ﰡ
والأَكِنَّةُ : جمعُ كِنَانٍ، مثل عِنَانٍ وأعِنَّةُ. ﴿ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ ﴾ ؛ وبيننا وبينَكَ حاجِزٌ وفِرْقَةٌ في الدِّين فلا نوافِقُكَ على ما تقولُ، ﴿ فَاعْمَلْ ﴾ ؛ على أمرِكَ ودِينِكَ، ﴿ إِنَّنَا عَامِلُونَ ﴾ ؛ على أمرِنا ومذهَبنا.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ ﴾ ؛ وويلٌ لِمَن لا يقولُ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ، ﴿ الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ﴾، ولا يُطَهِّرُونَ أنفُسَهم من الشِّركِ بالتوحيدِ، ﴿ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ﴾، وقال الحسنُ :(لاَ يُقِرُّونَ بالزَّكَاةِ، وَلاَ يَرَوْنَ إيْتَاءَهَا وَلاَ يُؤْمِنُونَ بهَا)، قال الكلبيُّ :(عَابَهُمُ اللهُ وَقَدْ كَانُواْ يَحُجُّونَ وَيَعْتَمِرُونَ)، قال قتادةُ :(الزَّكَاةُ قَنْطَرَةُ الإسْلاَمِ، فَمَنَ قَطَعَهَا نَجَا) أي فمَن عَبَرَهَا نَجَا، ومَن لَم يعبُرْها هَلَكَ.
وفي هذهِ الآية دلالةٌ على أنَّ الكفارَ يُعاقَبون في الآخرةِ على تَرْكِ الشَّرَائِعِ كما يُعاقَبون على تَرْكِ الإيْمَانِ ؛ لأن اللهَ وَعَدَهم على ذلكَ، وقال فِي جواب أهلِ النار حين يقالُ لَهم﴿ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ﴾[المدثر : ٤٢-٤٤].
وكان تقديرُ الأقواتِ في يومِ الأربعاءِ، فتَمَّ خلقُ الأرضِ بما فيها في أربعةِ أيَّام، ولو أرادَ اللهُ أن يخلُقَها في لحظةٍ واحدة لفَعَلَ وقَدِرَ، ولكنه خلقَها في ستَّة أيامٍ لأنه تعالى حَلِيْمٌ ذُو أنَاةٍ، أحبَّ أن يُعَلِّمَ الخلقَ الأَنَاةَ في الأمور.
وقال الحسنُ :(مَعْنَى قَوْلِهِ ﴿ وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا ﴾ أيْ قَسَّمَ الأَرْضَ أرْزَاقَ الْعِبَادِ وَالْبَهَائِمِ)، وقال الكلبيُّ :(الْخُبْزُ لأَهْلِ قُطْرٍ ؛ وَالثَّمَرُ لأَهْلِ قُطْرٍ ؛ وَالذرَّةُ لأَهْلِ قُطْرٍ ؛ وَالسَّمَكُ لأَهْلِ قُطْرٍ، جَعَلَ اللهُ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ مَا لَمْ يَجْعَلْ فِي الأُخْرَى ؛ لِيَعِيْشَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ بالتِّجَارَةِ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ).
وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ ﴾ ؛ رفعَهُ أبو جعفرٍ على الابتداءِ ؛ أي هُنَّ سَوَاءٌ، وخفضَهُ الحسنُ ويعقوب نعتُ أربعةِ أيَّام، ونصبَهُ الباقون على معنى : اسْتَوَتْ سَوَاءً للسَّائِلِيْنَ، واستواءً يعني على المصدر كما يقالُ : في أربعةِ أيَّام تَماماً. ومعناهُ : مَن سألَ عنه فهكذا الأمرُ.
وقال السديُّ :(سَوَاءً لاَ زيَادَةَ وَلاَ نُقْصَانَ جَوَاباً لِمَنْ سَأَلَ فِي كَمْ خُلِقَتِ الأَرْضُ وَالأَقْوَاتُ، فَيُقَالُ : أرْبَعَةِ أيَّامٍ سَوَاءً). و(لِلسَّائِلِيْنَ) ههنا هُم اليهودُ، سألُوا النبيَّ ﷺ عن مدَّة خَلْقِ السَّموات والأرضِ، ويجوزُ قولهُ ﴿ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ ﴾ عائداً على تقديرِ الأقواتِ، كأنه قال : لكلِّ مُحتاجٍ إلى القُوتِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ﴾ ؛ أي ائْتِيَا ما آمُرُكما وافْعَلاَ، كما يقالُ : ائْتِ ما هو الأحسنُ ؛ أيِ افْعَلْهُ.
قالَ المفسِّرون : إن الله تعالى قال : أما أنتِ يا سماءُ فأطلعي شَمسَكِ وقمرَكِ ونجومَكِ، وأما أنتِ يا أرضُ فَشَقِّقِي أنْهَارَكِ واخرِجِي ثِمارَكِ ونباتَكِ، وقال لَهما : اعْمَلا ما آمُرُكُمَا طَوْعاً وإلاَّ ألْجَأْتُكما ذلكَ حتى تفعلاهُ كَرْهاً، فأجَابَتا بالطَّوعِ وهو قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ ﴾ ؛ أي أتَينا أمرَكَ. ولَمَّا ركَّبَ اللهُ فيهنَّ العقولَ، وخطابُ مَن يعقل جمعُهن جمع مَن يعقلُ كما قال تعالَى :﴿ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴾[الأنبياء : ٣٣] ولو جمعَهن جمعَ مَن لا يعقلُ لقيلَ : طَائِعَاتٍ.
ويقالُ في معناهُ : أتَينا نحنُ مَن فينا طائعينَ، وإنَّما ذكرَ تارة بلفظِ التَّثنيةِ وتارةً بلفظ الجمعِ ؛ لأن السَّموات والأرضِ شيئان من حيث الجنسُ بمنْزِلة الفئتين (والطائعين)، فقيلَ لَهما : ائْتِيَا، ثُم السَّموات بنفسِها جماعةٌ، وكذلك الأرضُ، فلذلك قالتَا :﴿ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ ﴾. وانتصب (طَوْعاً) و (كَرْهاً) على معنى أطِيعَا طاعةً أو تُكرَهَانِ كَرْهاً.
وبلَغَنا أن بعضَ الأنبياءِ قالَ : يا ربِّ ؛ لو أنَّ السَّمواتِ والأرضَ حين قُلْتَ لَهما ﴿ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ﴾ عصَياكَ ما كُنْتَ صانِعاً بهما ؟ قال : كنتُ آمُرُ دابَّة من دوابي فتبتلعهُما. قال : فأينَ تلك الدابةُ ؟ قال : في مَرْجٍ من مُروج، قال : وأين ذلكَ الْمَرْجُ ؟ قال : فِي علمٍ من عُلومِي.
لفظُ القََضَاءِ في اللغة بمعنى الإتْمَامِ، ومِن ذلك : انقضاءُ الشَّيء إذا تَمَّ، وقضَى فلانٌ إذا ماتَ ؛ لأنه تَمَّ عمرهُ، وقال الشاعرُ : وَعَلَيْهِمَا مَسْرُودَتَان قََضَاهُمَا دَاودُ أوْ صَنَعُ السَّوَابغِ تُبَّعُعَمِلَهما وصَنَعَهُمَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا ﴾ ؛ قال قتادةُ :(يَعْنِي خَلْقَ شَمْسِهَا وَقَمَرِهَا وَنُجُومِهَا، وَخَلَقَ فِي كُلِّ سَمَاءٍ خَلْقَهَا مِنَ الْمَلاَئِكَةِ وَالْخَلْقِ الَّذِي فِيْهَا مِنَ الْبحَار وَجِبَالِ الْبَرِّ وَمَا لاَ يَعْلَمُهُ إلاَّ هُوَ). وَقِيْلَ : أمَرَ في كلِّ سَماءٍ بما أرادَ. وَقِيْلَ : أوحَى إلى أهلِ كلِّ سَمَاءٍ ما يصلحُها به مِن أمرهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَزَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ ﴾ ؛ أي زَيَّنَا السَّمَاءَ القُربَى إلى الأرضِ بمصابيحَ وهي النجومُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَحِفْظاً ﴾ ؛ أي وحَفِظْنَاهَا بالنُّجوم من استراقِ الشَّياطين السمعَ حِفْظاً.
وَقِيْلَ : انتصبَ (حِفْظاً) على تقديرِ : وزيَّنَّا السَّماءَ الدُّنيا بمصابيحَ زينةً وحِفظاً، فبعضُ النَّجوم زينةٌ للسَّماء لا يتحرَّكُ، وبعضُها يُهتدَى بها في ظُلمات البَرِّ والبحرِ، وبعضُها رجومٌ للشَّياطينِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴾ ؛ أي ذلكَ الذي سَبَقَ ذِكْرُهُ ؛ تقديرهُ : الْعَزِيْزُ في مُلكهِ القادرُ القاهرُ الذي لا يلحقهُ عَجْزٌ ولا يَعْتَرِيهِ سهوٌ ولا جهل، أحكَمَ ذلك كلَّهُ وأتقنَهُ حتى لا يدخلَهُ الخللُ مدَى الدُّهور.
فَمَضَى عُتْبَةُ إلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ وَهُوَ فِي الْحَطِيْمِ، فَكَلَّمَهُ وَلَمْ يَتْرُكْ شَيْئاً إلاَّ قَالَهُ، وََكَانَ عُتْبَةُ مِنْ أحْسَنِ النَّاسِ حَدِيْثاً، فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ أنْتَ خَيْرٌ أمْ هَاشِم ؟ أنْتَ خَيْرٌ أمْ عَبْدُ الْمُطََّلِب ؟ أنْتَ خَيْرٌ أمْ عَبْدُ اللهِ ؟ فِيْمَ تَشْتُمُ آلِهَتَنَا وَتُضَلِّلُ آبَاءَنَا ؟ فَإنْ كَانَ ذلِكَ طَلَباً لِلرِّئَاسَةِ عَقَدْنَا لَكَ ألْوِيَتَنَا وَكُنْتَ رَأسَنَا مَا بَقِيْتَ، وَإنْ كَانَ لَكَ الْبَاءهُ زَوَّجْنَاكَ عَشْرَ نِسْوَةٍ مِمَّنْ تَخْتَارُ مِنْ بَنَاتِ قُرَيْشٍ، وَإنْ كَانَ بكَ الْمَالُ جَمَعْنَا لَكَ مَا تَسْتَغْنِي بهِ أنْتَ وَعَقِبُكَ مِنْ بَعْدِكَ. وَرَسُولُ اللهِ ﷺ سَاكِتٌ لاَ يَتَكَلَّمُ.
فَلَمَّا فَرَغَ عُتْبَةُ مِنْ كَلاَمِهِ قَرَأ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ : بسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ ﴿ حـم * تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَـانِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ... ﴾ إلَى قَوْلِهِ ﴿ فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ﴾. فَوَثَبَ عُتْبَةُ فَزَعاً مَخَافَةَ أنْ يُصَبَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ الَّذِي خَوَّفَهُ بهِ النَّبيُّ صلى اله عليه وسلم، فَأَتَى قَوْمَهُ مَذْعُوراً وَأقْسَمَ لاَ يُكَلِّمُ مُحَمَّداً بَعْدَهَا أبَداً.
فَقَالَ لَهُ أبُو جَهْلٍ : لَعَلَّكَ صَبَوْتَ إلَى مُحَمَّدٍ، وَمَا ذاكَ إلاَّ مِنْ حَاجَةٍ أصَابَتْكَ، وَإنْ كَانَ بكَ حَاجَةٌ جَمَعْنَا لَكَ مِنْ أمْوَالِنَا مَا يُغْنِيْكَ عَنْ مُحَمَّدٍ! فَغَضِبَ عُتْبَةُ وَقَالَ : وَاللهِ لَقَدْ كَانَ أبي مِنْ أكْثَرِ قُرَيْشٍ مَالاً، وَلَكِنْ أتَيْتُهُ وَقَصَصْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ فَأَجَابَنِي بشَيْءٍ وَاللهِ مَا هُوَ بشِعْرٍ وَلاَ كَهَانَةٍ وَلاَ سِحْرٍ، وَاللهِ مَا اهْتَدَيْتُ لِجَوَابهِ. فَقَالَ حَرْثُ بْنُ عَلْقَمَةَ : وَاللهِ لَقَدْ أفْسَدَ هَذا الرَّجُلُ دِيْنَنَا وَفَرَّقَ بَيْنَ كَلِمَتِنَا، وَأيْمِ اللهِ لَئِنْ بَقِيَ هَذا الرَّجُلُ وَيُقِيْمُ لَيَكُونَنًّ بَطْنُ الأَرْضِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ ظَهْرِهَا، وَسَيَبيْنُ ذلِكَ لَكُمْ إذا خَرَجَ مِنْكُمْ إلَى غَيْرِكُمْ، فَذرُوهُ مَا تَرَكَكُمْ.
ومعنى الآيةِ : فإنْ أعرَضُوا عنِ الإيْمَانِ بكَ ولَمْ يقبَلوا قولكَ بعد هذا البيانِ، فقُلْ : خوَّفْتُكم عَذاباً مثلَ عذاب قوم هودٍ وقوم صالِح. والصَّاعِقَةُ : هو الهلاكُ على حالةٍ هائلةٍ.
وقولهُ تعالى :﴿ إِذْ جَآءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ ﴾ أي إذا جاءتهم الرسلُ إلى مَن كان قبلَهُم فعلِمُوا بتواترِ الأخبار. ثم إنَّهم الرسلُ أيضاً من خَلَفِ مَن كان قبلَهم بأن لا يعبدُوا إلاّ اللهَ، ﴿ قَالُواْ لَوْ شَآءَ رَبُّنَا لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً ﴾ ؛ أي لو شاءَ رَبُّنا أنْ ينَزِّلَ إلينا رسُولاً لأنزلَ ملائكةً من جُندهِ، ﴿ فَإِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ﴾ ؛ ما أنتم إلاّ بشرٌ مثلُنا. ويجوز أن يكونَ معنى ﴿ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ ﴾ بأن الرُّسُلَ أتَتْهُمْ من جميعِ جِهاتِهم.
فلمَّا قالوا لنَبيِّهم :﴿ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ﴾ قَالَ اللهُ تَعَالَى رَدّاً عليهم :﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً ﴾ ؛ لأن الخالقَ للشَّيءِ لا بدَّ أن تكون له مِزْيَةٌ على خلقهِ، ﴿ وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ﴾ ؛ أي يكفُرون.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ ﴾ ؛ أي نَكِدَاتٍ مَشْؤُومَاتٍ عليهم، ذاتِ نُحُوسٍ، قال ابنُ عبَّاس :(كَانُواْ يَتَشَاءَمُونَ بتِلْكَ الأَيَّامِ). قرأ ابنُ عامرٍ وأهل الكوفة (نَحِسَاتٍ) بكسرِ الحاءِ، وقرأ الباقون بسكونِها، يقالُ : يَوْمُ نَحْسٍ وَنَحِسٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ ؛ أي عذابُ الْهَوْنِ وَالذُّلِّ وهو العذابُ الذي يُخزَونَ به، والْخِزْيُ والفَضِيحَةُ والنَّكَالُ كلُّه بمعنى واحدٍ، ﴿ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ ﴾، وعذابُ الآخرةِ أبلغُ في الْمَذلَّةِ وأبقَى وأشدُّ، لا يدفعُ عنهم ولا يخفَّفُ عنهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ ؛ قال ابنُ عبَّاس :(يُرِيْدُ فُُرُوجَهُمْ، كَنَّى عَنْهَا بالْجُلُودِ). وَقِيْلَ : الجلودُ الجوارحُ، ﴿ وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ ﴾، فيقولُ الكفَّار لجلودِهم بَعدَما يُرَدُّ النطقُ إلى ألسِنتهم :﴿ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا ﴾ ؛ وعمِلتُم على هلاكِنا، ﴿ قَالُواْ أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ ؛ وتَمَّ الكلامُ.
ثُم قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ ؛ أي ليسَ إنطاقهُ الجلودَ أبدعَ من خلقهِ إيَّاكم ابتداءً وإعادةً بعد الموتِ، وليس هذا مِن كلامِ الجلود.
وقال أبُو بكرٍ رضي الله عنه :(يَعْنِي ثُمَّ اسْتَقَامُواْ عَلَى أنَّ اللهَ رَبٌ لَهُمْ)، وقال مجاهدُ :(هُمُ الَّذِيْنَ لَمْ يُشْرِكُواْ بهِ شَيْئاً حَتَّى يَلْقَوْهُ). وقال بعضُهم : يعني الاستقامةَ على أداءِ الفرائضِ ولُزومِ السُّنة. وروي عن عُمر رضي الله عنه :(اسْتَقَامُواْ للهِ بطَاعَتِهِ وَلَمْ يَرُوغُواْ رَوَغَانَ الثَّعَالِب).
وقوله :﴿ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ ﴾ ؛ يعني قَبْضَ أرواحِهم فتقولُ لَهم :﴿ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ﴾ ؛ أي لا تَخافُوا ما أنتم وَاقِفُونَ عليه، ولا تَحزَنُوا على الدُّنيا وأهلِها، وتقولُ لَهم عند خُروجِهم حين يَرَونَ أهوالَ القيامةِ :﴿ نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ﴾ ؛ تولَّينَاكم وحَفِظْنَا أعمالَكم، ونتولاَّكم في الآخرةِ ونحفَظُكم.
وعن ثابتٍ أنه قالَ :(بَلَغَنَا أنَّ الْمُؤْمِنَ إذا خَرَجَ مِنْ قَبْرِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، نَظَرَ إلَى حَافِظِيْنَ قَائِمِيْنَ عَلَى رَأسِهِ يَقُولاَنِ لَهُ : لاَ تَخَفِ الْيَوْمَ وَلاَ تَحْزَنْ وَأَبْشِرْ بالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتَ تُوعَدُ).
وقال عثمانُ رضي الله عنه في معنى قولهِ :(ثُمَّ اسْتَقَامُواْ : ثُمَّ أخْلَصُواْ الْعَمَلَ للهِ عَزَّ وَجَلَّ). وقال مجاهدُ وعكرمة :(مَعْنَاهُ : ثُمَّ اسْتَقَامُواْ عَلَى شَهَادَةِ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ حَتَّى لَحِقُوا باللهِ).
وقال مقاتلُ :(اسْتَقَامُواْ عَلَى الْمَعْرِفَةِ، وَلَمْ يَرْتَدُّوا، تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ) فِي ثَلاَثِ مَوَاطِن : عِنْدَ الْمَوْتِ، وَفِي الْقَبْرِ، وَفِي وَقْتِ الْبَعْثِ : أنْ لاَ تَخَافُواْ عَلَى صَنِيعِكُمْ وَلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مُخَلِّفِيكُمْ.
وقال مجاهدُ :(أنْ لاَ تَخَافُواْ عَلَى مَا تُقْدِمُونَ عَلَيْهِ مِنْ أمْرِ الآخِرَةِ، وَلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى خِلْفَتِكُمْ فِي الدُّنْيَا مِنْ وَلَدٍ وَأهْلٍ، فَإنَّهُ سَيَخْلِفُكُمْ فِي ذلِكَ كُلِّهِ). وقال السديُّ :(لاَ تَخَافُواْ مِنْ ذُنُوبكُمْ فَإنِّي أغْفِرُهَا لَكُمْ).
وقال بعضُهم : معنى هذه الآيةِ : أنَّ الذين قالُوا :﴿ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ ﴾ بالوفاءِ على ترك الْخَنَى تَتَنَزَّلُ عليهمُ الملائكةُ بالرِّضَى : أن لا تخافُوا من الغِنَى ولا تحزنُوا على الغنَى وأبْشِرُوا بالبَقاءِ مع الذي كنتم توعدونَ من اللقاءِ. وَقِيْلَ : معناهُ : ألاَّ تَخافُوا فلا خوفٌ على أهلِ الاستقامةِ، ولا تَحزنُوا فإن لكم أنواعَ الكرامةِ وأبشِرُوا بالجنةِ التي هي دارُ السَّلامةِ، لا تخافُوا فعل دِينِ الله إنِ استقمتُم، ولا تحزَنُوا، فبحبلِ اللهِ اعتصَمتُم، وأبْشِرُوا بالجنةِ إن تُبْتُمْ لا تخافوا ما دُمتم ولا تحزنوا فقد نِلتُمْ ما طلبتم، وأبشِرُوا بالجنةِ التي فيها رَغِبْتم، ولا تحزنوا فأنتم أهلُ الإيْمانِ، ولا تحزنوا وأنتم أهلُ الغفرانِ، وأبشِرُوا بالجنةِ التي هي دارُ الرِّضوانِ، لا تخافوا وأنتم أهلُ الشَّهادة، ولا تحزَنوُا فأنتم أهلُ السَّعادة، وأبشروا بالجنةِ التي هي دارُ الزِّيادة، لا تخافوا فأنتم أهلُ النَّوالِ، ولا تحزنوا فأنتم أهلُ الوصالِ، وابشروا بالجنة التي هي دارُ الحَلالِ، لا تخافوا فقد أمنتم الثُّبُورَ، ولا تحزنوا فإن لكم الحورَ، وأبشروا بالجنة التي هي دار السرور، ولا تخافوا فسعيُكم مشكورٌ، ولا تحزنوا فذنبُكم مغفورٌ، وابشروا بالجنة التي هي دار النور، لا تخافوا فطَالَما كنتم خائفينَ، ولا تحزنوا فقد كنتم عَارفين، وأبشِرُوا بالجنة التي عَجَزَ عنها وصفُ الواصفين، لا تخافُوا فأنتم مِن أهل الإيْمانِ، ولا تحزنوا فأنتم من أهلِ الحرمَان، وأبشِروا بالجنة التي هي دارُ الأمانِ.
ودخولُ (لاَ) في قولهِ :﴿ وَلاَ السَّيِّئَةُ ﴾ زائدةٌ للتأكيدِ وبُعدِ المساواةِ ؛ لأن المعنى : لا تستَوِي الحسنةُ والسيئةُ، ومثلهُ قولُ الشاعرِ : مَا كَانَ يَرْضَى رَسُولُ اللهِ فِعْلَـ هُمُ وَالطَّيِّبَانِ أبُو بَكْرٍ وَعُمَرُوَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ ؛ أي ادْفَعِ السَّفَاهَةَ والعجَلةَ بالأنَاةِ وبالرِّفقِ، وذلك أنكَ إنْ لقِيتَ بعض مَن يضمرُ في نفسهِ عداوتَكَ فتبدأهُ بالسَّلام أو تبتسِمُ في وجهه لأن ذلكَ يلين لك قلبَهُ، ويسلَمْ لك صدرُهُ فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾ ؛ أي إذا فعلتَ ذلك صارَ الذي يُعادِيكَ صَديقاً قريباً لك. وتُسمِّي العربُ القريبَ حَمِيماً ؛ لأنه يَحمِي لِمَا يهُم صاحبهُ.
ثُم ذكرَ اللهُ علاماتِ توحيدهِ ودلائل قُدرتهِ ؛ فقال :﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ الَّيلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ﴾ ؛ أي ومن آياتهِ الدَّالةِ على رُبُوبيَّتِهِ ووَحدَانِيَّتهِ الليلُ والنهارُ بما فيهما من المنافعِ والمقاصدِ، والشمسُ والقمرُ بما فيهما من البدائعِ، ﴿ لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُواْ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ ﴾ ؛ أي لا تَعبدُوا الشمسَ والقمرَ، واعبدُوا اللهَ الذي خَلَقَهُنَّ، ﴿ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ ؛ أي إنْ كُنتم تُرِيدونَ بعبادةِ الشَّمس والقمرِ عبادةَ اللهِ.
وذلك أنَّ قَوماً من الكفَّار يَسجُدونَ لَهما ويزعمونَ أنَّهم يتقرَّبون بذلكَ إلى اللهِ تعالى، فقيلَ لَهم : إنْ كنتم تريدون بذلكَ عبادةَ الله تعالى، فالسُّجود لِخالِقِهما أولَى من السُّجود لَهما.
فإنْ قِيْلَ : ما معنى قولهِ ﴿ خَلَقَهُنَّ ﴾ والقمرُ مذكَّرٌ والشمسُ مؤنَّثة، والمذكَّرُ والمؤنث إذا اجتمَعا غلبَ المذكَّر ؟ قُلْنَا : إنَّ قوله (خَلَقَهُنَّ) راجعٌ إلى الآياتِ التي سَبَقَ ذكرُها في أوَّلِ هذه الآيةِ من الليل والنهار والشَّمسِ والقمر، ويكون ضميرُ ما لا يعقلُ على لفظ التأنيثِ كما يقالُ : هذه كِبَاشُ ذُبحْنَ وذُبحَتْ.
واختلَفُوا في موضعِ السُّجود من هذه السُّورةِ ؛ فقال الحسنُ :(عِنْدَ قَوْلِهِ (تَعْبُدُونَ). وهو قولُ الشَّافعي. وقا ابنُ عبَّاس ومسروقُ :(هُوَ عِنْدَ قَوْلِهِ : لاَ يَسْأَمُونَ) وهو قولُ عُلمائِنَا، وهو الأصحُّ لأنه موضِعُ تَمام الكلامِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ ؛ هو تقديرُ نفيِ المساواة بين الفريقينِ. قِيْلَ : المرادُ قولهُ ﴿ أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ ﴾ أبو جهل وجدلهُ ﴿ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ حمزة، وَقَوْلُهُ :﴿ اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ ؛ لفظهُ لفظُ الأمرِ، ومعناهُ التهديدُ والوعيدُ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ ؛ أي مُنَزَّلٌ من عالِمٍ بوجوه الحكمةِ، مستحقٍّ للحمدِ على خَلْقِهِ بإنعامهِ عليهم.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ رَبَّكَ ذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ ﴾ ؛ أي لذُو مغفرةٍ لِمَن تابَ وآمنَ، وذُو عقابٍ ألِيْمٍ لِمَن ثابَ على الكُفرِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ءَاعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ﴾ ؛ استفهامٌ على وجهِ الاستبعادِ ؛ كأنَّهم قالُوا : كتابٌ أعجميٌّ ورسول عربيٌّ، كيف يكونُ هذا؟! فيُنْكِرونَهُ أشدَّ الإنكار. يقالُ : رجل أعجميٌّ إذا كان لا يُفْصِحُ سواءٌ كان مِن العرب أو العجمِ، ورجلُ عَجَمِيٌّ إذا كان مَنْسُوباً إلى العجمِ وإنْ كان فَصِيحاً، ورجلٌ أعْرَابيٌّ إذا كان مِن أهل الباديةِ سواءٌ كان من العرب أو لَم يكن، ورجلٌ عَرَبيٌّ إذا كان مَنْسُوباً إلى العرب وإن كان غيرَ فصيحٍ.
ومعنَى الآيةِ : أنَّهم كانوا يقولُونَ : إنَّ الْمُنَزَّلَ عليه عربيٌّ، والْمُنَزِّلُ أعجميٌّ، فكان ذلك أشدُّ لتكذيبهم، ﴿ قُلْ ﴾ ؛ يا مُحَمَّد :﴿ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ ﴾ ؛ يعني القُرْآنَ هُدًى للذين آمَنُوا من الضَّلالةِ وشِفَاءٌ من الأوجاعِ. وقال مقاتلُ :(شِفَاءٌ لِمَا فِي الْقُلُوب بالْبَيَانِ الَّذِي فِيْهِ).
وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ ﴾ ؛ أي إنَّهم في تَرْكِ القَبُولِ بمنْزِلَةِ الصُّمِّ العُمْيِ، وسيؤدِّيهم تكذيبُهم إلى العَمَى، وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ﴾ ؛ أي عُمُوا عنِ القُرْآنِ وصُمُّوا عنه.
وقال السديُّ :(عَمَتْ قُلُوبُهُمْ عَنْهُ). والمعنى : وهو عليهم ذُو عمَى. وانتصبَ قولهُ (عَمًى) على المصدر. وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ﴾ ؛ أي إنَّهم لا يَسمَعُونَ ويفهمونَ كما أنَّ مَن دعَا مِن مكانٍ بعيدٍ لَم يسمَعْ ولَم يفهم. والمعنى : أنَّهُ بعيدٌ عندَهم مِن قُلوبهم ما يُتْلَى عليهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ﴾ ؛ معناهُ : ولولا كلمةٌ سَبَقَتْ مِن ربكَ في تأخيرِ العذاب عن هذه الأُمةِ إلى يوم القيامةِ كما قَالَ تَعَالَى﴿ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ ﴾[القمر : ٤٦] لعَذبَهم بعذاب الاستئصالِ. وَقِيْلَ : أرادَ بسبقِ الكلمةِ : أنْ لا يعَذِّبَهم وأنتَ فيهم.
والمعنى : ولَوْلاَ كلمةٌ سَبَقَتْ مِن ربكَ في تأخيرِ العذاب عن مُكَذِّبي القُرْآنِ إلى أجلٍ مُسمَّى يعني القيامةَ، لقُضِيَ بينَهم بالعذاب الواقعِ بمَن كذبَ، ﴿ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ ﴾، مِن صِدقِكَ وكِتَابكَ، ﴿ مُرِيبٍ ﴾ ؛ أي موقعٌ لَهم الرِّيبة، وَقِيْلَ : إنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ من القُرْآنِ ظاهرِ الشَّكِّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا ﴾ ؛ قرأ نافعُ وابن عامر (ثَمَرَاتٍ) بالجمعِ، وقرأ الباقونَ (ثَمَرَةٍ) على والوِحدَانِ. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مِّنْ أَكْمَامِهَا ﴾ الأكْمَامُ جَمْعُ الكُمَّةِ، وهي لِيْفُ النَّخْلِ، وقال ابنُ عبَّاس :(الأَكْمَامُ الكُفُرِّيُّ قَبْلَ أنْ يَنْشَقَّ، فَإذا انْشَقَّ فَلَيْسَ بأَكْمَامٍ) ﴿ وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ ﴾ ؛ بَيَّنَ اللهُ أنَّ الذي يعلمُ الثِّمارَ في الأكمامِ، والأولادَ في الأرحامِ مع مُشاهدةِ الأكمامِ، والأُمَّهاتِ هو اللهُ تعالى لا يَعْلَمُهُ أحدٌ غيرهُ، ومَن لَم يُشاهد شيئاً منها أوْلَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَآئِي ﴾ ؛ فيه وعيدٌ للمشرِكين ؛ أي يقالُ للمشركين يومَ القيامةِ : أيْنَ شُرَكَائِي في ظَنِّكُمْ وزَعمِكم؟! فيقولون :﴿ قَالُواْ آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ ﴾ ؛ أي أعْلَمْنَاكَ وعرَّفنَاكَ أنَّا كُنا في الدُّنيا جُهلاءَ غيرَ عارفين، ما مِنَّا من شهيدٍ أنَّ لكَ شَريكاً، يَتَبَرَّؤُونَ يومئذٍ مِن أن يكونَ مع اللهِ شريكٌ. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَضَلَّ عَنْهُم ﴾ ؛ أي ضَاعَ، ﴿ مَّا كَانُواْ يَدْعُونَ ﴾ ؛ يَعبُدُونَ، ﴿ مِن قَبْلُ ﴾ ؛ في الدُّنيا. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَظَنُّواْ مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ ﴾ ؛ أي أيْقَنُوا أنه لا خلاصَ لَهم من النَّار.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى ﴾ ؛ أي لستُ على يقينٍ من البعثِ، فإن كان الأمرُ على ذلكَ ورُدِدْتُ إلَى رَبي أنَّ لِي عندَهُ الجنةَ ويعطيني في الآخرةِ أفضلَ ما أعطانِي في الدُّنيا. قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ﴾ ؛ وعيدٌ لَهم.
والمعنى بقولهِ تعالى ﴿ دُعَآءٍ عَرِيضٍ ﴾ أي كثيرٍ لا يَمِلُّ من الدُّعاء. وإنَّما لَم يقل : طَوِيلٍ ؛ لأن ذِكْرَ العريضِ أبلغُ في باب الامتدادِ والانبساط، لأن العريضَ يدلُّ على الطويلِ، ولا يدلُّ الطويلُ على العريضِ.
وَقِيْلَ : معنى ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ ﴾ أي سَنُرِيهم ما نفتحُ من القُرَى على مُحَمَّد ﷺ في النواحِي والأطرافِ ﴿ وَفِي أَنفُسِهِمْ ﴾ فتحُ مكَّة. قال الحسنُ : يعني (سَنُرِيْهِمْ ظُهُورَ مُحَمَّدٍ عَلَى الآفَاقِ وَعَلَى مَكَّةَ حَتَّى يَعْرِفُواْ أنَّهُ مُؤَيَّدٌ مِنْ قِبَلِ اللهِ تَعَالَى بَعْدَ أنْ كَانَ وَاحِداً لاَ نَاصِرَ لَهُ). وذلك معنى قَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ﴾ ؛ أي ما يقولُ لَهم النبيُّ ﷺ هو الحقٌّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ ؛ معناهُ : أوَلَمْ يَكْفِ برَبكَ شَاهداً أنَّ القُرْآنَ من اللهِ وأنَّ النبيَّ ﷺ صادقٌ وشهيد هو العالِمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآءِ رَبِّهِمْ ﴾ ؛ معناهُ : ألا إنَّهم في شكٍّ من البعثِ والثواب والعقاب، ﴿ أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ ﴾ ؛ أحاطَ بكلِّ شيءٍ عِلْماً ؛ إنَّهُ يعلَمُ الغيبَ والشَّهادةَ.