تفسير سورة مريم

تفسير الثعالبي
تفسير سورة سورة مريم من كتاب الجواهر الحسان في تفسير القرآن المعروف بـتفسير الثعالبي .
لمؤلفه الثعالبي . المتوفي سنة 875 هـ
سورة مريم
مكية وآياتها ٩٨
بسم الله الرحمان الرحيم
هذه السورة مكية بإجماع إلا السجدة منها فقيل مكية وقيل مدنية.

[الجزء الرابع]

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة مريم
هذه السورة مكية بإجماع إلّا السجدة منها، فقيل: مكيّة.
وقيل: مدنيّة.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ١ الى ١١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

كهيعص (١) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (٣) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (٤)
وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (٦) يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (٧) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (٨) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (٩)
قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (١٠) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (١١)
قوله عزَّ وجل: كهيعص قد تقدَّمَ الكلامُ في فواتح السوَرِ.
وقوله: ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ مرتَفِعٌ بقولهِ: كهيعص في قَوْلِ فرقَةٍ.
وقيل: إنَّهُ ارتفعَ على أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدأ محذوفٍ تَقْديرُهُ: هذا ذكر، وحكَى أبو عمرو الدَّانِي عن ابن يعمر «١» أَنَّه قرأ: «ذَكِّر رَحْمَة رَبِّكَ» : بفتح الذَّالِ، وكسر الكافِ المشدَّدة، ونصبِ الرَّحمة.
وقوله نادى: مَعناه بالدُّعَاءِ والرغبَةِ قاله ابنُ العربيِّ في «أحكامه» «٢».
وقوله تعالى: إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا: يناسِبُ قَوْلَهْ: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً. [الأعراف: ٥٥].
وفي «الصحيح» عن النبي صلى الله عليه وسلّم أَنه قَال: «خيرُ الذَّكْرِ الخفيُّ، وخيرُ الرِّزقِ ما يكفي» «٣»
(١) ينظر «مختصر الشواذ» ص (٨٦)، و «المحرر الوجيز» (٤/ ١٤)، و «البحر المحيط» (٦/ ١٦٣)، و «الدر المصون» (٤/ ٤٩٠).
(٢) ينظر: «أحكام القرآن» (٣/ ١٢٥٠).
(٣) تقدم تخريجه.
5
وذلك لأَنَّهُ أَبْعَدُ مِن الرياء، فأَمَّا دُعاءُ زكرياء عليه السلام فإنما كان خفيّاً لوجهين:
أَحدُهُما: أَنَّهُ كان ليلاً.
والثاني: أَنَّهُ ذَكَرَ في دُعَائه أَحوالاً تفتقرُ إلى الإخفَاءِ كَقَوْلِهِ: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي. وهذا مما يكتم. انتهى.
ووَهَنَ الْعَظْمُ معناه ضَعُفَ، واشْتَعَلَ مُسْتَعَارٌ للشيْب منِ اشتعال النَّار.
وقولهُ: وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا شكر لله- عز وجل- على سالف أياديه عنده، معناه: قد أَحسنتَ إليَّ فيما سلَف، وسعدتُ بدعائي إيَّاك فالإنعامُ يقتضي أَنْ يشفع أَوله آخره.
ت: وكذا فسَّر الدَّاوُودِيُّ، ولفظه: «ولم أَكنْ بدُعائِك رَبِّ شقيّاً»، يقولُ: كنْتَ تعرفني الإجابَة فيما مضى، وقاله قتادةُ: انتهى.
وقوله: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ... الآية، قيل: معناه خاف أَن يرثَ الموَالي مَالَهُ، والموالي: بنو العمّ، والقرابةُ.
وقولُه مِنْ وَرائِي أَيْ: من بعدي.
وقالت فرقةٌ: إنما كان مواليه مهمِلينَ للدِّين فخاف بموته أَنْ يضَيع الدينُ فطلب وليّاً يقومُ بالدين بعده حَكَى هذا القولَ: الزَّجَّاجُ، وفيه: أَنه لا يجوزُ أَن يسأل زَكَرِيَّاءُ من يرث ماله إذ الأَنبيَاءِ لا تُورَثُ.
قال: ع «١» : وهذا يُؤَيّده قوله «٢» صلى الله عليه وسلّم: «إنَّا مَعْشَرَ الأَنْبِيَاءِ لاَ نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا فَهُو صَدَقَة» «٣». والأَظهرُ الأَلْيق بزكرياء عليه السلام أَن يريدَ وِرَاثةَ العِلْم والدِّينِ، فتكون الوارثةُ
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ٤- ٥).
(٢) في ج: قول النبي.
(٣) أخرجه البخاري (٦/ ٢٢٧- ٢٢٨) كتاب «فرض الخمس» : باب فرض الخمس، حديث (٣٠٩٤)، (٧/ ٣٨٩) كتاب المغازي باب حديث لبني النضير، حديث (٤٠٣٣)، (٩/ ٤١٢- ٤١٣) كتاب «النفقات» :
باب حبس الرجل قوت سنة على أهله، حديث (٥٣٥٨)، (١٣/ ٢٩٠- ٢٩١) كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» : باب ما يكره من التعمق والتنازع والغلو في الدين والبدع، حديث (٧٣٠٥)، ومسلم (٣/ ١٣٧٧- ١٣٧٩) كتاب «الجهاد» : باب حكم الفيء، حديث (٤٩/ ١٧٥٧)، وأبو داود (٢/ ١٥٤- ١٥٦) كتاب «الخراج» : باب في صفايا رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الأموال، حديث (٢٩٦٣)، والترمذي (٤/ ١٥٨) كتاب «السير» : باب ما جاء في تركة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، حديث (١٦١٠)، وفي «الشمائل» (٢١٦)، -
6
مستعارةً، وقد بلغه الله أَمَلَهُ.
قال ابنُ هشام: ومِنْ وَرائِي متعلّقٌ ب الْمَوالِيَ، أو بمحذوفٍ هو حالٌ من «١» الموالي، أو مُضَاف إليهم، أَيْ: كائِنِينَ مِنْ وَرَائي، أو فعَل الموالي مِنْ ورائي، ولا يصحّ تعلقه ب «خِفْتُ» لفساد المعنى. انتهى من «المغني».
وخِفْتُ الْمَوالِيَ هي قراءةُ الجمهور «٢»، وعليها هو هذا التفسير.
وقرأ عثمانُ بنُ عَفَّانَ، وزيدُ بنُ ثابتٍ، وابنُ عباسٍ «٣»، وجماعةٌ «خَفَّتِ» بفتح الخاء، وفتح الفاء وشدِّها، وكَسْر التَّاء، والمعنى على هذا: قد انقَطَع أَوْلِيَائِي، وماتُوا، وعلى هذه القراءة، فإنما طلب وَليَّا يقوم بالدين.
قال ابنُ العربي «٤» في «أحكامه» : ولم يخف زكرياءُ وارث المال، وإنما أراد إرث
- وعبد الرزاق (٩٧٧٢)، وأبو يعلى (١/ ١٢، ١٣) رقم: (٢، ٤)، وابن حبان في «صحيحه» (٨/ ٢٠٧- الإحسان) حديث (٦٥٧٤)، والبيهقي (٦/ ٢٩٧)، والبغوي في «شرح السنة» (٥/ ٦٣١، ٦٣٢- بتحقيقنا) كلهم من طريق الزهري عن مالك بن أوس بن الحدثان عن عمر بن الخطاب به، وفيه قصة طويلة.
وأخرجه مالك (٢/ ٩٩٣) كتاب الكلام: باب ما جاء في تركة النبي صلى الله عليه وسلّم، حديث (٢٧)، والبخاري (١٢/ ٧، ٨) كتاب «الفرائض» : باب قول النبي صلى الله عليه وسلّم: «لا نورث، ما تركنا صدقة» حديث (٦٧٢٧، ٦٧٣٠)، ومسلم (٣/ ١٣٧٩) كتاب «الجهاد والسير» : باب قول النبي صلى الله عليه وسلّم «لا نورث، ما تركنا فهو صدقة» حديث (٥١/ ١٧٥٨)، وأبو داود (٢/ ١٦٠، ١٦١) كتاب «الخراج والفيء والإمارة» : باب في صفايا رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الأموال، حديث (٢٩٧٦، ٢٩٧٧)، والنسائي (٧/ ١٣٢) كتاب «قسم الفيء»، وأحمد (٦/ ١٤٥، ٢٦٢)، وعبد الرزاق (٩٧٧٤)، وابن الجارود في «المنتقى» رقم (١٠٩٨)، وابن حبان (٨/ ٢٠٩- الإحسان) رقم (٦٥٧٧)، «والبيهقي» (٦/ ٢٩٧، ٢٩٨) كلهم من طريق الزهري عن عروة بن الزبير عن عائشة قالت: إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلّم حين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلّم أردن أن يبعثن عثمان بن عفان إلى أبي بكر، فيسألنه ميراثهن من النبي صلى الله عليه وسلّم، قالت عائشة لهنّ: أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لا نورث، ما تركنا فهو صدقة» ؟! وفي بعض طرق الحديث أن راوي هذا الحديث هو أبو بكر. [.....]
(١) لأنه في الأصل صفة للنكرة، فقدّم عليها.
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ٥)، «والبحر المحيط» (٦/ ١٦٥)، «والدر المصون» (٤/ ٤٩١).
(٣) وقرأ بها محمد بن علي، وعلي بن الحسن، وسعيد بن العاص، وابن يعمر، وسعيد بن جبير، وشبيل بن عزرة.
ينظر: «مختصر الشواذ» ص (٨٦)، و «المحتسب» (٢/ ٣٧)، «والكشاف» (٣/ ٤)، «والمحرر الوجيز» (٤/ ٥)، «والبحر المحيط» (٦/ ١٦٥)، وزاد نسبتها إلى الوليد بن مسلم عن ابن عامر.
وهي في «الدر المصون» (٤/ ٤٩١).
(٤) ينظر: «أحكام القرآن» (٣/ ١٢٥٠).
7
النبوة، وعليها خاف أَن تخرج عن عَقِبه، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلّم أَنه قال: «إنَّا- معَاشِرَ الأَنْبِيَاءِ- لاَ نُورَثُ، مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَة» «١» انتهى.
وقرأ عليُّ بنُ أَبي طَالِبٍ، وابنُ عباسٍ، وغيرُهما- رضي الله عنهم- «يرِثُنِي وَارِثٌ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ «٢» ».
ت: وقوله: فَهَبْ لِي قال ابنُ مَالكٍ في «شرح الكافية» اللامُ هنا: هي لامُ التعدِيَة وقاله ولدُه في «شرح الخلاصة».
قال ابنُ هشام: والأولى عندي أن يمثل للتعدية بنحو: ما أكرم زيداً لعمرو، وما أحبه لبكر، انتهى.
وقوله: مِنْ آلِ يَعْقُوبَ يريد يرث منهم الحكمة/ والعلم، والنبوة، ورَضِيًّا معناه: مرضيّا، والعاقر من النساء التي لا تلد من غير كبرة، وكذلك العاقرُ من الرجال.
وقوله: لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا معناه في اللغة: لم نجعل له مُشَارِكاً في هذا الاسم، أي: لم يسم به قبل يحيى، وهذا قول ابن عباس «٣» وغيره.
وقال مجاهدُ «٤» وغيره: سَمِيًّا معناه: مئيلا، ونظيرا، وفي هذا بعد: لأنه لا
(١) ينظر الحديث السابق.
(٢) وبها قرأ عاصم الجحدري، وابن يعمر، وأبو حرب بن أبي الأسود، والحسن، وقتادة، وأبو نهيك، وجعفر بن محمد.
قال أبو الفتح: هذا ضرب من العربية غريب، ومعناه التجريد، وذلك أنك تريد: فهب لي من لدنك وليّا يرثني منه أو به وارث من آل يعقوب.
وهو الوارث نفسه، فكأنه جرد منه وارثا. ومثله قول الله تعالى: لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ [فصلت: ٢٨]، فهي نفسها دار الخلد، فكأنه جرد من الدار دارا، وعليه قول الأخطل: [الطويل]
بنزوة لصّ بعد ما مر مصعب بأشعث لا يفلى ولا هو يقمل
ومصعب نفسه هو الأشعث، فكأنه استخلص منه أشعث. ا. هـ.
ينظر: «المحتسب» (٢/ ٣٨)، «ومختصر الشواذ» (٨٦)، و «الكشاف» (٣/ ٥)، «والمحرر الوجيز» (٤/ ٥)، «والبحر المحيط» (٦/ ١٦٥)، «والدر المصون» (٤/ ٤٩٢)،
(٣) ذكره ابن عطية (٤/ ٦)، والسيوطي (٤/ ٤٦٨) وعزاه إلى الفريابي، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم عن ابن عباس.
(٤) أخرجه الطبريّ (٨/ ٣٠٩) برقم: (٢٣٥٠٥)، وذكره ابن عطية (٤/ ٦)، وابن كثير (٣/ ١١٢)، والسيوطي (٤/ ٤٦٨).
8
يفضل على إبرَاهِيم وموسى عليهما السلام إلا أن يفضل في خاص كالسودد «١»، والحصر.
والعتي، والعُسِيُّ: المبالغة في الكبر، أو يُبْس العود، أو شيْب الرأس، أو عقيدة ما، وزكرياء: هو من ذرية هارون- عليهما السلام- ومعنى قوله: سَوِيًّا فيما قال الجمهور، صحيحاً من غير عِلَّة، ولا خرس.
وقال ابن عباس: ذلك عائدٌ على الليالي، أراد: كاملات مستويات «٢».
وقوله: فَأَوْحى إِلَيْهِمْ قال قتادة «٣»، وغيره: كان ذلك بإشارة.
وقال مجاهد «٤» : بل بكتابة في التراب.
قال ع «٥» : وكِلاَ الوجهين وَحْي.
وقوله: أَنْ سَبِّحُوا قال قتادة: معناه صلوا السُّبْحة، والسُّبحةْ: الصلاة «٦»، وقالت فرقة: بل أَمرهم بذكر الله، وقول: سبحان الله.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ١٢ الى ١٦]
يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (١٢) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (١٣) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (١٤) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (١٥) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (١٦)
وقوله- عز وجل-: [يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ] المعنى: قال اللهُ له: يا يحيى] «٧» خذ الكتابَ، وهو التوراةُ، وقوله: بِقُوَّةٍ أَيْ: العلم به، والحفظ له، والعمل به، والالتزام للوازمه.
(١) السودد: الشرف، وقد يهمز وتضم الدال.
ينظر: «لسان العرب» (٢١٤٤).
(٢) ذكره ابن عطية (٤/ ٧).
(٣) ذكره ابن عطية (٤/ ٧).
(٤) أخرجه الطبريّ (٨/ ٣١٤) رقم (٢٣٥٣٩)، وذكره ابن عطية (٤/ ٧)، والبغوي (٣/ ١٩٠)، وابن كثير (٣/ ١١٣).
(٥) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ٧).
(٦) ذكره ابن عطية (٤/ ٧). [.....]
(٧) سقط في ج.
9
وقوله: صَبِيًّا يريد: شاباً لم يبلُغْ حدّ الكهولة، ففي لفظ صبي على هذا، تجوّزٌ، واستصحابُ حال.
وروى مَعْمَرُ أَنَّ الصِّبْيَانَ دعوا يحيى إلى اللَّعب، وهو طِفْل، فقال: إني لم أُخلقْ للعب، فتلك الحِكْمة الَّتي آتاه الله عز وجل وهو صَبِيٌّ «١»، وقال ابن عباس: من قرأ القرآن قبل أن يحتلم، فهو ممن أوتي الحِكْمة صَبِيّاً «٢». «والحنان» : الرحمةُ، والشفقةُ، والمحبّة قاله جمهورُ المفسرين، وهو تَفْسِير اللغة ومن الشواهد في «الحَنَان» قولُ النابغة:
[الطويل]
أَبَا مُنْذِرٍ، أَفْنَيْتَ فاستبق بَعْضَنَا حَنَانَيْكَ بْعْضُ الشَّرِّ أَهْوَنُ مِنْ بَعْضِ «٣»
وقال عطاء بن أبي رباح: حَناناً مِنْ لَدُنَّا بمعنى تعظيماً مِنْ لدنا «٤».
قال ع «٥» : وهو أَيضاً ما عظم من الأمر لأجل الله عز وجل ومنه قول زيد بن عمرو بن نُفَيْل في خبر بِلاَلٍ: واللهِ، لَئِنْ قَتَلْتُمْ هَذَا العَبْدَ لاَتَّخَذْنَ قَبْرَهُ حَنَاناً «٦».
قال أَبو عبيدة: وأَكْثَر ما يُسْتَعمل مثنى. انتهى، والزكاةُ التنميةُ، والتَّطْهير في وُجُوه الخير.
قال مجاهدٌ: كان طعامُ يَحْيَى العُشب، وكان للدمع في خَدّه مجار ثابتة، وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً «٧»، روي أن يحيى عليه السلام لم يواقع معصية قَطُّ صغيرة ولا كبيرة، والبَر كثير البرّ، والجبار: المُتكبّر، كأَنه يجبر الناس على أخلاقه.
(١) أخرجه الطبريّ (٨/ ٣١٥) برقم: (٢٣٥٤٨)، وذكره ابن عطية (٤/ ٧)، وابن كثير (٣/ ١١٣)، والسيوطي (٤/ ٤٧٠)، وعزاه لأحمد في «الزهد»، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والخرائطي، وابن عساكر عن معمر بن راشد.
(٢) ذكره ابن عطية (٤/ ٧)، والبغوي (٣/ ١٩٠) والسيوطي (٤/ ٤٧٠)، وعزاه لابن مردويه، والبيهقي في «شعب الإيمان» عن ابن عباس مرفوعا، وأخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس موقوفا.
(٣) البيت لطرفة بن العبد في «ديوانه» ص (٦٦)، و «الدرر» (٣/ ٦٧)، و «الكتاب» (١/ ٣٤٨)، و «ولسان العرب» (١٣/ ١٣٠) (حنن)، و «همع الهوامع» (١/ ١٩٠)، وبلا نسبة في «جمهرة اللغة» ص (١٢٧٣)، و «شرح المفصّل» (١/ ١١٨)، و «والمقتضب» (٣/ ٢٢٤).
(٤) أخرجه الطبريّ (٨/ ٣١٦) رقم (٢٣٥٥٩)، وذكره ابن عطية (٣/ ١١٣).
(٥) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ٧).
(٦) ذكره ابن عطية (٤/ ٧).
(٧) ذكره ابن عطية (٤/ ٨).
10
وقوله: وَسَلامٌ عَلَيْهِ
قال الطَّبرِيُّ «١»، وغيرُه: معناه وأَمانٌ عليه.
قال ع «٢» : والأَظهرُ عندي: أَنها التّحيةُ المتعارفة، فهي أَشرف وأَنبه من الأَمان لأَن الأَمان متحصَّلٌ له بنفي العِصْيان عنه، وهو أَقلّ درجاته، وإنما الشرف في أن سلم اللهُ عليه، وحيَّاه في المواطن الَّتي الإنسان فيها في غاية الضعْفِ، والحاجةِ، وقلَّةِ الحيلة.
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ
، الكتاب: هو القُرْآنُ، والاِنْتباذ: التنحِّي.
قال السُّدِّيُّ: انتبذت لتطهر من حيض «٣»، وقال غيره: لتعبد الله عز وجل.
قال ع «٤» : وهذا أحْسن.
وقوله: شَرْقِيًّا
يريد: في جهة الشرق من مساكن أهلها، وكانوا يعظمون جهة المَشْرق قاله الطبري.
وقال بعضُ المفسرين: اتخذت المكان بشرقي المحراب.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ١٧ الى ١٩]
فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (١٧) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (١٩)
وقوله سبحانه: فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً
، أيْ: لتستتر به عن الناس لعبادتها.
«والروح» : جبريلُ عليه السلام.
وقوله تعالى: قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا
، المعنى: قالت مريمُ للملك الذي تمثل لها بشراً، لما رأَتْهُ قد خرق الحِجَاب/ الَّذي اتخذته فأساءت به الظن: ٢ ب أعوذ بالرحمن منك إن كنت ذا تُقًى، فقال لها جبريلُ عليه السلام: إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا.
(١) ينظر «الطبريّ» (٨/ ٣١٨).
(٢) ينظر «المحرر الوجيز» (٤/ ٨).
(٣) أخرجه الطبريّ (٨/ ٣١٩) برقم (٢٣٥٧٢)، وذكره ابن عطية (٤/ ٩)، وابن كثير (٣/ ١١٤) بمعناه.
(٤) ينظر «المحرر الوجيز» (٤/ ٩).
وقرأ أَبو عمرو «١» ونافعٌ بخلاف عنه «لِيَهَبَ» «٢».
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٢٠ الى ٢٣]
قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (٢١) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (٢٢) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (٢٣)
قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا، والبغي: الزانية، وروي: أن جبريلَ- عليه السلام- حين قاولها هذه المقاولة، نفخ في جيب دِرْعها فسرت النفخة بإذن الله تعالى حتَّى حملت منها قاله وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ، وغيرُهُ «٣».
وقال أُبيُّ بنُ كَعْبٍ «٤» : دخل الروح المنفوخُ من فمها فذلك قوله تعالى:
فَحَمَلَتْهُ أي: فحملت الغلام، ويذكر أَنها كانت بنت ثلاث عشرة سنة، فلمَّا أحسَّت بذلك، وخافت تعنيفَ الناس، وأَن يُظنَّ بها الشَّرُ انْتَبَذَتْ
أيْ: تنحت مكاناً بعيداً حياء وفرارا على وجهها، وفَأَجاءَهَا معناه: اضطرّها، وهو تعدية [جاء] بالهمزة.
والْمَخاضُ: الطّلْقُ، وشدةُ الولادة، وأَوْجَاعُها، وروي: أَنّها بلغت إلى موضعٍ كان فيه جِذْع نخلة بالٍ يابس، في أَصْله مِذْود بقرة، على جرية ماء، فاشتدَّ بها الأَمْرُ هنالك، واحتضنت الجِذْع لشدة الوجع، وولدت عيسى عليه السلام فقالت عند ولادتها لما رأته من صعُوبة الحال من غير ما وجه: يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا فتمنت الموتَ من جهة الدّين أَن يُظَنّ بها الشر، وخوفَ أَن تُفْتَتَن بتعْيِير قومها، وهذا مُباحٌ وعلى هذا الحدّ تمناه عمر- رضي الله عنه-.
(١) وأما قراءتهما، فإنهما أسندا الفعل إلى ضمير «ربك»، فكأنه قال: «ليهب الله «أو ربك» لك»، ولم يكن جبريل الذي يهب بل الله سبحانه.
وأما قراءة الباقين، فقد أسندوا الفعل للمتكلم، والهبة لله سبحانه، ومنه أمر الرسول والوكيل قد يسندان هذا النحو إلى أنفسهم وان كان الفعل للمرسل والموكل.
ينظر: «السبعة» (٤٠٨)، و «الحجة» (٥/ ١٩٥)، و «اعراب القراءات» (٢/ ١٤)، و «معاني القراءات» (٢/ ١٣٢)، و «حجة القراءات» (٤٤٠) و «شرح الطيبة» (٥/ ٣٠)، و «العنوان» (١٢٦)، و «شرح شعلة» (٤٨٥)، و «إتحاف» (٢/ ٢٣٤).
(٢) في ج: لأهب. [.....]
(٣) أخرجه الطبريّ (٨/ ٣٢٢) برقم (٢٣٥٩١)، وذكره ابن عطية (٤/ ١٠).
(٤) ذكره ابن عطية (٤/ ١٠)، والبغوي (٣/ ١٩٢).
وَكُنْتُ نَسْياً أيْ: شَيْئاً مَتْرُوكاً محتقراً، والنَّسِيُّ في كلام العرب الشيءُ الحقير الذي شأنه أَن يُنْسَى، فلا يُتَأَلَّمُ لفقده كالوتد، والحبل للمسافر، ونحوه.
وهذه القصةُ تقتضي أَنها حملت واستمرَّت حامِلاً على عُرْف البشر، واستحْيَتْ من ذلك ومرّت بسببه، وهي حاملٌ، وهو قولُ جمهور المتأوِّلين.
وروى عن ابن عباسٍ أَنه قال: ليس إلا أَن حملت، فوضعت في ساعةٍ واحدة والله أعلم «١».
وظاهر قوله: فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ أنها كانت على عرف النساء.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٢٤ الى ٢٨]
فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (٢٥) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (٢٦) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (٢٧) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨)
وقولُهُ سبحانه: فَناداها مِنْ تَحْتِها قرأ ابنُ كَثِير، وأبو عَمْرو، وابن عامرٍ، وعَاصِمٌ «٢» :«فناداها مَنْ تحتها» على أَن «مَنْ» فاعل بنادى، والمراد بِ «مَنْ» عيسى قاله مجاهدٌ، والحسنُ، وابن جبير، وأبي بن كعب «٣».
(١) أخرجه الطبريّ (٨/ ٣٢٥) برقم (٢٣٦٠٥)، وذكره ابن عطية (٤/ ١١)، والبغوي (٣/ ١٩٢)، وابن كثير (٣/ ١١٦).
(٢) إنما قرأها عاصم هكذا من رواية أبي بكر، وإلا فهي من رواية حفص المشهورة مثل الباقين «من تحتها».
وحجة هؤلاء أنه روي عن أبيّ قال: الذي خاطبها هو الذي حملته في جوفها.
وحجة الباقين ما روي عن ابن عباس أنه قال: «من تحتها» : جِبْرِيلُ، ولم يتكلم عيسى حتى أتت به قومها.
ينظر: «السبعة» (٤٠٨- ٤٠٩)، و «الحجة» (٥/ ١٩٧)، و «إعراب القراءات» (٢/ ١٦)، و «معاني القراءات» (٢/ ١٣٣)، و «شرح الطيبة» (٥/ ٣٢)، و «العنوان» (١٢٦)، و «شرح شعلة» (٤٨٥)، و «حجة القراءات» (٤٤١)، و «إتحاف» (٢/ ٢٣٥).
(٣) أخرجه الطبريّ (٨/ ٣٢٧) عن مجاهد برقم (٢٣٦٢٦)، والحسن برقم (٢٣٦٣١)، وابن جبير برقم (٢٣٦٣٣)، وأبي بن كعب (٢٣٦٣٥)، وذكره ابن عطية (٤/ ١١)، والبغوي (٣/ ١٩٢) عن مجاهد والحسن، وابن كثير (٣/ ١١٧) عن مجاهد، والحسن، وسعيد بن جبير، والسيوطي (٤/ ٤٨٢) وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد.
والثاني: عزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن الحسن.
والثالث: عزاه لابن المنذر عن أبي بن كعب.
13
وقال ابن عباس: المراد ب «مَنْ» جِبْرِيلُ، ولم يتكلم عيسى حتى أتت به قومها «١».
والقول الأولُ أَظهر وأبْيَنُ، وبه يتبيّن عُذْر مريم، ولا تبقى بها استرابة.
وقرأ نافعٌ، وحمزةُ، والكِسَائِيُّ، وحَفْصٌ عن عَاصِمٍ: «مِنْ تَحْتِهَا» بكسر الميم، واختلفوا أَيضاً فقالت فرقةٌ: المرادُ عيسى، وقالت فِرْقَةٌ: المراد جِبْرِيلُ المحاور لها قَبْلُ.
قالوا: وكان في بُقْعة أَخفضَ من البُقْعة الَّتي كانت هي عليها والأَول أَظهَرُ.
وقرأ ابنُ عباس «٢» :«فَنَادَاهَا مَلَكٌ مِن تَحْتِهَا».
والسَّرِيُّ: من الرجال العظيمُ السيّد، والسري: أَيضاً الجدولُ مِنَ الماء وبحسَبِ هذا اختلف النّاسُ في هذه الآية.
فقال قتادةُ، وابنُ زيدٍ: أَراد جعل تحتك عَظِيماً من الرجال، له شأنٌ «٣».
وقال الجمهورُ: أَشار لها إلى الجَدْول، ثم أَمرها بهز الجِذْع اليابِس لترى آيَةً أُخْرى.
وقالت فرقةٌ: بل كانت النخْلة مطعمة رطباً، وقال السُّدِّيُّ: كان الجِذْع مقطوعاً، وأجري تحتها النهر لحينه «٤».
قال ع «٥» : والظاهر من الآية: أَن عيسى هو المكلِّم لها، وأَن الجِذْع كان يَابِساً فهي آيات تسليها، وتسكن إليها.
قال ص: قوله: وَهُزِّي إِلَيْكِ تقرر في عِلْم النحو أَن الفِعْل لا يتعدَّى إلى ضمير مُتّصلٍ، وقد رفع المتصل، وهما لمدلول واحد، وإذا «٦» تقرر هذا ف «إِليك» لا يتعلق ب «هُزِّي»، ولكن يمكن أَن يكون «إلَيْك» حالاً من جِذْع النخلة فيتعلَّق بمحذْوفٍ أَيْ: هزي بجذْع النخلة مُنْتهياً إليك. انتهى.
(١) أخرجه الطبريّ (٨/ ٣٢٧) برقم (٢٣٦٢٥)، وذكره ابن عطية (٤/ ١١)، والبغوي (٣/ ١٩٢)، وابن كثير (٣/ ١١٧)، والسيوطي (٤/ ٤٨٢)، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس.
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ١١)، و «البحر المحيط» (٦/ ١٧٣).
(٣) أخرجه الطبريّ (٨/ ٣٣٠) عن قتادة برقم (٢٣٦٥٦)، وابن زيد برقم (٢٣٦٥٧)، وذكره ابن عطية (٤/ ١١)، وابن كثير (٣/ ١١٧).
(٤) أخرجه الطبريّ (٤/ ٣٣٠) برقم (٢٣٦٦٢)، وابن عطية (٤/ ١١).
(٥) ينظر «المحرر الوجيز» (٤/ ١١- ١٢).
(٦) في ج: تقدر.
14
والباء في قوله: بِجِذْعِ: زائدة مؤكّدة، وجَنِيًّا: معناه: قد طابت/ وصلحت ٣ أللاجتناء، وهو من جَنَيْتُ الثمرةَ.
وقال عَمْرُو بْنُ مَيْمُون «١» : ليس شيءٌ للنُّفَسَاءِ خيراً من التَّمر، والرُّطَب.
وقرةُ العَيْن مأْخُوذةَ من القُرِّ وذلك، أَنَّهُ يحكى: أَن دمعَ الفرح باردُ المسِّ، ودمعَ الحُزْن سخن المس «٢»، وقِيلَ: غير هذا.
قال ص: وَقَرِّي عَيْناً أَيْ: طِيبي نفساً. أَبو البَقَاءِ: «عيناً» تمييز. اهـ.
وقوله سبحانه: فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً... الآية، المعنى: أن الله عز وجل أمرها على لسان جِبْرِيلَ عليه السلام أو ابنها على الخلاف المتقدم: بأن تُمْسك عن مخاطبة البشر، وتحيل على ابنها في ذلك ليرتفع عنها خجلها، وتبين الآية فيقوم عذرها.
وظاهر الآية: أَنها أُبِيح لها أن تقولَ مضمن هذه الألفاظ الّتي في الآية وهو قول الجمهور.
وقالت فرقة: معنى فَقُولِي بالإشارة، لا بالكلام.
قال ص: وقولُه: فَقُولِي جوابُ الشرط، وبينهما جملةٌ محذوفةٌ يدل عليها المعنى أيْ فَإمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البَشَرِ أَحداً، وسألك أو حاورك الكلام، فقولي. انتهى.
وصَوْماً معناه عن الكلام إذ أَصلُ الصوم الإمساكُ.
وقرأَتْ فرقةٌ: «إني نَذَرْتُ للرحمن صَمْتاً» ولا يجوز في شَرْعِنا نذرُ الصمتِ فروي:
أَن مريم عليها السلام لمَّا اطمأنَّت بما رأت مِنَ الآياتِ، وعلمت أَن الله تعالى سيبيِّنُ عذرَها، أَتَتْ به تحمله مدلة من المكان القَصِيّ الذي كانت مُنْتبذةً به، والفَرِيُّ: العظيمُ الشَّنِيعُ قاله مجاهد «٣»، والسُّدِّيُّ، وأكثرُ استعماله في السوء.
(١) ذكره ابن عطية (٤/ ١٢).
(٢) في ج: الملمس.
(٣) أخرجه الطبريّ (٨/ ٣٣٥) عن مجاهد برقم (٢٣٦٨٢)، وعن السدي برقم (٢٣٦٨٥)، وذكره ابن عطية (٤/ ١٣)، والبغوي (٢/ ١٩٣)، وابن كثير (٣/ ١١٨)، والسيوطي (٤/ ٤٨٦)، وعزاه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد. [.....]
15
واختلف في معنى قوله تعالى: يا أُخْتَ هارُونَ، فقيل: كان لها أَخٌ اسمه هارون لأَن هذا الاِسْم كان كَثِيراً في بني إسْرَائِيل.
ورَوَى المغيرةُ بن شُعْبة: أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلّم أَرسله إلى أَهْلِ نَجْرَانَ في أمْرٍ من الأُمُور، فقالتْ له النصارى: إن صَاحِبَك يزعم أَنَّ مريمَ هي أُخْت هارون، وبينهما في المدّةِ ستُّ مائةِ سنة.
قال المغيرةُ: فلم أَدر ما أقول، فلما قَدِمْتُ على النبيّ صلى الله عليه وسلّم ذكرتُ ذلك له، فقال: أَلَمْ يَعْلَمُوا أنهم كانوا يسمون بأسماء الأنبياءِ والصّالحين «١».
قال ع «٢» : فالمعنى أَنه اسم وافق اسما.
وقيل: نسبُوها إلى هَارُون أَخِي مُوسَى لأَنها مِنْ نَسْله ومنه قوله صلى الله عليه وسلّم: «إن أَخَا صُدَاءٍ أَذَّنَ، وَمَنْ أَذَّنَ، فَهُوَ يقيم» «٣».
(١) أخرجه مسلم (٣/ ١٦٨٥) كتاب الآداب: باب النهي عن التكني بأبي القاسم، حديث (٩/ ٢١٣٥)، والترمذي (٥/ ٣١٥) كتاب التفسير: باب ومن سورة مريم، حديث (٣١٥٥)، والنسائي في التفسير (٢/ ٢٩) رقم (٣٣٥)، وأحمد (٤/ ٢٥٢)، وابن أبي شيبة (١٤/ ٥٥١)، والطبريّ في «تفسيره» (١٦/ ٧٧- ٧٨)، والطبراني في «المعجم الكبير» (٢٠/ ٤١١) رقم (٩٨٦)، والبيهقي في «دلائل النبوة» (٥/ ٣٩٢)، وابن حبان (٦٢٥٠)، والبغوي في «تفسيره» (٣/ ١٩٤) كلهم من طريق عبد الله بن إدريس عن أبيه عن سماك بن حرب عن علقمة بن وائل عن المغيرة بن شعبة به.
وقال الترمذي: حديث صحيح غريب، لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن إدريس.
وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٤٨٦)، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه.
(٢) ينظر «المحرر الوجيز» (٤/ ١٣).
(٣) أخرجه أحمد (٤/ ١٦٩)، وأبو داود (١/ ٣٥٢) : كتاب الصلاة: باب في الرجل يؤذن، ويقيم آخر، الحديث (٥١٤)، والترمذي (١/ ٣٨٤) : كتاب الصلاة: باب ما جاء أن من أذن فهو يقيم، الحديث (١٩٩)، وابن ماجه (١/ ٢٣٧) : كتاب الأذان: باب السنة في الأذان، الحديث (٧١٧)، والبيهقي (١/ ٣٩٩) : كتاب الصلاة: باب الرجل يؤذن ويقيم غيره، وابن سعد في «الطبقات الكبرى» (٧/ ٥٠٣)، وأبو نعيم (١/ ٢٦٦) في «التاريخ»، من حديث عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي، عن زياد بن نعيم الحضرمي، عن زياد بن الحارث الصدائي به، وقال الترمذي: (إنما يعرف من حديث الأفريقي.. وقد ضعفه القطان وغيره.. قال: ورأيت محمد بن إسماعيل- يعني البخاري- يقوي أمره، ويقول: هو مقارب الحديث).
وللحديث شاهد من حديث ابن عمر:
قال: أبطأ بلال يوما بالأذان، فأذن رجل، فجاء بلال فأراد أن يقيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «يقيم من أذن». -
16
وقال قتادةُ: نسبوها إلى هَارُونَ اسم رَجُلٍ صَالِحٍ في ذلك الزمان «١».
وقالتْ فرقةٌ: بل كان في ذلك الزمان رجلٌ فاجِرٌ اسمه هَارُون نسبُوها إليه على جهة التَّعْيِير.
ت: واللهُ أعلمُ بصحّة هذا، وما رواه المُغِيرة إنْ ثبت هو المعوَّلُ عليه، وقولهم:
مَا كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ المعنى: ما كان أَبُوك، ولا أمّك أهلاً لهذه الفِعْلة، فكيف جِئْت أنت بها؟ والبَغِيّ: الّتي تبغِي الزَّنَا، أي: تطلبه.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٢٩ الى ٣٣]
فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (٣١) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣)
وقولُه تعالى: فَأَشارَتْ إِلَيْهِ يقوى قولَ مَنْ قال: إنّ أمرها ب فَقُولِي، إنما أريد به الإشارة.
وقوله: آتانِيَ الْكِتابَ يعني الإنْجِيل، ويحتمل أن يريد التوراةَ والإنجيل، و «آتاني» معناه: قضى بذلك- سُبْحَانه- وأَنْفذه في سَابِق حُكْمه، وهذا نحو قولِه تعالى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النحل: ١].
وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ قيل: هما المشرُوعتانِ في البدن، والمال.
وقيل: الصلاةُ: الدعاءُ، والزكاة: التطهُّرُ من كُلِّ عيْبٍ، ونقصٍ، ومعصيةٍ. والجبارُ المتعَظِّمُ وهي خلق مقرونة بالشقاء لأَنَّها مناقضة لجميع الناس، فلا يلقى صاحبها من كل أحد إلا مكروهاً، وكان عيسى عليه السلام في غاية التَّوَاضُعِ يأكلُ الشجر، ويلبَسُ الشَّعْر، ويجلس على الأَرض، ويَأْوِي حيث جنّه الليل. لا مسكن له.
أخرجه عبد بن حميد في «المنتخب من المسند» (ص- ٢٥٨)، رقم (٨١١)، والبيهقي (١/ ٣٩٩)، والعقيلي في «الضعفاء» (٢/ ١٠٥) من طريق سعيد بن راشد السماك، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عمر به، وقال البيهقي: تفرد به سعيد بن راشد، وهو ضعيف.
وأخرج العقيلي (٢/ ١٠٥) بسنده عن يحيى بن معين، قال: سعيد بن راشد السماك يروي «من أذن فهو يقيم»، ليس حديثه بشيء.
(١) أخرجه الطبريّ (٨/ ٣٣٥) برقم (٢٣٦٨٧)، وذكره ابن عطية (٤/ ١٤)، والبغوي (٣/ ١٩٣)، وابن كثير (٣/ ١١٩).
قال قتادة: وكان يقولُ: سَلُوني فإني ليّن القلب، صَغِيرٌ في نفسي «١».
وقالت فرقةٌ: إنَّ عيسى عليه السلام كان أُوتي الكتابَ وهو في سنّ الطفوليّة، وكان يصوم، ويصلّي.
٣ ب قال ع «٢» :/ وهذا في غاية الضَّعْف.
ت: وضعفُه مِنْ جهة سنده وإلا فالعقلُ لا يحِيلُه لا سِيَّما وأمره كله خرق عادة، وفي قصص هذه الآية عن ابن زيد، وغيره: أَنهم لما سَمِعُوا كلام عيسى أَذْعنوا وقالوا: إن هذا الأمر عظيم.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٣٤ الى ٣٦]
ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٣٦)
وقوله تعالى: ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ المعنى: قل يا محمدُ، لمعاصريكَ من اليَهُود والنَّصَارَى ذلك الذي هذه قصّته عيسى بن مريم.
وقرأَ نافعٌ، وعَامّةُ الناس «٣» :«قَوْلُ الحَقِّ» برفع القول على معنى هذا هو قول الحق.
وقرأ عاصمٌ، وابنُ عَامِرٍ: «قولَ الحقِّ» بنصب اللام «٤» على المصدر.
وقوله: إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ... الآية، هذا من تمام القول الّذي أمر به محمد صلى الله عليه وسلّم: أَن يقولَه، ويحتمل أنْ يكون من قول عيسى عليه السلام ويكون قوله: «أَنَّ» بفتح الهمزة، عطفاً على قوله: «الكتاب».
وقد قال وَهْبُ بنُ مُنَبِّه: عهد عيسى إليهم: أَن الله ربي وربّكم «٥».
(١) أخرجه الطبريّ (٨/ ٣٣٩) برقم (٢٣٧١٣)، وذكره ابن عطية (٤/ ١٥).
(٢) ينظر «المحرر الوجيز» (٤/ ١٥).
(٣) ينظر: «السبعة» (٤٠٩)، و «الحجة» (٥/ ٢٠١)، و «إعراب القراءات» (٢/ ١٨)، و «معاني القراءات» (٢/ ١٣٥)، و «شرح الطيبة» (٥/ ٣٣، ٣٤)، و «العنوان» (١٢٧)، و «شرح شعلة» (٤٨٦)، و «حجة القراءات» (٤٤٣)، و «إتحاف» (٢/ ٢٣٦).
(٤) في ج: القول.
(٥) أخرجه الطبريّ (٨/ ٣٤٢) رقم (٢٣٧٢١) بنحوه، وذكره ابن عطية (٤/ ١٥).
ت: وما ذكره وَهْبُ [مصرح به في القرآن، ففي آخر المائدة: مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ... الآية. [المائدة: ١١٧]. وامتراؤهم] «١» في عيسى هو اختلافهم فيقول بعضُهم: لَزَنْيَةٌ، وهم اليهُود، ويقول بعضُهم: هو اللهُ تعالى اللهُ عن قولهم عُلُوّاً كبيراً، فهذا هو امتراؤُهم، وسيأتِي شرح ذلك بإثر هذا.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٣٧ الى ٣٩]
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٣٧) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٨) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٩)
وقوله: فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ هذا ابتداء خبر من الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلّم بأَن بني إسْرَائِيلَ اختلفوا أَحزاباً، أيْ: فرقاً.
وقوله: مِنْ بَيْنِهِمْ بمعنى: من تلقَائِهم، ومن أَنْفسِهم ثار شرُّهم، وإنّ الاِخْتلاف لم يخرج عنهم بل كانوا هم المختلفين.
وروي في هذا عن قتادةَ: أَنَّ بني إسْرَائِيلَ جمعوا من أَنفسهم أَربعة أحبار غاية في المَكَانةِ والجَلاَلة عندهم وطلبوهم أن يبيِّنُوا لهم أَمْرَ عيسى فقال أَحَدُهم: عيسى هو اللهُ تعالى الله عن قولهم.
وقال له الثلاثة: كذبتَ، واتبعه اليعقوبيةُ، ثم قِيلَ للثلاثة فقال أحدهم: عيسى ابنُ الله، [تعالى الله عن قولهم] «٢» فقال له الاِثنان: كذبت، واتبعه النُّسْطُورِيَّةُ، ثم قيل للاِثنين فقال أَحدهما: عيسى أحد ثلاثةٍ: الله إله، ومريم إله، وعيسى إله [تعالى الله عن قولهم عُلوّاً كبيراً] «٣» فقال له الرابع: كذبت، واتَّبَعَتْهُ الإِسْرَائِيلية، فقِيلَ للرابع فقال:
عيسى عبدُ الله، وكلمتُه أَلقاها إلى مريم، فاتّبعَ كلَّ واحد فريقٌ من بني إسْرَائِيل، ثم اقْتَتلُوا فغُلِبَ المؤمنون، وقُتِلوا، وظَهَرَت اليَعْقُوبيّة على الجميع «٤».
و «الويل» : الحزنُ، والثُّبور، وقِيلَ: «الويل» : واد في جهنّم، ومَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ:
هو يوم القيامة.
(١) سقط في ج.
(٢) سقط في ب، ج.
(٣) في ب، ج. سقط.
(٤) أخرجه الطبريّ (٨/ ٣٤٣) برقم (٢٣٧٢٤)، وذكره ابن عطية (٤/ ١٦)، وابن كثير (٣/ ١٢١)، والسيوطي (٤/ ٤٨٨، ٤٨٩)، وعزاه لعبد الرزاق، وابن أبي حاتم عن قتادة نحوه. [.....]
19
وقولُه سبحانه: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ أي: ما أَسْمَعَهم، وأبصرهم يوم يرجعُون إلَيْنا، ويرَوْن ما نصنع بهم، لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ أَيْ: في الدنيا في ضَلالٍ مُبِينٍ أَيْ بيِّنٍ، وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ وهو يوم ذَبْحِ الموت قاله الجمهورُ.
وفي هذا حَدِيثٌ صحيحٌ خرجه البُخَاريُّ وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلّم: أَنَّ المَوْتَ يُجَاءُ بِهِ في صُورَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ، فَيُذْبَحُ عَلَى الصِّرَاطِ بَيْنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، ويُنَادِى: يَا أَهْلَ الجَنَّةِ، خُلُودٌ لاَ مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ، خُلُودٌ لاَ مَوْتَ، ثُمَّ قَرَأَ: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ... «١» [الآية] «٢».
قال ع «٣» :[وعند ذلك تُصِيب أَهلَ النار حسرةٌ لا حَسْرة مثلها.
وقال ابنُ زيد، وغيره: يَوْمَ الحَسْرَةِ] «٤» : هو يَوْمَ القِيَامَةِ «٥».
قال ع «٦» : ويحتمل أَن يكونَ يوم الحسرة اسمُ جِنْسٍ شاملٌ لحسَرَاتٍ كَثِيرَةٍ بحسب مواطن الآخرة: منها يومَ مَوْتِ الإنسان، وأَخْذِ الكتاب بالشِّمال، وغير ذلك، وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ
يريد: في الدنيا.
(١) أخرجه البخاري (٨/ ٢٨٢) كتاب التفسير: باب وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ حديث (٤٧٣٠)، ومسلم (٤/ ٢١٨٨- ٢١٨٩) كتاب الجنة والنار: باب النار يدخلها الجبارون، حديث (٤٠، ٤١/ ٢٨٤٩)، والترمذي (٥/ ٣١٥- ٣١٦) كتاب التفسير: باب ومن سورة مريم، حديث (٣١٥٦)، والنسائي في «الكبرى» (٦/ ٣٩٣) كتاب التفسير: باب قوله تعالى: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ، حديث (١١٣١٦)، وأحمد (٣/ ٩)، وأبو يعلي (٢/ ٣٦٤) رقم (١١٢٠)، والطبريّ في «تفسيره» (٨/ ٣٤٥) رقم (٢٣٧٣٣) من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٤٨٩)، وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن حبان، وابن مردويه.
وللحديث شاهد من حديث أبي هريرة: أخرجه النسائي في «الكبرى» (٦/ ٣٩٣- ٣٩٤) كتاب التفسير:
باب قوله تعالى وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ حديث (١١٣١٧)، والطبريّ في «تفسيره» (٨/ ٣٤٥) رقم (٢٣٧٣٤) كلاهما من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة به.
وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٤٨٩)، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم، وابن مردويه.
(٢) سقط في ب.
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ١٧).
(٤) سقط في ب.
(٥) أخرجه الطبريّ (٨/ ٣٤٥) برقم (٢٣٧٣٧)، وذكره ابن عطية (٤/ ١٧)، وابن كثير (٣/ ١٢٢).
(٦) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ١٧).
20

[سورة مريم (١٩) : الآيات ٤٠ الى ٤٦]

إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٤٠) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٤١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (٤٢) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (٤٣) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (٤٤)
يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (٤٥) قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (٤٦)
قوله سبحانه: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ... الآية، عبارةٌ عن بقائهِ- جل وعلا- بعد فناء مَخْلُوقاتِه، لا إله غَيْرَه.
وقوله: - عزَّ وجل-: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً/ نَبِيًّا... ٤ أالآية، قوله: وَاذْكُرْ بمعنى اتل وشهر لأَن الله تعالى هو الذاكر والْكِتابِ: هو القرآن، والصديق: بناءُ مبالغَةٍ فكان إبراهيمُ عليه السلام [يُوصَفُ] «١» بالصِّدْقِ في أَفْعَالِهِ وأَقْوالِهِ.
وقوله: يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ... الآية، قال الطّبرِيُّ «٢» :«أخاف» بمعنى أعلمُ.
قال ع «٣» : والظَّاهِرُ عندي أَنه خوفٌ على بابه وذلك أَن إبراهيم عليه السلام في وقْتِ هذه المقالة لم يَكُن آيِساً من إيمان أَبِيه.
ت: ونحو هذا عبارة المهدوي «٤»، قال: قيل: «أَخافُ» معناه: أَعْلَمُ، أيْ: إِنِّي أَعْلَمُ إن متَّ عَلَى ما أَنْتَ عليه.
ويجوزُ أَن يكون «أَخَافُ» على بابهِ، ويكونَ المعنى، إِنِّي أَخاف أَن تمُوتَ على كُفْرك فيمسَّكَ العذابُ. انتهى.
وقوله: لَأَرْجُمَنَّكَ قال الضَّحَّاكُ «٥»، وغيرُه: معناه بالقوْلِ، أَي: لأَشْتمنَّك.
وقال الحسَنُ: معناه: لأرجمنّك بالحجارة «٦».
(١) سقط في ب.
(٢) ينظر: «الطبريّ» (٨/ ٣٤٧).
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ١٨).
(٤) ذكره البغوي (٣/ ١٩٧)، ولم يعزه لأحد.
(٥) أخرجه الطبريّ (٨/ ٣٤٧) برقم (٢٣٧٤١)، وذكره ابن عطية (٤/ ١٨)، والبغوي (٣/ ١٩٧)، وابن كثير (٣/ ١٢٣).
(٦) ذكره ابن عطية (٤/ ١٨)، والبغوي (٣/ ١٩٧).
وقالتْ فرقةٌ: معناه لأَقْتُلَنَّكَ، وهذان القولان بمعنًى واحدٍ.
وقوله: وَاهْجُرْنِي على هذا التَّأْوِيل إنما يترتب بأَنه أَمْرٌ على حياله كأَنه قال: إن لم تَنْتَهِ قتْلتُك بالرَّجم، ثم قال له: واهجرني، أي: مع انتهائك، ومَلِيًّا معناه: دهراً طوِيلاً مأَخوذٌ من المَلَويْنِ وهما اللّيل والنّهار هذا قول الجمهور.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٤٧ الى ٥٠]
قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (٤٧) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (٤٨) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (٤٩) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (٥٠)
وقولهُ: قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ اختُلِف في معنى تَسْلِيمه على أَبِيهِ، فقال بعضُهم: هي تحيةُ مفارقٍ، وجوَّزوا تحيةَ الكَافِر وأَن يُبْدَأ بها.
وقال الجمهورُ: ذلك السلامُ بمعنى المُسَالمةِ، لا بمعنى التَّحِيَّة.
وقال الطبريّ «١» : معناه أَمَنَة مِنّي لك وهذا قول الجمهُورِ وهم لا يَروْن ابتداءَ الكافِرِ بالسَّلاَم.
وقال النَّقَّاشُ: حليمٌ خاطب سَفِيهاً كما قال تعالى: وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً «٢» [الفرقان: ٦٣].
وقوله: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي معناه: سأَدْعُو الله تعالى في أَن يَهْدِيَكَ، فيغفِرَ لك بإيمانك، ولمّا تبيَّن له أَنه عدوٌّ للَّه تبرّأَ منه.
والحِفيُّ: المهتبلُ المتلطِّف، وهذا شُكْر من إبراهيمَ لنعم الله تعالى عليه، ثم أَخبر إبراهيمُ عليه السلام بأنه يعتزلهم، أي: يصير عنهم بمعْزِل، ويروى: أَنهم كانوا بأَرض كُوثَى، فرحل عليه السلام حتى نزل الشامَ، وفي سفرته تلك لقِي الجبَّار الَّذي أَخْدم هاجرَ... » الحديثَ الصحيح بطوله «٣»، وتَدْعُونَ معناه: تعبدون.
وقوله: عَسى: تَرَجٍّ في ضمنه خَوْفٌ شديد.
وقوله سبحانه: فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ... إلى آخر الآية: إخبار من الله تعالى لنبِيّه صلى الله عليه وسلّم أَنَّه لما رَحَل إبراهيم عن بلد أَبِيه وقومه، عوّضَهُ اللهُ تعالى من ذلك ابنَهُ إسحاق، وابن ابنه
(١) ينظر: «الطبريّ» (٨/ ٣٤٩).
(٢) ذكره ابن عطية (٤/ ١٩). [.....]
(٣) تقدم هذا الحديث في «تفسير سورة إبراهيم».
يعقوبَ- على جميعهم السلام- وجعلَ الولدَ له تَسْلِيةً، وشَدًّا لِعَضُدِهِ.
وإسحاقُ أَصغر من إسماعيل، ولما حملت هاجرِ بإسْمَاعِيل، غارَتْ سَارَةُ فحملت بإسحاقِ، هكذا فيما روي.
وقوله تعالى: وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا يريد: العِلْم، والمنزِلَة، والشَّرَف في الدنيا، والنَّعيم في الآخرة كُلُّ ذلك من رحمة الله عز وجل، ولِسَانُ الصَّدْق: هو الثَّناءُ البَاقِي عليهم آخر الأبد قاله ابن عباس «١» وإبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلّم وذريته مُعظَّمة في جميع الأُمم والمِلَل.
قال ص: وَكُلًّا جَعَلْنا [نَبِيًّا] «٢» أَبو البقاء: هو منصوبٌ ب جَعَلْنا. انتهى.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٥١ الى ٥٣]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥١) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (٥٢) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (٥٣)
وقوله (عزَّ وجل) : وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى، أي: على جهة التَّشْرِيف له، وَنادَيْناهُ هو تَكْلِيمُ الله له، والأَيْمن: صفةُ لجَانِب، وكان على يَمِينِ موسى، وإلا فالجبل نفسُه لاَ يَمْنةً له ولا يَسْرة، ويحتمل أَن يكون الأَمن مأْخُوذاً من الأَيمن، وَقَرَّبْناهُ أَيْ: تقريب تشريف، والنّجيّ: من المناجاة.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٥٤ الى ٥٨]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥٤) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (٥٥) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٥٦) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (٥٧) أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (٥٨)
وقوله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ هو أيضاً من لسانِ الصِّدْقِ المضمون بقاؤه على إبراهيمَ عليه السلام وإسماعيلُ عليه السلام: هو أَبو العربِ اليومَ وذلك أَنَّ اليَمَنِية والمُضَرِية ترجع إلى ولد إسماعيل، وهو الذِّبِيحُ في قول الجمهُور.
وهو الرَّاجِحُ من وجوهٍ: / منها قوله تعالى: وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ ٤ ب [هود: ٧١].
(١) أخرجه الطبريّ (٨/ ٣٥٠) برقم (٢٣٧٥٨)، وذكره ابن عطية (٤/ ١٩)، وابن كثير (٣/ ١٢٤)، والسيوطي (٤/ ٤٩١) وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس.
(٢) سقط في د، ح.
23
فَوَلَدٌ بُشِّر أَبواه بأن سَيَكُونُ منه ولدٌ كيف يُؤْمَرُ بذبحه؟!.
ومنها أَن أَمْرَ الذبح كان بِمِنًى بلا خِلاَفٍ، وما روي قَطُّ أَن إسحاقَ دخل تلك البلاد، وإسماعيلُ بها نَشَأ، وكان أَبوه يزُورُه مِرَاراً كَثِيرةً يأْتي من الشام، ويرجِعُ من يَوْمِهِ على البُرَاق وهو مركب الأنبياء.
ومنها قوله صلى الله عليه وسلّم: «أَنَا ابن الذَّبِيحَيْنِ» «١» وهو أَبُوهُ عبدُ اللهِ، والذَّبِيحُ الثَّانِي هو إسْماعِيلُ.
ومنها [تَرْتِيبُ] «٢» آيات سورة «والصَّافَّاتِ» يكاد ينصُّ على أَنَّ الذبيح غيرُ إسحاق، ووصفه اللهُ تعالى بصِدْق الوَعْد لأَنه كان مُبَالِغاً في ذلك وروي أَنَّه وعد رَجُلاً أَنْ يلقاه في مَوْضِعٍ، فبقي في انْتِظاره يَوْمَهُ ولَيلَتَهُ، فلما كان في اليوْمِ الآخر جاء الرجُلُ، فقال له إسماعيلُ: ما زِلْتُ هنا في انتظارك منذ أَمْسِ، وقد فعل مثله نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلّم قبل مَبْعَثِه، خرَّجه التّرمِذِيّ وغيرُه.
قال سُفْيان بن عُيَيْنَةَ «٣» : أَسْوَأُ الكَذِبِ إخْلاَفُ المِيعَادِ، ورَمْي الأبرياء بالتّهم.
وأَهْلَهُ المرادُ بهم قومه، وأُمَّته قاله الحسنُ «٤».
وفي مصحف ابن مسعود: «وكان يَأْمُرُ قَوْمَهُ».
وإدْريسُ عليه السلام من أَجْدَاد نوح عليه السلام.
وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا قالت فرقةٌ من العلماء: رُفِع إلى السماءِ.
قال ابنُ عَبَّاسٍ: كان ذلك بأَمْرِ الله تعالى «٥».
وقوله: وَبُكِيًّا قالت فرقةٌ: جمع «٦» بَاكٍ، وقالت فرقةٌ: هو مَصْدَرٌ بمعنى البكاء التقدير: وبكوا بكيّا.
(١) تقدم تخريجه.
(٢) سقط في ج.
(٣) ذكره ابن عطية (٤/ ٢١).
(٤) ذكره ابن عطية (٤/ ٢١)، والبغوي (٣/ ١٩٩).
(٥) ذكره ابن عطية (٤/ ٢١).
(٦) في د، ج: هو جمع.
24
واحتجَّ الطَّبِرِيُّ «١»، ومَكّي لهذا القول بأَن عُمَر رضي الله عنه قرأ سُورةٍ مريم، فسجد ثُمَّ قال: هذا السُّجُودُ، فأَيْنَ البُكَى «٢» ؟ يَعْنِي: البُكَاء.
قال ع «٣» : ويحتمل أَن يريد عُمر رضي الله عنه فأَين البَاكُون؟ وهذا الذي ذكروه عن عُمَر، ذكره أَبُو حَاتِمٍ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٥٩ الى ٦٣]
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (٥٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (٦٠) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (٦١) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (٦٢) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (٦٣)
وقوله تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ... الآية، الخَلْفُ، -[بسكون] «٤» اللام- مُسْتعمل إذا كان الآتي مَذْمُوماً هذا مشهورُ كَلامِ العَرَبِ، والمرادُ بالخلْف: مَنْ كفر وعَصَى بعدُ مِنْ بني إسرائيل، ثم يتناول معنى الآية مَنْ سِوَاهُم إلَى يوم القيامة، وإضاعة الصّلاة بترْكِهَا وبجحْدِها، وبإضاعة أَوْقَاتِهَا.
وروى أَبُو دَاوُدَ الطيالسي في «مسنده» بسنده عن عُبَادَةَ بنِ الصّامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إذا أَحْسَنَ الرَّجُلُ الصَّلاَةَ، فَأَتَمَّ رُكُوعَهَا، وَسُجُودَهَا، قَالَتِ الصَّلاَةُ:
حَفِظَكَ اللهُ كَمَا حَفِظْتَنِي، وَتُرْفَعُ، وإذَا أَسَاءَ الصَّلاَةَ فَلَمْ يُتِمَّ رُكُوعَهَا، وَلاَ سُجُودَهَا، قَالَتِ الصَّلاَةُ: ضَيَّعَكَ اللهُ كَمَا ضَيَّعْتَنِي، وَتُلَفُّ كَمَا يُلَفُّ الثَّوْبُ الخَلقُ، فَيُضْرَبُ بِهَا وَجْهُهُ»
. انتهى «٥» من «التذكرة»، والشَّهَوَاتُ: عُمُومُ، والغَيُّ: الخسران قاله ابن زيد «٦».
(١) ينظر: «الطبريّ» (٨/ ٣٥٤) برقم: (٢٣٧٧٧).
(٢) أخرجه الطبريّ (٨/ ٣٥٤) برقم: (٢٣٧٧٧)، وذكره ابن عطية (٤/ ٢٢)، وابن كثير (٣/ ١٢٧)، والسيوطي (٤/ ٤٩٨)، وعزاه لابن أبي الدنيا في «البكاء»، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «شعب الإيمان» عن عمر بن الخطاب.
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ٢٢).
(٤) في ب سقط.
(٥) أخرجه أبو داود الطيالسي (١/ ٦٦، ٦٧- منحة) برقم: (٢٥٤) من طريق خالد بن معدان عن عبادة بن الصامت به. وذكره الهندي في «كنز العمال» (١٩٠٥٤)، وعزاه للطبراني، والبيهقي في «شعب الإيمان». [.....]
(٦) أخرجه الطبري (٨/ ٣٥٧) برقم: (٢٣٧٩٨)، وذكره ابن عطية (٤/ ٢٣).
وقد يكُونُ [الغي بمعنى الضَّلاَلِ، والتقديرُ: يُلْقون جَزَاءَ الغَيِّ.
وقال عبدُ الله بن عمرو، وابنُ مسعودٍ: الغَيُّ: وَادٍ في] «١» جَهنَّم، وبه وَقَعَ التوعُّدُ في هذه «٢» الآية.
وقال ص: الغي عندهم كُلُّ شرّ كما أن الرشاد كلّ خير. [انتهى] «٣».
وجَنَّاتِ عَدْنٍ: بدلٌ من الجنَّةِ في قوله يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ.
وقولُه بِالْغَيْبِ، أيْ أخبرهم من ذلك بما غَابَ عنهم، وفي هذا مَدْحٌ لهم على سرعة إيمانهم وبدارهم إذْ لم يعاينوا، ومَأْتِيًّا مفعولٌ على بابه.
وقال جماعةٌ من المفسرين: هو مفعولٌ في اللفظ بمعنى فاعل ف مَأْتِيًّا بمعنى آتٍ، وهذا بَعِيدٌ.
ت: بل هو الظَّاهِرُ، وعليه اعتمد ص.
واللَّغْوُ: السَّقْطُ من القول.
وقوله بُكْرَةً وَعَشِيًّا يريدُ في التقدير.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٦٤ الى ٦٥]
وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (٦٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (٦٥)
وقوله عز وجل: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ... / الآية، قال ابنُ عباس، وغيرُه:
سبب هذه الآية: أَن النبي صلى الله عليه وسلّم أَبْطَأَ عنه جِبْرِيلُ عليه السلام مدَّةَ فَلما جاءه قال: «يَا جِبْرِيلُ، قَدِ اشتقت إلَيْكَ، أَفلاَ تزورَنا أَكْثَرَ مِمَّا تَزُورَنَا» فنزلت هذه الآية «٤».
(١) سقط في ج.
(٢) أخرجه الطبريّ (٨/ ٣٥٦) برقم: (٢٣٧٩٣)، (٢٣٧٩٦) بلفظ «نهر في النار يعذب فيه الذين اتبعوا الشهوات»، وذكره ابن عطية (٤/ ٢٣)، وابن كثير (٣/ ١٢٨)، وعزاه لعبد الله بن مسعود، والسيوطي (٤/ ٥٠٠)، وعزاه للفريابي، وسعيد بن منصور، وهناد، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبريّ، والحاكم وصححه، والبيهقي في «البعث» عن ابن مسعود.
(٣) في ب، ج سقط.
(٤) أخرجه الطبريّ (٨/ ٣٥٩) برقم (٢٣٨٠٦)، وذكره البغوي (٣/ ٢٠٢)، وابن عطية (٤/ ٢٤)، وابن كثير (٣/ ١٣٠)، والسيوطي (٤/ ٥٠٢)، وعزاه لابن مردويه عن ابن عباس بنحوه.
26
وقال الضَّحَّاكُ، ومجاهدٌ: سببها أَن جِبْريلَ تأخَّر عن النبي صلى الله عليه وسلّم عند قَوْلِه في السؤالات المتقدِّمَةِ في سُورةِ الكهف: «غدا أخبركم» «١».
وقال الداوديّ عن مجاهدٍ: أَبطأت الرسل عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثم أَتى جِبْرِيلُ عليه السلام قال: ما حَبَسَكَ؟ قال: وكَيْفَ نَأْتِيكُم. وأَنْتُمْ لاَ تَقُصُّونَ أَظْفَارَكُمْ. وَلاَ تَأْخُذُونَ شَوَارِبَكُمْ وَلاَ تَسْتَاكُونَ، وَمَا نَتَنَزَّلُ إلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ. انتهى «٢».
وقد جاءت في فَضْل السواك آثَارٌ كثيرة، فمنها: ما رواه البزار في «مسنده» عن النبي صلى الله عليه وسلّم أَنه قال: إنَّ العَبْدَ إذَا تَسوَّكَ ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، قَامَ المَلَكُ خَلْفه، فَيَسْمَعُ لِقَرَاءَتِهِ، فَيَدْنُو مِنْهُ حتى يَضَعَ فَاهُ على فِيهِ، فما يَخْرُجُ مِنْ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ القُرْآنِ إلاَّ صَارَ فِي جَوْفِ المَلَكِ» «٣». انتهى من «الكوكب الدري».
وفيه: عن ابنِ أَبِي شَيْبَة، عن النبي صلى الله عليه وسلّم أَنه قال: «صَلاَةٌ عَلَى إثْرِ سِوَاكٍ أَفْضَلُ من سبعين صلاة بغير سواك «٤» انتهى.
(١) ذكره البغوي (٣/ ٢٠٢)، وابن عطية (٤/ ٢٤).
(٢) ذكره ابن كثير (٣/ ١٣٠) وعزاه لمجاهد، والسيوطي (٤/ ٥٠٢)، وعزاه لسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد.
(٣) أخرجه البزار (١/ ٢٤٢- كشف) رقم (٤٩٦) من حديث علي بن أبي طالب مرفوعا.
وقال البزار: لا نعلمه عن علي بأحسن من هذا الإسناد، وقد رواه بعضهم عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي موقوفا.
وقال المنذري في «الترغيب» (٣٣٥) : رواه البزار، بإسناد جيد لا بأس به.
وقال الهيثمي في «المجمع» (٢/ ١٠٢) : رواه البزار، ورجاله ثقات. ا. هـ. أما الموقوف الذي أشار إليه البزار، فأخرجه البيهقي (١/ ٣٨) من طريق أبي عبد الرحمن السلمي عن علي موقوفا.
(٤) أخرجه البزار (١/ ٢٤٥- كشف) رقم (٥٠٢)، وابن حبان في «المجروحين» (٣/ ٥)، وابن عدي في «الكامل» (٦/ ٢٣٩٥)، وابن الجوزي في «الواهيات» (١/ ٣٣٦) من طريق معاوية بن يحيى الصدفي عن الزهري عن عروة عن عائشة.
وقال البزار: لا نعلم رواه إلا معاوية.
وقال ابن الجوزي: هذا حديث لا يصح، ومعاوية بن يحيى ضعيف. قاله الدارقطني.
وللحديث طريق آخر: أخرجه ابن خزيمة (١/ ٧١) رقم (١٣٧)، والحاكم ١/ ١٤٦)، وأحمد (٦/ ١٤٦)، والبزار (١/ ٢٤٤) رقم (٥٠١) من طريق محمد بن إسحاق عن الزهري عن عروة عن عائشة به.
وقال ابن خزيمة: أنا استثنيت صحة هذا الخبر، لأني خائف أن يكون محمد بن إسحاق لم يسمع من محمد بن مسلم، وإنما دلّسه عنه.
أما الحاكم فقال: صحيح على شرط مسلم. ووافقه الذهبي.
وضعفه النووي في «المجموع» (١/ ٣٢٥) وقال: ذكره الحاكم في «المستدرك» وقال: صحيح على شرط-
27
وفي «البخاري» : أَنَّ السِّوَاكَ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ، مَرْضَاة لِلرَّبِّ «١». اهـ.
وقوله سبحانه: لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينا... الآية، المقصودُ بهذه الآية الإشعارُ بملك الله تعالى لملائكته، وأن قَلِيلَ تصرُّفِهِم، وكَثِيرَه إنما هو بأَمْره وانتقالهم مِنْ مَكانٍ إلى مَكانٍ إنَّما [هو] «٢» بحدٍّ منه.
وقولُه: وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا أَيْ: ممن يلحقُه نِسيانٌ لبعثنا إليك، ف نَسِيًّا. فَعِيلٌ من النّسْيانِ، وهو الذُّهُولُ عن الأُمور.
وقرأ ابنُ مسْعودٍ «٣» :«وَمَا نَسِيَكَ رَبُّكَ».
وقوله سَمِيًّا قال قوم: معناه مُوَافِقاً في الاِسْم.
قال ع «٤» : وهذا يحسنُ فيهِ أَن يريد بالاِسْم ما تقدم مِنْ قوله رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما أَيْ: [هل] «٥» تعلم من يسمى بهذا، أَو يوصف بهذه الصفة وذلك أَن الأُمم والفِرَق لا يسمون بهذا الاِسْم وَثَناً، ولا شَيْئاً سوى الله تعالى.
- مسلم، وأنكروا ذلك على الحاكم، وهو معروف عندهم بالتساهل في التصحيح، وسبب ضعفه أن مداره على محمد بن إسحاق، وهو مدلس، ولم يذكر سماعه، والمدلس إذا لم يذكر سماعه لا يحتج به بلا خلاف كما هو مقرر لأهل هذا الفن. وقوله: «إنه على شرط مسلم» ليس كذلك، فإن محمد بن إسحاق لم يرو له مسلم شيئا محتجا به، وإنما روى له متابعة، وقد علم من عادة مسلم وغيره من أهل الحديث أنهم يذكرون في المتابعات من لا يحتج به للتقوية لا للاحتجاج، ويكون اعتمادهم على الإسناد الأول، وذلك مشهور عندهم.
(١) أخرجه النسائي (١/ ١٠) كتاب الطهارة: باب الترغيب في السواك، حديث (٥)، وأحمد (٦/ ١٢٤)، وأبو يعلي (٨/ ٣١٥) رقم (٤٩١٦)، وابن حبان (١٤٣- موارد)، والحميدي (١٦٢)، وابن المنذر في «الأوسط» (٣٣٨)، وأبو نعيم في «الحلية» (٧/ ١٥٩)، والبيهقي (١/ ٣٤)، وابن خزيمة رقم (١٣٥) من حديث عائشة.
وعلقه البخاري (٤/ ١٥٨) باب سواك الرطب واليابس للصائم، بصفة الجزم، فهو صحيح عنده.
وصححه أيضا ابن خزيمة، وابن حبان.
وقال البغوي في «شرح السنة» (١/ ٢٩٤- بتحقيقنا) : هذا حديث حسن.
وقال النووي في «المجموع» (١/ ٣٢٤) : حديث صحيح.
وفي الباب عن جماعة من الصحابة.
(٢) سقط في ج.
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ٢٤).
(٤) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ٢٥). [.....]
(٥) سقط في ب.
28
قال القُشَيْرِيُّ في «التحبير» : قولهُ تعالى: وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ: الاصْطبارُ: نهايةُ الصَّبْرِ، ومَنْ صَبَر ظَفَرَ، ومَنْ لاَزَمَ وَصَلَ وفي مَعْناه أَنْشدُوا: [البَسيط].
[لاَ تَيْئَسَنَّ وَإنْ طَالَتْ مُطَالَبَةٌ إذَا استعنت بِصَبْرٍ أَنْ ترى فَرَجَا] «١»
أَخْلِقْ بِذِي الصَّبْرِ أَنْ يحظى بِحَاجَتِه وَمُدْمِنِ الْقَرْعِ لِلأَبْوَابِ أَنْ يَلجَا
وأَنشدوا: [البسيط]
إنِّي رَأَيْتُ وَفِي الأَيَّامِ تَجْرِبَةٌ لِلصَّبْرِ عَاقِبَةً مَحْمُودَةَ الأَثَرِ
وَقَلَّ مَنْ جَدَّ فِي شَيْءٍ يُحَاوِلُهُ «٢» واستصحب الصَّبْرَ إلاَّ فَازَ بالظَّفَرِ
انتهى.
وقال ابنُ عباسٍ، وغيرُه: سَمِيًّا معناه: مَثِيلاً، أَو شَبِيهاً، ونحو ذلك «٣» وهذا قوْلٌ حَسَنٌ، وكأن السمي بمعنى: المسامي، والمضاهي فهو من السموّ.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٦٦ الى ٧٠]
وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (٦٦) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (٦٧) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (٦٨) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (٦٩) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (٧٠)
وقوله تعالى: وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا، الإنسان: اسمُ جِنْس يرادُ به الكافرون «٤»، وروي أَنَّ سببَ نزُولِ هذه الآية هو: أَن رجالاً من قريشٍ كانُوا يقولون هذا ونحوه، وذكر: أَن القائِلَ هو أُبيُّ بْنُ خَلَفٍ.
ورُوِي «٥» أَن القائل هو العَاصِي بْنُ وَائِل، وفي قوله تعالى: وَلَمْ يَكُ شَيْئاً دَلِيلٌ على أَنَّ المعدومَ لا يسمى شَيْئاً.
وقال أَبو علي الفارسي: أراد شيئا موجودا.
(١) سقط من ج.
(٢) في ب، ج: يطالبه.
(٣) أخرجه الطبريّ (٨/ ٣٦١، ٣٦٢) برقم (٢٣٨٢١، ٢٣٨٢٢)، وذكره البغوي (٣/ ٦٥)، وابن عطية (٤/ ٢٥)، وابن كثير (٣/ ١٣١)، والسيوطي (٤/ ٥٠٣)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس.
(٤) في ج: النافرين.
(٥) في ب، ج: وقيل.
قال ع «١» : وهذه من أبي علي نزعةٌ اعتزالية [فتأملها] «٢»، والضمير في لَنَحْشُرَنَّهُمْ عائدٌ على الكفَّارِ القائلين ما تقدم، ثم أَخبر تعالى: أنه يقرن بهم الشياطين المغوين لهم، وجِثِيًّا جمعُ جَاثٍ، فأخبر سبحانه: أَنه يحضر هؤلاءِ المنكرين البعث مع ٥ ب الشياطين [المغوِينَ] «٣»، فيجثُون/ حول جهنَّم وهو «٤» قعودُ الخائف الذَّلِيل على رُكْبتيْهِ كالأَسِير، ونحوهِ.
قال ابنُ زيدٍ «٥» : الجَثْيُ: شَرُّ الجلُوسَ، و «الشيعة» : الفِرْقَةُ المرتبطة بمذهبٍ وَاحدٍ، المتعاونةِ فيه، فأخبر سبحانه أَنه ينزع مِنْ كُلِّ شيعةٍ أَعْتاها وأَولاَها بالعذاب، فتكون مقدمتها إلى النَّار.
قال أَبو الأحوص: المعنى: نبدأ بالأكابر «٦» جرما «٧»، وأيّ: هنا بُنِيَتْ لمَّا حُذِف الضميرُ العَائِدُ عليها مِنْ صَدْر صِلَتها، وكان التقدِيْرُ: أَيَّهم هو أشَدُّ، وصِلِيًّا: مصدر صلي يصلى إذا باشره.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٧١ الى ٧٤]
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (٧١) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (٧٢) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (٧٣) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (٧٤)
وقوله عزَّ وجل: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها قسم، والواو تقتضيه، ويفسّره قوله صلى الله عليه وسلّم: «مَنْ مَاتَ لَهُ ثَلاَثَةُ أَوْلاَدٍ، لَمْ تَمَسَّهُ النّار إلّا تحلّة القسم» «٨». وقرأ ابن
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ٣٠).
(٢) سقط في ج.
(٣) سقط في ب، ج.
(٤) في ج: ويعني.
(٥) أخرجه الطبريّ (٨/ ٣٧٠) رقم (٢٣٨٧٢)، وذكره ابن عطية (٤/ ٢٦).
(٦) في ح: بالأكابر فالأكابر.
(٧) أخرجه الطبريّ (٧/ ٣٦٣) برقم (٢٣٨٢٧)، وذكره ابن عطية (٤/ ٢٦)، وابن كثير (٣/ ١٣١)، والسيوطي (٤/ ٥٠٤) وعزاه لهناد، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن أبي الأحوص.
(٨) أخرجه البخاري (٣/ ١٤٢) كتاب الجنائز: باب فضل من مات له ولد فاحتسبه، حديث (١٢٥١)، ومسلم (٤/ ٢٠٢٨) كتاب البر والصلة: باب فضل من يموت له ولد فيحتسبه، حديث (١٥٠/ ٢٦٣٢)، والترمذي (٣/ ٣٦٥) كتاب الجنائز: باب ما جاء في ثواب من قدم ولدا، حديث (١٠٦٠)، والنسائي (٤/ ٢٥) كتاب الجنائز: باب من يتوفى له ثلاثة، حديث (١٨٧٥)، وابن ماجه (١/ ٥١٢) كتاب الجنائز:

باب ما جاء في ثواب من أصيب بولده، حديث (١٦٠٣)، وأحمد (٢/ ٢٣٩- ٢٤٠)، والحميدي (٢/-[.....]

30
عباس «١»، وجماعَةٌ: «وإنْ مِنْهُمْ» بالهَاءِ على إرَادة الكُفَّار.
قال ع «٢» : ولا شغب في هذه القراءة، وقالت فِرْقَةٌ من الجمهور القارئين «منكم»، المعنى: قُلْ لهم يا محمَّدُ، فالخِطَاب ب مِنْكُمْ للكفرةِ، وتأويل هؤلاءِ أَيضاً سَهْلُ التناوُلِ.
وقال الأكثرُ: المخاطَبُ العَالَمُ كلّه، ولا بُدّ من ورود الجميع، ثم اختلفوا في كَيْفِيَّةِ ورود المُؤْمِنِينَ، فقال ابنُ عباسٍ، وابنُ مسعودٍ، وخالدُ بن مَعْدَانَ، وابنُ جُرَيْجٍ «٣»، وغيرُهم: هو ورودُ دخولٍ، لكنَّها لا تعدو عليهم، ثم يخرجهم الله عز وجل منها بعدَ مَعْرِفتهم حَقِيقَةَ ما نَجَوْا منه.
وروى «٤» جابرُ بنُ عبدِ اللهِ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم أَنه قال: «الوُرُودُ فِي هَذِهِ الآيَةِ هُوَ الدُّخُولُ» «٥»، وقد أَشْفَقَ كَثِيرٌ من العلماء من تحقُّقِ «٦» الورودِ مع الجَهْلِ بالصَّدَرِ- جعلنا الله تعالى من الناجين بفضله ورحمته-، وقالت فِرْقَة: بَلْ هُو ورودُ إشْرَافٍ، واطِّلاعٍ، وقُرْبٍ، كما تقول: وردتُ الماءَ إذا جِئْتَه، وليس يلزم أن تدخل فيه، قالوا:
- ٤٤٤) رقم (١٠٢٠)، ومالك (١/ ٢٣٥) كتاب الجنائز: باب الحسبة في المصيبة، حديث (٣٨)، وأبو يعلى (١٠/ ٢٨٥) رقم (٥٨٨٢)، والبيهقي (٤/ ٦٧) كتاب الجنائز: باب ما يرجى في المصيبة بالأولاد إذا احتسبهم، والبغوي في «شرح السنة» (٣/ ٢٩٥- بتحقيقنا) كلهم من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة مرفوعا.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
(١) وقرأ بها عكرمة.
ينظر: «الكشاف» (٣/ ٣٤)، «والمحرر الوجيز» (٤/ ٢٧)، «والبحر المحيط» (٦/ ١٩٧)، «والدر المصون» (٤/ ٥١٩).
(٢) ينظر «المحرر الوجيز» (٤/ ٢٧).
(٣) أخرجه الطبريّ (٨/ ٣٦٤) برقم (٢٣٨٣٣) عن ابن عباس، وبرقم (٢٣٨٣٤) عن ابن جريج، وبرقم (٢٣٨٣٦) عن خالد بن معدان، وذكره البغوي (٣/ ٢٠٤) عن ابن عباس، وخالد بن معدان، وعن ابن مسعود بلفظ: «القيامة والكناية راجعة إليها»، وابن عطية (٤/ ٢٧)، والسيوطي (٤/ ٥٠٥)، وعزاه لعبد، الرزاق، وسعيد بن منصور، وهناد، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «البعث» عن مجاهد قال: خاصم نافع بن الأزرق ابن عباس فقال ابن عباس.
(٤) في ج: قال.
(٥) أخرجه أحمد (٣/ ٣٢٩)، والحاكم (٤/ ٥٨٧)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (١/ ٣٣٦) رقم (٣٧٠) من حديث جابر مرفوعا.
وذكره الهيثمي في «المجمع» (٧/ ٥٨) وقال: رواه أحمد، ورجاله ثقات.
والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٥٠٥)، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، والحكيم الترمذي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «البعث».
(٦) في ج: تحقيق.
31
وحسب المؤمن بهذا هؤلاء ومنه قولُه تعالى: وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ [القصص: الآية ٢٣].
وروت فرقة أثراً: أنّ الله تعالى يجعلُ النَّار يوم القيامة جامدةَ الأعلى كأنها إهالةٌ فيأتي الخلقُ كلُّهم برُّهم وفاجرُهم، فيقفون عليها، ثم تسوخُ بأهلِها، ويخرجُ المؤمنون الفائزون، لم ينلهم ضرٌّ، قالوا: فهذا هو الورودُ.
قال المهدوي «١» : وعن قتادةَ قال: يرد النَّاسُ جهنَّمَ وهي سَوْدَاءُ مظلِمةٌ، فأَما المؤْمنُونَ فأَضَاءَتْ لهم حَسَناتُهم، فَنَجَوْا منها، وأما الكفارُ فأوبقتهم سَيِّئَاتُهم، واحتبسوا بذنوبهم. [انتهى] ».
وروت حَفْصَةُ- رضي الله عنها- أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلّم قال: «لاَ يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ وَالحُدَيْبِيَةِ» قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، وأَيْنَ قَوْلُ اللهِ تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها فقال صلى الله عليه وسلّم: «فَمَهْ «٣»، ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا» «٤» ورجح الزجاجُ «٥» هذا القَوْلَ بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ [الأنبياء: ١٠١].
ت: وحديثُ حفصةَ هذا أَخرجهُ مُسْلِم، وفيه: «أَفلم تَسْمَعِيهِ يقولُ: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا «٦».
وروى ابنُ المبارك في «رُقائقه» : أنه لما نزلت هذه الآية: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها ذهب ابن رواحة إلى بيته فبكى [فَجَاءَتِ امرأته، فبكت]، «٧» وجاءت الخادم فبكت، وجاء
(١) أخرجه الطبريّ (٨/ ٣٦٥).
(٢) سقط في ج.
(٣) في ج: مه.
(٤) أخرجه أحمد (٦/ ٢٨٥)، وابن ماجه (٢/ ١٤٣١) كتاب «الزهد» : باب ذكر البعث، حديث (٤٢٨١)، وهناد في «الزهد» (١/ ١٦٥) رقم (٢٣٠) كلهم من طريق الأعمش عن أبي سفيان عن جابر عن أم مبشر عن حفصة به.
قال البوصيري في «الزوائد» (٣/ ٣١٥) : هذا إسناد صحيح إن كان أبو سفيان سمع من جابر بن عبد الله اهـ.
وأخرجه أيضا من طريق الأعمش- أبو يعلى (١٢/ ٤٧٣) رقم (٧٠٤٤).
والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٢٨٢)، وزاد نسبته إلى ابن سعد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن الأنباري، والطبراني، وابن مردويه.
(٥) ينظر: «معاني القرآن» (٣/ ٣٤٠، ٣٤١).
(٦) أخرجه مسلم (٤/ ١٩٤٢) كتاب فضائل الصحابة: باب من فضائل أصحاب الشجرة أهل بيعة الرضوان، حديث (١٦٣/ ٢٤٩٦)، وأحمد (٦/ ٤٢٠) كلاهما من طريق حجاج بن محمد: أخبرنا ابن جريج، أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: أخبرتني أم مبشر أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلّم يقول عند حفصة... فذكر الحديث.
(٧) سقط في ج. [.....]
32
أهل البيت فَجَعَلُوا يَبْكُونَ، فَلَمَّا انْقَضَتْ عَبْرَتُهُ، قَالَ: يَا أَهْلاَهُ، مَا يُبْكِيكُمْ، قَالُوا: لاَ نَدْرِي، وَلَكِنْ رَأَيْنَاكَ بَكَيْتَ فَبَكَيْنَا، فَقَالَ: آيَةٌ نَزَلَتْ على رسول الله صلى الله عليه وسلّم يُنْبِئُنِي فِيهَا رَبِّي أَنِي وَارِدُ النَّارَ، وَلَمْ يُنْبِئْنِي أَنِّي صَادِرٌ عَنْهَا، فَذَلِكَ الَّذِي أبْكَانِي «١». انتهى.
وَقال ابنُ مَسْعُودٍ: ورودُهُمْ/: هو جَوَازُهُمْ على الصراط «٢»، وذلك أنّ الحديث ٦ أالصحيح تضمن أَنَّ الصراط مَضْرُوبٌ على مَتْنِ جهنم.
والحتم: الأمر المنفد المجزوم، والَّذِينَ اتَّقَوْا: معناه اتَّقَوْا الكُفْر وَنَذَرُ دالةٌ على أَنهم كَانُوا فيها.
قال أَبُو عُمَر بنُ عَبْدِ البَرِّ في «التمهيد» بعد أَن ذكر روَاية جابِر، وابنِ مَسْعُودٍ في الوُرُودِ: وروي عن كَعْبٍ أَنه تَلاَ: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها فقال: أَتَدْرُونَ مَا وُرُودُهَا؟ إنه يُجَاءُ بجهنَّم فتُمْسكُ للناس كأَنها متْن إهَالَة: يعني: الوَدَك الذي يجمد على القِدْر من المرقَةِ، حَتَّى إذا استقرت عليها أَقدَام الخَلائِق: بَرّهم وفاجرهم، نَادَى مُنَادٍ: أَنْ خُذِي أَصْحَابِك، وذَرِي أَصْحَابِي، فيُخْسَفُ بكلِّ وليٍّ لها، فَلَهِيَ أَعلَمُ بهم مِنَ الوَالِدَة بولَدِهَا، وينجو المُؤْمِنُونَ نَدِيَّة ثيابهم «٣».
وروي هذا المعنى عن أَبي نَضْرَةَ، وزاد: وهو معنى قولِه تَعَالَى: فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ [يس: ٦٦]. انتهى.
وقوله تعالى: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً... الآية، هذا افتخارٌ من كفار قريش وأَنه إِنما أَنعم الله عليهم لأَجْلِ أَنهم على الحقِّ بزعمهم. والنَّدِيّ، والنَّادِي: المجْلِسُ، ثم رد الله تعالى حُجَّتَهم وحقَّر أَمْرهم فقال تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً أيْ: فلم يُغْن ذلك عنهم شَيْئاً «٤»، والأَثَاث: المال العين، والعَرْض «٥» والحيوان.
وقرأَ نافِعٌ «٦» وغيرُه: «ورءيا» بهمزةٍ بعدها ياء من رؤية العين.
(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٢٨٢)، وعزاه إلى أحمد، وابن المبارك، كلاهما في «الزهد»، وابن عساكر.
(٢) ذكره ابن عطية (٤/ ٢٧)، وابن كثير (٣/ ١٣٢).
(٣) أخرجه الطبريّ (٨/ ٣٦٥) رقم (٢٣٨٣٨)، وذكره ابن كثير (٣/ ١٣٣).
(٤) سقط في ج، وفي ب شيئا.
(٥) في ج: العروض.
(٦) ينظر: «السبعة» (٤١١، ٤١٢)، و «الحجة» (٥/ ٢٠٩)، و «إعراب القراءات» (٢/ ٢٣)، و «معاني القراءات» (٢/ ١٣٨)، و «العنوان» (١٢٧)، و «حجة القراءات» (٤٤٦)، و «شرح شعلة» (٤٨٧)، و «إتحاف» (٢/ ٢٣٩).
33
قال البخاري «١» : ورءياً: منظراً.
وقرأ نافعٌ أيضاً، وأَهل المدينة: «وَرِيّاً» بياء مشددة، فقيل: هي بمعنى القِرَاءةِ الأُولى، وقيل: هي بمعنى الرِّيِّ في السُّقْيَا إذْ أَكْثر النعمة مِنَ الريِّ والمطر.
وقرأ ابنُ جُبَيْر، وابنُ عباسٍ، ويزيدُ البريري: «وزيّا» بالزاي المعجمة بمعنى:
الملبس. [وأما] «٢» :
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٧٥ الى ٧٦]
قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (٧٥) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (٧٦)
قوله سبحانه: قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا، فيحتمل أَنْ يكون بمعنى الدُّعَاءِ والاِبْتِهَال كأَنه يقولُ: الأَضَلّ مِنّا ومنكم مد الله له، أَيْ: أملى له حَتَّى يؤول ذلك إلَى عذابِه، ويحتمل أَنْ يكون بمعنى الخبر أنه سبحانه هذه عَادَتُه: الإمْلاَءُ للضَّالِينْ: حَتَّى إِذا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ، أَيْ: في الدنيا بنصر الله لِلْمُؤْمِنينَ عليهم، وَإِمَّا السَّاعَةَ فيصيرون إلى النارِ، والجند النّاصرون: القائمون بأمر الحرب، وشَرٌّ مَكاناً بإزاء قولهم خَيْرٌ مَقاماً وأَضْعَفُ جُنْداً بإزاء قولهم: أَحْسَنُ نَدِيًّا ولما ذكر سبحانه ضَلاَلَةَ الكَفَرةِ وافتخارَهُم بنِعَم الدنيا عَقَّبَ «٣» ذلك بذكر نِعْمة الله على المؤْمِنينَ في أَنه يزيدهم هُدَىً في الارْتِبَاط بالأَعمالِ الصَّالحة، والمعرفة بالدَّلائل الوَاضِحَة، وقد تقدَّم تَفْسِيرُ البَاقِيَاتِ الصالحات عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم: «وأنها: سُبْحَانَ اللهِ، والحمُدْ لِلَّهِ، وَلاَ إله إلا الله، والله أكبر» وقد قال صلى الله عليه وسلّم لأَبِي الدَّرْدَاءِ: «خُذْهُنَّ يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ قَبْلَ أَنْ يُحَالَ بَيْنَكَ، وَبَيْنَهُنَّ فَهُنَّ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ، وهنّ من كنوز الجنّة «٤» »، وعنه صلى الله عليه وسلّم أَنه قَالَ:
«خُذُوا جُنَّتِكُم، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَمِنْ عَدُوٍّ حَضَرَ؟ قَالَ: مِنَ النَّارِ، قَالُوا: مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وهنّ الباقيات الصّالحات» «٥».
(١) ينظر: «صحيح البخاري» (٨/ ٢٨٠) كتاب التفسير: باب كهيعص.
(٢) سقط في ج.
(٣) في ب، ج: عقّب الله.
(٤) أخرجه الطبريّ في «تفسيره» (١٦/ ٩١)، وذكره الهندي في «كنز العمال» (٤٣٦٦٤)، وعزاه للطبراني عن أبي الدرداء.
(٥) أخرجه الحاكم (١/ ٥٤١)، والطبراني في «الصغير» (١/ ١٤٥)، والعقيلي في «الضعفاء» (٣/ ١٧-
وكَان أَبو الدرداء يقولُ إذَا ذكر هذا الحدِيثَ: لأُهَلِّلنّ، ولأُكَبِّرنَّ اللهَ، ولأُسَبِّحَنَّهُ حَتَّى إذَا رَآنِي الجَاهِلُ ظنِّنِي مَجْنُوناً «١».
ت: ولو ذكرنا ما ورد مِنْ صَحِيح الأَحادِيث في هذا الباب، لخرجنا بالإطالة عن مقصود الكتاب.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٧٧ الى ٧٩]
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (٧٧) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٧٨) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (٧٩)
وقوله/ سبحانه: أَفَرَأَيْتَ «٢» الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا هو العاصي بن وائل السهميّ قاله ٦ ب جمهورُ المفسرين، وكان خبره أَنْ خَبَّابَ بْنَ الأَرَتّ كان قَيْناً في الجاهلية، فعمل له عملاً، واجتمع له عنده دَيْن فجاءه يَتَقاضَاهُ، فقال له العاصِي: لا أقضيك حتَّى تكفُرَ بمحمدٍ، فقال خَبَّابٌ: لا أكفرُ بمحمّدٍ حتى يُميتَكَ اللهُ، ثم يبعثك فقال العاصي: أَوَ مبعُوثٌ أنا بعد الموت؟! فقال: نعم، فقال: فإنه إذَا كان ذلك، فسيكُونُ لِي مَالٌ، ووَلَدٌ، وعند ذلك أَقضيكَ دَيْنَكَ فنزلت الآيةُ في ذلك.
وقال «٣» الحسنُ: نزلتْ في الْوَلِيدِ بنِ المُغِيرة.
قال: ع «٤» : وقد كانت لِلْوَلِيدِ أَيْضاً، أَقْوَالٌ تشبه هذا الغرض.
ت: إلاَّ أَنَّ المسند الصحيح في «البخاري» هو الأَول.
- ١٨)، وابن عدي في «الكامل» (٦/ ٢٠٨٥) كلهم من طريق محمد بن عجلان عن المقبري عن أبي هريرة به.
وقال الحاكم: «صحيحٌ على شرط مسلمٍ ولم يخرِّجاه»، ووافقه الذهبي.
وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١٠/ ٩٢) وقال: رواه الطبراني في «الصغير» و «الأوسط»، ورجاله ثقات.
وقد طعن أبو حاتم كما في «العلل» (٢/ ١٠٠) رقم (١٧٩٣) في هذا الحديث.
وله طريق آخر عند الخطيب: فأخرجه في «تاريخه» (٩/ ٣٣٦) من طريق صلة من سليمان العطار عن أشعث عن ابن سيرين عن أبي هريرة به.
ونقل الخطيب عن أبي حاتم قوله في صلة: متروك الحديث، أحاديثه عن أشعث منكرة.
(١) أخرجه الطبريّ (٨/ ٣٧٤) رقم (٢٣٨٩٨)، وذكره ابن عطية (٤/ ٣٠)، وابن كثير (٣/ ١٣٥).
(٢) في ج: يعني أفرأيت. [.....]
(٣) ذكره ابن عطية (٤/ ٣٠).
(٤) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ٣٠).
وقولُه: أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً معناه بالأَيْمان، والأَعْمال الصالحات «١».
وكَلَّا زَجْرٌ، وردٌّ، وهذا المعنى لاَزِمٌ ل «كَلاَّ»، ثم أَخبر سبحانه: أَن قولَ هذا الكافر سَيُكْتب على معنى حفظه عليه، ومعاقبته «٢» به، ومدّ العذاب: هو إطالته وتعظيمه.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٨٠ الى ٨٣]
وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (٨٠) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (٨١) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (٨٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (٨٣)
وقوله سبحانه: وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ أَيْ: هذه الأَشياء التي سمّى أنه يُؤْتَاها في الآخرة، يرث اللهُ ماله منها [في الدنيا بإهلاكه، وتَرْكِه لها، فالوراثة «٣» مستعارةٌ] «٤».
وقال النحاسُ «٥» : نَرِثُهُ مَا يَقُولُ معناه: نحفظه عليه لنعاقبه به ومنه قوله صلى الله عليه وسلّم:
«العُلَمَاءُ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ» أي: حفظة ما قالوا.
قال ع «٦» : فكأَنَّ هذا المجرمُ يورث هذه المقالة.
وقوله: وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا معناه: يجدونهم خِلاَف ما كانوا أمّلُوه في مَعْبُودَاتِهم فَيَؤولُ ذلك بهم إلى ذِلَّة، وضِدِّ ما أملوه من العزّ، وغيره، وهذه صفة عامة.
وتَؤُزُّهُمْ معناهُ: تُقْلِقُهم وتحرِّكُهم إلى الكفر والضلالِ.
قال قتادةُ «٧» : تزعِجُهم إزْعاجاً، وقال ابنُ زيد «٨» : تُشْلِيهم إشْلاَءً، ومنه، أَزِيزُ القِدر، وهو غَلَيَانُه وحَرَكَتُه ومنه الحديث: «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم فَوَجَدْتُهُ يُصَلِّي، وهُو يَبْكِي، ولِصَدْرِهِ أَزِيزٌ كأَزِيزِ المرجل» «٩».
(١) في ب، ج: الصالحة.
(٢) في ب: ومعاقبته إياه.
(٣) في ج: الوارثة.
(٤) سقط في ب.
(٥) ذكره ابن عطية (٤/ ٣١).
(٦) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ٣١).
(٧) أخرجه الطبريّ (٨/ ٣٧٩) رقم (٢٣٩٢٦)، وذكره البغوي (٣/ ٢٠٨)، وابن عطية (٤/ ٣٢)، وابن كثير (٣/ ١٣٦)، والسيوطي (٤/ ٥٠٧)، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة.
(٨) أخرجه الطبريّ (٨/ ٣٧٩) رقم (٢٣٩٢٧)، وذكره ابن عطية (٤/ ٣٢).
(٩) أخرجه أبو داود (١/ ٣٠٠) كتاب الصلاة: باب البكاء في الصلاة، حديث (٩٠٤)، والنسائي (٣/ ١٣) -
ت: هذا الحديثُ خرَّجه مسلمٌ، وأَبُو دَاوُدَ عن مُطَرِّف عن أَبِيه.
وقال العِرَاقِيّ: تَؤُزُّهُمْ أي: تدفعهم: انتهى.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٨٤ الى ٨٧]
فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (٨٤) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (٨٥) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (٨٦) لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٨٧)
وقوله سبحانه: فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ أَيْ: لاَ تَسْتَبطِىءْ عَذَابهم.
وقوله تعالى: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً.
قال ع «١» : وظاهر هذه الوفادة «٢» أَنها بعد انقضاء الحساب، وإنما هي النهوضُ إلَى الجنَّة، وكذلك سوقُ المجرمين إنما هو لدخول النّار.
ووَفْداً قال المفسرون: معناه رُكْباناً، وهي «٣» عادةُ الوفود لأَنهم سَرَاةُ الناسِ، وأَحسنهم شَكْلاً، وإنما شَبَّههم بالوفْدِ هيئة، وكرامة.
وروي عن عَلِيِّ- رضي الله عنه- أَنهم يَجِيئُونَ رُكْباناً على النُّوقِ المحلاَّة بحِلْيةِ الجنَّة: خطمُها من يَاقُوتٍ، وزَبَرْجَدٍ «٤»، ونحو هذا.
وروى عمرو بْنُ قيس المَلاَّئِي: أنهم يركبون على تماثيل مِنْ أَعمالهم الصَّالِحة، وهي
- كتاب السهو: باب البكاء في الصلاة، حديث (١٢١٤)، والترمذي في «الشمائل» رقم (٣٢٣)، وأحمد (٤/ ٢٥، ٢٦)، وعبد بن حميد في «المنتخب من المسند» رقم (٩٠٠)، وابن خزيمة (٩٠٠)، وأبو يعلى (٣/ ١٧٤- ٧٥) رقم (١٥٩٩)، وابن حبان (٥٢٢- موارد)، والحاكم (١/ ٢٦٤)، والبيهقي (٢/ ٢٥١) كتاب الصلاة، كلهم من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه به.
وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. ووافقه الذهبي.
وصححه ابن خزيمة، وابن حبان.
تنبيه: عزا المؤلف هذا الحديث لمسلم، وقد وهم في ذلك.
وينظر: «تحفة الأشراف» (٤/ ٣٥٩).
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ٣٥٩).
(٢) في ب: الرفادة. [.....]
(٣) في ج: وهو.
(٤) أخرجه الطبريّ (٨/ ٣٨٠) رقم (٢٣٩٢٩)، وذكره البغوي (٣/ ٢٠٩)، وابن عطية (٤/ ٣٢)، وابن كثير (٣/ ١٣٧)، والسيوطي (٤/ ٥٠٨)، وعزاه لابن أبي شيبة، وعبد الله بن أحمد في «زوائد المسند»، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والحاكم وصححه، والبيهقي في «البعث» عن علي.
37
في غَاية الحُسْن «١».
وروي: أَنه يركب كُلُّ واحدٍ منهم ما أَحبَّ فمنهم: مَنْ يركبُ الإبلَ، ومنهم: مَنْ يركب الخَيْلَ، ومنهم مَنْ يركب السُّفُنَ، فتجيء عَائِمةٌ بهم، وقد ورد في «الضَّحَايَا» : أَنها مَطَايَاكُمْ إلَى الجَنَّةِ «٢» وأَكْثَر هذه فيها ضَعْفٌ مِنْ جهة الإِسْناد، والسَّوْقُ: يتضمن هوانا، والورد: العطاش قاله «٣» ابن عباس، وأَبُو هريرة، والحَسَنُ «٤».
٧ أواختلف في الضَّمِير في قوله: [لاَّ] يَمْلِكُونَ «٥» فقالت/ فِرْقةٌ: هو عائد على الْمُجْرِمِينَ أي: لا يملكون أَنْ يَشْفَعَ لهم وعلى هذا فالاِسْتِثْنَاءُ مُنقَطِع، أيْ: لكن من اتخذ عند الرحمن عهداً يشفعُ له.
والعهدُ عَلَى هذا الأَيْمان، وقال ابنُ عباسٍ: العهدُ: لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ «٦»، وفي الحدِيث:
يقول اللهُ تعالى يَوْمَ القِيَامة: «مَنْ كَانَ لَهُ عِنْدِي عَهْدٌ، فَلْيَقُمْ».
قال ع «٧» : ويحتمل: أَنْ يكون المجرمون يعمُّ الكَفَرَةَ والعُصَاة، أيْ: إلاَّ من اتخذ عند الرحمن عَهْداً من عُصَاةِ المؤْمِنِينَ فإنه يشفع لهم، ويكون الاستثناء متّصلا.
(١) أخرجه الطبريّ (٨/ ٣٨٠) رقم (٢٣٩٣٢) نحوه، وذكره ابن عطية (٤/ ٣٢)، وابن كثير (٣/ ١٣٧) نحوه.
(٢) قال السخاوي في المقاصد ص (٥٨) : أسنده الديلمي من طريق ابن المبارك عن يحيى بن عبيد الله عن أبيه عن أبي هريرة رفعه بهذا، ويحيى ضعيف جدا، ووقع في «النهاية» لإمام الحرمين، ثم في «الوسيط» ثم في «العزيز» :«عظموا ضحاياكم، فإنها على الصراط مطاياكم»، وقال الأول: معناه: إنها تكون مراكب للمضحين، وقيل: إنها تسهل الجواز على الصراط، لكن قد قال ابن الصلاح: إن هذا الحديث غير معروف ولا ثابت فيما علمناه. وقال ابن العربي في «شرح الترمذي» : ليس في فضل الأضحية حديث صحيح، ومنها: قوله: «إنها مطاياكم إلى الجنة».
(٣) سقط في ج.
(٤) أخرجه الطبريّ (٨/ ٣٨١) عن ابن عباس برقم (٢٣٩٣٦)، وعن أبي هريرة برقم (٢٣٩٣٧) وعن الحسن برقم (٢٣٩٣٨)، وذكره البغوي (٣/ ٢٠٩)، وابن عطية (٤/ ٣٢)، وابن كثير (٣/ ١٣٨)، والسيوطي (٤/ ٥٠٩، ٥١٠)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «البعث» عن ابن عباس، وعزاه أيضا لابن المنذر عن أبي هريرة، ولهناد عن الحسن.
(٥) في ب، ج: يملكون.
(٦) أخرجه الطبريّ (٨/ ٣٨١) برقم (٢٣٩٤٣)، وذكره البغوي (٣/ ٢٠٩) ولم يعزه لأحد، وابن عطية (٤/ ٣٢)، وابن كثير (٣/ ١٣٨)، والسيوطي (٤/ ٥١٠)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «الأسماء والصفات» عن ابن عباس.
(٧) ينظر «المحرر الوجيز» (٤/ ٣٢).
38
وقالت فِرْقَةٌ: الضميرُ في «١» لاَّ يَمْلِكُونَ للمتقين.
وقوله: إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ... الآية أيْ: إلاَّ من كان له عملٌ صَالِحٌ مبرورٌ [فيشفَعُ] فيُشَفَّع «٢»، وتحتملُ الآية أَنْ يُرادَ ب «مَنْ» النبي صلى الله عليه وسلّم، وبالشَّفَاعَة الخاصَّة له العامة في أَهل الموقِفِ، ويكون الضميرُ في لاَّ يَمْلِكُونَ «٣» لجميع أَهْل الموقف أَلا تَرَى أَنَّ سَائِرَ الأَنبياء يتدافعون الشفاعة إذ ذاك، حتّى تصير إليه صلى الله عليه وسلّم.
[سورة مريم (١٩) : آية ٨٨]
وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (٨٨)
وقوله تعالى: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً.
قال البَاجِيُّ في «سنن الصالحين» له: رُوِيَ عن ابن مَسْعُودٍ، أَنه قال: إنَّ الجبل ليقولُ للجبل: يا فلانُ، هل مَرَّ بِكَ اليومَ ذَاكِرٌ لله تعالى؟ فإنْ قال: نعم، سُرَّ بِهِ «٤»، ثُمَّ قرأ عبدُ اللهِ: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا إلى قولهِ: وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً قال: أَتروْنَها تسمع الزُّورَ، ولا تسْمَعُ الخيْرَ «٥». انتهى.
وهكذا رواه ابنُ المُبَارك في «رقائقه» وما ذكره ابنُ مسعودٍ لا يقالُ من جهة الرأْيِ، وقد رُوِيَ عن أَنسٍ، وغيرهِ نحوه.
قال الباجي بِإثْرِ الكَلاَمِ المتقدم: وروى جعفرُ بْنُ زَيْدٍ، عن أَنَسِ بن مَالِكٍ أَنه قالَ:
مَا مِنْ صَبَاحٍ وَلاَ رَوَاحٍ إلاَّ وتُنَادِي بِقَاعُ الأَرض بعضها بعضاً: أَيْ جَارَةُ، هَلْ مَرَّ بِكِ اليَوْمَ عَبْدٌ يُصَلِّي أَو يَذْكُر الله؟ فَمِن قائلةٍ: لاَ، ومِنْ قَائِلَةٍ: نَعَمْ، فإذا قَالَتْ: نَعَمْ، رأت لها فضلا بذلك. انتهى.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٨٩ الى ٩٦]
لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (٨٩) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (٩١) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (٩٢) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (٩٣)
لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (٩٤) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (٩٥) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (٩٦)
(١) في ج، ب: في قوله.
(٢) في ب: ليشفع.
(٣) في ج: في يملكون.
(٤) ذكره السيوطي (٤/ ٥١١) وعزاه لابن المبارك، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وأحمد في «الزهد»، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ في «العظمة»، والطبراني، والبيهقي في «شعب الإيمان» عن طريق عون عن ابن مسعود.
(٥) ذكره السيوطي (٤/ ٥١١)، وعزاه لعون. [.....]
39
وقوله سبحانه: لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا الآية، الإدُّ: الأَمرُ الشنِيعُ الصَّعْبُ.
ت: وقال العِرَاقِي: «إدّاً»، أَيْ: عَظِيماً، انتهى.
والانْفِطَارُ: الاِنْشِقَاقُ، والهَدُّ: الاِنْهِدَامُ، قال محمدُ بنُ كَعْبٍ «١» : كاد أَعداءُ الله أَنْ يُقِيمُوا علينا السَّاعَةَ.
وقوله: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ... الآية، إنْ نافيةٌ بمعنى مَا.
وقوله: فَرْداً يتضمنُ عَدَمَ النصير، والحَوْلِ والقُوّةِ، أيْ: لا مُجِير له مما يُريد اللهُ به.
وعبارة الثَّعْلَبِيّ: «فرداً» أيْ: وحيداً بعمله، ليس معه من الدنيا شيءٌ. اهـ.
ت: وهذه الآيةُ تُنظر إلى قوله تعالى وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى... الآية.
[الأنعام: ٩٤].
وقوله تعالى: سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا ذهب أكثرُ المفسرين إلى: أن هذا الوُدّ هو القبول الذي يضعه اللهُ لمن يحب مِنْ عباده حَسْبَما في الحديث الصَّحيح المأثور، وقال عُثْمان بن عَفّان- رضي الله عنه-: أَنها بمنزلة قول النبيّ صلى الله عليه وسلّم «من أسَرَّ سَرِيرةً ألْبَسُهُ اللهُ رِدَاءَها» «٢».
ت: والحديثُ المتقدِّمُ المُشَارُ إليه أَصلُهُ في «الموطإ» ولفظه: مالك، عن سُهَيْل بن أبي صالح السَّمان، عن أَبيه، عن أَبِي هريرَةَ أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «إذَا أَحَبَّ اللهُ العَبْدَ قَالَ لِجِبْريلُ: يا جبريل قَدْ أَحْبَبْتُ فُلاَناً فَأَحِبَّهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي في أَهْلِ السَّمَاءِ «٣» : إنَّ اللهَ أَحَبَّ فُلاَناً، فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يَضَعُ لَهُ القَبُولَ فِي الأَرْضِ».
وَإذَا أَبْغَضَ الْعَبْدَ، قَالَ مالكٌ: لا أَحْسبُه إلاَّ قال في [البغض] «٤» مثل ذلك «٥».
(١) ذكره ابن عطية (٤/ ٣٤).
(٢) ذكره ابن عطية (٤/ ٣٤).
(٣) في ج: السموات.
(٤) سقط في ب.
(٥) أخرجه مالك (٢/ ٩٥٣) كتاب الشعر: باب ما جاء في المتحابين في الله، حديث (١٥)، ومسلم (٤/ ٢٠٣٠) كتاب البر والصلة: باب إذا أحب الله عبدا، حديث (١٥٧/ ٢٦٣٧)، والترمذي (٥/ ٣١٧--
40
قال أبو عمر [بن عبد البر] «١» في «التمهيد» «٢» /، وممن روى هذا الحديث عن ٧ ب سُهَيْل، بإسناده هذا «٣» فذكر البُغْضَ من غير شَكٍّ معمرُ وعبدُ العزيز بن المختار، وحماد بنُ سَلَمة، قالوا في آخره: وإذَا أَبْغَض بمثل «٤» ذلك، ولم يشكوا.
قال أَبو عُمَر: وقد قال المفسِّرُون في قوله تعالى: سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا:
يُحِبُّهم ويُحبِّبُهم إلى الناس، وقاله مُجَاهِدٌ، وابنُ عباس «٥»، ثم أَسند أَبو عُمَرَ عن كْعبٍ أَنه قال: واللهِ مَا اسْتَقَر لعبدٍ ثَنَاءٌ في أَهْل الدُّنْيَا حتى يَسْتَقِرَّ له في أَهْل السماء.
قال كعبٌ: وقرأتُ «٦» في التوراة أنه لم تكن مَحَبَّةٌ لأَحَدٍ من أَهْل الأَرْضِ إلاَّ كان بَدّأَها من الله عز وجل ينزلها على أَهْل السماء، ثم ينزلها على أهْل الأرض، ثم قرأت القرآن، فوجدتُ فيهِ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا وأَسْنَد أَبو عمر، عن قتادة [قال] «٧» : قال هَرِمَ بْنُ حَيَّان: ما أَقْبَلَ عبدٌ بقلبه إلى اللهِ تعالى إلاَّ أَقبل اللهُ بقلوب أَهْل الإيمان عليه حَتَّى يرزُقَه مودَّتَهُمْ ورحْمَتَهُمْ. انتهى «٨».
قال ابنُ المُبَارَك في «رقائِقه» : أَخبرنا سُلَيْمَان بُنِ المُغِيرة، عن ثابت قال: قِيلَ:
يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ أَهْل الجَنَّة؟ قال: «مَنْ لاَ يَمُوتُ حَتَّى يَمْلأَ [الله] «٩» سمعه «١٠» ممّا
- ٣١٨) كتاب «التفسير» : باب «ومن سورة مريم»، حديث (٣١٦١)، وأحمد (٢/ ٢٦٧، ٣٤١)، وعبد الرزاق (١٩٦٧٣)، وابن حبان (٣٦٥)، وأبو نعيم في «الحلية» (١٠/ ٣٠٦) كلهم من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة به.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وأخرجه البخاري (١٣/ ٤٦٩) كتاب التوحيد: باب كلام الرب عز وجل مع جبريل، حديث (٧٤٨٥) من طريق عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار عن أبيه عن أبي صالح عن أبي هريرة.
(١) سقط في ب، ج.
(٢) ينظر: «التمهيد» (٢١/ ٢٣٧- ٢٣٨).
(٣) في ج: هذه.
(٤) في ج، ب: مثل.
(٥) أخرجه الطبريّ (٨/ ٣٨٥) عن مجاهد برقم (٢٣٩٦١)، وعن ابن عباس برقم (٢٣٩٦٥)، وذكره البغوي (٣/ ٢١٠)، وعزاه عن مجاهد، والسيوطي (٤/ ٥١٢)، وعزاه لعبد الرزاق، والفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير عن ابن عباس بلفظ: «محبة في الناس في الدنيا».
(٦) في ج: قوله.
(٧) سقط في ج.
(٨) أخرجه الطبريّ (٨/ ٣٨٦) رقم (٢٣٩٦٧). [.....]
(٩) سقط في ب، ج.
(١٠) في ج: مسامعه.
41
يُحِبُّ» قال: فقيل «١» : يا رسول اللهِ، مَنْ أَهْلُ النَّارِ؟ قَالَ: «مَنْ لاَ يَمُوتُ حَتَّى يَمْلأَ اللهُ سَمْعَهُ مِمَّا يَكْرَهُ». انتهى.
قال ع «٢» : وفي حَدِيثِ أبي هريرة قال: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «مَا مِنْ عَبْدٍ إلاَّ وَلَهُ في السَّمَاء صِيتٌ، فَإنْ كَانَ حَسَناً، وُضِعَ فِي الأَرْضِ حَسَناً، وإنْ كَانَ سَيِّئاً وُضِعَ في الأَرْضِ سَيِّئاً» «٣».
ت: وهذا الحديثُ خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ في كتاب «الزهد».
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٩٧ الى ٩٨]
فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (٩٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (٩٨)
وقوله تعالى: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ أَيْ: القرآن لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ أيْ: بالجنة، والنَّعِيم الدائم، والعزّ في الدنيا.
وقَوْماً لُدًّا هم: قريشٌ، ومعناه: مُجَادِلِينَ مُخَاصِمِينَ، والأَلَدُّ: المُخَاصِمُ المبالِغُ في ذلك، ثم مثَّل لهم بإهلاَكِ مَنْ قبلهم إذْ كانوا أَشَدَّ مِنْهُم، وأَلَدَّ وأَعْظَم قدْراً، و «الركز» :
الصَّوْتُ الخَفِيّ.
(١) في ج: قيل.
(٢) ينظر «المحرر الوجيز» (٤/ ٣٤).
(٣) أخرجه البزار (٣٣٠٦- كشف) من حديث أبي هريرة.
وذكره الهندي في «كنز العمال» (٤٣٠٣٨)، وعزاه للبزار عن أبي هريرة.
Icon