تفسير سورة سورة الذاريات من كتاب التفسير المظهري
.
لمؤلفه
المظهري
.
المتوفي سنة 1216 هـ
ﰡ
﴿ والذاريات ذروا ١ ﴾ مصدر يعني الرياح تذروا التراب وغيره أو النساء والمولود فإنهن يذرين أولاد أو الأسباب التي تذري الخلائق من الملائكة وغيرها، قرأ أبو عمرو بإدغام التاء في الذال
﴿ الحاملات وقرا ﴾ أي ثقلا مفعول به يعني الرياح الحاملات للسحاب أو الناس الحاملات النطف والأجنة أو لسحب الحاملة للمطر أو أسباب ذلك
﴿ فالجاريات يسرا ٣ ﴾ صفة مصدر محذوف يعني جريا سهلا وهي الرياح الجارية في مهابها والنساء الجاريات في خدمة الأزواج يسرا لكونهن حاملات أو السفن الجارية في البحر سهلا أو الكواكب التي تجري في منازلها
﴿ فالمقسمات أمرا ٤ ﴾ مفعول به يعني الرياح التي تقسم الأمطار بتصرف السحاب أو الملائكة التي تقسم الأمور من الأمطار والأرزاق وغيرها أو ما يعمها من أسباب القسمة فإن حملت على ذوات مختلفة فالفاء لترتيب الأقسام بها باعتبار ما بينها من التفاوت في الدلالة على كمال القدرة وإلا فالفاء للترتيب أفعال وجواب القسم
﴿ إن ما توعدون ﴾ من البعث ما موصولة والعئاد محذوف أو مصدرية ﴿ لصادق ﴾ يعني وعد صادق كعشية راضية أي ذات رضاء
﴿ وإن الدين ﴾ أي الجزاء من الثواب والعقاب ﴿ لواقع ﴾ لكائن لا محالة من الله سبحانه كأنه استدلال بما أقسم من الأشياء العجيبة الدالة على كمال قدرة الصانع الصانع المختار على الاقتدار على البعث الذي أوقعه جوابا للقسم ثم عطف على الحملة القسمية الأخرى فقال
﴿ والسماء ذات الحبك ٧ ﴾ جمع حبيكة كطريقة وطرق أو حباك كمثال ومثل في القاموس الحبك الشداد الأحكام وتحسين أثر الصنعة في الثواب وحبك الرمل حروفه الواحدة حباك ككتاب ومن الماء والشعير الجعد المنكسر منها ومن السماء طريق النجوم، قال البغوي قال ابن عباس وقتادة وعكرمة ذات الخلق الحسن المستوى يقال للنساج إذا نسج الثوب فأجاد ما أحسن حبكه، وقال سعيد ابن جبير ذات الزينة قال الحسن حبكت بالنجوم قال مجاهد هي المتقن البنيان، وقال مقاتل والكلبي والضحاك ذات الطريق كحبك الماء إذا ضربته الريح وحبك الرمل والشعر الجعد ولكنها لا يرى لبعدها من الناس، قال البيضاوي معناه ذات الطريق والمراد إما الطرايق المحسوسة التي هي مسير الكواكب أو المعقولة التي يسلكها النظار ويتوسل بها إلى المعارف أو النجوم فإن لها طرائق أو أنها تزينها كما يزين المواشي طرايق الرشي وجواب القسم ﴿ إنكم لفي قول مختلف ﴾
﴿ إنكم ﴾ يا كفار مكة ﴿ قول مختلف ﴾ في الرسول يعني قولهم تارة إنه شاعر وتارة غنه ساحر وتارة إنه مجنون أو في القرآن إنه سحر أو كهانة أو أساطير الأولين أو شعر قاله من تلقاء نفسه أو في القيامة فبعضهم شك فيه وبعضهم استحاله وأنكره قال البيضاوي : لعل النكتة في هذا القسم تشبيه أقوالهم في اختلافها وتنافي أغراضها بالطريق للسماوات في تباعدها واختلاف غاياتها وجاز أن يكون خطابا لأهل مكة يعم المؤمنين والكفار يعني منكم مصدق ومنكم مكذب
﴿ يؤفك عنه ﴾ أي يصرف عن الرسول والقرآن ﴿ من أفك ﴾ أي صرف في علم الله تعالى يعني من حرمه الله تعالى عن الإيمان بحمد صلى الله عليه وسلم والقران وجاز أن يكون ضمير عنه راجعا إلى القول المختلف ويكون عن بمعنى من يعني يصدر إفك عن إفك عن القول المختلف سببه ذلك أن كفار مكة إذا أراد رجل الإيمان يتلقونه ويقولون إنه ساحر كاذب كاهن مجنون فيصرفونه عن الإيمان وهذا معنى قول جاهد وهذه الجملة معترضة لبيان خيبة من لم يؤمن
﴿ قتل الخراصون ١٠ ﴾ أي الكذابون وهم أصحاب القول المختلف من الكفار والخرص الظن والتخمين من غير دليل موجب لليقين وكلما كان مبنيا على دليل صحيح لا يتصور فيه الاختلاف وذكرهم بعنوان الخراصين والجملة في الأصل دعاء بالقتل أجري مجرى اللعن
﴿ الذين هم في غمرة ﴾ أي جهل وغباء يغمرهم ﴿ ساهون ﴾ غافلون عما أمروا به
﴿ يسألون ﴾ محمد صلى الله عليه وسلم استعجالا إنكارا أو استهزاء ﴿ أيان ﴾ أي متى ﴿ يوم الدين ﴾ يوم الجزاء جملة يسألون في محل النصب على الحالية من الخراصين وجاز أن يكون لبيان علة لعنهم
﴿ يوم هم على النار يفتنون ١٣ ﴾ أي يحرقون بالنار كما يفتن الذهب بالنار وعلى بمعنى الباء والظرف إما بدل من يوم الدين والمعنى يسألون متى يوم تعذبنا بالتاء يا محمد فحينئذ محله الرفع عن الابتداء وفتح للإضافة إلى غير متمكن وجاز أن يكون جوابا من الله تعالى لسؤالهم يوم حينئذ خبر لمبتدأ محذوف أي هو يوم هم على النار يفتنون أو منصوب على الظرفية بفعل محذوف يعني يقع الدين يوم يفتنون فعلى تقدير كونه داخلا في السؤال قوله تعالى :﴿ ذوقوا فتنتكم ﴾
﴿ ذوقوا فتنتكم ﴾ مرتبط بقوله تعالى :﴿ قتل الخراصون ١٠ ﴾ يعني يقال لهم ذوقوا فتنتكم أي عذابكم أو جزاء كفركم وعلى التأويل الثاني حال من الضمير المرفوع في يفتنون بتقدير مقولا لهم هذا القول هذا بدل من فتنتكم موصوف لقوله ﴿ الذي كنتم به تستعجلون ﴾ في الدنيا تكذيبا وجاز أن يكون هذا مبتدأ والموصول خبر يعني هذا هو الذي كنتم تستعجلون والجملة تعليل لقوله ذوقوا.
ثم ذكر الله تعالى حال المؤمنين المصدقين النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن ﴿ إن المتقين في جنات وعيون ٤٥ ﴾ أي أنهار جارية من الخير والكرامة حال من الضمير في الظرف يعني قابلين لما أعطاهم ربهم راضين به يعني كل ما يأتيهم يكون حسنا مرضيا مقبولا
﴿ إنهم كانوا قبل ذلك ﴾ أي قبل دخول الجنة في الدنيا ﴿ محسنين ١٦ ﴾ عابدين لله تعالى بالحضور والإخلاص طالبين رضاه خالصة سبحانه يطلب رضاهم فهذه الجملة تعليل لما سبق ثم فسر إحسانهم وعللها بقوله ﴿ كانوا قليلا من الليل ما يهجعون ١٨ ﴾
﴿ كانوا قليلا من الليل ما يهجعون ١٨ ﴾ ما زائده ويهجعون خبر لكان والهجوع النوم ليلا وقليلا منصوب على الظرفية ومن الليل صفة له مبنية أو على المصدرية ومن للتبعيض ومعناه كانوا ينامون زمانا قليلا كائنا من الليل أو هجوعا قليلا في بعض الليل وجاز أن يكون ما موصولة والعائد محذوف أو مصدرية وعلى التقديرين قليلا إما منصوب على أنه خبر كان وما يهجون بدل اشتمال من الضمير المرفوع في كانوا أو ما منصوب ظرف مستقر في محل النصب على الخبر وما يهجعون فاعل للظرف والمعنى كان ما يهجعون فيه أو هجوعهم قليلا كائنا من الليل أو كانوا قليلا من الليل هجوعهم أو ما يهجعون في ويصلون أكثر الليل وقال سعيد ابن جبير عن ابن عباس معناه كانوا أقل ليلة تمر بهم إلا صلوا فيها شيئا إما من أولها إما من أوسطها أو من آخرها يعني كان الليل الذي ينامون فيه كله قليلا كذا قال مطرف ابن عبد الله، وقال الضحاك ومقاتل كانوا من الناس قليلا من الليل يهجعون يعني لا ينامون فعلى هذا قليلا خبر كان وجملة من الليل ما يهجعون مستأنفة وما نافية قال البيضاوي وغيره هذا لا يجوز لأن ما بعد ما لا تعمل فيما قبلها.
﴿ وبالأسحار ﴾ يعني في الأسحار ﴿ هم يستغفرون ﴾ السحر السدس الآخر من الليل وفي القاموس قبيل الصبح وطرف كل شيء يعني أنهم مع قلة هجوعهم كثرة صلاتهم بالليل إذا سحروا أخذوا في الاستغفار هضما لأنفسهم واستقصارا لعملهم كأنهم أسلفوا في ليلتهم الجرائم ووقع عنهم التقصير في الطاعات وفي بناء الفعل على الضمير إشعار بأنهم أحقاء بذلك لوفور علمهم بالله العظيم وخشيتهم من الله تعالى اللهم إني أسألك خشية العالمين وعلم الخائفين منك ويقين المتوكلين عليك، قال الحسن معناه لا ينامون من الليل إلا قلة وربما نشطوا فمدوا إلى السحر ثم أخذوا في الاستغفار عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( ينزل الله إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل يستغفرني فأغفر له ) متفق عله وفي رواية مسلم ﴿ ثم يبسط يديه ويقول من يعترض غير عدوم ولا ظلوم حتى ينفجر الفجر ) وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قام من الليل يتهجد يستغفر يقول { اللهم لك الحمد أنت قيم السماوات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت ملك السماوات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت الحق وعدك بقاؤك حق قولك وحق النار حق النبيون حق ومحمد حق والساعة حق اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت أنت ربنا وإليك المصير فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر لا إلاه إلا أنت ولا إلاه غيرك ) متفق عليه من حديث ابن عباس وعن عبادة ابن صامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { من تعار من الليل فقال لا إلاه إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير وسبحان الله والحمد لله ولا إلاه إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ثم قال رب اغفر لي أو قال ثم دعا استجيب له فإن توضأ وصلى قبلت صلاته ﴾ رواه البخاري وعن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استيقظ
من الليل قال :﴿ لا إلاه إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك لذنبي وأسألك رحمتك اللهم زدني علما ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني وهب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ﴾ رواه أبو داود
﴿ وفي أموالهم حق للسائل والمحروم ﴾ يعني يعطون من أموالهم السائلين الذين يسألون الناس والمحرومين يعني المتعففين عن السؤال الذين يحبسهم الجاهل بحالهم أغنياء من التعفف فالمحسنين يعطونهم إذ يعرفونهم بسيماهم بفقد أحوالهم كذا قال قتادة والزهري وغيرهما وقال ابن عباس وسعيد ابن المسيب المحروم الذي ليس له سهم من الغنيمة ولا يجري عليه من الفيء شيء أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن ابن محمد ابن الحنفية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية فأصابوا غنما فجاء قوم بعدما فرغوا يعني من القسمة فأعطاهم الغانمون منها فنزلت هذه الآية وقال زيد ابن أسلم المحروم هو المصاب ثمره أو زرعه أو نسل ماشيته كذا قال محمد ابن كعب القرظي وقرأ ﴿ إنا لمغرمون ٦٦ بل نحن محرومون ٦٧ ﴾
﴿ وفي الأرض آيات للموقنين ٢٠ ﴾ قال أكثر المفسرين هذه الجملة ما عطف عليه متصل بقوله تعالى :﴿ إنكم لفي قول مختلف ٨ ﴾ وما بينهما معترضات وعندي هي معطوفة على ما سبق في تفسير المحسنين والثناء عليهم لكن فيه وضع المظهر موضع المضمر الراجع إلى المحسنين إيذانا لتحصيل الإيقان بالاستدلال والتفكر في الآيات تقديره وفي الأرض آيات لهم فإنهم إذا ذكروا بآيات ربهم لم يجزوا عليها صما وعميانا بل ينظرون بأبصارهم ويتفكرون في خلق الأرض ودحوها كالبساط وارتفاع بعضها على الماء ليسكن عليها عباد الرحمان واختلاف أجزائها في الكيفيات والمنافع وما خلق الله فيها من المعادن والنباتات والحيوانات والعيون والأنهار ويستدلون بها على وجود الصانع الواجب وعلمه وقدرته وإرادته وحده وفرط رحمته وحكمته ثم ينظرون ببصائرهم ما يترشح عليها وعلى ما فيها من الله تعالى وبركات وجودها وبقائها ورحمته ويسأل من فيها ما يحتاج إليه ﴿ كل يوم هو في شأن ٢٩ فبأي آلاء ربكما تكذبان ٣٠ سنفرغ لكم أيه الثقلان ٣١ ﴾
﴿ وفي أنفسكم ﴾ عطف على من في الأرض يعني وفي أنفسكم أيها الناس آيات لهم فإن العالم الصغير أعني نفس الإنسان كائن من الآيات كما في العالم الكبير من بدء خلقه إلى مماته حيث كان نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظاما ثم كسيت لحما ثم نفخ فيه الروح ثم يسر الله سبيله إلى الخروج ثم هدى إلي سبيل معاشه رضيعا وفطاما واكتساب أقواته والتغذي بالأكل والشرب ودفع الفضول بالبول والغائط وسبيل إبقاء نوعه بالنكاح وإلى سبيل معاده بإرسال وإنزال الكتب وأظهر فيه بدائع صنعه من اختلاف الألسنة والصور والألوان والطبائع والعقول والأفهام واختلاف استعداداتهم في قبول الحق وسلوك سبيل الرشاد وصعود مدارج القرب ومعارج العرفان فينظر العارف بعض هذه الأمور بالإبصار ويقول تبارك الله أحسن الخالقين وبعضها بالبصائر وينظر بالبصائر ما يتجلى على السرائر من التجلبات الذاتية والصفاتية والظلالية ولا يتطرق إليه مجال القمال وعيبر عنه بالحديث القدسي ( لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببت كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ) الحديث فيقول العارف الحمد الله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا الحق ﴿ أفلا تبصرون ﴾ أيها الخراصون ما يبصره المحسنون للموقنون والفاء للعطف على محذوف تقديره أتنكرون قدرة الله على البعث فلا تبصرون وهذه الجملة معترضة
﴿ وفي السماء رزقكم ﴾ قال ابن عباس ومقاتل يعني المطر الذي سبب رزق وهذا مبني على ما ورد في الشرع أن المطر ينزل من السماء وقال البيضاوي قيل المراد بالسماء والسحاب وبالرزق المطر وهذا مبني على مذهب الفلاسفة وقال أيضا أسباب رزقكم أو تقديره عندي أن رزقكم خطاب المحسنين الموقنين على سبيل الالتفات من الغيبة إلى الخطاب وفي السماء عطف علي في الأرض وفي أنفسكم عطف مفرد ورزقكم بدل من الآيات وجاز أن يكون عطف جملة على جملة والمراد بالرزق إما الحظ والنصيب كما في قوله تعالى :﴿ وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ٨٢ ﴾ المراد بالرزق هاهنا إما الآيات الدالة على الله سبحانه من الشمس والقمر والكواكب وحركاتها وما يترتب عليها من اختلاف الفصول والمنافع والمضار بدليل ذكر الآيات في الأرض والأنفس فإن الاستدلال بها والتفكر فيها حظ المحسنين الموقنين لا غير وكذا ما يترتب على الاستدلال بها والتفكر فيها من الرحمة والبركات وما ينزل على العارف من التجليات فإن كل ذلك رزق المحسنين وحظ للموقنين دون من ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة وهم يعمهون قال العارف الرومي قدس سره أبيات بالفارس وإما الرزق المأكول وحينئذ يراد بالآية التنبه والإشعار بأن رزقكم بيد الله مكتوب في السماء فينبغي أن لا تطلبوا الرزق من غير الله تعالى واعبدوا الله مخلصين له الدين من غير رياء وسمعة قائلين لا نسألكم عليه أجرا عن أجري إلا على الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا فعلى هذا التقدير أيضا في الآية إشارة إلى تفسير المحسنين والثناء عليهم يعني هم يتفكرون في خلق السموات والأرض ويخلصون لله أعمال موقنين بأن رزقهم في السماء متوكلين على الله ﴿ وما توعدون ﴾ عطف على رزقكم قال البغوي قال عطاء وما توعدون من الثواب والعقاب وقال مجاهد من الخير والشر، وقال الضحاك ومن الجنة والنار يقال مكتوب في السماء وما توعدون لن يقال كائن في السماء وما توعدون فإن الجنة فوق سبع سماوات دون النار فإنها تحت الأرضين السبع كما نطقت به الأحاديث وعلى ما قلت من التأويل أن الخطاب مختص بالمحسنين يصح القول بأن ما توعدون من الثواب والجنة كائن في السماء، وقيل وما توعدون كلام مستأنف وما موصولة أو مصدرية مبتدأ وخبره
﴿ فورب السماء والأرض إنه لحق ﴾ وعلى هذا فالضمير والمنصوب لما وعلى الأول يحتمل له ولما ذكر سابقا من البعث والجزاء والرزق والوعد والوعيد ﴿ مثل ما أنكم تنطقون ﴾ قرأ أبو بكر وحمزة والكسائي مثل بالرفع على أنه صفة لحق والباقون بالنصب على أنه حال من المستكن في الحق أو وصف لمصدر محذوف يعني أنه لحق حقا نطقكم وقيل إنه مبني على الفتح لإضافته إلى غير متمكن وهو ما إن كانت بمعنى شيء وإن معنى جملتها إن كانت ما زائدة ومحله الرفع شبه الله سبحانه الرزق وغيره مما وعد وأخبر به ينطق الإنسان قال البغوي ما أنكم تنطقون فتقولون لا إلاه إلا الله يعني المراد بالنطق المنطوق والخطاب إن كان للمحسنين فمنطوقه غالبا لا إلاه إلا الله وإن كان الخطاب عاما فشبه تحقق ما أخبر عنه يتحقق نطق الآدمي كما يقال أنه لحق كما أنت هاهنا وأنه لحق كما أنت تتكلم والمعنى أنه في صدقه ووجوده كالذي تعرفه ضرورة، وقال بعض الحكماء يعني أن كل إنسان ينطق بلسان نفسه ولا يمكنه أن يأكل رزق غيره، حكى في المدارك عن الأصمعي أنه قال أقبلت من جامع البصرة فطلع علي أعرابي فقال ممن الرجل قلت من بني أصمع قال من أين أقبلت قلت من موضع يتلى فيه كلام الله الرحمان قال أتل علي فتلوت والذاريات فلما بلغت قوله في السماء رزقكم قال حسبك فقام إلى ناقته فنحرها ووزعها على من أقبل وأدبر عمد إلى قوسه وسيفه فكسرهما وولى، فلما حججت مع أمر الرشيد طفقت أطوف فإذا أنا بمن يهتف بصوت رفيق فالتفت فإذا أنا بالأعرابي فسلم علي واستقرأ السؤال فلما بلغت الآية صاح قال قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، ثم قال وهل غير هذا فقرأت فورب السماء والأرض إنه لحق فصاح فقال سبحان الله من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف لم يصدقوه بقوله حتى ألجئوه إلى اليمين قالها ثلاثا وخرجت معها نفسه يعني مقتضى البلاغة أن يؤكد الكلام على حسب إنكار المخاطب فالله سبحانه أورد الكلام بكمال المبالغة في التأكيد حيث أقسم عليه وأكد بكلمتان ولام التأكيد والإخبار بأنه حق والتشبيه بما هو أجلى البديهيات وليس هذه الإشارة إلى الناس كأنهم في غاية الإنكار في تقدير الرزق الموعود كاد حين في اكتساب ما التزم الله سبحانه على نفسه بقوله :﴿ وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ﴾ غافلين عما كلفهم الله به وعلق به الثواب والعقاب الأبدي لا حول ولا قوة إلا بالله.
﴿ هل أتاك ﴾ استفهام للتقرير يعني قد أتاك والغرض منه تفخيم شأن الحديث والتنبيه على أنه أوحي إليه قبل ذلك ﴿ حديث ضيف إبراهيم ﴾ ضيف في الأصل مصدر ولذا يطلق على الواحد والمتعدد قال البغوي اختلفوا في عددهم فقال ابن عباس وعطاء كانوا ثلاثة جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وقال محمد ابن كعب كان جبرئيل ومع سبعة وقال الضحاك كانوا تسعة وقال مقاتل كانوا اثني عشر ملكا، وقال السدي كانوا أحد عشر ملكا على صورة الغلمان الوضاء وجوههم ﴿ المكرمين ﴾ فيه إشارة إلى أن إبراهيم عليه السلام أكرمهم قبل أن يعرفهم حيث خدمهم بنفسه وأهله وعجل إليهم قراهم وذلك سنة المرسلين ودأب المهتدين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من كان يؤمن الله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره ) وفي رواية ( فلا يؤذ جاره ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليسكت ) رواه الشيخان في الصحيحين والترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة وفي الصحيحين من حديث أبي شريح الكعبي بلفظ ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته يوم وليلة والضيافة ثلاثة أيام فما بعد ذلك فهو صدقة ولا يحل له أن يثوي عنده حتى يحرجه ) وفي الصحيحين عن عبد الله ابن عمرو أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الإسلام خير ؟ قال :﴿ تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف ﴾ وقيل سماهم مكرمين لأنهم كانوا ملائكة كراما على الله تعالى قال الله تعالى :﴿ بل عباد مكرمون ﴾
﴿ إذا دخلوا ﴾ الظرف متعلق بالحديث أو الضيف أو المكرومين والضمير راجع إلى الضيف من حيث المعنى عليه أي على إبراهيم عليه السلام ﴿ فقالوا سلاما ﴾ أي نسلم عليك ﴿ قال ﴾ إبراهيم ﴿ سلام ﴾ أي عليكم سلام عدلا إلى الرفع بالابتداء لقصد الثبات حتى تحية أحسن من تحيتهم قال الله تعالى :﴿ وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها إن الله كان على كل شيء حسيبا ﴾ وجملة قال سلام استئناف كأنه في جواب ماذا قال إبراهيم حين سلموا عليه قرأ حمزة والكسائي سلم بكسر السين وسكون اللام بغير ألف والباقون بفتح السين واللام وألف بعدها المعنى واحد ﴿ قوم منكرون ﴾ أي أنتم قوم منكرون لا نعرفكم قال ابن عباس قال في نفسه هؤلاء قوم منكرون لا نعرفهم قال أبو العالية أنكر سلامهم في ذلك الزمان في تلك الأرض لأن السلام علم الإسلام
﴿ فراغ ﴾ أي ذهب وقال عطف على قال ﴿ إلى أهله ﴾ مبادرة في القرى ﴿ فجاء بعجل سمين ﴾ مشوي لأنه كان عامة ماله البقر
﴿ فقربه إليهم ﴾ بأن وضع بين أيديهم ليأكلوا فلم يأكلوا ﴿ قال ألا تأكلون ٢٧ ﴾ الهمزة للإنكار إن كان بعدما رأى أنهم لا يأكلون وإن كان في أول الأمر فالهمزة للعرض والحث على الأكل على طريقة الأدب
﴿ فأوجس ﴾ يعني أضمر ﴿ منهم خفية ﴾ أي خوفا لما رأى إعراضهم عن طعامه عن ابن عباس أنه وقع في نفسه أنهم ملائكة أرسلوا للعذاب ﴿ قالوا لا تخف ﴾ إنا رسل الله ﴿ وبشروه بغلام ﴾ يعني إسحاق عليه السلام ﴿ عليم ﴾ يكمل علمه إذا بلغ
﴿ فأقبلت امرأته ﴾ سارة ﴿ في صرة ﴾ أي صيحة، قيل لم يكن ذلك إقبالا من مكان إلى مكان وإنما هو كقول القائل أقبل يشتمني أي أخذت تصيح وعلى هذا التأويل قوله في صرة في محل النصب على المفعولية وإن كان المراد الإقبال من مكان إلى مكان فهي في محل النصب على الحال ﴿ فصكت وجهها ﴾ قال ابن عباس لطمت وجهها يعني جمعت أصابعها فضربت وجهها كما هو عادة النساء عند التعجب إذا أنكرت شيئا، وقيل وجدت حرارة دم الحيض فلطمت وجهها من الحياء ﴿ وقالت عجوز عقيم ﴾ يعني أتلد عجوز عقيم وكانت سارة لم تلد قبل ذلك وكانت بنت تسعين سنة
﴿ قالوا ﴾ أي الملائكة ﴿ كذلك قال ربك ﴾ يعني قال ربك قولا مثل ذلك الذي قلنا وإنما نخبرك من الله ﴿ إنه هو الحكيم ﴾ في صنعه ﴿ العليم ﴾ بما كان وما يكون فيكون قوله حقا وفعله محكما ولما علم إبراهيم أنهم ملائكة وأنهم لا ينزلون مجتمعين إلا لأمر عظيم
﴿ قال فما خطبكم ﴾ أي ما شأنكم وفيم أرسلتم ﴿ أيها المرسلون ﴾
قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين٥٨ } يعني قوم لوط كانوا يعملون الخبائث التي لم يسبقهم بها أحد من العالمين ؛ كانوا يأتون الرجال شهوة من دون النساء، ويقطعون السبيل، ويأتون في ناديهم المنكر، فأرسل الله إليهم أخاهم لوطا فكفروا به وقالوا أتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين، قال رب نجني من القوم الظالمين، وانصرني على القوم المفسدين، فأرسل الله إليهم الملائكة.
﴿ لنرسل عليهم حجارة من طين ٣٣ ﴾ متحجر وهو السجيل
﴿ مسومة ﴾ معلمة على كل واحد منها اسم من يهلك به ﴿ عند ربك للمسرفين ﴾ المجاوزين الحد في الفجور. قال ابن عباس : يعني المشركين ؛ فإن الشرك أسرف الذنوب وأعظمها.
﴿ فأخرجنا من كان فيها ﴾ أي في قرى قوم لوط وإضمارها عدم سبق ذكرها لكونها معلوما بالسياق ﴿ من المؤمنين ﴾ بلوط عليه السلام وذلك قوله تعالى قالوا يعني الملائكة ﴿ يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم ﴾
﴿ فما وجدنا فيها ﴾ أي في قرى قوم لوط ﴿ غير ﴾ أهل ﴿ بيت من المسلمين٣٦ ﴾.
يعني لوط وبناته وصفهم الله تعالى بالإيمان والإسلام جميعا لأنه ما من مؤمن إلا وهو مسلم
﴿ وتركنا فيها آية ﴾ علامة ﴿ للذين يخافون العذاب الأليم ﴾ المعتبرين بها وهي تلك الحجارة الواقعة في تلك القرى أو صخر منضود فيها أو ماء أسود منتن.
﴿ وفي موسى ﴾ عطف على قوله وتركنا فيها على معنى وجعلنا في إرسال موسى آية وهذا كقوله : علفتُها تبناً وماءً بارداً، يعني وسقيتها ماء باردا وهذا أقرب وأنسب مما قيل إنه معطوف على قوله وفي الأرض لبعده وعدم المناسبة في القصة ﴿ إذ أرسلنا ﴾ هذا الظرف متعلق بما تعلق به في موسى يعني جعلنا في موسى وقت إرسالنا إياه ﴿ إلى فرعون بسلطان مبين ﴾ حجة ظاهرة يعني معجزاته كالعصا واليد البيضاء والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والسنين وفلق البحر
﴿ فتولى ﴾ أي أعرض فرعون عن الإيمان ﴿ بركنه ﴾ أي بجمعه وجنوده الذين كان ينضو بهم ﴿ وقال ﴾ فرعون هو أي موسى ﴿ ساحر أو مجنون ﴾ قال أبو عبيدة أو بمعنى الواو والظاهر أنها بمعناه فإنه لما رأى علي يديه الخوارق قال ساحر ولما سمعه يقول مالا يدركه عقله السقيم زعم أنه مجنون وبين كلاميه منافاة، قال البيضاوي كأنه جعل ما ظهر منه من الخوارق منسوبا إلى الجن وتردوني أنه هل حصل ذلك باختياره وسعيه أو بغيرهما يعني إن كان باختياره فهو ساحر وإلا فهو مجنون
﴿ فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم ﴾ فأغرقناهم في اليم ﴿ وهو مليم ﴾ أي آت بما يلام عليه من الكفر والعناد والتكبر والجملة حال من الضمير المنصوب في أخذناه
﴿ وفي عاد ﴾ يعني تركنا في إهلاك عاد آية ﴿ إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم ﴾ وهي التي لا خير فيها ولا بركة ﴿ ولا تلقح شجرا ولا تحمل مطرا وكانت دبورا لقوله عليه الصلاة والسلام { نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور ﴾
﴿ ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم ٤٢ ﴾ يعني جعلت الأشياء كالرماد من الروم وهي البلى والتفتت
﴿ وفي ثمود ﴾ يعني تركنا في إهلاك ثمود آية ﴿ إذ قيل لهم ﴾ قال لهم صالح لما عقروا لناقة ﴿ تمتعوا ﴾ في دياركم ﴿ حتى حين ﴾ يعني ثلاثة أيام
﴿ فعتوا عن أمر ربهم ﴾ استكبروا عن امتثاله واتباع صالح والإيمان به ﴿ فأخذتهم الصاعقة ﴾ قرأ الكسائي الصعقة بإسكان العين من غير ألف والباقون بالألف بعد العين والصاعقة الموت وكل عذاب مهلك وصيحة العذاب والصعق محركة شدة الصوت كذا في القاموس أخذتهم بعد مضي الأيام الثلاثة ﴿ وهم ينظرون ﴾ أي يرون ذلك العذاب عيانا فأصبحوا في ديارهم جاثمين
﴿ فما استطعوا من قيام ﴾ للهرب بعد نزول العذاب قال قتادة لم ينهضوا من تلك الصرعة ﴿ وما كانوا منتصرين ﴾ أي ممتنعين منه أو منتقمين منا
﴿ وقوم نوح ﴾ قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي قوم بالجر عطفا على ثمود يعني تركنا في إهلاك قوم نوح آية والباقون بالنصب على أنه مفعول بفعل محذوف دل عليه السياق تقديره وأهلكنا قوم نوح ﴿ من قبل ﴾ أي من قبل قوم لوط وفرعون وجنوده وعاد وثمود ﴿ إنهم كانوا قوما فاسقين ﴾ خارجين عن الاستقامة بالكثر والمعاصي.
﴿ والسماء ﴾ منصوب بفعل مضمر يفسره ﴿ بنيناها بأييد ﴾ أي بقوة وقدرة ﴿ وإنا لموسعون ﴾ قال ابن عباس أي قادرون ومطيقون من الوسع بمعنى الطاقة كما في قوله تعالى ﴿ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ﴾ والجملة حال من فاعل بنينا وجملة والسماء عطف على في موسى، وقال الضحاك عنى به الأغنياء كما في قوله تعالى :﴿ على الموسع قدره ﴾ وفي رواية عن ابن عباس إنا لموسعون الرزق على خلقنا وقيل معناه لموسعون السماء أو ما بنيناها وبين الأرض
﴿ والأرض فرشناها ﴾ أي مهدناها ليستقروا عليها والتركيب نحو ما سبق ﴿ فنعم الماهدون ﴾ نحن
﴿ ومن كل شيء خلقنا زوجين ﴾ صنفين قلت ليس المراد تعين تعدد التثنية بل المراد تعدد أصناف المخلوقات يعني خلقنا من كل شيء أصناف ذات عدد فوق الواحد أدناه المثنى بل كان فرد منه ذو جهتين خير من وجه وشر من وجه معدوم بالذات واجب بالغير عاجز بالذات قادر بالغير ﴿ لعلكم تذكرون ﴾ لكي تذكروا وتعلموا أن تعدد من خواص الممكنات والواجب الذات لا يقبل التعدد والانقسام واجب وجوده لا يصادم وجوده العدم قادر لا عجز له
﴿ ففروا ﴾ من كل شيء إلى الله بالتوجه والمحبة والاستغراق وامتثال الأوامر وكسب السعادات حتى تخلصوا من النقائص والشرود وتفوزوا بالخيرات وتصعدوا مصاعد القرب ولكمال والفاء للسببية فإن التذكر والتدبر في شأن الممكنات والواجب تعالى يوجب الفرار منها إليه تعالى وهذه جملة بتقدير القول من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ليرتبط بما بعده يعني قل يا محمد ففروا إلى الله ﴿ إني لكم منه ﴾ أي من عذابه المترتب على غضبه وهجرانه وبعده وعصيانه ﴿ نذير مبين ﴾ بين كونه نذيرا من الله تعالى بالمعجزات أو مبين ما يجب أن يحذر عنه
﴿ ولا تجعلوا مع الله إلاها آخر ﴾ شريكا له في وجوب الوجود أو في استحقاق العبودية أو في كونه مقصودا لكم ومحبوبا مشتغلا به ﴿ إني لكم منه نذير مبين ٥٠ ﴾ للتأكيد أو الأول لتحذير الخواص عن مطلق التوجه والمحبة بغيرة تعالى والثاني لتحذير العوام عن الشرك والمعاصي كما يدل عليه السياق يعني إن لم تقدروا على الفرار من كل شيء من أنفسكم إلى الله تعالى فلا تجعلوا مع الله إلاها آخر في العبادة وامتثال الأوامر
﴿ كذلك ﴾ خبر مبتدأ محذوف أي شأنك مع قومك كذلك الشأن للرسل من قبلك مع أقوامهم ولما كان في التشبيه إبهاما فسره بقوله ﴿ ما أتى الذين من قبلهم ﴾ الضمير عائد إلى كفار مكة والمراد بالموصول كفار الأمم السابقة مفعول لآتي وفاعله ﴿ من رسول ﴾ من زائدة في النفي للاستغراق ﴿ إلا قالوا ﴾ استثناء مفرغ والمستثنى في محل النصب على الحالية من فاعل أتى أو مفعوله أو كليهما يعني ما أتاهم رسول من حال إلا حال قولهم ﴿ ساحر أو مجنون ﴾ خبر مبتدأ محذوف والجملة مقوله قالوا يعني قالوا هذا ساحر أو مجنون كما يقول لك قومك وجاز أن يكون مشار إليه بذلك تكذيبهم الرسول وتسميتهم إياه ساحرا مجنونا وجملة ما أتى علة التشبيه
﴿ أتواصوا ﴾ أي الآخرون من الكفار به بهذا القول يعني أوصى بعضهم بعضا بهذا القول حتى قالوا جميعا والاستفهام للإنكار والتوبيخ ﴿ بل هم قوم طاغون ٥٣ ﴾ إضراب عن التواصي من جميعهم بهذا القول لتباعد أيامهم إلى أن الجامع لهم على هذا القول مشاركتهم في الطغيان الحامل عليه وقوله كذلك إلى قوله طاغون معترضات لتسلية النبي صلى الله عليه وسلم وقوله فتول عنهم أي عن الكفار عطف على قل المقدرة يعني قل ففروا الخ
﴿ فتول عنهم ﴾ أي أعرض عن مجادلتهم بعدما كررت عليهم الدعوة فأبوا للإصرار والعناد ﴿ فما أنت بملوم ٥٤ ﴾ على الإعراض بعدما بذلت جهدك في البلاغ وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن منيع وابن راهويه والهيثم ابن كليب في مسانيدهم من طريق مجاهد عن علي عنه قال لما نزلت فتول عنهم فما أنت بملوم لم يبق منا أحد إلا أيقن بالهلاكة إذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتولى عنا فنزلت ﴿ وذكر ﴾ الآية فطابت أنفسنا
وأخرج ابن جرير عن قتادة قال ذكر لنا أنه لما نزلت فتول عنهم الآية اشتد على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأوا أن الوحي قد انقطع وأن العذاب قد حضروا فأنزل الله تعالى وذكر الآية كذا ذكر البغوي قول المفسرين وقوله تعالى ذكر عطف على قوله تول يعني لا تدع التذكير والموعظة ﴿ فإن الذكرى تنفع المؤمنين ﴾ تعليل لقوله تعالى ذكر يعني أن الذكر ينفع المؤمنين ويزداد لهم البصيرة وإن لم ينتفع الكفار أو المعنى تنفع من قدر الله إيمانه
﴿ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ٥٦ ﴾ أي إلا لأمرهم بعبادتي وأدعوهم إليه يعني للتكليف يؤيده قوله تعالى :﴿ وما أمروا إلا ليعبدوا إلاها واحدا ﴾ كذا ذكر البغوي قول علي رضي الله عنه قال مجاهد إلا ليعرفوا والكفار أيضا يعرفون وجوده تعالى حيث قال الله تعالى ﴿ ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ﴾ وقيل معناه إلا ليكونوا عبادا لي أو ليحضروا إلي ويتذللوا ومعنا العبادة في اللغة التذلل والانقياد وكل مخلوق من الجن والإنس خاضع لقضاء الله تعالى متذلل المشيئة لا يملك أحد لنفسه خروجا عما خلق له، وقيل إلا ليوحدون أما المؤمنون فيوحدون في الشدة والرخاء أما الكافرون فيوحدون في الشدة والبلاء دون النعمة والرخاء قال الله تعالى :﴿ فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين ﴾ قال صاحب المدارك الكفار كلهم يوحدون الله في الآخرة قال الله تعالى :﴿ ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين ٢٣ ﴾وإشراكهم في الدنيا وهي بعض أحيان وجودهم لا ينافي كونهم مخلوقين للتوحيد قلت والقول ما قال علي رضي الله عنه ما سواه أقوال ضعيفة واهية والذي حملهم على ما قالوا أن ظاهر الآية يقتضي أنهم خلقوا مرادا الطاعة وتخلف مراد الله تعالى محال وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( كل ميسر لما خلق له ) وقال الله تعالى :﴿ ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس ﴾ وقال الكلبي والضحاك وسفيان : هذا خاص لهل الطاعة من الفريقين يدل عليه قراءة ابن عباس ما خلقت الجن والإنس من المؤمنين إلا ليعبدون، وعندي تأويل الآية ما خلقت الجن والإنس إلا مستعدين للعبادة صالحين لها نظيره قوله صلى الله عليه وسلم ( ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء، ثم يقول فطرة التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ) متفق عليه من حديث أبي هريرة وهذا التأويل يناسب تأويل علي رضي الله عنه ومقتضى هذه الآية ذم الكفار لأجل إضاعتهم الفطرة السليمة هي أصل الخلقة
﴿ ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون ٥٧ ﴾ المراد أن شأنه تعالى مع عباده ليس شأن السادة مع عبيدهم فإنهم يملكونهم يستعينوا بهم في تحصيل رزقهم وكسب طعامهم والله تعالى منزه عن ذلك وقيل معناه ما أريد منهم أن يرزقوا أحدا من خلقي ولا أن يرزقوا أنفسهم وأن يطعموا أحدا من خلقي وينافي هذا التأويل إسناد الإطعام إلى نفسه واجب بأن الخلق عيال الله ومن أطعم عيال أحد فقد أطعمه كما جاء في الحديث ( يقول الله يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني قال يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين قال أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه إنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي ) رواه مسلم من حديث أبي هريرة في حديث ذكر فيه مرضت فلم تعدني واستسقيتك فلم تسقيني قلت هذا قول بالتجوز ومع ذلك يرد عليه أن الله تعالى أراد من المؤمنين وأمر الناس أجمعين بأداء زكاة أموالهم رزقا للفقراء وأن يطعموا أنفسهم وأهليهم ومن وجب عليهم نفقاتهم فكيف يقال ما أريد منهم أن يرزقوا اللهم إلا أن يقال المقصود من إيجاب الزكاة امتثال الأمر فعل الأداء دون الترزيق ومن هاهنا قال أبو حنيفة لا يجب الزكاة على الصبي والمجنون ولكن هذا الجواب لا يستقيم في العشر والخراج ونفقة الآباء والأولاد والزوجات فإن المقصود إيصال الرزق إلى العباد ولذا تجري فيها النيابة ويتأدى بأداء ولي الصبي
﴿ إن الله هو الرزاق ﴾ لجميع خلقه مستغن عنه ﴿ ذو القوة ﴾ على الترزيق وعلى كل ما أراد ﴿ المتين ﴾ شديدة المبالغ في القدرة قيل في تأويل الآية أن قوله تعالى :﴿ ما أريد منهم من رزق ﴾ الخ من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدر نقل يعني قل يا محمد ما أريد منهم أي من الناس من رزق نظيره ﴿ لا أسألكم عليه أجرا ﴾
قال بعض المحققين قوله تعالى :﴿ وما خلقت الجن والإنس ﴾بتقدير قل عطف على ذكر وإلى قوله تعالى ﴿ ذو القوة المتين ﴾ داخل في مقولة قل لا يقال كيف يصلح ما خلقت الجن الخ كلاما للرسول لأنا يقول هو على طريقة قول الملك للسفير قل إن الملك أمركم بكذا فيقول السفير بقول الملك إني آمركم بكذا أو أن الأمير يأمركم بكذا ومثل هذا متعارف
﴿ فإن للذين ظلموا ﴾ أنفسهم بالشرك والمعاصي وإضاعة الفطرة السليمة ووضع الكفران موضع العبادة التي كلفوا بها وخلقوا مستعدين لها ﴿ ذنوبا ﴾ أي نصيبا من العذاب وهو في الأصل الدلو العظيم الذي له ذنب واستعير للنصيب أخذ من مقاسمة السقاة الماء بالدلاء وقال الزجاج الذنوب في اللغة النصيب ﴿ مثل ذنوب أصحابهم ﴾ أي مثل نصيب نظرائهم من الأمم السابقة كعاد وثمود وفرعون وقوم نوح وقوم لوط والفاء للسببية تعليل لقوله فتول عنهم ﴿ فلا يستعجلون ﴾ الفاء أيضا للسببية يعني إذا سمعت وعيدي لكفار فهو يكفيك للتسلية فلا يستعجلوني في تعذيبهم وجاز أن يكون هذا خطابا بالكفار جوابا لقولهم متى هذا الوعد إن كنتم صادقين
﴿ فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون ٦٠ ﴾ يعني يوم القيامة وقيل يوم بدر الفاء للسببية لتحقق الوعيد والله تعالى أعلم.