تفسير سورة ص

تفسير أبي السعود
تفسير سورة سورة ص من كتاب إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم المعروف بـتفسير أبي السعود .
لمؤلفه أبو السعود . المتوفي سنة 982 هـ
سورة ص مكية وآياتها ست أو ثمان وثمانون آية

﴿ص﴾ بالسُّكون على الوقفِ وقُرىء بالكسرِ والفتحِ لالتقاءِ السَّاكنينِ ويجوزُ أنْ يكونَ الفتحُ بإضمارِ حرفِ القسمِ في موضعِ الجرِّ كقولِهم الله لافعلين بالجرِّ وأنْ يكونَ ذلكَ نصباً بإضمارِ اذكُرْ أو اقر الا فتحاً كما مرَّ في فاتحةِ سورةِ البقرةِ وامتناعُ الصرَّفِ للتَّعريفِ والتَّانيثِ لأنَّها عَلَمٌ للسُّورةِ وقد صرَفها منَ قرأ صادٌ بالتَّنوينِ على أنَّه اسمُ الكتابِ أو التَّنزيل وقيل هو في قراءةِ الكسر أمرٌ من المصاداةِ وهي المعارضةُ والمقابلةُ ومنها الصَّدى الذي ينعكسُ من الأجسامِ الصَّلبةِ بمقابلة الصَّوتِ ومعناهُ عارضِ القُرآن بعملِك فاعملْ بأوامرِه وانتِه عن نواهيهِ وتخلَّقْ بأخلاقِه ثمَّ إنْ جُعل إسماً للحرفِ مسرُوداً على منهاجِ التَّحدي أو الرَّمزِ إلى كلامٍ مثل صدقَ الله أو صدقَ محمدٌ كما نقل عن أكابرِ السَّلفِ أو اسماً للسُّورة خبراً لمبتدأٍ محذوفٍ أو نصباً على إضمارِ اذكُر أو اقرأْ أو أمراً من المصاداة قالوا وفي قوله تعالى ﴿والقرآن ذِى الذكر﴾ للقسمِ وإنْ جعلَ مُقسَماً بهِ فهي للعطفِ عليهِ فإنْ أُريد بالقرآن كله فالمغايرة بينَهما حقيقةٌ وإنْ أُريد عينُ السُّورةِ فهي اعتبارَّيةٌ كما في قولِك مررتُ بالرجل الكريم وبالنسبة المُباركةِ وأيا ما كان ففي التَّكريرِ مزيدُ تأكيدٍ لمضمونِ الجملةِ المُقسَمِ عليها والذِّكرُ الشَّرفُ والنَّباهةُ كما في قوله تعالى وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ أو الذِّكرى والموعظة أو ذكرُ ما يُحتاج إليه في أمر الدِّينِ من الشَّرائعِ والأحكام وغيرِها من أقاصيص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأخبار الأمم الدَّارجةِ والوعد والوعيد وجواب القسم على الوجه الأول والرَّابعِ والخامس محذوف هو ما ينبىء عنه التَّحدِّي والأمرُ والإقسامُ به من كون المُتحدَّى به معجزاً وكونِ المأمورِ به واجباً وكونِ المقسَم به حقيقاً بالإعظامِ أي أُقسم بالقرآنِ أو بصادٍ وبه إنَّه لمعجز أو لواجب العمل به أو لحقيقٌ بالإعظامِ وأمَّا على الوجهينِ الباقيينِ فهو الكلامُ المرموزُ إليه ونفسُ الجملةِ المذكورةِ قبل القسم فإنَّ التَّسميةَ تنويه بشأن المُسمَّى وتنبيه على عظم خَطَرِه أي إنَّه لصادقٌ والقرآن ذي الذِّكرِ أو هذه السُّورة عظيمةُ الشَّأنِ والقرآنِ الخ على طريقة قولهم هذا حاتمٌ والله ولمَّا كأنَّ كلَّ واحدٍ من هذه الأجوبة مُنبئاً عن انتفاء الرِّيبِ عن مضمونه بالكلية انباء بينا كان قوله تعالى
﴿بَلِ الذين كَفَرُواْ فِى عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ﴾ إضراباً عن ذلك كأنَّه قيل لا ريبَ فيه قطعاً وليس عدمُ إذعان الكَفَرةِ له لشائبةِ ريبٍ ما فيه بل هم في استكبارٍ وحميَّةٍ شديدةٍ وشقاقٍ بعيدٍ لله تعالى ولرسولِه ولذلك لا يذعنون له
213
ص ٣ ٥ وقيل الجواب ما دلَّ عليه الجملةُ الإضرابيَّةُ أي ما كفَر به مَن كفَر لخللٍ وجدَهُ فيه بل الذَّينَ كفروا الخ وقُرىء في غِرَّةٍ أي في غَفْلةٍ عمَّا يجب عليهم التَّنبهُ له من مبادى الإيمان ودواعيِه
214
﴿كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ﴾ وعيدٌ لهم على كُفرهم واستكبارِهم ببيان ما أصاب مَن قبلهم من المُستكبرينَ وكم مفعولُ أهلكنا ومِن قرنٍ تمييزٌ والمعنى وقرناً كثيراً أهلكنا من القُرون الخاليةِ ﴿فَنَادَوْاْ﴾ عند نزول بأسناو حلول نقمتِنا استغاثةً وتوبةً لينجُوا من ذلك وقوله تعالى ﴿وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ﴾ حالٌ من ضمير نادوا اي نادَوا واستغاثوا طلباً للنَّجاةِ والحالُ أنْ ليسَ الحينُ حينَ مناصٍ أي فوتٍ ونجاةٍ من ناصَه أي فاتَه لا من ناصَ بمعنى تأخَّر ولا هيَ المشبَّهةُ بليسَ زيدتْ عليها تاءُ التَّانيثِ للتَّأكيدِ كما زِيدتْ على رُبَّ وثُمَّ وخُصَّتْ بنفي الأحيانِ ولم يبرزْ إلا أحدُ معمُوليها والأكثرُ حذفُ اسمِها وقيلَ هي النَّافيةُ للجنسِ زيدتْ عليها التَّاءُ وخصَّتْ بنفيِ الأحيانِ وحينَ مناصٍ منصوبٌ على أنَّه اسمُها أي ولا حين مناص لهم او بفعل مضمر أي ولا ارى حينَ مناصٍ وقُرىء بالرَّفعِ فهو على الأوَّلِ اسمُها والخبر محذف واي وليسَ حينُ مناصٍ حاصلاً لهم وعلى الثَّانِي مبتدأُ محذوفُ الخبرِ أيْ ولا حينُ مناصٍ كائنٌ لهم وقُرىء بالكسرِ كما في قوله طلبُوا صلحَنا ولاتَ او ان فأجبنا أنْ لاتَ حينِ بقاءِ إمَّا لأنَّ لاتَ تجرُّ الأحيانَ كما أنَّ لولا تجرُّ الضَّمائرَ في نحوِ قوله لولاكَ هذا العام لم أحج أو لأنَّ أوانٍ شُبِّه بإذْ في قوله... نهيتُكَ عن طِلابِكَ أمَّ عمرو... بعافيةٍ وأنتَ إذٍ صحيحُ...
في أنَّه زمانٌ قُطع منه المضافُ إليه وعُوِّض التنوين لأن أصله أو أن صُلحٍ ثم حُمل عليه حينِ مناصٍ تنزيلاً لقطعِ المضافِ إليه من مناصٍ إذْ أصلُه حينَ مناصِهم منزلَة قطعِه من حينٍ لما بينَ المضافينِ من الإتِّحادِ ثمَّ بنُي الحينُ لإضافتِه إلى غيرِ متمكنٍ وقرئ لاتِ بالكسرِ كجَيْرِ ويقفُ الكوفيُّون عليها بالهاءِ كالأسماءِ والبصريُّون بالتاءِ كالأفعالِ وما قيل منْ أنَّ التَّاءَ مزيدةٌ على حينٍ لاتِّصالِها به في الإمامِ مما لا وجهَ لَهُ فإنَّ خطَّ المصحفِ خارجٌ عن القياس
﴿وعجبوا أَن جَاءهُمْ مُّنذِرٌ مّنْهُمْ﴾ حكايةٌ لأباطيلِهم المتفرعةِ عَلى ما حُكي من استكبارِهم وشقاقِهم أي عجبُوا من أنْ جاءهم رسولٌ من جنسِهم بل أدونُ منهم في الرِّياسةِ الدُّنيويَّةِ والمالِ على معنى أنَّهم عدُّواً ذلك أمراً عجيباً خارجاً عن احتمالِ الوقوعِ وأنكرُوه أشدَّ الإنكارِ لا أنَّهم اعتقدُوا وقوعَه وتعجَّبوا منه ﴿وَقَالَ الكافرون﴾ وُضعَ فيه الظَّاهرُ موضعَ الضَّميرِ غضباً عليهم وإيذاناً بأنَّه لا يتجاسرُ على مثل ما يقولونَه إلا المتوغِّلون في الكُفر والفسوق ﴿هذا ساحر﴾ فيما يُظهره من الخوارقِ ﴿كَذَّابٌ﴾ فيما يُسنده إلى الله تعالى من الإرسالِ والإنزالِ
﴿أجعل الالهة إلها واحدا﴾ بأنْ نفى الأُلوهيَّةَ عنهم وقَصرَها على واحدٍ ﴿إِنَّ هذا لَشَىْء عُجَابٌ﴾ بليغٌ في العَجَبِ وذلك لأنَّه خلافُ ما ألِفُوا عليهِ آباءَهم الذينَ أجمعُوا على ألوهيتهم
214
ص ٦ ٧ وواظبُوا على عبادتِهم كابراً عن كابر فإن هذا مدارَ كلِّ ما يأتُون وما يذرُون من أمورٍ دينِهم هو التَّقليدُ والاعتيادُ فيعدُّون ما يخالفُ ما اعتادُوه عجيباً بل مُحالاً وأماً جعلُ مدارِ تعجبِهم عدمَ وفاءِ علمِ الواحدِ وقدرتِه بالأشياءِ الكثيرةِ فلا وجَه له لما أنَّهم لا يدَّعُون أنَّ لآلهتِهم علماً وقدرةً ومدخلاً في حدوث شئ من الأشياءِ حتَّى يلزمَ من نفي ألوهيَّتهم بقاءُ الآثار بلا مؤثر وقرئ عجَّاب بالتَّشديدِ وهو أبلغُ ككُرامٍ وكَرَّامِ رُوي أنَّه لما أسلم عمرُ رضي الله عنه شقَّ ذلك على قُريشٍ فاجتمعَ خمسةٌ وعشرونَ من صناديدِهم فأتَوا أبَا طالبٍ فقالُوا أنتَ شيخُنا وكبيرُنا وقد علمتَ ما فعلَ هؤلاءِ السُّفهاءُ وقد جئناكَ لتقضِي بينَنا وبينَ ابنِ أخيكَ فاستحضرَ رسولَ الله ﷺ وقال يا ابنَ أخِي هؤلاءِ قومُك يسألونَك السُّؤالَ فلا تملْ كلَّ الميلِ على قومك فقال ﷺ ماذا تسألوننى قالوا رفضنا وارفُض ذكَر آلهتِنا وندعكَ وإلهك فقال ﷺ أرأيتُم إنْ أعطيتُكم ما سألتُم أمعطيَّ أنتُم كلمةً واحدةً تملكونَ بها العربَ وتدينُ لكم بها العجمُ قالُوا نعم وعشراً فقال قولُوا لا إلَه إلاَّ الله فقامُوا وقالُوا ذلكَ
215
﴿وانطلق الملأ مِنْهُمْ﴾ أي وانطلقَ الأشرافُ من قريشٍ عن مجلسِ أبي طالبٍ بعد ما بكَّتهم رسولُ الله ﷺ بالجوابِ العتيدِ وشاهدُوا تصلُّبَه ﷺ في الدِّينِ وعزيمتَه على أنْ يُظهره على الدِّينِ كلِّه ويئسُوا ممَّا كانُوا يرجونَه بتوسطِ أبي طالبٍ من المصالحةِ على الوجِه المذكورِ ﴿أَنِ امشوا﴾ أي قائلين بعضِهم لبعضٍ على وجهِ النَّصيحةِ امشُوا ﴿وَاْصْبِرُواْ على آلهتكم﴾ أي واثبتُوا على عبادتِها متحمِّلين لما تسمعُونه في حقِّها من القدحِ وأنْ هي المفسِّرةُ لأنَّ الانطلاقَ عن مجلسِ التقاولِ لا يخلُو عن القولِ وقيل المرادُ بالانطلاقِ الاندفاعُ في القولِ وامشُوا من مشتِ المرأةُ إذا كثرتْ ولادتُها ومنه الماشيةُ للتفاؤلِ أي اجتمعوا وكثروا وقرئ امشُوا بغير أنْ على إضمار القول وقرئ يمشُون أنِ اصبرُوا ﴿إِنَّ هذا لَشَىْء يُرَادُ﴾ تعليلٌ للأمرِ بالصَّبرِ أو لوجوبِ الامتثالِ بهِ أي هذا الذي شاهدناهُ من محمَّدٍ ﷺ من أمرِ التَّوحيدِ ونفي آلهتنا وإبطال امرها لشئ يُراد أي من جهتِه ﷺ إمضاؤُه وتنفيذُه لا محالةَ من غير صارفٍ يلويهِ ولا عاطفٍ يثنيه لاقول يقال من طرفِ اللِّسان أو أمر يُرجى فيه المسامحةُ بشفاعةٍ أو امتنانٍ فاقطعُوا أطماعَكم عن استنزالِه من رأيهِ بوساطة أبي طالب وشفاعته وحسبكم أن لا تمنعوا من عبادةِ آلهتكم بالكلية فاصبروا عليها وتحمَّلوا ما تسمعونَه في حقِّها من القدحِ وسُوءِ القالةِ وقيل إنَّ هذا الأمر لشئ يريده الله تعالى ويحكم بإمضائِه وما أرادَ الله كونَه فلا مردَّ له ولا ينفعِ فيه إلاَّ الصَّبرُ وقيل إن هذا الأمر لشئ من نوائب الدَّهرِ يُراد بنا فلا انفكاكَ لنا منه وقيل إنَّ دينَكم لشئ يُراد أي يُطلب ليؤخذَ منكم وتُغلبوا عليه وقيل إنَّ هذا الذي يدَّعيهِ من التَّوحيدِ أو يقصدُه من الرِّياسةِ والتَّرفعِ على العرب والعجم لشئ يُتمنَّى ويرُيده كلُّ أحدٍ فتأمَّل في هذه الأقاويلِ واخترْ منها ما يساعدُه النظم الجليلُ
﴿مَّا سَمِعْنَا بهذا﴾ الذي يقولُه ﴿فِى الملة الاخرة﴾ أي الملَّةِ النَّصرانيةِ التي هي آخرُ الملل فإنَّهم مُثلِّثةٌ أو في الملَّةِ التي
215
ص ٨ ١١ أدركنا عليها آباءَنا ويجوزُ أن يكون الجارُّ والمجرور حالاً من هذا أي ما سمعنا بهذا مِنْ أَهْلِ الكتابِ وَلاَ الكُهَّانِ كائناً في الملَّة المترقبة ولقد كذبُوا في ذلك أقبح كذبٍ فإنَّ حديثَ البعثةِ والتَّوحيدِ كان أشهرَ الأمورِ قبل الظُّهور ﴿إِنَّ هَذَا﴾ أي ما هذا ﴿إِلاَّ اختلاق﴾ أي كذبٌ اختلَقه
216
﴿أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذكر﴾ أي القرآن ﴿مّن بَيْنِنَا﴾ ونحن رؤسا النَّاسِ وأشرافُهم كقولهم لَوْلاَ نُزّلَ هذا القرآنُ على رَجُلٍ مّنَ القريتينِ عظيم ومرداهم إنكارُ كونه ذكراً منزَّلاً من عندِ الله عزَّ وجلَّ كقولهم لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وأمثالُ هذه المقالاتِ الباطلة دليل على أنَّ مناطَ تكذيبهم ليس إلاَّ الحسدُ وقِصرُ النَّظرِ على الحُطام الدنيويِّ ﴿بْل هُمْ فَى شَكّ مّن ذِكْرِى﴾ أي من القرآنِ أو الوحي لميلهم إلى التَّقليدِ وإعراضِهم عن النَّظرِ في الأدِلَّةِ المؤدِّية إلى العلمِ بحقِّيتِه وليس في عقيدتِهم ما يبتُّون به فهم مذبذبون بين الأوهامِ ينسبونه تارةً إلى السِّحرِ وأخرى إلى الاختلاقِ ﴿بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ﴾ أي بل لم يذوقُوا بعد عذابي فإذا ذاقُوه تبيَّن لهم حقيقةُ الحال وفي لمَّا دلالةٌ على أنَّ ذوقَهم على شرف الوقوع والمعنى أنهم لا يصدّقون به حتى يمسَّهم العذاب وقيل لم يذوقوا عذابَى الموعودَ في القرآنِ ولذلك شكُّواً فيه
﴿أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبّكَ العزيز الوهاب﴾ بل أعندهم خزائنُ رحمتِه تعالى يتصرَّفون فيها حسبما يشاءون حتَّى يُصيبوا بها من شاءوا ويُصرفُوها عمَّن شاءوا ويتحكَّموا فيها بمقتضي آرائِهم فيتخيَّروا للنُّبوةِ بعضَ صناديدهم والمعنى أنَّ النُّبوةَ عطيةٌ من الله عز وجل يتفضَّلُ بها على مَن يَشَاء مِنْ عباده المصطَفينَ لا مانع له فإنَّه العزيز أي الغالب الذي لا يُغالب الوهَّابُ الذي له أنْ يهبَ كلَّ ما يشاءُ لكلِّ مَن يشاءُ وفي إضافةِ اسم الرب المنبئ عن التَّربيةِ والتبليغِ إلى الكمال الى ضميره ﷺ من تشريفه واللُّطفِ به ما لا يخفى وقوله تعالى
﴿أم لهم ملك السماوات والارض وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ ترشيحٌ لما سبق أي بل ألهُم ملكُ هذه العوالمِ العُلويةِ والسُّفليةِ حتَّى يتكلَّموا في الأمورِ الرَّبانيةِ ويتحكَّموا في التَّدابيرِ الإلهيةِ التي يستأثرُ بها ربُّ العزَّةِ والكبرياءِ وقولُه تعالى ﴿فَلْيَرْتَقُواْ فِى الاسباب﴾ جوابُ شرطٍ محذوفٍ أيْ إنْ كان لهم ما ذُكر من الملك فليصعدُوا في المعارجِ والمناهج التي يتوصَّلُ بها إلى العرشِ حتَّى يستووا عليه ويدبِّروا أمر العالم ويُنزلوا الوحَي إلى مَن يختارون ويستصوبوُن وفيه من التَّهكُّمِ بهم ما لا غايةَ وراءَه والسَّببُ في الأصل هو الوصلةُ وقيل المرادُ بالأسبابِ السَّمواتُ لأنَّها أسبابُ الحوادثِ السُّفليةِ وقيل أبوابُها
﴿جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مّن الاحزاب﴾ أي هم جندٌ ما من الكُفَّارِ المتحزبين عل الرُّسلِ مهزومٌ مكسورٌ عمَّا قريب فلا تُبالِ بما يقولون ولا تكترثْ بما يهذُون ومَا مزيدةٌ للتَّقليلِ والتحقير
216
ص ١٢ ١٤ نحو قولِك أكلتُ شيئاً ما وقيل للتَّعظيمِ على الهُزءِ وهنالك إشارةٌ إلى حيثُ وضعُوا فيه أنفسَهم من الانتدابِ لمثل ذلك القولِ العظيمِ وقولُه تعالَى
217
﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وفِرْعَوْنُ ذُو الاوتاد﴾ الخ استئنافٌ مقررٌ لمضمونِ ما قبله ببيانِ أحوالِ العُتاةِ الطُّغاةِ الذين هؤلاءِ جند ما من جنودهم ممَّا فعلوا من التَّكذيبِ وفعل بهم من العقابِ وذُو الأوتادِ معناه ذُو المُلك الثَّابتَ أصلُه من ثبات البيت المطنَّبِ بأوتاد فاستُعير لثبات الملكِ ورسوخِ السَّلطنةِ واستقامةِ الأمرِ قال الأسودُ بن يَعْفُر... وَلَقَد غَنُوا فيها بأَنْعمِ عِيْشة... فِي ظِلِّ مُلْكٍ ثَابتِ الأَوْتَادِ...
أو ذُو الجموع الكثيرة سموا بذلك لأنَّ بعضَهم يشدُّ بعضاً كالوتدِ يشدُّ البناءَ وقيل نصبَ أربعَ سوار وكان يمدُّ يَدَيْ المعذَّبِ ورجليه إليهما ويضربُ عليها أوتاداً ويتركُه حتَّى يموتَ وقيل كان يمدُّه بين أربعةِ أوتادٍ في الأرض ويرسلُ عليه العقاب والحيَّاتِ وقيل كانت له أوتادٌ وحبالٌ يلعب بها بين يديِه
﴿وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وأصحاب الأيكة﴾ أصحابُ الغَيضةِ من قومِ شُعيبِ عليه السَّلامُ وقوله تعالى ﴿أُوْلَئِكَ الاحزاب﴾ إمَّا بدلٌ من الطَّوائفِ المذكورة كما أنَّ ذلك الكتابُ بدلٌ من ألم على أحدِ الوجوه وفيه فضلُ تأكيدٍ وتنبيهٌ على أنَّهم الذين جُعل الجندُ المهزومُ منهم وقولُه تعالى
﴿إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرسل﴾ استئنافٌ جيء به تقريراً لتكذيبِهم وبياناً لكيفَّيتِه وتمهيداً لما يعقُبه أي ما كلُّ أحدٍ من آحادِ أولئكَ الأحزابِ أو الأحزابِ أو ما كلُّ حزب منهم كذَّبَ الرُّسلَ لأنَّ تكذيبَ واحد منهم تكذيبٌ لهم جميعاً لاتِّفاقِ الكلِّ على الحقِّ وقيل ما كلُّ حزبٍ إلاَّ كذَّب رسولَه على نهجِ مقابلةِ الجمعِ بالجمعِ وأيَّاً ما كان فالاستثناءُ مفرَّغٌ من أعمِّ العلل في خبر المبتدأ أي ما كلُّ أحدٍ منهم محكوماً عليه بحكم إلا محكومٌ عليه بأنه كذَّب الرُّسلَ وقيل ما كلُّ واحدٍ منهم مُخبَراً عنه بخبرٍ إلا مخَبرٌ عنه بأنَّه كذَّب الرُّسلَ وفي إسناد التَّكذيبِ إلى الطَّوائفِ المذكُورةِ على وجهِ الإبهامِ أوَّلاً والإيذانِ بأنَّ كُلاَّ منهم حزبٌ على حيالِه تحزَّب على رسولِه ثانياً وتبيينِ كيفيةِ تكذيبِهم بالجملةِ الاستثنائيةِ ثالثاً فنونٌ من المبالغة مسجَّلةٌ عليهم باستحقاقِ أشدِّ العذابِ وأفظعِه ولذلك رُتّب عليه قولُه تعالى ﴿فَحَقَّ عِقَابِ﴾ أي ثبتَ ووقعَ على كلَ منُهم عقابي الذي كانتْ تُوجبه جناياتُهم من أصنافِ العقوباتِ المفصَّلةِ في مواقَعِها وإما بالمبتدا وقولُه تعالى إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرسل خبرُه بحذفِ العائدِ أي إنْ كلٌّ منهم الخ والجملةُ استئنافٌ مقرِّرٌ لما قبله مؤكِّدٌ لمضمونِه مع ما فيه من بيانِ كيفيةِ تكذيبهم والتَّنبيهِ على أنَّهم الذين جُعل الجندُ المهزومُ منهم كما ذُكر وقيل هو مبتدأٌ وخبرٌ والمَعنْى أنَّ الأحزابَ الذين جُعل الجندُ المهزومُ منهم هُم هُم وأنَّهم الذينُ وجد منهم التَّكذيبُ فتدَّبرْ وأمَّا ما قيل من أنه خبرٌ والمبتدأُ قوله تعالى وَعَادٌ الخ أو قوله وقوم لوط الخ فما يجب تنزيهُ ساحةِ التنزيلِ عن امثاله
217
ص ١٥ ١٧
218
﴿وَمَا يَنظُرُ هَؤُلآء﴾ شروعٌ في بيان عقابِ كُفَّارِ مكَّة إثر بيانِ عقابِ أضرابِهم من الأحزابِ الذين أُخبر فيما سبقَ بأنَّهم جندٌ حقيرٌ منهم مهزومٌ عن قريبٍ فإنَّ ذلكَ ممَّا يوجبُ انتظارَ السَّامعِ وترقبه إلي بيانه قطعاً وفي الإشارةِ إليهم بهؤلاء تحقيرٌ لشأنِهم وتهوينٌ لأمرِهم وأمَّا جعلُه إشارةً إلى الأحزابِ باعتبارِ حضورِهم بحسبِ الذِّكرِ أو حضورِهم في علم الله عز وجل فليس في حيِّزِ الاحتمالِ أصلاً كيف لا والانتظار سواءٌ كان حقيقةً أو استهزاء إنما يُتصور في حقِّ من لم يترتب على أعمالِه نتائَجُها بعْد وبعدَ ما بيّن عقابُ الأحزابِ واستئصالُهم بالمرَّةِ لم يبقَ ممَّا أُريد بيانُه من عقوباتهم أمرٌ منتظرٌ وإنَّما الذين في مرصدِ الأنتظارِ كفَّارُ مكَّةَ حيث ارتكبُوا من عظائمِ الجرائم وكبائرِ الجرائرِ الموجبة لأشدِّ العقوباتِ مثلَ ما ارتكب الأحزابُ أو أشدَّ منه ولمَّا يلاقوا بعد شيئاً من غوائلِها أي وما ينتظُر هؤلاءِ الكَفَرةُ الذين هم أمثالُ أولئك الطَّوائفِ المهلكة في الكُفرِ والتَّكذيبِ ﴿إِلاَّ صَيْحَةً واحدة﴾ هي النَّفخةُ الثَّانيةُ لا بمعني أنَّ عقابهم نفسُها بما فيها من الشِّدَّةِ والهَوْلِ فإنَّها داهيةٌ يعمُّ هولُها جميعَ الأُممِ برَّهاً وفاجرِها بل بمعنى أنَّه ليس بينهم وبين حلولِ ما أعدلهم من العقاب الفظيعِ إلاَّ هي حيثُ أُخِّرت عقوبتُهم إلى الآخرةِ لما أنَّ تعذبهم بالاسئصال حسبما يستحقونه والنبي ﷺ بين أظهرِهم خارجٌ عن السُّنَّةِ الإلهيَّةِ المبنيّةِ على الحِكَم الباهرةِ كما نطقَ به قوله تعالى وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وأمَّا ما قيل مِن أنَّها النَّفخةُ الأَولى فممَّا لا وجهَ له أصلاً لما أنَّه لا يشاهد هو لها ولا يُصعقُ بَها إلاَّ مَنْ كانَ حيَّاً عندَ وقوعِها وليس عقابُهم الموعودُ واقعاً عقيبها ولا العذابُ المطلق مؤخر إليها بل يحلُّ بهم من حينِ موتِهم ﴿مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ﴾ أي من توقُّفٍ مقدار فَوَاقٍ وهو ما بين الحَلْبتينِ وقرئ بضمِّ الفاءِ وهُما لغتانِ وقولُه تعالى
﴿وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الحساب﴾ حكاية لما قالُوه عند سماعِهم بتأخير عقابهم إلى الآخرةِ أيْ قالُوا بطريق الاستهزاءِ والسُّخريةِ عجِّل لنا قطَّناً من العذابِ الذي تُوعدنا به ولا تؤخره إلى يومِ الحسابِ الذي مبدؤه الصَّيحةُ المذكورةُ والقطُّ القطة من الشَّيءِ من قطَّه إذا قطَعه ويقالُ لصحيفةِ الجائزةِ قطٌّ لأنَّها قطعةٌ من القرطاسِ وقد فسِّر بها أي عجِّل لنا صحيفةَ أعمالِنا لننظرَ فيها وقيل ذكرَ رسولُ الله ﷺ وعدَ الله تعالى المؤمنينَ الجنَّة فَقالُوا على سبيلِ الهُزءِ به عجِّلْ لنا نصيبنَا منها وتصديرُ دُعائِهم بالنِّداءِ المذكورِ للإمعانِ في الاستهزاءِ كأنَّهم يدعُون ذلك بكمالِ الرَّغبةِ والابتهالِ
﴿اصبر على مَا يَقُولُونَ﴾ من أمثالِ هذه المقالاتِ الباطلةِ ﴿واذكر﴾ لهم ﴿عَبْدَنَا داود﴾ أي قصَّته تهويلاً لأمرِ المعصيةِ في أعينهم وتنبيهاً لهم على كمالِ قبحِ ما اجترءوا عليه من المَعاصي فإنَّه ﷺ مع علوِّ شأنِه واختصاصِه بعظائمِ النِّعمِ والكراماتِ لمَّا ألمَّ بصغيرةٍ نزلَ عن منزلتِه ووبَّخْته الملائكةُ بالتَّمثيلِ والتَّعريضِ حتَّى تفطَّنَ فاستغفرَ ربَّه وأنابَ ووُجد منه ما يُحكى من بكائِه الدَّائبِ وغمِّه الواصبِ وندمِه الدَّائمِ فما الظنُّ بهؤلاءِ الكفرة الأذلين
218
ص ١٨ ٢٠ من كلِّ ذليلٍ المرتكبينَ لأكبرِ الكبائرِ المصرِّين على أعظمِ المَعَاصي أو تذكَّر قصَّته عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وصُنْ نفسَك أنْ تزلَّ فيما كُلِّفت من مصابرتِهم وتحمُّلِ أذيَّتهم كيلا يلقاكَ ما لقيه من المعاتبةِ ﴿ذَا الايد﴾ أي ذَا الُقوَّة يقال فلانٌ أيدٌ وذُو أيدٍ وآدٌ بمعنى وأياد كل شئ ما يُتقوَّى بهِ ﴿إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ رجَّاعٌ إلى مرضاةِ الله تعالى وهو تعليلٌ لكونِه ذَا الأيدِ ودليلٌ على أن المرادَ به القَّوةُ في الدِّينِ فإنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام كان يصومُ يوماً ويفطرُ يوماً ويقوم نصفَ اللَّيلِ
219
﴿إِنَّا سَخَّرْنَا الجبال مَعَهُ﴾ استئناف مسوق لتعليلِ قوَّتِه في الدِّينِ وأو ابيته إلى مرضاتِه تعالى ومع متعلقة بالتَّسخيرِ وإيثارُها على اللامِ لما أُشير إليه في سورةِ الأنبياءِ من أنَّ تسخيرَ الجبال له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لم يكن بطريقِ تفويضِ التَّصرُّفِ الكلِّي فيها إليهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ كتسخيرِ الرِّيحِ وغيرِها لسليمانَ عليه السَّلامُ بل بطريق التبعية له عليه الصلاَّةُ والسَّلامُ والاقتداء به في عبادة الله تعالى وقيل متعلقة بما بعدَها وهو أقربُ بالنسبةِ إلى ما في سورة الأنبياء عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ ﴿يُسَبّحْنَ﴾ أي يُقدسن الله عزَّ وجلَّ بصوتٍ يتمثلُ له أو بخلقِ الله تعالَى فيها الكلامَ أو بلسانِ الحالِ وقيل يسرن معه من السباحة وهو حال من الجبال وضع موضعَ مُسبِّحات للدِّلالةِ على تجدُّدِ التَّسبيحِ حالاً بعد حال واستئناف مبينٌ لكيفَّيةِ التَّسخيرِ ﴿بالعشى والإشراق﴾ أي ووقت الإشراقِ وهو حين تشرقُ أي تضئ ويصفُو شعاعُها وهو وقت الضُّحى وأما شروقُها فطلُوعها يقال شرقتِ الشَّمسُ ولمَّا تشرق وعن ام هانئ رضيَ الله عنهَا أنه عليه الصلاةُ والسلام صلَّى صلاة الضحى وقالَ هذه صلاة الإشراقُ وعن ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما ما عرفتُ صلاةَ الضُّحى إلاَّ بهذِه الآيةِ
﴿والطير﴾ عطف على الجبال ﴿مَحْشُورَةً﴾ حالٌ من الطَّيرَ والعاملُ سخَّرنا أي وسخَّرنا الطَّيرَ حالَ كونِها محشورةٌ عن ابن عباس رضي الله عنهما كانَ إذا سبَّح جاوبْتُه الجبالُ بالتَّسبيحِ واجتمعتْ إليه الطَّيرُ فسبَّحتْ وذلك حشرُها وقرئ والطَّيرَ محشُورةً بالرَّفعِ على الابتداءِ والخبريةِ ﴿كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ﴾ استئنافٌ مقررٌ لمضمونِ ما قبله مصرِّح بما فُهم منه إجمالاً من تسبيحِ الطَّيرِ أي كلَّ واحدٍ من الجبالِ والطَّيرِ لأجلِ تسبيحِه رجَّاعٌ إلى التَّسبيحِ ووضعُ الأوَّابِ موضعَ المسبِّحِ إمَّا لأنَّها كانتْ ترجِّع التَّسبيحَ والمرجِّعُ رجَّاعٌ لأنَّه يَرْجِعُ إلى فعله رجوعاً بعد رجوعٍ وإمَّا لأنَّ الأوَّابَ هو التَّوابُ الكثيرُ الرجوعِ إلى الله تعالى ومن دأبه إكثارُ الذِّكرِ وإدامُة التَّسبيحِ والتَّقديسِ وقيل الضَّميرُ لله عزَّ وجلَّ أي كلٌّ من داودَ والجبالِ والطَّيرِ لله أوابٌ أي مسبِّحٌ مرجِّعٌ للتَّسبيحِ
﴿وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ﴾ قوَّيناهُ بالهَيبةِ والنصرة وكثرة الجنود وقرئ بالتَّشديدِ للمبالغة قيل كان يبيتُ حول محرابِه أربعون ألفَ مستلئمٍ وقيل ادَّعى رجلٌ على آخرَ بقرةً وعجزَ عن إقامةِ البيِّنةِ فأَوْحَى الله تعالى إليه في المنامِ أنِ اقتل المدَّعى عليهِ فتأخَّر فأُعيد الوحيُ في اليقظةِ فأعلَمه الرَّجلُ فقال إنَّ الله تعالى لم يأخذني
219
ص ٢١ ٢٢ بهذا الذَّنبِ ولكنْ بأنِّي قتلتُ أبا هَذا غيلةً فقال النَّاسُ إنْ أذنبَ أحدٌ ذنباً أظهرَهُ الله تعالى عليه فقتلَه فهابُوه وعظمتْ هيبتُه في القلوبِ ﴿وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ﴾ النُّبوةَ وكمالَ العلمِ وإتقانَ العملِ وقيل الزَّبورَ وعلمَ الشَّرائعِ وقيل كلُّ كلامٍ وافقَ الحقَّ فهو حكمةٌ ﴿وَفَصْلَ الخطاب﴾ أي فصل الخصام بتمييزِ الحقِّ عن الباطل أو الكلامَ المُلخَّصَ الذي ينبه المخاطَب على المرامِ من غير التباس لما قد رُوعي فيه مظانُّ الفصل والوصل والعطفِ والاستئنافِ والإظهارِ والإضمارِ والحذفِ والتَّكرارِ وإنَّما سُمِّي به أمَّا بعدُ لأنَّه يفصل المقصودَ عمَّا سبق تمهيداً له كالحمدِ والصَّلاةِ وقيل هو الخطابُ الفصلُ الذي ليس فيه إيجاز مخل ولا إطنابٌ مُملٌّ كما جاء في نعت كلام النُّبوةِ فَصْلٌ لا نَزْر ولا هَذْر
220
﴿وهل أتاك نبأ الخصم﴾ استفهامٌ معناه التَّعجيبُ والتَّشويقُ إلى استماع ما في حيِّزهِ لإيذانه بأنَّه من الأنباء البديعةِ التي حقُّها أنْ تشيعَ فيما بين كل حاضرٍ وباد والخَصمُ في الأصل مصدرٌ ولذلكَ يُطلق عَلى الواحدِ وما فوقه كالضَّيفِ ومعنى خصمانِ فريقانِ ﴿إِذْ تَسَوَّرُواْ المحراب﴾ إذ تصعدوا سورَه ونزلُوا إليه والسُّورُ الحائطُ المرتفعُ ونظيرُه تسنَّمه إذا علا سنامَهُ وتذرَّاهُ إذا علا ذِرْوَتُه وإذْ متعلِّقةٌ بمحذوفٍ أي نبأ تحاكم الخصم إذْ تسوَّروا أو بالنبأ على أنَّ المرادَ به الواقع في عهد داودَ عليه السلام وان اسناده الإتيان إليه على حذفِ مضافٍ أيْ قصَّةً نبأ الخصم أو بالخصم لما فيه من معنى الخُصومةِ لا بأتى لأنَّ إتيانَه الرسول ﷺ لم يكن حينئذٍ وقوله تعالى
﴿إذ دخلوا على داود﴾ بدلٌ ممَّا قبله أو ظرف لتسوَّروا ﴿فَفَزِعَ مِنْهُمْ﴾ رُوي أنَّه تعالى بعثَ إليه مَلكين في صورة إنسانينِ قيل هما جبريلُ وميكائيلُ عليهما السَّلامُ فطلبا أنْ يدخلا عليه فوجداهُ في يوم عبادته فمنعهُما الحَرَسُ فتسوَّروا عليه المحراب بمن معهُما من الملائكةِ فلم يشعرْ إلاَّ وهُما بين يديه جالسانِ ففزِع منهم لأنَّهم نزلُوا عليه من فوق على خلافِ العادةِ والحَرَسُ حوله في غير يوم الحُكومةِ والقضاء قال ابن عباس رضي الله عنهما أن داود عليه السلام جزَّأ زمانَه أربعةَ أجزاءٍ يوماً للعبادة ويوماً للقضاء ويوماً للاشتغال بخاصَّةِ نفسه ويوماً للوعظ والتَّذكيرِ ﴿قَالُواْ﴾ استئنافٌ وقع جوابا عن سؤالٍ نشأَ من حكايةِ فزعِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ كأنَّه قيلَ فماذا قالتْ الملائكةُ عند مشاهدتِهم لفزعِه فقيل قالوا إزالةً لفزعِه ﴿لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ﴾ أي نحنُ فوجانِ متخاصمانِ على تسمية مصاحب الخصم خَصْماً ﴿بغى بَعْضُنَا على بَعْضٍ﴾ هو على الفرض وقصد التعرض فلا كذبَ فيه ﴿فاحكم بَيْنَنَا بالحق وَلاَ تُشْطِطْ﴾ أي لا تجُر في الحُكومةِ وقرىء ولا تشطُطْ أي لا تبعُد عن الحق وقرىء ولا تشاطِطْ وكلُّها من معنى الشَّططِ وهو مجاوزةُ الحدِّ وتخطِّي الحقِّ ﴿واهدنا إلى سَوَاء الصراط﴾ إلى وسطِ طريقِ الحقِّ بزجر الباغي عمَّا سلكه من طريق الجَوْرِ وإرشاده إلى منهاج العدل
220
221
٢٣ - ٢٤ ﴿إِنَّ هَذَا أَخِى﴾ استئنافٌ لبيان ما فيه الخُصومة أي أخي في الدِّينِ أو في الصُّحبةِ والتَّعرُّضُ لذلك تمهيدٌ لبيان كمال قبحِ ما فعل به صاحبُه ﴿لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِى نَعْجَةٌ واحدة﴾ هي الأُنْثى من الضَّأْنِ وقد يُكنى بها عن المرأةِ والكنايةُ والتَّعريضُ أبلغُ في المقصودِ وقُرىء تَسعٌ وتَسعونَ بفتحِ التَّاءِ ونعِجة بكسر النُّونِ وقُرىء وليْ نعجةٌ بسكونِ الياءِ ﴿فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا﴾ أي ملِّكنْيِها وحقيقتُه اجعلِني أكفُلُها كما أكفلُ ما تحتَ يدي وقيل اجعلْها كِفْلي أي نَصيبي ﴿وَعَزَّنِى فِى الخطاب﴾ أي غلبنِي في مخاطبتِه إيَّاي محاجَّةً بأنْ جاء بحجاجٍ لم أقدرْ على ردِّه او في مغالبته اياى في الخِطبةِ يقال خَطَبتُ المرأةَ وخَطبها هو فخاطبني خِطاباً أي غالبني في الخِطبة فغلبنِي حيثُ زُوِّجها دُوني وقُرىء وعازَّني أي غالبني وعَزَنِي بتخفيف الزَّاي طالبا للخفَّةِ وهو تخفيفٌ غريبٌ كأنَّه قيسَ على ظِلْتُ ومِسْتُ
﴿قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلى نِعَاجِهِ﴾ جوابُ قسمٍ محذوفٍ قصد به عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ المبالغةَ في إنكار فعل صاحبه وتهجِينَ طمعِه في نعجةِ من ليس له غيرُها مع أنَّ له قطيعاً منها ولعلَّه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ قال ذلك بعد اعترافِ صاحبهِ بما ادَّعاه عليه أو بناهُ على تقدير صدقِ المدَّعِي والسُّؤالُ مصدرٌ مضافٍ إلى مفعولِه وتعديتُه إلى مفعولٍ آخرَ بإلى لتضمُّنه معنى الإضافةِ والضمِّ ﴿وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ الخلطاء﴾ أي الشُّركاءِ الذين خلطُوا أموالَهم ﴿لَيَبْغِى﴾ ليتعدَّى وقُرىء بفتح الياء على تقدير النُّون الخفيفةِ وحذفها وبحذف الياءِ اكتفاءً بالكسرةِ ﴿بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ﴾ غير مراعٍ لحقِّ الصُّحبةِ والشِّركةِ ﴿إلا الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ منهم فإنَّهم يتحامَون عن البغي والعُدوانِ ﴿وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ﴾ أي وهم قليلٌ وما مزيدةٌ للإبهام والتَّعجبِ من قلَّتِهم والجملةُ اعتراضٌ ﴿وظن داود أَنَّمَا فتناه﴾ الظنُّ مستعارٌ للعلمِ الاستدلاليِّ لما بينهما من المشابهةِ الظَّاهرةِ أي عَلِمَ بما جرى في مجلس الحُكومةِ وقيل لما قضى بينهما ما نظرَ أحدُهما إلى صاحبِه فضحكَ ثم صعدَا إلى السَّماءِ حيال وجهِه فعلم عليه الصلاة والسلام أنه تعالى ابتلاهُ وليس المعنى على تخصيص الفتنةِ به عليه الصلاة والسلام دون غيرِه بتوجيِه القَصْر المستفادِ من كلمة إنما إلى المفعول بالقياس إلى مفعولٍ آخرَ كما هو الاستعمالُ الشائعُ الواردُ على توجيِه القصرِ إلى متعلِّقات الفعلِ وقيوده باعتبار النَّفي فيه والإثباتِ فيها كما في مثلِ قولِك إنَّما ضربتُ زيداً وإنَّما ضربته تأديباً بل على تخصيص حالِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بالفتنةِ بتوجيه القصرِ إلى نفسِ الفعلِ بالقياس إلى ما يُغايره من الأفعالِ لكن لا باعتبار النَّفي والإثباتِ معاً في خُصوصية الفعل فإنَّه غيرُ ممكنٍ قطعاً بل باعتبار النَّفي فيما فيه من معنى مُطلقِ الفعلِ واعتبار الإثبات فيما يقارنه من المعنى المخصُوص فإنَّ كلَّ فعلٍ من الأفعال المخصُوصة ينحلُّ
221
عند التَّحقيقِ إلى معنى مطلقٍ هو مدلولُ لفظِ الفعلِ وإلى معنى مخصُوص يُقارنه ويقيِّده وهو أثرُه في الحقيقةِ فإنَّ معنى نَصَر مثلاً فعَلَ النصْرَ يُرشدك إلى ذلك قولُهم معنى فلانٌ يُعطي ويَمنعُ يفعلُ الإعطاءَ والمنعَ فموردُ القصرِ في الحقيقةِ ما يتعلَّق بالفعلِ باعتبار النَّفي فيه والإثبات فيما يتعلَّق به فالمعنى وعلَم داودُ عليه السَّلامُ أنَّما فعلنا به الفتنة لاغير قيل ابتليناه بامراة او ريا وقيل امتحناهُ بتلك الحكومةِ هل يتنبه بها لما قُصد منها وإيثارُ طريقِ التمثيل لأنَّه أبلغُ في التَّوبيخِ فإنَّ التَّأملَ فيه إذا أدَّاه إلى الشُّعورِ بما هو الغرضُ كانَ أوقعَ في نفسِه وأعظمَ تأثيراً في قلبهِ وأدعى إلى التَّنبه للخطأ مع ما فيه من مراعاةِ حُرمتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بتركِ المُجاهرة والإشعار بأنَّه أمرٌ يُستحى من التَّصريحِ به وتصويره التَّحاكُم لإلجائِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إلى التَّصريحِ بنسبة نفسِه إلى الظُّلم وتنبيهه عليه الصلاة والسلام على ان اوربا بصددِ الخصامِ ﴿فاستغفر رَبَّهُ﴾ إثرَ ما علمَ أنَّ ما صدرَ عنه ذنبٌ ﴿وَخَرَّ رَاكِعاً﴾ أي ساجداً على تسمية السجودِ ركوعاً لأنَّه مبدؤُه أو خرَّ للسُّجودِ راكعاً أي مُصلِّياً كأنَّه أحرم بركعتي الاستغفارِ ﴿وَأَنَابَ﴾ أي رجع إلى الله تعالى بالتَّوبةِ وأصلُ القصَّة أنَّ داودَ عليه السَّلامُ رأى امرأةَ رجلٍ يقال له أُوريَّا فمال قلبُه إليها فسأله أنْ يطلقها فاستحي أنْ يردَّه ففعلَ فتزوَّجها وهي أمُ سليمانَ عليه السَّلامُ وكان ذلك جَائزاً في شريعتِه مُعتاداً فيما بين أمَّتهِ غيرَ مخلَ بالمروءة حيثُ كان يسأل بعضُهم بعضاً أنْ ينزلَ له عن امرأتِه فيتزوَّجها إذا أعجبته وقد كان الأنصارُ في صدر الإسلامِ يُواسون المهاجرين بمثلِ ذلك من غيرِ نكيرٍ خلا أنه عليه الصلاةُ والسلام لعظم منزلتِه وارتفاع مرتبتِه وعلوِّ شأنه نُبِّه بالتَّمثيل على أنَّه لم يكنْ ينبغي له أنْ يتَعَاطى ما يتعاطاه آحادُ أمَّتهِ ويسألَ رجلاً ليس له إلاَّ امرأةٌ واحدة أنْ ينزلَ عنها فيتزوَّجها مع كثرة نسائه بل كان يجبُ عليه أنْ يغالبَ هواهُ ويقهرَ نفسَه ويصبرَ على ما امتُحن به وقيل لم يكن أوريَّا تزوَّجها بل كان خطَبها ثمَّ خطبها داودُ عليه السلام فآثره عليه السَّلام أهلها فكان ذنبُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إن خطب على حطبة أخيه المسلمِ هذا وأمَّا ما يُذكر من أنَّه عليه الصلاةُ والسَّلامُ دخلَ ذاتَ يومٍ محرابَه وأغلق بابَه وجعل يُصلِّي ويقرأُ الزَّبورَ فبينما هو كذلك إذْ جاءَه الشَّيطانُ في صورةِ حمامةٍ من ذهبٍ فمدَّ يده ليأخذَها لابنٍ صغيرٍ له فطارتْ فامتدَّ إليها فطارتْ فوقعت في كُوَّةٍ فتبعها فأبصر امرأةً جميلةً قد نقضت شعرها فغطَّى بدنها وهي امرأةُ أُوريَّا وهو من غُزاة البلقاءِ فكتب إلى أيُّوبَ بن صُوريا وهو صاحبُ بعثِ البلقاءِ أنِ أبعثْ أُوريَّا وقدِّمُه على التَّابوتِ وكان من يتقدَّم على التَّابوتِ لا يحلُّ له أنْ يرجعَ حتَّى يفتحَ الله علي يديِه أو يُستشهدَ ففتح الله تعالَى على يدِه وسلَم فأمرَ بردِّه مرةً أُخرى وثالثةً حتَّى قُتل وأتاه خبرُ قتلِه فلم يحزنْ كما كان يحزنُ على الشهداء وتزوَّج امرأتَه فإفكٌ مبتَدعٌ مكروهٌ ومكرٌ مخترعٌ بئسما مكروه تمجُّه الأسماعُ وتنفرُ عنه الطِّباعُ ويلٌ لمن ابتدعَه وأشاعَه وتبَّاً لَمن اخترعه وأذاعَه ولذلك قال علي رضي الله عنه مَن حدَّثَ بحديثِ داودَ عليه السَّلامُ على ما يرويهِ القُصَّاصُ جلدتُه مائةً وستِّين وذلك حدُّ الفريةِ على الأنبياءِ صلواتُ الله تعالَى وسلامُه عليهم هذا وقد قيلَ إنَّ قوماً قصُدوا أنْ يقتلُوه عليه الصَّلاة والسَّلام فتسوّروا المحرابَ ودخلوا عليه فوجدُوا عنده أقواماً فتصنَّعوا بهذا التَّحاكمِ فعلم عليه الصلاة والسلام غرضَهم فهمَّ بأنْ ينتقمَ منهمِ فظنَّ أنَّ ذلك ابتلاءٌ له من الله عزَّ وجلَّ فاستغفرَ ربَّه ممَّا همَّ به وأنابَ
222
223
٢٥ - ٢٧ ﴿فَغَفَرْنَا لَهُ ذلك﴾ أي ما استغفرَ منه ورُوي أنه عليه الصلاةُ والسلام بقي ساجداً أربعينَ يوماً وليلةً لا يرفعُ رأسَه الا الصلاة مكتوبةٍ أو لما لا بُدَّ منه ولا يرقأُ دمعُه حتَّى نبتَ منه العشبُ إلى رأسه ولم يشرب ماء إلا ثلثاه دمعٌ وجهد نفسَه راغباً إلى الله تعالَى في العفوِ عنه حتَّى كادَ يهلك واشتغل بذلك عن المُلكِ حتَّى وثبَ ابنٌ له يقال له إيشا على ملكِه ودعا إلى نفسِه فاجتمع إليه أهلُ الزَّيغِ من بني إسرائيلَ فلمَّا غُفر له حاربَه فهزمَه ﴿وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لزلفى﴾ لقرابة وكرامة بعد المغفرة ﴿وَحُسْنُ مآب﴾ حسنَ مرجعٍ في الجنَّةِ
﴿يا داود إِنَّا جعلناك خَلِيفَةً فِى الارض﴾ إمَّا حكاية لمَّا خُوطب به عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مبينة لزُلفاه عنده عزَّ وجلَّ وإمَّا مقولُ قولٍ مقدَّرٍ هو معطوف على غفرنا أو حالٌ من فاعلِه أي وقُلنا له أو قائلين له يا داودُ الخ أي استخلفناك على المُلك فيها والحكمِ فيما بينَ أهِلها أو جعلناك خليفةً ممَّن كان قبلك من الأنبياء القائمينَ بالحقِّ وفيه دليلٌ بيِّنٌ على أنَّ حالهَ عليهِ الصَّلاة والسَّلام بعد التَّوبةِ كما كانت قبلها لم تتغيَّرْ قَط ﴿فاحكم بَيْنَ الناس بالحق﴾ بحكم الله تعالى فإنَّ الخلافةَ بكلا معنييه مقتضيةٌ له حتماً ﴿وَلاَ تَتَّبِعِ الهوى﴾ أي هوى النفس في الحكومات وغيرها من أمور الدين والدنيا ﴿فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ الله﴾ بالنصب على أنه جواب النَّهي وقيل هو مجزومٌ بالعطفِ على النَّهيِ مفتوحٌ لالتقاء السَّاكنينِ أي فيكون الهوى أو اتِّباعُه سبباً لضلالِك عن دلائله التي نصها على الحقِّ تكويناً وتَشريعاً وقوله تعالى ﴿إِنَّ الذين يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ الله﴾ تعليلٌ لما قبله ببيانِ غائلتِه وإظهار سبيلِ الله في موقع الإضمار لزيادة التَّقريرِ والإيذانِ بكمال شناعةِ الضَّلالِ عنه ﴿لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾ جملة من خبرٍ ومبتدأٍ وقعتْ خبراً لأنَّ أوْ الظرف خبر لأنَّ وعذابٌ مرتفع على الفاعلية بمَا فيهِ من مَعْنى الاستقرارِ ﴿بِمَا نَسُواْ﴾ بسبب نسيانِهم وقوله تعالى ﴿يَوْمِ الحساب﴾ إما مفعولٌ لنسُوا فيكون تعليلاً صريحاً لثبوت العذابِ الشَّديدِ لهم بنسيان يوم الحسابِ بعد الإشعارِ بعلِّيةِ ما يستتبُعه ويستلزمه أعني الضَّلالَ عن سبيل الله تعالى فإنَّه مستلزمٌ لنسيانِ يوم الحساب بالمرَّةِ بل هذا فردٌ من أفرادِه أو ظرفٌ لقولِهِ تَعَالى لَهُمْ أي لهُم عذابٌ شديدٌ يومَ القيامةِ بسببِ نسيانِهم الذي هو عبارةٌ عن ضلالِهم ومن ضرورته أن يكون مفعولُه سبيلِ الله فيكون التَّعليلُ المصرح به حينئذٍ عينَ التَّعليلِ المشعر به بالذَّاتِ غيره بالعُنوان ومَن لم يتنبيه لهذا السرِّ السريِّ قال بسبب نسيانِهم وهو ضلالُهم عن السَّبيلِ فإنَّ تذكَّره يقتضي ملازمةَ الحقِّ ومخالفةَ الهَوَى فتدبَّر
﴿وما خلقنا السماء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا باطلا﴾ كلامٌ مستأنفٌ مقررٌ لما قبله
223
ص ٢٨ ٢٩ من أمرِ البعثِ والحسابِ والجزاء أي وما خلقناهُما وَمَا بَيْنَهُمَا من المخلوقاتِ على هذا النِّظامِ البديعِ الذي تحارُ في فهمِه العقولُ خلقاً باطلاً أي خالياً عن الغايةِ الجليلةِ والحكمةِ الباهرةِ بل منطوياً على الحقِّ المُبين والحِكم البالغةِ حيثُ خلقنا من بينِ ما خلقنا نُفوساً أودعناها العقلَ والتَّمييزَ بين الحقِّ والباطلِ والنَّافعِ والضَّارِّ ومكنَّاها من التَّصرفاتِ العلميةِ والعمليةِ في استجلابِ منافعِها واستدفاعِ مضارِّها ونصبنا للحق دلائل آفافية وأنفسيةً ومنحناها القُدرةَ على الاستشهادِ بها ثم لم نقتصرْ على ذلك المقدارِ من الألطافِ بل أرسلنا إليها رُسلاً وأنزلنا عليها كتابا بيّنّا فيها كلَّ دقيقٍ وجليلٍ وأزحنا عللَها بالكلِّية وعرضناها بالتكليف للمنافع العظيمةِ وأعددنا لها عاقبةً وجزاءً على حسب أعمالِها ﴿ذلك﴾ إشارةٌ إلى ما نُفي من خلقِ ما ذُكر باطلاً ﴿ظَنُّ الذين كَفَرُواْ﴾ أي مظنونهم فإنَّ جحودَهم بأمرِ البعثِ والجزاءِ الذي عليه يدورُ فلَكُ تكوينِ العالمِ قولٌ منهم ببطلانِ خلقِ ما ذُكر وخلوِّه عن الحكمةِ سبحانَهُ وتعالَى عمَّا يقولونَ علوّاً كبيراً ﴿فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ مبتدأٌ وخبرٌ والفاءُ لإفادةِ ترتُّبِ ثبوتِ الويلِ لهُم عَلى ظنِّهم الباطلِ كما أنَّ وُضع الموصولُ موضعَ ضميرِهم للاشعار بما في حيز الصلة بعلية كفرهم له ولا تنافى بينهما لأنَّ ظنَّهم من باب كُفرِهم ومِنْ في قولِه تعالَى ﴿من النار﴾ تعليليةٌ كما في قوله تعالى فَوَيْلٌ لَّهُمْ مّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ ونظائرِه مفيدة لعليَّةِ النَّار لثبوتِ الويلِ لهم صَريحاً بعد الإشعارِ بعليةِ ما يُؤدِّي إليها من ظنِّهم وكفرِهم أي فويلٌ لهم بسببِ النَّارِ المترتِّبةِ على ظنِّهم وكفرِهم
224
﴿أم نجعل الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كالمفسدين فِى الارض﴾ أمْ منقطعةٌ وما فيَها من بلْ للإضرابِ الانتقاليِّ عن تقرير أمر البعثِ والحسابِ والجزاء بما مرَّ من نفيِ خلقِ العالم خالياً عن الحكمِ والمصالحِ إلى تقريرِه وتحقيقِه بما في الهمزةِ من إنكار التَّسويةِ بين الفريقينِ ونفيها على أبلغِ وجهٍ وآكدِه أي بل أنجعلُ المؤمنينَ المُصلحينَ كالكَفَرةِ المُفسدين في أقطارِ الأرضِ كما يقتضيه عدمُ البعثَ وما يترتَّبُ عليهِ من الجزاءِ لاستواء الفريقين في التَّمتع بالحياةِ الدُّنيا بل الكَفَرةُ أوفرُ حظَّاً منها من المؤمنينَ لكن ذلك الجعلُ محالٌ فتعيَّن البعثُ والجزاءُ حتماً لرفع الأوَّلينَ إلى أعلى عِلِّييِّنَ وردِّ الآخرينَ إلى أسفلِ سافلينَ وقوله تعالى ﴿أَمْ نَجْعَلُ المتقين كالفجار﴾ إضرابٌ وانتقالٌ عن إثبات ما ذُكر بلزوم المحالِ الذي هو التَّسويةُ بين الفريقينِ المذكُورينِ على الإطلاقِ إلى إثباتِه بلزومِ ما هو أظهرُ منه استحالةً وهو التَّسويةُ بين أتقياءِ المؤمنينَ وأشقياءِ الكَفَرةِ وحملُ الفُجَّار على فَجَرةِ المُؤمنين ممَّا لا يساعدُه المقامُ ويجوزُ أنْ يرادَ بهذينِ الفريقينِ عينُ الأوَّلينِ ويكون التَّكريرُ باعتبارِ وصفينِ آخرينِ هما أدخلُ في إنكار التَّسوية من الوصفينِ الأوَّلين وقيل قال كفَّارُ قُريشٍ للمؤمنين إنَّا نُعطَى في الآخرةِ من الخيرِ ما تُعطَون فنزلتْ
﴿كِتَابٌ﴾ خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ هو عبارةٌ عن القُرآن أو السُّورةِ وقولُه تعالى ﴿أنزلناه إِلَيْكَ﴾ صفته
224
ص ٣٠ ٣٢ وقوله تعالى ﴿مُّبَارَكٌ﴾ خبرٌ ثانٍ للمبتدأ أو صفةٌ لكتابٌ عند مَن يُجوِّز تأخيرَ الوصفِ الصَّريحِ عن غيرِ الصَّريحِ وقُرىء مباركاً على أنَّه حالٌ من مفعولِ أنزلنا ومعنى المبارك الكثيرُ المنافعِ الدِّينيةِ والدُّنيويةِ وقولُه تعالى ﴿ليدبروا آياته﴾ متعلِّقٌ بأنزلناه أي أنزلنَاهُ ليتفكَّروا في آياتِه التي من جُملتها هذهِ الآياتُ المعربةُ عن أسرارِ التَّكوينِ والتَّشريعِ فيعرفُوا ما يدبر ظاهرها من المعانِي الفائقةِ والتَّأويلاتِ اللائقةِ وقرىء ليتدَّبروا على الاصلى ولتدبَّروا على الخطابِ أي أنتَ وعلماءُ أمَّتك بحذفِ احدى التاءين ﴿وليتذكر أولوا الالباب﴾ أي وليتَّعظ به ذوو العقول السليمة او ليستحضروا ماهو كالمركوزِ في عقولِهم من فرطِ تمكُّنهم من معرفتِه لما نُصبِ عليه من الدَّلائلِ فإنَّ الكتبَ الإلهيةَ مبيِّنةٌ لما لا يُعرف إلا بالشَّرعِ ومرشدةٌ إلى مالا سبيلَ للعقلِ إليه
225
﴿ووهبنا لداود سليمان نِعْمَ العبد﴾ وقُرىء نعم العبدُ أي سليمانُ كما ينبىءُ عنه تأخيرُه عن داودَ مع كونِه مفعولاً صريحاً لوهبنا ولأنَّ قوله تعالى ﴿إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ أيْ رجّاع إلى الله تعالى بالتَّوبة أو إلى التَّسبيح مرجع له تعليلٌ للمدح وهو من حاله لما أنَّ الضَّميرَ المجرورَ في قوله تعالى
﴿إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ﴾ راجع إليه عليه الصلاة والسلام قطعاً وإذْ منصوبٌ باذكُر أي اذكُر ما صدرَ عنه إذْ عُرضَ عليه ﴿بالعشى﴾ هو من الظُّهرِ إلى آخرِ النَّهارِ ﴿الصافنات﴾ فإنَّه يشهدُ بأنَّه أوَّاب وقيل ظرف لأواب وقيل لنعِم وتأخيرُ الصَّافنات عن الظَّرفينِ لما مرَّ مرارا من التَّشويقِ إلى المؤخَّرِ والصَّافنُ من الخيلِ الذي يقومُ على طَرَفِ سُنبكِ يدٍ أو رجلٍ وهو من الصِّفاتِ المحمودةِ في الخيلِ لا يكادُ ينفق إلا في العِراب الخُلَّصِ وقيل هو الذي يجمعُ يديهِ ويسوِّيهما وأمَّا الذي يقفُ على سنبكهِ فهو المنخيم ﴿الجياد﴾ جمعُ جوادٍ وجودٍ وهو الذي يُسرع في جريِه وقيل الذي يجودُ عند الرَّكضِ وقيل وُصفتْ بالصُّفون والجَودةِ لبيان جمعها بين الوصفينِ المحمودينِ واقفةً وجاريةً أي إذا وقفتْ كانتْ ساكنةً مطمئنة في مواقفها وإذا جرتْ كانت سِراعاً خِفافاً في جَريها وقيل هو جمعُ جيِّد رُوي أنَّه عليه الصلاةُ والسلام غَزَا أهلَ دمشقَ ونصيبين وأصابَ ألفَ فرسٍ وقيل أصابها أبُوه من العمالقةِ فورثها منه وقيل خرجتْ من البحرِ لها أجنحةٌ فقعد يوماً بعدما صلَّى الظُّهر على كرسيِّه فاستعرضَها فلم تزلْ تُعرض عليه حتَّى غربتِ الشَّمسُ وغفلَ عن العصرِ أو عن وِردٍ كان له من الذِّكرِ وقتئذٍ وتهيَّبُوه فلم يعلموه فاغتمَّ لما فاتَه فاستردَّها فعقَرها تقرباً لله تعالى وبقي مائةٌ فما في أيدي النَّاسِ من الجياد فمن نسلها وقيل لمَّا عقرَها أبدلَه الله خيراً منها وهي الرِّيحُ تجري بأمره
﴿فَقَالَ إِنّى أَحْبَبْتُ حُبَّ الخير عن ذكر ربى﴾ قالَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عند غروب الشَّمسِ اعترافاً بما صدرَ عنْهُ منَ الاشتغالِ بها عن الصَّلاةِ وندماً عليه وتمهيداً لما يعقُبه منْ الأمر بردِّها وعقرِها والتَّعقيب باعتبار أواخرِ العرض المستمرِّ دون ابتدائِه
225
ص ٣٣ ٣٤ والتَّأكيدُ للدِّلالةِ على أنَّ اعترافَه وندمَهُ عن صميم القلبِ لا لتحقيقِ مضمونِ الخبر وأصلُ أحببتُ أنْ يعدَّى بعلى لانه بمعنى آثرت لكن لما أُنيب مُنابَ أنبتُ عُدِّي تعديتَه وحبَّ الخير مفعوله كأنه قبل أنبتُ حبَّ الخيرِ عن ذكر ربِّي ووضعتُه موضعه وخير المالُ الكثيرُ والمراد به الخيلُ التي شغلته عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ويحتمل أنَّه سمَّاها خيراً لتعلُّق الخيرِ بها قال ﷺ الخيرُ معقودٌ بنواصِي الخيلِ إلى يوم القيامة وقرىء أنِّي ﴿حتى تَوَارَتْ بالحجاب﴾ متعلِّق بقوله أحببتُ باعتبار استمرار المحبَّةِ ودوامِها حسب استمرارِ العرضِ أي أنبتُ حب الخير عن ذكر ربِّي واستمرَّ ذلك حتَّى توارتْ أي غربتْ الشَّمسُ تشبيهاً لغروبِها في مغربِها بتوارى المخبأةِ بحجابها وإضمارها من غير ذكر لدلالة العشي عليها وقيل الضمير للصافنات أي حتى توارتْ بحجابِ اللَّيلِ أي بظلامِه
226
﴿رُدُّوهَا عَلَىَّ﴾ من تمام مقالةِ سليمانَ عليه السَّلامُ ومرمى غرضِه من تقديم ما قدَّمه ومَن لَم يَتَنَبَّه لَه مع ظهورِه توهَّم أنَّه متَّصل بمضمرٍ هو جوابٌ لمضمرٍ آخرَ كأنَّ سائلاً قال فماذا قال سليمانُ عليه السَّلامُ فقيل قال ردها فتأمل والفاء في قوله تعالى ﴿فَطَفِقَ مَسْحاً﴾ فصيحةٌ مفصحةٌ عن جملةٍ قد حُذفتْ ثقة بدلالهِ الحالِ عليها وإيذاناً بغاية سرعةِ الامتثالِ بالأمرِ أي فردُّوها عليه فأخذ يمسحُ السَّيفَ مسحاً ﴿بالسوق والاعناق﴾ أي بسوقِها وأعناقِها يقطعها من قولِهم مسحَ عِلاوتَه أي ضرب عنفه وقيل جعل يمسحُ بيدهِ أعناقَها وسوقَها حُبَّاً لها وإعجاباً بها وليس بذاكَ وقُرىء بالسُّؤُقِ على همز الواوِ لضمَّتها كما في أدؤُر وقرىء بالسُّؤوقِ تنزيلاً لضمَّةِ السِّينِ منزلة ضمَّه الواوِ وقُرىء بالسَّاق اكتفاءً بالواحدِ عن الجمعِ لأمنِ الالباسِ
﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سليمان وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ﴾ أظهرُ ما قيل في فتنتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ما رُوي مرفُوعاً أنَّه قال لأطوفنَّ الليلةَ على سبعينَ امرأة تأتِي كل واحدة بفارس بجاهد في سبيلِ الله تعالى ولم يقُل إنْ شاءَ الله تعالى فطافَ عليهنَّ فلم تحمل إلا امرأةٌ واحدةٌ جاءتْ بشقِّ رجلٍ والذي نفسِي بيدِه لو قالَ إنْ شاء الله لجاهدُوا في سبيلِ الله فُرساناً أجمعون وقيل وُلد له ابنٌ فاجتمعتِ الشَّياطينُ على قتلِه فعلم ذلكَ فكانَ يغذُوه في السَّحابِ فَما شعرَ به إلى أنْ أُلقي عَلَى كرسيِّه ميتاً فتنبَّه لخطئِه حيثُ لَم يتوكَّل على الله عزَّ وعَلاَ وقيل إنَّه غَزَا صيدونَ من الجزائرِ فقتلَ ملكَها وأصابَ بنْتاً له تسمَّى جرادةَ من أحسنِ النَّاسِ فاصطفَاها لنفسِه واسلمت حبها وكان لا يرقأُ دمعُها جَزَعاً على أبيها فأمرَ الشَّياطينَ فمثَّلوا لها صورتَه وكانت تغدُو إليها وتروحُ مع ولائدها يسجدون لها كعادتهنَّ في مُلكِه فأخبرهَ آصفُ بذلك فكسرَ الصُّورةَ وعاقَب المرأةَ ثم خرج وحدَهُ إلى فَلاَة وفُرش له الرَّمادُ فجلس عليه تائباً إلى الله تعالى باكياً متضرِّعاً وكانتْ له أمُّ ولدٍ يُقال لها أمينةُ إذا دخلَ للطَّهارةِ أو لإصابةِ امرأةٍ يعطيها خاتمه وكان ملكُه فيه فأعطاها يوماً فتمثَّل لها بصورتِه شيطانٌ اسمه صخر وأخذ الخاتمَ فتختَّم به وجلس على كُرسِّيه فاجتمعَ عليه الخلقُ ونفَّذ حكمَه في كلِّ شيءٍ إلاَّ في نسائِه وغيَّر سليمان
226
ص ٣٥ ٣٨ عن هيئتِه فأتى أمينةَ لطلبِ الخاتمِ فأنكرتْهُ وطردتْهُ فعرفَ أنَّ الخطيئةَ قد أدركتْهُ فكان يدورُ على البيوتِ يتكفَّفُ وإذا قال أنَا سليمانُ حثَوا عليه التُّرابَ وسبُّوه ثم عمد إلى السَّماكين ينقلُ لهم السَّمك فيعطونَه كلَّ يومٍ سمكتينِ فمكثَ على ذلك أربعينَ صباحاً عددَ ما عُبد الوثنُ في بيتِه فأنكر آصفُ وعظماءُ بني إسرائيلَ حكمَ الشَّيطانِ ثم طارَ اللعينُ وقذفَ الخاتمَ في البحرِ فابتلعتْهُ سمكةٌ فوقعتْ في يدِ سليمانَ فبقرَ بطنَها فإذَا هُو بالخاتمِ فتختَّم به وخرَّ ساجداً وعادَ إليه ملكه وجاب صخرةً لصخرٍ فجعلَه فيها وسدَّ عليه بأُخرى ثم أوثَقهما بالحديدِ والرَّصاص وقذفه في البحرِ وعلى هذا فالجسدُ عبارةٌ عن صخرٍ سمِّي به وهو جسمٌ لا رُوحَ فيه لأنَّه تمثَّل بما لم يكن كذلكَ والخطيئةُ تغافلُه عليه الصلاة والسلام عن حالِ أهلِه لأنَّ اتِّخاذَ التَّماثيلِ لم يكُن محظُوراً حينئذٍ وسجودُ الصُّورةِ بغير علمٍ منه لا يضرُّه
227
﴿قَالَ﴾ بدل من أنابَ وتفسير له ﴿رَبّ اغفر لِى﴾ أي ما صدرَ عنِّي من الزَّلَّةِ ﴿وَهَبْ لِى مُلْكاً لاَّ يَنبَغِى لاِحَدٍ مّن بَعْدِى﴾ لا يتسهل له ولا يكونُ ليكونَ معجزةً لي مناسبةً لحالي فإنه عليه الصلاة والسلام لمَّا نشأَ في بيتِ الملكِ والنُّبوة وورثهما معاً استدعى من ربِّه معجزةً جامعة لحكمهما اولا ينبغي لأحدٍ أنْ يسلَبه منِّي بعد هذه السَّلبةِ اولا يصحُّ لأحدٍ من بعدي لعظمته كقولك لفلان ماليس لأحدٍ من الفضلِ والمالِ على إرادة وصف الملكِ بالعظمةِ لا أنْ لا يعطى أحد مثله فيكون منافسة وقيل كان مُلكاً عظيماً فخاف أنْ يُعطى مثلَه أحدٌ فلا يحافظُ على حدودِ الله تعالى وتقديمُ الاستغفارِ على الاستيهابِ لمزيد اهتمامِه بأمر الدِّينِ جرياً على سُنن الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ والصَّالحين وكون ذلك أدخلَ في الإجابةِ وقُرىء ليَ بفتحِ الياءِ ﴿إِنَّكَ أَنتَ الوهاب﴾ تعليلٌ للدُّعاءِ بالمغفرةِ والهبةِ معاً لا بالأخيرة فقط فإنَّ المغفرةَ أيضاً من احكام وصف الوهابية قطعا
﴿فَسَخَّرْنَا لَهُ الريح﴾ أي فذللناها لطاعتِه إجابةً لدعوتِه فعاد أمرُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إلى ما كان عليهِ قبل الفتنةِ وقُرىء الرِّياح ﴿تَجْرِى بِأَمْرِهِ﴾ بيانٌ لتسخيرِها له ﴿رُخَاء﴾ أي لينةً من الرَّخاوةِ طيبة لا تزعزعُ وقيل طيعةً لا تمتنع عليه كالمأمورِ المنقادِ ﴿حَيْثُ أصاب﴾ أي حيث قصدو اراد حَكَى الأصمعيُّ عن العربِ أصابَ الصَّوابَ فأخطأَ الجوابَ
﴿والشياطين﴾ عطفٌ على الرِّيح ﴿كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ﴾ بدلٌ من الشياطين
﴿وآخرين مُقَرَّنِينَ فِى الاصفاد﴾ عطفٌ على كلَّ بنَّاءٍ داخلٌ في حُكمِ البدلِ كأنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فصَّل الشَّياطينَ إلى عَمَلةٍ استعملهم في الأعمالِ الشَّاقةِ من البناء والغَوص ونحو ذلك وإلى مَرَدةٍ قُرن بعضَهم مع بعضٍ في السَّلاسلِ لكفِّهم عن الشرِّ والفسادِ ولعلَّ أجسامهم شفَّافةٌ فلا تُرى صلبةً فيمكن تقييدُها ويقدرون على
227
ص ٣٩ ٤١ الأعمال الصَّعبة وقد جُوِّز أن يكون الإقرانُ في الأصفادِ عبارة عن كفِّهم عن الشُّرورِ بطريق التَّمثيلِ والصَّفدُ القَيدُ وسُمِّي به العطاءُ لأنَّه يرتبط بالمنعمِ عليه وفرَّقوا بين فعليهما فقالُوا صفَده قيَّده وأصفدَهُ أعطاهُ على عكسِ وَعَد وأوعده وقوله تعالى
228
﴿هذا﴾ الخ إمَّا حكايةٌ لما خوطب به سليمان عليه السَّلامُ مبيِّنةٌ لعظمِ شأنِ ما أُوتي من الملكِ وأنَّه مفوَّضٌ إليه تفويضاً كلِّياً وإما مقولٌ مقدر هو معطوف على سخَّرنا أو حالٌ من فاعلهِ كما مرَّ في خاتمةِ قصَّةِ داودَ عليه السَّلامُ أي وقُلنا له أو قائلين له هذا الأمرُ الذي أعطيناكَه من المُلكِ العظيمِ والبسطةِ والتَّسلطِ على ما لَم يُسلَّطُ عليه غيرُك ﴿عَطَاؤُنَا﴾ الخاصُّ بك ﴿فامنن أَوْ أَمْسِكْ﴾ فأعطِ مَن شئتَ وامنْع مَن شئتَ ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ حال من المستكن في الأمرِ أي غير محاسب على شئ منِّه وإمساكهِ لتفويضِ التَّصرف فيه إليك على الإطلاقِ أو منْ العطاءِ أي هذا عطاؤنا مُلتبساً بغير حسابٍ لغاية كثرتِه أو صلةٌ له وما بينهما اعتراضٌ على التَّقديرينِ وقيل الإشارةُ إلى تسخير الشَّياطينِ والمرادُ بالمنِّ والإمساكِ الإطلاقُ والتَّقييدُ
﴿وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لزلفى﴾ في الآخرةِ مع ما له من المُلك العظيمِ في الدنيا ﴿وحسن مآب﴾ هو الجنَّةُ قيل فُتن سليمانُ عليه السَّلامُ بعد ما ملكَ عشرين سنةً وملك بعد الفتنةِ عشرينَ سنة وذكر الفقيهُ أبوُ حنيفةَ أحمدُ بنُ داودَ الدِّيْنَوَريُّ في تاريخه أنَّ سليمانَ عليه السَّلامُ ورثَ ملكَ أبيهِ في عصرِ كيخسرو بن سياوش وسارَ من الشَّامِ إلى العراقِ فبلغ خبره كيخسر فهربَ إلى خُراسانَ فلم يلبثْ حتَّى هلكَ ثمَّ سارَ سُليمانُ عليه السَّلامُ إلى مروٍ ثمَّ إلى بلادِ التُّركِ فوغل فيها ثم جازَ بلادَ الصِّين ثم عطفَ إلى أنْ وافى بلادَ فارسٍ فنزلها أيّاماً ثم عاد إلى الشَّامِ ثمَّ أمرَ ببناءِ بيتِ المقدسِ فلَّما فرغَ منه سار إلى تهامةَ ثم إلى صنعاءَ وكان من حديثِه مع صاحبتِها ما ذكر الله تعالى وغَزا بلادَ المغربِ الأندلسِ وطنجةَ وغيرَهما والله تعالى أعلمُ
﴿واذكر عَبْدَنَا أَيُّوبَ﴾ عطفٌ على اذكُر عبدنا داودَ وعدمُ تصديرِ قصَّةِ سليمانَ بهذا العُنوان لكمالِ الاتِّصالِ بينه وبينَ داودَ عليهما السَّلامُ وأيُّوبُ هو ابنُ عِيصَ بنِ إسحاقَ عليهِ السَّلامُ ﴿إِذْ نادى رَبَّهُ﴾ بدلُ اشتمالٍ من عبدَنا وأيُّوبَ عطفُ بيانٍ له ﴿إِنّى﴾ بأني ﴿مَسَّنِىَ الشيطان﴾ بفتح ياء مسنى وقرئ بإسكانِها وإسقاطِها ﴿بِنُصْبٍ﴾ أي تعب وقرئ بفتحِ النُّونِ وبفتحتينِ وبضمَّتينِ للتثقيلِ ﴿وَعَذَابٍ﴾ أي ألمٍ ووصبٍ يريدُ مرضَه وما كان يُقاسيه من فنونِ الشَّدائدِ وهو المرادُ بالضُّرِّ في قوله إنيِّ مسنى الضُّرُّ وهو حكايةٌ لكلامِه الذي ناداهُ به بعبارتِه وإلاَّ لقيلَ أنَّه مسَّه الخ والإسنادُ إلى الشَّيطان إمَّا لأنَّه تعالَى مسَّه بذلك لما فعل بوسوستِه كما قيل إنَّه أُعجب بكثرةِ مالِه أو استغاثه مظلومٌ فلم يغثه أو كانت مواشيه في ناحية ملك كافر فداهنه ولم يغزُه أو لامتحان صبره فيكون اعترافاً بالذَّنبِ أو
228
ص ٤٢ ٤٤ مراعاةً للأدبِ أو لأنَّه وسوس إلى أتباعِه حتَّى رفضُوه وأخرجُوه من ديارِهم أو لأنَّ المرادَ بالنَّصَبِ ما كان يُوسوس به إليه في مرضِه من تعظيم ما نزل به من البلاءِ والقُنوطِ من الرَّحمةِ ويغريه على الكراهةِ والجَزَعِ فالتجأَ إلى الله تعالَى في أنْ يكفيه ذلك بكشفِ البلاءِ أو بالتوفيقِ لدفعِه وردِّه بالصَّبرِ الجميلِ وليس هذا تمامَ دعائِهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بل من جُملتِه قولُه وانت ارحم الراحمين فاكتفى ههنا عن ذكرِه بما في سُورةِ الأنبياءِ كما تركَ هناك ذكرَ الشَّيطانِ ثقةً بما ذكرههنا وقوله تعالى
229
﴿اركض بِرِجْلِكَ﴾ الخ إمَّا حكايةٌ لما قيل له أو مقولٌ لقولٍ مقدرٍ معطوفٍ على نادى أي فقلنا له اركض برجلك أي اضربْ بها الأرضَ وكذا قوله تعالى ﴿هذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ﴾ فإنَّه أيضاً إمَّا حكايةٌ لما قيل له بعدَ امتثالِه بالامر ونبوع الماءِ أو مقولٌ لقولٍ مقدرٍ معطوفٍ على مقدَّر ينساقُ إليهِ الكلامُ كأنه قيل فضربَها فنبعتْ عينٌ فقلنا له هذا مغتسلٌ تغتسلُ به وتشربُ منه فيبرأُ ظاهرُك وباطُنك وقيل نبعتْ عينانِ حارَّةٌ للاغتسالِ وباردةٌ للشُّربِ ويأباهُ ظاهرُ النظمِ الكريمُ وقوله تعالى
﴿وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ﴾ معطوفٌ على مقدَّرَ مترتبٍ على مقدَّرٍ آخرَ يقتضيه القولُ المقدَّرُ آنفاً كأنَّه قيل فاغتسل وشرب فكشفنا بذلكَ مابه من ضركما في سورة الأنبياء ووهبنا له أهلَه إمَّا بإحيائِهم بعد هلاكِهم وهو المرويُّ عن الحسنِ أو بجمعِهم بعد تفرُّقِهم كما قيل ﴿وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ﴾ عطفٌ على أهلَه فكان له من الأولادِ ضِعفُ ما كان له قبل ﴿رَحْمَةً مّنَّا﴾ أي لرحمةٍ عظيمةٍ عليه من قبلنا ﴿وذكرى لأُوْلِى الالباب﴾ ولتذكيرهم بذلك ليصبروا عل الشَّدائدِ كما صبرَ ويلجأوا إلى الله عزَّ وجلَّ فيما يحيقُ بهم كما لجأ ليفعلَ بهم ما فعلَ به من حُسن العاقبةِ
﴿وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً﴾ معطوفٌ على اركُض أو على وهبنَا بتقديرِ قُلنا أي وقُلنا خذْ بيدِك الخ والأوَّلُ أقربُ لفظاً وهذا أنسبُ معنى فإنَّ الحاجةَ إلى هذا الأمرِ لا تمسُّ إلا بعد الصَّحةِ فإنَّ امرأتَه رحمةَ بنتَ افرايمَ بنِ يوسفَ وقيل ليَا بنتُ يعقوبَ وقيل ماصرُ بنتُ ميْشا بن يُوسفَ عليه السَّلامُ ذهبتْ لحاجةٍ فأبطأتُ فحلفَ إنْ برئ ليضربنَّها مائةً ضربة فأمرَه الله تعالى بأخذِ الضِّغثِ والضِّغثُ الحزمةُ الصَّغيرةُ من الحشيشِ ونحوِه وعن ابن عباس رضي الله عنهما قبضةٌ من الشَّجرِ وقال ﴿فاضرب بّهِ﴾ أي بذلك الضِّغثِ ﴿وَلاَ تَحْنَثْ﴾ في يمينك فإنَّ البرَّ يتحققُ به ولقد شرعَ الله سبحانه هذه الرُّخصةَ رحمةً عليه وعليها الحسن خدمتِها إيَّاهُ ورضاهُ عنها وهي باقيةٌ ويجب أنْ يصيبَ المضروبَ كلُّ واحدٍ من المائةِ إما بأطرافِها قائمة أوبأعراضها مبسوطةً على هيئةِ الضَّربِ ﴿إِنَّا وجدناه صَابِراً﴾ فيما أصابَه في النَّفسِ والأهلِ والمالِ وليسَ في شكواهُ إلى الله تعالى إخلالٌ بذلك فإنَّه لا يُسمَّى جزَعاً كتمنِّي العافيةِ وطلب الشِّفاءِ على أنَّه قال ذلك خيفةَ الفتنةِ في الدِّينِ حيث كانُ الشَّيطانُ يوسوس الى قومه
229
ص ٤٥ ٤٨ بأنَّه لو كانَ نبيَّاً لما ابُتلي بمثلِ ما ابُتلي به وإرادة القوَّة على الطَّاعةِ فقد بلغ أمرُه إلى أنْ لم يبقَ منه إلاَّ القلبُ واللِّسانُ ويُروى أنَّه عليه السلام قال في مناجاتِه إلهي قد علمتَ أنَّه لم يُخالفْ لساني قلبيَ ولم يتبع قلبي بصريَ ولم يهبني ما ملكتْ يميني ولم آكلْ إلا ومعي يتيم ولم أبتْ شبعانَ ولا كاسياً ومعي جائعٌ أو عريانُ فكشفَ الله تعالى عنه ﴿نِعْمَ العبد﴾ أي أيُّوبُ ﴿إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ تعليلٌ لمدحِه أيْ رجّاع إلى الله تعالى
230
﴿واذكر عِبَادَنَا إبراهيم وإسحاق وَيَعْقُوبَ﴾ عطفُ بيانٍ لعبادَنا وقرئ عبدَنا إمَّا على أنَّ إبراهيمَ وحدَهُ لمزيد شرفهِ عطفُ بيانٍ وقيل بدلٌ وقيل نُصبَ بإضمارِ أَعْنِي والباقيانِ عطفٌ على عَبدنا وإمَّا على أنَّ عبدَنا اسمُ جنسٍ وضعَ موضعَ الجمع ﴿أُوْلِى الايدى والابصار﴾ أُولي القوَّةِ في الطَّاعةِ والبصيرةِ في الدِّينِ أو أولي الأعمالِ الجليلةِ والعلومِ الشَّريفةِ فعبَّر بالأيدِي عن الأعمالِ لأنَّ أكثرَها تُباشر بها وبالأبصارِ عن المعارفِ لأنَّها أقوى مباديها وفيه تعريضٌ بالجَهَلةِ البطَّالينَ أنَّهم كالزمنى والعُماةِ وتوبيخٌ على تركِهم المجاهدةِ والتَّأمُّلِ مع تمكنهم منهما وقرئ أُولي الأيدِ بطرحِ الياءِ والاكتفاء بالكسر وقرئ أُولي الأيادِي على جمعِ الجمعِ
﴿إِنَّا أخلصناهم بِخَالِصَةٍ﴾ تعليلٌ لما وُصفوا به من شرفِ العُبودَّيةِ وعلوِّ الرُّتبةِ في العلم والعمل أي جعلناهم خالصينَ لنا بخصلةٍ خالصةٍ عظيمةَ الشَّأنِ كما ينبئ عنه التَّنكيرُ التَّفخيميُّ وقولُه تعالى ﴿ذِكْرَى الدار﴾ بيانٌ للخالصةِ بعد إبهامِها للتَّفخيم أي تذكرٍ للدَّارِ الآخرةِ دائماً فإنَّ خُلوصَهم في الطَّاعةِ بسببِ تذكُّرِهم لها وذلكَ لأنَّ مطمحَ أنظارِهم ومطرح أفكارِهم في كلِّ ما يأتونَ وما يذرون جوارُ الله عزَّ وجلَّ والفوزُ بلقائهِ ولا يتسنَّى ذلك إلاَّ في الآخرةِ وقيل أخلصناهُم بتوفيقِهم لها واللُّطفِ بهم في اختيارِها ويعضد الأولَ قراءةُ من قرأ بخالصتِهم وإطلاق الدَّارِ للإشعارِ بأنَّها الدَّارُ في الحقيقةِ وإنَّما الدُّنيا مَعْبرٌ وقرئ بإضافةِ خالصةٍ إلى ذِكرى أي بما خلُص من ذِكرى الدَّارِ عَلى مَعْنى أنهُم لا يشوبون ذكراهابهم آخرَ أصلاً أو تذكيرهم الآخرةَ وترغيبُهم فيها وتزهيدُهم في الدُّنيا كما هو شأنُ الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ وقيلَ ذِكرى الدَّارِ الثَّناءُ الجميلُ في الدُّنيا ولسانُ الصِّدقِ الذي ليس لغيرِهم
﴿وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ المصطفين الاخيار﴾ لمن المُختارين من أمثالِهم المصطَفَين عليهم في الخيرِ والأخيار جمعُ خَيْرٍ كشرَ وأشرارٍ وقيل جمعُ خَيِّرٍ أو خَيْرٍ مُخفَّفٍ منْهُ كأمواتٍ في جمعِ مَيِّتٍ ومَيْتٍ
﴿واذكر إسماعيل﴾ فُصلَ ذكرُه عن ذكر أبيه وأخيه للإشعارِ بعراقتِه في الصَّبرِ الذي هُو المقصودُ بالتَّذكيرِ ﴿واليسع﴾ هو ابن خطوب بنِ العجوزِ استخلفَه الياسُ على بني إسرائيلَ ثم استنبئ واللامُ فيه حرفُ تعريفٍ دخلَ على يسع كما في قول من
230
ص ٤٩ ٥٣ قال رأيتُ الوليدَ بنَ اليزيد مباركا وقرئ واليسع كأنه أصله لَيْسع فَيْعل من اللَّسعِ دخلَ عليه حرفُ التَّعريفِ وقيل هو على القراءتينِ عَلَم أعجميٌّ دخل عليه اللامُ وقيل هو يُوشع ﴿وَذَا الكفل﴾ هو ابنُ عمِّ يسع أو بشر بن أيوب واختُلف في نبوَّتِه ولقبهِ فقيل فرَّ إليه مائةُ نبيَ من بني إسرائيلَ من القتل فآواهُم وكَفَلهم وقيل كُفل بعملِ رجلٍ صالحٍ كان يُصلِّي كلَّ يومٍ مائةَ صلاة ﴿وَكُلٌّ﴾ أي وكلهم ﴿من الأخيار﴾ المشهور بن بالخبرية
231
﴿هَذَا﴾ إشارةٌ إلى ما تقدَّمَ من الآياتِ النَّاطقةِ بمحاسِنهم ﴿ذُكرٌ﴾ أي شَرفٌ لهم وذكرٌ جميلٌ يُذكرون به أبداً أو نوعٌ من الذِّكرِ الذي هو القرآنُ وبابٌ منه مشتملٌ على أنباءِ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ وعن ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما هذا ذكرُ مَن مضى من الأنبياءِ وقولُه تعالى ﴿وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ﴾ شروع في بيان أجرِهم الجزيل في الآجلِ بعد بيان ذكرِهم الجميلِ في العاجلِ وهو بابٌ آخرُ من أبواب التَّنزيلِ والمرادُ بالمتَّقينَ إمَّا الجنسُ وهم داخلونَ في الحكم دُخولاً أوليَّاً وإما نفسُ المذكورين عبَّر عنهم بذلك مَدْحاً لهم بالتَّقوى التي هي الغايةُ القاصيةُ من الكمالِ
﴿جنات عَدْنٍ﴾ عطفُ بيانٍ لحسنَ مآبٍ عندَ من يجوز تخالفهما تعريفها وتنكيراً فإنَّ عَدْناً مَعْرِفةٌ لقولِه تعالى جنات عَدْنٍ التى وَعَدَ الرحمن عِبَادَهُ أو بدلٌ منه أو نصب على المدحِ وقولُه تعالى ﴿مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الابواب﴾ حالٌ من جنَّاتِ عَدْنٍ والعاملُ فيها ما في للمتَّقين من معنى الفعلِ والأبوابُ مرتفعةٌ باسمِ المفعولِ والرَّابطُ بين الحالِ وصاحبِها إمَّا ضميرٌ مقدَّرٌ كما هو رأيُ البصريِّينَ أي الأبوابُ منها أو الألفُ واللاَّمُ القائمةُ مقامَه كما هو رأيُ الكوفيِّينَ إذِ الأصلُ أبوابُها وقُرئتا مرفوعتينِ على الابتداء والخبر أو على أنَّهما خبرانِ لمحذوفٍ أي هي جنَّاتُ عدنٍ هي مفتّحةٌ
﴿مُّتَّكِئِينَ فِيهَا﴾ حالٌ من ضميرِ لَهمُ والعاملُ فيها مفتَّحة وقولُه تعالى ﴿يَدْعُونَ فِيهَا بفاكهة كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ﴾ استئناف لبيان حالهم فيها وقيل هو أيضاً حالٌ مَّما ذُكر أو من ضمير متَّكئين والاقتصارُ على دعاءِ الفاكهةِ للإيذانِ بأنَّ مطاعَمهم لمحضِ التَّفكهِ والتَّلذذِ دُون التَّغذِّي فإنَّه لتحصيل بدلِ المتحلِّلِ ولا تحلَّلِ ثَمة
﴿وَعِندَهُمْ قاصرات الطرف﴾ أي على أزواجهنَّ لا ينظُرن إلى غيرِهم ﴿أَتْرَابٌ﴾ لداتٌ لهم فإنَّ التَّحابَّ بين الأقرانِ أرسخُ أو بعضهن لبعضٍ لا عجوزَ فيهنَّ ولا صبيَّةَ واشتقاقُه من التُّراب فإنَّه يمسُّهم في وقتٍ واحدٍ
﴿هذا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الحساب﴾ أي لأجلِه فإنَّ الحسابَ علَّةٌ للوصولِ إلى الجزاء وقرئ بالياءِ ليوافقَ ما قبلَه
231
ص ٥٤ ٥٩ والالتفاتُ أليقُ بمقامِ الامتنانِ والتَّكريمِ
232
﴿إِنَّ هَذَا﴾ أي ما ذكر من ألوان النِّعم والكَرَاماتِ ﴿لَرِزْقُنَا﴾ أعطيناكموه ﴿مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ﴾ انقطاعٍ أبداً
﴿هذا﴾ أي الأمرُ هذا أو هذا كما ذُكر أو هذا ذِكر وقوله تعالى ﴿وَإِنَّ للطاغين لَشَرَّ مَآبٍ﴾ شروع في بيان أضَّدادِ الفريق السَّابقِ
﴿جَهَنَّمَ﴾ إعرابُه كما سلف ﴿يَصْلَوْنَهَا﴾ أي يدخلُونها حالٌ من جهنَّمَ ﴿فَبِئْسَ المهاد﴾ وهو المهدُ والمفرشُ مستعار من فراشِ النَّائمِ والمخصوص بالذمِّ محذوف وهو جهنَّم لقوله تعالى لَهُم مّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ
﴿هذا فَلْيَذُوقُوهُ﴾ أي ليذوقُوا هذا فليذوقُوه كقوله تعالى وإياى فارهبون أو العذابُ هذا فليذوقوه أو هذا مبتدأٌ خبرُه ﴿حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ﴾ وما بينهما اعتراضٌ وهو على الأولين خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أي هو حميم والغسَّاقُ ما يغسِق من صديدِ أهلِ النَّارِ من غسَقتِ العينُ إذا سال دمعُها وقيل الحميمُ يحرقُ بحرِّه والغسَّاقُ يحرقُ ببردِه وقيل لو قَطرت منه قطرةٌ في المشرقِ لنتَّنتْ أهلَ المغربِ ولو قَطرت قطرةٌ في المغرب لنتنت أهلَ المشرقِ وقيل الغسَّاقُ عذابٌ لا يعلمه إلاَّ الله تعالى وقُرىء بتخفيفِ السين
﴿وآخر مِن شَكْلِهِ﴾ أي ومذوقٌ آخرُ أو عذابٌ آخرُ من مثل هذا المذوقِ أو العذابِ في الشِّدَّةِ والفظاعةِ وقُرىء وأُخَرُ أي ومذوقاتٌ أخَرُ أو أنواع عذابٍ أُخر وتوحيدُ ضميرِ شكله بتأويلِ ما ذُكر أو الشَّرابُ الشَّاملُ للحميمِ والغسَّاقِ أو هو راجعٌ إلى الغسَّاقِ ﴿أزواج﴾ أي أجناس وهو خبر لآخر لانه يجوز أن يكون ضروباً أو صفةٌ له أو للثلاثة أو مرتفعٌ بالجار والخبرُ محذوفٌ مثلُ لهم
﴿هذا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ﴾ حكاية ما يقال من جهة الخَزَنةِ لرُؤساء الطَّاغينَ إذا دخلوا النَّارَ واقتحمها معهم فوجٌ كانوا يتبعونهم في الكُفرِ والضَّلالةِ والاقتحامُ الدُّخولُ في الشَّيء بشدَّةٍ قال الرَّاغبُ الاقتحامُ توسُّطُ شدَّةٍ مخيفةٍ وقولُه تعالى ﴿لاَ مَرْحَباً بِهِمْ﴾ من اتمام كلام الخزنة بطريق الدُّعاءِ على الفوجِ أو صفةٌ للفوجِ أو حالٌ منه أي مقولٌ أو مقولاً في حقِّهم لا مرحباً بهم أي لا اتوا مرحبا اولا رحُبتْ بهم الدَّار مرحباً ﴿إنهم صالوا النار﴾ تعليل من جهةِ الخَزَنةِ لاستحقاقهم الدُّعاءِ عليهم أو وصفهم بما ذُكر وقيل لا مرحباً بهم إلى هنا كلامُ الرُّؤساءِ في حقَ أتباعِهم عند خطاب الخَزَنة لهم باقتحام الفوجِ معهم تضجُّراً من مقارنتهم
232
ص ٦٠ ٦٣ وتنفُّرا من مصاحبتِهم وقيل كلُّ ذلك كلامْ الرُّؤساءِ بعضهم مع بعض في حقِّ الأتباعِ
233
﴿قَالُواْ﴾ أي الأتباعُ عند سماعِهم ما قيل في حقِّهم ووجه خطابهم للرُّؤساءِ في قولهم ﴿بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ﴾ الخ على الوجهينِ الأخيرينِ ظاهرٌ وأمَّا على الوجهِ الأولِ فلعلَّهم إنَّما خاطبُوهم مع أنَّ الظَّاهرَ أنْ يقولُوا بطريقِ الاعتذارِ إلى الخَزَنةِ بل هُم لا مرحباً بهم الخ قَصْداً منهم إلى إظهارِ صدقِهم بالمُخاطبةِ مع الرُّؤساءِ والتَّحاكمِ إلى الخَزَنةِ طمعاً في قضائِهم بتخفيفِ عذابِهم أو تضعيفِ عذابِ خُصَمائهم أي بل أنتم أحقُّ بما قيلَ لنا أو قلتُم وقولُه تعالى ﴿أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا﴾ تعليلٌ لأحقِّيتهم بذلك أي أنتمُ قدَّمتم العذابَ أو الصِّلِيَّ لنا وأوقعتُمونا فيه بتقديمِ ما يُؤدِّي إليه من العقائد الزائفة والأعمالِ السَّيئةِ وتزيينها في أَعُيننا وإغرائِنا عليها لا انا باشرنَاها من تلقاءِ أنفسنا ﴿فَبِئْسَ القرار﴾ أي فبئسَ المقرُّ جهنَّم قصدُوا بذمِّها تغليظَ جنايةِ الرُّؤساءِ عليهم
﴿وقالوا﴾ أي الأتباعُ أيضاً وتوسيطُه بين كلاميهم لما بينهُما من التَّباينِ البيِّنِ ذاتاً وخِطِاباً أي قالُوا مُعرضين عن خصومتِهم متضرِّعين إلى الله تعالى ﴿رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هذا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِى النار﴾ كقولِهم رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فآتهم عَذَابًا ضِعْفًا مّنَ النار أي عذاباً مُضاعفاً أي ذا ضعفٍ وذلك بأنْ يزيدَ عليه مثلَه ويكون ضعفين كقوله ربنا آتهم ضعفين من العذاب او قيل المرادُ بالضِّعفِ الحيَّاتُ والأَفَاعي
﴿وَقَالُواْ﴾ أي الطَّاغُون ﴿مَا لَنَا لاَ نرى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مّنَ الاشرار﴾ يعنون فقراءَ المُسلمينَ الذين كانُوا يسترذلونَهم ويسخرُون منهم
﴿أتخذناهم سِخْرِيّاً﴾ بهمزةِ استفهامٍ سقطت لاجعلها همزةُ الوصل والجملةُ استئنافٌ لا محلَّ لها من الإعرابِ قالُوه إنكاراً على أنفسِهم وتأنيباً لها في الاستسخارِ منهم ﴿أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الابصار﴾ متَّصلٌ باتَّخذناهم على أنَّ أم متَّصلة والمعنى أيَّ الأمرينِ فعلنَا بهم الاستسخارُ منهم أم الازدراءُ بهم وتحقيرُهم وإنَّ أبصارَنا كانت تزيغُ عنهم وتقتحمُهم على معنى إنكارِ كلِّ واحدٍ من الفعلينِ على أنفسهم توبيخاً لها أو على أنَّها منقطعةٌ والمعنى أتخذناهم سخرياً بل أزاغتْ عنهم أبصارُنا كقولك أزيدٌ عندك أم عندَك عمروٌ على معنى توبيخِ أنفسِهم على الاستسخارِ ثمَّ الإضرابُ والانتقالُ منه إلى التَّوبيخِ على الازدراءِ والتَّحقيرِ وقُرىء اتَّخذناهم بغير همزةٍ على أنه صفةٌ أخرى لرجالاً فقوله تعالى أمْ زاغت متصل بقوله مالنا لانرى والمعنى مالنا لانراهم في النار أليسوا فيها فلذلك لا نراهم أم زاغتْ عنهم أبصارُنا وهم فيها وقد جُوِّز أن تكون الهمزةُ مقدَّرةٌ على هذه القراءةِ وقُرىء سُخريا بضمِّ السين
233
234
٧٠ - ٧١ ﴿إِنَّ ذلك﴾ أي الذي حكى من احوالهم ﴿الحق﴾ لا بد من وقوعه البتةَ وقوله تعالى ﴿تَخَاصُمُ أَهْلِ النار﴾ خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ والجملةُ بيانٌ لذلك وفي الإبهامِ أوَّلاً والتَّبيينِ ثانياً مزيدُ تقريرٍ له وقيل بدلٌ من محلِّ ذلك وقيل بدلٌ من حقٌّ أو عطفُ بيانٍ له وقُرىء بالنَّصبِ على أنَّه بدلٌ من ذلكَ وما قيل من أنَّه صفةٌ له فقد قيل عليه إنَّ اسمَ الإشارةِ لا يُوصف إلا بالمعرَّفِ باللامِ يقال بهذا الرَّجلَ ولا يقال بهذا غلامِ الرَّجلِ
﴿قُلْ﴾ أمرٌ لرسولِ الله ﷺ أنْ يقولَ للمشركينَ ﴿إِنَّمَا أَنَاْ مُنذِرٌ﴾ من جهتهِ تعالى أنذرُكم عذابَه ﴿وَمَا مِنْ إله﴾ في الوجودِ ﴿إِلاَّ الله الواحد﴾ الذي لا يقبل الشِّركِةَ والكثرةَ أصلاً ﴿القهار﴾ لكلِّ شيءٍ سواه
﴿رب السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ منْ المخلوقاتِ فكيف يُتوهّم أن يكونَ له شريكٌ منها ﴿العزيز﴾ الذي لا يُغلب في أمرٍ من أمورِه ﴿الغفار﴾ المبالغ في المغفرة يغفرُ ما يشاء لمَن يشاء وفي هذه النُّعوت من تقرير التَّوحيدِ والوعد للموحِّدين والوعيد للمشركين مالا يخفى وتثنيةُ ما يُشعر بالوعيد من وصفَيْ القهرِ والعزَّةِ وتقديمهما على وصفِ المغفرةِ لتوفية مقامَ الإنذارِ حقَّه
﴿قُلْ﴾ تكريرُ الأمر للإيذانِ بأنَّ المقولَ أمرٌ جليلٌ له شأن خطير لابد من الاعتناء به أمراً وائتماراً ﴿هُوَ﴾ أي ما أنبأتُكم به من أنِّي منذر من جهته تعالى وانه تعالى واحد لاشريك له وأنه متَّصفٌ بما ذكر من الصفات الجليلة والأظهرُ أنَّه القرآنُ وما ذُكر داخلٌ فيه دُخولاً أوليّاً كما يشهد به آخر السُّورةِ الكريمة وهو قولُ ابن عبَّاسٍ ومُجاهدٍ وقَتَادةَ ﴿نَبَأٌ عَظِيمٌ﴾ واردٌ من جهتِه تعالى وقوله تعالى
﴿أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ﴾ استئنافٌ ناعٍ عليهم سوءَ صنيعهم به ببيان أنَّهم لا يقدِّرون قدرَه الجليلَ حيث يُعرضون عنه مع عظمته وكونه موجبا للافبال الكلي عليه وتلقِّيه بحسن القَبول وقيل صفةٌ أُخرى لنبأٌ وقولُه تعالى
﴿مَا كَانَ لِىَ مِنْ عِلْمٍ بالملإ الاعلى﴾ الخ استئنافٌ مسوقٌ لتحقيقِ أنَّه نبأ عظيم واردٌ من جهته تعالى بذكر نبأٍ من أنبائهِ على التَّفصيل من غير سابقةِ معرفةٍ به ولا مباشرةِ سببٍ من أسبابِها المعتادةِ فإنَّ ذلك حجَّةٌ بينةٌ دالَّةٌ على أن ذلك بطريق الوحيِ من عند الله تعالى وان سائر انبائه أيضاً كذلك والملأُ الأعلى هم الملائكةُ وآدمُ عليهم السَّلامُ وإبليسُ عليه اللَّعنةُ وقوله تعالى ﴿إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ متعلِّق بمحذوفٍ يقتضيه المقام إذِ المراد نفيُ علمِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بحالهم
234
ص ٧٠ ٧١ لا بذوانهم والتَّقديرُ ما كان لي فيما سبق علم ما بوجه من الوجوه بحالِ الملأ الأعلى وقتَ اختصامِهم وتقديرُ الكلامِ كما اختاره الجمهورُ تحجيرٌ للواسعِ فإنَّ علمه عليه الصَّلاةُ والسلام غير مقصور على ما جرى بينهم من الأقوالِ فقط بل عامٌّ لها وللأفعال أيضاً من سجودِ الملائكة واستكبارِ إبليسَ وكفره حسبما ينطلق به الوحيُ فلا بُدَّ من اعتبارِ العمومِ في نفيِه أيضاً لا محالةَ وقولُه تعالَى
235
﴿إِن يوحى إِلَىَّ إِلاَّ أنما أنا نذير مبين﴾ اعتراض وسط بين إجمال اختصامِهم وتفصِيله تقريراً لثُبوتِ علمه عليه الصلاة والسلام وتعييناً لسببه إلاَّ أنَّ بيانَ انتفائِه فيما سبق لمَّا كانَ منبئاً عن ثبوتِه الآن ومن البيِّن عدمُ ملابستِه عليه الصَّلاةُ والسلام بشئ من مباديه المعهودةِ تعين أنَّه ليس إلا بطريقِ الوحي حتما فجعل ذلك أمراً مسلَّم الثُّبوتِ غنيّاً عن الإخبارِ به قَصْداً وجعل مصبَّ الفائدةِ والمقصودَ إخبارَ ما هو داعٍ إلى الوحيِ ومصحِّحٌ له تحقيقَا لقوله تعالى إِنَّمَا أَنَاْ مُنذِرٌ في ضمن تحقيقِ علمهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بقصَّة الملأ الأعلى فالقائمُ مقامَ الفاعلِ ليُوحى إمَّا ضميرٌ عائدٌ إلى الحال المقدر أو ما يعمُّه وغيرَه فالمعنى ما يُوحى إلى حالِ الملأ الأعلى أو ما يوحى إلي ما يُوحى من الأمورِ الغيبيَّةِ التي من جُملِتها حالُهم إلاَّ لأنما أنا نذيرٌ مبين من جهته تعالى فإنَّ كونَه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ كذلك من دَوَاعي الوحي إليه ومن موجباتِه حتماً وأمَّا أنَّ القائمَ مقامَ الفاعلِ هو الجارُّ والمجرورُ أو هو أنما أنا نذير مبين بلا تقدير الجارِّ وأنَّ المعنى ما يُوحَى إليَّ إلاَّ للإنذارِ أو ما يوحى إلي إلا أنْ أنذر وأبلغَ ولا أفرِّط في ذلك كما قيل فمع ما فيه من الاضطرارِ إلى التَّكلُّفِ في توجيه قصرِ الوحي على كونِه للإنذارِ في الأوَّلِ وقصره على الأنذارِ في الثَّاني فلا يساعدُه سِباقُ النظم الكريم وسياقه كيف لا والاعتراضُ حينئذٍ يكون أجنبيّاً ممَّا توسَّط بينهما من إجمالِ الاختصامِ وتفصيلِه فتأمَّلُ والله المرشدُ وقرئ إِنَّما بالكسرِ على الحكايةِ وقولُه تعالَى
﴿إِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة﴾ شروعٌ في تفصيل ما أجمل من الاختصامِ الذي هو ما جرى بينهم من التَّقاولِ وحيث كان تكليمُه تعالى إيَّاهم بواسطةِ المَلكِ صحَّ إسنادُ الاختصامِ إلى الملائكةِ وإذْ بدلٌ مِن إذِ الأولى وليس من ضرورة البدليَّةِ دخولُها على نفس الاختصامِ بل يكفي اشتمالُ ما في حيِّزها عليه فإنَّ القصَّة ناطقةٌ بذلك تفصيلاً والتَّعرُّضُ لعنوانِ الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسَّلام لتشريفِه والإيذانِ بأنَّ وحيَ هذا النبأ إليه تربيةٌ وتأييدٌ له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ والكافُ واردٌ باعتبارِ حالِ الآمرِ لكونِه أدلَّ على كونِه وحياً منزَّلاً من عنده تعالى كما في قوله تعالى قُلْ يا عِبَادِى الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ الخ دون حالِ المأمورِ وإلا لقيل ربِّي لأنَّه داخلٍ في حيِّز الأمرِ ﴿إِنّى خالق﴾ أي فيما سيأتي وفيه ما ليسَ في صيغة المضارعِ من الدِّلالةِ على أنَّه تعالى فاعل له اُلبتةَ منْ غيرِ صارفٍ يلويهِ ولا عاطفٍ يثنيهِ ﴿بَشَرًا﴾ قيل أي جسماً كثيفاً يلاقى ويُباشر وقيل خَلْقاً بادي البشرةِ بلا صوفٍ ولا شعرٍ ولعل ما جرى عند وقوع المحكيِّ ليس هذا الاسم الذي لم يُخلق مسمَّاهُ حينئذٍ فضلاً عن تسميتِه به بل عبارةٌ كاشفةٌ عن حالِه وإنما عبر عنه بهذا الاسمِ عند الحكايةِ ﴿مِن طِينٍ﴾ لم يتعرض
235
ص ٧٢ ٧٥ لأوصافِه من التَّغيرِ والاسودادِ والمسنونيَّةِ اكتفاءً بما ذُكر في مواقعَ أُخرَ
236
﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ﴾ أي صوَّرته بالصُّورةِ الإنسانيَّةِ والخِلقةِ البشريَّةِ أو سوَّيتُ أجزاءَ بدنِه بتعديل طائعه ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى﴾ النَّفخُ إجراءُ الرِّيح إلى تجويفِ جسمٍ صالحٍ لإمساكِها والامتلاءِ بها وليس ثَّمةَ نفخٌ ولا منفوخٌ وإنَّما هو تمثيل لافاضة مابه الحياةُ بالفعل على المادَّةِ القابلة لها أي فإذا كمَّلتُ استعدادَه وأفضت عليه ما يحيا به من الرُّوحِ التي هي من أمري ﴿فَقَعُواْ لَهُ﴾ أمرٌ من وقعَ وفيه دليلٌ على أنَّ المأمور به ليس مجرَّدَ الانحناءِ كما قيل أي اسقُطوا له ﴿سَاجِدِينَ﴾ تحَّيةً له وتكريماً
﴿فسجد الملائكة﴾ أي فخلفه فسوَّاه فنفخ فيه الرُّوحَ فسجد له الملائكةُ ﴿كُلُّهُمْ﴾ بحيث لم يبقَ منهم أحدٌ إلاَّ سجدَ ﴿أَجْمَعُونَ﴾ أي بطريقِ المعيةِ بحيثُ لم يتأخَّر في ذلك أحدٌ منهم عن أحدٍ ولا اختصاص لإفادة هذا المعنى بالحالية بل يفيد التَّأكيدُ أيضاً وقيل أُكِّد بتأكيدين مبالغة في التعمم هذا وأمَّا أنَّ سجودَهم هذا هل ترتَّبَ عَلى ما حُكي من الأمر التعلبقي كما تقتضيهِ هذه الآيةُ الكريمةُ والتي في سُورة الحجرِ فإنَّ ظاهرَهُما يستدعِي ترتُّبه عليه من غيرِ أنْ يتوسَّط بينهما شيءٌ غير ما يفصحُ عنهُ الفاءُ الفصيحةٌ من الخلق والتسويةِ ونفخِ الرُّوحِ أو على الأمرِ التَّنجيزيِّ كما يقتضيه ما في سُورة البقرةِ وما في سُورةِ الأعرافِ وما في سُورة بني إسرائيلَ وما في سُورةِ الكهفِ وما في سُورة طه من الآياتِ الكريمةِ فقد مرَّ تحقيقُه بتوفيقِ الله عزَّ وجلَّ في سُورةِ البقرةِ وسُورة الأعرافِ
﴿إِلاَّ إِبْلِيسَ﴾ استثناءٌ متَّصل لما أنه كانَ جنِّياً مفرَداً مغموراً بألوفٍ من الملائكةِ موصُوفاً بصفاتِهم فغلبُوا عليه ثمَّ استُثنِيَ استثناءَ واحدٍ منُهم أو لأنَّ الملائكةِ جنساً يتوالدُون وهو منُهم أو منقطعٌ وقولُه تعالى ﴿استكبر﴾ على الأوَّلِ استئنافٌ مبينٌ لكيفيَّةِ تركِ السّجودِ المفهومِ من الاستثناءِ فإنَّ تركَه يحتملُ أن يكونَ للتَّامُّل والتروِّي وبه يتحقق أنَّه للإباءِ والاستكبارِ وعلى الثَّاني يجوزُ اتِّصالُه بما قبله أي لكنْ إبليسُ استكبرَ ﴿وَكَانَ مِنَ الكافرين﴾ أي وصارَ منهم بمخالفتِه للأمرِ واستكبارِه عن الطَّاعةِ أو كان منهم في علمِ الله تعالى عزَّ وجلَّ
﴿قَالَ يا إِبْلِيسَ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ﴾ أَي خلقتُه بالذَّاتِ من غير توسُّطِ أبٍ وأمَ والتَّثنيةُ لإبرازِ كمالِ الاعتناءِ بخلقِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ المستدعِي لإجلالِه وإعظامِه قَصْداً إلى تأكيدِ الإنكارِ وتشديدِ التَّوبيخِ ﴿أَسْتَكْبَرْتَ﴾ بهمزة الإنكارِ وطرحِ همزةِ الوصلِ أي أتكبَّرتَ من غيرِ استحقاقٍ ﴿أَمْ كُنتَ مِنَ العالين﴾ المستحقِّين للتَّفوقِ وقيل أستكبرتَ الآنَ أم لم تزلْ منذ كنتَ من المستكبرينَ وقُرىء بحذفِ همزةِ الاستفهامِ ثقةً بدلالةِ أمْ عليها
236
ص ٧٦ ٨٠ وقولُه تعالى
237
﴿قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ﴾ أدِّعاءٌ منه لشيءٍ مستلزم لمنعهِ من السُّجودِ على زعمِه وإشعارٌ بأنَّه لا يليقُ أنْ يسجدَ الفاضلُ للمفضولِ كما يُعرب عنه قولُه لَمْ أَكُن لاِسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِّن صلصال مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ وقولُه تعالَى ﴿خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾ تعليلٌ لما ادَّعاهُ من فضله عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ولقد أخطأ اللعينُ حيث خَصّ الفضلَ بما من جهةِ المادةِ والعنصُر وزلَّ عنه ما من جهة الفاعل كَمَا أنبأ عَنْهُ قولِهِ تعالى لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ وما من جهة الصُّورة كما نبه عليه قوله تعالى وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى وما من جهة الغايةِ وهو ملاكُ الأمرِ ولذلك أُمر الملائكةُ بسجودِه عليهم السَّلامُ حين ظهرَ لهم أنَّه أعلمُ منهم بما يدور عليه أمرُ الخلافةِ في الأرضِ وأنَّ له خواصَّ ليست لغيرِه
﴿قَالَ فاخرج مِنْهَا﴾ الفاءُ لترتيب الأمرِ على ما ظهر من اللَّعينِ من المخالفةِ للأمرِ الجليلِ وتعليلِها بالأباطيلِ أي فاخرجْ من الجنَّةِ أو من زُمرةِ الملائكةِ وهو المرادُ بالأمرِ بالهبوطِ لا الهبوطِ من السَّماءِ كما قيل فإنَّ وسوستَه لآدمَ عليه السلام بعد هذا الطَّردِ وقد بُيِّن كيفيةِ وسوستِه في سُورة البقرةِ وقيل اخرجْ من الخلقةِ التي كنتَ فيها وانسلخْ منها فإنَّه كان يفتخرُ بخلقتِه فغيَّر الله خلقتَه فاسودَّ بعد ما كان أبيضَ وقَبُح بعد ما كان حَسَناً وأظلمَ بعد ما كان نورانياً وقوله تعالى ﴿فَإِنَّكَ رَجِيمٌ﴾ تعليلٌ للأمرِ بالخروجِ أي مطرودٌ من كلِّ خيرٍ وكرامةٍ فإنَّ مَن يُطرَدْ يُرجَمْ بالحجارةِ أو شيطان يُرجم بالشُّهبِ
﴿وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِى﴾ أي إبعادي عن الرَّحمةِ وتقييدها بالإضافةِ مع إطلاقِها في قوله تعالى وَإِنَّ عَلَيْكَ اللعنة لما أنَّ لعنةَ اللاعنين من الملائكةِ والثَّقلينِ أيضاً من جهتِه تعالى وأنَّهم يدعُون عليه بلعنةِ الله تعالى وإبعادِه من الرَّحمةِ ﴿إلى يَوْمِ الدين﴾ أي يومَ الجزاء والعقوبةِ وفيه إيذانٌ بأنَّ اللَّعنةَ مع كمال فظاعتِها ليستْ جزاءً لجنايته بل هي أُنموذجٌ لما سيلقاه مستمرّاً إلى ذلك اليومِ لكنْ لاَ على أنَّها تنقطعُ يومئذٍ كما يُوهمه ظاهرُ التَّوقيتِ بل على أنَّه سيلقى يومئذٍ من ألوان العذابِ وأفانينِ العقابِ ما ينسى عنده اللَّعنَة وتصير كالزَّائلِ ألا يُرى إلى قوله تعالي فَأَذَّنَ مُؤَذّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ الله عَلَى الظالمين وقوله تعالى وَيَلْعَنُ بَعْضُهُم بَعْضاً
﴿قَالَ رَبّ فَأَنظِرْنِى﴾ أي أمهلنِي وأخِّرني والفاءُ متعلِّقة بمحذوفٍ ينسحبُ عليه الكلام أي اذا جعلتني رَجيماً فأمهلني ولا تُمِتْني ﴿إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ أي آدمُ وذريتُه للجزاءِ بعد فنائِهم وأرادَ بذلك أنْ يجدَ فُسحةً لإغوائِهم ويأخذَ منهم ثأرَه وينجوَ من الموتِ بالكلِّية إذ لا موتَ بعد يومِ البعثِ
﴿قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين﴾ ورودُ الجوابِ بالجملةِ الاسميَّةِ مع التَّعرُّضِ لشمولِ ما سأله لآخرين على وجهٍ يشعر
237
ص ٨١ ٨٥ بكونِ السائلِ تبعاً لهم في ذلك دليلٌ واضحٌ على أنَّه إخبارٌ بالإنظارِ المقدَّر لهم أزلاً لا إنشاءٌ لإنظارٍ خاصَ به قد وقعَ إجابةً لدعائِه وأنَّ استنظارَه كان طَلَباً لتأخيرِ الموتِ إذ بهِ يتحقّقُ كونُه منهم لا لتأخيرِ العُقوبةِ كما قيل فإنَّ ذلكَ معلومٌ من إضافةِ اليَّومِ إلى الدِّينِ أي إنَّك من جُملةِ الذينَ أخِّرتْ آجالُهم أزلاً حسبما تقتضيِه حكمةُ التَّكوينِ
238
﴿إلى يَوْمِ الوقت المعلوم﴾ الذي قدَّره الله وعيَّنه لفناءِ الخلائقِ وهو وقتُ النَّفخةِ الأولى لا إلى وقتِ البعثِ الذي هو المسئول فالفاءُ ليستْ لربطِ نفسِ الأنظارِ بالاستنظارِ بل لربطِ الإخبارِ المذكورِ به كما في قول من قال فإن تَرحمْ فأنتَ لذاكَ أهلُ فإنَّه لا إمكان لجعل الفاءِ فيه لربطِ ماله تعالى من الأهليَّةِ القديمةِ للرحمة بوقوع الرحمةِ الحادثةِ بل هي لربط الإخبارِ بتلك الأهليةِ للرَّحمةِ بوقوعِها هذا وقد تُرك التَّوقيتُ في سورةِ الأعرافِ كما تُرك النِّداءُ والفاءُ في الاستنظار والإنظار تعويلاً على ما ذُكر ههنا وفي سُورة الحجرِ وإنْ خطَر ببالك أنَّ كلَّ وجهٍ من وجوهِ النَّظمِ الكريمِ لا بُدَّ أنْ يكون له مقامٌ بقتضيه مغايرٌ لمقامِ غيرِه وأنَّ ما حُكي من اللَّعينِ إنَّما صدرَ عنه مرَّةً وكذا جوابُه لم يقعْ إلاَّ دفعةً فمقام الاستنظارِ والإنظارِ إنِ اقتضَى أحدَ الوجوهِ المحكيَّةِ فذلك الوجهُ هو المطابقُ لمقتَضى الحالِ والبالغُ إلى رُتبةِ البلاغةِ ودرجةِ الإعجازِ وأمَّا ما عداهُ من الوجوهِ فهُو بمعزلٍ من بلوغِ طبقةِ البلاغةِ فضلاً عن العُروجِ إلى معارجِ الإعجازِ فقد سلفَ تحقيقُه في سورةِ الأعرافِ بفضلِ الله تعالى وتوفيقِه
﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ﴾ الباءُ للقسمِ والفاءُ لترتيبِ مضمونِ الجملةِ على الإنظارِ ولا يُنافيه قولُه تعالى فبما أغويتني وقوله رب بما أغويتى فإنَّ إغواءَه تعالى إيَّاهُ أثرٌ من آثارِ قُدرتِه تعالى وعزَّتِه وحكمٌ من أحكامِ قهرِه وسلطنتِه فمآلُ الإقسامِ بهما واحدٌ ولعلَّ اللعينَ أقسمَ بهما جميعاً فحكى تارةً قسَمَه بأحدِهما وأُخرى بالآخرِ أي فأُقسم بعزَّتِك ﴿لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ أي ذريةَ آدمَ بتزيينِ المَعَاصي لهم
﴿إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين﴾ وهم الذين أخلصَهم الله تعالى لطاعتِه وعصمَهم من الغواية وقرئ المخلِصين على صيغةِ الفاعلِ أي الذينَ أخلصُوا قلوبَهم وأعمالَهم لله تعالى
﴿قَالَ﴾ أي الله عزَّ وجلَّ ﴿فالحق والحق أَقُولُ﴾ برفع الأوَّلِ على أنَّه مبتدأٌ محذوفُ الخبرِ أو خبرٌ محذوفُ المبتدأِ ونصبِ الثَّاني على أنَّه مفعولٌ لما بعدَهُ قُدِّم عليه للقصرِ أي لا أقولُ إلاَّ الحقَّ والفاءُ لترتيبِ ما بعدها على ما قبلها أي فالحقُّ قَسَمي
﴿لأَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ﴾ على أنَّ الحقَّ إمَّا اسمُه تعالى
238
ص ٨٦ ٨٨ أو نقيضُ الباطلِ عظّمه الله تعالى بإقسامِه به أو فأنا الحقُّ أو فقولِي الحقُّ وقوله تعالى لأَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ الخ حينئذٍ جوابٌ لقسمٍ محذوفٍ أي والله لأملأنَّ الخ وقوله تعالى والحق أَقُولُ على كلِّ تقديرٍ اعتراضٌ مقرِّرٌ على الوجهينِ الأوَّلينِ لمضمونِ الجملةِ القَسَميَّةِ وعلى الوجِه الثَّالثِ لمضمونِ الجملةِ المتقدِّمةِ أعني فقولي الحقُّ وقُرئا منصوبينِ على أنَّ الأوَّلَ مقسمٌ به كقولِك الله لأفعلنَّ وجوابُه لأملأنَّ وما بينهما اعتراضٌ وقُرئا مجرورينِ على أن الأول مقسم به قد أُضمرَ حرفُ قسمِه كقولِك الله لأفعلنَّ والحقَّ أقولَ على حكايةِ لفظِ المقسمِ به على تقديرِ كونِه نقيضَ الباطلِ ومعناه التاكيد والتشديد وقرئ بجرِّ الأَولِ على إضمارِ حرفِ القسمِ ونصبِ الثَّانِي عل المفعوليَّةِ ﴿مِنكَ﴾ أي من جنسِك من الشَّياطينِ ﴿وَمِمَّن تبعك﴾ في الغواية والإضلال ﴿منهم﴾ ومن ذريةِ آدمَ ﴿أَجْمَعِينَ﴾ تأكيدٌ للكافِ وما عُطف عليه أي لأملأنَّها من المتبوعينَ والأتباعِ أجمعينَ كقولِه تعالى لمن اتبعك منهم لامْلانَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ وهذا القولُ هو المرادُ بقوله تعالى ولكن حَقَّ القول مِنْى لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ وحيثُ كان مناطُ الحكمِ ههُنا اتِّباعُ الشَّيطانِ اتَّضحَ أنَّ مدارَ عدمِ المشيئةِ في قولِه تعالى وَلَوْ شِئْنَا لاَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا اتباعُ الكَفَرةِ للشَّيطانِ بُسوءِ اختيارِهم لا تحقُّقُ القولِ فليس في ذلك شائبةُ الجبرِ فتدبَّر
239
﴿قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ﴾ على القُرآنِ أو على تبليغِ ما يُوحى إليَّ ﴿مِنْ أَجْرٍ﴾ دنيويَ ﴿وَمَا أَنَا مِنَ المتكلفين﴾ أي المتصنعين مما ليسُوا من أهلِه حتَّى أنتحلَ النبوة وأتقوَّلَ القُرآنَ
﴿إِنْ هُوَ﴾ أي مَا هُو ﴿إِلاَّ ذِكْرٌ﴾ من الله عزَّ وجلَّ ﴿للعالمين﴾ أي للثَّقلينِ كافَّةً
﴿وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ﴾ أي ما أنبأ بهِ من الوعدِ والوعيدِ وغيرِهما أو صحَّةَ خبرهِ وأنَّه الحقُّ والصِّدقُ ﴿بَعْدَ حِينِ﴾ بعد الموتِ أو يوم القيامة أوعند ظهور الإسلام وفسوه وقيل من بقى علمَ ذلك أذا ظهرَ أمرُه وعلاَ ومَن ماتَ علمَهُ بعدَ الموتِ وفيه من التهديد ما لا يَخْفى عنِ رسول الله صلى الله عليهِ وسلَّم مَن قرأَ سورةَ ص كانَ له بوزنِ كلِّ جبلٍ سخَّره الله لداودَ عشرَ حسناتٍ وعُصم أنْ يُصرَّ على ذنبٍ صغيرٍ أو كبيرٍ وقال أبُو أمامةَ عصمَه الله تُعالى مِنْ كلِّ ذنبٍ صغيرٍ أو كبيرٍ والله أعلمُ
239
سورة الزمر ١ ٣
سورة الزمر مكية إلا قوله قل يا عبادي الآية وآياتها خمس وسبعون آية
﴿بِسْمِ اللهِ الرحمن الرحيم﴾
240
Icon