تفسير سورة الفتح

التفسير الحديث
تفسير سورة سورة الفتح من كتاب التفسير الحديث .
لمؤلفه دروزة . المتوفي سنة 1404 هـ
سورة الفتح
في السورة إشارة إلى أحداث ومشاهد سفرة الحديبية وصلحها وما يسره الله للمسلمين من فتح خيبر وغنائمها على ما أجمع عليه المفسرون وكتاب السيرة القدماء. وفيها تثبيت وتطمين ربانيان بمناسبة تلك الأحداث والمشاهد. وإشارة إلى مواقف بعض الأعراب المسلمين منها. وإشارة إلى وجود مؤمنين يكتمون إيمانهم في مكة. وإيذان جديد بوعد الله بإظهار الإسلام على الدين كله. وتنويه بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وما كانوا عليه من ورع وتقوى.
وآيات السورة منسجمة في الموضوع والظرف. وهذا يسوغ القول بوحدة نزولها، ونزول فصولها متتابعة.
والمصحف الذي اعتمدنا عليه يروي أن هذه السورة نزلت في طريق عودة النبي صلى الله عليه وسلم من الحديبية إلى المدينة. وقد أورد المفسرون بعض أحاديث مؤيدة لذلك. منها حديث أخرجه الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب قال ( كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فسألته عن شيء ثلاث مرات، فلم يرد علي فقلت في نفسي : ثكلتك أمك يا ابن الخطاب ألححت على رسول الله ثلاث مرات فلم يرد عليك. فركبت راحلتي فحركت بعيري، وتقدمت مخافة أن يكون نزل في شيء، فإذا أنا بمناد : يا عمر، فرجعت وأنا أظن أنه نزل في شيء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : نزل علي البارحة سورة هي أحب إلي من الدنيا وما فيها ﴿ إنا فتحنا لك فتحا مبينا ١ ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ﴾١ ومنها حديث أخرجه الإمام أحمد أيضا عن مجمع ابن حارثة الأنصاري جاء فيه ( شهدنا الحديبية فلما انصرفنا عنها إذا الناس ينفرون الأباعر فقال الناس بعضهم لبعض : ما للناس ؟ قالوا أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرجنا مع الناس نوجف فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته عند كراع الغميم، فاجتمع الناس عليه، فقرأ عليهم ( إنا فتحنا لك فتحا مبينا ١ } فقال رجل من أصحاب رسول الله : أي رسول الله أو فتح هو ؟ قال إي والذي نفس محمد بيده إنه لفتح ) ٢.
ومنها حديث أخرجه ابن جرير عن عبد الله ابن مسعود جاء فيه ( لما أقبلنا من الحديبية عرسنا فنمنا، فلم نستيقظ إلا والشمس قد طلعت، فاستيقظنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نائم. قال : فقلنا أيقظوه فاستيقظ، فقال : افعلوا ما كنتم تفعلون. وكذلك يفعل من نام أو نسي. وفقدنا ناقة رسول الله، فطلبناها فوجدناها قد تعلق خطامها بشجرة، فأتيته بها فركبها، فبينا نحن نسير إذ أتاه الوحي، وكان إذا أتاه الوحي اشتد عليه، فلما سرى عنه أخبرنا أنه أنزل عليه ﴿ إنا فتحنا لك فتحا مبينا ﴾ وفي فصل التفسير من صحيحي مسلم والبخاري حديث عن سهل ابن حنيف جاء فيه ( لقد رأيتنا يوم الحديبية في الصلح الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين، ولو نرى قتالا لقاتلنا، فجاء عمر فقال : ألسنا على الحق وهم على الباطل. أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار قال : بلى : قال : ففيم نعطي الدنية في ديننا ونرجع، ولما يحكم الله بيننا.
فقال : يا ابن الخطاب إني رسول الله ولن يضيعني الله أبدا، فرجع متغيظا فلم يصبر حتى جاء أبا بكر فقال : ألسنا على الحق وهم على الباطل قال : يا ابن الخطاب إنه رسول الله ولن يضيعه أبدا، فنزلت سورة الفتح.
وهكذا تتضافر الروايات والأحاديث٣ على أنها نزلت دفعة واحدة في طريق عودة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين إلى المدينة، وهو ما يلهمه انسجام آياتها وترابطها ووحدة سياقها وموضوعها. والله أعلم.
ولقد روى البخاري ومسلم عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( أنزلت علي الليلة سورة هي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس، ثم قرأ ﴿ إنا فتحنا لك فتحا مبينا ﴾ وفي رواية { نزلت علي آية هي أحب من الدنيا جميعا٤.
ومن المحتمل أن يكون ما في السورة من إقرار لما فعله النبي صلى الله عليه ومسلم وبشارات عظمى لما سوف ينتج عنه من فتح ونصر وغفران الذنوب المتقدمة والمتأخرة وإظهار دين الله على الدين كله مما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يشعر بهذا الشعور بنزول السورة وينوه فيها هذا التنويه العظيم. والله أعلم.
١ المصدر نفسه.
٢ التاج ج ٤ فصل التفسير ص ٢١٢ ـ ٢١٣ وهناك أحاديث أخرى من هذا الباب فاكتفينا بما أوردنا انظر أيضا كتب تفسير الطبري والبغوي والزمخشري والطبرسي والخازن.
٣ انظر ابن هشام ج ٣ ص ٣٥٥ ـ ٣٧٨ وابن سعد ج ٣ ص ١٣٩ و ١٥٢.
٤ التاج ج ٤ ص ١٠٩.

بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا ( ١ ) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا ( ٢ ) وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا ( ٣ ) ﴾.
تعليق على الآية
﴿ إنا فتحنا لك فتحا مبينا ﴾
والآيتين التاليتين لها وعلى مدى جملة ﴿ ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ﴾ وخلاصة عما ورد في الروايات من ظروف ومشاهد سفرة الحديبية وصلحها.
الخطاب في الآيات موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم باتفاق المفسرين وبقرينة الآيات نفسها. ويستلهم منها أنها مطلع تمهيدي لما احتوته السورة وقد تضمن هذا المطلع :
( ١ ) تنويها بعظم الفتح الذي يسره الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم.
( ٢ ) وبشرى للنبي صلى الله عليه وسلم بأن ما يسره الله له من الفتح هو وسيلة إلى غفران الله ذنوبه السابقة واللاحقة وإتمام نعمته عليه وتوفيقه إلى أقوم الطرق، ونصره في النهاية نصرا عزيزا لا مثيل له. ومع أن هناك من ذهب إلى أن الفتح المذكور هو فتح مكة١ فإن الأكثر على أنه صلح الحديبية٢ وقد جاء هذا على لسان النبي صلى الله عليه وسلم بالذات إن صح الحديث المروي عن مجمع ابن حارثة الذي أوردناه قبل، وهو مؤيد بالأحاديث التي ذكرت أن نزول الآيات إنما كان في أثناء سفرة الحديبية. وبينها وبين فتح مكة عامان. ولقد روى الزمخشري عن موسى ابن عقبة حديثا آخر مؤيدا لذلك أخرجه البيهقي جاء فيه ( أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية راجعا فقال رجل من أصحابه : ما هذا بفتح لقد صدونا عن البيت، وصد هدينا، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال : بئس الكلام هذا بل هو أعظم الفتوح، وقد رضي المشركون أن يدفعوكم عن بلادهم بالراح، ويسألوكم القضية. ويرغبوا إليكم في الأمان، وقد رأوا منكم ما كرهوا ).
وصيغة الآيات وروحها ومضمونها يدل على أنها نزلت على سبيل تطمين نفوس المسلمين وإيذانهم بأن ما كان قد كان فتحا مبينا، ومقدمة لنصر قوي عظيم ينالونه تحت راية النبي صلى الله عليه وسلم.
وملخص الروايات الواردة في قصة سفرة الحديبية وصلحها هو ما يلي٣ : رأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه أنه زار الكعبة، فاعتزم زيارتها واستنفر إلى ذلك المسلمين، وخرج في نحو ألف وأربعمائة أو ألف وخمسمائة أو ألف وثلاثمائة، وساق معه الهدي ( الأنعام التي ستذبح قرابين أثناء الزيارة ) وكان ذلك في أواخر العام الهجري السادس، وفي شهر ذي القعدة من الأشهر الحرم، وقد يدل هذا على أنه أراد الحج أيضا ؛ لأن الزيارة كانت في موسم الحج، فلما وصل إلى مكان اسمه ذو الحليفة أحرم وأمر المسلمين بالإحرام وأشعر الهدي ( جرحه ليسيل دمه وهذا علامة على أنه هدي لله ) ووضع في أعناقه القلائد ( وهي علامة ثانية على ذلك ) وكانت أخبار مسيرة قد وصلت إلى قريش، فهاجوا وثارت نفوسهم، وتعاهدوا على منعه، وأخذوا يستعدون للحرب، حتى لقد أرسلوا كتيبة فرسانهم بقيادة خال ابن الوليد بسبيل ذلك. وجاء زعيم خزاعة إلى النبي، وكان له نصوحا فقال له : إن قريشا جمعوا لك جموعا وجمعوا الأحابيش وهو مقاتلوك وصادوك عن البيت. فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، فأشاروا عليه بالمضي إلى قصده الذي ألهمه الله به فإذا صدتهم قريش قاتلوهم إلى أن يحكم الله بينهم ثم تقدم وتقدموا، حتى إذا وصلوا إلى الحديبية وهي قرية أو بئر على نحو مرحلة من مكة بركت ناقة النبي صلى الله عليه وسلم، فألهم بوجوب التوقف في المكان فتوقف وقال :( والذي نفسي بيده لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة فيها تعظيم حرمات الله وما فيها صلة رحم إلا أعطيتهم إياها ) وقد أرسل النبي رئيس خزاعة إلى قريش يخبرهم أنه إنما جاء معتمرا ولم يجيء مقاتلا، ويدعوهم إلى المهادنة والسماح له بالزيارة والتخلية بينه وبين العرب، فإن هلك كفوا مؤونته، وإن أظهره الله كانوا بالخيار إن أرادوا دخلوا فيما دخل فيه الناس. وينذرهم إذا أمعنوا في العناد والبغي أنه سوف يقاتلهم حتى تنفرد سالفته ( أي حتى يطيح رأسه عن عنقه ) ولينفذ الله أمره. فذهب الرجل وأبلغ الرسالة وكان عروة ابن مسعود الزعيم الثقفي حاضرا، فنصحهم بقبول ما اقترحه وطلب منهم أن يأذنوا له ليأتي محمدا صلى الله عليه وسلم ويكلمه فأذنوا فجاء فكلمه، فقال له ما قال للزعيم الخزاعي. فقال له : أي محمد أرأيت إن استأصلت قوماك هل سمعت بأحد من العرب فعل ذلك قبلك ؟ وإن تكن الأخرى فوالله إني لأرى وجوها وأرى أوشابا من الناس خلقاء أن يفروا ويدعوك، فصرخ به أبو بكر : امصص بظر اللات أنحن نفرعنه وندعه ؟ فعاد عروة فقال لقريش : أي قوم والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي. والله ما رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا، إذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيما له، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها. فظلوا في ترددهم وترادت رسل أخرى بين قريش والنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، ثم أرسل النبي صلى الله عليه وسلم من جانبه عثمان ابن عفان رضي الله عنه ليخبر الناس برغبة النبي صلى الله عليه وسلم عن القتال ورغبته في الزيارة وحسب. والظاهر أنه اختاره لقوة عصبيته في مكة ؛ حيث يمت إلى بني أمية. وقد أبطأ في العودة، وشاع أن قريشا حبسوه أو قتلوه. فدعا النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى البيعة على الثبات والاستمانة إذا أصرت قريش على البغي. وتمت البيعة تحت شجرة استظل النبي صلى الله عليه وسلم بظلها، فسميت بيعة الشجر، ولم يلبث عثمان أن رجع وإن تم رأي قريش على إرسال سهيل ابن عمرو أحد زعمائهم لمفاوضة النبي صلى الله عليه وسلم على عقد هدنة مزودا بشروط أملتها عليهم الأنفة والحمية الجاهلية. منها تأجيل الزيارة إلى العام القابل. وعدم حملهم في يوم الزيارة إلا سيوفهم في أغمادها وإعادة من يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم منهما مسلما برغم أهله. وعدم إعادة من يفر من المدينة إلى مكة مرتدا. وقد قبل النبي صلى الله عليه وسلم الشروط بعد مفاوضات عديدة حتى كادت في وقت أن تنقطع ويشتبك الفريقان في القتال، بل وحدث شيء من ذلك ؛ حيث حاول بعض خيالة قريش وشجعانهم أن يأخذوا النبي والمسلمين أو فريقا منهم على غرة، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم من كمن في طريقهم، وتمكن من أسر فريق منهم، ثم أطلق سراحهم إيذانا برغبته عن الشر. وانتهت المفاوضات إلى اتفاق على أن تكون مدة الهدنة عشر سنوات، وكتب في ذلك عقد ختمه النبي صلى الله عليه وسلم بخاتمه، ووقعه سهيل عن قريش. وحينئذ أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذبح الهدي وحلق الشعر والتحلل من الإحرام ثم آذن بالعودة. وقد روي فيما روي أن أبا جندل ابن سهيل ابن عمرو_ المفاوض_ وقد كان أسلم، فحبسه أبوه وقيده_ استطاع أن يفر ويجيء إلى النبي والمسلمين يرسف في أغلاله حينما درى أنهم في الحديبية، وكان التراضي على الشروط قد تم، فاحترم النبي صلى الله عليه وسلم ما تم ورد أبا جندل إلى أبيه، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته : يا معشر المسلمين أؤرد إلى المشركين يفتونني في ديني ؟ فزاد ذلك الناس إلى ما بهم وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أبا جندل اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا وخرجا٤. إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله وإنا لا نغدر بهم. ومما اتفق عليه أن تخير قبيلتا خزاعة وبني بكر اللتان كانتا نازلتين حول مكة وبينهما عداء في الانضمام إلى أي طرف من الطرفين فتكونا داخلتين في عقد الصلح فانضمت خزاعة إلى طرف النبي صلى الله عليه وسلم وانضمت بنو بكر إلى طرف قريش. وروي كذلك أن النبي حينما أخذ يملي العقد على علي ابن أبي طالب هكذا ( هذا ما تم عليه الاتفاق بين محمد رسول الله ) اعترض سهيل وأبي أن يذكر محمد إلا باسمه واسم أبيه فقط، فوافق النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، ومحا ما كان أملاه، ومما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الشرط الذي شرطته قريش رد من يأتي إليهم من المدينة من ذهب منا مرتدا، فلا رده الله ولسنا بحاجة إليه.
ومما روي من الشروط التي قبل بها النبي صلى الله عليه وسلم قد ثقلت على فريق من المؤمنين من جملتهم عمر ابن الخطاب وأذهلتهم وكادت تزيغهم. ولا سيما أنه أعلن أنه رأى في منامه أنه يزور الكعبة مع المسلمين، وكانوا يعرفون أن رؤياه حق.
وقد راجعوه وحاوروه، ومنهم من تباطأ في تنفيذ أمره في نحر الهدي وحلق الشعر والتحلل من الإحرام، ولكنه آذنهم أنه إنما يسير بإلهام الله. وثبت نفوسهم حتى عاودتهم الطمأنينة، ولم تلبث السورة أن نزلت مثبتة مطمئنة مبشرة ومؤيدة لما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأبرم. وقد ورد هذا أيضا في أحاديث صحيحة أوردناه في مقدمة السورة.
والروايات متسقة إجمالا مع ما احتوته آيات سورة الفتح من إشارات لم تستهدف القصة والإخبار وإنما استهدفت العظة والإرشاد والتثبيت والتطمين جريا على الأسلوب القرآني. كما أن الأحداث التي وقعت بعد صلح الحديبية حققت صدق إلهام النبي صلوات الله عليه فيما فعل وقال، وأظهرت عظم الفوائد المادية والسياسية والحربية والدينية التي عادت على المسلمين والإسلام من هذا الصلح، حتى ليصح أن يعد من الأحداث العظمى الحاسمة في تاريخ الإسلام وقوته وتوطده أو بالأحرى من أعظمها وتحققت بذلك معجزة القرآن في وصفه بالفتح المبين.
فبالإضافة إلى ما كان من اعتراف قريش بشخصية النبي صلى الله عليه وسلم كرئيس الدولة الإسلامية واعتبارهم إياه ندا وتراجعهم عن عدائهم الشديد له وكانوا قبل سنة زحفوا مع أحزابهم في عشرة آلاف مقاتل على المدينة لاستئصال شأفته وشأفة الإسلام والمسلمين. وما كان في ذلك فرض شخصية النبي ودينه والمسلمين وتوطيد كيانهم واسمهم وهيبتهم عليهم، فإن ذلك كله كان أيضا بالنسبة لسائر العرب الذين كانوا يعتبرون مكة إماما وقدوة. كما أنه أتاح للنبي صلى الله عليه وسلم فرصة توسيع نطاق دعوته وإيصالها إلى مناطق وبيئات عديدة في أطراف الجزيرة وما وراءها، والاستمتاع بحرية الحركة والسفر والاتصال بالقبائل وتصفية القرى اليهودية التي كان أهلها يناصبون المسلمين العداء في طريق الشام وكانت حالة العداء والحرب بينه وبين أهل مكة وما والاها حائلة دون ذلك كله. ثم كان ممهدا للفتح الأكبر أي فتح مكة الذي انهدم به السور الذي كانت تضربه مكة بين الدعوة وسائر أنحاء الجزيرة العربية، وقد كان بعض هذه النتائج فورية ؛ حيث زحف النبي صلى الله عليه وسلم على قرى اليهود واكتسحها٥ عقب عودته من الحديبية، وأرسل رسله ورسائله كذلك إلى ملوك فارس والروم ومصر وملوك وأمرائهم وزعمائهم في أنحاء الجزيرة وخارجها فور عودته كذلك٦ ولم يلبث أن جاء الرد الإيجابي من ملوك عمان والبحرين وزعماء اليمن، وبعض أمراء الغساسنة وعمالهم ؛ حيث بعثوا يعلمون النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامهم وإذعانهم٧ وأخذت وفود العرب
١ روى هذا البغوي عن أبي جعفر الرازي عن قتادة عن أنس.
٢ انظر الطبري والطبرسي والبغوي والخازن وابن كثير والزمخشري والنسفي الخ.
٣ انظر ابن هشام ج ٣ ص ٣٥٣ ت ٣٧١ وابن سعد ج ٣ ص ١٣٩ ـ ١٥١ وتاريخ الطبري ج ٢ ص ٢٧٠ ـ ٢٨٤ وتفسير الطبري وابن كثير والخازن والطبرسي والزمخشري والبغوي.
٤ من طريف ما رواه ابن هشام في سياق قصة الحديبية: أن مسلما آخر اسمه أبو بصير كان محبوسا مضيقا عليه في مكة مثل أبي جندل، واستطاع أن يلفت ويلتحق بالنبي في المدينة بعد قليل من عودته من الحديبية، وأرسلت قريش تطالب النبي برده حسب العهد فقال له رسول الله ما قاله لأبي جندل، وسلمه للرسول الذي جاء من قريش. واستطاع في الطريق أن يغتال هذا الرسول وينجو ويعود ثانية إلى المدينة، وقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما علم بما فعل قال (ويل أمه مسعر حرب لو كان معه أحد) على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤوه؛ لئلا يعتبر ذلك نقضا منه فخرج إلى جهة مكة وأخذ يجتمع إليه أمثاله، حتى بلغوا سبعين وصاروا يضيقون على قريش: لا يظفرون بأحد منهم إلا قتلوه ولا تمر بهم عير إلا اقتطعوه حتى كتبت قريش للنبي تقول له: لا حاجة لنا بهم وتسأله بأرحامها إلا أن آواهم وزواهم عنهم.
٥ تاريخ الطبري ج ٢ ص ٣٠٣ ـ ٣٠٦ وابن هشام ج ٣ ص ٣٧٦ - ٤٠٠ وابن سعد ج ٣ ص ١٥٢.
٦ ابن سعد ج ٢ ص ٢٣ ـ ٢٧ وابن هشام ج ٤ ص ٢٧٨ ـ ٢٨٠.
٧ ابن هشام ج ٤ ص ٢٧٩ وابن سعد ج ٢ ص ٢٧ ـ ٥٦.
( ١ ) السكينة : الطمأنينة والهدوء النفساني.
﴿ هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ١ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ( ٤ ) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا( ٥ ) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا ( ٦ )وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ( ٧ ) ﴾.
تعليق على الآية.
﴿ ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار ﴾
والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من صور وتلقين
روى الترمذي عن أنس قال ( لما نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم ( ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ) مرجعه من الحديبية قال : لقد نزلت علي آية أحب إلي مما على الأرض، ثم قرأها عليهم فقالوا : هنيئا مريئا يا نبي الله، قد بين الله لك ماذا يفعل لك، فماذا يفعل بنا ؟ فنزلت عليه { ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ) ١.
والحديث يقتضي أن تكون الآية منفصلة عن سابقاتها ولاحقاتها، مع أن الأحاديث التي أوردناها في مقدمة السورة تذكر أن آيات السورة نزلت دفعة واحدة. وهذا بالإضافة إلى أن الآية منسجمة مع ما قبلها ومع ما بعدها انسجاما تاما ومعطوفة عليها ؛ ولذلك نرجح أن الآيات الأربع استمرار للآيات السابقة، وأنها قد استهدفت ما استهدفته الآيات الثلاث الأولى من التثبيت والتطمين. فقد نوهت الآيات السابقة بما يسر الله لنبيه من الفتح وبشرته، فجاءت هذه الآيات تلتفت في الخطاب إلى المؤمنين فتذكرهم ( أولا ) بما كان من بث الله الطمانينة في قلوبهم بعد الجزع ليقوي إيمانهم وثقتهم به. وتطمئنهم ( ثانيا ) بأن ما كان من رحلتهم، وما نالهم من مشقة قد جعله الله بالإضافة إلى ما يسره به من فتح وسيلة للتجاوز عن سيئاتهم ورضائه عنهم ومن مبررات ما سوف يدخلهم فيه من الجنات الأخروية مخلدين فيها، وفي ذلك ما فيه الفوز العظيم. وتنبههم ( ثالثا ) إلى أن الله عز وجل الذي له جنود السماوات والأرض وقواها قادر على تحقيق ما وعدهم به. وقد كان وما يزال العليم بكل شيء الحكيم الذي لا يأمر ولا يقضي إلا بما فيه الحكمة والصواب. ولتستطرد ( رابعا ) إلى ذكر المنافقين والمشركين من رجال ونساء الذين يظنون بالله ظن السوء حيث يظنون أنه خاذل لأوليائه وترد عليهم سوء ظنهم من كون دائرة السوء سوف تدور عليهم.
وغضب الله ولعنته سوف يحلان عليهم ومصيرهم الأخروي هو جهنم وبئست هي من مصير أعد لهم ولأمثالهم، وكون الله الذي له جنود السماوات والأرض وقواها قادرا على تحقيق ما أوعدهم به من الخزي واللعنة والهوان والعذاب، فهو كان وما يزال العزيز الحكيم القادر على ذلك، والذي يفعل ما فيه الحق والحكمة والصواب.
وعلى ضوء هذا الشرح الذي نرجو أن يكون صوابا، فإننا نتوقف في كون الآية ( ٥ ) نزلت جوابا على سؤال المؤمنين ونميل إلى القول : إن المؤمنين قالوا للنبي ألك في موقف آخر ؟ فتلا عليهم النبي الآية لتبشيرهم وتطمينهم، فالتبس الأمر على الرواة. والله تعالى اعلم.
وقد لمحنا حكمة تكرار جملة ﴿ ولله جنود السماوات والأرض ﴾ في كون ذلك قد جاء ليتلاءم مع وعد الله تعالى للمؤمنين ووعيده للكفار والمشركين، ونرجو أن يكون شرحنا لذلك صوابا إن شاء الله.
ولعل في الآية الأولى ما يلهم صحة ما روي من القلق والبلبلة التي اعترت المسلمين، وبخاصة بسبب شروط الصلح ثم سكون نفوسهم بما كان من تطمين النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيته وموقفه الحازم الملهم من الله.
ولعل في الآية الثالثة صورة لما كان يدور في خلد من تخلف في المدينة من المنافقين وفي خلد المشركين من غلبة الظن بهلاك المسلمين وتعرضهم لضربة شديدة وارتدادهم مخذولين من رحلتهم، بل كان هذا مما دار في خلد بعض القبائل التي كانت أسلمت أيضا على ما سيأتي بيان صريح عنه.
ولقد عزا المفسرون إلى ابن عباس أن جملة ﴿ ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ﴾ هي بمعنى ( ليزدادوا إيمانا وتصديقا بشرائع الله بعد إيمانهم بالله وتوحيده }٢ وقال ابن كثير : إن البخاري وغيره من الأئمة استدلوا بهذه الآية على تفاضل الإيمان في القلوب. ومع ما في قول ابن عباس من سداد بوجه عام، فإن ما أوردناه قبل من شرح للآية هو المتبادر أكثر والله اعلم، ولسنا نرى في الآية دلالة على تفاضل الإيمان لذاته.
والجملة لم تأت هنا لأول مرة، بل جاءت في سورة المدثر المكية، ثم في سورة آل عمران والأنفال والأحزاب، وقد علقنا عليها في سورة المدثر بما فيه الكفاية.
ويلفت النظر إلى اختصاص المؤمنات والمشركات والمنافقات بالذكر إلى جانب المؤمنين والمشركين والمنافقين، وقد سبق هذا في سورة الأحزاب أيضا ؛ حيث ينطوي في ذلك توكيد بأن المرأة العربية في الدعوة الإسلامية وظروفها ومختلف صورها كانت ذات شخصية مستقلة.
﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ( ٨ ) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ( ٩ ) ﴾.
تعليق على الآية
﴿ إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا ﴾ والآية التي تليها
قرئت ضمائر الأفعال في الآية الثانية بالتاء للمخاطب كما قرئت بالياء للغائب، وقال المفسرون : في الحالة الثانية تكون الآية موجهة إلى الناس. وروح الآية والسياق والمقام يلهم أنها موجهة إلى المسلمين بخاصة وتكون قراءتها بالتاء هو الأوجه، وهو المشهور أما ضمير المفعول في أفعال الآية فقيل : إنه عائد للرسول صلى الله عليه وسلم، وقيل إنه عائد لله، ومع أن الضمير يعود للأقرب وهو الرسول فإن فعل ﴿ وتسبحوه ﴾ يثير إشكالا في صرفه إلى الرسول وقد قال الذين صرفوا الضمائر إلى الرسول : إن الكلام ينتهي عند ﴿ وتوقروه ﴾ ثم يبدأ من جديد في فقرة ﴿ وتسبحوه ﴾ وتكون مصروفة إلى الله١ وفي هذا تكلف فيما نراه. والوجه الذي يتبادر لنا أنه الصواب إن شاء الله هو أن الضمائر راجعة إلى الله ودينه. والآية الأولى قد تلهم هذا ؛ حيث تقرر أن الله إنما أرسل رسوله شاهدا ومبشرا ونذيرا.
والمتبادر أن الآيتين جاءتا على سبيل التعقيب على ما سبق فاحتوتا تقرير واجب النبي صلى الله عليه وسلم وواجب المسلمين. وكلاهما كان موضوع خطاب في الآيات السابقة. وهذا ما يسوغ القول : إنهما استمرار للسياق. وقد استهدفتا كما تلهم روحهما وبخاصة الآية الثانية منهما توكيد واجب المسلمين بنصرة دين الله ورسوله والخضوع لأوامرهما والوقوف عنده وتوكيد كون الله إنما أرسل رسوله شاهدا عليهم ومبشرا ونذيرا لهم وأن ما فعله قد فعله بإلهام الله تعالى ووحيه.
ولقد وردت جملة مماثلة للجملة الأولى في سورة الأحزاب، وقد جاءت بعد مسألة زواج النبي صلى الله عليه وسلم بمطلقة ابنه بالتبني التي ذكرنا احتمال وقوع تشويش واستغراب في صددها، فأريد بالآية التنبيه إلى عظم قدر النبي وكونه المبشر المنذر من الله ووجوب التسليم بما ينقله بإلهام الله ومقتضى حكمته، وجاءت هنا في مناسبة ما ثار في نفوس المؤمنين من مضض من شروط الحديبية، فاقتضت الحكمة تكرارها للمقصد ذاته بسبب تكرار الموقف، وإن اختلف الأشخاص والأحداث فيه، والله تعالى أعلم.
١ انظر الطبري والبغوي والزمخشري والطبرسي.
تعزروه : تنصروه وتعزروه
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨:﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ( ٨ ) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ( ٩ ) ﴾.
تعليق على الآية
﴿ إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا ﴾ والآية التي تليها
قرئت ضمائر الأفعال في الآية الثانية بالتاء للمخاطب كما قرئت بالياء للغائب، وقال المفسرون : في الحالة الثانية تكون الآية موجهة إلى الناس. وروح الآية والسياق والمقام يلهم أنها موجهة إلى المسلمين بخاصة وتكون قراءتها بالتاء هو الأوجه، وهو المشهور أما ضمير المفعول في أفعال الآية فقيل : إنه عائد للرسول صلى الله عليه وسلم، وقيل إنه عائد لله، ومع أن الضمير يعود للأقرب وهو الرسول فإن فعل ﴿ وتسبحوه ﴾ يثير إشكالا في صرفه إلى الرسول وقد قال الذين صرفوا الضمائر إلى الرسول : إن الكلام ينتهي عند ﴿ وتوقروه ﴾ ثم يبدأ من جديد في فقرة ﴿ وتسبحوه ﴾ وتكون مصروفة إلى الله١ وفي هذا تكلف فيما نراه. والوجه الذي يتبادر لنا أنه الصواب إن شاء الله هو أن الضمائر راجعة إلى الله ودينه. والآية الأولى قد تلهم هذا ؛ حيث تقرر أن الله إنما أرسل رسوله شاهدا ومبشرا ونذيرا.
والمتبادر أن الآيتين جاءتا على سبيل التعقيب على ما سبق فاحتوتا تقرير واجب النبي صلى الله عليه وسلم وواجب المسلمين. وكلاهما كان موضوع خطاب في الآيات السابقة. وهذا ما يسوغ القول : إنهما استمرار للسياق. وقد استهدفتا كما تلهم روحهما وبخاصة الآية الثانية منهما توكيد واجب المسلمين بنصرة دين الله ورسوله والخضوع لأوامرهما والوقوف عنده وتوكيد كون الله إنما أرسل رسوله شاهدا عليهم ومبشرا ونذيرا لهم وأن ما فعله قد فعله بإلهام الله تعالى ووحيه.
ولقد وردت جملة مماثلة للجملة الأولى في سورة الأحزاب، وقد جاءت بعد مسألة زواج النبي صلى الله عليه وسلم بمطلقة ابنه بالتبني التي ذكرنا احتمال وقوع تشويش واستغراب في صددها، فأريد بالآية التنبيه إلى عظم قدر النبي وكونه المبشر المنذر من الله ووجوب التسليم بما ينقله بإلهام الله ومقتضى حكمته، وجاءت هنا في مناسبة ما ثار في نفوس المؤمنين من مضض من شروط الحديبية، فاقتضت الحكمة تكرارها للمقصد ذاته بسبب تكرار الموقف، وإن اختلف الأشخاص والأحداث فيه، والله تعالى أعلم.
١ انظر الطبري والبغوي والزمخشري والطبرسي.

﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ( ١٠ ) ﴾
تعليق على الآية
﴿ إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله ﴾
وما ينطوي فيها من صور وتلقين
المستفاد من شرح المفسرين١ أن هذه الآية تعني المبايعة التي بايع بها المسلمون النبي صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة في الحديبية : مع أن في السورة آية أخرى فيها إيذان برضاء الله عن الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، فلا يمنع أن تكون هذه الآية أيضا في الصدد نفسه لمعنى آخر غير المعنى الذي عبرت عنه الآية المذكورة.
وعلى كل حال فالمتبادر أن الآية متصلة أن الآية متصلة بالسياق السابق وبالآيتين السابقتين مباشرة لها بخاصة. وعلى سبيل توكيد واجب المسلمين المذكور في الثانية منهما. وكأنما جاءت معقبة على ذلك لتؤذن المسلمين أولا أنهم وإن كانوا بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم فإنما هم في الحقيقة قد بايعوا الله الذي كانت يده فوق أيديهم. ولتنبههم ثانيا إلى خطورة العهد الذي قطعوه على أنفسهم أمام الله في البيعة على نصر دين الله وما يستلزمه هذا من الثقة والرضاء بكل ما يلهمه ويوحي به إلى رسوله والوقوف عنده. ولتنذرهم ولتبشرهم ثالثا، بأن من نكث عن بيعته وفعل ما ينقضها فإنما يكون بذلك قد أضر نفسه، وبأن من أوفى بما عاهد الله عليه يحظى بعظيم الأجر من الله.
وقد تلهم الآية خطورة ما كان عليه الموقف في الحديبية وما كان من شدة وقع شروط الصلح على المسلمين ؛ حيث اقتضت حكمة التنزيل هذا الإيذان والتنبيه والإنذار والتبشير التي احتوته الآية لتسكين نفوسهم من جهة وليكون خطة لهم في المستقبل من جهة أخرى.
ومما روي عن دواعي هذه البيعة أنه لما شاع أن قريشا قتلت أو حبست عثمان ابن عفان رضي الله عنه الذي أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم قال النبي ( لا نبرح حتى نناجز القوم ) ودعا من خرج معه إلى بيعته على الموت في رواية، وعلى عدم الفرار في رواية أخرى، واستظل في ظل شجرة من السمر فأقبلوا عليه يبايعونه، ولم يتلكأ أو يتخلف أحد إلا شخص واحد روي أنه كان ينشد ناقة له قد ضلت٢.
ومما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : اللهم إن عثمان في حاجة الله وحاجة رسوله، ثم ضرب بإحدى يديه على الأخرى فكانت إحداهما عن عثمان.
ولقد كان الموقف خطيرا ورائعا معا. فالذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم لم يخرجوا إلى قتال ولم يكونوا في عدة وعدة أعدائهم الأشداء والذين تكررت بينهم وقائع الحرب واشتدت بسببها الأحقاد والأضغان، ثم هم بعيدون عن عاصمتهم بينما عدوهم في عاصمته وفي متناوله ما قد يساعده على النصر. ولقد كانوا بين أمرين : إما الثبات والاستماتة حتى يحكم الله. وإما النكوص على الأعقاب من وجه عدوهم بسبب إصراره وصده، فاختاروا الأول وسارعوا إلى مبايعة النبي، فأثبتوا بذلك رسوخ إيمانهم وثقتهم بالله ورسوله وابتغاءهم وجه الله ورضاءه ورضاءهم بكل تضحية في سبيل ذلك فاستحقوا الثناء المحبب والبشرى العظيمة التي احتوتها الآية ( ١٨ ) من هذه السورة ﴿ لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا ﴾.
ومما لا ريب فيه أن هذا الموقف جدير أن يعد من المواقف الحاسمة الموفقة في تاريخ الدعوة الإسلامية إذ كان من المحتمل جدا أن يكون لرجوعهم ونكوصهم من أمام أعدائهم الأشداء آثار خطيرة في هذا التاريخ. ولا نشك في أن أخبار البيعة ومشهدها الرائع وما عبرت عنه من إعلان العزم على مواجهة الموت بقلوب مؤمنة ونفوس مطمئنة وجأش رابط قد وصلت إلى قريش، وكانت عاملا من عوامل ما انبثق فيهم من رغبة اجتناب الحرب والقتال مع هذه الفئة التي بايعت نبيها وربها على الموت وعدم الفرار، والتي ظهر من إخلاصها لدينها وتأييدها لنبييها ما ظهر.
ولقد كان تعبير ﴿ يد الله فوق أيديهم ﴾ موضوع أقوال تتصل بعلم الكلام وصفات الله من حيث نسبة الجوارح إلى الله تعالى٣، ولسنا نرى التعبير والسياق يتحملان ذلك فقد قصد به كما هو المتبادر شدة التوكيد على خطورة العهد والبيعة وكون الله تعالى شاهدا عليهما استهدافا لقوة التلقين الذي أريد بثه في نفوس المسلمين.
ولقد روى البغوي عن ابن عباس في تأويل الجملة ( يد الله بالوفاء لما وعدهم من الخير فوق أيديهم ) وروى عن الكلبي ( نعمة الله عليهم في الهداية فوق ما صنعوا من البيعة } وقال الطبري في تأويلها :( يد الله فوق أيديهم عند البيعة ؛ لأنهم كانوا يبايعون الله ببيعتهم أو قوة الله فوق قوتهم في نصرة الله ورسوله ) وفي هذه التأويلات أيضا سداد، وتفيد أن الجنة حملت على المجاز، ولقد حاول بعض الصوفيين أن يروا في الجملة وأمثالها تأييدا لمذهبهم في وحدة الوجود والاتحاد بالله والشطح والمفارقة ظاهران في هذا القول.
ولقد نبهنا في مناسبات سابقة على ما ينطوي في تعبيرات : يد الله ووجه الله وسمع الله وبصر الله، من مقاصد خطابية وعلى ما ينبغي أن يفهم من ذلك على ضوء التقريرات القرآنية وسنة السلف الصالح٤ فلا نرى ضرورة إلى الإعادة والتكرار.
ولا تخلو الآية من تلقين مستمر المدى فيما يكون قد وجب على المسلمين باعتناقهم الدين الإسلامي وبإيمانهم بالله ورسوله وقرآنه. فإنهم بذلك بمثابة من بايع الله ورسوله على السمع والطاعة والقيام بما أوجبه عليهم القرآن وسنة النبي من واجبات إيجابية وسلبية متنوعة وعدم إهمالها والتقصير فيها أو نقضها ومخالفتها.
١ انظر الطبري والبغوي وابن كثير والخازن.
٢ انظر تفسير ابن كثير الذي أورد أحاديث عديدة في صدد البيعة، ومنها ما ذكر أنها كانت على الموت، ومنها ما ذكر أنها كانت على عدم الفرار.
٣ انظر الزمخشري وذيل ابن المنير على تفسير الزمخشري والخازن.
٤ انظر آخر تفسير سورة القصص.
( ١ ) المخلفون : المتخلفون.
﴿ سيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ١ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ( ١١ ) بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا٢ ( ١٢ ) وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا ( ١٣ )وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ( ١٤ ) ﴾.
تعليق على الآية
﴿ سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا ﴾
والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من صور وتلقين

عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت :

( ١ ) حكاية لما سوف يقوله الأعراب المتخلفون للنبي صلى الله عليه وسلم من الاعتذار بأهلهم وأموالهم التي شغلتهم وجعلتهم يتخلفون. وطلبهم منه أن يستغفر لهم.
( ٢ ) وتكذيبا لهم بتقرير أنهم يقولون غير الحقيقة التي يعلمونها في قلوبهم مع التنديد بهم وإيذانهم بأن الله خبير بأعمالهم إن أظهروها أو أخفوها، وبأنه هو وحده القادر على نفعهم وضرهم، دون أن يكون لأحد قدرة على منعه من ذلك.
( ٣ ) وفضحا لحقيقة أمرهم، وبيان الباعث الصحيح على تخلفهم وهو ظنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين الذين خرجوا معه لن ينجوا من سيوف أعدائهم، ولن يعودوا إلى أهلهم وهو ظن السوء الذي زين في قلوبهم فاستوجبوا لأنفسهم الهلاك، وكانوا به من الفاسدين.
( ٤ ) وتنديدا وإنذارا لهم، فإن من لم يؤمن بالله ورسوله ويثق بهما ويكون طائعا سميعا لكل ما يأمرانه به يستحق ما أعده الله للكافرين من النار.
( ٥ ) وتأميلا لهم مع ذلك ليرعووا ويثوبوا إلى رشدهم، فإن الله هو مالك السماوات والأرض وهو متصف بالغفران والرحمة يغفر لمن اقتضت حكمته المغفرة له، ويعذب من اقتضت حكمته عذابه.
وقد روى المفسرون أن الآيات نزلت في صدد أعراب بني غفار ومزينة وجهينة وأشجع وأسلم، الذين كانوا نازلين حول المدينة واستنفرهم النبي ليخرجوا معه إلى زيارة الكعبة حذرا من قريش أن يعرضوا له بحرب، أو يصدوه عن البيت فتثاقلوا وتخلفوا عن النفرة معه١.
والرواية محتملة جدا وتكون الآيات على ضوئها متصلة بسياق آيات السورة وموضوعها الرئيسي، ومحتوية على صورة من صور أحداث سفرة الحديبية من جهة وصورة من صور الأعراب ومواقفهم من جهة، وصورة لما كان يظنه الأعراب من مصير السفرة وهلاك النبي صلى الله عليه وسلم والذين خرجوا معه من جهة، وكان يشارك الأعراب في الصورة الأخيرة المشركون والمنافقون أيضا على ما استلهمناه قبل من الآية ( ٦ ) وسين المستقبل في حكاية أقوال المتخلفين دليل على أن الآيات قد نزلت قبل مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم لهم، وقرينة على صحة رواية نزولها في طريق عودة النبي صلى الله عليه وسلم من الحديبية إلى المدينة.
وقد يفيد هذا أن الآيات قد استهدفت ما استهدفته الآيات السابقة من تثبيت وتطمين المسلمين وإيذان الذين ثقل عليهم شروط الصلح بخاصة بما كان يقدره لهم الناس من الهلاك في السفرة على سبيل إبراز ما كان من توفيق الله فيها من فرض شخصيتهم ومدافعة أعدائهم لهم بالهدنة وعودتهم سالمين معافين.
وليس في الرواية ما يفيد أن الأعراب المتخلفين كانوا مسلمين أو غير مسلمين، بل قد تفيد أنهم غير مسلمين ؛ لأنها تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن ينفروا معه حتى تعلم قريش أنه جاء زائرا بدليل اشتراك غير مسلمين معه في الزيارة٢ غير أن حكاية طلب استغفار الأعراب من النبي صلى الله عليه وسلم في الآية دليل على كونهم مسلمين.
فضلا عن ما في التأميل في غفران الله ورحمته من قرينة. وفي آية قريبة أخرى دليل آخر أيضا على ما سوف يأتي شرحه، وفي روايات السيرة ما يفيد أن جماعات من مزينة وأشجع وفدوا على النبي صلى الله عليه وسلم وأسلموا في السنة الهجرية الخامسة، وأن جماعات من مزينة وأشجع وأسلم وغفار كانوا في عداد الجيش الذي زحف النبي صلى الله عليه وسلم به على مكة في السنة الهجرية الثامنة٣ حيث يفيد هذا أن منهم من كان مسلما قبل سفرة الحديبية بمدة ما، وكل ما يمكن أن يكون محتملا والحالة هذه أن إسلامهم لم يكن قد رسخ بعد، وهو ما عبرت عنه آيات سورة الحجرات ( ١٤ ـ ١٧ ) وما تفيده من اتساع حلم الله ورسوله لهم على ما شرحناه في سياق تفسير هذه السورة.
( ٢ ) بورا : من البوار وهو الهلاك أو من الفساد أي كنتم هلكى بذنوبكم أو فاسدين بأخلاقكم.
﴿ سيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ١ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ( ١١ ) بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا٢ ( ١٢ ) وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا ( ١٣ )وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ( ١٤ ) ﴾.
تعليق على الآية
﴿ سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا ﴾
والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من صور وتلقين

عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت :

( ١ ) حكاية لما سوف يقوله الأعراب المتخلفون للنبي صلى الله عليه وسلم من الاعتذار بأهلهم وأموالهم التي شغلتهم وجعلتهم يتخلفون. وطلبهم منه أن يستغفر لهم.
( ٢ ) وتكذيبا لهم بتقرير أنهم يقولون غير الحقيقة التي يعلمونها في قلوبهم مع التنديد بهم وإيذانهم بأن الله خبير بأعمالهم إن أظهروها أو أخفوها، وبأنه هو وحده القادر على نفعهم وضرهم، دون أن يكون لأحد قدرة على منعه من ذلك.
( ٣ ) وفضحا لحقيقة أمرهم، وبيان الباعث الصحيح على تخلفهم وهو ظنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين الذين خرجوا معه لن ينجوا من سيوف أعدائهم، ولن يعودوا إلى أهلهم وهو ظن السوء الذي زين في قلوبهم فاستوجبوا لأنفسهم الهلاك، وكانوا به من الفاسدين.
( ٤ ) وتنديدا وإنذارا لهم، فإن من لم يؤمن بالله ورسوله ويثق بهما ويكون طائعا سميعا لكل ما يأمرانه به يستحق ما أعده الله للكافرين من النار.
( ٥ ) وتأميلا لهم مع ذلك ليرعووا ويثوبوا إلى رشدهم، فإن الله هو مالك السماوات والأرض وهو متصف بالغفران والرحمة يغفر لمن اقتضت حكمته المغفرة له، ويعذب من اقتضت حكمته عذابه.
وقد روى المفسرون أن الآيات نزلت في صدد أعراب بني غفار ومزينة وجهينة وأشجع وأسلم، الذين كانوا نازلين حول المدينة واستنفرهم النبي ليخرجوا معه إلى زيارة الكعبة حذرا من قريش أن يعرضوا له بحرب، أو يصدوه عن البيت فتثاقلوا وتخلفوا عن النفرة معه١.
والرواية محتملة جدا وتكون الآيات على ضوئها متصلة بسياق آيات السورة وموضوعها الرئيسي، ومحتوية على صورة من صور أحداث سفرة الحديبية من جهة وصورة من صور الأعراب ومواقفهم من جهة، وصورة لما كان يظنه الأعراب من مصير السفرة وهلاك النبي صلى الله عليه وسلم والذين خرجوا معه من جهة، وكان يشارك الأعراب في الصورة الأخيرة المشركون والمنافقون أيضا على ما استلهمناه قبل من الآية ( ٦ ) وسين المستقبل في حكاية أقوال المتخلفين دليل على أن الآيات قد نزلت قبل مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم لهم، وقرينة على صحة رواية نزولها في طريق عودة النبي صلى الله عليه وسلم من الحديبية إلى المدينة.
وقد يفيد هذا أن الآيات قد استهدفت ما استهدفته الآيات السابقة من تثبيت وتطمين المسلمين وإيذان الذين ثقل عليهم شروط الصلح بخاصة بما كان يقدره لهم الناس من الهلاك في السفرة على سبيل إبراز ما كان من توفيق الله فيها من فرض شخصيتهم ومدافعة أعدائهم لهم بالهدنة وعودتهم سالمين معافين.
وليس في الرواية ما يفيد أن الأعراب المتخلفين كانوا مسلمين أو غير مسلمين، بل قد تفيد أنهم غير مسلمين ؛ لأنها تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن ينفروا معه حتى تعلم قريش أنه جاء زائرا بدليل اشتراك غير مسلمين معه في الزيارة٢ غير أن حكاية طلب استغفار الأعراب من النبي صلى الله عليه وسلم في الآية دليل على كونهم مسلمين.
فضلا عن ما في التأميل في غفران الله ورحمته من قرينة. وفي آية قريبة أخرى دليل آخر أيضا على ما سوف يأتي شرحه، وفي روايات السيرة ما يفيد أن جماعات من مزينة وأشجع وفدوا على النبي صلى الله عليه وسلم وأسلموا في السنة الهجرية الخامسة، وأن جماعات من مزينة وأشجع وأسلم وغفار كانوا في عداد الجيش الذي زحف النبي صلى الله عليه وسلم به على مكة في السنة الهجرية الثامنة٣ حيث يفيد هذا أن منهم من كان مسلما قبل سفرة الحديبية بمدة ما، وكل ما يمكن أن يكون محتملا والحالة هذه أن إسلامهم لم يكن قد رسخ بعد، وهو ما عبرت عنه آيات سورة الحجرات ( ١٤ ـ ١٧ ) وما تفيده من اتساع حلم الله ورسوله لهم على ما شرحناه في سياق تفسير هذه السورة.
﴿ سيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ١ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ( ١١ ) بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا٢ ( ١٢ ) وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا ( ١٣ )وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ( ١٤ ) ﴾.
تعليق على الآية
﴿ سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا ﴾
والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من صور وتلقين

عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت :

( ١ ) حكاية لما سوف يقوله الأعراب المتخلفون للنبي صلى الله عليه وسلم من الاعتذار بأهلهم وأموالهم التي شغلتهم وجعلتهم يتخلفون. وطلبهم منه أن يستغفر لهم.
( ٢ ) وتكذيبا لهم بتقرير أنهم يقولون غير الحقيقة التي يعلمونها في قلوبهم مع التنديد بهم وإيذانهم بأن الله خبير بأعمالهم إن أظهروها أو أخفوها، وبأنه هو وحده القادر على نفعهم وضرهم، دون أن يكون لأحد قدرة على منعه من ذلك.
( ٣ ) وفضحا لحقيقة أمرهم، وبيان الباعث الصحيح على تخلفهم وهو ظنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين الذين خرجوا معه لن ينجوا من سيوف أعدائهم، ولن يعودوا إلى أهلهم وهو ظن السوء الذي زين في قلوبهم فاستوجبوا لأنفسهم الهلاك، وكانوا به من الفاسدين.
( ٤ ) وتنديدا وإنذارا لهم، فإن من لم يؤمن بالله ورسوله ويثق بهما ويكون طائعا سميعا لكل ما يأمرانه به يستحق ما أعده الله للكافرين من النار.
( ٥ ) وتأميلا لهم مع ذلك ليرعووا ويثوبوا إلى رشدهم، فإن الله هو مالك السماوات والأرض وهو متصف بالغفران والرحمة يغفر لمن اقتضت حكمته المغفرة له، ويعذب من اقتضت حكمته عذابه.
وقد روى المفسرون أن الآيات نزلت في صدد أعراب بني غفار ومزينة وجهينة وأشجع وأسلم، الذين كانوا نازلين حول المدينة واستنفرهم النبي ليخرجوا معه إلى زيارة الكعبة حذرا من قريش أن يعرضوا له بحرب، أو يصدوه عن البيت فتثاقلوا وتخلفوا عن النفرة معه١.
والرواية محتملة جدا وتكون الآيات على ضوئها متصلة بسياق آيات السورة وموضوعها الرئيسي، ومحتوية على صورة من صور أحداث سفرة الحديبية من جهة وصورة من صور الأعراب ومواقفهم من جهة، وصورة لما كان يظنه الأعراب من مصير السفرة وهلاك النبي صلى الله عليه وسلم والذين خرجوا معه من جهة، وكان يشارك الأعراب في الصورة الأخيرة المشركون والمنافقون أيضا على ما استلهمناه قبل من الآية ( ٦ ) وسين المستقبل في حكاية أقوال المتخلفين دليل على أن الآيات قد نزلت قبل مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم لهم، وقرينة على صحة رواية نزولها في طريق عودة النبي صلى الله عليه وسلم من الحديبية إلى المدينة.
وقد يفيد هذا أن الآيات قد استهدفت ما استهدفته الآيات السابقة من تثبيت وتطمين المسلمين وإيذان الذين ثقل عليهم شروط الصلح بخاصة بما كان يقدره لهم الناس من الهلاك في السفرة على سبيل إبراز ما كان من توفيق الله فيها من فرض شخصيتهم ومدافعة أعدائهم لهم بالهدنة وعودتهم سالمين معافين.
وليس في الرواية ما يفيد أن الأعراب المتخلفين كانوا مسلمين أو غير مسلمين، بل قد تفيد أنهم غير مسلمين ؛ لأنها تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن ينفروا معه حتى تعلم قريش أنه جاء زائرا بدليل اشتراك غير مسلمين معه في الزيارة٢ غير أن حكاية طلب استغفار الأعراب من النبي صلى الله عليه وسلم في الآية دليل على كونهم مسلمين.
فضلا عن ما في التأميل في غفران الله ورحمته من قرينة. وفي آية قريبة أخرى دليل آخر أيضا على ما سوف يأتي شرحه، وفي روايات السيرة ما يفيد أن جماعات من مزينة وأشجع وفدوا على النبي صلى الله عليه وسلم وأسلموا في السنة الهجرية الخامسة، وأن جماعات من مزينة وأشجع وأسلم وغفار كانوا في عداد الجيش الذي زحف النبي صلى الله عليه وسلم به على مكة في السنة الهجرية الثامنة٣ حيث يفيد هذا أن منهم من كان مسلما قبل سفرة الحديبية بمدة ما، وكل ما يمكن أن يكون محتملا والحالة هذه أن إسلامهم لم يكن قد رسخ بعد، وهو ما عبرت عنه آيات سورة الحجرات ( ١٤ ـ ١٧ ) وما تفيده من اتساع حلم الله ورسوله لهم على ما شرحناه في سياق تفسير هذه السورة.
﴿ سيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ١ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ( ١١ ) بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا٢ ( ١٢ ) وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا ( ١٣ )وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ( ١٤ ) ﴾.
تعليق على الآية
﴿ سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا ﴾
والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من صور وتلقين

عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت :

( ١ ) حكاية لما سوف يقوله الأعراب المتخلفون للنبي صلى الله عليه وسلم من الاعتذار بأهلهم وأموالهم التي شغلتهم وجعلتهم يتخلفون. وطلبهم منه أن يستغفر لهم.
( ٢ ) وتكذيبا لهم بتقرير أنهم يقولون غير الحقيقة التي يعلمونها في قلوبهم مع التنديد بهم وإيذانهم بأن الله خبير بأعمالهم إن أظهروها أو أخفوها، وبأنه هو وحده القادر على نفعهم وضرهم، دون أن يكون لأحد قدرة على منعه من ذلك.
( ٣ ) وفضحا لحقيقة أمرهم، وبيان الباعث الصحيح على تخلفهم وهو ظنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين الذين خرجوا معه لن ينجوا من سيوف أعدائهم، ولن يعودوا إلى أهلهم وهو ظن السوء الذي زين في قلوبهم فاستوجبوا لأنفسهم الهلاك، وكانوا به من الفاسدين.
( ٤ ) وتنديدا وإنذارا لهم، فإن من لم يؤمن بالله ورسوله ويثق بهما ويكون طائعا سميعا لكل ما يأمرانه به يستحق ما أعده الله للكافرين من النار.
( ٥ ) وتأميلا لهم مع ذلك ليرعووا ويثوبوا إلى رشدهم، فإن الله هو مالك السماوات والأرض وهو متصف بالغفران والرحمة يغفر لمن اقتضت حكمته المغفرة له، ويعذب من اقتضت حكمته عذابه.
وقد روى المفسرون أن الآيات نزلت في صدد أعراب بني غفار ومزينة وجهينة وأشجع وأسلم، الذين كانوا نازلين حول المدينة واستنفرهم النبي ليخرجوا معه إلى زيارة الكعبة حذرا من قريش أن يعرضوا له بحرب، أو يصدوه عن البيت فتثاقلوا وتخلفوا عن النفرة معه١.
والرواية محتملة جدا وتكون الآيات على ضوئها متصلة بسياق آيات السورة وموضوعها الرئيسي، ومحتوية على صورة من صور أحداث سفرة الحديبية من جهة وصورة من صور الأعراب ومواقفهم من جهة، وصورة لما كان يظنه الأعراب من مصير السفرة وهلاك النبي صلى الله عليه وسلم والذين خرجوا معه من جهة، وكان يشارك الأعراب في الصورة الأخيرة المشركون والمنافقون أيضا على ما استلهمناه قبل من الآية ( ٦ ) وسين المستقبل في حكاية أقوال المتخلفين دليل على أن الآيات قد نزلت قبل مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم لهم، وقرينة على صحة رواية نزولها في طريق عودة النبي صلى الله عليه وسلم من الحديبية إلى المدينة.
وقد يفيد هذا أن الآيات قد استهدفت ما استهدفته الآيات السابقة من تثبيت وتطمين المسلمين وإيذان الذين ثقل عليهم شروط الصلح بخاصة بما كان يقدره لهم الناس من الهلاك في السفرة على سبيل إبراز ما كان من توفيق الله فيها من فرض شخصيتهم ومدافعة أعدائهم لهم بالهدنة وعودتهم سالمين معافين.
وليس في الرواية ما يفيد أن الأعراب المتخلفين كانوا مسلمين أو غير مسلمين، بل قد تفيد أنهم غير مسلمين ؛ لأنها تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن ينفروا معه حتى تعلم قريش أنه جاء زائرا بدليل اشتراك غير مسلمين معه في الزيارة٢ غير أن حكاية طلب استغفار الأعراب من النبي صلى الله عليه وسلم في الآية دليل على كونهم مسلمين.
فضلا عن ما في التأميل في غفران الله ورحمته من قرينة. وفي آية قريبة أخرى دليل آخر أيضا على ما سوف يأتي شرحه، وفي روايات السيرة ما يفيد أن جماعات من مزينة وأشجع وفدوا على النبي صلى الله عليه وسلم وأسلموا في السنة الهجرية الخامسة، وأن جماعات من مزينة وأشجع وأسلم وغفار كانوا في عداد الجيش الذي زحف النبي صلى الله عليه وسلم به على مكة في السنة الهجرية الثامنة٣ حيث يفيد هذا أن منهم من كان مسلما قبل سفرة الحديبية بمدة ما، وكل ما يمكن أن يكون محتملا والحالة هذه أن إسلامهم لم يكن قد رسخ بعد، وهو ما عبرت عنه آيات سورة الحجرات ( ١٤ ـ ١٧ ) وما تفيده من اتساع حلم الله ورسوله لهم على ما شرحناه في سياق تفسير هذه السورة.
﴿ سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا ( ١٥ ) قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( ١٦ ) ﴾. [ ١٥-١٦ ]
تعليق على الآية
﴿ سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله ﴾.
والآية التالية لها وما فيها من صور وتلقين
عبارة الآيتين اللغوية واضحة، وسين المستقبل فيهما قرينة على أن الأقوال التي حكيت في الأولى عن المتخلفين والتي أمر النبي بأن يقولها لهم في الثانية سابقة على المواجهة. ومن قبيل ما سوف يكون حين المواجهة. وتكون الآيتان والحالة هذه تتمة أو استمرارا للسياق السابق. وقد نزلتا معا في أثناء طريق عودة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين إلى المدينة من الحديبية.
وفي الآية الأولى صورة من صور الأعراب في مطامعهم وتناقضهم حيث يتخلفون حين الخطر عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين ويعتذرون بالأعذار الكاذبة، ثم يطلبون منهم السماح لهم باتباعهم في الرحلات التي تكون الغنائم والسلامة فيها مضمونتين، فإذا منعوا من ذلك سخطوا واتهموا مانعيهم بالحسد. وفي هذا ما فيه من قلة الشعور وحسن الإدراك.
والمتبادر أن المتخلفين المذكورين في هذه الآيات هم نفس المتخلفين المذكورين في الآيات السابقة أو منهم، ولم يرو المفسرون روايات خاصة في صدد هذه الآيات ؛ حيث يؤيد هذا ما قلناه من وحدة السياق وظروف النزول. والله أعلم.
وفي الآية الثانية إيذان رباني بعدم رضاء الله عن هذه الحالة، وإيجاب عدم السماح لهم إذا انطلق المسلمون إلى رحلة مضمونة النجاح والغنائم والسلامة كعقوبة لهم، ثم إتاحة فرصة اختبارية لهم ؛ حيث يؤذنون قبل ذلك بأنهم سيدعون إلى قتال قوم أشداء البأس من أعداء المسلمين. وحينئذ ينكشف أمرهم، فإن أطاعوا استحقوا أجر الله العظيم، وإن تولوا كما تولوا من قبل وتخلفوا حق عليهم عذاب الله الأليم.
ولقد قيل١ إن جملتي ﴿ يريدون أن يبدلوا كلام الله ﴾ و ﴿ كذلكم قال الله من قبل ﴾ تعطفان على آيات وردت في سورة التوبة في حق المتخلفين وهي﴿ فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ٨١ فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ٨٢ فَإِن رَّجَعَكَ اللّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ ٨٣ ﴾ وقيل٢ إن الله أمر نبيه بأن لا يسمح لهم بالذهاب معه إلى رحلة فيها مغانم، وأن لا تكون مثل هذه الرحلة إلا للذين شهدوا الحديبية.
والقول الأول بعيد ؛ لأن آيات التوبة نزلت في ظروف غزوة تبوك في السنة الهجرية التاسعة على ما هو متفق عليه. وقد فنده غير واحد من المفسرين بناء على ذلك٣ والقول الثاني هو الأوجه. ويكون ما جاء في الجملتين إما أنه نزل قرآنا في سورة الفتح أو غيرها في مناسبة ما، ثم نسخ ورفع لحكمة ربانية، وإما أنه إلهام رباني ووحي غير قرآني، ثم أيده القرآن في الجملتين، وهذا مما تكرر على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة.
ولقد قال المفسرون عزوا إلى بعض التابعين : إن المغانم المذكورة في الآية الأولى هي مغانم خيبر، وإن الله قد وعد بها الذين شهدوا الحديبية خاصة عوضا عن غنائم أهل مكة إذ انصرفوا عنهم على صلح ولم يصيبوا منهم شيئا. وإن الله قد أمر نبيه أن لا يسير معه إلى خيبر غيرهم٤.
والزحف على خيبر قد وقع بعد العودة من الحديبية بشهرين في رواية، وبخمسة أشهر في رواية أخرى. ولم يذكر كتاب السيرة القدماء أن شهودها اقتصروا على من شهد الحديبية٥ حتى ولم يذكر ذلك المفسرون الذين رووا قصة وقعة خيبر٦ هذا إلى ما هو من أن أسلوب الآيتين اللتين نحن في صددهما عام وفي صدد حكاية ما كانت عليه حالة الأعراب من رغبة الابتعاد حين الخطر ورغبة الإقبال حين تكون المغانم والسلامة مضمونة. ثم في صدد إتاحة فرصة لهم بإثبات صدق إيمانهم في موقف ليس فيه غنيمة، وإنما فيه خطر على ما شرحناه قبل.
ولذلك فإنه يخطر بالبال أن تكون رواية تأويل المغانم بمغانم خيبر هي من قبيل التطبيق ؛ لأنه لم يكن في زحف خيبر جماعة من هؤلاء المتخلفين. والله أعلم.
ولقد تعددت روايات المفسرين المعزوة إلى ابن عباس والضحاك وقتادة وسعيد ابن جبير في المقصود بجملة ﴿ قوم أولى بأس شديد ﴾ منها أنهم هوازن وثقيف، ومنها أنهم بنو حنيفة قوم سليمة، ومنها أنهم الروم والفرس، ومنها أن الجملة مطلقة لم تعن قوما بأعيانهم٧، ونرى هذا هو الأوجه والأقوال الأولى من قبيل التطبيق والله أعلم.
والآيتان كالآيات السابقة لا تخلوان هما الأخريان مع خصوصيتهما الزمنية والموضوعية من صورة يتكرر ظهورها من فئات من الناس في كل ظرف ؛ حيث يبتعدون عن الخطر، ويتوارون وقت الشدة والنضال ويعتذرون بالأعذار الكاذبة، ثم لا يخجلون من المسارعة حين الأمن والسلامة إلى المطالبة بالغنم دون الغرم.
ولا تخلوان بالتبعية من تلقين جليل مستمر المدى بتقبيح هذه الصورة من جهة وبجعل إخلاص هذه الفئات وصدق دعواها منوطين بامتحان قوي يتحملون فيه الجهد والمغرم حتى يصح لهم أن يلتحقوا بزمرة الصالحين الصادقين، ويكون لهم ما لهم وعليهم ما عليهم.
هذا، ولسنا نرى في جملة ﴿ ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون ﴾ نقضا لما استنتجناه من تقريرات القرآن والسنة الثابتة، وأوردناه في مناسبات سابقة عديدة من كون القتال في الإسلام هو للدفاع ومقابلة العدوان بالمثل، وليس للإكراه على الإسلام أو قتال الكافرين بالرسالة الإسلامية عامة دون تفريق بين المسالمين والمعادين. فالقوم في الآية كفار أعداء وجب قتالهم وحين تقوم حالة الحرب بين المسلمين وأعدائهم من الكفار لا تقف إلا بانتهاء الأعداء عن مواقفهم.
وهذا يكون بالإسلام كما يكون بالصلح. وصلح الحديبية مثل قريب على ذلك ينطوي فيه كون هذا لا يقتصر على غير العرب أو على غير المشركين منهم.
١ انظر الطبري والطبرسي والبغوي والخازن وابن كثير والزمخشري لقد أوردوا القولين وبعضهم فند الأول.
٢ انظر الطبري والطبرسي والبغوي والخازن وابن كثير والزمخشري لقد أوردوا القولين وبعضهم فند الأول..
٣ المصدر نفسه.
٤ تفسير البغوي والطبري وابن كثير والخازن والطبرسي والزمخشري.
٥ انظر ابن سعد ج ٣ ص ١٥٣ ـ ١٦٣ وابن هشام ج ٣ ص ٣٧٨ ـ ٤٠٠.
٦ انظر كتب التفسير السابقة الذكر.
٧ انظر الطبري والطبرسي والبغوي والخازن وابن كثير.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٥:﴿ سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا ( ١٥ ) قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( ١٦ ) ﴾. [ ١٥-١٦ ]
تعليق على الآية
﴿ سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله ﴾.
والآية التالية لها وما فيها من صور وتلقين
عبارة الآيتين اللغوية واضحة، وسين المستقبل فيهما قرينة على أن الأقوال التي حكيت في الأولى عن المتخلفين والتي أمر النبي بأن يقولها لهم في الثانية سابقة على المواجهة. ومن قبيل ما سوف يكون حين المواجهة. وتكون الآيتان والحالة هذه تتمة أو استمرارا للسياق السابق. وقد نزلتا معا في أثناء طريق عودة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين إلى المدينة من الحديبية.
وفي الآية الأولى صورة من صور الأعراب في مطامعهم وتناقضهم حيث يتخلفون حين الخطر عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين ويعتذرون بالأعذار الكاذبة، ثم يطلبون منهم السماح لهم باتباعهم في الرحلات التي تكون الغنائم والسلامة فيها مضمونتين، فإذا منعوا من ذلك سخطوا واتهموا مانعيهم بالحسد. وفي هذا ما فيه من قلة الشعور وحسن الإدراك.
والمتبادر أن المتخلفين المذكورين في هذه الآيات هم نفس المتخلفين المذكورين في الآيات السابقة أو منهم، ولم يرو المفسرون روايات خاصة في صدد هذه الآيات ؛ حيث يؤيد هذا ما قلناه من وحدة السياق وظروف النزول. والله أعلم.
وفي الآية الثانية إيذان رباني بعدم رضاء الله عن هذه الحالة، وإيجاب عدم السماح لهم إذا انطلق المسلمون إلى رحلة مضمونة النجاح والغنائم والسلامة كعقوبة لهم، ثم إتاحة فرصة اختبارية لهم ؛ حيث يؤذنون قبل ذلك بأنهم سيدعون إلى قتال قوم أشداء البأس من أعداء المسلمين. وحينئذ ينكشف أمرهم، فإن أطاعوا استحقوا أجر الله العظيم، وإن تولوا كما تولوا من قبل وتخلفوا حق عليهم عذاب الله الأليم.
ولقد قيل١ إن جملتي ﴿ يريدون أن يبدلوا كلام الله ﴾ و ﴿ كذلكم قال الله من قبل ﴾ تعطفان على آيات وردت في سورة التوبة في حق المتخلفين وهي﴿ فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ٨١ فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ٨٢ فَإِن رَّجَعَكَ اللّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ ٨٣ ﴾ وقيل٢ إن الله أمر نبيه بأن لا يسمح لهم بالذهاب معه إلى رحلة فيها مغانم، وأن لا تكون مثل هذه الرحلة إلا للذين شهدوا الحديبية.
والقول الأول بعيد ؛ لأن آيات التوبة نزلت في ظروف غزوة تبوك في السنة الهجرية التاسعة على ما هو متفق عليه. وقد فنده غير واحد من المفسرين بناء على ذلك٣ والقول الثاني هو الأوجه. ويكون ما جاء في الجملتين إما أنه نزل قرآنا في سورة الفتح أو غيرها في مناسبة ما، ثم نسخ ورفع لحكمة ربانية، وإما أنه إلهام رباني ووحي غير قرآني، ثم أيده القرآن في الجملتين، وهذا مما تكرر على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة.
ولقد قال المفسرون عزوا إلى بعض التابعين : إن المغانم المذكورة في الآية الأولى هي مغانم خيبر، وإن الله قد وعد بها الذين شهدوا الحديبية خاصة عوضا عن غنائم أهل مكة إذ انصرفوا عنهم على صلح ولم يصيبوا منهم شيئا. وإن الله قد أمر نبيه أن لا يسير معه إلى خيبر غيرهم٤.
والزحف على خيبر قد وقع بعد العودة من الحديبية بشهرين في رواية، وبخمسة أشهر في رواية أخرى. ولم يذكر كتاب السيرة القدماء أن شهودها اقتصروا على من شهد الحديبية٥ حتى ولم يذكر ذلك المفسرون الذين رووا قصة وقعة خيبر٦ هذا إلى ما هو من أن أسلوب الآيتين اللتين نحن في صددهما عام وفي صدد حكاية ما كانت عليه حالة الأعراب من رغبة الابتعاد حين الخطر ورغبة الإقبال حين تكون المغانم والسلامة مضمونة. ثم في صدد إتاحة فرصة لهم بإثبات صدق إيمانهم في موقف ليس فيه غنيمة، وإنما فيه خطر على ما شرحناه قبل.
ولذلك فإنه يخطر بالبال أن تكون رواية تأويل المغانم بمغانم خيبر هي من قبيل التطبيق ؛ لأنه لم يكن في زحف خيبر جماعة من هؤلاء المتخلفين. والله أعلم.
ولقد تعددت روايات المفسرين المعزوة إلى ابن عباس والضحاك وقتادة وسعيد ابن جبير في المقصود بجملة ﴿ قوم أولى بأس شديد ﴾ منها أنهم هوازن وثقيف، ومنها أنهم بنو حنيفة قوم سليمة، ومنها أنهم الروم والفرس، ومنها أن الجملة مطلقة لم تعن قوما بأعيانهم٧، ونرى هذا هو الأوجه والأقوال الأولى من قبيل التطبيق والله أعلم.
والآيتان كالآيات السابقة لا تخلوان هما الأخريان مع خصوصيتهما الزمنية والموضوعية من صورة يتكرر ظهورها من فئات من الناس في كل ظرف ؛ حيث يبتعدون عن الخطر، ويتوارون وقت الشدة والنضال ويعتذرون بالأعذار الكاذبة، ثم لا يخجلون من المسارعة حين الأمن والسلامة إلى المطالبة بالغنم دون الغرم.
ولا تخلوان بالتبعية من تلقين جليل مستمر المدى بتقبيح هذه الصورة من جهة وبجعل إخلاص هذه الفئات وصدق دعواها منوطين بامتحان قوي يتحملون فيه الجهد والمغرم حتى يصح لهم أن يلتحقوا بزمرة الصالحين الصادقين، ويكون لهم ما لهم وعليهم ما عليهم.
هذا، ولسنا نرى في جملة ﴿ ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون ﴾ نقضا لما استنتجناه من تقريرات القرآن والسنة الثابتة، وأوردناه في مناسبات سابقة عديدة من كون القتال في الإسلام هو للدفاع ومقابلة العدوان بالمثل، وليس للإكراه على الإسلام أو قتال الكافرين بالرسالة الإسلامية عامة دون تفريق بين المسالمين والمعادين. فالقوم في الآية كفار أعداء وجب قتالهم وحين تقوم حالة الحرب بين المسلمين وأعدائهم من الكفار لا تقف إلا بانتهاء الأعداء عن مواقفهم.
وهذا يكون بالإسلام كما يكون بالصلح. وصلح الحديبية مثل قريب على ذلك ينطوي فيه كون هذا لا يقتصر على غير العرب أو على غير المشركين منهم.
١ انظر الطبري والطبرسي والبغوي والخازن وابن كثير والزمخشري لقد أوردوا القولين وبعضهم فند الأول.
٢ انظر الطبري والطبرسي والبغوي والخازن وابن كثير والزمخشري لقد أوردوا القولين وبعضهم فند الأول..
٣ المصدر نفسه.
٤ تفسير البغوي والطبري وابن كثير والخازن والطبرسي والزمخشري.
٥ انظر ابن سعد ج ٣ ص ١٥٣ ـ ١٦٣ وابن هشام ج ٣ ص ٣٧٨ ـ ٤٠٠.
٦ انظر كتب التفسير السابقة الذكر.
٧ انظر الطبري والطبرسي والبغوي والخازن وابن كثير.

﴿ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا ( ١٧ ) ﴾.
لم يرو المفسرون مناسبة خاصة للآية، والمتبادر أنها جاءت استطرادية استدراكية. وهي بذلك متصلة بالسياق السابق وجزء منه، فقد أنذرت الآيات السابقة الذين لا يثبتون إخلاصهم في طاعة الله ورسوله بالجهاد في سبيل الله جهادا مجردا من الطمع فجاءت هذه الآية تؤذن بعذر المعذورين وتعفيهم من الواجب الذي لا يقدرون على القيام به بسبب أعذارهم الجسمانية.
والمبدأ الذي احتوته الآية متمش مع الحق والعدل والحكمة. وهو من المبادئ العامة التي تكرر تقريرها بأساليب متنوعة كما لا يخفى.
والفقرتان الأخيرتان من الآية أولا، وإطلاق العبارة فيها ثانيا، مما يلهم أن الآية مع انطوائها على قصد توكيد الحث والإنذار اللذين وجها إلى المتخلفين في الآيات السابقة، فقد قصد بها أن تكون عامة التوجيه والتلقين شاملة لجميع المسلمين في مختلف الظروف أيضا كما هو المتبادر.
﴿ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ( ١٨ ) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ( ١٩ ) ﴾.
تعليق على الآية
﴿ لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة ﴾
والآية التالية لها وما فيها من صور وتلقين.
عبارة الآيتين واضحة، وأسلوبها أسلوب تبشيري وتنويهي كما هو ظاهر للذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم في سفرة الحديبية تحت الشجرة مما فصلت صورته الروايات التي أوردنا خلاصتها قبل. وهما منطويتان كذلك على القصد التطميني والتبشيري الذي استهدفته آيات السورة على ما نبهنا عليه قبل. والمتبادر أنهما استمرار للسياق وجزء منها ونزلتا معه.
والفقرات الأولى من الآية الأولى تنطوي في حد ذاتها على الإشارة إلى مشهد من مشاهد سفرة الحديبية، وتلهم روعة المشهد وخطورة الموقف الذي كان يكتف النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين على ما شرحناه في سياق الآية ( ١٠ ) شرحا يغني عن التكرار.
وتسمى هذه البيعة ببيعة الرضوان أيضا١ والمتبادر أنها تسمية منبثقة من جملة ﴿ لقد رضي الله عن المؤمنين ﴾ في الآية الأولى.
وقد روى ابن كثير وغيره بعض الأحاديث في فضل الذين بايعوا تحت الشجرة. منها حديث عن جابر قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم حينما بايعه الناس تحت الشجرة : أنتم خير أهل الأرض اليوم ) وحديث آخر عن أم مبشر قالت :( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عند حفصة : لا يدخل النار إن شاء الله تعالى من أصحاب الشجرة التي بايعوا تحتها أحد ) ومنها حديث عن إياس ابن سلمة عن أبيه قال : بينما نحن قائلون إذ نادى منادي رسول الله أيها الناس : البيعة البيعة نزل روح القدس، فثُرنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو تحت الشجرة سمرة فبايعناه ).
ومن المفسرين من قال : إن الفتح القريب المذكور في الآية الثانية يعني صلح الحديبية، وإن المغانم التي تبشر بها الآية المسلمين هي ما سوف ييسره الله للمسلمين من ذلك بصورة عامة. ومنهم من قال : إن الفتح هو فتح خيبر والمغانم مغانمها، وكل من القولين معزو إلى بعض علماء التابعين٢.
والآيتان كما قلنا قبل جزء من السياق السابق. وقد نزل السياق أثناء عودة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين من الحديبية إلى المدينة ووقعة خيبر كانت بعد ذلك بوقت ما ؛ حيث يتبادر من ذلك أن القول الأول هو الأوجه، وأن القول الثاني قد كان من وحي ما جاء مصداقا عاجلا للبشرى القرآنية بفتح خيبر ومغانمها. ويصح أن يعد ذلك والحالة هذه من المعجزات القرآنية التي سبق الإخبار عنها وتحققت بعد قليل من الإخبار.
استطراد إلى ذكر وقعة خيبر واستيلاء المسلمين
عليها وعلى قرى اليهود الأخرى في طريق الشام٣
ورد على مزاعم المستشرقين بأنها كانت مكافأة
للذين شهدوا الحديبية ولم يكن لها مبرر.
ووقعة خيبر ليست منحصرة في خيبر، بل تجاوزتها إلى قرى أخرى كانت لليهود بعد خيبر على طريق الشام. وكل ما في الأمر أنها كانت عاصمة لليهود وأهم مراكزهم بعد إجلائهم عن المدينة. وليس في القرآن إشارة أخرى إلى هذه الوقعة، فرأينا أن نستطرد إلى إيراد خبرها في هذه المناسبة.
ولقد كان لهذه الوقعة أسباب مبررة كما هو شأن وقائع التنكيل السابقة باليهود، بل وكل الوقائع الجهادية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهذه الأسباب هي المواقف العدائية والعدوانية التي وقفها اليهود دون أن يعتبروا بما كان من حوادث سابقة عادت عليهم بالوبال والنكال، فقد استقر بعض زعماء بني النضير وأتباعهم في خيبر بعد أن أجلاهم النبي صلى الله عليهم وسلم عن المدينة، وتزعموا يهود المنطقة، وساقوهم إلى العداء للمسلمين، وهم الذين ذهبوا وحرضوا قريشا وقبائل العرب من أسد وغطفان وغيرها على التحزب والزحف على المدينة لاستئصال شأفة الإسلام، وحرضوا زعماء بني قريظة على الغدر والنكث مما نتج عنه وقعة الأحزاب، ثم وقعة بني قريظة على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأحزاب. وقد استمروا على عدائهم بعد ذلك، وظلوا يحرضون قبائل العرب ويغزونهم بغزو المدينة. ومما لا شك فيه أن هذه المواقف جعلت النبي صلى الله عليه وسلم يفكر في إتمام عمليات التنكيل باليهود في هذه المنطقة غير أنه على ما يظهر لم يجد الخطر عاجلا فاكتفى بإرسال سرايا بين المسلمين اغتالت زعيمهم أبا رافع ابن أبي الحقيق ثم أسير ابن زارم الذي تزعم اليهود بعده. وأجل إتمام العمل إلى ما بعد عودته من زيارة الكعبة التي اعتزم القيام بها، والتي نتج عنها صلح الحديبية، والراجح الذي تلهمه روح الآيات وتؤيده الوقائع أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد من الحديبية، وقد بيت النية على إتمام تلك العمليات وقد أمن من مباغتة قريش. فما إن وصل من الحديبية إلى المدينة حتى أخذ يستعد للزحف على خيبر، ثم زحف في المحرم من السنة الهجرية السابقة في رواية وفي جمادى الأولى في رواية. ولقد روي أن قبائل أسد وغطفان٤ كانت تتجمع لتهاجم المدينة في غياب النبي صلى الله عليه وسلم عنها أو لتهاجم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في طريقهم إلى الحديبية أو عودتهم منها ولكن انحسام الأمر بين النبي وقريش جعلهم ينكصون، فلعل هذا كان أثرا من كيد يهود خيبر، ومما جعل النبي صلى الله عليه وسلم يعجل بالزحف عليهم.
ولقد كانت خيبر كثيفة السكان كثيرة الحصون قوية الاستعداد، فلقي المسلمون جهدا ومشقة، واستمرت مجاهدتهم مع اليهود نحو شهر حتى تمكنوا من الانتصار عليهم والاستيلاء على حصونهم، وقد قتلوا كثيرا من مقاتليهم، واستولوا على مقادير عظيمة من أموالهم وأسلحتهم وحقولهم وبساتينهم ونسائهم وأطفالهم فكانت غنيمة عظيمة قسمها النبي صلى الله عليه وسلم على المجاهدين بعد أن فرز خمسها، وقد أبقى النبي صلى الله عليه وسلم من لم ير في بقائه خطرا من الذين استسلموا منهم وولاهم رعاية البساتين والحقول مقابل نصف الغلة مع الاحتفاظ بحق إخراجهم حين يشاء. ولقد أوصى حين موته بإخراجهم فأخرجهم عمر ابن الخطاب رضي الله عنه تنفيذا للوصية حين سنحت فرصة كان فيها منهم بغي وعدوان٥، وقد أجلى النبي صلى الله عليه وسلم منهم من رأى في بقائه خطرا، ثم انصرف بعد خيبر إلى وادي القرى وكان فيه حصون عديدة لليهود، فلقي فيها بعض المقاومة، ثم كتب الله النصر لنبيه فقتل من قتل وأجلى من أجلى واستولى على أموالهم وسلاحهم واتفق مع من لم يكن منه خطر على البقاء على رعاية البساتين والحقول على النصف كما فعل في خيبر. ودب الرعب في قلوب اليهود في فدك، فأرسلوا رسلهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فصالحهم على نصف بساتينهم وحقولهم فغدت فيئا ؛ لأن المسلمين لم يزحفوا عليها ويحاربوها، وفعل مثلهم أهل الجرباء وتيما أيضا٦.
وفي أثناء غزوة خيبر عاد المهاجرون الأولون من الحبشة وعلى رأسهم جعفر ابن أبي طالب رضي الله عنهم وانضموا إلى النبي والمسلمين في خيبر، فقسم النبي صلى الله عليه وسلم لهم من الغنائم، وقد روى ابن هشام٧ أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل عمرو ابن أمية الضمري إلى الحبشة بعد صلح الحديبية فحملهم على سفينتين، ولا ريب أن هذا كان من بركات هذا الصلح ؛ حيث شعر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون بالقوة والعزة، فلم يعد ما يسوغ بقاء المهاجرين الأولين رضي الله عنهم بعيدين في أرض الغربة. وهذا يقال بطبيعة الحال بالنسبة لما تم للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين من نصر وأحرزوه من غنائم في خيبر ووادي القرى وفدك، وما كان من خضد شوكة اليهود نهائيا في أرض الحجاز بعد تطهير مدينة الرسول منهم.
ومما روي في سياق وقعة خيبر أن المسلمين أخذوا يقعون على ما وزعه رسول الله صلى الله عليه وسلم من سبي نساء اليهود، فأمر مناديا ينادي من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يقعن على سبية حتى يستبرئها، وأنه كانت بين السبي صفية بنت حيي ابن أخطب زعيم اليهود وزوجة كنانة ابن أبي الحقيق، فاصطفاها رسول الله لنفسه وأعتقها وتزوج بها٨ وإن امرأة سلام ابن مشكم الذي قتل زوجها أهدت النبي شاة مصلية مسمومة، فلما قضم من ذراعها لم يسغها، وكان معه بشر ابن البراء فأكل منها فمات فاستدعى المرأة فاعترفت، وقالت : لقد بلغت من قومي ما بلغت. فقلت : إن كان ملكا استرحنا منه، وإن كان نبيا فسيخبره الله. وإنه تجاوز عنها. وإن نسوة غفار جئن إلى رسول الله فقلن له : أردنا أن نخرج معك فنداوي الجرحى ونعين المسلمين بما استطعنا، فأذن لهن ورضخ لهن من الغنائم، وأن وفدا من دوس وأشعر من اليمن، وفيهم أبو موسى الأشعري الصحابي المشهور وفد على النبي للإسلام، وهو في خيبر، فأسلموا ورضخ لهم من الغنائم، ومما رواه الشيخان عن سهل ابن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر : لأعطين هذه الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله قال : فبات الناس يدركون ليلتهم أيهم يعطاها ؟ فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله كلهم يرجون أن يعطاها. فقال : أين علي ابن أبي طالب فقالوا : هو يا رسول الله يشتكي عينيه. قال : فأرسلوا إليه، فأتى به فبصق رسول الله في عينيه ودعا له فبرأ، حتى كأنه لم يكن به وجع، فأعطاه الراية.
فقال علي : يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا. فقال : انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله، فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم ) ٩ وفي كل ما تقدم صور فيها تعليم وتلقين وتشريع كما هو المتبادر.
ولقد كان ما أورده بعض المفسرين في سياق الآيات التي نحن في صددها من أن الله قد كافأ أهل الحديبية بغنائم خيبر، وعوضهم بها عما لقوه من جهد ومنوا به من خيبة أمل في الزيارة وسيلة لجعل بعض الأغيار يقولون : إن زحف النبي صلى الله عليه وسلم على خيبر لم يكن له أي سبب مبرر إلا رغبة مكافأة أهل الحديبية وتطييب خاطرهم. مع أنه ليس هناك كما قلنا قبل رواية تذكر أن الذين خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر كانوا هم أهل الحديبية فقط. ومع أن ما أوردناه من بيانات يدحض هذا الزعم أقوى دحض ويبرز الأسباب المبررة القوية للزحف. ونقول من باب المساجلة : إن ما أورده كتاب السيرة والمؤرخون القدماء قد أورد على سجيته ولم يكن هناك حينئذ قضية مثل القضية التي يثيرها الأغيار اليوم حتى يكون اختراعا بقصد التبرير والدفاع، وفي ما أورده الرواة من الأسباب القوية المبررة للزحف رد حاسم أيضا. وما قاله بعد المفسرين لا يصح أن يغطي على ما أورد من الأسباب المبررة القوية، أو يتخذ بديلا أو تكأة. وليس ما قالوه بعد واردا في كتب الحديث الصحيح ولا مستندا إلى أسناد وثيقة.
١ انظر تفسير الزمخشري وابن كثير.
٢ انظر البغوي والخازن وابن كثير والطبرسي.
٣ هذه النبذة ملخصة عن تفسير الطبري والطبرسي والبغوي والخازن وتاريخ الطبري ج ٢ ص ٣٠٣ ـ ٣٠٦ وابن سعد ج ٣ ص ١٥٢ ـ ١٦٤ وابن هشام ج ٣ ص ٣٨٨ ـ ٤٠٠.
٤ انظر تفسير البغوي.
٥ انظر كتاب الأموال للإمام أبي عبيد ص ٩٩ وفتوح البلدان للبلاذري ص ٢٩ ـ ٤١ و ٧٣ وتاريخ الطبري ج ٢ ص٥٣٤ وسيرة ابن هشام ج ٤ ص ٣٤٢ وما بعدها.
٦ ابن هشام وابن سعد ذكرا خبر فدك وابن سعد ذكر خبر الجرباء أما خبر تيماء فقد ذكره البلاذري ص ٤١ و ٤٢ انظر ابن سعد ج ٣ ص ١٦٦ وج ٢ ص ٥٦.
٧ ابن هشام ج ٣ ص ٤١٤.
٨ خبر صفية رواه البخاري عن أنس التاج ج ٤ ص ٣٧٩ و ٣٨٠ ومما جاء في الحديث (أن صفية وقعت في سهم دحية الكلبي فطلب النبي منه أن يتنازل له عنها وتزوجها، وجعل عتقها صادقها).
٩ التاج ج ٤ ص ٣٧٨.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٨:﴿ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ( ١٨ ) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ( ١٩ ) ﴾.
تعليق على الآية
﴿ لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة ﴾
والآية التالية لها وما فيها من صور وتلقين.
عبارة الآيتين واضحة، وأسلوبها أسلوب تبشيري وتنويهي كما هو ظاهر للذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم في سفرة الحديبية تحت الشجرة مما فصلت صورته الروايات التي أوردنا خلاصتها قبل. وهما منطويتان كذلك على القصد التطميني والتبشيري الذي استهدفته آيات السورة على ما نبهنا عليه قبل. والمتبادر أنهما استمرار للسياق وجزء منها ونزلتا معه.
والفقرات الأولى من الآية الأولى تنطوي في حد ذاتها على الإشارة إلى مشهد من مشاهد سفرة الحديبية، وتلهم روعة المشهد وخطورة الموقف الذي كان يكتف النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين على ما شرحناه في سياق الآية ( ١٠ ) شرحا يغني عن التكرار.
وتسمى هذه البيعة ببيعة الرضوان أيضا١ والمتبادر أنها تسمية منبثقة من جملة ﴿ لقد رضي الله عن المؤمنين ﴾ في الآية الأولى.
وقد روى ابن كثير وغيره بعض الأحاديث في فضل الذين بايعوا تحت الشجرة. منها حديث عن جابر قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم حينما بايعه الناس تحت الشجرة : أنتم خير أهل الأرض اليوم ) وحديث آخر عن أم مبشر قالت :( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عند حفصة : لا يدخل النار إن شاء الله تعالى من أصحاب الشجرة التي بايعوا تحتها أحد ) ومنها حديث عن إياس ابن سلمة عن أبيه قال : بينما نحن قائلون إذ نادى منادي رسول الله أيها الناس : البيعة البيعة نزل روح القدس، فثُرنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو تحت الشجرة سمرة فبايعناه ).
ومن المفسرين من قال : إن الفتح القريب المذكور في الآية الثانية يعني صلح الحديبية، وإن المغانم التي تبشر بها الآية المسلمين هي ما سوف ييسره الله للمسلمين من ذلك بصورة عامة. ومنهم من قال : إن الفتح هو فتح خيبر والمغانم مغانمها، وكل من القولين معزو إلى بعض علماء التابعين٢.
والآيتان كما قلنا قبل جزء من السياق السابق. وقد نزل السياق أثناء عودة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين من الحديبية إلى المدينة ووقعة خيبر كانت بعد ذلك بوقت ما ؛ حيث يتبادر من ذلك أن القول الأول هو الأوجه، وأن القول الثاني قد كان من وحي ما جاء مصداقا عاجلا للبشرى القرآنية بفتح خيبر ومغانمها. ويصح أن يعد ذلك والحالة هذه من المعجزات القرآنية التي سبق الإخبار عنها وتحققت بعد قليل من الإخبار.
استطراد إلى ذكر وقعة خيبر واستيلاء المسلمين
عليها وعلى قرى اليهود الأخرى في طريق الشام٣
ورد على مزاعم المستشرقين بأنها كانت مكافأة
للذين شهدوا الحديبية ولم يكن لها مبرر.
ووقعة خيبر ليست منحصرة في خيبر، بل تجاوزتها إلى قرى أخرى كانت لليهود بعد خيبر على طريق الشام. وكل ما في الأمر أنها كانت عاصمة لليهود وأهم مراكزهم بعد إجلائهم عن المدينة. وليس في القرآن إشارة أخرى إلى هذه الوقعة، فرأينا أن نستطرد إلى إيراد خبرها في هذه المناسبة.
ولقد كان لهذه الوقعة أسباب مبررة كما هو شأن وقائع التنكيل السابقة باليهود، بل وكل الوقائع الجهادية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهذه الأسباب هي المواقف العدائية والعدوانية التي وقفها اليهود دون أن يعتبروا بما كان من حوادث سابقة عادت عليهم بالوبال والنكال، فقد استقر بعض زعماء بني النضير وأتباعهم في خيبر بعد أن أجلاهم النبي صلى الله عليهم وسلم عن المدينة، وتزعموا يهود المنطقة، وساقوهم إلى العداء للمسلمين، وهم الذين ذهبوا وحرضوا قريشا وقبائل العرب من أسد وغطفان وغيرها على التحزب والزحف على المدينة لاستئصال شأفة الإسلام، وحرضوا زعماء بني قريظة على الغدر والنكث مما نتج عنه وقعة الأحزاب، ثم وقعة بني قريظة على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأحزاب. وقد استمروا على عدائهم بعد ذلك، وظلوا يحرضون قبائل العرب ويغزونهم بغزو المدينة. ومما لا شك فيه أن هذه المواقف جعلت النبي صلى الله عليه وسلم يفكر في إتمام عمليات التنكيل باليهود في هذه المنطقة غير أنه على ما يظهر لم يجد الخطر عاجلا فاكتفى بإرسال سرايا بين المسلمين اغتالت زعيمهم أبا رافع ابن أبي الحقيق ثم أسير ابن زارم الذي تزعم اليهود بعده. وأجل إتمام العمل إلى ما بعد عودته من زيارة الكعبة التي اعتزم القيام بها، والتي نتج عنها صلح الحديبية، والراجح الذي تلهمه روح الآيات وتؤيده الوقائع أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد من الحديبية، وقد بيت النية على إتمام تلك العمليات وقد أمن من مباغتة قريش. فما إن وصل من الحديبية إلى المدينة حتى أخذ يستعد للزحف على خيبر، ثم زحف في المحرم من السنة الهجرية السابقة في رواية وفي جمادى الأولى في رواية. ولقد روي أن قبائل أسد وغطفان٤ كانت تتجمع لتهاجم المدينة في غياب النبي صلى الله عليه وسلم عنها أو لتهاجم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في طريقهم إلى الحديبية أو عودتهم منها ولكن انحسام الأمر بين النبي وقريش جعلهم ينكصون، فلعل هذا كان أثرا من كيد يهود خيبر، ومما جعل النبي صلى الله عليه وسلم يعجل بالزحف عليهم.
ولقد كانت خيبر كثيفة السكان كثيرة الحصون قوية الاستعداد، فلقي المسلمون جهدا ومشقة، واستمرت مجاهدتهم مع اليهود نحو شهر حتى تمكنوا من الانتصار عليهم والاستيلاء على حصونهم، وقد قتلوا كثيرا من مقاتليهم، واستولوا على مقادير عظيمة من أموالهم وأسلحتهم وحقولهم وبساتينهم ونسائهم وأطفالهم فكانت غنيمة عظيمة قسمها النبي صلى الله عليه وسلم على المجاهدين بعد أن فرز خمسها، وقد أبقى النبي صلى الله عليه وسلم من لم ير في بقائه خطرا من الذين استسلموا منهم وولاهم رعاية البساتين والحقول مقابل نصف الغلة مع الاحتفاظ بحق إخراجهم حين يشاء. ولقد أوصى حين موته بإخراجهم فأخرجهم عمر ابن الخطاب رضي الله عنه تنفيذا للوصية حين سنحت فرصة كان فيها منهم بغي وعدوان٥، وقد أجلى النبي صلى الله عليه وسلم منهم من رأى في بقائه خطرا، ثم انصرف بعد خيبر إلى وادي القرى وكان فيه حصون عديدة لليهود، فلقي فيها بعض المقاومة، ثم كتب الله النصر لنبيه فقتل من قتل وأجلى من أجلى واستولى على أموالهم وسلاحهم واتفق مع من لم يكن منه خطر على البقاء على رعاية البساتين والحقول على النصف كما فعل في خيبر. ودب الرعب في قلوب اليهود في فدك، فأرسلوا رسلهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فصالحهم على نصف بساتينهم وحقولهم فغدت فيئا ؛ لأن المسلمين لم يزحفوا عليها ويحاربوها، وفعل مثلهم أهل الجرباء وتيما أيضا٦.
وفي أثناء غزوة خيبر عاد المهاجرون الأولون من الحبشة وعلى رأسهم جعفر ابن أبي طالب رضي الله عنهم وانضموا إلى النبي والمسلمين في خيبر، فقسم النبي صلى الله عليه وسلم لهم من الغنائم، وقد روى ابن هشام٧ أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل عمرو ابن أمية الضمري إلى الحبشة بعد صلح الحديبية فحملهم على سفينتين، ولا ريب أن هذا كان من بركات هذا الصلح ؛ حيث شعر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون بالقوة والعزة، فلم يعد ما يسوغ بقاء المهاجرين الأولين رضي الله عنهم بعيدين في أرض الغربة. وهذا يقال بطبيعة الحال بالنسبة لما تم للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين من نصر وأحرزوه من غنائم في خيبر ووادي القرى وفدك، وما كان من خضد شوكة اليهود نهائيا في أرض الحجاز بعد تطهير مدينة الرسول منهم.
ومما روي في سياق وقعة خيبر أن المسلمين أخذوا يقعون على ما وزعه رسول الله صلى الله عليه وسلم من سبي نساء اليهود، فأمر مناديا ينادي من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يقعن على سبية حتى يستبرئها، وأنه كانت بين السبي صفية بنت حيي ابن أخطب زعيم اليهود وزوجة كنانة ابن أبي الحقيق، فاصطفاها رسول الله لنفسه وأعتقها وتزوج بها٨ وإن امرأة سلام ابن مشكم الذي قتل زوجها أهدت النبي شاة مصلية مسمومة، فلما قضم من ذراعها لم يسغها، وكان معه بشر ابن البراء فأكل منها فمات فاستدعى المرأة فاعترفت، وقالت : لقد بلغت من قومي ما بلغت. فقلت : إن كان ملكا استرحنا منه، وإن كان نبيا فسيخبره الله. وإنه تجاوز عنها. وإن نسوة غفار جئن إلى رسول الله فقلن له : أردنا أن نخرج معك فنداوي الجرحى ونعين المسلمين بما استطعنا، فأذن لهن ورضخ لهن من الغنائم، وأن وفدا من دوس وأشعر من اليمن، وفيهم أبو موسى الأشعري الصحابي المشهور وفد على النبي للإسلام، وهو في خيبر، فأسلموا ورضخ لهم من الغنائم، ومما رواه الشيخان عن سهل ابن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر : لأعطين هذه الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله قال : فبات الناس يدركون ليلتهم أيهم يعطاها ؟ فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله كلهم يرجون أن يعطاها. فقال : أين علي ابن أبي طالب فقالوا : هو يا رسول الله يشتكي عينيه. قال : فأرسلوا إليه، فأتى به فبصق رسول الله في عينيه ودعا له فبرأ، حتى كأنه لم يكن به وجع، فأعطاه الراية.
فقال علي : يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا. فقال : انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله، فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم ) ٩ وفي كل ما تقدم صور فيها تعليم وتلقين وتشريع كما هو المتبادر.
ولقد كان ما أورده بعض المفسرين في سياق الآيات التي نحن في صددها من أن الله قد كافأ أهل الحديبية بغنائم خيبر، وعوضهم بها عما لقوه من جهد ومنوا به من خيبة أمل في الزيارة وسيلة لجعل بعض الأغيار يقولون : إن زحف النبي صلى الله عليه وسلم على خيبر لم يكن له أي سبب مبرر إلا رغبة مكافأة أهل الحديبية وتطييب خاطرهم. مع أنه ليس هناك كما قلنا قبل رواية تذكر أن الذين خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر كانوا هم أهل الحديبية فقط. ومع أن ما أوردناه من بيانات يدحض هذا الزعم أقوى دحض ويبرز الأسباب المبررة القوية للزحف. ونقول من باب المساجلة : إن ما أورده كتاب السيرة والمؤرخون القدماء قد أورد على سجيته ولم يكن هناك حينئذ قضية مثل القضية التي يثيرها الأغيار اليوم حتى يكون اختراعا بقصد التبرير والدفاع، وفي ما أورده الرواة من الأسباب القوية المبررة للزحف رد حاسم أيضا. وما قاله بعد المفسرين لا يصح أن يغطي على ما أورد من الأسباب المبررة القوية، أو يتخذ بديلا أو تكأة. وليس ما قالوه بعد واردا في كتب الحديث الصحيح ولا مستندا إلى أسناد وثيقة.
١ انظر تفسير الزمخشري وابن كثير.
٢ انظر البغوي والخازن وابن كثير والطبرسي.
٣ هذه النبذة ملخصة عن تفسير الطبري والطبرسي والبغوي والخازن وتاريخ الطبري ج ٢ ص ٣٠٣ ـ ٣٠٦ وابن سعد ج ٣ ص ١٥٢ ـ ١٦٤ وابن هشام ج ٣ ص ٣٨٨ ـ ٤٠٠.
٤ انظر تفسير البغوي.
٥ انظر كتاب الأموال للإمام أبي عبيد ص ٩٩ وفتوح البلدان للبلاذري ص ٢٩ ـ ٤١ و ٧٣ وتاريخ الطبري ج ٢ ص٥٣٤ وسيرة ابن هشام ج ٤ ص ٣٤٢ وما بعدها.
٦ ابن هشام وابن سعد ذكرا خبر فدك وابن سعد ذكر خبر الجرباء أما خبر تيماء فقد ذكره البلاذري ص ٤١ و ٤٢ انظر ابن سعد ج ٣ ص ١٦٦ وج ٢ ص ٥٦.
٧ ابن هشام ج ٣ ص ٤١٤.
٨ خبر صفية رواه البخاري عن أنس التاج ج ٤ ص ٣٧٩ و ٣٨٠ ومما جاء في الحديث (أن صفية وقعت في سهم دحية الكلبي فطلب النبي منه أن يتنازل له عنها وتزوجها، وجعل عتقها صادقها).
٩ التاج ج ٤ ص ٣٧٨.

﴿ وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا ( ٢٠ ) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ( ٢١ ) ﴾.
تعليق على الآية
﴿ وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه ﴾.
والآية التالية لها.
المتبادر أن الآيتين متصلتان بالآيات السابقة وبخاصة بالآيتين اللتين قبلهما مباشرة اتصال التفات وتعقيب. فالسابقتان وجهتا إلى النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل التنويه بالذين بايعوا تحت الشجرة وتبشيرهم وتطمينهم، وهاتان وجدتا إلى المبايعين أنفسهم على سبيل توكيد التبشير والتطمين. وهما على كل حال جزء من السياق واستمرار له. وقد استهدفتا ما استهدفته الآيات السابقة.
وعبارة الآيتين اللغوية واضحة. غير أن الأقوال في مدلول محتواها تعددت١ ونلخصها بما يلي :
فأولا : قيل عن المغانم الكثيرة التي ذكرت الفقرة الأولى أن الله وعد المؤمنين بها إنها مغانم خيبر، كما قيل : إنها مغانم الفتوحات التي سوف ييسرها الله للمسلمين في مختلف الظروف والأماكن. ويتبادر لنا أن القول الثاني هو أوجه وأن الفقرة هي بسبيل التبشير والتطمين بوجه عام. أما القول الأول فالذي نرجحه أنه من وحي ما تم بعد قليل من سفرة الحديبية من زحف على خيبر واكتساحها وما يسره الله للمسلمين من غنائمها.
وثانيا : قيل إن المقصود من جملة ﴿ فعجل لكم هذه ﴾ هو ما تم من صلح الحديبية كما قيل : إنه مغانم خيبر، والمتبادر أن القول الأول هو الأوجه ؛ لأن في الجملة تقريرا لواقع وإشارة إليه. ولم يكن واقعا حين نزولها إلا صلح الحديبية.
ولعل في الجملة قرينة على ذلك ؛ حيث نبه المسلمون فيها إلى أن الله عجل بحسم هذه المسألة لييسر لهم إتمام وعده.
وثالثا : قيل إن جملة ﴿ وكفّ أيدي الناس عنكم ﴾ قد عنت ما كان من منع الله الحرب بين المسلمين وقريش بصورة عامة، أو إنها عنت خيالية قريش الذين حاولوا بقيادة خالد ابن الوليد مباغتة معسكر النبي والمسلمين فعلم النبي بخبرهم وأرسل من ردهم وأسر بعضهم، ثم عفا عنهم على ما ذكرناه في خلاصة وقائع الحديبية.
كما قيل : إنها عنت ما كان من تجمع أسد وغطفان للإغارة على المدينة أثناء غياب النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين عنها وإحباط الله كيدهم بإلقاء الرعب في قلوبهم. ويتبادر لنا أن القول الأول والثاني هو الأوجه ؛ لأن الجملة تذكر المسلمين في أثناء عودتهم إلى المدينة بما كان جرى في الحديبية وظروفها.
ورابعا : قيل إن جملة ﴿ ولتكون آية للمؤمنين ﴾ تعني أن ما كان من تيسير الله لصلح الحديبية وكف أيدي الناس عن المؤمنين قد كان آية ربانية ليعتبر بها المؤمنون ويتيقنوا من أن ما كان هو بتيسير ونصر من الله. ووجاهة القول ظاهرة.
وخامسا : قيل إن جملة ﴿ وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها ﴾ تعني مكة وفتحها، كما قيل : إنها إشارة إلى ما سوف ييسر الله للمسلمين من نصر وفتح في مختلف الظروف أو فتح بلاد فارس والروم. وقيل أيضا : إنها خيبر قبل أن يزحفوا عليها.
وكل من الأقوال الثلاثة وارد لا يخلو من وجاهة وإن كنا نرجح القول الثاني من حيث كون المسلمين لم يقدروا في سفرتهم على دخول مكة فاقتضت حكمة التنزيل تطمينهم بأن الله قد أحاط لها ولسوف يقدرهم عليها. وعلى كل حال ففي الجملة تثبيت وتطمين للمسلمين من جهة وبشرى فكانت من معجزات القرآن سواء أكان المقصود منها مكة أم خيبر أو غيرهما.
١ انظر تفسيرها في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٠:﴿ وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا ( ٢٠ ) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ( ٢١ ) ﴾.
تعليق على الآية
﴿ وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه ﴾.
والآية التالية لها.
المتبادر أن الآيتين متصلتان بالآيات السابقة وبخاصة بالآيتين اللتين قبلهما مباشرة اتصال التفات وتعقيب. فالسابقتان وجهتا إلى النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل التنويه بالذين بايعوا تحت الشجرة وتبشيرهم وتطمينهم، وهاتان وجدتا إلى المبايعين أنفسهم على سبيل توكيد التبشير والتطمين. وهما على كل حال جزء من السياق واستمرار له. وقد استهدفتا ما استهدفته الآيات السابقة.
وعبارة الآيتين اللغوية واضحة. غير أن الأقوال في مدلول محتواها تعددت١ ونلخصها بما يلي :
فأولا : قيل عن المغانم الكثيرة التي ذكرت الفقرة الأولى أن الله وعد المؤمنين بها إنها مغانم خيبر، كما قيل : إنها مغانم الفتوحات التي سوف ييسرها الله للمسلمين في مختلف الظروف والأماكن. ويتبادر لنا أن القول الثاني هو أوجه وأن الفقرة هي بسبيل التبشير والتطمين بوجه عام. أما القول الأول فالذي نرجحه أنه من وحي ما تم بعد قليل من سفرة الحديبية من زحف على خيبر واكتساحها وما يسره الله للمسلمين من غنائمها.
وثانيا : قيل إن المقصود من جملة ﴿ فعجل لكم هذه ﴾ هو ما تم من صلح الحديبية كما قيل : إنه مغانم خيبر، والمتبادر أن القول الأول هو الأوجه ؛ لأن في الجملة تقريرا لواقع وإشارة إليه. ولم يكن واقعا حين نزولها إلا صلح الحديبية.
ولعل في الجملة قرينة على ذلك ؛ حيث نبه المسلمون فيها إلى أن الله عجل بحسم هذه المسألة لييسر لهم إتمام وعده.
وثالثا : قيل إن جملة ﴿ وكفّ أيدي الناس عنكم ﴾ قد عنت ما كان من منع الله الحرب بين المسلمين وقريش بصورة عامة، أو إنها عنت خيالية قريش الذين حاولوا بقيادة خالد ابن الوليد مباغتة معسكر النبي والمسلمين فعلم النبي بخبرهم وأرسل من ردهم وأسر بعضهم، ثم عفا عنهم على ما ذكرناه في خلاصة وقائع الحديبية.
كما قيل : إنها عنت ما كان من تجمع أسد وغطفان للإغارة على المدينة أثناء غياب النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين عنها وإحباط الله كيدهم بإلقاء الرعب في قلوبهم. ويتبادر لنا أن القول الأول والثاني هو الأوجه ؛ لأن الجملة تذكر المسلمين في أثناء عودتهم إلى المدينة بما كان جرى في الحديبية وظروفها.
ورابعا : قيل إن جملة ﴿ ولتكون آية للمؤمنين ﴾ تعني أن ما كان من تيسير الله لصلح الحديبية وكف أيدي الناس عن المؤمنين قد كان آية ربانية ليعتبر بها المؤمنون ويتيقنوا من أن ما كان هو بتيسير ونصر من الله. ووجاهة القول ظاهرة.
وخامسا : قيل إن جملة ﴿ وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها ﴾ تعني مكة وفتحها، كما قيل : إنها إشارة إلى ما سوف ييسر الله للمسلمين من نصر وفتح في مختلف الظروف أو فتح بلاد فارس والروم. وقيل أيضا : إنها خيبر قبل أن يزحفوا عليها.
وكل من الأقوال الثلاثة وارد لا يخلو من وجاهة وإن كنا نرجح القول الثاني من حيث كون المسلمين لم يقدروا في سفرتهم على دخول مكة فاقتضت حكمة التنزيل تطمينهم بأن الله قد أحاط لها ولسوف يقدرهم عليها. وعلى كل حال ففي الجملة تثبيت وتطمين للمسلمين من جهة وبشرى فكانت من معجزات القرآن سواء أكان المقصود منها مكة أم خيبر أو غيرهما.
١ انظر تفسيرها في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن.

﴿ وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا( ٢٢ ) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ( ٢٣ ) ﴾.
عبارة الآيتين واضحة أيضا : وهي استمرار للخطاب الموجه إلى المؤمنين في الآيتين السابقتين لهما مباشرة ؛ حيث تؤذنانهم بأن الكفار لو قاتلوهم لولوا الأدبار، ولما وجدوا لهم وليا ولا نصيرا ينصرونهم من الله. وبأن هذه هي سنة الله التي جرت من قبل ولن يكون لها تبديل بالنسبة إليهم.
والآيتان والحالة هذه جزء من السياق. وقد استهدفتا ما استهدفته الآيات السابقة من تثبيت وتطمين.
ومن المفسرين من قال : إن ﴿ الذين كفروا ﴾ هم أهل مكة١ ومنهم من قال : إنهم أهل خيبر أو بني أسد وغطفان الذين كانوا يريدون الإغارة على المدينة٢، والمتبادر أن القول الأول هو الأوجه لأن الآيات في صدد وقائع سفرة الحديبية.
وقد يكون فيهما تقرير كون الكفار لو قاتلوهم لكانوا في موقف الباغي المعتدي. وقد جرت سنة الله على أن تدور الدائرة على البغاة المعتدين وأن ينصر من ينصره وينصر دينه، وهو ما تكرر تقريره ووعده في آيات في سور سبق تفسيرها.
وواضح من هذا أن في الآيتين تطمينا مستمر المدى والتلقين للمؤمنين بأنهم منصورون على الكفار إذا قاتلوهم في آي ظرف ومكان. وهو ما تكرر توكيده في آيات عديدة مكية ومدنية. وما يظل يمد المؤمنين بفيض من القوة الروحية التي تضاعف قوتهم. وطبيعي أن يكون ذلك رهنا بصدقهم في قتال أعدائهم وإعداد ما يستطيعون من قوة. وبذلهم من أموالهم دون بخل ولا تقصير. وهو ما تكرر التنبيه عليه في آيات في سور سبق تفسيرها كذلك.
١ الطبرسي وابن كثير.
٢ البغوي والخازن.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٢:﴿ وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا( ٢٢ ) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ( ٢٣ ) ﴾.
عبارة الآيتين واضحة أيضا : وهي استمرار للخطاب الموجه إلى المؤمنين في الآيتين السابقتين لهما مباشرة ؛ حيث تؤذنانهم بأن الكفار لو قاتلوهم لولوا الأدبار، ولما وجدوا لهم وليا ولا نصيرا ينصرونهم من الله. وبأن هذه هي سنة الله التي جرت من قبل ولن يكون لها تبديل بالنسبة إليهم.
والآيتان والحالة هذه جزء من السياق. وقد استهدفتا ما استهدفته الآيات السابقة من تثبيت وتطمين.
ومن المفسرين من قال : إن ﴿ الذين كفروا ﴾ هم أهل مكة١ ومنهم من قال : إنهم أهل خيبر أو بني أسد وغطفان الذين كانوا يريدون الإغارة على المدينة٢، والمتبادر أن القول الأول هو الأوجه لأن الآيات في صدد وقائع سفرة الحديبية.
وقد يكون فيهما تقرير كون الكفار لو قاتلوهم لكانوا في موقف الباغي المعتدي. وقد جرت سنة الله على أن تدور الدائرة على البغاة المعتدين وأن ينصر من ينصره وينصر دينه، وهو ما تكرر تقريره ووعده في آيات في سور سبق تفسيرها.
وواضح من هذا أن في الآيتين تطمينا مستمر المدى والتلقين للمؤمنين بأنهم منصورون على الكفار إذا قاتلوهم في آي ظرف ومكان. وهو ما تكرر توكيده في آيات عديدة مكية ومدنية. وما يظل يمد المؤمنين بفيض من القوة الروحية التي تضاعف قوتهم. وطبيعي أن يكون ذلك رهنا بصدقهم في قتال أعدائهم وإعداد ما يستطيعون من قوة. وبذلهم من أموالهم دون بخل ولا تقصير. وهو ما تكرر التنبيه عليه في آيات في سور سبق تفسيرها كذلك.
١ الطبرسي وابن كثير.
٢ البغوي والخازن.

﴿ وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ( ٢٤ ) ﴾.
( ١ ) ببطن مكة : كناية عن جوار مكة أو واديها.
الآية استمرار في الخطاب للمؤمنين وجزء من السياق على سبيل التذكير والتثبيت كذلك ؛ حيث تذكر المؤمنين بما كان من فضل الله عليهم في سفرة الحديبية من كف أيدي الكفار عنهم وكف أيديهم عن الكفار لينتهي الموقف بالسلام الذي انتهى إليه بعد أن كتب لهم الظفر عليهم.
وقد روى المفسرون١ في سياق هذه الآية حادثا معينا أشرنا إليه سابقا وقالوا : إنها تحتوي على إشارة إليه، وهو ما كان من محاولة خيالة من قريش أخذ النبي والمؤمنين على غرة قبل أن يتم عقد الصلح وما كان من تنبه النبي والمؤمنين لهم وردهم وأسر بعضهم على ما ذكرناه في الخلاصة التي أوردناها قبل لظروف وبواعث سفرة الحديبية ومشاهدها. وقد روى الترمذي ومسلم عن أنس ( أن ثمانين هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من جبل التنعيم عند صلاة الصبح وهم يريدون قتله، فأخذوا فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله ﴿ وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون بصيرا ﴾٢.
والمتبادر أن المقصد من جملة فأنزل الله هو كون هذه الآية في صدد ذلك.
والمتبادر أن الآية قد استهدفت بيان كون ما تم من ذلك إنما كان بقضاء الله ولحكمة فيها الخير والمصلحة للمسلمين.
١ انظر الطبري والطبرسي والبغوي والخازن وابن كثير.
٢ التاج ج ٤ فصل التفسير ص ٢١٣.
( ١ ) الهدي معكوفا أن يبلغ محله : الأنعام المنذورة لتكون قرابين لله محبوسة عن البلوغ إلى المحل الذي يجب ذبحها عنده أو يحل ذبحها عنده.
( ٢ ) أن تطأوهم : أن تدوسوهم وتصيبوهم بالأذى.
( ٣ ) معرة : تبعة فيها إثم وعار. أو تعروكم من جرائهم مشقة وهم.
( ٤ ) لو تزيلوا : لو تميزوا وانفردوا عن الكفار.
﴿ هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاء لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( ٢٥ ) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ( ٢٦ ) ﴾.
تعليق على الآية :
﴿ هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدى معكوفا أن يبلغ محله ﴾
والآية التالية لها وما فيهما من صور.
الآيتان استمرار للخطاب الموجه للمؤمنين كسابقاتهما وجزء من السياق.
وقد استهدفتا ما استهدفته الآيات السابقات من تثبيت وتطمين. وقد انطوتا على تقرير ما يلي :
١ إن الكفار مستحقون لعذاب الله تعالى. ولقد كان قادرا على إنزال النكال الشديد بهم حالا لما بدا منهم، فهم كافرون من جهة. وقد صدوا المسلمون عن زيارة المسجد الحرام وصدوا الهدي المنذور لله عن المكان الذي يحل فيه نحره من جهة. ولعبت في رؤوسهم نزوة الجاهلية وحميتها من جهة.
٢ ولكن حكمة الله العليم بكل شيء قضت بأن ينتهي الموقف إلى ما انتهى إليه. فأنزل السكينة على رسوله وعلى المؤمنين، وهدأ من سورة غضبهم وغيظهم، وألزمهم كلمة التقوى التي هي الأمثل بهم ؛ لأنهم أهلها والأحق بها.
وألهمهم الرضاء بما فيه الخير والمصلحة. ولا سيما أنه كان في مكة فريق من المؤمنين لا يعلمهم المؤمنون الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من المحتمل أن يدسوهم وينالهم أذى أثناء الاشتباك فيقعوا بذلك في الإثم والمشاكل.
وهذه ناحية رئيسية من حكمة الله تعالى في كف أيدي الفريقين عن بعض.
ولقد احتوت الآيتان إشارات خاطفة متوافقة مع ما ذكر الرواة تفصيله وأوردنا خلاصته قبل في صدد بعض مشاهد سفرة الحديبية والمفاوضات التي جرت بين النبي صلى الله عليه وسلم ومندوبي قريش، وما كان من تعنت قريش وإصرارهم على الشروط التي كان الحافز عليها أنفة الجاهلية وحميتها، وما كان من هدوء جأش النبي صلى الله عليه وسلم وتساهله وموقفه الحازم وانبثاث السكينة في نفسه ونفوس معظم المسلمين ومسايرتهم لهذه الشروط التي لا تهضمها النفوس بسهولة لولا إلهام الله وسكينته التي أنزلها على قلوبهم وإلزامه إياهم كلمة التقوى والحق والمصلحة.
وفي الآية الأولى خبر وجود فريق من المؤمنين والمؤمنات في مكة. وروح العبارة يلهم أولا : أنهم كانوا يكتمون إيمانهم، وأنهم لم يكونوا قليلين بحيث كان من الصعب أن يختفوا وأن يسلموا من الأذى لو وقع اشتباك حربي بين المسلمين وقريش في مكة. وليس في العبارة القرآنية معنى تأنيبي في حقهم ؛ حيث يلهم ذلك أنهم كانوا معذورين في البقاء في مكة. ولعلهم أو لعل منهم من أشارت إليه آية النساء هذه ﴿ وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا ﴾ وآيات النساء هذه ﴿ إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا ٩٨ ﴾ فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا } ويكاد يكون من المتفق عليه أن العباس رضي الله عنه عم النبي صلى الله عليه وسلم وأسرته كانوا من المؤمنين وقد ظلوا في مكة إلى يوم الفتح. والمرجح أن بقاءه كان بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولمصلحة كان يراها١.
ولقد روى البخاري عن ابن عباس قوله ( كنت أنا وأمي من المستضعفين وفي رواية كنت أنا وأمي ممن عذرهم الله ) ٢.
ويروي الشيعة في مناسبة الآية ( ٢٥ ) رواية جاء فيها ( قيل للإمام الصادق ألم يكن علي قويا في دين الله قال : بلى. قيل : فكيف ظهر عليه القوم ؟ وكيف لم يدفعهم وما منعه من ذلك ؟ قال : آية في كتاب الله وهي ﴿ لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما ﴾ لقد كان لله ودائع مؤمنون في أصلاب قوم كافرين ومنافقين. ولم يكن علي ليقتل الآباء حتى يخرج الودائع. فلما خرجت على علي ظهر من ظهر فقتلهم ) ٣.
والكلام الذي في صدد عدم مقاتلة علي لأبي بكر وعمر وعثمان وجمهور أصحاب رسول الله الذين يزعم الشيعة أنهم غصبوا حقه وخالفوا وصية رسول الله. وفي هذا من الهراء والسخف ما هو واضح. وننزه الإمام الصادق عن قوله واعتباره جمهور أصحاب رسول الله كافرين ومنافقين والعياذ بالله. ولقد قاتل النبي الكفار ولم يمنعهم احتمال أن يخرج من أصلابهم مؤمنون، ولقد قاتل على طوائف من المسلمين في ما يسمى في وقائع الجمل وصفين وحروراء ؛ لأنه اجتهد في صواب ذلك ولم يمنعه كونهم مسلمين أو احتمال خروج مؤمنين من أصلابهم، ولقد ثبت يقينا أن عليا رضي الله عنه بايع أبا بكر ثم عمر رضي الله عنهم وتعاون معهم في مختلف ميادين العمل العام، ولا شك في أنه يعرف أن النبي لو كان وصى له لما بايعهم ولقاتلهم لأجل تنفيذ وصية رسول الله دون أن يمنعه أي شيء ؛ لأن ذلك واجب ديني. هذا فضلا عن أن أبا بكر وعمر وعثمان والجمهور الأعظم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان وسجل الله رضاءه عنهم في القرآن ( سورة التوبة الآية ١٠٠ ) أتقى من أن يجمعوا على مخالفة وصية رسول الله أن تنفيذها واجب ديني قبل أي شيء.
١ ذكرنا في سياق تفسير آيات سورة الأنفال (٦٩ ـ ٧١) وفي سياق تفسير آيات سورة النساء المذكورة الروايات التي تذكر خبر إسلام العباس. ولقد روى ابن هشام ج ٣ ص ٣٩٨ ـ ٣٩٩ أن شخصا اسمه الحجاج من المسلمين ممن شهد وقعة خيبر استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر إلى مكة لاقتضاء دين له في التصرف في بعض القول ليسهل عليه ذلك. فأذن له، فلما بلغ مكة سأله بعض رجال قريش عن أخبار النبي، وكانوا قد عرفوا أنه سار إلى خيبر، ولم يعرفوا أن الحجاج قد أسلم. فقال لهم: عندي من الخبر ما يسركم، إنه هزم هزيمة لم تسمعوا بمثلها قط وقتل أصحابه وأسره اليهود، وهم يهمون بإرساله إليكم. فسروا أعظم سرور وسهلوا له قضاء حاجته وجاءه العباس فزعا يسأله الخبر فأخبره الحقيقة. وطلب كتمانها إلى أن يخرج، فلما خرج لبس العباس حلة وتخلق (تطيب بالطيب وأخذ عصاه وجاء إلى الكعبة فطاف بها فقال له بعض رجال قريش: يا أبا الفضل والله هذا التجلد لحر المصيبة. فقال: وأي مصيبة؟ كلا والله الذي حلفتم به، لقد فتح خيبر وأحرز أموالهم وتزوج بنت ملكهم (وهي زوجته صفية بنت حيي ابن أخطب) حيث يستفاد من هذا الخبر ما قلناه من أن العباس كان أشبه عن النبي أو معتمد له في مكة..
٢ كتاب الصراع بين الإسلام والوثنية للقصيمي ج ١ ص ٤٣٣ و ٤٣٤.
٣ المصدر نفسه.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٥:( ١ ) الهدي معكوفا أن يبلغ محله : الأنعام المنذورة لتكون قرابين لله محبوسة عن البلوغ إلى المحل الذي يجب ذبحها عنده أو يحل ذبحها عنده.
( ٢ ) أن تطأوهم : أن تدوسوهم وتصيبوهم بالأذى.
( ٣ ) معرة : تبعة فيها إثم وعار. أو تعروكم من جرائهم مشقة وهم.
( ٤ ) لو تزيلوا : لو تميزوا وانفردوا عن الكفار.
﴿ هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاء لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( ٢٥ ) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ( ٢٦ ) ﴾.

تعليق على الآية :

﴿ هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدى معكوفا أن يبلغ محله ﴾
والآية التالية لها وما فيهما من صور.
الآيتان استمرار للخطاب الموجه للمؤمنين كسابقاتهما وجزء من السياق.
وقد استهدفتا ما استهدفته الآيات السابقات من تثبيت وتطمين. وقد انطوتا على تقرير ما يلي :
١ إن الكفار مستحقون لعذاب الله تعالى. ولقد كان قادرا على إنزال النكال الشديد بهم حالا لما بدا منهم، فهم كافرون من جهة. وقد صدوا المسلمون عن زيارة المسجد الحرام وصدوا الهدي المنذور لله عن المكان الذي يحل فيه نحره من جهة. ولعبت في رؤوسهم نزوة الجاهلية وحميتها من جهة.
٢ ولكن حكمة الله العليم بكل شيء قضت بأن ينتهي الموقف إلى ما انتهى إليه. فأنزل السكينة على رسوله وعلى المؤمنين، وهدأ من سورة غضبهم وغيظهم، وألزمهم كلمة التقوى التي هي الأمثل بهم ؛ لأنهم أهلها والأحق بها.
وألهمهم الرضاء بما فيه الخير والمصلحة. ولا سيما أنه كان في مكة فريق من المؤمنين لا يعلمهم المؤمنون الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من المحتمل أن يدسوهم وينالهم أذى أثناء الاشتباك فيقعوا بذلك في الإثم والمشاكل.
وهذه ناحية رئيسية من حكمة الله تعالى في كف أيدي الفريقين عن بعض.
ولقد احتوت الآيتان إشارات خاطفة متوافقة مع ما ذكر الرواة تفصيله وأوردنا خلاصته قبل في صدد بعض مشاهد سفرة الحديبية والمفاوضات التي جرت بين النبي صلى الله عليه وسلم ومندوبي قريش، وما كان من تعنت قريش وإصرارهم على الشروط التي كان الحافز عليها أنفة الجاهلية وحميتها، وما كان من هدوء جأش النبي صلى الله عليه وسلم وتساهله وموقفه الحازم وانبثاث السكينة في نفسه ونفوس معظم المسلمين ومسايرتهم لهذه الشروط التي لا تهضمها النفوس بسهولة لولا إلهام الله وسكينته التي أنزلها على قلوبهم وإلزامه إياهم كلمة التقوى والحق والمصلحة.
وفي الآية الأولى خبر وجود فريق من المؤمنين والمؤمنات في مكة. وروح العبارة يلهم أولا : أنهم كانوا يكتمون إيمانهم، وأنهم لم يكونوا قليلين بحيث كان من الصعب أن يختفوا وأن يسلموا من الأذى لو وقع اشتباك حربي بين المسلمين وقريش في مكة. وليس في العبارة القرآنية معنى تأنيبي في حقهم ؛ حيث يلهم ذلك أنهم كانوا معذورين في البقاء في مكة. ولعلهم أو لعل منهم من أشارت إليه آية النساء هذه ﴿ وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا ﴾ وآيات النساء هذه ﴿ إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا ٩٨ ﴾ فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا } ويكاد يكون من المتفق عليه أن العباس رضي الله عنه عم النبي صلى الله عليه وسلم وأسرته كانوا من المؤمنين وقد ظلوا في مكة إلى يوم الفتح. والمرجح أن بقاءه كان بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولمصلحة كان يراها١.
ولقد روى البخاري عن ابن عباس قوله ( كنت أنا وأمي من المستضعفين وفي رواية كنت أنا وأمي ممن عذرهم الله ) ٢.
ويروي الشيعة في مناسبة الآية ( ٢٥ ) رواية جاء فيها ( قيل للإمام الصادق ألم يكن علي قويا في دين الله قال : بلى. قيل : فكيف ظهر عليه القوم ؟ وكيف لم يدفعهم وما منعه من ذلك ؟ قال : آية في كتاب الله وهي ﴿ لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما ﴾ لقد كان لله ودائع مؤمنون في أصلاب قوم كافرين ومنافقين. ولم يكن علي ليقتل الآباء حتى يخرج الودائع. فلما خرجت على علي ظهر من ظهر فقتلهم ) ٣.
والكلام الذي في صدد عدم مقاتلة علي لأبي بكر وعمر وعثمان وجمهور أصحاب رسول الله الذين يزعم الشيعة أنهم غصبوا حقه وخالفوا وصية رسول الله. وفي هذا من الهراء والسخف ما هو واضح. وننزه الإمام الصادق عن قوله واعتباره جمهور أصحاب رسول الله كافرين ومنافقين والعياذ بالله. ولقد قاتل النبي الكفار ولم يمنعهم احتمال أن يخرج من أصلابهم مؤمنون، ولقد قاتل على طوائف من المسلمين في ما يسمى في وقائع الجمل وصفين وحروراء ؛ لأنه اجتهد في صواب ذلك ولم يمنعه كونهم مسلمين أو احتمال خروج مؤمنين من أصلابهم، ولقد ثبت يقينا أن عليا رضي الله عنه بايع أبا بكر ثم عمر رضي الله عنهم وتعاون معهم في مختلف ميادين العمل العام، ولا شك في أنه يعرف أن النبي لو كان وصى له لما بايعهم ولقاتلهم لأجل تنفيذ وصية رسول الله دون أن يمنعه أي شيء ؛ لأن ذلك واجب ديني. هذا فضلا عن أن أبا بكر وعمر وعثمان والجمهور الأعظم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان وسجل الله رضاءه عنهم في القرآن ( سورة التوبة الآية ١٠٠ ) أتقى من أن يجمعوا على مخالفة وصية رسول الله أن تنفيذها واجب ديني قبل أي شيء.
١ ذكرنا في سياق تفسير آيات سورة الأنفال (٦٩ ـ ٧١) وفي سياق تفسير آيات سورة النساء المذكورة الروايات التي تذكر خبر إسلام العباس. ولقد روى ابن هشام ج ٣ ص ٣٩٨ ـ ٣٩٩ أن شخصا اسمه الحجاج من المسلمين ممن شهد وقعة خيبر استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر إلى مكة لاقتضاء دين له في التصرف في بعض القول ليسهل عليه ذلك. فأذن له، فلما بلغ مكة سأله بعض رجال قريش عن أخبار النبي، وكانوا قد عرفوا أنه سار إلى خيبر، ولم يعرفوا أن الحجاج قد أسلم. فقال لهم: عندي من الخبر ما يسركم، إنه هزم هزيمة لم تسمعوا بمثلها قط وقتل أصحابه وأسره اليهود، وهم يهمون بإرساله إليكم. فسروا أعظم سرور وسهلوا له قضاء حاجته وجاءه العباس فزعا يسأله الخبر فأخبره الحقيقة. وطلب كتمانها إلى أن يخرج، فلما خرج لبس العباس حلة وتخلق (تطيب بالطيب وأخذ عصاه وجاء إلى الكعبة فطاف بها فقال له بعض رجال قريش: يا أبا الفضل والله هذا التجلد لحر المصيبة. فقال: وأي مصيبة؟ كلا والله الذي حلفتم به، لقد فتح خيبر وأحرز أموالهم وتزوج بنت ملكهم (وهي زوجته صفية بنت حيي ابن أخطب) حيث يستفاد من هذا الخبر ما قلناه من أن العباس كان أشبه عن النبي أو معتمد له في مكة..
٢ كتاب الصراع بين الإسلام والوثنية للقصيمي ج ١ ص ٤٣٣ و ٤٣٤.
٣ المصدر نفسه.

﴿ لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ( ٢٧ ) ﴾.
( ١ ) محلقين رؤوسكم : بمعنى حلق شعر الرأس جميعه.
( ٢ ) مقصرين : بمعنى تقصير شعر الرأس تقصيرا دون حلقه والحلاقة والتقصير هي هنا لأجل التحلل من الإحرام.
تعليق على الآية
﴿ لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق... ﴾
وخبر زيارة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين للكعبة.
عبارة الآية واضحة : والخطاب فيها موجه إلى المسلمين استمرار للسابق وهي الحالة هذه جزء من السياق وقد احتوت :
١ تصديقا ربانيا لصحة رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم بأنه زار الكعبة مع أصحابه وكونها حقا.
٢ وتوكيدا ربانيا بتحقيق هذه الرؤيا وبدخولهم المسجد الحرام وبقيامهم بطقوس الزيارة آمنين مطمئنين منهم المحلقون، ومنهم المقصرون دون ما خوف ولا اضطراب.
٣ وإشارة إلى ما انتهي إليه سفر الحديبية على سبيل تبرير النهاية : فإذا كان قد انتهى إلى ما انتهى إليه من عدم تحقيق الرؤيا في نفس الرحلة فذلك ناتج عن حكمة الله ولم يعلموها ؛ حيث اقتضت أن يكون بدل الزيارة في هذه الرحلة الفتح القريب الذي يسره لهم.
وفي الآية كما هو ظاهر تأييد للروايات المروية من أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما اعتزم الخروج لزيارة الكعبة استلهاما من رؤيا رآها في منامه ورؤياه حق. وهذا الذي جعل بعض المسلمين يذهلون، حينما انتهى الموقف بدون تحقيق هذه الزيارة في هذه الرحلة، وقد استهدفت الآية التصديق والتثبيت مع الوعد الرباني بتحقيق الرؤيا.
ولقد تحقق الوعد الرباني فتمت الزيارة في العام القابل حسب الاتفاق.
وأدى المسلمون مناسكها آمنين مطمئنين، فكان ذلك معجزة من معجزات القرآن.
ومما روي عن ذلك١ أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في ذي القعدة من السنة السابعة على رأس ألفين من أصحابه كان معظمهم ممن شهدوا صلح الحديبية وقدموا أمامهم الهدي، ولم يكن معهم إلا سيوفهم في أغمادها. ولما أقبلوا على مكة خرج أهلها إلى رؤوس الجبال عدا رجال منهم اصطفوا عند دار الندوة لمشاهدة مشهد دخول النبي وأصحابه الذين دخلوا مهللين مكبرين، وقد هتف النبي بأصحابه ( رحم الله امرأ أراهم اليوم من نفسه قوة ) ثم أقبل النبي وأصحابه نحو الكعبة فطافوا بها وارتقى بلال فوقها فأذن للصلاة وارتجز عبد الله بن رواحة بين يدي رسول الله.
خلو بني الكفار عن سبيله خلوا فكل الخير مع رسوله
نحن ضربناكم على تأويله كما ضربناكم على تنزيله
ضربا يزيل الهام عن مقيله ويذهل الخليل عن خليله
يا رب إني مؤمن بقيله٢.
فهتف النبي صلى الله عليه وسلم : بل قل ( لا إلاه إلا الله وحده نصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده ) فقالها، فرددها المسلمون، وقد مكث النبي وأصحابه ثلاثة أيام، ثم انصرفوا سالمين معافين. وتسمى هذه الزيارة في كتب السيرة بعمرة القضاء٣.
ويعلل التسمية ابن كثير قائلا : إنها من القضية ؛ لأن مفاوض قريش في صلح الحديبية سمى هذا الصلح قضية ؛ حيث قال للنبي حينما جاء ابنه المسلم لبحث القضية بيني وبينك، وهذا أول ما أقاضيك عليه. ونحن نرجح مع ذلك أنها أريد بها القيام بالعمرة قضاء عن العمرة التي اعتزموها ثم لم يتموها بسبب ممانعة قريش، فتأجلت للسنة القابلة حسب اتفاق الحديبية. والله أعلم.
ومما روي كذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في سفرته هذه ميمونة بنت الحارث أخت زوجة عمه العباس فزوجها له العباس وأصدقها عنه. وأن زعماء قريش أرسلوا إلى النبي بعد انقضاء الأيام الثلاثة المتفق عليها : أن اخرج عنا فقد انقضى أجلك. فقال لهم : وما عليكم لو تركتموني فأعرست بين ظهرانيكم وصنعت لكم طعاما فحضرتموه. فقالوا : لا حاجة لنا في طعامك فاخرج عنا. فخرج وانتظر زوجته الجديدة في سرف حتى تجهزت وخرجت إليه.
١ انظر كتب تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والخازن وسيرة ابن هشام ج ٣ ص ٤٢٥ـ ٤٢٧ وابن سعد ج ٣ ص ١٦٧ ـ ١٦٩.
٢ روى هذا الشعر وهتاف النبي صلى الله عليه وسلم ابن هشام ج ٣ ص ٤٢٤ و ٤٢٥ وابن سعد ج ٣ ص ١٦٧ و ١٦٩، وهناك روايات أخرى للشعر رواها ابن كثير فيها زيادات ولقد قال ابن هشام عن البيت الثالث وما بعده: ليس لعبد الله ابن رواحة، وإنما هو لعمار ابن ياسر، قاله في غير هذا اليوم، واستدل على صحة ذلك قائلا عن الذي يقاتل على التأويل يكون قد اعترف بالتنزيل، ولم يكن مشركو قريش اعترفوا بذلك. والتعليل وجيه على أننا نشك في الشعر كله وفي هتاف النبي صلى الله عليه وسلم، فليس شيء من ذلك واردا في الصحاح. والنبي والمسلمون وصلوا مكة في هذا الظرف بناء على اتفاق الحديبية الذي كان اتفاق صلح أو هدنة. والشعر والهتاف أحرى أن يكونا في ظرف انتصار حربي. ومن المعقول والمحتمل أن يكون ذلك حينما دخل النبي والمسلمون مكة عنوة فاتحين في السنة الثامنة للهجرة على ما سوف يرد شرحه بعد في سياق سورة الحديد، بل لقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته بعد أن تم فتح مكة (لا إلاه إلا الله وحده لا شريك له صدق وعد نصره عبده وهزم الأحزاب وحده) وهي الفقرة التي يروي أن النبي أمر عبد الله ابن رواحة أن يقولها بدلا من شعره....
٣ ابن هشام ج ٣ ص ٤٢٤.
﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ( ٢٨ ) ﴾.
والآية متصلة بالسياق وجزء منه كذلك. وقد هدفت هي الأخرى إلى تثبيت المسلمين وتطمينهم :
١ في تقريرها كون الله تعالى هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق.
٢ وفي توكيدها بأنه ناصر لهذا الدين ومظهره على سائر الأديان، وبأن هذا هو كلام الله تعالى ووعده وكفى به شهيدا على تحقيقه.
وهذه هي المرة الثانية التي يرد فيها وعد الله بإظهار الدين الذي جاء به محمد صلوات الله عليه على الدين كله.
والمرة الأولى كانت في سورة الصف، وفي سياق ذكر رسالات موسى وعيسى عليهما السلام واليهود والنصارى، وهذه المرة جاءت في مناسبة الكلام عن المشركين. وهكذا يكون النص القرآني قد ورد في سياق الكلام عن المشركين والكتابيين معا. ولقد علقنا على النص بما فيه الكفاية في المرة الأولى المذكورة فلا نرى ضرورة للإعادة.
﴿ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ( ٢٩ ) ﴾.
١ سيماهم : علامتهم
٢ شطأه : أوائل نبته
٣ استغلظ : صارت قصبته غليظة بعد الرقة والرخاوة.
٤ استوى : ارتفع ونهض.
٥ سوقه : جمع ساق، وهي هنا قصبة النبات وساقه.
تعليق على الآية :
﴿ محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم.... ﴾
وما فيها من صور رائعة للمسلمين الأولين وما ورد فيهم من أحاديث.
المتبادر أن هذه الآية أيضا متصلة بالسياق وجزء منه. وقد احتوت بيانا تفسيريا لكلمة ﴿ رسوله ﴾ التي جاءت في الآية السابقة لها مباشرة، ثم استطرادا تنويهيا محببا لذكر أصحابه ومؤيديه : فمحمد هو رسول الله حقا الذي أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله. وصفة أصحابه ومؤيديه هي أنهم أشداء عنفاء على الكفار، بينما هم رحماء لينون مع بعضهم. لا يهملون عبادة الله حيث تراهم ركعا سجدا، يبتغون بذلك فضل الله ورضوانه. وآثار السجود في وجوههم بادية. وهذه هي صفة المؤمنين الصالحين التي ذكرت في التوراة والإنجيل وأنهم لكالزرع الذي نبت لينا، ثم قوي فغلظت سوقه فأثمر الثمر وأكثره مما يعجب الزارع ويرضيهم، وإن الله قد يسرهم إلى ما يسر وحلاهم بما حلاهم به ليغيظ بهم الكفار أيضا. وإن الله قد وعد الذين آمنوا فحسن إيمانهم ووثقوا به فحسن وثوقهم، وعملوا الصالحات بمغفرته وعظيم أجره.
ولقد جاءت الآية خاتمة قوية للسورة التي يتضح من الإمعان فيها ترابط آياتها، وكون هدفها الرئيسي هو تثبيت المسلمين وتسكينهم إزاء ما كان من ظروف ونتائج سفرة الحديبية على النحو الذي شرحناه في سياق الآيات.
وفي الآية صورة رائعة لما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ورع وتقوى وعبادة وأخلاق كريمة سمحاء فيما بينهم، مع الشدة والقوة والبسالة بالنسبة لأعدائهم، ومثل هذه الصورة تكررت في سور عديدة مكية ومدنية مما نبهنا عليه في مناسباته، ومما فيه دلالة على ما كان من أثر دعوة الله وقرآنه ونبيه في هذه الفئة التي صارت بذلك مثالا نموذجيا خالدا.
ولقد روى الطبري وغيره عن ابن عباس وقتادة وعكرمة تأويلات أخرى لجملة ﴿ ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطئه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه ﴾ من ذلك أن الكلام يتم عند جملة ﴿ ذلك مثلهم في التوراة ﴾ فتكون الصفات السابقة لها هي مثلهم وصفاتهم في التوراة وتكون جملة ﴿ ومثلهم في الإنجيل كزرع... ﴾ إلى آخر الجملة مستأنفة، فتكون الصفات المذكورة فيها هي صفاتهم في الإنجيل، ورووا بسبيل ذلك عن ابن عباس قوله ( إن نعتهم مكتوب في التوراة والإنجيل قبل أن تخلق السماوات والأرض ) وعن قتادة قوله ( إنه مكتوب في الإنجيل : يخرج قوم ينبتون نبات الزرع، فيكونون قليلا، ثم يزدادون ويكثرون يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ) ومما رواه المفسرون عن أهل التأويل أيضا أن الصفات جميعها في صفاتهم المذكورة في التوراة والإنجيل، وما رووه أيضا أن جملة ﴿ كزرع أخرج شطئه... ﴾ إلى آخر الجملة هي مستأنفة، أو تمثيل ثان لهم.
وأن الزرع فيها يعني محمدا صلى الله عليه وسلم وشطأه هو أبو بكر، وآزره هو عمر، واستغلظ هو عثمان، واستوى على سوقه هو علي رضي الله عنهم. ويتبادر لنا أن في هذه الأقوال تكلفا، ونرجو أن يكون شرحنا الآنف هو الوجه الصواب إن شاء الله. أي : إن ما ذكر من صفاتهم قبل ذكر كلمتي التوراة والإنجيل هي مثلهم فيهما. وجملة ﴿ كزرع ﴾ مستأنفة كصفات أخرى لهم. والله أعلم.
هذا، وروح الآية يلهم أن جملة ﴿ والذين معه ﴾ قد تعني بنوع خاص تلك الفئة المخلصة الراسخة في إيمانها ووثوقها بالله ورسوله والمؤيدة لرسول الله ودينه قلبا وقالبا. وهذا هو قول جمهور المفسرين الذين أوردوا في سياق الآية أحاديث نبوية عديدة فيها دلالة على ذلك وردت في الصحاح وأوردناها في سياق الآية ( ٢٢ ) من سورة الفتح. ومن شواهد الدلالة على أن المقصود هم الفئة المخلصة الراسخة المؤيدة لرسول الله من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، وأن الخطاب في الأحاديث موجه إلى فريق آخر من المسلمين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد قال ابن كثير عن الإمام مالك رحمة الله عليه : انتزع في رواية عنه من هذه الآية تكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة رضي الله عنهم ؛ لأنهم يغيظونهم، وإن طائفة من العلماء رضي الله عنهم وافقه على ذلك. وقد علق المفسر القاسمي على هذا بقوله : إن هذا خلاف ما اتفق عليه المحققون من أهل السنة و الجماعة من أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة، وننبه على أن هذا في صدد البغض.
غير أن هناك طوائف من الشيعة يكفرون الجمهور الأعظم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بزعم أنهم خالفوا أمر رسول الله وعصوه. وقد أوردنا آنفا رواية يعزونها إلى الإمام الصادق تنعت هذا الجمهور بالمنافقين والكافرين والعياذ بالله، تنزهوا عن ذلك، وهم الذين سجل الله رضاءه عنهم في القرآن، ومن يفعل ذلك فقد حق عليه النعت.
Icon