تفسير سورة المجادلة

صفوة البيان لمعاني القرآن
تفسير سورة سورة المجادلة من كتاب صفوة البيان لمعاني القرآن .
لمؤلفه حسنين مخلوف . المتوفي سنة 1410 هـ
مدنية، وآياتها ثنتان وعشرون

بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ قد سمع الله قول التي تجادلك... ﴾ تراجعك الكلام في شأن زوجها وظهاره منها ؛ من المجادلة وهي المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة. وأصلها من جدلت الحبل : إذا أحكمت فتله.
﴿ وتشتكي ﴾ تظهر بثها وحزنها وتضرع﴿ إلى الله ﴾ في أمرها ؛ من الشكو. وأصله فتح الشكوة وإظهار ما فيها ؛ وهي سقاء صغير يجعل فيه الماء، ثم شاع فيما ذكر. نزلت في خولة بنت ثعلبة، وزوجها أوس بن الصامت، حين ظهر منها بقوله : أنت علي كظهر أمي. وكان ذلك في الجاهلية تحريما مؤبدا ؛ كما قدمنا أول سورة الأحزاب، وهو أو ظهار في الإسلام ؛ فشكت أمرها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها :( ما أراك إلا قد حرمت عليه ). فما زالت تجادله حتى نزلت الآيات الأربع. والسماع : كناية عن الإجابة والقبول. ﴿ والله يسمع تحاوركما ﴾ تراجعكما الكلام. يقال : حاورته، راجعته الكلام. وأحار الرجل الجواب. رده. وما أحار جوابا : ما رده.
﴿ الذين يظاهرون.... ﴾ أي يقولون لنسائهم : أنتن علينا كظهور أمهاتنا ؛ قاصدين بذلك تحريمهن على أنفسهم كتحريم أمهاتهم. ﴿ ما هن أمهاتهم ﴾ أي ليس نساؤهم، أمهاتهم على الحقيقة ؛ فهو كذب محض. ﴿ وإنهم ليقولون منكرا من القول ﴾ ينكره الشرع والعقل والطبع. ﴿ وزروا ﴾ كذبا وباطلا، منحرفا عن الحق.
﴿ والذين يظاهرون ﴾ تفصيل لحكم الظهار شرعا. ﴿ ثم يعودون لما قالوا ﴾ يرجعون عما قالوا فيريدون الوطء. أو يرجعون لتحليل ما حرموه على أنفسهم بالظهار. ﴿ فتحرير رقبة ﴾ فعليهم إعتاق رقبة. ﴿ من قبل أن يتماسا ﴾ أي يستمتع أحدهما بالآخر، فيحرم عليهما الجماع ودواعيه قبل التكفير. وتفصيل أحكام الظهار في الفقه.
﴿ إن الذين يحادون الله ورسوله... ﴾ نزلت في غزوة الأحزاب بشارة للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، أي إن أعداءكم المتحزبين القادمين عليكم سيكتبون ويذلون، ويتفرق جمعهم فلا تخشوا بأسهم. والمحادة : المعاداة، وأصلها أن تكون في حد يخالف حد صاحبك ؛ فيكنى بها عن المعاداة لكونها لازمة للمعاداة. ﴿ كبتوا ﴾ أي سيكبتون ويذلون أو يهلكون. يقال : كبت الله العدو كبتا – من باب ضرب – أهانه وذله، وكبته كبه، أي صرعه لوجهه.
﴿ أحصاه الله ﴾ أحاط بأعمالهم عددا، ولم يفته سبحانه منها شيء، والمراد : أنه أحاط بها علما. ﴿ والله على كل شيء شهيد ﴾ مطلع لا يغيب عنه أمر من الأمور أصلا.
﴿ ما يكون من نجوى ثلاثة... ﴾ أي ما يقع من تناجي ثلاثة، أي مسارتهم بالحديث بحيث لا يسمعه غيرهم﴿ إلا هو رابعهم ﴾ أي إلا هو تعالى يعلمه كأنه
حاضر معهم. مشاهد لهم ؛ كما يعلمه الرابع يكون معهم في التناجي أي ما يكونون في حال من الأحوال ثلاثة، إلا في حال تصيير الله تعالى لهم أربعة ؛ حيث إنه سبحانه يطلع على نجواهم. فالاستثناء مفرغ من أعم الأحوال. وكذلك يقال في قوله :﴿ إلا هو سادسهم ﴾، ﴿ إلا هو معهم ﴾. وخص الثلاثة والخمسة بالذكر لأن قوما من المنافقين تحلفوا للتناجي فيما بينهم مغايظة للمؤمنين. وكانوا مرة ثلاثة، ومرة خمسة ؛ فنزلت الآية تعريضا بالواقع.
﴿ ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى... ﴾ تعجيب للرسول صلى الله عليه وسلم من اليهود والمنافقين، فقد كانوا يتناجون فيما بينهم، ويتغامزون بأعينهم على المؤمنين ليغيظوهم، ويوهم بذلك أن أقاربهم قتلوا في الغزو ليحزنوهم، فنهاهم الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك ؛ فعادوا لم نهوا عنه، فنزلت الآية. ﴿ وإذا جاءوك حيوك... ﴾ وكان اليهود إذا جاءوا للنبي صلى الله عليه وسلم يحيونه بقولهم : السام عليك، يوهمون السلام ظاهرا، ويعنون الموت باطنا، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم :( وعليكم ) وهو يعلم ما يعنون ؛ فنزلت الآية. ﴿ ويقولون في أنفسهم ﴾ إذا خرجوا من عنده صلى الله عليه وسلم﴿ لولا يعذبنا الله بما نقول ﴾ هلا يعذبنا الله بسبب ذلك القول لو كان محمد نبيا ؟ أي لو كان نبيا حقا لعذبنا الله بما نقول له ! وأسند في الآية فعل البعض إلى اليهود والمنافقين جميعا لرضاهم به. ﴿ يصلونها ﴾ يدخلونها أو يقاسون حرها.
﴿ يأيها الذين آمنوا ﴾ بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم، وهم المنافقون.
﴿ إنما النجوى ﴾ المعهودة منكم فيما بينكم ومع اليهود﴿ من الشيطان ﴾ أي من تزيينه ووسوسته، ﴿ ليحزن الذين آمنوا ﴾ ليوقعهم في الحزن بما يحصل لهم من توهم أنها في نكبة أصابتهم. والحزن : الهم. يقال : حزنه – من باب قتل – جعل فيه حزنا ؛ فهو محزون وحزين كأحزنه. ﴿ وليس ﴾ الشيطان أو التناجي﴿ بضارهم شيئا إلا بإذن الله ﴾ بقضائه وقدره.
﴿ يأيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا... ﴾، أمر الله المؤمنين بما هو سبب للتواد والتوافق، إذا اجتمعوا في أي مجلس للخير والأجر : كحرب أو درس علم أو صلاة جمعة، أو عيد أو نحو ذلك ؛ ومنه مجلسه صلى الله عليه وسلم. أي إذا قال لكم قائل : توسعوا في المجالس ؛ فليفسح بعضكم لبعض، ولا تتضاموا فيها. يقال : فسحت له في المجلس فسحا – من باب نفع – فرجت له عن مكان يسعه. وتفسح القوم في المجلس : توسعوا فيه. ﴿ إذا قيل انشزوا فانشزوا ﴾ وقرئ بكسر الشين فيهما، وهما بمعنى واحد، أي وإذا قيل : ارتفعوا عن مواضعكم في المجالس للتوسعة على المقبلين ؛ فارتفعوا ولا تتثاقلوا. يقال : نشز ينشز وينشز – من بابي نصر وضرب – إذا ارتفع عن مكانه.
﴿ إذا ناجيتم الرسول ﴾ أي أردتم مسارته في أمر ما﴿ فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ﴾ للفقراء. روي عن ابن عباس أن الناس سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم وأكثروا حتى شق عليه ؛ فأراد الله أن يخفف على نبيه فأمرهم أن يقدموا صدقة على مناجاته. وعن مقاتل : أن الأغنياء كانوا يأتون النبي صلى الله عيه وسلم فيكثرون مناجاته، ويغلبون الفقراء على مجالسه ؛ حتى كره عليه الصلاة والسلام طول جلوسهم ومناجاتهم. فنزلت الآية، ولم يبين فيها مقدار الصدقة الواجبة ؛ ولعله ما يعد في العرف صدقة تسد حاجة الفقير. وقد أمر بها الواجد لها دون الفقير، واستمر الحكم زمنا قيل عشرة أيام، ثم نسخ بعد العمل به زمنا بقوله تعالى في الآية التالية :﴿ وتاب الله عليكم ﴾.
﴿ وتاب الله عليكم ﴾، حين شق الأمر على الأغبياء، وظهر منهم الخوف من الفقر إذا استمر الحكم ؛ وهم حريصون على المناجاة لشدة حاجتهم إليها. والآية الناسخة متأخرة في النزول، وإن كانت تالية للآية المنسوخة في التلاوة، والظاهر – والله أعلم - : أن الحادثة من باب الابتلاء والامتحان ؛ ليظهر للناس محب الدنيا من محب الآخرة ؛ والله بكل شيء عليم.
﴿ ألم تر إلى الذين تولوا قوما... ﴾ تعجيب من حال المنافقين الذين اتخذوا اليهود أولياء، يناصحونهم وينقلون إليهم أسرار المؤمنين. أي ألم تنظر إلى هؤلاء المنافقين الذين والوا اليهود المغضوب عليهم ؛ ما هم من المؤمنين ولا من اليهود، بل هم مذبذبون بين هؤلاء وهؤلاء.
﴿ اتخذوا أيمانهم ﴾ الفاجرة﴿ جنة ﴾ وقاية وسترة يدفعون بها عن أنفسهم وأموالهم ؛ من الجن وهو ستر الشيء عن الحاسة.
﴿ استحوذ عليهم الشيطان ﴾ استولى عليهم وغلبهم بوسوسته وتزيينه حتى اتبعوه ؛ من الحوذ، وهو أن يتبع السائق حاذي البعير، أي أدبار فخذيه فيعنف في سوقه. يقال : حاذ الإبل يحوذها، أي ساقها سوقا عنيفا، أو من قولهم : استحوذ العير على الأتان، أي استولى على حاذيها، أي جانبي ظهرها ؛ ثم أطلق على الاستيلاء.
﴿ يحادون ﴾ يعادون ويشاقون. ﴿ في الأذلين ﴾ أي في عداد أذل خلق الله تعالى، وهم حزب الشيطان. أما المؤمنون فلا يوادون إلا أحباب الله.
﴿ أولئك حزب الله ألا إن حزب الله ه المفلحون ﴾. والله أعلم.
Icon