطاعتكم لي واجتنابكم زواجري.
قوله :( وله ما في السماوات والأرض ) الله عز وعلا له ملكوت كل شيء ؛ فهو مالك السماوات والأرض وما فيهن وما بينهن، ليس له في شيء من ذلك ند أو شريك. ( وله الدين واصبا ) ( واصبا )، منصوب على الحال١، والواصب معناه الدائم. وصب يصب وصوبا، أي دام وثبت٢، والدين ههنا بمعنى : الطاعة والإخلاص. وهما واجب ثابت ودائم لله على الإنسان.
قوله :( أفغير الله تتقون ) الاستفهام للتقريع والتوبيخ، والمعنى : إذا كان الإخلاص والطاعة واجبين لله على الدوام، فكيف ينبغي لكم أن تخشوا أحدا غير الله ؟
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ٧٨..
٢ -- القاموس المحيط جـ١ ص ١٤٢..
قوله :( وما بكم من نعمة فمن الله ) " ما "، شرطية، أو موصولة متضمنة معنى الشرط. والمعنى : وأي شيء اتصل بكم من نعمه فهو من الله. سواء في النعمة غنى المال والخصب وعافية البدن وغير ذلك من وجوه الخير ؛ فهو كله من نعمة الله.
( ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون ) إذا أصابكم الضر، وهو الفاقة والحاجة والأسقام، أو هو كل ما كان من سوء الحال والفقر والشدة والمرض ؛ إذا أصابكم شيء من ذلك ترفعون أصواتكم بالاستغاثة، وتتضرعون إليه بالدعاء، ١ وذلك هو الجأر أو الجؤار وهو الصوت الشديد كخوار البقر٢.
والمعنى : أن النعم كلها من الله يمتن بها على من يشاء من عباده. وإذا أصاب العبد من البلاء ما زالت به عنه نعمة من النعم ؛ فإنه يبادر إلى الجأر إلى الله داعيا متضرعا مستغيثا، حتى إذا استجاب الله دعاءه فكشف عنه البلاء، وما أصابه من الضراء والآفات، انقلب في الغالب على وجهه ناسيا فضل الله عليه، جاحدا ما خوله إياه من النعم. وهو قوله تعالى :﴿ ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون ﴾
١ - المصباح المنير جـ٢ ص ٦..
٢ - مختار الصحاح ص ٩٠..
قوله تعالى :﴿ ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون ﴾ يعني : إذا أزال الله عنكم ما أصابكم، من آفة المرض أو الفقر أو الشدة أو الخوف، وكشف عنكم الهم والبلاء، إذا جماعة منكم يجعلون لله الأنداد، فيعبدونهم من دون الله، أو يعبدونهم مع الله، تعالى الله عن الشركاء والنظراء علوا كبيرا.
قوله :( ليكفروا بما آتيناهم ) اللام لام كي ؛ أي أشركوا بالله غيره من الآلهة المصطنعة، وذلك في كشف ما أصابهم من ضر. وغرضهم من هذا الإشراك : أن يجحدوا كون ذلك الإنعام من الله تعالى. كالذي يشتد وجعه فيتضرع إلى الله لإزالة ما أصابه من وجع، فإذا زال وجعه، أحال زواله على الدواء الفلاني أو العلاج الفلاني. وفي الحقيقة أن المزيل لوجعه هو الله. وقيل : اللام لام العاقبة. والمعنى : أن عاقبة تلك التضرعات ما كانت إلا هذا الكفر.
قوله :( فتمتعوا فسوف تعلمون ) : أمر وعيد وتهديد ؛ أي تمتعوا في حياتكم ما شئتم، فإنكم صائرون لا محالة إلى الموت، وسوف تعلمون عاقبة ذلك مما ينزل بكم من العذاب١.
١ - تفسير الرازي جـ٢٠ ص ٥١-٥٣ والبيضاوي ص ٣٥٨ وفتح القدير جـ٣ ص ١٦٩..
قوله تعالى :﴿ ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون ( ٥٦ ) ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون ( ٥٧ ) وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم ( ٥٨ ) يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون ( ٥٩ ) للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم ( ٦٠ ) ﴾ الضمير في قوله :( لما يعلمون )، يعود إلى الأصنام ؛ التي لا تعلم شيئا عما يفعله من يعبدها. والمعنى : أن المشركين جعلوا لآلهتهم- أي : الأصنام، -التي لا تعلم شيئا- نصيبا من الحرث والأنعام. وذلك ضرب من سفاهة الجاهلين وضلالاتهم ؛ إذ يجعلون لما لا يسمع ولا يبصر ولا يعقل، جزاء من أموالهم ويقولون هذا لشركائنا. فأقسم الله بجلاله العظيم أنهم مسؤولون عما افتروه من الكذب والباطل. وهو قوله :( تالله لتسألن عما كنتم تفترون )، وذلك تهديد شديد من الله لهؤلاء الضالين الأفاكين. وهو سؤال توبيخ وتهديد يكون عند الموت. وقيل : عند عذاب القبر. وقيل : في الآخرة، فيكون التقريع والتوبيخ أشد وأنكى.
قوله :﴿ ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون ﴾ ( سبحانه )، اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه. وما، في موضع رفع على الابتداء، وخبره ( لهم ) مقدم١.
لقد كانت بعض قبائل العرب تقول : الملائكة بنات الله. لا جرم أن هذه المقالة غاية الضلال والباطل. ولذلك قال :( سبحانه )، وهذا تعجيب من جهلهم القبيح الفاضح، وهو وصفهم الملائكة المقربين بالأنوثة، فضلا عن تنزيه الله لذاته عن نسبة الولد إليه. وهو عز وعلا المنزه عن نقائص المخلوقين وضعفهم.
قوله :( ولهم ما يشتهون )، وهم البنون ؛ فقد كان العرب تفيض نفوسهم رغبة في الذكور، وفي مقابل ذلك تفيض عيافة للإناث. لقد كانوا يعافون البنات ويكرهون ولادتهن ومقدمهن. كانوا لفرط سفههم وضلال عقولهم وشدة ظلمهم يبتئسون أشد الابتئاس، ويستشعرون في أنفسهم بالغ الجراحة إذا ما رزقوا البنات.
هكذا كان الجاهليون العرب يتصورون. وهو تصور خاطئ وظالم وأثيم، يراود أذهانا خالطها الفساد والمرض في مجتمع جاهلي ظلوم.
أما ميزان الإسلام فيما توزن به اعتبارات الناس ومقاديرهم، فإنها هي العقيدة الكريمة السمحة. العقيدة التي بنيت على الإيمان بالله وإفراده بالإلهية دون غيره من المخاليق. يضاف إلى ذلك مزية العلم ؛ فإنه في ميزان الإسلام عظيم القدر، بالغ الأهمية، ويعزز هذه الحقيقة من اعتبار الإيمان والعلم قوله تعالى :( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ).
وعلى هذين الاعتبارين، وهما الإيمان والعلم، تعرف مقادير الناس، لتتحقق لهم الكرامات والاعتبارات. فأيما إنسان أتقى وأعلم ؛ فهو في ميزان الإسلام خير وأفضل. يستوي في ذلك الذكر والأنثى. ولا يغني الإنسان كونه ذكرا إذا أبطأ به عمله، فكان غير ذي علم ولا تُقى. ماذا تغنيه ذكورته إذا جاء ربه يوم القيامة خاليا من الهداية والطاعة والعلم. لا جرم إذ ذاك أن يُقذف به ليكون في زمرة الخاسرين الأشقياء الذين يساقون إلى جهنم. لكن المرأة الكريمة الفضلى ذات العقيدة والخلق، فإنها تستوجب التكريم والاحترام في هذه الدنيا. وهي يوم القيامة في زمرة الآمنين الفائزين، وهي من أهل النجاء والجنة.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ٧٩..
قوله :﴿ وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم ﴾، التبشير في اللغة يعني الإخبار الذي يؤثر في تغير بشرة الوجه. وكلا السرور والحزن، يؤثر في تغير بشرة الوجه. فوجب بذلك أن يكون لفظ التبشير، حقيقة في كلا السرور والحزن. وسواد الوجه كناية عن الاغتمام والحزن. والإنسان إذا أصاب قلبه من الداخل كمد وغم، تسرّب ذلك من الداخل إلى الأطراف ولا سيما الوجه، لما بينه وبين القلب من صلة كبيرة. وبذلك يربدّ١ الوجه ويسفر ويسودّ، ويظهر فيه أثر الحزن أو الهم أو الغم أو الكمد، أو غير ذلك من مختلف الإحساسات والمشاعر. ولقد كانت العرب تكره البنات، وتستاء من جيئتهن أبلغ استياء. وكان أحدهم إذا أخبر بولادة الأنثى، حزن بالغ الحزن، واغتم أشد الاغتمام، فظهر أثر ذلك على وجهه ؛ إذ يصير مسودّا، أي : متغيرا. والاسوداد كناية عن الغم والكآبة، والتبرم بولادة البنت. وقيل : المراد سواد اللون من فرط الخجل والتسخط. ( وهو كظيم )، أي : ممتلئ غظيا.
١ - اربدّّ: اختلط سواده بكدره. شاة ربداء: السوداء المنقطة بحمرة وبياض. انظر المصباح المنير جـ١ ص ٢٣٠.
قوله :( يتوارى من القوم من سوء ما بشّر به )، كهذا الذي جاءه الإخبار بولادة الأنثى، ( يتوارى من القوم )، أي : يختفي منهم ويستتر، ( من سوء ما بشر به )، أي : من شديد ما أصابه، من الغم والغيظ والإحساس بالعار من ولادة الأنثى.
قوله :( أيمسكه على هون )، يمسكه من الإمساك، وهو الحبس. والهون، معناه الهوان أو المهانة. تهاون به، أي : استحقره١، والضمير في ( أيمسكه )، يرجع إلى البنت ؛ أي : أيمسك هذه المولودة، على رغم أنفه وإحساسه بهوان نفسه ؟ ! ( أم يدسه في التراب )، والدس معناه الإخفاء والدفن٢ ؛ فالمولود له متردد بين إمساك الأنثى المولودة على إحساس منه بالمهانة والعار في نفسه بسبب ولادتها. أو دفنها حية في التراب. وذلك هو الوأد. وهو الفعلة المشؤومة النكراء، الفعلة الشنيعة الفظيعة، التي كانت العرب تفعلها في جاهليتهم الأولى. الجاهلية السخيفة العمياء، التي تسوّل للإنسان عبادة الأحجار الصم، ووأد ابنته حية في الثرى، وذلك في غاية القسوة والفظاعة وكزازة القلب والطبع.
فإنه يروى أن العرب كانوا يحفرون حفيرة، ويجعلونها فيها حتى تموت.
وروي عن قيس بن عاصم أنه قال : يا رسول الله إني واريت ثماني بنات في الجاهلية، فقال عليه السلام : " أعتق عن كل واحدة منهم رقبة ". وروي أن رجلا قال : يا رسول الله ما أجد حلاوة الإسلام منذ أسلمت ؛ فقد كانت لي في الجاهلية ابنة، فأمرت امرأتي أن تزينها، فأخرجتها إلي، فانتهيت بها إلى واد بعيد القعر فألقيتها فيه. فقالت : يا أبت قتلتني. فكلما ذكرت قولها لم ينفعني شيء. فقال عليه الصلاة والسلام : " ما كان في الجاهلية فقد هدمه الإسلام. وما كان في الإسلام يهدمه الاستغفار ".
على أن العرب كانوا يقتلون البنات على صور مختلفة ؛ فمنهم من يحفر الحفيرة ويدفنها فيها إلى أن تموت، ومنهم من يرميها من شاهق جبل، ومنهم من يغرقها، ومنهم من يذبحها. وقد كانوا يفعلون ذلك، تارة للغيرة والحمية، وتارة خوفا من الفقر والفاقة ولزوم النفقة٣. لا جرم أن أسبابا ومعاذير كهذه، لهي غاية في الباطل والنكر، وغاية في الطغيان والجور وكزازة القلب. إن هذا الاجتراء المتفحش الأثيم على قتل البنات لكونهن إناثا، قد ندد به الإسلام غاية التنديد، وشدّد عليه التفظيع والنكير ؛ بل إن الإسلام قد أوجب للأنثى من ظواهر التكريم والكلاءة والصون، ما ليس له في شرائع الأرض نظير.
لقد فرض الإسلام للأنثى من بالغ العناية والرعاية والاهتمام ما أحاطها بظلال من التقدير والرحمة. وأيما إهانة للأنثى أو انتقاص لها أو حيف يصيبها من الرجل ؛ فهو في دين الإسلام إثم غليظ ومخالفة عن أمر الله. ولقد حرض الإسلام على تكريم الإناث في كل مناحي الحياة، لتكون على الدوام آمنة مبجلة مطمئنة. ومن جملة ذلك : ما رواه الترمذي عن أبي سعيد الخدري أن النبي ( ص ) قال : " من كان له ثلاث بنات، أو ثلاث أخوات، أو بنتان، أو أختان، فأحسن صحبتهن، واتقى الله فيهن ؛ فله الجنة ". وكذلك أخرج أبو داود عن ابن عباس أن النبي ( ص ) قال : " من كانت له أنثى، فلم يئدها، ولم يهنها، ولم يؤثر ولده عليها ؛ أدخله الله الجنة ". وأخرج الشيخان أن النبي ( ص ) قال : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره، واستوصوا بالنساء خيرا ".
وعن أبي وائل عن عبد الله قال : قال رسول الله ( ص ) : " من كانت له بنت فأدبها فأحسن أدبها، وعلمها فأحسن تعليمها، وأسبغ عليها من نعم الله التي أسبغ عليه، كانت له سترا أو حجابا من النار ".
والنساء شق البشرية الآخر، المكمل للشق الأول وهو شق الرجال. وكلا الشقين يكمل أحدهما الآخر، ليكونا مؤتلفين منسجمين في حياتهما الدنيا. وفي هذا يقول الرسول ( ص ) : فيما رواه أحمد وأبو داود والترمذي : " إنما النساء شقائق الرجال ".
وخير شاهد على حقيقة المساواة في التكريم بين المؤمنين والمؤمنات قوله تعالى :( إن المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، والقانتين والقانتات، والصادقين والصادقات، والصابرين والصابرات، والخاشعين والخاشعات، والمتصدقين والمتصدقات، والصائمين والصائمات، والحافظين فروجهم والحافظات، والذاكرين الله كثيرا والذاكرات، أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما ).
قوله :( ألا ساء ما يحكمون )، أي : بئس ما قالوا وما فعلوا، وساء ما ظنوا وما صنعوا، من فظائع الوأد ونسبة الإناث إلى الله، وهم أنفسهم يكرهون البنات وينفرون منهم، وينسبون الذكور لأنفسهم. وكذلك اغتمامهم واكتئابهم، واسوداد وجوههم عند التبشير بالأنثى، ساء ذلك كله.
١ - مختار الصحاح ص ٧٠٢.
٢ - المصباح المنير ج، ١ ص ٢٠٧.
٣ - تفسير الرازي جـ٢٠ ص ٥٦، ٥٧ وفتح القدير جـ ٣ ص ١٧٠ وتفسير القرطبي جـ ١٠ ص ١١٦، ١١٧..
قوله :( للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء )، ( مثل السوء )، معناه : صفة السوء، من الجهل والسفه والضلال. وذلك كله مثل ضربه الله للجاحدين المكذبين بيوم القيامة، فلهم ( مثل السوء )، أي : صفة السوء، بكراهيتهم الإناث، ونسبتهن إلى الله، ووأدهن خشية الفقر والعار، وغير ذلك من صفات السوء، مما تلبس به الجاهلون السفهاء.
قوله :( ولله المثل الأعلى )، أي : الصفة العليا، والكمال المطلق ؛ فهو الواحد الخالق المقتدر، المنزه عن صفات العباد، الغني عن العالمين، ( وهو العزيز الحكيم )، ( العزيز )، القوي، القادر على تنفيذ ما يريد، فلا يعز عليه صنع شيء. و ( الحكيم )، الذي يفعل ما يشاء، بمقتضى حكمته البالغة١.
١ - روح المعاني جـ ٧ ص ١٧٠ والبحر المحيط جـ٥ ص ٤٨٩..
قوله تعالى :﴿ ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم لا يستئخرون ساعة ولا يستقدمون ( ٦١ ) ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون ( ٦٢ ) ﴾.
بعد أن بين الله حال المشركين الذين كفروا به، وجحدوا نبوة رسول الله ( ص )، وقتلوا البنات ظلما، وزعموا أن الملائكة بنات الله- بعد ذلك كله، يبين الله أن هؤلاء الظالمين يستحقون العذاب العاجل، لولا فضل الله بإمهالهم إلى يوم القيامة. وهو قوله :( ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ) ( يؤاخذ )، من الأخذ ومعناه : التناول، والعقوبة ؛ أي : لو يعاقب الله الناس بسبب شركهم، وما جنوه من المعاصي والخطايا، ( ما ترك عليها من دابة )، أي : لأهلك من يدب على ظهر الأرض من الأحياء. وذلك يدل على فظاعة ما يفعله الظالمون، من عتو وجحود وعصيان. لكن الله بفضله ومنّه ورحمته، قد أمهل الظالمين إلى اليوم الموعود. وفي هذا الصدد، روي عن عبد الله بن مسعود قوله : " كاد الجعل١ أن يهلك في حجره بخطيئة بني آدم ".
قوله :( ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى )، أي : لا يؤاخذهم الله بما كسبوا في الدنيا من الآثام والمعاصي ؛ إذ لو آخذهم الله بذنوبهم لما بقي منهم أحد، بل إن الله يؤخر عنهم العذاب إلى اليوم الموعود ؛ ليلاقوا الجزاء البئيس والعذاب الذي لا يزول.
قوله :( فإذا جاء أجلهم لا يستئخرون ساعة ولا يستقدمون )، المراد بأجلهم، موتهم أو قيام الساعة. فإذا جاء هذا الموعد المحتوم ؛ فإن الظالمين لا يتأخرون عن موعدهم هذا أقل مدة من الزمن وهي ساعة، وكذلك فإنهم لا يسبقون هذا الأجل المحتوم مثل هذه المدة القصيرة.
١ - الجعل: بفتح الجيم وسكون العين. وهو دويبة أو حشرة صغيرة. انظر القاموس المحيط ص ١٢٦٣..
وقوله :( ويجعلون لله ما يكرهون )، ( ما )، لمن يعقل. والمراد به النوع، كقوله سبحانه :( فانكحوا ما طاب لكم من النساء )، و ( ما ) تعم العقلاء وغيرهم. والمعنى : أن المشركين ينسبون لله ما يكرهونه لأنفسهم، من البنات ومن الشركاء، وهم أنفسهم يأنفون أن يكون عندهم الشركاء في أموالهم ورئاستهم.
قوله :( وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى )، ( الكذب )، مفعول به. ( أن لهم الحسنى )، بدل منه، بدل كل من كل١ ؛ أي : مع كل ظلمهم وعصيانهم، فإنهم يكذبون بقولهم :( أن لهم الحسنى )، أي : الجنة. وهذا غاية الكذب والتقول الظالم ؛ إذ يهذون بأن لهم من الله الجنة.
قوله :( لا جرم أن لهم النار )، ( لا جرم )، أي : حقا، لا بد منه، أن لهؤلاء الظالمين النار بدلا مما زعموه من الحسنى، وهي : الجنة، ( وأنهم مفرطون )، بفتح الراء ؛ أي : مضيعون في النار منسيون فيها أبدا، أو مقدمون معجل بهم إليهم. وذلك من أفرطته إلى كذا، أي : قدمته. ومنه قول رسول الله ( ص ) : " أنا فرطكم على الحوض "، أي : متقدمكم عليه. وكثيرا ما يقال للمتقدم إلى الماء لإصلاح شيء : فارط وفرط. ومفرطون بالتشديد ؛ أي : مقصرون، من فرط في كذا، أي : قصر٢.
١ - الدر المصون جـ٧ ص ٢٤٦..
٢ - الدر المصون جـ٧ ص ٢٤٨ وانظر البحر المحيط جـ٥ ص ٤٩٠ وروح المعاني جـ٧ ص ١٧٠- ١٧٣..
قوله تعالى :﴿ تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم ( ٦٣ ) وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ( ٦٤ ) والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآية لقوم يسمعون ( ٦٥ ) ﴾.
ذلك قسم من الله يؤكد فيه إرسال النبيين إلى الأمم السابقة لهدايتهم وإرشادهم، لكنهم ضلوا وجحدوا وانقلبوا خاسرين. وفي ذلك الإخبار والقصص ما يسرّي عن قلب الرسول ( ص ) مما كان يناله من جهالات المشركين وسفاهاتهم ؛ إذ كذبوه وآذوه، وتقولوا عليه الأقاويل والافتراءات، مثل الذي فعلوه في النبيين السابقين من العصيان والأذى.
قوله :( فزين لهم الشيطان أعمالهم )، أغواهم الشيطان بعد أن أضلهم عن دين الله، واجتالهم عن الحق الذي جاءهم به النبيون المرسلون، فزين لهم الباطل بكل صوره، من الشرك والظلم وقبيح الأعمال.
قوله :( فهو وليهم اليوم )، أي : قرينهم في هذه الدنيا، إذ تولى ( الشيطان ) إضلالهم بتغريرهم وفتنتهم بكل وجوه الفتنة وضروبها. ولئن أغواهم شيطان الجن بإيحائه ووسوسته ؛ فإن شيطان الإنس والبشر لا جرم أن لا يقل اقتدارا على الإضلال والإغواء والتغرير والفتنة.
إن شيطان الإنس من البشر يملك من أساليب الغواية والبراعة في الفتنة ما أضل به الناس طيلة الزمان. وما فتئ الناس يترددون في الغي والضلال والتنكب عن رسالة السماء ودين الله الحق ؛ فهم بذلك سادرون في الفسق والمعاصي، جاهرون بارتكاب الخطايا والآثام، مخالفين بذلك كله عن منهج الله الحق ؛ منهج الإسلام. وكل ذلك بفعل الشياطين من الداخل والخارج ؛ أي من داخل النفس البشرية ومن خارجها ؛ فمن الداخل بفتنة الوسواس الخناس من إبليس وجنوده من الجن، الذين يزينون للمرء فعل القبائح والمعاصي والمنكرات، فضلا عن السقوط في الكفران والجحود. أما من الخارج فبما تصطنعه الشياطين البشرية من أساليب كاثرة شتى في التضليل والخداع والغواية، ما بين ترغيب وإغراء بالمال والمنصب وغيرهما من صنوف الشهوات، أو إغواء وترهيب وتخويف وتهديد بالتعذيب، أو الحرمان أو التهجير أو القتل.
قال صاحب الدر المصون في قوله :( فهو وليهم اليوم )، يجوز أن تكون هذه الجملة حكاية حال ماضية ؛ أي فهو ناصرهم. أو آتية. ويراد باليوم يوم القيامة. وهذا إذا عاد الضمير على ( أمم )، وهو الظاهر. وجوز الزمخشري أن يعود على قريش، فيكون حكاية حال في الحال، لا ماضية ولا آتية. وجوّز أن يكون عائدا على ( أمم )، ولكن على حذف مضاف تقديره : فهو ولي أمثالهم اليوم١.
قوله :( ولهم عذاب أليم )، أي : لهم عذاب النار يوم القيامة.
١ - الدر المصون جـ٧ ص ٢٤٩..
قوله :( وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه ) المراد بالكتاب القرآن. واللام في ( لتبين ) للتعليل ؛ أي : إنما أنزلنا إليك هذا القرآن لتفصل به بين الناس في كل ما يتنازعون فيه ويختلفون، من الشرك والتوحيد وإثبات البعث والنشور ونفيهما، والجبر، وهو كون الإنسان مجبرا أو مكرها على صنع أفعاله. أو القدر، بسكون الدال، وهو خلاف الجبر. ومقتضاه أن الإنسان قادر على صنع أفعاله حرا ومختارا. وغير ذلك من الأحكام التي ابتدعوها، كتحريم البحائر والسوائب، وتحليل أكل الميتة والدم ولحم الخنزير، وما أهل به لغير الله، وغير ذلك من الأحكام. والقرآن في ذلك كله يقول الحق ويهدي إلى سواء السبيل. السبيل الواضح المستقيم الذي لا عوج فيه ولا خلل، ولا غلو ولا تفريط.
قوله :( وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ) ( هدى ورحمة )، منصوبان على أن كل واحد منهما مفعول لأجله. والناصب قوله :( أنزلنا ) ١. والمعنى : أن القرآن أنزل هداية للناس، وإخراجا لهم من ظلمات الباطل والضلال والجور، إلى نور الحق واليقين والعدل والسداد. وهو كذلك رحمة للناس بكل ما يحتمله لفظ الرحمة من معاني فضلى في الخير والبر والمودة والإيثار، وغير ذلك من معان يرسخها الإسلام في واقع المسلمين. وخص المؤمنين بالهدى والرحمة ؛ لأنهم بتصديقهم ويقينهم والتزامهم منهج الإسلام يكونون هم المنتفعين بمزايا الهدى والرحمة ومقتضياتهما أكثر من غيرهما.
١ - نفسه..
قوله :( والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها )، وهذه من الدلائل على عظمة الخالق الذي أوجد كل شيء وأتقنه إتقانا ؛ فقد أنزل الله بقدرته وإرادته المطر من السماء غيثا مغيثا طبقا ؛ ليثير في الأرض النماء والبركة، وتنبعث في الناس ظواهر الخير والاستمتاع، وراغد الحياة وطيب العيش. وذلك هو مقتضى قوله :( فأحيا به الأرض بعد موتها )، وموت الأرض كناية عن جفافها ويبسها ؛ فهي حال كونها يبسا غير ذات نبات ولا اخضرار كأنما هي ميتة، حتى إذا أصابها ماء السماء انقلبت حية عامرة يعمها الخصب والنضرة والاخضرار. وذلك في ذاته حدث كوني كبير، لا يتحقق إلا بإرادة الله الخالق القادر. وهو دليل واضح ( لقوم يسمعون )، أي : يسمعون سماع استبصار وتدبر ؛ ليجدوا في إحياء الأرض الميتة بالمطر دليلا واضحا ومثيرا على أن الله حق. أما الذين يسمعون سماع الذاهلين الغافلين، أو سماع الماكرين المخادعين المتربصين ؛ فإنهم سادرون في الضلال والعمى والجحد ؛ فلا ينفعهم سماعهم، ولا يغنيهم ما يجدونه من مختلف الأدلة والبراهين١.
١ - روح المعاني جـ٧ ص ١٧٤، ١٧٥ والبحر المحيط جـ٥ ص ٤٩١..
قوله تعالى :﴿ وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين ( ٦٦ ) ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن في ذلك لآية لقوم يعقلون ( ٦٧ ) ﴾. العبرة بكسر العين، تعني في اللغة : العجب. اعتبر منه، أي : تعجب١. ويراد بها ههنا الآية والدلالة على جلال الخالق في عظيم قدرته وبالغ حكمته ؛ إذ خلق الأنعام حيث النسل والدر. هذا الغذاء السائغ النافع المصفى الذي يتخلق في أحشاء الأنعام من أبقارها ونوقها وشائها، وذلك هو قوله في كلماته القليلة الجزلة المصطفاة :( نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا )، الضمير في ( بطونه ) يعود إلى الأنعام. وهذا اللفظ ذكره سيبويه في الأسماء المفردة، على لغة بعض العرب، والفرث معناه : السرجين في الكرش. والسرجين أو السرقين بكسر السين المشددة معناه : الزبل معربا٢، وهذا برهان ظاهر باهر بأمر على عظيم قدرة الله، وآية ساطعة جليلة تثير العجب والاعتبار لمن يعتبر. وذلك أن الله يخلق اللبن وسيطا بين الفرث والدم، وبينه وبينهما برزخ لا يبغي أحدهما عليه بلون ولا طعم ولا رائحة ؛ بل هو خالص من ذلك كله. فإذا أكلت البهيمة العلف فاستقر في كرشها طبخته فكان أسفله فرثا، وأوسطه لبنا، وأعلاه دما. والكبد مسلطة على هذه الأصناف الثلاثة تقسمها ؛ فتجري الدم في العروق، واللبن في الضروع، ويبقى الفرث في الكرش ثم ينحدر٣.
قوله :( خالصا سائغا للشاربين ) ( خالصا )، أي : مصفى عما يشوبه من لون دم أو رائحة فرث أو غير ذلك من الأوشاب. والسائغ، سهل المرور في الحلق. ساغ الشراب سوغا، أي : سهل مدخله٤. وجاء في الخبر : " ما شرب أحد لبنا فشرق، إن الله تعالى يقول :( لبنا خالصا سائغا للشاربين ) وهذه آية عظيمة من آيات الله الكثيرة الدالة على أنه سبحانه حق، وأنه موجد كل شيء. إن هذه العملية العجيبة في تخليق اللبن وتحصيله من وسط الأحشاء، حيث الدم والروث والبول والدهن والأوشاب، ليجيء غذاء سهلا طيبا مستلذا، تستنفر الحس والذهن، وتقطع في يقين جازم على عظمة الخالق الصانع.
١ - القاموس المحيط ص ٥٥٨..
٢ - القاموس المحيط ص ٢٢٢، ١٥٥٥..
٣ - تفسير النسفي جـ٢ ص ٢٩١..
٤ - القاموس المحيط ص ١٠١٢..
قوله :( ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزق حسنا )، جاء في قوله :( ومن ثمرات النخيل ) عدة أوجه، أظهرها : أنه متعلق بمحذوف، وتقديره : " ونسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب "، أي : نسقيكم من عصيرها. و ( تتخذون )، بيان وكشف عن كيفية الإسقاء. وقيل : خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير : ومن ثمرات النخيل ما تتخذون١. والسكر، بفتحتين، وفي معناه أقوال، منها : " أنه اسم للخل، وهو قول ابن عباس. ومنها : أنه اسم للعصير مادام حلوا ؛ فكأنه سمي بذلك لما يؤول إليه لو ترك. ومنها : أنه اسم للطعم. ومنها : أنه من أسماء الخمر. وهو قول الجمهور من أهل العلم. وقال به ابن مسعود وابن عمر وابن جبير وأبو ثور والحسن وابن أبي ليلى وآخرون. وهذه الآية مكية، وقد نزلت قبل تحريم الخمر، ثم حرمت بالمدينة ؛ فهي بذلك منسوخة ؛ أي أن الخمر كانت لدى نزول هذه الآية بمكة حلالا يشربها كل الناس. وإنما كان تحريمها في المدينة بغير خلاف. وقد حرمها قوله :( يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه )، فالآية الأولى منسوخة بهذه.
وإلى عدم النسخ ذهب الإمام أبو حنيفة وأصحابه. ووجه قولهم : أن المراد بالسكر ما لا يسكر من الأنبذة. واستدلوا على ذلك بأن الله قد امتنّ على عباده بما خلق لهم من ذلك. ولا يقع الامتنان إلا بالحلال، وذلك يدل على جواز شرب ما دون السكر من النبيذ. فإذا انتهى إلى السكر صار حراما. وعضدوا هذا القول من السنة بما رواه الدارقطني عن النبي ( ص ) أنه قال : " حرم الله تعالى الخمر بعينها ؛ القليل منها والكثير، والسكر من كل شراب " ويستفاد من ذلك : أنه يحل شرب النبيذ ما لم يصل إلى الإسكار. وذهب إلى ذلك أيضا إبراهيم النخعي والطحاوي وسفيان الثوري.
والصواب أن هذه الآية إن كانت سابقة على تحريم الخمر ؛ فهي دالة على كراهيتها وليس إباحتها، ووجه الدلالة على الكراهية بأن الخمر في هذه الآية وقع ذكرها في مقابلة الحسن، وهذا يقتضي قبحها. والقبيح لا يخلو عن الكراهة وإن خلا عن الحرمة. قال صاحب الكشاف بعد أن فسر السكر بما ذكره : وفيه وجهان : أحدهما : أن تكون منسوخة. والثاني : أن يجمع بين العتاب والمنة. وقال : إن القول بكونها منسوخة أولى الأقاويل. ثم قال : وفي الآية دليل على قبح تناولها تعريضا من تقييد المقابل بالحسن. وهذا وجه من ذهب إلى أنه جمع بين العتاب والمنة. وعلى الأول ( العتاب ) يكون إشارة إلى السكر وإن كان مباحا ؛ فهو مما يحسن اجتنابه٢.
قوله :( إن في ذلك لآية لقوم يعقلون )، أي : فيما تبين من حقائق لهو دلائل ظاهرة يتدبرها أولو الأبصار والاعتبار.
١ - الدر المصون جـ٧ ص ٢٥٩..
٢ - روح المعاني جـ٧ ص ١٨٠، ١٨١ والبحر المحيط جـ٥ ص ٤٩٤، ٤٩٦ وتفسير ابن كثير جـ٢ ص ٥٧٤..
قوله :﴿ وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون ( ٦٨ ) ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون ( ٦٩ ) ﴾ ( وأوحى )، من الوحي : وهو الإلهام ؛ فقد ألهم الله النحل وعلمه بوجه لا يعلمه إلا هو سبحانه. وبذلك يصدر منها أفعال مثيرة، وفي غاية الجمال والعجب ؛ كأن يكون منها رئيس يأتمرون جميعا بأوامره، وهم جميعا في خدمته. وكذلك بناؤها البيوت المشكلة بأشكال مختلفة، كالمسدسات والمخمسات والمربعات والمثلثات، وغير ذلك من الأشكال مما لا يمكن للعقلاء أن يفعلوا مثله إلا بآلات هندسية.
قوله :( أن اتخذي من الجبال بيوتا )، ( أنِ )، تفسيرية. وقيل : مصدرية، أي : باتخاذ١. والمعنى : أن الله ألهم النحل بأن تتخذ من الجبال أوكارا تأوي إليها، ( ومن الشجر ومما يعرشون )، أي : مما يعرشه الناس : وهو ما يرفعونه من الكروم أو السقوف.
١ - الدر المصون جـ٧ ص ٢٦٢..
قوله :( ثم كلي من كل الثمرات ) ( ثم )، تفيد التراخي بين اتخاذ البيوت، والأكل الذي تدخر منه العسل. والثمرات جمع الثمرة، وهي الشجرة١ ؛ أي : كلي مما في الأشجار من أوراق وأزهار وثمار.
قوله :( فاسلكي سبل ربك ذللا )، الفاء للعطف ؛ أي : إذا أكلت فاسلكي سبل ربك، وهي : الطرق أو المسالك في العود إلى بيوتها، ( ذللا )، جمع ذلول. منصوب على الحال من السبل ؛ أي : ذللها الله وسهلها لها.
قوله :( يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه )، ذلك من عجيب صنع الله، أن صنع من الشجر والزهور والثمر في أحشاء النحل عسلا، يخرج من ( بطونها )، يعني : أفواهها، وهو قول أكثر المفسرين. وقيل : يخرج العسل من أدبارها.
وكيفما يكون الإخراج، أو من حيثما كان ؛ فإن غاية العجب تكمن في ماهية صنع ذلك في جوف النحل ليصير عسلا، وهو الشراب الشهي المستطاب، وهذه الظاهرة العجيبة لا تحصل في غير النحل من الأحياء. لاجرم أن ذلك، هو : دليل ظاهر بالغ على عظيم قدرة الله.
على أن العسل مختلف الألوان بالبياض والصفرة والحمرة والسواد، وسبب ذلك : اختلاف طباع النحل، واختلاف المراعي. وقيل : الأبيض تلقيه شباب النحل، والأصفر تلقيه كهولها، والأحمر تلقيه مسنها، وذلك بحسب أسنان النحل.
وقيل : إن ذلك لمحض إرادة الصانع الحكيم جل جلاله.
قوله :( فيه شفاء للناس )، الضمير في قوله :( فيه )، يعود إلى العسل، وهو شفاء من جملة الأشفية والأدوية النافعة، و ( شفاء ) نكرة، للتعظيم ؛ أي : فيه شفاء، أي : شفاء، أو لدلالته على مطلق الشفاء ؛ أي : فيه بعض الشفاء، وليس كله. وليس المراد بالناس هنا العموم ؛ فإن كثيرا من الأمراض لا يدخل في دوائها العسل، وإنما المراد بالناس الذين ينجع العسل في أمراضهم.
قوله :( إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون )، فيما تبين من ذكر النحل : من حيث ثواؤه في بيوت يصنعها على أشكال مختلفة عجيبة، ومن حيث غذاؤه من أوراق الشجر وأزهاره، وما يعقب ذلك من صنع العسل، هذا الشراب الذي يستشفي به كثير من الناس، وذلك بطريقة يعلم ماهيتها الله، والراسخون في العلم- إن ذلك كله ( لآية لقوم يتفكرون )، أي : دليل ظاهر وبرهان ساطع يتدبره أولوا الأبصار والنهى، فيستيقنون أن الله حق، وأنه على مل شيء قدير٢.
١ - القاموس المحيط ص ٤٥٨..
٢ - البحر المحيط جـ٥ ص ٤٩٧ وروح المعاني جـ٧ ص ١٨٦، ١٨٧..
قوله تعالى :﴿ والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا إن الله عليم قدير ( ٧٠ ) ﴾، بهذه الآية القصيرة في كلماتها المؤثرة المعدودة يبين الله حال الإنسان بدءا بنشأته، وانتهاءً بموته ورحيله إلى الدار الآخرة، وما بين البداية والنهاية من مختلف المراحل المتطورة من حال إلى حال. فأول ذلك الاجتنان في الأرحام. ثم الرضاع في مطلع الحياة للإنسان، ثم الفتوة والمراهقة، ثم الشباب واكتمال القوة في الأجساد، ثم الاكتهال والشيخوخة، ثم الهرم والسن الطاعنة والازدلاف من الموت. وذلك كله في قوله تعالى :( والله خلقكم ثم يتوفاكم )، وما بين الخلق والوفاة تتفاوت الأعمار والآجال والأقدار بين الناس ؛ فمنهم من يتوفاه الله صغيرا، ومنهم من يتوفاه شابا، ومنهم من يمتد به العمر إلى أخسه. وفي ذلك يقول سبحانه :( ومنكم من يرد إلى أرذل العمر )، أي : آخر العمر الذي تفسد فيه الحواس، ويضعف العقل، ويأتي عليه الخرف والخلل. وكذا البدن بمختلف أعضائه وأجزائه يصيبه الضعف والتلف والهرم مما ينذر بدنو الأجل.
قوله :( لكي لا يعلم بعد علم شيئا )، اللام في ( لكي لا ) : لام التعليل، وكي مصدرية، وهي ناصبة للفعل بعدها. والمصدر المؤول من كي والفعل مجرور باللام، وقيل : اللام لام كي، وكي للتأكيد. وفي هذا نظر. وثمة وجه على أن اللام لام الصيرورة والعاقبة. و ( شيئا )، منصوب المصدر ( علم )، وقيل : منصوب بالفعل ( يعلم ) ١ ؛ أي : يؤول أمره من حال العلم بالأشياء إلى أن لا يعلم شيئا. والمراد بذلك : قلة علمه وشدة نسيانه، فإذا علم شيئا لم يلبث أن ينساه سريعا.
قوله :( إن الله عليم قدير )، الله يعلم كل شيء مما يجري أو يدور في الكون من أشياء وحوادث. ومن جملة ذلك : الخلق والإماتة، سواء في الصغر أو الشباب أو الكبر، أو الرد إلى أخسّ العمر حيث الهرم والخرف والتلف والاهتراء، ثم إماتة الصغير قبل الكبير، أو العظيم قبل الحقير، أو العالم قبل الجاهل، أو المؤمن التقي قبل الفاسق الموغل في العصيان ؛ فكل ذلك بعلم الله وحكمته البالغة التي لا نعلم منها إلا ما علمنا إياه. وهو كذلك قدير على الخلق والتغيير والتحويل من حال إلى حال، ومن طور إلى طور، لا معقب لحكمه وتقديره٢.
١ - الدر المصون جـ٧ ص ٢٦٣.
٢ - روح المعاني جـ٧ ص ١٨٧، ١٨٨ والبحر المحيط جـ٥ ص ٤٩٨ وتفسير النسفي جـ٢ ص ٢٩٣..
قوله تعالى :﴿ والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء أفبنعمة الله يجحدون ( ٧١ ) ﴾ ذلك توبيخ للمشركين وتقريع ؛ لاتخاذهم مع الله آلهة من المخلوقات. والمعنى : أنكم أيها المشركون لا ترضون بشركة مماليككم في شيء من أموالكم وهم أمثالكم في البشرية والمخلوقية لله، فكيف بكم تشركون بالله في الألوهية والمعبودية بعض مخلوقاته ؟ ! وبعبارة أخرى : فأنتم لا ترضون أن تساووا عبيدكم فيما رزقناكم، فكيف ترضون لله أن يساويه عبيده في الإلهية والمعبودية والتعظيم ؟ ! وعلى هذا قوله :( والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء )، أي : جعلكم الله متفاوتين في الرزق مما أعطاكم ؛ إذ جعلكم أكثر رزقا من مماليككم الذين ربما كانوا أعظم منكم في العلم والورع. لكن الذين فضلهم الله في هذا الرزق، وهم الملاك، غير رادين ما أعطاهم من الرزق على مماليكهم الذين هم شركاؤهم في المخلوقية ليكونوا جميعا فيه ( سواء )، أي : متساوين لا تفاضل بينهم. فما دمتم لا ترضون لعبيدكم أن يكونوا شركاءكم فيما تملكون، فكيف ترضون أن تجعلوا لله شركاء من عبيده ؟ ! وقوله :( فهم فيه سواء )، هذه الجملة اسمية، في موضع نصب ؛ لأنها وقعت جوابا للنفي، وقامت هذه الجملة الاسمية مقام جملة فعلية. وتقديره : فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فيستووا١، وهذا مثل ضربه الله للذين جعلوا له شركاء، فقال لهم : أنتم لا تُسوون بينكم وبين عبيدكم فيما أنعمت به عليكم، ولا تجعلونهم فيه شركاء، ولا ترضون ذلك لأنفسكم، فكيف رضيتم أن تجعلوا عبيدي لي شركاء ؟ ! ٢.
قوله :( أفبنعمة الله يجحدون )، الهمزة للاستفهام الإنكاري، والفاء للعطف على مقدر، وذلك استفهام عن جحود هؤلاء المشركين نعمة ربهم، استفهام توبيخ وإنكار ؛ فقد تفضل الله عليهم بالنعم الكثيرة التي لا تحصى، لكنهم جحدوا ذلك كله، وعبدوا معه آلهة مزعومة أخرى٣.
١ البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ٨٠..
٢ - روح المعاني جـ٧ ص ٤٤٩ وتفسير ابن كثير جـ٢ ص ٥٧٧ والكشاف جـ٢ ص ٤١٩..
٣ - الدر المصون جـ٧ ص ٢٦٤..
قوله تعالى :﴿ والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون ( ٧٢ ) ﴾ يمتن الله على عباده بهذه المنة العظمى، وهي منة الأزواج والأولاد والحفدة. فقال عز وعلا :( والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا )، أي : خلق لكم من جنسكم ونوعكم أزواجا، ولو جعل الأزواج من جنس أو نوع آخر، لما حصلت المودة والرحمة بين الجنسين. فمن فضل الله ورحمته بالعباد أن خلق من بني آدم كلا الصنفين : الذكور والإناث ؛ لتكون الإناث أزواجا للذكور، فيتم الائتلاف والانسجام، وتتحقق المودة والرحمة بينهم. ويستدل بهذا على عدم صحة الزواج من الجن. وقيل : المراد بذلك خلق حواء من نفس آدم. وفيه نظر.
قوله :( وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة )، أي : جعل الله لكل واحد منكم من زوجه لا من زوج غيره ( بنين ) : جمع ابن. وذلك عن طريق التوالد.
قوله :( وحفدة )، معطوف على ( بنين )، لكونه من الأزواج. وفُسر بأنه أولاد الأولاد. وقيل : إنه من عطف الصفات لشيء واحد ؛ أي : جعل لكم بنين خدما. والحفدة : الخدم. والحفدة : جمع حافد، كخادم وخدم. وهو من قولهم : حفد يحفد حفدا وحفودا وحفدانا ؛ أي : أسرع في الطاعة. وفي الحديث : " وإليك نسعى ونحفد "، أي : نسرع في طاعتك. وحفد، أي : خف في العمل وأسرع. والحفد، بالسكون معناه : المشي دون الخبب. وسيف محتفد، أي : سريع القطع. وأحفده، حمله على الإسراع. ورجل محفود، أي مخدوم١.
قوله :( ورزقكم من الطيبات )، ( من ) ؛ للتبعيض، أي : رزقكم بعض الطيبات في هذه الدنيا وليس كلها ؛ لأن كل الطيبات إنما يكون في الجنة. والمراد بالطيبات المستلذات. وهو عام في كل الخيرات من الثمرات والزروع والحيوان بأنواعه، وكذا الأشربة بأصنافها. كل ذلك من الطيبات التي تفضل الله بها على عباده.
قوله :( أفبالباطل يؤمنون )، الاستفهام ؛ للإنكار والتوبيخ. والباطل : هو ما يعتقدونه من جدوى الأصنام وبركتها وشفاعتها. أو الشيطان ؛ إذ يسوّل لهم التلبس بالشرك وفعل الحرام، مما لم ينزل الله به سلطانا، كتحريم البحائر والسوائب وغير ذلك من نعم الله ؛ فهم إنما يؤمنون بذلك الباطل.
قوله :( وبنعمة الله هم يكفرون )، نعمة الله هي الإسلام، بما حواه هذا الدين العظيم من عقيدة وشريعة وأحكام تتناول كل مشكلات الحياة البشرية، وفي ذلك من هداية البشر وإرشادهم ما يفضي إلى السلامة والنجاة في الدارين. لكن المشركين الضالين السادرين في الغي والباطل يجحدون ذلك وينكرونه أشد إنكار ؛ لسقم عقولهم وضلال تفكيرهم. وقيل : نعمة الله : ما منّ الله به على العباد من وجوه الخيرات والمنافع الدنيوية التي لا تحصى٢.
١ - الدر المصون جـ٧ ص ٢٦٤ والقاموس المحيط ص ٣٥٤..
٢ - روح المعاني جـ٧ ص ١٩١، ١٩٢ وتفسير النسفي ـ٢ ص ٢٩٣..
قوله تعالى :﴿ ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا ولا يستطيعون ( ٧٣ ) فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون ( ٧٤ ) ﴾، ذلك تبيين لقوله :( أفبالباطل يؤمنون ). وقيل : معطوف على قوله :( يكفرون )، وهو داخل تحت الإنكار التوبيخي. والمعنى : أيكفرون بنعمة الله ويعبدون من دونه ( ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا )، أي : يعبدون من الآلهة المصطنعة المزيفة ما لا يقدر أن يرزقهم أيما رزق، لا من السماوات حيث المطر الغيث، ولا من الأرض حيث النبات والزرع، ( شيئا ) منصوب على المفعولية لاسم المصدر١ ( رزقا )، واسم المصدر يعمل عمل المصدر. وقيل : بدل من قوله :( رزقا )، أي : أنهم يعبدون من دون الله من الآلهة المزعومة المزيفة ما لا يملك لهم أن يرزق من السماوات والأرض شيئا.
قوله :( ولا يستطيعون )، الضمير عائد على الآلهة المصطنعة ؛ فإنها لا تملك الرزق ولا يمكنها أن تملكه.
١ - الدر المصون جـ ٧ ص ٢٦٦..
قوله :( فلا تضربوا لله الأمثال )، ( الأمثال ) : جمع مثل، وهو الند، أو الشريك أو النظير ؛ أي : لا تجعلوا لله شركاء أو أندادا أو أشباها ؛ فإنه ليس لله شريك ولا نديد ولا شبيه.
قوله :( إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون )، الله يعلم فظاعة ما أنتم متلبسون به من الإشراك وتشبيهه بالخلق، ( وأنتم لا تعلمون )، لا تعلمون فظاعة فعلكم الشنيع، وهو الإشراك، وفظاعة ما أعده لكم في مقابل ذلك من شديد العقاب١.
١ - البحر المحيط جـ٥ ص ٥٠٠، ٥٠١ وتفسير النسفي جـ٢ ص ٢٩٤ وروح المعاني جـ٧ ص ١٩٤، ١٩٥..
قوله تعالى :﴿ ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون ( ٧٥ ) ﴾، ( عبدا )، بدل من قوله :( مثلا )، بعد أن بين الله ضلال المشركين في إشراكهم بالله غيره ممن لا يملك نفعا ولا ضرا لنفسه ولا لعابده، ضرب الله هذا المثل في اثنين :
أحدهما : عبد مملوك عاجز عن التصرف، فلا يقدر أن يفعل شيئا لعجزه وعبوديته.
وثانيهما : حر غني قادر على التصرف في ماله، فينفق منه سرا وعلانية. لا جرم أن الرجلين لا يستويان عندكم مع أنهما من جنس واحد، وهي الإنسانية. فكيف إذن تشركون وتسوّون بالله- وهو الخالق القادر-، من هو مخلوق من المخاليق كالأصنام والأوثان ؟ !.
قوله :( الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون ) ( الحمد )، معناه الشكر والثناء١. فالله سبحانه هو المستحق لكامل الثناء والشكر دون غيره من الخلائق والعباد مما يعبد الناس وممن يجزلون لهم الإطراء والثناء. واستحقاق الله وحده لكامل الحمد والشكر، حقيقة لا يعلمها أكثر الناس ؛ لأنهم غافلون، سادرون في الضلالة تائهون خلف الأهواء والشهوات، بعيدون عن منهج الله كل البعد.
١ - القاموس المحيط ص ٣٥٥..
قوله تعالى :﴿ وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم ( ٧٦ ) ﴾ هذا مثل ثان ضربه الله زيادة في البيان. ويتجلى المثل في رجلين. أحدهما : أبكم، وهو الأخرس الأصم بالخلقة في الأصل ؛ فهو بذلك لا يفهم لعدم سمعه، ولا يستطيع أن يُفهم غيره لكونه غير ناطق، وهو كذلك ( لا يقدر على شيء )، لا يقدر على التصرف، أو أن يفعل شيئا لعجزه وسوء فهمه وانعدام إدراكه. ( وهو كل على مولاه )، الكل : أي : الثقيل لا خير فيه. والجمع كلول ؛ سمي بذلك لثقله على كاهل مولاه الذي يلي أمره١ ؛ فهو بذلك ثقيل على مولاه. وهو من يعوله ويلي أمره. ( أينما يوجهه لا يأت بخير )، أي : حيثما يرسله مولاه أو يصرفه في مطلب من المطالب أو حاجة من الحاجات لم ينفع ولم يفلح.
أما الثاني : فهو مِنْطيق سليم الحواس، ذو رأي ورشد ينفع الناس، ويؤدي لهم حاجاتهم ومهماتهم، ويأمرهم بالعدل والخير. ( وهو على صراط مستقيم )، أي : هو في نفسه على سيرة صالحة ودين قويم. لا جرم أن الاثنين لا يستويان٢.
١ - البحر المحيط جـ٥ ص ٥٠٣ وتفسير ابن كثير جـ٢ ص ٥٧٨..
٢ روح المعاني جـ٧ ص ١٩٦، ١٩٧ وتفسير النسفي جـ٢ ص ٢٩٤..
قوله تعالى :﴿ ولله غيب السماوات والأرض وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إن الله على كل شيء قدير ( ٧٧ ) ﴾ ذلك إخبار من الله عن استئثاره بعلم الغيب. وهو غيب السماوات والأرض وما فيهن وما بينهن. فما من خبر ولا أمر ولا همس ولا نبس إلا هو به عليم. وهو سبحانه بجلاله وعظيم قدرته وسلطانه قادر على : الإتيان بالساعة، وبعث الناس من قبورهم إلى الحشر، بجلاله وعظيم قدرته وسلطانه قادر على الإتيان بالساعة وبعث الناس من قبورهم إلى الحشر، وذلك كله في طرفة عين أو أقرب. ( إن الله على كل شيء قدير )، الله عليم بالغيب المستور. وهو المقتدر على الإتيان بالساعة. لا جرم أن هاتين صفتان كبريان لا يتأتى شيء منهما لأحد غير الله. ومن كان موصوفا بهاتين الصفتين العظيمتين وغيرهما من الصفات الكبريات فإنه :( على كل شيء قدير )، قادر أن يفعل ما يشاء، لا يمنع من ذلك مانع، ولا يحول دون فعله حائل.
قوله تعالى :﴿ والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون ( ٧٨ ) ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ( ٧٩ ) ﴾، يمنّ الله على عباده أن أخرجهم من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئا ؛ فهم مخلوقون من غير إدراك ولا وعي ولا حس، فما من مولود يأتي إلى هذه الدنيا، إلا وهو إذ يجاء به لا يعلم شيئا، وذلك لبساطة خلقته وبالغ ضعفه ؛ إذ ذاك. لكن الله قد تفضل عليه، فرزقه رويدا رويدا حواسه الأساسية، وهي السمع والأبصار والأفئدة ؛ ليصير بذلك ذا وعي وفهم وإدراك فقال :( وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة )، أفرد السمع على أنه في الأرض مصدر ؛ فقد جعل الله هذه الأشياء آلات ووسائل أساسية ؛ ليتحصل بها الإنسان العلم والمعرفة والإدراك. والمعنى : أن الله جعل لكم السمع لتسمعوا به ما يجري من مسموعات وأحداث. ومن أعظم ما تسمعون لهي آيات الكتاب الحكيم وما حوته من عجائب المعاني والمشاهد والمواعظ والأخبار. وكذلك جعل الأبصار لتبصروا بها عجائب ما خلق الله في هذا الكون مما حوته الأرض والسماء. وكذلك جعل الله الأفئدة : وهي العقول، أداة التدبر والتفكر، ووسيلة الفهم والاستبصار ؛ لتستدلوا بذلك كله على وحدانية الله، وأنه الخالق الموجد البديع. ( لعلكم تشكرون )، أي : خلق الله فيكم هذه المركبات طورا عقب طور ؛ لتستيقنوا مبلغ فضل الله عليكم فتشكروه.
قوله :( ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله )، الاستفهام للتنبيه. وذلك تنبيه من الله للناس والغافلين إلى ظاهرة الطيران في جو السماء، وهو : الهواء المتباعد من الأرض في سمت١ العلو. وظاهرة الطيران تثير الانتباه، وتوجب إطالة النظر حقا. وهي واحدة من الظواهر الكاثرة المبثوثة في هذه الطبيعة، مما يدل على بديع صنع الخالق القادر. وهذا هو قوله سبحانه :( ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء )، أفلا يتدبر الناس ويتفكرون في الطير على اختلاف أنواعهن وأجناسهن، وعجيب أشكالهن وألوانهن، وهن يجبن عنان السماء طائرات مرفرفات محلقات. لا جرم أن الطير برفيفهن السابح في أجواز السماء ( مسخرات )، أي : مذللات للطيران بما أوتين من أسباب خلقية وقدرات ذاتية، كل ذلك يزجي بالدليل الساطع على عظمة الصانع.
قوله :( ما يمسكهن إلا الله )، أي : جعل الله فيهن خاصية الطيران ؛ فهن في قبضهن وبسطهن أجنحتهن : سابحات في الهواء، لا يمنعهن من السقوط إلا الله.
قال الرازي في ذلك : المعنى : أن جسد الطير جسم ثقيل، والجسم الثقيل يمتنع بقاؤه في الجو معلقا من غير دعامة تحته ولا علاّقة فوقه، فوجب أن يكون الممسك له في ذلك الجو هو الله تعالى.
قوله :( إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون )، فيما تقدم من ظاهرة الطيران، وما بث الله في الطير من خصوصية عجيبة ليطير في جو السماء سابحا، لهو دليل ظاهر أبلج على أن الله حق. وذلك ( لقوم يؤمنون )، فقد خص المؤمنين بهذه الدلائل ؛ لأنهم هم المنتفعون بها. وذلك بما أوتوه من استقامة الطبع والفطرة وسلامة النفس من أمراض الشك والتردد والاغترار والاستكبار٢.
١ - السمت: المواجهة والموازاة. انظر المصباح المنير جـ١ ص ٣٠٨ والمعجم الوسيط جـ١ ص ٤٤٧...
٢ - تفسير الرازي جـ٢٠ ص ٩٢، ٩٣ وتفسير الطبري جـ١٤ ص ١٠٢..
قوله تعالى :﴿ والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين ( ٨٠ ) والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون ( ٨١ ) فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين ( ٨٢ ) يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون ( ٨٣ ) ﴾ يعدد الله نعمه على عباده وهي نعم كثيرة وجليلة لا تحصى قد امتن الله بها على الناس ليعيشوا آمنين مطمئنين. فقال :( والله جعل لكم من بيوتكم سكنا )، البيوت للناس سكن لهم ؛ إذ يأوون إليها ويستترون بها، وتمسك فيها جوارحهم عن الحركة والنصب، وتهدأ فيها نفوسهم وأعصابهم، فتجد فيها الراحة والأمن والاستقرار.
قوله :( وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا )، أي : تتخذون من الأدم المستفاد من جلود الأنعام بيوتا كالخيام والقباب والفساطيط.
قوله :( تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم )، ( ظعنكم )، من الظعن، وهو : الارتحال. ويقال للمرأة : ظعينة. ويقال : الظعينة بمعنى الهودج، سواء كان فيه امرأة أم لا. والجمع ظعائن وظعن، بضمتين١. وهذا النوع من البيوت يمكن نقله وتحويله من مكان إلى آخر، في خفة وسرعة ويسر ودون عناء وجهد كبيرين سواء في الترحل أو الحل. وهو قوله :( تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم )، أي : يخف عليكم حمل هذه البيوت في سفركم منتجعين تطلبون الكلأ والماء، ومتحولين من مكان إلى مكان. وكذلك :( ويوم إقامتكم )، أي : يوم قراركم في منازلكم. والمراد : أن هذه البيوت خفيفة عليكم في أوقات الحضر مثل خفتها في أوقات السفر.
قوله :( ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين )، الضمير عائد إلى الأنعام. والأصواف للضأن. والأوبار للإبل، والأشعار للمعز ؛ فقد جعل الله لعباده من الأصواف والأوبار والأشعار ( أثاثا ومتاعا )، الأثاث : متاع البيت من الفرش والبسط والأكسية والثياب ونحو ذلك مما يُتمتع به. والمتاع : الزينة، أو ما يتمتعون به، ( إلى حين )، أي : حين البلا. وقيل : إلى حين الموت.
١ - المصباح المنير جـ٢ ص ٢٢ ومختار الصحاح ص ٤٠٤..
قوله :( والله جعل لكم مما خلق ظلالا )، الظلال، جمع ظل : وهو كل ما يستظل به من شجرة ونحوها. وقد يستظل كذلك بالغمام أو السحاب١.
والظل الرخي الرطيب بفيئة الوارف المرغوب يحتاجه المسافرون والراحلون من مكان إلى آخر في ساعات الهجير حيث استعار الشمس والحرور، فيدركون عندئذ أن الظل نعمة أيما نعمة. على أن خلْق الظل في ذاته لا جرم دليل على قدرة الصانع، الذي أوجد في مركبات الطبيعة خواصها، فجعل فيها الحرارة والبرودة والظل الظليل.
قوله :( وجعل لكم من الجبال أكنانا )، الأكنان، والأكنة، جمع ومفرده كنان بالكسر. وهو وقاء كل شيء وستره. واستكن، استتر. كن الشيء، أي : ستره وصانه من الشمس. وأكنه في نفسه ؛ أي : أسرّه. والكن بالضم، بمعنى : الستر. والأكنة : الأغطية٢. والله يمن على عباده أن جعل لهم من الجبال أماكن يسكنون بها ويستترون، وذلك كالغيران والكهوف والبيوت المنحوثة. جعلها الله عدة للناس عند الحاجة، فيأوون إليها ويتحصنون بها من الرياح والمطر والحر، ويعتزلون بداخلها عن الناس. وها هو رسول رب العالمين، سيد الأولين والآخرين عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم قد أوى إلى كهف في حراء للتحنث٣، ثم من بعده في ثور في طريقه مهاجرا إلى مكة.
قوله :( وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر )، السرابيل، جمع ومفرده السربال، وهو القميص المتخذ من القطن أو الكتان أو الصوف. وقد اكتفى بذكر الحر في الآية ؛ لأن العلم بأحد الضدين وهو الحر، يستلزم العلم بالضد الآخر وهو البرد.
قوله :( وسرابيل تقيكم بأسكم )، البأس معناه الشدة. والمراد بها ههنا : شدة الطعن والضرب والرمي. والسرابيل التي تدرأ أذى المعتدين عمن يلبسها، يراد بها : الدروع من الحديد. وهذا يدل على اتخاذ العدة للجهاد للاستعانة بها على قتال الأعداء. ولا مساغ للمسلم أن يستسلم للهوان والطعن والضرب من غير أن يحتاط لنفسه تمام الحيطة، وأن يتخذ لذلك عدته من لبس لأمة٤ الحرب.
قوله :( كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون )، الكاف في اسم الإشارة، صفة لمصدر محذوف ؛ أي مثل ذلك الإتمام يتم الله نعمته عليكم. فمثل ما خلق هذه الأشياء لكم وأنعم بها عليكم ؛ فإنه يتم عليكم نعمة الدنيا والدين، ( لعلكم تسلمون ) بضم التاء، وهو قول أكثر المفسرين ؛ أي : تخلصون لله الربوبية، وتستسلمون لأمره، وتبادرون لطاعته شكرا لنعمه عليكم.
١ - مختار الصحاح ص ٤٠٥..
٢ - مختار الصحاح ص ٥٨٠ والقاموس المحيط جـ٤ ص ٢٦٦..
٣ - التحنث معناه التعبد. انظر المصباح المنير جـ١ ص ١٦٦..
٤ - اللأمة: أداة الحرب كلها، من رمح وبيضة، ومغفر وسيف ودرع. انظر المعجم الوسيط جـ٢ ص ٨١١..
قوله :﴿ فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين ﴾، إن أعرضوا عن دعوة الله بعد ما تبين لهم أنها الحق، وأبوا إلا اللجوج في الشرك، ومتابعة الآباء والأجداد في كفرهم وعصيانهم ونكولهم عن عقيدة التوحيد، وبعد الذي بيناه لهم من الدلائل والبراهين، فما عليك بعد ذلك من بأس. إن عليك إلا التبليغ، وعلى الله الحساب.
قوله :( يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها )، اختلف المفسرون في المراد بنعمة الله. فقد قيل : جميع ما ذكر الله في الآيات المتقدمة من أنواع النعم ؛ فهم يعرفونها ويقرون بجزيل منافعها، وهم مع ذلك ينكرونها ؛ إذ يقولون : إنهم ورثوا ذلك عن آبائهم. وقيل : يعرفون نعمة الله بتمتعهم فيها، وينكرونها بترك الشكر عليها. وقيل : يعرفونها بأقوالهم وينكرونها بأفعالهم. وقيل : يعرفونها بقلوبهم ويجحدونها بألسنتهم.
قوله :( وأكثرهم الكافرون )، عبّر بالأكثر عن الكل ؛ فكلهم جاحدون لنعم الله، أو كافرون به. وقيل : أراد بالأكثر العقلاء، وهم المكلفون دون الأطفال والمجانين١.
١ - تفسير الطبري جـ١٤ ص ١٠٤ وفتح القدير جـ٣ ص ١٨٤ وتفسير الرازي جـ٢٠ ص ٩٥-٩٧ والكشاف جـ٢ ص ٤٢٢..
قوله تعالى :﴿ ويوم نبعث من كل أمة شهيدا ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون ( ٨٤ ) وإذا رأى الذين ظلموا العذاب فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون ( ٨٥ ) وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعو من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون ( ٨٦ ) وألقوا إلى الله يومئذ السلم وضل عنهم ما كانوا يفترون ( ٨٧ ) الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون ( ٨٨ ) ﴾ بعد أن ذكر نعمه الكثيرة على العباد، شرع سبحانه في التهديد بأحداث يوم القيامة وما يقع فيها من نوازل وبلايا جسام يزدجر بها كل ذي قلب سليم وفطرة كريمة مستقيمة. أما التائهون الجاحدون من أولي القلوب الغُلْف والطبائع البُور ؛ فإنهم سادرون في الغي والعمى فلا يعتبرون ولا يرشدون.
وفي هذه المعاني الربانية الحافلة بالوعيد المرعب يقول سبحانه :( ويوم نبعث من كل أمة شهيدا )، يوم منصوب بفعل محذوف. وتقديره : واذكر يوم نبعث١. المراد بالشهيد النبي ؛ فإنه يوم القيامة يُجاء في كل أمة بنبيها ليشهد عليهم بالإنكار والجحود. والنبي في ذلك صدوق ومؤتمن لا يشهد إلا بالحق، فيشهد عليهم أنهم كانوا كافرون.
قوله :( ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون )، أي : لا يؤذن للكافرين يوم القيامة في الاعتذار والكلام أو الرجوع إلى الدنيا حيث التوبة والتكليف، بل إنهم جميعا ساكتون وجلون خزايا، ( ولا هم يستعتبون )، الاستعتاب : طلب العتاب، أو العتب وهو الموجدة. والاسم العتبى. استعتبه فاعتبه ؛ أي : استرضاه فأرضاه ( ولا هم يستعتبون )، أي : لا يطلب منهم العتبى. ومعناه الطاعة أو الرجوع إلى ما يرضي الله٢.
١ - الدر المصون جـ٧ ص ٢٧٧..
٢ - تفسر الرازي جـ٢٠ ص ٩٨ ومختار الصحاح ص ٤١٠ والدر المصون جـ٧ ص ٢٧٨.
.

قوله :﴿ وإذا رأى الذين ظلموا العذاب فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون ﴾، إذا عاين المشركون النار ودخلوا فيها ذاقوا حرارة جهنم، الحرارة الدائمة اللاهبة التي لا تنطفئ ولا تخفف، ( ولا هم ينظرون )، أي : ليسوا بممهلين ؛ إذ لا إنظار حينئذ ولا إمهال، بل عذاب حارق واصب لا يخفف ولا يُفترّ ولا ينقطع.
قوله :( وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك )، يؤتى يوم القيامة بالمعبودين من أصنام وأوثان وطواغيت ومعهم أتباعهم الذين عبدوهم من دون الله، فيقول الأتباع لربهم : هؤلاء شركاؤنا في الكفر بك، عبدناهم من دونك. يقولون ذلك في ذلة ووجل يوم القيامة ؛ ليكبكبوا بعد ذلك في النار ؛ وإذ ذاك لا تغنيهم الآلهة المصطنعة من أصنام وأوثان وطواغيت على اختلاف أشكالها ومسمياتها، لا يغنيهم شيء من ذلك البتة. وليس بعد ذلك إلا السقوط في دركات الجحيم.
قوله :( فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون )، ينطق الله حينئذ الأصنام والأوثان التي لا تنطق لتكذب عبدتها من المشركين ؛ إذ يقولون : إنكم أيها المشركون لكاذبون ما كنا ندعوكم إلى عبادتنا. وذلك زيادة في هوان المشركين يوم القيامة وافتضاحهم.
قوله :( وألقوا إلى الله يومئذ السلم )، أي : استسلم المشركون لحكم الله فيهم بالعذاب، وأقروا بالألوهية والربوبية، ولم تغن عنهم آلهتهم المصطنعة من الأصنام والطواغيت، بل تتبرأ منهم وتتخلى عنهم. ( وضل عنهم ما كانوا يفترون )، أي : ذهب عنهم ما كان الشيطان يزينه لهم من اتخاذ الشركاء مع الله، وما كانوا يؤمّلون من شفاعتهم لهم.
قوله :﴿ الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون ﴾، الكفر في ذاته فظيع وشنيع. وإذا ضُم على الكفر الصد عن سبيل الله، فذلكم أفظع وأشنع. والصد عن سبيله يتناول كل وجوه الفتنة والإضلال عن دعوة الله. سواء كان ذلك بالمال أو النساء أو تقلد المناصب، أو كان ذلك بالترهيب والتخويف، أو التلويح باستعمال القوة والتعذيب من أجل الصد عن دين الله، والحيلولة دون التشبث بالإسلام. وغير ذلك من مختلف الوسائل والأساليب التي برع فيها المجرمون والمتربصون وهم يصدون الناس عن عقيدة الإسلام وتعاليمه. لا جرم أن هذه بمفردها جريمة فظيعة نكراء تضاف إلى جريمة الكفر. وأولئك الصادون عن دين الله قد زادهم الله عذابا فوق العذاب من النار. وفي معنى هذه الزيادة قال ابن مسعود : عقارب لها أنياب كالنخل الطوال، وحيات أمثال البُخْت تأخذ بشفاههم إلى أقدامهم، فيستغيثون منها إلى النار فيقولون : النار النار. وقيل : يخرجون من النار إلى الزمهرير، فيبادرون من شدة برده إلى النار. وقيل غير ذلك. ( بما كانوا يفسدون )، أي : زادهم الله عذابا فوق العذاب بسبب عصيانهم، وبأمرهم غيرهم أن يعصوا الله ويجتنبوا دينه وشرعه١.
١ - تفسير الطبري جـ١٤ ص ١٠٧ وتفسير الرازي جـ٢٠ ص ٩٩، ١٠٠..
قوله :﴿ ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين ( ٨٩ ) ﴾، أي : واذكر يا محمد يوم نبعث في كل أمة من الأمم شهيدا عليهم من جنسهم، وهو نبيهم الذي أرسل إليهم ليشهد عليهم بالجحود والتكذيب، أو يشهد لهم بالإيمان والتصديق. ( وجئنا بك شهيدا على هؤلاء )، أي : جئنا بك يا محمد شاهدا على أمتك الذين أرسلت إليهم، بماذا أجابوك، وفي ذلك من التخويف والتحذير والتنذير ما لا يخفى.
قوله :( ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء )، أي : نزلنا عليك القرآن بيانا لكل ما يحتاج إليه الناس من معرفة أمور دينهم ودنياهم من الحلال والحرام، أو الحق والباطل، أو الخير والشر. على أن القرآن فيه البيان لكثير من الأحكام والأخبار، وما بقي فهو مما يناط بالنبي ( ص ) بيانه في سنته، وما كان غير ذلك من أحوال الشريعة كالقياس والإجماع، وأقوال الصحابة، فمرده جميعا إلى القرآن ؛ فهو بذلك التبيان لكل شيء ( هدى ورحمة )، فهو هداية لمن اتبعه من الضلال. فمن اتبع كتاب الله لا يضل ولا يغوى ولا يشقى. وهو كذلك رحمة لمن أيقن أنه حق فالتزم شرعه وأحكامه. ( وبشرى للمسلمين )، القرآن بشرى من الله لكل من آمن به وصدقه واتبع هداه، بأنه له خير الجزاء في الآخرة.
قوله تعالى :﴿ إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون ( ٩٠ ) ﴾.
روي عن عثمان بن مظعون أنه قال : لما نزلت هذه الآية، قرأتها على علي بن أبي طالب ( رضي الله عنه )، فتعجب فقال : يا آل غالب، اتبعوه تفلحوا ؛ فو الله إن الله أرسله ليأمركم بمكارم الأخلاق.
وفي حديث : إن أبا طالب لما قيل له : إن ابن أخيك زعم أن الله أنزل عليه :( إن الله يأمر بالعدل والإحسان )، قال : اتبعوا ابن أخي ؛ فو الله إنه لا يأمر إلا بمحاسن الأخلاق. وقيل : قرأ النبي ( ص ) على الوليد بن المغيرة :( إن الله يأمر بالعدل والإحسان )، إلى آخر الآية. فقال : يا ابن أخي أعد ! فأعاد عليه فقال : والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أصله لمورق، وأعلاه لمثمر، وما هو بقول بشر !.
وقال عثمان بن مظعون : ما أسلمت ابتداء إلا حياء من رسول الله ( ص ) حتى نزلت هذه الآية وأنا عنده، فاستقر الإيمان في قلبي، فقرأتها على الوليد بن المغيرة فقال : يا ابن أخي أعد، فأعدت فقال : والله إن له لحلاوة... ١.
فهذه آية من الآيات التي يتدفق منها الإعجاز، وتفوح منها ريح الجمال والعذوبة، فضلا عن تزاحم المعاني ما بين أمر ونهي ووعظ وتعقيب. وذلك في غاية التماسك الوثيق، والترابط المحكم المتسق فيما بين الكلمة وما قبلها وما بعدها. وذلك هو الإعجاز ؛ فالله تعالى يأمر في كتابه الحكيم بالعدل. وقيل : العدل معناه : أن تشهد أن لا إله إلا الله. أما الإحسان فمعناه : الصبر على طاعة الله فيما أمر ونهى، سواء في الشدة والرخاء، أو في المكره والمنشط ؛ فتؤدى بذلك فرائضه.
وقيل : المراد بالعدل : القسط ؛ وهو التسوية في الحقوق فيما بين الناس، وإيصال كل ذي حق إلى حقه بعيدا عن الجور والاعتساف، والحكم بالظلم والباطل. أما الإحسان ؛ فهو التفضل وفعل كل مندوب إليه. وتلك هي شريعة العدل والفضل، وهما عنصران يكمل أحدهما الآخر، بما يميز شريعة الإسلام عن سائر الشرائع التي عرفتها البشرية، وذلك هو التوازن المطلق الذي يجتمع فيه العدل بتحصيل الحقوق، والفضل وهو العفو والتسامح في بر ومودة وسخاء. لاجرم أن ذلك خلق المسلمين الأفاضل الذين ترقى طبائعهم فوق حظوظ أنفسهم لتسمو إلى الدرجات من المعالي، فيكونون في عداد الأطهار الأبرار من الناس.
وتستبين صورة التوازن بين العدل والفضل في شريعة الإسلام بمثل قوله عز وعلا :( وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين )، وقوله :( وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله ) وقوله :( والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له )، إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على شريعة العدل والفضل في هذا الدين الكامل.
قوله :( وإيتاء ذي القربى )، ذلك أمر من الله بإعطاء ذوي القرابة ما أوجب الله لهم من الحقوق والصلة.
قوله :( وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي )، ( الفحشاء )، يعني : الزنا، وما يشتد قبحه من الذنوب، وكل ما نهى الله عنه٢. وأما ( المنكر ) : فهو ما أنكره الشرع بالنهي عنه. فهو بذلك يعم سائر المعاصي والمناهي على اختلاف أنواعها. وأما ( البغي )، فهو في الأصل بمعنى التعدي، وكل مجاوزة وإفراط على المقدار الذي هو حد الشيء٣، ومعناه ههنا : الكبر والظلم والعدوان على الناس. وفي الحديث : " ما من ذنب أجدر أن يُعجّل الله عقوبته في الدنيا مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة، من البغي وقطيعة الرحم ".
قوله :( يعظكم لعلكم تذكرون )، أي : يذكركم الله لتتعظوا بمواعظه ؛ وتنيبوا إليه مخبتين مذعنين٤.
١ - تفسير القرطبي جـ١٠ ص ١٦٥ وأسباب النزول للنيسابوري ص ١٨٩..
٢ - القاموس المحيط جـ٢ ص ٢٩٣..
٣ - مختار الصحاح ص ٥٨..
٤ - تفسير ابن كثير جـ٢ ص ٥٨٢ وتفسير القرطبي جـ١٠ ص ١٦٥-١٦٨..
قوله تعالى :﴿ وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون ( ٩١ ) ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به وليبين لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون ( ٩٢ ) ﴾، هذا أمر من الله للمؤمنين بالوفاء بالعهود والعقود والمواثيق والأيمان مما عقد باللسان أو خطه القلم. فما كان من ذلك فقد وجب التزامه دون نقض أو تفريط. فقال سبحانه :( وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم )، والعهد، معناه في الأصل : الأمان واليمين، والموثق والذمة، والحفاظ والوصية١.
فكل ذلك قد أوجب الإسلام الوفاء به تماما. وأيما تقصير في ذلك أو مماحلة أو تفريط، فليس إلا الخيانة والغدر. وهذا واحد من معاني الإسلام وقيمه العليا في ترسيخ مكارم الأخلاق ؛ ليكون الناس بذلك أوفياء مؤتمنين حق الائتمان، فلا يخونون ولا يغشون ولا يخادعون مهما تكن الظروف.
فما يزيغ المسلم عن شيمة الوفاء بالعهد. فلا يخادع ولا ينقض الميثاق أو العهد الذي بينه وبين غيره من المؤمنين والكافرين. لا يزيغ – كما علمه الإسلام- عن قاعدة الإخلاص والصدق والوفاء، كما يزيغ غير المسلمين من الذين يبررون الوسائل كيفما كانت للوصول إلى غاياتهم ومقاصدهم ؛ فهم بذلك يكذبون وينافقون ويخادعون ويتلصصون لبلوغ مآربهم وأهوائهم. فما تتاح لهم فرصة حتى يقلبوا لمواثيقهم وعهودهم ظهر المجن فينقضوها نقضا. أما المسلمون : فإنهم صادقون أوفياء ثابتون على عهودهم مع الناس ؛ لأنهم توطنت أنفسهم على قيم الإسلام ومعانيه الفضلى في الوفاء والبر ونبذ المراوغة والكذب.
وقد قيل : نزلت هذه الآية في بيعة النبي ( ص ) على الإسلام. وقيل : نزلت في التزام الحِلْف الذي كان في الجاهلية، وجاء الإسلام بالوفاء به، فقد روي في الصحيح : " وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة ". والمراد بالشدة : ما كان في نصرة الحق ومواساة المكروبين. ونظير ذلك حلف الفضول ؛ إذ اجتمعت قبائل من قريش في دار عبد الله بن جُدعان لشرفه ونسبه، فتعاقدوا وتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها أو غيرهم إلا قاموا معه حتى ترد عليه مظلمته، فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول، أي : حلف الفضائل. وفيه قال رسول الله ( ص ) : " لقد شهدت في دار عبد الله ابن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حُمْر النّعم، لو أدعى به في الإسلام لأجبت ".
على أن الحلف الذي كان في الجاهلية قد شدّه الإسلام وحضّ على الوفاء به، وخصه النبي ( ص ) فيما رواه أحمد عن جبير بن مطعم : " لا حلف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية فإنه لا يزيده الإسلام إلا شدة. " وذلك يعني أنه لا يُحتاج في الإسلام إلى الحلف الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه ؛ فقد جاء الشرع بالانتصار من الظالم وأخذ الحق منه، ودفع المظالم عن المظلومين. وفي الصحيح : " انصر أخاك ظالما أو مظلوما. " قالوا : يا رسول الله، هذا ننصره مظلوما، فكيف ننصره ظالما ؟ قال : " تأخذ على يديه. " وفي رواية : " تمنعه من الظلم ؛ فإن ذلك نصره. " وفي الخبر : " إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده ".
قوله :( ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها )، ( تنقضوا ) : من النقض وهو ضد الإبرام٢. و ( الأيمان ) : جمع يمين : وهو القسم، فقد كانوا يتماسحون بأيمانهم فيتحالفون. وجمعه أيضا أيمن ؛ وايمُ الله وايمنُ الله ؛ أي : ايمن الله قسمي٣ ( توكيدها )، التوكيد مصدر وكد يؤكد، بالواو والتشديد٤.
والمعنى : لا تخالفوا ما تعاقدتم عليه الأيمان بعد توثيقها وتأكيدها. والمراد أيمان البيعة على الإسلام، أو مطلق الأيمان. ( وقد جعلتم الله عليكم كفيلا )، في محل نصب على الحال من فاعل ( تنقضوا )، أي : لا تبطلوا أيمانكم بعد ما جعلتم الله شاهدا ورقيبا على ما تعاقدتم عليه.
قوله :( إن الله يعلم ما تفعلون )، ذلك تحذير للمسلمين وتخويف من مغبة الغدر ونقض الأيمان بعد توثيقها ؛ فإنه عز وعلا يعلم ما يفعلونه في أيمانهم ومواثيقهم من صدق أو كذب. ومن وفاء أو خيانة. وهو مُسائلهم عن كل ذلك ومجازيهم.
١ - مختار الصحاح ص ٤٦٠..
٢ - القاموس المحيط ص ٨٤٦..
٣ - القاموس المحيط ص ١٦٠٢..
٤ - الدر المصون جـ٧ ص ٢٨٠..
قوله :( ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا )، ( أنكاثا )، حال من ( غزلها )، وقيل : مفعول ثان للفعل ( نقضت ) أي صيرت غزلها أنقاضا. والأنكاث جمع نكث بكسر النون ؛ أي : منكوث، بمعنى : منقوض١ ؛ والمعنى : أن الله ينهى عباده المؤمنين عن نقض الأيمان بعد توكيدها. فنقضها حرام ؛ لأنه غدر وخيانة وسوء في الخلق يتلبس به الناقضون للعهود والأيمان. والله جل وعلا يحذر المؤمنين من نقض عهودهم وأيمانهم بعد إبرامها وتوثيقها، كيلا يكونوا في ذلك نظراء لامرأة ضالة حمقاء تنقض غزلها بعد إبرامه وإحكامه. ولا يجترئ على نكث العهد أو العقد أو اليمين إلا السفيه الأحمق.
وقيل : إن التي كانت تفعل ذلك امرأة حمقاء خرقاء معروفة بمكة، كانت تنقض غزلها عقب إبرامه، فكلما عقدته نكثته.
والصواب : أن الآية تفيد عموم التحذير والنهي عن نكث العهود والمواثيق. وإنما هذا مثل ضربه الله لناقض العهد أو اليمين ؛ إذ شبهه بامرأة تنقض غزلها بعد إحكامه وتقويته، لغير مصلحة ولا جدوى إلا الحماقة والسفه.
قوله :( تتخذون أيمانكم دخلا بينكم )، الجملة في محل نصب حال من :( أنكاثا )، ( دخلا )، مفعول ثان لقوله :( تتخذون )، وقيل : مفعول لأجله. والدخل، بالتحريك، ما داخلك من فساد في عقل أو جسم، ويعني أيضا : الغدر والمكر والخديعة٢. والمراد : أنكم تجعلون أيمانكم التي حلتم بها لمن عاقدتموهم من الناس ( دخلا بينكم )، أي : خديعة وغرورا، لكي يطمئنوا إليكم، وأنتم تخفون لهم في أنفسكم الغدر وعدم الوفاء لهم بالعهد، والانتقال إلى قوم آخرين لكونهم أكثر عددا منهم. وهو قوله :( أن تكون أمة هي أربى من أمة )، أي : بسبب أن تكون، أو مخافة أن تكون جماعة أزيد عددا من جماعة، أو ناس أكثر من ناس. وقد قيل : كانوا يخالفون الحلفاء فيجدون غيرهم أكثر منهم مالا وأعز نفرا وأزيد عددا، فينقضون حلف هؤلاء ويحالفون هؤلاء لقوتهم وكثرتهم. وذلك خلق الأرذال والخائنين والخائرين من الناس الذين لا تمسكهم عقيدة ولا يشدهم عهد أو ميثاق، لكنهم سجيتهم الغدر والخداع ونقض العهود كلما سنحت الظروف ليجنحوا إلى حلفاء أقوياء جدد. أولئك هم الأرذلون المنافقون الذين يلهثون خلف الأهواء والمفاسد من خسائس الأغراض والمنافع. لكن المسلمين شيمتهم الثبات على العقيدة والمبدأ ودوام التلبس بخلق الإسلام في رعي العهود وصون الأيمان والمواثيق، والثبات على الحق والفضيلة في كل الأحوال والأزمات دون زيغ أو انحراف أو اضطراب مهما تكن الظروف من الشدة واحتدام البأس والكروب. وقوله :( تكون )، فعل تام، و ( أمة )، فاعله. أو فعل ناقص، و ( أمة )، اسمها. وخبرها ( أربى ) ٣.
قوله :( إنما يبلوكم الله به )، الضمير في قوله :( به )، يعود على المصدر من ( أن تكون )، والتقدير : إنما يبلوكم الله بكون أمة ؛ أي : يختبركم الله بكونهم أربى منكم، لينظر أتصبرون على الثبات على الحق والوفاء بعهد الله وما وكدتم من الأيمان، أم أنكم تغترون بكثرة المشركين وقلة المسلمين وفقرهم، فتميلون إلى عدو الله وعدوكم وهم المشركون.
قوله :( وليبين لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون )، لسوف يبين الله للناس إذا جيء بهم يوم القيامة ما كانوا يختلفون فيه في الدنيا ؛ إذ كان المؤمنون يقرون بوحدانية الله ويصدقون المرسلين وخاتمهم محمد بن عبد الله عليه وعليهم صلوات الله وسلامه، وكان المشركون والظالمون يجحدون الرسالات جميعا أو بعضها ؛ فقد جحدت يهود بعض النبيين، من بينهم : محمد والمسيح عليهما الصلاة والسلام. وجحدت النصارى نبوة الرسول الأعظم خاتم النبيين والمرسلين عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم. لكن المسلمون صدقوا النبيين أجمعين وأيقنوا أنهم جميعا على الحق وأنهم قد أوحي إليهم. وكذلك كان اختلاف الناس في الدنيا. ويوم القيامة يلاقون الجزاء ليجد كل فريق منهم سبيله إما إلى النعيم، وإما إلى الجحيم٤.
١ - الدر المصون جـ ٢٨١..
٢ - القاموس المحيط ص ١٢٩..
٣ - الدر المصون جـ٧ ص ٢٨١..
٤ - تفسير الطبري جـ١٤ ص ١١٠- ١١٣ وتفسير النسفي جـ٢ ص ٢٩٨ وتفسير البيضاوي ص ٣٦٥..
قوله تعالى :﴿ ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولتسألن عما كنتم تعملون ( ٩٣ ) ﴾، لو أراد الله أن يجعل الناس على ملة واحدة أو دين واحد، وهو الإسلام، لجعلهم، لكن الله يضل من علم منه اختيار الضلالة، ويهدي من علم منه اختيار الهداية. قوله :( ولتسألن عما كنتم تعملون )، ذلك تأكيد من الله على أنه سائل الناس جميعا يوم القيامة، فمحاسبهم على أعمالهم، ليجزي المؤمنين الطائعين حسن الجزاء، ويجزي الجاحدين والفاسقين والمسيئين العذاب.
قوله تعالى :﴿ ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم ( ٩٤ ) ولا تشتروا بعهد لله ثمنا قليلا إنما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون ( ٩٥ ) ما عندكم ينفذ وما عند الله باق ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ( ٩٦ ) ﴾، كرر النهي عن اتخاذ الأيمان من أجل الخديعة وعلى سبيل المكر، لفظاعة هذه الخطيئة وشدة نكرها ؛ إذ تخفون في أنفسكم قصد الخيانة والغدر ونقض العهد مع الآخرين، ( فتزل قدم بعد ثبوتها )، ( فتزل ) : منصوب بإضمار أن على جواب النهي١، أي : فتضلوا وتزيغوا عن محجة الإسلام بعد ثبوتكم عليها. وقد وحّد القدم ونكرها كما قال الزمخشري : لاستعظام أن تزل قدم واحدة عن طريق الحق بعد أن ثبتت عليه، فكيف بأقدام كثيرة ؟ !.
قوله :( وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله )، أي : يذيقكم الله العذاب الذي يعذب به العصاة في الدنيا بسبب ذنوبهم ومعاصيهم، ( بما صددتم عن سبيل الله )، ما، مصدرية. وصددتم من الصدود، أي : بسبب صدودكم عن محجة الله وخروجكم عن دينه. أو من الصد، ومفعوله محذوف، أي : بسبب صدكم غيركم عن ملة الإسلام٢، فهم بنقضهم أيمان البيعة على الإسلام وارتدادهم يفتنون الناس ويغرونهم بمجانبة الإسلام والصدود عنه.
قوله :( ولكم عذاب عظيم )، وهو عذاب النار يوم القيامة. ويستفاد من مفهوم هذه الآية أن المراد بذلك الذين بايعوا رسول الله ( ص ) على الإسلام ونهوا عن مفارقة الإسلام لقلة أهله وكثرة المشركين.
١ - الدر المصون جـ٧ ص ٢٨٢..
٢ - نفس المصدر السابق..
قوله :( ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا )، أي : لا تنقضوا عهودكم وعقودكم التي عاقدتم عليها لتبتغوا بنقضها عرضا قليلا من أعراض الدنيا بسفاسفها الخسيسة، وحطامها الحقير الداثر، ولعاعاتها المهينة الفانية. لا جرم أن الدنيا بأموالها وزخارفها ومباهجها ومظاهرها وزينتها اللامعة ليست إلا المتاع القليل، وكفى دليلا على قلة الدنيا وهوانها أن المرء فيها ما يلبث أن يأتي عليه الردى والمنون ليمضي إلى ظلمة القبر راغما مقهورا.
قوله :( إنما عند الله هو خير لكم )، ما أعده الله لكم من حسن الجزاء وعظيم الثواب على الوفاء بما عاهدتم الله عليه لهو أنفع لكم وأدوم. فجزاء الأوفياء الصادقين الجنة، وهي نعيمها كريم ودائم لا ينقطع. ( إن كنتم تعلمون )، أي : تعلمون البون الهائل الشاسع بين العوضين. العوض الذي أعده الله للأوفياء الصادقين الذين يرعون العهود والمواثيق. فجزاؤهم بذلك الرضوان من الله والجنة. والعوض المهين، أو الثمن القليل الذي يتلقاه الغادرون المخادعون في مقابلة نقضهم لما عاهدوا الله عليه وانحيازهم إلى صفوف المشركين الظالمين.
قوله :( ما عندكم ينفد وما عند الله باق )، ( ما عندكم )، مبتدأ، وخبره ( ينفد ). والنفاد معناه الذهاب والفناء. ونفد، بالكسر، ينفد، بالفتح، نفادا ونفودا١. وذلك إعلان رباني داو يثير الأذهان ويبعث على طول التدبر والاعتبار. وجملة ذلك : أن ما عندكم أيها الناس من مال وزخرف وزينة على اختلاف صورها وأشكالها وضروبها ؛ فإنه داثر زائل. والأصل في ذلك أن هذه الدنيا بكليتها وبما حوته من أموال وخيرات تشتهيها الأنفس ليست إلا الحطام الذي سيفضي لا محالة إلى الفناء. لكن ما عند الله من جزاء أعده لعباده المؤمنين الصادقين الأوفياء لهو الدائم الباقي.
قوله :( ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون )، أي : ليثيبن الله الذين صبروا على الفاقة وأذى الكافرين، وعلى طاعة ربهم والتزام شرعه وأحكامه يوم القيامة بجزاء أحسن من أعمالهم. أو بأحسن ما كانوا يعملون من الأعمال دون أسوئها٢.
١ - الدر المصون جـ٧ ص ٢٨٤..
٢ - تفسير الطبري جـ١٤ ص ١١٣- ١١٥ والدر المصون جـ٧ ص ٢٨٤ وتفسير البيضاوي ص ٣٦٥..
قوله تعالى :( من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينّه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ( ٩٧ ) }، ذلك إعلان كذلك يبين الله فيه للعالمين أن من يعمل من الناس- ذكرا أو أنثى-، عملا صالحا فيه الطاعة لله، ( وهو مؤمن )، الجملة في موضع نصب على الحال١ ؛ أي : حال كونه مؤمنا بالله وكتبه ورسله وملائكته، مصدقا بقضاء الله وقدره واليوم الآخر. وهذا دليل أبلج على شرط القبول للأعمال، وهو الإيمان المستقيم الصحيح. وعلى هذا لا وزن ولا قيمة للعمل المقترن بالكفر أو النفاق أو الرياء، فلا يقبل من الأعمال إلا ما كان منها خالصا لله.
قوله :( فلنحيينه حياة طيبة )، لسوف يحيي الله المؤمن المخلص حياة طيبة. وقد اختلف العلماء في المراد بالحياة الطيبة. فقد قيل : الرزق الطيب الحلال، وقيل : السعادة. وقيل : الجنة. وقيل : القناعة. والصواب من ذلك : أن الله جل وعلا يمتن على عبادة العاملين المخلصين بفيض الإحساس بالرضى والبهجة والاطمئنان. وهكذا يكون المؤمن العامل المخلص ؛ إذ يجد في نفسه من برْد الراحة والقناعة والطمأنينة، ما يجعله مستديم الشعور بالأمن والسكينة والحبور، سواء كان ذا يسار أو إعسار. وثمة حقيقة تضمنتها هذه الآية. وهي استواء الذكر والأنثى في تحصيل الحياة الطيبة، وحسن الجزاء من الله إذ تحقق شرط القبول للأعمال، وهو الإيمان الصحيح المستقيم. فأيما ذكر أو أنثى حسن عمله وهو مؤمن ؛ فإنه في زمرة السعداء والفائزين في الدارين، بغض النظر في ذلك عن اعتبارات الذكورة والأنوثة، أو اختلاف الأجناس والألوان.
قوله :( ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون )، ذلك يوم القيامة، فهم إذا صاروا إلى ربهم جزاهم الله الأجر بأحسن ما كانوا يعملون من الطاعة.
وقيل : إن هذه الآية نزلت بسبب قوم من أهل ملل شتى، تفاخروا فقال أهل كل ملة منها : نحن أفضل، فبيّن الله لهم أفضل أهل الملل. وقيل : جلس ناس من أهل الأوثان وأهل التوراة وأهل الإنجيل. فقال هؤلاء : نحن أفضل. وقال هؤلاء : نحن أفضل، فأنزل الله تعالى :( من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ) الآية٢.
١ - الدر المصون جـ٧ ص ٢٨٤..
٢ - تفسير الطبري جـ ١٤ ص ١١٤- ١١٦ وتفسير النسفي جـ٢ ص ٢٩٩..
قوله تعالى :﴿ فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ( ٩٨ ) إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون ( ٩٩ ) إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون ( ١٠٠ ) ﴾، يعني : إذا أردت أن تقرأ القرآن ( فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم )، وهو المخلوق الجني المتمرد اللعين، المطرود من الرحمة ومن كل خير. والفاء للتعقيب. واستعذ، اطلب اللجوء، أو التجىء، من العوذ، وهو الالتجاء، كالعياذ والمعاذ والتعوذ والاستعاذة. ومعاذ الله ؛ أي أعوذ بالله معاذا١.
ويستفاد من هذه الآية : الأمر بالاستعاذة من الشيطان الرجيم عند قراءة القرآن. وإنما الأمر للندب والاستحباب وليس للزوم. وهو قول الجمهور من أهل العلم ؛ إذ قالوا : إن من قرأ القرآن ولم يستعذ بالله من الشيطان الرجيم قبل أن يقرأ ؛ لم يكن مفرطا في فرض أو واجب.
١ - القاموس المحيط ص ٤٢٨..
قوله :﴿ إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون ﴾، ( سلطانا ) في اللغة، بمعنى : حجة أو قدرة. والمراد به ههنا : التسلط والولاية ؛ أي : ليس للشيطان تسلط أو اقتدار أو ولاية أو حجة على المؤمنين المتوكلين على ربهم ؛ إذ يعتمدون عليه ويفوضون أمرهم إليه في كل الأحوال والأمور والملمات. فينجون بذلك من الوقوع في البلايا والموبقات.
والسبب في أنه ليس الشيطان حجة أو تسلط على المؤمنين المتوكلين، فلا يقدر أن يفتتنهم أو يغويهم : هو الاستعاذة بالله من وسوسات الشيطان وإيحاءاته، وما يفضي إليه ذلك من إغراء وإغواء وفتنة.
والمؤمن المتوكل على الله يلجأ إلى ربه في كل الملمات والنائبات ؛ بل في كل الأحوال والأمور ؛ فيطلب منه العون والتثبيت، ويسأله السلامة والعافية وأن يدرأ عنه كيد الشيطان، ويصونه من وسوساته وإغراءاته.
قوله :( إنما سلطانه على الذين يتولونه )، أي : إنما حجته وتسلطه على الذين يعبدونه أو يطيعونه، ويتخذونه وليا ونصيرا، فيتبعونه في إغوائه، وفي وسوساته.
قوله :( والذين هم به مشركون )، الضمير في قوله :( به ) يعود على ربهم ؛ أي : إنما حجة الشيطان على الذين يتبعونه ويطيعونه، والذين هم بالله مشركون. وقيل : الضمير يعود على الشيطان ؛ أي : والذين هم مشركون بسبب الشيطان١.
١ - تفسير الطبري جـ١٤ ص ١١٦، ١١٧ وتفسير البيضاوي ص ٣٦٦ والدر المصون جـ ٧ ص ٢٨٦..
قوله تعالى :﴿ وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون ( ١٠١ ) قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين ( ١٠٢ ) ﴾ هذه الآية في النسخ، وفيما تقوله المشركون الجاهلون في حقيقته ؛ إذ قالوا : إن رسول الله ( ص ) مفتر على الله في جعل حكم بدل آخر. والنسخ في اللغة بمعنى الإزالة، والإبطال وإقامة الشيء مقام غيره١. والنسخ في الاصطلاح : هو رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر٢، وقد بينا في سورة البقرة حقيقة النسخ في شيء من التفصيل.
أما معنى الآية ههنا فهو : وإذا نسخنا حكم آية فأبدلنا مكانه حكم آية أخرى، ( والله أعلم بما ينزل )، جملة اعتراضية بين الشرط وجوابه ؛ أي الله أعلم بالذي هو أصلح لعباده فيما يبدل ويغير من الأحكام.
قوله :( قالوا إنما أنت مفتر )، جواب إذا. والقائلون هم المشركون الجاحدون يقولون للنبي ( ص ) عقب نسخ حكم من الأحكام :( إنما أنت مفتر )، فقد نسبوا إلى النبي ( ص ) الافتراء بأنواع من المبالغات، وهي : الحصر والخطاب، واسم الفاعل الدال على الثبوت والاستقرار٣ ؛ أي إنما أنت يا محمد متقوِّل تخرص باختلاق الكلام والأحكام من عندك، ( بل أكثرهم لا يعلمون )، مفعول ( يعلمون ) محذوف ؛ أي : بل أكثر هؤلاء القائلين إنك مفتر جهلة سفهاء، لا يعلمون الحكمة البالغة من نسخ الأحكام.
١ - القاموس المحيط ص ٣٣٤..
٢ - المحصول للرازي جـ١ ص ٥٢٦ وإرشاد الفحول للشوكاني ص ١٨٤..
٣ - الدر المصون جـ٧ ص ٢٨٦..
قوله :( قل نزله روح القدس من ربك بالحق )، ( روح القدس ) : جبريل عليه السلام، وقد أضافه إلى القدس وهو الطهر ؛ إظهارا لكرامته وطهره.
أي : قل لهؤلاء الجاحدين المكذبين يا محمد : إن هذا القرآن قد نزل به جبريل الأمين من عند الله ( بالحق )، يعني : متلبسا بالحكمة والهداية والنور.
قوله :( ليثبت الذين آمنوا )، أي : نزل هذا القرآن ناسخه ومنسوخه من ربك تثبيتا للمؤمنين على الإيمان والتصديق بأن هذا القرآن كلام الله، وأنهم إذا سمعوه أيقنوا أنه حق، ( هدى وبشرى للمسلمين )، ( هدى وبشرى )، معطوفان على محل ( ليثبت )، فينصبان، أي : تثبيتا وهداية وبشارة١ ؛ فهو هداية للمؤمنين من الضلال، ( وبشرى للمسلمين ) الذين استسلموا لأمر الله وأذعنوا له خاضعين طائعين٢.
١ - الدر المصون جـ٧ ص ٢٨٦..
٢ - تفسير النسفي جـ٢ ص ٣٠٠ وتفسر البيضاوي ص ٣٦٦..
قوله تعالى :﴿ ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين ( ١٠٣ ) إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله ولهم عذاب أليم ( ١٠٤ ) إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون ( ١٠٥ ) ﴾، زعم المشركون – سفها وغلوا في الجاهلية- أنه يعلم محمدا ( ص ) هذا القرآن أحد الناس ؛ فقد قيل : كان اسمه بلعام، وهو عبد نصراني، كان بمكة وكان أعجمي اللسان. وقيل : كان اسمه عائش، أو يعيش، وكان غلاما لحويطب، قد أسلم وحسن إسلامه. وقيل : اسمه جبر، وهو غلام رومي لعامل بن الحضرمي، زعم المشركون أنه يعلم النبي القرآن، ومثل هذا الزعم باطل وظالم وهراء. وهو تقول فاسد وسقيم لا يهرف به إلا جحود مفلس، أو ضال موغل في الجهالة والسفه. فكيف يتلقى النبي ( ص ) هذا القرآن العربي المميز الفذ بكلامه وآياته وعباراته التي خلبت العقول والألباب، وبهرت الأذهان والنفوس، واستحوذت على نوابغ البيان واللسان أيما استحواذ، - كيف يتلقى النبي هذا الكلام العجيب من أعجمي جهول لا ينطق العربية إلا بتكلف ؟ !
وذلك هو قوله تعالى :( ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين )، اللسان، معناه : اللغة، وهو مبتدأ، وخبره ( أعجمي ). والأعجمي : من لم يتكلم بالعربية، وهو المنسوب إلى العجم. والأعجم : من في لسانه عجمة، عربيا كان أو غير عربي، أو هو من لا يفصح كالأعجمي والأخرس. والعجمي، من جنسه العجم وإن أفصح، وجمعه عجم. وقيل للبهيمة : عجماء : من حيث إنها لا تبين١. و ( الذي يلحدون )، أي : يميلون إليه. لحد، وألحد، بمعنى : مال وعدل، ومارى وجادل وظلم٢.
والمعنى : أن لغة الذي يميلون إليه بأنه يعلم محمدا القرآن، لسانه أعجمي غير بين، وهذا القرآن لسان عربي في غاية البيان والفصاحة. وبذلك فإن زعمهم هذا لا يستقيم ولا يساوي في ميزان الحقيقة والمنطق شيئا، ولا يدل على غير اليأس والإفلاس، وبالغ الجحود والسفه.
١ - القاموس المحيط ص ١٤٦٦ والدر المصون جـ ٧ ص ٢٨٧..
٢ - القاموس المحيط ص ٤٠٤..
قوله :﴿ إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله ولهم عذاب أليم ﴾، ذلك وعيد من الله غليظ للذين لا يصدقون بآيات الله وهو القرآن، ويجحدون أنه من كلام الله، وأنه ليس له في سمو البيان نظير. ( لا يهديهم الله )، لا يوفقهم الله للحق أو الهداية، وسوف يردون يوم القيامة إلى العذاب الوجيع الأليم جزاء تكذيبهم وعنادهم وعتوهم.
قوله :﴿ إنما يفترى الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون ﴾، إنه لا يفترى الكذب ولا يتخرص الباطل إلا الذين لا يصدقون بآيات الله وحججه الساطعة. فأولئك هم الأفاكون الخراصون الدجاجلة، الذين يكذبون القرآن، وهو الكلام الباهر المعجز الحق الذي لا يأتيه أيما باطل من بين يديه ولا من خلفه. وهم مع ذلك كله يستنكفون عن التصديق بكتاب الله، وينفتلون عنه مدبرين مكابرين عتاة. أولئك هم أهل الفرية والتخريص والباطل. وأولئك هم الكذابون المضلون وهم يتيهون منتشرين في كل مكان وزمان، لا يبرحون الجحود والافتراء، والكيد للقرآن والمؤمنين به١.
١ - تفسير الطبري جـ١٤ ص ١٢٠، ١٢١ وتفسير النسفي جـ٢ ص ٣٠٠..
قوله تعالى :﴿ من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ( ١٠٦ ) ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين ( ١٠٧ ) أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون ( ١٠٨ ) لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون ( ١٠٩ ) ﴾. ( من كفر بالله )، بدل من ( الذين لا يؤمنون )، وما بينهما اعتراض. أو بدل من الإشارة :( أولئك )، أو من قوله :( الكاذبون )، أو مبتدأ وخبره محذوف دل عليه قوله :( فعليهم غضب )، وقيل : منصوب على الذم، وهو قول الزمخشري١. وروي في سبب نزول هذه الآية أن قريشا أكرهوا عمارا وأبويه ياسرا وسمية على الارتداد، فربطوا سمية بين بعيرين وجيء بحربة في قُبُلها، وقالوا : إنك أسلمت من أجل الرجال، فقتلت، وقتلوا ياسرا، وهما أول قتيلين في الإسلام، أما عمار فأعطاهم بلسانه ما أرادوا مكرها. فقيل : يا رسول الله إن عمارا كفر فقال : " كلا، إن عمارا ملئ إيمانا من فوقه إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه. " فأتى عمار رسول الله ( ص ) وهو يبكي، فجعل رسول الله ( ص ) يمسح عينيه فقال :: مالك ؟ إن عادوا لك فعد لهم بما قلت ". وهو يدل على جواز التكلم بالكفر عند الإكراه، وإن كان الأفضل اجتنابه ؛ إعزازا لدين الله، وإظهارا للحق كما فعله أبواه ياسر وسمية ؛ فقد روي أن مسيلمة أخذ رجلين فقال لأحدهما : ما تقول في محمد ؟ قال : رسول الله. قال : فماذا تقول فيّ ؟ فقال : أنت أيضا، فخلاه، وقال للآخر : ما تقول في محمد. قال : رسول الله. قال : فما تقول فيّ قال : أنا أصم. فأعاد عليه ثلاثا، فأعاد جوابه فقتله، فبلغ ذلك رسول الله ( ص ) فقال : " أما الأول فقد أخذ برخصة الله. وأما الثاني فقد صدع بالحق، فهنيئا له " ٢.
قوله :( إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان )، أي : من كفر فتكلم بالكفر بلسانه، وقلبه مؤمن بالإيمان لينجو من بلاء خطير حل به ؛ فلا حرج عليه في ذلك ؛ لأن الله يؤاخذ العباد بما تعمدت قلوبهم، ويعفو لهم عن الظاهر المخالف لما يكنه القلب. لاجرم أن ذلك فضل من الله عظيم، ورحمة منه بالغة وواسعة يفيض بها على المكروبين والمقهورين والمكرهين، فينجون من المساءلة والحساب.
قوله :( ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ) لكن. استدراك٣ ؛ أي : من أتى الكفر مختارا راغبا وقد طاب به نفسا، غير مكره ولا مستحسر ؛ فأولئك عليهم من الله غضب، وهم صائرون يوم القيامة إلى العذاب العظيم وهي النار.
١ - الدر المصون جـ٧ ص ٢٨٨ وتفسير البيضاوي ص ٣٦٧..
٢ - تفسير البيضاوي ص ٣٦٧..
٣ - الدر المصون جـ٧ ص ٢٩٠..
قوله :﴿ ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين ﴾ الإشارة، إلى ما ذكر من الغضب والعذاب، أي : حل بهؤلاء الجاحدين المكذبين من غضب الله ووجب لهم العذاب العظيم بسبب اختيارهم زينة الحياة الدنيا وحطامها الداثر على ما أعده الله للمؤمنين المتقين من نعيم مقيم في الآخرة ؛ ولأن الله يجعل التوفيق للذين يجحدون آياته معاندين مستكبرين.
قولهم :( أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم )، هؤلاء المشركون الذين بيّن الله صفتهم في هذه الآيات هم الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم، أي : ختم عليها، فصاروا لا يعتبرون ولا يتدبرون ولا يسمعون المواعظ ولا يبصرون الحقائق والآيات ؛ فكأنما هم غُلف وصُم وعُمي، ( وأولئك هم الغافلون ) الساهون عن الحق، اللاهون عن الاتعاظ والاعتبار، السادرون في الغيّ والضلال.
قوله :﴿ لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون ﴾، هؤلاء الجاحدون الغافلون، صائرون يوم القيامة إلى الخسران لا محالة١.
١ - تفسر الطبري جـ١٤ ص ١٢٣ وتفسير البيضاوي ص ٣٦٧..
قوله تعالى :﴿ ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم ( ١١٠ ) يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون ( ١١١ ) ﴾ خبر ( إن ) قوله :( لغفور رحيم )، وقيل : الخبر هو نفس الجار والمجرور بعدها. كما تقول : إن زيدا لك ؛ أي : هو لك لا عليك، بمعنى هو ناصرهم لا خاذلهم١.
ومعنى الآية : إن ربك يا محمد للذين تركوا ديارهم ومساكنهم وعشيرتهم ورحلوا عن كل ذلك إلى ديار الإسلام وولاية المسلمين في المدينة من بعد ما فتنهم المشركون في مكة قبل هجرتهم ؛ إذ عذبوهم وآذوهم وفتنوهم عن دينهم بقول اللسان لا بالقلب، ثم جاهدوا المشركين بعد ذلك وصبروا على جهادهم، وتبرأوا من مقالتهم ؛ إذ نطقوا كلمة الكفر مكرهين، ( إن ربك من بعدها لغفور رحيم )، لقد غفر الله لهم ما كان منهم من نطق للكفر باللسان دون القلب مكرهين وهم يضمرون في أعماقهم الإيمان، والله سبحانه رحيم بهم أيضا ؛ إذ لا يعاقبهم على ذلك ولا يؤاخذهم به.
وقيل : نزلت الآية في قوم من أصحاب رسول الله ( ص ) كانوا قد تخلفوا بمكة بعد هجرة النبي ( ص، ) فاشتد المشركون عليهم حتى فتنوهم عن دينهم فأيسوا من التوبة ؛ فأنزل الله فيهم هذه الآية، فهاجروا ولحقوا برسول الله ( ص ).
وقيل : ناس من أهل مكة آمنوا فكتب إليهم بعض أصحاب رسول الله ( ص ) بالمدينة أن هاجروا فإنا لا نراكم منا حتى تهاجروا إلينا، فخرجوا يريدون المدينة فأدركتهم قريش بالطريق، ففتنوهم وكفروا مكرهين ؛ ففيهم نزلت هذه الآية.
١ - الدر المصون جـ٧ ص ٢٩٢..
قوله :( يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها ) ( يوم ) منصوب برحيم، ولا يلزم من ذلك تقييد رحمته بالظرف ؛ لأن الله يرحم في هذا اليوم وفي كل الأيام. وقيل : منصوب بفعل محذوف تقديره : واذكر١ يوم تأتي كل نفس تخاصم عن نفسها وتحاجّ عنها، وتسعى جاهدة في خلاصها. وحينئذ لا يعبأ كل إنسان إلا بنفسه فلا يهمه غيره البتة، ولا يبرح حينئذ القول : نفسي نفسي ( وتوفى كل نفس ما عملت )، أي : يوفى كل امرئ ما أسلف في دنياه من طاعة ومعصية، أو من خير وشر ؛ فلا يجزي إلا ما يستحقه من الجزاء، ( وهم لا يظلمون ) لا يحيق بهم أيما ظلم، ولا يبخس المحسنون من أجورهم شيئا٢.
١ - الدر المصون جـ٧ ص ٢٩٣ وتفسير النسفي جـ٢ ص ٣٠١..
٢ - تفسير النسفي جـ٢ ص ٣٠١ وتفسير البيضاوي ص ٣٦٧ وتفسير الطبري جـ١٤ ص ١٢٣- ١٢٥..
قوله تعالى :﴿ وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ( ١١٢ ) ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون ( ١١٣ ) ﴾، جعل الله من حال أهل مكة المشركين العتاة مثل لكل متعظ معتبر. فهذه مكة كان أهلها ينعمون بالأمن والطمأنينة، لما كانت العرب من حولهم في الأمصار والبوادي يقتل بعضهم بعضا ويسبي بعضهم بعضا. لقد كان أهل مكة لا يعتدي عليهم أحد، ولا يحتاجون إلى النجع وهو الخروج طلبا للماء والكلأ كما يفعل غيرهم من العرب ؛ فقد كان أهل مكة يأتيهم رزقهم ( رغدا من كل مكان )، أي : تأتيهم المعايش والأرزاق واسعة كثيرة من كل فج من الفجاج ومن كل ناحية من النواحي. فكان أهل مكة على هذه الحال من الأمن والاستقرار والبحبوحة وراغد العيش، لكنهم تلبسوا بالكفر والظلم والصد عن دين الله وفتنة المسلمين للفتهم عن دينهم إلى ملة الشرك. وذلك قوله :( فكفرت بأنعم الله )، فقد جحد أهل مكة كل هذه النعم التي أنعم الله عليهم، فبدلا من شكرهم هذه النعمة طغوا وبغوا وانثنوا عن ملة التوحيد وراحوا يعذبون المسلمين المستضعفين.
قوله :( فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون )، أي : أذاق الله أهل مكة لباس الجوع والخوف. والإذاقة جارية عند العرب مجرى الحقيقة لشيوعها في البلايا والشدائد. فإذا مس الناس شيء من ذلك قالوا : مس هؤلاء البؤس والضر. وأذاقهم العذاب. وأما اللباس فقد شبه به الجوع الذي يخالط أذاؤه أجسام المشركين. وهو منزلة اللباس لها ؛ فقد سلط الله على مشركي مكة الجوع عدة سنين بدعاء رسول الله محمد ( ص ).
وأما خوفهم فكان من سرايا رسول الله ( ص ) ومن صولة الإسلام وغلبته. وذلك كله بسبب ما كانوا يصنعونه من الكفر والجحود والصد عن دين الله.
قوله :( ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه )، الذي جاءهم هو محمد رسول الله ( ص ) ؛ فقد جاء أهل مكة وهم يعرفون نسبه وخلقه- ليدعوهم إلى عبادة الله وحده والتحرر من أوضار الشرك ومفاسد الجاهلية.
فجحدوه وكذبوا ما جاءهم به من رسالة ودين، ( فأخذهم العذاب )، أهلكهم الله ؛ إذ أذاقهم لباس الجوف والخوف والقتل بدلا مما كانوا فيه من الأمن والاستقرار والبحبوحة.
قوله :( وهم ظالمون )، أي : أذاقهم الله الجوع والخوف بعد أن نزع عنهم الأمن والطمأنينة والسعة حال كونهم متلبسين بالظلم، وهو الإشراك بالله والصد عن سبيل الله١.
١ - تفسير الطبري جـ١٤ ص ١٢٦ وفتح القدير جـ ٣ ص ٢٠١..
قوله تعالى :﴿ فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون ( ١١٤ ) إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم ( ١١٥ ) ﴾.
ذلك خطاب للمشركين يأمرهم فيه أن يأكلوا من لحوم الأنعام التي جعلها الله لهم حلالا طيبا. وأما ما كان المشركون يحرمونه من البحائر والسوائب والوصائل والحوامي وغير ذلك مما حرموه على أنفسهم سفها وظلما ؛ فلا وجه له ولا معنى. وإنما كان ذلك مما سوّل لهم الشيطان وزينه في قلوبهم بغير حق. وهو في الحقيقة من رزق الله ؛ فليشكروا الله على ما أنعم به عليهم. وذلك إن كانوا يعبدون الله فيمتثلون لشرعه ويطيعونه فيما أمر.
قوله :( إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به )، إنما للحصر، أي : لم يحرم الله عليكم سوى الميتة والدم ولحم الخنزير وما ذبح على الأنصاب أو الأوثان. فإذا قصد الذابح بذبيحته غير وجه الله، أو ذكر عليها اسما غير اسم الله فلا تحل ذبيحته.
قوله :( فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم )، أي : من نزلت به ضرورة لأكل شيء من هذه المحرمات فلا بأس في ذلك ( غير باغ ولا عاد )، ( غير باغ )، أي : غير متجاوز للحد الذي تندفع به الحاجة. و ( عاد )، أن يجد بديلا عن هذه المحرمات. وقيل : الباغي والعادي يعم مدلولهما كل قاطع للسبيل أو مفارق للجماعة خارج على الإمام، أو كان خارجا من بيته في معصية. وأمثال هؤلاء لا يستحقون رخصة الأكل أو الشرب مما حرمه الله.
قوله تعالى :﴿ ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون ( ١١٦ ) متاع قليل ولهم عذاب أليم ( ١١٧ ) ﴾، ما، مصدرية ؛ فهي مع الفعل بعدها في تأويل المصدر ؛ أي : لوصف. و ( الكذب )، منصوب على أنه مفعول للفعل ( تصف )، ١ والخطاب للمشركين الذين حرموا البحائر والسوائب، وأحلوا ما في بطون الأنعام وإن كانت ميتة، وذلك مما سوله الشيطان لهم وزيّنه في قلوبهم. والمعنى : لا تقولوا لوصف ألسنتكم فيما رزقكم الله من المطعوم : هذا حلال وهذا حرام لكي تفتروا على الله بهذا الكذب ؛ فإن ذلك ليس مما حرمه الله أو أحله كما تخرصون وتفترون.
وقوله :( إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون )، ذلك وعيد من الله لهؤلاء الظالمين الذين يحرمون ويحلون سفها بغير علم، ويفترون بذلك على الله كذبا ؛ فهؤلاء لا فلاح لهم ولا نجاة فهم خاسرون في الدنيا والآخرة. وهو قوله :﴿ متاع قليل ولهم عذاب أليم ﴾،
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ٨٤..
﴿ متاع قليل ولهم عذاب أليم ﴾، ( متاع )، خبر لمبتدأ محذوف. والتقدير. متاعهم، أو منفعتهم فيما هم عليه من أفعال الجاهلية متاع قليل ؛ أي : لا بقاء لهم في هذه الدنيا ؛ بل هم زائلون مفارقون.
فليست الدنيا وما فيها من متاح وزخرف إلا الحطام الذي ما يلبث أن يفنى ويزول، ثم يصيرون بعد ذلك إلى عذاب الله الأليم، وهو عذاب النار، بما اقترفوه على الله من كذب وتخريص١.
١ - تفسير الطبري جـ١٤ ص ١٢٧ وتفسير القرطبي جـ ١٠ ص ١٩٦ وتفسير النسفي جـ٢ ص ٣٠٣ وتفسير الرازي جـ٢٠ ص ١٣٢، ١٣٣..
قوله تعالى :﴿ وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ﴾، ( الذين هادوا ) هم اليهود ؛ فقد حرم الله عليهم ما أنبأ الله به نبيه محمدا ( ص ) من قبل في سورة الأنعام ؛ إذ حرم عليهم ( كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومها إلا ما حملت ظهورها أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ).
قوله :( وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون )، لم يظلمهم الله بهذا التضييق عليهم، بل كان ذلك على سبيل العقوبة لهم بسبب ظلمهم ومعاصيهم.
قوله تعالى :﴿ ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم ﴾، إن ربك يا محمد للذين عصوا الله وعملوا من السيئات والخطيئات ما عملوا ( بجهالة )، في موضع نصب على الحال ؛ أي : عملوا ذلك جاهلين، وليس مرادهم عصيان المولى، ولكن غلبت عليهم شهوتهن. وقيل : كل من عمل السوء فإنما يعمله بالجهالة، فإذا أناب هؤلاء إلى ربهم طائعين نادمين مستغفرين وأصلحوا بفعل الطاعات والحسنات ؛ فإن الله من بعد توبتهم وإصلاحهم ( لغفور رحيم )، أي : يغفر لهم ما قد سلف من الخطايا والذنوب١.
١ - تفسير الرازي جـ٢٠ ص ١٣٥ وتفسير النسفي جـ٢ ص ٣٠٣...
قوله تعالى :﴿ إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يكن من المشركين ( ١٢٠ ) شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم ( ١٢١ ) وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين ( ١٢٢ ) ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ( ١٢٣ ) ﴾ الأمة، الذي يؤتم به. ويؤيد ذلك قوله عز وعلا :( إني جاعلك للناس إمام )، أي : قدوة يقتدي به المهتدون ويأتمون. وقال ابن مسعود : أتدرون ما الأمة ؟ الذي يعلم الناس الخير. وكان عليه السلام ( قانتا لله )، أي : مطيعا. من القنوت وهو الطاعة١، وكان كذلك ( حنيفا )، والحنيف، المائل إلى ملة الإسلام، المستقيم على التوحيد، ( ولم يكن من المشركين )، كان عليه السلام من الموحدين فلم يتلبس طيلة حياته بشرك لا في صغر ولا كبر. وهذا إخبار من الله للمشركين أن إبراهيم بريء منهم وهم منه براء ؛ فقد كان عليه الصلاة والسلام على الحنيفية المستقيمة التي بنيت على التوحيد الكامل، والمبرأة من كل أدران الشرك. أما العرب في جاهليتهم فكانوا متلبسين بالشرك، ضالعين فيه ضلوع الضالين المفرطين.
١ - مختار الصحاح ص ٥٥٢..
قوله :( شاكرا لأنعمه )، الأنعم، جمع قلة. والمراد : أن إبراهيم عليه السلام كان يشكر الله على النعم القليلة، فلا جرم أن يشكره على الكثير بالأولى. وهو عليه السلام لكامل حنيفيته وبالغ قنوته، كان لا يفتر عن بذل الشكر لله على ما منّ به وأعطى.
قوله :( اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم )، ( اجتباه )، أي : اصطفاه للرسالة الميمونة العظيمة، وهداه إلى ملة الإسلام، وهو صراط الله المستقيم الذي لا يزيغ عنه إلا هالك خاسر، ولا يقتفيه إلا مهتد ناج.
قوله :( وآتيناه في الدنيا حسنة )، هذا النبي العظيم المفضال قد أوتي في هذه الدنيا حسنة تميزه عن غيره من الناس والنبيين. وفي حقيقة هذه الحسنة تفضيل، وجملته : أنها الذكر الحسن والثناء الجميل على مر الأيام والأزمان، فأكثر الخلق يقرون بنبوته. وتحقيق الكلام في ذلك أن الله أجاب دعوته :( واجعل لي لسان صدق في الآخرين )، وقيل : آتاه الله الولد الطيب الصالح ففي ذريته النبوة والرسالة. وقيل : يراد بها الصلاة عليه ؛ فقد جعلت مقرونة بالصلاة على محمد ( ص ) وذلك قول المصلي المسلم : " كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم " وقيل : غير ذلك من عظيم الخصال. قوله :( وإنه في الآخرة لمن الصالحين )، إن إبراهيم يوم القيامة مع الصالحين أولي الدرجات العُلا والمنازل الرفيعة في الجنة. وفي ذلك تنبيه على دعائه المستجاب :( رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين )، فجعله الله من الصالحين.
قوله :﴿ ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ﴾، ( حنيفا )، منصوب على الحال من الضمير المرفوع في قوله :( اتبع ) ١ وقد أمر الله نبيه محمدا ( ص ) باتباع الحنيفية المسلمة التي كان عليها إبراهيم ؛ فقد كان إبراهيم حنيفا، أي : مائلا إلى الإسلام مبرأ من الشرك وهو قوله :( وما كان من المشركين ) ٢.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ٨٥..
٢ - فتح القدير جـ٣ ص ٢٠٣ وتفسير القرطبي جـ١٠ ص ١٩٨..
قوله تعالى :﴿ إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ﴾، لم يفرض الله تعظيم يوم السبت إلا على الذين اختلفوا فيه ؛ إذ قال بعضهم، وهو اليهود : إنه أعظم الأيام. وقال آخرون وهم النصارى : بل أعظم الأيام يوم الأحد. فاختاروه وتركوا تعظيم يوم الجمعة.
على أن المراد بقوله :( على الذين اختلفوا فيه )، على نبيهم موسى ؛ إذ أمرهم بالجمعة فاختاروا السبت. فاختلافهم في السبت كان اختلافا على نبيهم في ذلك اليوم. وليس المراد أن اليهود اختلفوا فيه، فمنهم من قال بالسبت ومنهم من لم يقل به. وقيل : المراد باختلافهم في يوم السبت : أنهم أحلوا الصيد فيه تارة وحرموه تارة أخرى ؛ فشدد الله عليهم.
قوله :( وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون )، سوف يحكم الله بين هؤلاء المختلفين في السبت عندما يصيرون إلى الله يوم القيامة، وحينئذ يقضي الله للفئة المؤمنة المستقيمة منهم بحسن الجزاء، ولأهل الباطل- وهم الأكثرون – بسوء المصير.
قوله تعالى :﴿ ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ﴾، هذا الخطاب من الله لرسوله ( ص ) وهو يدعو العرب المشركين إلى دين الله ؛ إذ يأمره ربه أن يدعو الناس إلى الإسلام ( بالحكمة )، أي : بالقول السديد المحكم وفي تلطف ولين، بعيدا عن المخاشنة والتعنيف وأن يدعوهم كذلك بالموعظة الحسنة وهي الكلام المؤثر النافذ إلى القلوب. الكلام الذي يختلط فيه الترغيب بالترهيب، والإنذار بالبشرى ؛ ليكون ذلك سبيلا إلى ترقيق القلوب وشحنها بالود والرغبة في دين الله.
قوله :( وجادلهم بالتي هي أحسن )، أي : خاصمهم مخاصمة رحيمة ودود، وذلك بالأسلوب الذي هو أحسن من غيره من الأساليب، وذلك بالرفق واللين دون أسلوب الفظاعة التي تنفر منها الطبائع ؛ بل بما يوقظ القلوب إيقاظا، ويجلو العقول مما تلبس بها من الشبهات والظنون وفاسد الأخبار والمعلومات.
لا جرم أن الطبائع البشرية إنما ترق وتجنح في الغالب للرقيق من القول واللطيف من الكلمات والعبارات. وهي أشد ما تنفر وتألم من قسوة الأساليب التي تثير في النفوس المضاضة، وتهيج في القلوب الحزن والامتعاض ؛ فالذين يدعون إلى دين الله يناط بهم أن يدعوا الناس إلى هذا الدين بما يرغبهم فيه ترغيبا. وذلك بالكلمات الرفيقة الحانية، والطريقة الرحيمة النافذة.
على أن هذه الآية العظيمة محكمة. وهي في حق الذين يدعون إلى رسالة الإسلام بيان لهم على مرّ الزمان، يمضون في ضوئه وهم يدعون الناس على بصيرة. يدعونهم بالأسلوب الرحيم. الأسلوب السديد، النافذ إلى قلوبهم عسى أن يرققها ترقيقا، أو يفضي إلى تعرفهم على الإسلام فيرغبهم فيه. وإذا لم تؤثر هذه الوسيلة الرفيقة من حسن الموعظة والجدال ولم تجد سبيلها إلى القلوب والعقول، وأيقن المسلمون أن مخالفيهم معاندون جاحدون وأنهم متربصون ماكرون، نظروا بعد ذلك فيما هو أجدى وأنفع من الوسائل والأساليب صونا لعقيدتهم من التشويه والضياع، ولأوطانهم وكراماتهم من الإبادة.
قوله :( إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين )، أي : ليس عليك إلا التبليغ، فتدعو الناس إلى توحيد وعبادة الله وطاعته وحده، وذلك بالموعظة الحسنة والكلام الرفيق السديد. والناس مختلفون في استعدادتهم وفطرهم. ولكل نفس فطرة مخصوصة وماهية مخصوصة، فمن بنيت فطرته على الجنوح للدين والتشبث بحبل الله ؛ فقد اهتدى. ومن كانت فطرته متلبسة بالجحود والقسوة والنفور من الحق ؛ فإنه لا محالة صائر إلى الضلال، ولن تجدي معه بعد ذلك المواعظ والدروس والنذر. والله جل وعلا هو أعلم بنفوس البشر جميعا، فيعلم المهتدي منهم والضال.
قوله تعالى :﴿ وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ( ١٢٦ ) واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون ( ١٢٧ ) إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ( ١٢٨ ) ﴾ ١
روي عن ابن عباس في سبب نزول هذه الآية : أنه لما انصرف المشركون عن قتلى أحد وانصرف رسول الله ( ص )، فرأى منظرا ساءه، ورأى حمزة قد شُق بطنه واصطلم أنفه وجدعت أذناه. فقال : " لولا أن يحزن النساء أو يكون سنة بعدي، لتركته حتى يبعثه الله تعالى من بطون السباع والطير. لأقتلنّ مكانه سبعين رجلا منهم "، ثم دعا ببردة فغطى بها وجهه، فخرجت رجلاه، فجعل على رجليه شيئا من الإذخر، ثم قدمه وكبر عليه عشرا، ثم جعل يجاء بالرجل فيوضع وحمزة مكانه حتى صلى عليه سبعين صلاة. وكان القتلى سبعين، فلما دفنوا وفرغ منهم نزلت هذه الآية. فصبر ولم يمثل بأحد.
وروي عن أبي هريرة قال : أشرف النبي ( ص ) على حمزة فرآه صريعا. فلم ير شيئا كان أوجع لقلبه منه. وقال : " والله لأقتلن بك سبعين منهم. فنزلت :( وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهم خير للصابرين ).
قال المفسرون : إن المسلمين لما رأوا ما فعل المشركون بقتلاهم يوم أحد من تبقير البطون وقطع المذاكير والمثلة السيئة، قالوا حين رأوا ذلك : لئن ظفرنا الله سبحانه وتعالى عليهم لنزيدن على صنيعهم، ولنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب بأحد قط، ولنفعلن ولنفعلن. ووقف رسول الله ( ص ) على عمه حمزة وقد جدعوا أنفه، وقطعوا مذاكيره، وبقروا بطنه، وأخذت هند بنت عتبة قطعة من كبده فمضغتها ثم استرطتها٢ لتأكلها، فلم تلبث في بطنها حتى رمت بها، فبلغ ذلك نبي الله ( ص ) فقال : " أما إنها لو أكلته لم تدخل النار أبدا. حمزة أكرم على الله من أن يُدخل شيئا من جسده النار. فلما نظر رسول الله ( ص ) إلى حمزة نظر إلى شيء لم ينظر إلى شيء كان أوجع لقلبه منه. فقال : " رحمة الله عليك إنك ما علمت ؛ كنت وصولا للرحم، فعالا للخيرات، ولولا حزن من بعدك عليك لسرني أن أدعك حتى تحشر من أجواف شتى، أما والله لئن أظفرني الله تعالى بهم لأمثلن بسبعين منهم مكانك "، فأنزل الله تعالى :( وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ) الآية فقال النبي ( ص ) " بل نصبر "، وأمسك عما أراد، وكفّر عن يمينه.
والذي قتل حمزة وحشي ؛ إذ كان هذا في صفوف المشركين في أحد، ولما سئل عن كيفية قتله حمزة أجاب : كنت غلاما لجبير بن مطعم بن عدي بن نوفل، وكان عمه طعيمة بن عدي قد أصيب يوم بدر، فلما سارت قريش إلى أحد قال لي جبير ابن مطعم : إن قتلت حمزة عم محمد عليه الصلاة والسلام بعمي طعيمة فأنت عتيق، قال : فخرجت، وكنت حبشيا أقذف بالحربة قذف الحبشة قلما أخطئ بها شيئا، فلما التقى الناس خرجت أنظر حمزة رحمة الله عليه حتى رأيته في عرض الجيش مثل الجمل الأورق يهدّ الناس بسيفه هدّاً ما يقوم له شيء، فوالله إني لأتهيأ له وأستتر منه بحجر أو شجر ليدنو مني ؛ إذ تقدمني إليه سباع بن عبد العزى، فلما رآه حمزة رحمة الله عليه قال : ها يا ابن مقطّعة البُظُور. قال : ثم ضربه والله ما أخطأ رأسه. وهززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها إليه فوقعت في ثنّته حتى خرجت من بين رجليه فذهب لينافحني فغلب فتركته حتى مات رضي الله عنه. ثم أتيته فأخذت حربتي ثم رجعت إلى الناس فقعدت في العسكر ولم يكن لي بغيره حاجة إنما قتلته لأعتق. فلما قدمت مكة عتقت، فأقمت بها حتى نشأ فيها الإسلام ثم خرجت إلى الطائف فأرسلوا إلى رسول الله ( ص ) رجالا، وقيل لي : إن محمدا عليه الصلاة والسلام لا يهيج الرسل. فقال : فخرجت معهم حتى قدمت على النبي ( ص ) فلما رآني قال : " أنت وحشي ؟ " قلت : نعم. قال : " أنت قتلت حمزة ؟ " قلت : قد كان من الأمر ما قد بلغك. قال : " فهل تستطيع أن تغيب وجهك عني ؟ ". قال : فلما قبض رسول الله ( ص ) وخرج الناس إلى مسيلمة الكذاب قلت : لأخرجن إلى مسيلمة الكذاب لعلي أقتله فأكافئ به حمزة. فخرجت مع الناس فكان من أمره ما كان٣.
والآية محكمة في قول أكثر العلماء ؛ فهي بذلك غير منسوخة، وفيها يبين الله للمسلمين أنه إذا وقع عليهم أذى أو ضرر من الكافرين فلهم أن يقتصوا لأنفسهم فيعاقبوا من عاقبهم من الكافرين بمثل العقوبة التي أصابتهم منهم. وللمسلم كذلك أن يقتص ممن أصابه بجرح أو قتل ؛ ففي الجرح يقتص المجروح من الجارح، وفي القتل يقتص أولياء القتيل عن القاتل إلا أن يعفو المجروح أو الأولياء.
على أن المثلة في شريعة الإسلام حرام ؛ فقد روى الطبراني في الكبير عن ابن المغيرة أن النبي ( ص ) " نهى عن المثلة "، فالمشروع العقوبة بالمثل. وهو قوله :( وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به )، أي : إن أردتم معاقبة من اعتدى عليكم فعاقبوه بمثل ما فعل بكم ولا تجاوزوا ذلك. قال الطبري في ذلك : من ظلم بظلامة فلا يحل له أن ينال ممن ظلمه أكثر مما نال الظالم منه. وقال القرطبي في ذلك أيضا : في هذه الآية دليل على جواز التماثل في القصاص. فمن قتل بحديدة قُتل بها. ومن قتل بحجر قُتل به. ولا يتعدى قدر الواجب.
١ - تفسير الرازي جـ٢٠ ص ١٤٠- ١٤٢ وتفسير النسفي جـ٢ ص ٣٠٥..
٢ - استرطتها: بلعتها: سرط الشيء أي بلعه. انظر مختار الصحاح ص ٩٥..
٣ - أسباب النزول للنيسابوري ص ١٩١-١٩٤..
قوله :( واصبر وما صبرك إلا بالله )، أي : اصبر يا محمد على ما أصابك من أذى المشركين الظالمين في الله. وليس صبرك إلا بتثبيت الله لك وتوفيقه إياك. فالله عز وعلا ينشر في نفسك القدرة على الصبر واحتمال المكاره، ( ولا تحزن عليهم )، أي : لا تحزن على الكافرين بسبب إعراضهم عنك وتكذيبهم لك ولما نالوه منك ومن المسلمين من الأذى في أحد ؛ إذ مثلوا بقتلاكم تمثيلا ؛ فقد أفضى شهداؤكم إلى مصيرهم الكريم المبارك وهو النعيم المقيم في جوار الرب العظيم.
قوله :( ولا تك في ضيق مما يمكرون )، الضيق، بالفتح المصدر، وبالكسر، الاسم ؛ أي : لا يضيقنّ صدرك من مكرهم، وهو خداعهم وتضليلهم وصدهم الناس عن دين الله واختلاقهم الأكاذيب على الإسلام ورسوله ( ص ) والمسلمين.
قوله :﴿ إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ﴾، يبين الله لعباده أنه مع المؤمنين الذين يجتنبون كبائر الذنوب والفواحش، ( والذين هم محسنون )، أي : الملتزمون طاعة ربهم فيما أمرهم به ونهاهم عنه. إن الله مع هؤلاء جميعا فيجعل لهم العون والنصر والتأييد١.
١ - تفسير الطبري جـ ١٤ ص ١٣٢-١٣٤ والكشاف جـ ٢ ص ٤٣٥ وفتح القدير جـ٣ ص ٢٠٣..
Icon