سورة الأعراف مكية غير ثماني آيات من قوله :﴿ واسألهم ﴾ إلى قوله :﴿ وإذ نتقنا الجبل ﴾ وآيها مائتان وست.
ﰡ
﴿المص﴾ إمَّا مسرودٌ على نمطِ التعديدِ بأحد الوجهين المذكورين في فاتحةِ سُورةِ البقرةِ فلا محلَّ له من الإعرابِ وإمَّا اسمٌ للسُّورةِ فمحلُّه الرفعُ على أنه خبر مبتدأ محذوف والتقديرُ هذا ألمص أي مسمّىً به وتذكيرُ اسمِ الإشارة مع تأنيث المسمَّى لما أن الإشارةَ إليه من حيث إنه مسمى بالاسم المذكور لا من حيث أنه مسمّىً بالسورة وإنما صحت الإشارةُ إليه من حيث إنه مسمى بالاسم المذكور لا من حيث أنه مسمّىً بالسورة وإنما صحت الإشارةُ إليه معَ عدمِ سبْق ذكرِه لما أنه باعتبار كونِه بصدد الذكرِ صار في حكم الحاضِرِ المشاهَد وقوله عز وجل
﴿كِتَابٌ﴾ على الوجه الأولِ خبرُ مبتدأ محذوفٍ وهو ما ينبىء عنه تعديدُ الحروفِ كأنه قيل المؤلَّفُ من جنس هذه الحروفِ مراداً به السورةُ كتابٌ الخ أو اسمُ إشارةٍ أُشير به إليه تنزيلاً لحضور المؤلَّفِ منه منزلةَ حضورِ نفسِ المؤلّف أي هذا كتابٌ الخ وعلى الوجه الثاني خبرٌ بعد خبر جىء به غثر بيان كونه مترجما باسمٍ بديع مُنبىءٍ عن غرابته في نفسه إبانةً لجلالة محلهببيان كونِه فرداً من أفراد الكتبِ الإلهية حائزاً للكمالات المختصَّة بها وقد جُوّز كونُه خبراً وألمص مبتدأٌ أي المسمى المص كتابٌ وقد عرفتَ ما فيه من أن ما يُجعل عُنواناً للموضوعِ حقُه أنْ يكونَ قبلَ ذلكَ معلومَ الانتسابِ إليه عند المخاطَب وإذْ لا عهدَ بالتَّسميةِ قبلُ فحقُها الإخبارُ بها
﴿أَنزَلَ إِلَيْكَ﴾ أي من جهته تعالى بُني الفعل للمفعول جرياً على سَنن الكبرياءِ وإيذاناً بالاستغناء عن التصريح بالفاعل لغاية ظهورِ تعيُّنِه وهو السرُّ في ترك مبدأ الإنزال كما في قوله جل ذكره بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ ونظائرِه والجملةُ صفةٌ لكتاب مشرفة له ولم أُنزل إليه وجعلُه خبراً له على معنى كتابٌ عظيمُ الشأنِ أُنزل إليك خلاف الأصل
﴿فَلاَ يَكُن فِى صَدْرِكَ حَرَجٌ﴾ أي شك كما في قوله تعالى فَإِن كُنتَ فِي شك مما أنزلنا إليك خلا أنه عبّر عنه بما يلازمه من الحَرَج فإن الشاكَّ يعتريه ضيقُ الصدرِ كما أن المتيقِّنَ يعتريه انشراحه وانفساحه مبالغةً في تنزيه ساحتِه عليهِ الصَّلاةُ والسلام عن نسبة الشك إليه ولو في ضمن النهي فإنه من الأحوال القللبية التي يستحيل اعترؤها إياه وما قديقع من نسبته إليه في ضمن النمهي فعلى طريقةِ التهيجِ والإلهاب والمبالغةِ في التَّنفيرِ والتحذيرِ بإيهام أن ذلك من القُبحِ والشرِّية بحيثُ يُنهى عنه من لا يمكن صدوره عنه
209
الأعراف آية ٣
أصلاً فكيف بمَن يُمكن ذلك منه والتنوينُ للتحقير والجارُّ في قوله تعالى
﴿مِنْهُ﴾ متعلقٌ بحرَجٌ يقال حرِج منه أي ضاق به صدرُه أو بمحذوف وقع صفة له أي حرجٌ كائنٌ منه أي لا يكن فيك شك ما في حقِّيته أو في كونه كتاباً منزلاً إليك من عنده تعالى فالفاءُ على الأول لترتيب النهي أو النتهاء على مضمون الجملةِ فإنه مما يوجب انتفاءَ الشكِّ فيما ذُكر بالكلية وحصولَ اليقينِ به قطعاً وأما على الثاني فهي لترتيب ما ذُكر على الإخبار بذلك لا على نفسه فتدبرو توجيه النهي إلى الحرَج مع أن المراد نهيه عليه الصلام والسلام عنه إما لما مر من المبالغة في تنزيهِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ عن الشك فيما ذُكر فإن النهيَ عن الشيء مما يوهم إمكانَ صدورَ المنهي عنه عن المهي عنه وإما للمبالغة في النهي فإن وقوعَ الشكِّ في صدَره عليهِ الصَّلاة والسَّلام سبب لاتصافه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ به والنهيُ عن السبب نهيٌ عن المسبَّب بالطريق البرهاني ونفيٌ له من أصله بالمرة كما في قوله تعالى وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ الآية وليس هذا من قبيل لا أرينك ههنا فإن النهيَ هناك واردٌ على المسبب مرادا به النهيُ عن السبب فيكون المآل نهيهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عن تعاطي ما يُورِثُ الحرَجَ فتأملْ وقيل الحرجُ على حقيقته أي لا يكنْ فيك ضيقُ صدرٍ من تبليغه مخافةَ أن يكذّبوك وأن تُقصِّر في القيام بحقه فإنه عليه الصَّلاة والسَّلام كان يخاف تكذيبَ قومِه له وإعراضَهم عنه فكان يضيق صدرُه من الأداء ولا ينبسِطُ له فآمنه الله تعالى ونهاه عن المبالاة فالفاءُ حينئذ للترتيب على مضمون الجملةِ أو على الإخبار به فإنَّ كُلاًّ منهما موجبٌ للإقدام على التبليغ وزوالِ الخوفِ قطعاً وإن كان إيجابُه الثاني بواسطة الأول وقولُه تعالى
﴿لِتُنذِرَ بِهِ﴾ أي بالكتاب المنزل متعلقٌ بأُنزل وما بينهما اعتراضٌ توسّط بينهما تقريراً لمَا قبلَه وتمهيداً لما بعده وحسماً لتوهم أن موردَ الشكِّ هو الإنزالُ للإنذار وقيل متعلقٌ بالنهي فإن انتفاءَ الشكِّ في كونه منزلا من عنده تعالى موجبٌ للإنذار به قطعاً وكذا انتفاءُ الخوفِ منهم أو العلمُ بأنه موفقٌ للقيام بحقه موجبٌ للتجاسر على ذلك وأنت خبيرٌ بأنه لا يتأتى التفسير الأولِ لأن تعليلَ النهي عن الشك بما ذكر من الإنذار والتذكيرِ مع إيهامه لإمكان صدورِه عنه عليه الصلاة والسلام مُشعرٌ بأن المنهيَّ عنه ليس محذوراً لذاته بل لإفضائه إلى فوات الإنذارِ والتذكير لا أقل من الإيذان بأن ذلك معظمُ غائلتِه ولا ريب في فساده وأما على التفسير الثاني فإنما يتأتى التعليلُ بالإنذار لا بتذكير المؤمنين إذ ليس فيه شائبةُ خوفٍ حتى يُجعل غايةً لانتفائه وقوله تعالى
﴿وذكرى للمؤمنين﴾ في حين النصبِ بإضمار فعلِه معطوفاً على تنذرَ أي وتذكّرَ المؤمنين تذكيراً أو الجرِّ عطفاً على محلِّ إنَّ تنذرَ أي للإنذار والتذكير وقيل مرفوعٌ عطفاً على كتابٌ أو خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ وتخصيصُ التذكيرِ بالمؤمنين للإيذان باختصاص الإنذارِ بالكفرة أي لتنذرَ به المشركين وتذكرَ المؤمنين وتقديمُ الإنذار لأنه أهمُّ بحسب المقام
210
﴿اتبعوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم﴾ كلامٌ مستأنفٌ خوطب به كافةُ المكلفين بطريق التلوينِ وأُمروا باتباع ما أمر النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم قبله بتبليغه بطريق الإنذار والتذكيرِ وجعلُه منزلاً إليهم بواسطة إنزالِه إليه عليه الصلاة والسلام أثر ذكر ما يصححه من الإنذار والتذكير لتأكيد وجحوب اتباعه وقوله تعالى
210
الأعراف آية ٤
﴿مّن رَّبّكُمْ﴾ متعلقٌ بأُنزل على أن مِنْ لابتداء الغايةِ مجازاً أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً منَ الموصولِ أو مِنْ ضميره في الصلة وفي التعرُّض لوصفِ الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضمير المخاطَبين مزيدُ لطفٍ بهم وترغيبٌ لهم في الامتثال بما أُمروا به وتأكيدٌ لوجوبه وجعلُ ما أنزل ههنا عاما للسنة الوقلية والفعلية بعيدٌ نعم يعمُّهما حكمُه بطريق الدِلالةِ لا بطريق العبارة ولما كان اتباعُ ما أنزله الله تعالى اتباعاً له تعالى عُقّب الأمرُ بذلك بالنهي عن اتباع غيرِه تعالى فقيل
﴿وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ﴾ أي مِن دُونِهِ أي من دون ربكم الذي أنزل إليكم ما يهديكم إلى الحق ومحلُّه النصبُ على أنَّه حال من فافعل فعلُ النهي أي لا تتبعوا متجاوزين الله تعالى
﴿أَوْلِيَاء﴾ من الجن والإنسِ بأن تقبلوا منهم ما يُلْقونه إليكم بطريق الوسوسةِ والإغواءِ من الأباطيل ليضلّوكم عن الحق ويَحمِلوكم على البدع والأهواءِ الزائغةِ أو مِنْ أولياءَ قُدِّم عليه لكونه نكرةً إذ لو أُخِّرَ عنه لكانَ صفةً لهُ أيْ أولياءَ كائنةً غيرَه تعالى وقيل الضميرُ للموصول على حذف المضافِ في أولياء أي ولا تتبعوا من دون ما أَنزل أباطيلَ أولياءَ كأنه قيل ولا تتبعوا من دون دينِ ربِّكم دينَ أولياءَ وقرىء ولا تبتغوا كما في قوله تعالى وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا وقولُه تعالى
﴿قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ﴾ بحذفِ إحدى التَّاءينِ وتخفيفِ الذال وقرىء بتشديدها على إدغام التاء لمهموسة في الذال المجهورة وقرىء يتذكرون على صيغة الغَيبة وقليلاً نُصب إما بما بعده على أنه نعتٌ لمصدر محذوفٍ مقدَّمٍ للقصر أو لزمانٍ كذلك محذوفٍ ومكا مزيدةٌ لتأكيدِ القِلة أي تذكراً قليلاً أو زماناً قليلاً تذكرون لا كثيراً حيث لا تتأثرون بذلك ولا تعملون بموجبه وتتركون دينَ الله تعالى وتتبعون غيرَه ويجوز أن يُراد بالقِلة العدمُ كما قيل في قوله تعالى فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ والجملة اعتراضٌ تذييليٌّ مسوقٌ لتقبيح حالِ المخاطَبين والالتفاتُ على القراءة الأخيرةِ للإيذان باقتضاء سوءِ حالِهم في عدم الامتثالِ بالأمر والنهي صرفِ الخطابِ عنهم وحكايةِ جناياتِهم لغيرِهم بطريق المبالة وإما نُصبَ على أنه حالٌ من فاعل لا تتبعوا وما مصدريةٌ مرتفعةٌ به أي لا تتبعوا من دونه أولياءَ قليلاً تذكّرُكم لكن لا على توجيه النهي إلى المقيد فقط كما في قولِه تعالى لا تقربوا الصلوة وَأَنتُمْ سكارى بل إلى المقيد والقيدِ جميعاً وتخصيصُه بالذكر لكمزيد تقبيحِ حالِهم بجمعهم بين المنكرين
211
﴿وَكَم مّن قَرْيَةٍ أهلكناها﴾ شروعٌ في إنذارهم بما جرى على الأمم الماضيةِ بسبب إعراضِهم عن اتباع الله تعالى وإصرارِهم على اتباع دينِ أوليائِهم وكم خبربة للتكثير في موضع رفعٍ على الابتداء كما في قولك زيدٌ ضربته والخبرُ هو الجملةُ بعدها ومن قرية تمييزٌ والضميرُ في أهلكناها راجعٌ إلى معنى كم أي كثيرٌ من القرى أهلكناها أو في موضع نصب بأهلكناها كما في قوله تعالى إِنَّا كُلَّ شَىْء خلقناه بِقَدَرٍ والمرادُ بإهلاكها إرادةُ إهلاكِها كما في قوله تعالى إذا قمتم إلى الصلوة أي أردنا إهلاكَها
﴿فَجَاءهَا﴾ أي فجاء أهلَها
﴿بَأْسُنَا﴾ أي عذابُنا بَيَاتًا مصدرٌ بمعنى الفاعل واقعٌ موقعَ الحال أي بائتين كقوم لوطٍ
﴿أَوْ هُمْ قَائِلُونَ﴾ عطف عليه أي أو قائلين من القيلولة نصفَ النهار كقوم شعيب وإنما حُذفت الواو من الحال المعطوفةِ على أختها استثقالاً لاجتماع العاطفَين فإن واو الحال حرفُ عطفٍ قد استعيرت للوصل لا اكتفاءً بالضمير كما في جاءني زيد هو فارس
211
الأعراف آية ٥ ٨
فإنه غيرُ فصيح وتخصيصُ الحالتين بالعذاب لما أن نزولَ المكروهِ عند الغفلة والدعَةِ أفظعُ وحكايتَه للسامعين أزجرُ وأردَعُ عن الاغترار بأسباب الأمن والراحةِ ووصفُ الكلِّ بوصفي البياتِ والقيلولة مع أن بعضَ المُهلَكين بمعزل منهما لا سيما القيلولةِ للإيذان بكمال غفلتِهم وأمنِهم
212
﴿فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ﴾ أي دعاؤهم واستغاثتُهم ربَّهم أو ما كانوا يدّعونه من دينهم وينتحِلونه من مذهبهم ﴿إِذْ جَاءهُم بَأْسُنَا﴾ عذابُنا وعاينوا أمارته ﴿إِلاَّ أَن قَالُواْ﴾ جميعاً ﴿إِنَّا كُنَّا ظالمين﴾ أي إلا اعترافَهم بظلمهم فيما كانوا عليه وشهادتَهم ببطلانه تحسراً عليه وندامةً وطمعاً في الخلاص وهيهاتَ ولاتَ حين نجاة
﴿فلنسألن الذين أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ﴾ بيانٌ لعذابهم الأخرويِّ إثرَ بيانِ عذابِهم الدنيويِّ خلا أنه قد تعرض لبيان مبادي أحوالِ المكلفين جميعاً لكونه أدخلَ في التهويل والفاءُ لترتيب الأحوالِ الأخرويةِ على الدنيوية ذِكراً حسَبَ ترتبها عليها وجوداً أي لنسألن الأممَ قاطبةً قائلين ماذا أجبتم المرسلين ﴿وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِين﴾ عما أُجيبوا قال تعالى يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ والمرادُ بالسؤال توبيخُ الكفرة وتقريعُهم والذي نُفيَ بقوله تعالى وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ المجرمون سؤالُ الاستعلامِ أو الأولُ في موقف الحساب والثاني في موقف العقاب
﴿فَلَنَقصَنَّ عَلَيهِم﴾ أي على الرسل حين يقولن لا علم لنا إِنَّكَ أَنتَ علامُ الغيوب أو عليهم وعلى المرسَل إليهم جميعاً ما كانوا عليه ﴿بِعِلْمِ﴾ أي عالمين بظواهرهم وبواطنهم أو بمعلومنا منهم ﴿وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ﴾ عنهم في حالٍ من الأحوالِ فيخفى علينا شيءٌ من أعمالهم وأحوالِهم والجملةُ تذييلٌ مقرِّر لما قبلها
﴿والوزن﴾ أي وزنُ الأعمالِ والتمييزُ بين راجحِها وخفيفِها وجيّدِها ورديئها ورفعُه على الابتداءِ وقولُه تعالَى
﴿يَوْمَئِذٍ﴾ خبرُه وقوله تعالى
﴿الحق﴾ صفتُه أي والوزنُ الحقُّ ثابتٌ يومَ إذ يكون السؤالُ والقَصّ وقيل خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ كأنَّهُ قيل ما ذلك الوزن فقيل الحقُّ أي العدلُ السويُّ وقرىء القسطُ واختُلف في كيفية الوزن والجمهورُ على أن صحائفَ الأعمالِ هي التي توزن بميزان له لسانٌ وكِفّتان ينظُر إليه الخلائق إظهار للمعادلة وقطعاً للمعذرة كما يسألهم عن أعمالهم فتعترف بها ألسنتُهم وجوارحُهم ويشهد عليهم الأنبياءُ والملائكةُ والأشهادُ وكما يُثبَتُ في صحائفهم فيقرءونها في موقف الحساب ويؤيده ما رُوي أن الرجلَ يؤتى به الميزان فيُنشر له تسعةٌ وتسعون سجلا مدج البصر فيخرُج له بطاقةٌ فيها كلمتا الشهادة فتوضَع السجلات في في كِفة والبِطاقةُ في كفة فتطيش السجلاتُ وتثقُل البطاقةُ وقيل يوزن الأشخاصُ لما رُوي عنْهُ عليهِ الصَّلاةُ والسلام أنه ليأتي العظيمُ السمينُ يوم القيامة لا يزنُ عندَ الله جناحَ بعوضةٍ وقيل
212
الأعراف آية ٩
الوزنُ عبارةٌ عن القضاءِ السويِّ والحُكمُ العادلُ وبهِ قال مجاهدٌ والأعمشُ والضحاكُ واختارَهُ كثيرٌ من المتأخرينَ بناءً على أن استعمالَ لفظِ الوزنِ في هذا المعنى شائعٌ في اللغة والعُرفِ بطريق الكناية قالوا إن الميزانَ إنما يُراد به التوصلُ إلى معرفة مقاديرِ الشيءِ ومقاديرُ أعمالِ العباد لا يمكن إظهارُها بذلك لأنها أعراضٌ قد فَنِيَت وعلى تقدير بقائها لا تَقبل الوزن وقيلَ إن الأعمالَ الظاهرةَ في هذه النشأةِ بصور عرضيةٍ تبرُز في النشأة الآخرة بصور جوهريةٍ مناسبةٍ لها في الحسن والقبحِ حتى إنَّ الذنوبَ والمعاصيَ تتجسم هناك وتتصورُ بصورةِ النَّارِ وعَلى ذلكَ حُمل قولُه تعالى وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين وقوله تعالى الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً وكذا قولُه عليه الصلاة والسلام في حقِّ مَنْ يشربُ من إناء الذهبِ والفضةِ إنما يُجرجِر في بطنِه نارَ جهنمَ ولا يعد في ذلكَ ألا يُرى أن العلمَ يَظهر في عالم المثال على سورة اللبنِ كما لا يَخْفى عَلَى مَنْ له خِبرةٌ بأحوالِ الحضَراتِ الخمس وقد رُوي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه يؤتى بالأعمال الصالحة على صور حسنة وزبالأعمال السيئةِ على صورٍ قبيحةٍ فتوضع في الميزان إن قيل إن المكلّف يوم القيامةِ إما مؤمنٌ بأنه تعالى حكيمٌ منزَّهٌ عن الجور فيكفيه حكمِه تعالى بكيفيات الأعمالِ وكمياتها وإما منكِرٌ له فلا يسلمُ حينئذ أن رجحانَ بعضِ الأعمالِ على بعض الخصوصيات راجعةٍ إلى ذوات تلك الأعمالِ بل يُسنده إلى إظهار الله تعالى إياه على ذلك الوجه فما الفائدةُ في الوزن أجيب بأنه ينكشف الحالُ يومئذ وتظهر جميعُ الأشياء بحقائقها على ما هي عليه وبأوصافها وأحوالِها في أنفسها من الحسن والقبحِ وغيرِ ذلك وتنخلع عن الصور المستعارةِ التي بها ظهرت في الدنيا فلا يبقى لأحد ممن يشاهدَها شُبهةٌ في أنها هي التي كانت في الدُّنيا بعينها وأن كل واحد منها قد ظهر في هذه النشأة بصورته الحقيقة المستتبِعةِ لصفاته ولا يخطُر بباله خلافُ ذلك والله تعالى أعلم
﴿فَمَن ثَقُلَتْ موازينه﴾ تفصيلٌ للأحكام المترتبة على الوزن والموازينُ إما جمعُ ميزانٍ أو جمعُ موزونٍ على أن المرادَ به ما له وزنٌ وقدْرٌ وهو الحسنات فإن رجحان أحدهما مستلزم لرجحان الآخَر أي فمَنْ رجَحت موازينُه التي توزن بها حسناتُه أو أعمالُه التي لها قدْرٌ وزنة وعن الحسن البصري وحُقّ لميزان توضع فيه الحسنات أن يقل وحُقّ لميزانٍ توضع فيه السيئاتُ أن يخِفّ
﴿فَأُوْلَئِكَ﴾ إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافِه بثقل الميزانِ والجمعيةُ باعتبار معناه كما أن جمعَ الموازينِ لذلك وأما ضميرُ موازينِه فراجعٌ إليه باعتبار لفظِه وما فيه من معنى البُعدِ للإيذانِ بعلوِّ طبقتهم وبُعدِ منزلَتهِم في الفضلِ والشرف
﴿هُمْ المفلحون﴾ الفائزون بالنجاة والثوابِ وهم إما ضميرُ فصلٍ يفصِلُ بين الخبر والصفةِ ويؤكد النسبةَ ويفيد اختصاصَ المسندِ بالمسند إليه أو مبتدأٌ خبرُه المفلحون والجملةُ خبرٌ لأولئك وتعريفُ المفلحون للدِلالة على أنهم الناسُ الذين بلغك أنهم مُفلحون في الآخرة أو إشارةٌ إلى ما يعرِفه كلُّ أحد من حقيقة المفلحين وخصائصِهم
213
﴿وَمَنْ خَفَّتْ موازينه﴾ أي موازينُ أعمالِه أو أعمالُه التي لا وزن لها ولا اعتدادَ بها وهب أعْمالُه السيئة
﴿فَأُوْلَئِكَ﴾ إشارةٌ إليهم باعتبارِ اتصافِهم بتلك الصفة القبيحةِ والجمعيةُ ومعنى البُعدِ لما مر آنفاً في نظيره وهو مبتدأٌ خبره
213
الأعراف ١٠ ١١
﴿الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم﴾ أي ضيّعوا الفطرةَ السليمةَ التي فُطروا عليها وقد أُيّدت بالآيات البينة وقولُه تعالى
﴿بِمَا كَانُواْ بآياتنا يَظْلِمُونَ﴾ متعلق بخسر وما مصدريةٌ وبآياتنا متعلقٌ بيظلمون على تضمين معنى التكذيب قد عليه لمراعاة الفواصلِ والجمعُ بين صيغتي الماضي والمستقبلِ للدَلالةِ على استمرار الظلمِ في الدنيا أي فأولئك الموصوفون بخفة الموازين الذين خسروا أنفسَهم بسبب تكذيبِهم المستمر بآياتنا ظالمين
214
﴿وَلَقَدْ مكناكم فِى الارض﴾ لما أمر الله سبحانه أهلَ مكةَ باتباع ما أنزل إليهم ونهاهم عن اتباع غيرِه وبيّن لهم وخامةَ عاقبتِه بالإهلاك في الدنيا والعذاب المخلّد في الآخرة ذكّرهم ما أفاض عليهم من فُنونِ النعمِ الموجبةِ للشكر ترغيباً في الامتثال بالأمر والنهي إثرَ ترهيبِ أي جعلنا لكم فيها مكاناً وقراراً أو ملكناكم فيها وأقدرناكم على التصرف فيها ﴿وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا معايش﴾ المعايشُ جمعُ معيشةٍ وهي ما يُعاش به من المطاعم والمشاربِ وغيرِها أو ما يُتوصَّل به إلى ذلك والوجهُ في قراءته إخلاصُ الياء وعن ابن عامرٍ أنه همزة تسبيها له بصحائف ومدائن والجعلُ بمعنى الإنشاء والإبداع أي أنشأنا وأبدعنا لمصالحكم ومنافعِكم فيها أسباباً تعيشون بها وكلُّ واحد من الظرفين متعلقٌ به أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً من مفعولِه المنكر إذلو تأخرَ لكانَ صفةً لهُ وتقديمها على المفعول مع أن حقهما التأخيرُ عنه لما مر غير مرة من الاعتناء بشأ المقدمِ والتشويقِ إلى المؤخرِ فإنَّ النفسَ عند تأخيرِ ماحقه التقديمُ لا سيَّما عند كونِ المقدم منبئاً عن منفعة للسامع تبقى مترقبةً لورود المؤخَّرِ فيتمكن فيها عند الورود فضل تمكن وأمات تقديمُ اللامِ على في فلما أنه المنبىءُ عما ذُكر من المنفعة فالاعتناءُ بشأنه أتمُّ والمسارعةُ إلى ذكره أهم هذا وقد قيلَ إنَّ الجعلَ متعدَ إلى مفعولين ثانيهما أحدُ الظرفين على أنه مستقر قُدّم على الأول والظرفُ الآخَرُ إما لغوٌ متعلقٌ بالجعل أو بالمحذوف الواقع حالاً من المفعول الأولِ كما مر وأنت خبيرٌ بأنه لا فائدةَ معتدٌّ بها في الإخبار بجعل المعايشِ حاصلةً لهم أو حاصلةً فِى الارض وقولُه تعالى ﴿قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ﴾ أي تلك النعمةَ تذييلٌ مَسوقٌ لبيان سوءِ حالِ المخاطبين وتحذيرِهم وبقيةُ الكلامِ فيه عينُ ما مرَّ في تفسيرِ قولِه تعالى قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ
﴿وَلَقَدْ خلقناكم ثُمَّ صورناكم﴾ تذكيرٌ لنعمة عظيمةٍ فائضةٍ على آدمَ عليهِ السَّلامُ ساريةٍ إلى ذريته موجبةٍ لشكرهم وتأخيرُه عن تذكير ما وقع قبله من نعمة التمكين في الأرض إما لأنها فائضةٌ على المخاطَبين بالذات وهذه بالواسطة وإما للإيذان بأن كلا منها نعمةٌ مستقلةٌ مستوجِبةٌ للشكر على حيالها فإن رعايةَ الترتيبِ الوقوعيِّ ربما تؤدِّي إلى توهّم عدِّ الكلِّ نعمةً واحدةً كمَا ذكر في قصة البقرة وتصديرُ الجملتين بالقسم وحرفِ التحقيقِ لإظهار كمالِ العناية بمضمونهما وإنما نُسب الخلقُ والتصويرُ إلى المخاطَبين مع أن المرادَ بهما خلقُ آدم عليه السلام وتصويرُه حتماً توفيةً لمقام الامتنانِ حقَّه وتأكيداً لوجوب الشكر عليهم
214
الأعراف آية ١١
بالرمز إلى أن لهم حظاً من خلقه عليه السلام وتصويرِه لما أنهما ليسا من الخصائص المقصورة عليه عليه السلام كسجود الملائكةِ له عليه السلام بل من الأمور الساريةِ إلى ذريته جميعاً إذ الكلُّ مخلوقٌ في ضمن خلقِه على نمطه ومصنوعٌ على شاكلته فكأنهم الذي تعلق به خلقُه وتصويرُه أي خلقنا أباكم آدمَ طيناً غيرَ مُصوَّرٍ ثم صوَّرناه أبدعَ تصويرٍ وأحسنَ تقويمٍ سارَ إليكم جميعاً
﴿ثُمَّ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمَ﴾ صريحٌ في أنه ورد بعد خلقَه عليه الصَّلاة والسَّلام وتسويتِه ونفخِ الروحِ فيه أمرٌ مُنجَزٌ غيرُ الأمر المعلَّق الواردِ قبل ذلك بقوله تعالى فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ ساجدين وهو المراد بما حكي بقوله تعالى وَإِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لاِدَمَ الآية في سُورةِ البقرةِ وسُورة بني إسرائيلَ وسورة الكهفِ وسورة طه من غير تعرضٍ لوقته وكلمة ثم ههنا تقتضي تراخِيَه عن التصوير من غيرِ تعرضٍ لبيانِ ما جرى بينهما من الأمور وقد بينا في سورة البقرةِ أن ذلك ظهورُ فضلِ آدمَ عليه السلام بعد المحاورة المسبوقةِ بالإخبار باستخلافه عليه السلام حسبما نطق به قوله عز وجل وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة إِنّي جَاعِلٌ فِى الأرض خَلِيفَةً إلى قوله وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ فإن ذلك أيضاً من جملة ما نيط به الأمرُ المعلقُ من القسوية ونفخِ الروح وعدمُ ذكرِه عند الحكايةِ لا يقتضي عدمَ ذكره عند وقوعِ المحكيِّ كما أن عدمَ ذكر الأمر المعلق عند حكاية ألمر المنْجزِ لا يستلزمُ عدمَ مسبوقيتِه به فإن حكايةَ كلامٍ واحدٍ على أساليب مختلقة يقتضيها ليست بعزيزة في الكلام العزيزِ فلعله قد ألقى إلى الملائكة عليهم السلام أولا جميعُ ما يتوقفُ عليه الأمرُ المنجزُ إجمالاً بأن قيل مثلاً إني خالقٌ بشراً من طين وجاعلٌ إياه خليفةً في الأرض فإذا سويتُه ونفختُ فِيهِ مِن رُّوحِى وتبيَّن لكم فضلُه فقَعوا له ساجدين فخلقه فسوَّاه فنفخ فيه من روحه فقالوا عند ذلك ما قالوا أو ألقيَ إليهم خبرُ الخلافةِ بعد تحققِ الشرائطِ المذكورةِ بأن قيل إثرَ نفخِ الروحِ إني جاعلٌ هذا خليفةً في الأرض فهنالك ذكروا في حقه عليه السلام ما ذكروا فأيده الله تعالى بتعليم الأسماءِ فشاهدوا منه عليه السلام ما شاهدوا فعند ذلك ورد الأمر من المنْجزُ اعتناء بشأن المأمور به وإيذاناً بوقته وقد حُكي بعضُ الأمور المذكورة في بعض المواطنِ وبعضُها في بعضِها اكتفاء بما ذكر في كل موطنٍ عما تُرك في موطن آخرَ والذي يرفع غشاوةَ الاشتباهِ عن البصائر السليمةِ أن ما في سورة ص من قوله تعالى إِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة الآياتن بدلٌ من قولِه إِذْ يَخْتَصِمُونَ فيما قبله من قوله مَا كَانَ لِىَ مِنْ عِلْمٍ بالملإ الاعلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ أي بكلامهم عند اختصامِهم ولا ريب في أن المرادج بالملأ الأعلى وآدمُ عليهم السَّلامُ وإبليسُ حسبما أطيق عليه جمهورُ المفسرين وباختصامِهم ما جرى بينهم في شأن الخلافةِ من التقاول الذي من جملته ما صدر عنه عليه السلام من الإنباء بالأسماء ومن قضية البدلية وقوعُ الاختصامِ المذكورِ في تضاعيف ما شُرح فيه مفصّلاً من الأمر المعلّق وما علق به من الخلق والتسويةِ ونفخِ الروحِ فيه وما ترتب عليه من سجود الملائكةِ وعنادِ إبليسَ ولعنِه وإخراجِه من بَيْن الملائكةِ وما جرى بعده من الأفعالِ والأقوالِ وإذ ليس تمامُ الاختصامِ بعد سجودِ الملائكة ومكابرةِ إبليسَ وطردِه من أنه أحدُ المختصِمين كما أنه ليس قبل الخلق ضرورة فإذن هو بعد نفخِ الروحِ وقبل السجودبأحد الطريقين المذكورين والله تعالى أعلم
﴿فَسَجَدُواْ﴾ أي الملائكةُ عليهم السَّلامُ بعد الأمرِ من غير تلعثم
﴿إِلاَّ إِبْلِيسَ﴾ استثناءٌ متَّصل
215
الأعراف آية ١٢
لما أنه كانَ جنِّياً مفرَداً مغموراً بألوفٍ من الملائكة متصفاً بصفاتهم فغَلبوا عليه في فسجدوا ثمَّ استُثنِيَ استثناءَ واحدٍ منُهم أو لأنَّ من الملائكة جنساً يتوالدون يقال لهم الجنُّ كما مر في سورة البقرة فقوله تعالى
﴿لَمْ يَكُن مّنَ الساجدين﴾ أي ممن سجد لآدمَ كلامٌ مستأنفٌ مبين لكيفية عدمِ السّجودِ المفهومِ من الاستثناءِ فإن عدم السجود قد يكون للتأمل ثم يقع السجودُ وبه عُلم أنه لم يقعْ قطُّ وقيل منقطعٌ فحينئذ يكون متصلاً بما بعده أي لكن إبليس لم يكن من الساجدين
216
﴿قَالَ﴾ استئنافٌ مَسوقٌ للجواب عن سؤالٍ نشأَ من حكايةِ عدم سجوده كأنَّه قيلَ فماذَا قالَ الله تعالى حينئذ وبه يظهر وجهُ الالتفاتِ إلى الغَيبة إذ لا وجهَ لتقدير السؤال على وجه المخاطبة وفيه فائدةٌ أخرى هي الإشعارُ بعدم تعلقِ المحكيِّ بالمخاطَبين كما في حكاية الخلْقِ والتصوير
﴿مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ﴾ أي أن تسجُد كما وقعَ في سورةِ ص ولا مزيدةٌ مؤكدةٌ لمعنى الفعل الذي دخلت عليهِ كما في قولِهِ تعالى لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب منبّهةٌ على أن الموبَّخَ عليه تركُ السجود وقيل الممنوعُ عن الشيء مصروفٌ إلى خلافه فالمعنى ما صرفك إلى أن لا تسجد
﴿اذ أَمَرْتُكَ﴾ قيل فيه دلالةٌ على أن مُطلقَ الأمرِ للوجوب والفور وفي سورة الجن يا إبليس مالك أن لا تكون مَعَ الساجدين وفي سورة ص مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ واختلافُ العبارات عند الحكاية دل على أن اللعينَ قد أدمج في معصية واحدة ثلاث معاص مخالفة الأملار ومفارقة الجماعة والإباء عن الانتظامِ في سلكِ أولئك المقرّبين والاستكبارَ مع تحقير آدمُ عليه السلام وقد وُبِّخ حينئذ على كل واحدة منها لكن اقتُصر عند الحكاية في كل موطن على ما ذكر يه اكتفاء بما ذكر في موطن آخر واشعار بأن كل واحدةٍ منها كافيةٌ في التوبيخ وإظهار بطلان ما ارتكبه وقد تُركت حكايةُ التوبيخ رأسا في سُورةِ البقرةِ وسُورة بني إسرائيلَ وسورة الكهلف وسورة طه
﴿قَالَ﴾ استئنافٌ كما سبق مبنيٌّ على لا سؤالٍ نشأَ من حكايةِ التوبيخِ كأنَّه قيلَ فماذَا قالَ اللعينُ عند ذلكَ فقيل قال
﴿أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ﴾ متجانفاً عن تطبيق جوابِه على السؤال بأن يقول معنى كذا مدّعياً لنفسه بطريق الاستئنافِ شيئاً بيِّنَ الاستلزامِ لمنعهِ من السُّجودِ على زعمه ومشعِراً بأن مَنْ شأنُه هذا لا يحسُن أن يسجُدَ لمن دونه فكيف يحسُن أن يؤمرَ بهِ كما يُنبىء عنْهُ ما في سورة الحِجْرِ من قولُه
﴿لَمْ أَكُن لاِسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِّن صلصال مّنْ حَمَإٍ مسنون﴾ فهو أولُ من أسس بنيانَ التكبر واخترع القولَ بالحسن والقبح العقلين وقولُه تعالَى
﴿خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾ تعليلٌ لما ادَّعاهُ من فضله عليه ولقد أخطأ اللعينُ حيث خَصّ الفضلَ بما من جهةِ المادةِ والعنصُر وزلَّ عنه ما من جهة الفاعل كَمَا أنبأَ عَنْهُ قولِهِ تعالى مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ أَي بغير واسطةٍ على وجه الاعتناءِ به وما من جهة الصُّورة كما نُبّه عليه بقوله تعالى وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى وما من جهة الغايةِ وهو ملاكُ الأمرِ ولذلك أمر الملائكة بالسجود له عليه السَّلامُ حين ظهرَ لهم أنَّه أعلمُ منهم بما يدور عليه أمرُ الخلافةِ في الأرضِ وأنَّ له خواصَّ ليست لغيره وفي الآية دليلٌ على الكون والفساد وأن الشياطينَ أجسامٌ كائنةٌ ولعل إضافةَ خلق البشرِ إلى الطين والشياطينِ إلى النار باعتبار الجزء الغالب
216
﴿قال﴾ استئناف كما سلف والفاء في قوله تعالى ة ﴿فاهبط مِنْهَا﴾ لترتيب الأمرِ على ما ظهر من اللَّعينِ من مخالفة الأمرِ وتعليلِه بالأباطيل وإصرارِه على ذلك أي فاهبِطْ من الجنة والإضمار قبل ذكرِها لشهرة كونِه من سكانها قال ابن عباس رضي الله عنهما كانوا في عدْنٍ لا في جنة الخلد وقيل من زمرة الملائكة المعززين فإن الخروجَ من زمرتهم هبوطٌ وأيُّ هبوط وفي سورة الحجر فاخرج مِنْهَا وأما ما قيل من أن المرادَ الهبوطُ من السماء فيردّه أن وسوستَه لآدمَ عليه السلام كانتْ بعد هذا الطردِ فلا بد أن يُحمل على أحد الوجهينقطعا وتكونُ وسوستُه على الوجه الأول بطريق النداءِ من باب الجنة كما رُوي عن الحسنِ البصري وقوله تعالى ﴿فَمَا يَكُونُ لَكَ﴾ أي فما يصح ولا يستقيم لك ولا يليقُ بشأنك ﴿أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا﴾ أي في الجنةِ أو في زمرة الملائكة تعليلٌ للأمر بالهبوط فإن عدمَ صحةِ أن يتكبر فيها علةٌ للأمر المذكور فإنها مكانُ المطيعين الخاشعين ولا دِلالة فيه على جواز التكبُّر في غيرها وفيه تنبيه على أن التكبرَ لا يليق بأهل الجنةِ وأنه تعالى إنما طرده لتكبُّره لا لمجرد عصيانِه وقوله تعالى ﴿فاخرج﴾ تأكيدٌ للأمر بالهبوط متفرِّغٌ على علته وقوله تعالى ﴿إِنَّكَ مِنَ الصاغرين﴾ تعليلٌ للأمر بالخروج مُشعرٌ بأنه لتكبره أي من الأذلاء وأهلِ الهوانِ على الله تعالى وعلى أوليائه لتكبرك وعن عمر رضيَ الله عنه من تواضَع لله رفع الله حكمته ة وقال انتعش نعشك الله ومن تكبر وعَدا طَوْرَه وهَصَه الله إلى الأرض
﴿قَالَ﴾ استئناف كما مر مبني على سؤال نشأ مما قبله كأنه قيل فماذا قال اللعين بعدما سمع هذا الطردَ المؤكد فقيل قال ﴿أَنظِرْنِى﴾ أي أمهلني ولا تُمِتْني ﴿إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ أي آدمُ وذريتُه للجزاء بعد فنائهم وهو قوت النفخةِ الثانية وأراد اللعينُ بذلك أنْ يجدَ فُسحةً من إغوائهم ويأخذَ منهم ثأرَه وينجوَ من الموت لاستحالته بعد البعث
﴿قال﴾ استئناف كما سلف
﴿إِنَّكَ مِنَ المنظرين﴾ ورودُ الجوابِ بالجملةِ الاسميَّةِ مع التَّعرُّضِ لشمول ما سأله الآخرين على وجه يُشعر بأن السائلَ تبَعٌ لهم في ذلك صريحٌ في أنَّه إخبارٌ بالإنظارِ المقدَّر لهم أزلاً لا إنشاءٌ لإنظار خاصَ به إجابةً لدعائِه وأنَّ استنظارَه كان طَلَباً لتأخيرِ الموتِ غذ به يتحقق كونُه من جملتهم لا لتأخيرِ العُقوبةِ كما قيل أي إنَّك من جُملةِ الذينَ أخِّرتْ آجالُهم أزلاً حسبما تقتضيه الحِكمةُ التكوينيةُ إلى وقت فناءٍ غيرَ ما استثناه الله تعالى من الخلائق وهو النفخة الأولى إلى وقتِ البعثِ الذي هو المسئول وقد تُرك التوقيتُ للإيجاز ثقةً بما وقع في سُورة الحجرِ وسُورة ص كما ترك ذكرُ النِّداءُ والفاء في الاستنظار والإنظار تعويلاً على ما ذكر فيهما بقوله عز وجل رَبّ فَأَنظِرْنِى إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين إلى يَوْمِ الوقت المعلوم وفي إنظاره ابتلاءٌ للعباد وتعريضٌ للثواب إن قلت لار ريبَ في أن الكلامَ المحكيَّ له عند صدورِه عن المتكلم حالة
217
الأعراف آية ١٦
مخصوصةٌ تقتضي ورودَه على وجه خاصَ من وجوه النظمِ بحيث لو أخل بشيء من ذلك سقط الكلامُ عن رتبة البلاغةِ البتة فالكلامُ الواحدُ المحكيُّ على وجوه شتى إن اقتضى الحالُ ورودَه على وجه معينٍ من تلك الوجوهِ الواردةِ عند الحكاية فذلك الوجهُ هو المطابقُ لمقتَضى الحالِ والبالغُ إلى رتبة البلاغةِ دون ما عداه من الوجوه إذا تمكهد هذا فنقولُ لا يخفى أن استنظارَ اللعينِ إنَّما صدرَ عنه مرةً واحدةً لا غيرُ فمقامُه إن اقتضى إظهارَ الضراعةِ وترتيبَ الاستنظار على ما حاق به من اللعن والطردِ على نهج استدعاءِ الجبْرِ في مقابلة الكسر كما هو المتبادَرُ من قوله رب فأنظرني حسبما حُكي عنه في السورتين فما حكي ههنا يكون بمعزل من المطابقة لمقتضى الحال فضلاً عن العُروجِ إلى معارج الإعجازِ قلنا مقامُ استنظاره مُقتضٍ لما ذُكر من إظهار الضراعة وترتيب الاستنظار على الحِرمان المدلولِ عليه بالطرد والرجم وكذا مقامُ الإنظارِ مقتضٍ لترتيب الإخبارِ بالإنظار على الاستنظار وقد طُبّق الكلامُ عليه في تينك السورتين ووُفّي كلُّ واحد من مقامَي الحكايةِ والمحكيِّ جميعا حظه وأما ههنا فحيث اقتضى مقامُ الحكايةِ مجردَ الإخبار بالاستنظار والإنظارِ سيقت الحكايةُ على نهج الإيجاز والاختصارِ من غيرِ تعرّضٍ لبيانِ كيفيةِ كل واحدٍ منهما عند المخاطبة والحِوار إن قلت فإذن لا يكونُ ذلك نقلاً للكلام على ما هو عليه ولا مطابقاً لمقتضى المقامِ قلنا الذي يجب اعتبارُه في نقل الكلامِ إنما هو أصلُ معناه ونفسُ مدلولِه الذي يفيده وأما كيفية إفادته فليس مما يجب مراعاتُه عند النقل البتة بل قد تراعى وقد لا تراعى حسب اقتضاءِ المقامِ ولا يقدح في أصل الكلامِ تجريدُه عنها بل قد يراعى عند نقلِه كيفيات وخصوصات لم يُراعِها المتكلمُ أصلاً ولا يُخلُّ ذلك بكون المنقولِ أصلَ المعنى ألا يُرى أن جميعَ المقالات المنقولةِ في القرآن الكريمِ إنما تحكى بكيفيات واعتباراتٍ لا يُكاد يَقدِر على مراعاتها مَنْ تكلم بها حتماً وإلا لأمكن صدورُ الكلام المعجِزِ عن البشر فيما إذا كان المحكيُّ كلاماً وأما عدمُ مطابقتِه لمقتضى الحالِ فمنشؤه الغفلةُ عما يجب توفيرُ مقتضاه من الأحوال فإن مَلاكَ الأمرِ هو مقامُ الحكايةِ وأما مقام وقوعِ المحكيِّ فإن كان مقتضاه موافقاً لمقتضى مقامِ الحكايةِ يُوفَّى كلُّ واحدٍ من المقامين حقَّه كما في سُورة الحجرِ وسُورة ص فإن مقامَ الحكايةِ فيهما لمّا كان مقتضياً لبسط الكلامِ وتفصيلِه على الكيفيات التي وقع عليها رُوعيَ حقُّ المقامين معاً وأما في هذه السورةِ الكريمةِ فحيث اقتضى مقامُ الحكايةِ الإيجازَ رُوعيَ جانبُه ألا يُرى أن المخاطبَ المنكِرَ إذا كان ممن لا يفهم إلا أصلَ المعنى وجب على المتكلم أن يجرِّد كلامَه عن التأكيد وسائرِ الخواصِّ والمزايا التي يقتضيها المقامُ ويخاطِبَه بما يناسبه من الوجوه لكنه مع ذلك يجب أن يقصِدَ معنى زائداً يفهمه سامعٌ آخرُ بليغٌ هو تجريدُه عن الخواصِّ رعايةً لمقتضى حالِ المخاطَبِ في الفهم وبذلك يرتقي كلامُه عن رتبة أصوات الحيوانات كا حُقِّق في مقامه فإذا وجب مراعاةُ مقامِ الحكايةِ مع اقتضائها إلى تجريد الكلامِ عن الخواص والمزايا بالمرة فما ظنُّك بوجوب مراعاتِه مع تحلية الكلام بمزايا أُخَرَ يرتقي بها إلى رتبة الإعجازِ لا سيما إذا وفى حق مقام المحكيِّ في السورتين الكريمتين وكان هذا الإيجازُ مبنياً عليه وثقة به
218
﴿قَالَ﴾ استئنافٌ كأمثاله
﴿فَبِمَا أَغْوَيْتَنِى﴾ الباءُ للقسم كما في قوله تعالى
218
الأعراف آية ١٧ ١٩
فَبِعِزَّتِكَ لاَغْوِيَنَّهُمْ فإن إغواءَه تعالى إلى إيَّاهُ أثرٌ من آثارِ قدرته عز وجل وحُكمٌ من أحكام سلطانِه تعالى فمآلُ الإقسامِ بهما واحدٌ فلعل اللعينَ أقسمَ بهما جميعاً فحكة تارةً قسَمَه بأحدِهما وأُخرى بالآخر والفاءُ لترتيبِ مضمونِ الجملةِ على الإنظار وما مصدريةٌ أي فأقسم بإغوائك إياي
﴿لاقْعُدَنَّ لَهُمْ﴾ أو للسببية على أن الباءَ متعلقةٌ بفعل القسمِ المحذوفِ لا بقوله لاقْعُدَنَّ لَهُمْ كما في الوجه الأول فإن اللام تصُدّ عن ذلك أي فبسبب إغوائِك غياي لأجلهم أُقسم بعزتك لأقعُدّن لآدمَ وذرِّيتِه ترصّداً بهم كما يقعُد القُطّاع للقطع على السابلة
﴿صراطك المستقيم﴾ الموصِلَ إلى الجنة وهو دينُ الإسلام فالقعودُ مجازٌ متفرع على الكتابة وانتصابُه على الظرفية كما في قوله كما عَسَلَ الطريقَ الثعلبُ وقيل على نزع الجارِّ تقديرُه على صراطك كقولك ضرب زيد الظهرَ والبطنَ
219
﴿ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أيمانهم وَعَن شَمَائِلِهِمْ﴾ أي من الجهات الأربعِ التي يُعتاد هجومُ العدوِّ منها مثلُ قصدِه إياهم للتسويل والإضلال من أي وجهٍ يتيسر بإتيان العدوِّ من الجهات الأربعِ ولذلك لم يذكر الفرق والتحتُ وعن ابن عباس رضي الله عنهما من بين ايديهم من قيل الآخرة ومن خلفهم من جهة الدنيا وعن أيمانهم وعن شمائلهم من جهخة حسناتِهم وسيئاتِهم وقيل من بين أيديهم من حيث يعلمون ويقدِرون على التحرز منه ومن خلفهم من حيث لا يعلمون ولا يقدرون وعن أيمانهم وعن شمائلهم من حيث يتيسر لهم أن يعلموا ويتحرزوا ولكن لم يفعلوا لعدم تيّقظهم واحتياطِهم ومن حيث لا يتيسر لهم ذلك وإنما عُدِّي الفعلُ إلى الأوَّلَيْن بحرف الابتداء لأنه منهما متوجهٌ إليهم وإلى الآخَرَين بحرف المجاوزة فإن الآتيَ منهما كالمنحرف المتجافي عنهم المارِّ على عَرضهم ونظيرُه جلست عن يمينه ﴿وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكرين﴾ أي مطيعين وإنما قاله ظناً لقوله تعالى وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ لما رأى منهم مبدأ الشرِّ متعدداً ومبدأَ الخيرِ واحداً وقيل سمعه من الملائكةِ عليهمِ السَّلامُ
﴿قال﴾ استئناف كما سلف مراراً ﴿أَخْرَجَ مِنْهَا﴾ أي من الجنَّةِ أو من السماء أو من بينِ الملائكة ﴿مذموما﴾ أي مذموماً من ذَأَمه إذا ذمّه وقرىء مَذوماً كمسول في مسئول أو كَمَكول في مكيل من ذامه يذيمه ذيماً ﴿مَّدْحُورًا﴾ مطروداً ﴿لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ﴾ اللامُ موطئةٌ للقسم وجوابه ﴿لامْلانَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ وهو سادٌّ مسدَّ جوابِ الشرط وقرىء لِمَنْ تبعك بكسر اللام على أنه خبرُ لأملأن على معنى لِمَنْ تبعك هذا الوعيدُ أو علةٌ لاخرُجْ ولأملأن جواب قسم محذوفٌ ومعنى منكم منك ومنهم على تغليب المخاطب
﴿ويا آدم﴾ أي وقلنا كما وقعَ في سورةِ البقرة
219
الأعراف آية ٢٠ ٢٢
وتصديرُ الكلامِ بالنداء للتنبيه على الاهتمام بتلق المأمورِ به وتخصيصُ الخطابِ به عليه السلام للإيذان بأصالته في تلقي الوحي وتعاطي المأمور به
﴿اسكن أَنتَ وَزَوْجُكَ الجنة﴾ هو من السكَن الذي هو عبارةٌ عن اللَّبْثِ والاستقرارِ والإقامةِ لا من السكونِ الذي هو ضدُّ الحركة وأنت ضميرٌ أكِّد به المستكنُّ ليصحَّ العطفُ عليهِ والفاءُ في قولِه تعالى
﴿فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا﴾ لبيان المرادِ مما في سورةِ البقرةِ من قوله تعالى وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا من أن ذلك كان جمعاً مع الترتيب وقوله تعالى مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا في معنى منها حيث شئتما ولم يذكر ههنا رَغَداً ثقةً بما ذكر هناك وتوجيهُ الخطابِ إليهما لتعميم التشريفِ والإيذانِ بتساويهما ي مباشرة المأمورِ به فإن حواءَ أُسوةٌ له عليه السى لام في حق الأكلِ بخلاف السكنِ فإنها تابعةٌ له فيه ولتعليق النهي بها صريحاً في قوله تعالى
﴿وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة﴾ وقرىء هذي وهو الأصلُ لتصغيره على ذَيّا والهاءُ بدلٌ من الياء
﴿فَتَكُونَا مِنَ الظالمين﴾ إما جزمٌ على العطف أو نصبٌ على الجواب
220
﴿فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشيطان﴾ أي فعل الوسوسةَ لأجلهما أو تكلم لهما كلاماً خفياً متداركا وهي في الأصل الصوتُ الخفي كالهيمنة والخشخشة ومنه وسوَسَ الحَلْيُ وقد سبق بيانُ كيفيةِ وسوستِه في سُورة البقرى ﴿لِيُبْدِيَ لَهُمَا﴾ أي ليُظهر لهما واللامُ للعاقبة أو للغرض على أنه أراد بوسوسته أن يسوءَهما بانكشاف عورتيهما ولذلك عبّر عنهما بالسوأة وفيه دليلٌ على أنَّ كشف العورةِ في الخلوة وعند الزوجِ من غيرحاجة قبيحٌ مستهجَنٌ في الطباع ﴿ما ووري عنهما من سوآتهما﴾ نما غطى ة وسُتر عنهما من عوراتهما وكانا لا يَرَيانها من أنفسهما ولا أحدُهما من الآخر وإنما لم تُقلب الواوُ المضمومةُ همزةً في المشهورة كما قلبت في أو يصل تصغير واصل لأن الثانيةَ مدة وقرىء سواتهما بحذ ف الهمزة وإلقاء حركاتها على الواو وبقلبها واواً وإدغام الواو الساكنة فيها ﴿وَقَالَْ﴾ عطف على وسوس بطريق البيان ﴿مَا نهاكما رَبُّكُمَا عَنْ هذه الشجرة﴾ أي عن أكلها ﴿إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ﴾ أي إلا كراهةَ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ ﴿أَوْ تَكُونَا مِنَ الخالدين﴾ الذين لا يموتون أو يخلدون في الجنة وليس فيه دلالةٌ على أفضلية الملائكةِ عليهم السلام لما أن من المعلوم أن الحقائقَ لا تنقلب وإنما كانت رغبتُهما في أن يحصُل لهما أوصافُ الملائكةِ من الكمالات الفطريةِ والاستغناء عن الأطعمة والأشربة وذلك بمعزلٍ من الدِلالة على الأفضلية بالمعنى المتنازَعِ فيه
﴿وَقَاسَمَهُمَا إِنّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين﴾ أي أقسم لهما وصيغةُ المغالبة للمبالغة وقيل أقسما له بالقَبول وقيل قالا له أتقسم بالله إنكى لمن الناصحين وأقسم لهما فجُعل ذلك مقاسمة
الأعراف ٢٣ ٢٥
فنزلهما على الكل من الشجرة وفيه تنبيهٌ على أنَّه أهبطهما بذلك من درجة عاليةٍ فإن التدلية والإدلاء إرسالُ الشيء من الأعلى إلى السفل
﴿بِغُرُورٍ﴾ بما غرّهما به من القسم فإنهما ظنا أن أحداً لا يُقسِم بالله كاذبا أو متلبسين بغرور
﴿فَلَمَّا ذَاقَا الشجرة بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتهمَا﴾ أي فلما وجدا طعمَها آخِذَين في الأكل منها أخذْتهما العقوبةُ وشؤمُ المعصية فتهافت عنهما لباسُهما وظهرت لهما عوراتُهما واختلف في أن الشجرة كانت السنبلة والكرم أو غيرَهما وأن اللباسَ كان نوراً أو ظفراً
﴿وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ﴾ طفِق من أفعال الشروعِ والتلبس كأخذ وجعل وأنشأ وهَبْ وانبرى أي أخذا يَرْقعَان ويُلزِقان ورقةً فوق ورقة
﴿عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة﴾ قيل كان ذلك ورقَ التينِ وقرىء يُخصِفان من أخصف أي يخصفان أنفسَهما ويُخَصِّفان من التخصيف ويَخِصّفان أصله يختصفان
﴿وَنَادَاهُمَا ربهما﴾ مالك أمرهمنا بطريق العتاب والتوبيخِ
﴿أَلَمْ أَنْهَكُمَا﴾ وهو تفسيرٌ للنداء فلا محلَّ له من الإعراب أو معهمول لقول محذوفٍ أي وقال أو قائلاً ألم أنهَكُما
﴿عَن تِلْكُمَا الشجرة﴾ ما في إسمِ الإشارةِ من معنى البُعد لما أنه إشارةٌ إلى الشجرة التي نُهي عن قُربانها
﴿وَأَقُل لَّكُمَا﴾ عطفٌ على أنهَكما أي ألم أقل لكما
﴿إِنَّ الشيطان لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾ وهذا عتابٌ وتوبيخٌ على الاغترار بقول العدوِّ كما أن الأولَ عتابٌ على مخالفة النهي قيل فيه دليلٌ على أنَّ مطلقَ النهي للتحريم ولكما متعلقٌ بعدو لما فيه من معنى الفعل أو بمحذوفٍ هو حالٌ من عدوٌّ ولم يُحك هذا القول ههنا وقد حُكي في سورة طه بقوله تعالى إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ الآية روي أنه تعالى قال لآدمَ ألم يكنْ فيما منحتُك من شجر الجنة مندوحةٌ عن هذه الشجرة فقال بلى وعزتك ولكن ما ظننتُ أن أحداً من خلقك يحلِفُ بك كاذباً قال فبعزتي لأُهبِطنك إلى الأرض ثم لا تنال العيشَ إلا كدّاً فأُهبط وعُلّم صنعةَ الحديد وأُمر بالحَرْثِ فحرَثَ وسقى وحصد ودرس وذرَى وعجَن وخَبَز
221
﴿قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا﴾ أي ضرّرناها بالمعصية والتعريضِ للإخراج من الجنة ﴿وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا﴾ ذلك ﴿وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين﴾ وهو دليلٌ على أن الصغائرَ يُعاقب عليها إن لم تغفر وقال المعتزلةُ لا يجوز المعاقبةُ عليها مع اجتناب الكبائرِ ولذلك حمَلوا قولَهما ذلك على عادات المقربين في استعظام الصغيرِ من السيئات واستصغارِ العظيمِ من الحسنات
﴿قَالَ﴾ استئناف كما مر مراراً ﴿اهبطوا﴾ خطابٌ لآدمَ وحواءَ وذريتِهما أو لهما ولإبليس كررا الأمر له تبعاً لهما ليعلمَ أنهم قرناءُ أبداً أو أُخبر عما قال لهم مفرّقاً كما في قوله تعالى يأَيُّهَا الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات ولم يذكر ههنا قَبولُ توبتِهما ثقةً بما ذكر في سائر المواضع ﴿بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ جملةٌ حاليةٌ من فاعلِ اهبطوا أي مُتعادِين ﴿وَلَكُمْ فِى الارض مُّسْتَقِرٌّ﴾ أي استقرارٌ أو موضعُ استقرارٍ ﴿ومتاع﴾ أي تمتعٌ وانتفاع ﴿إلى حين﴾ هو جحين انقضاءِ آجالِكم
﴿قَالَ﴾ أُعيد الاستئنافُ إما للإيذان بعدم اتصالِ ما بعده بما قبله كما في قوله تعالى قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المرسلون إثرَ قوله تعالى قَالَ ومن
221
الأعراف آية ٢٦ ٢٧
يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبّهِ إِلاَّ الضآلون وقوله تعالى قال أرأيتك هذا الذى كَرَّمْتَ عَلَىَّ بعد قوله تعالى قَالَ أأسجد لمن خلقت طيناً وإما لإظهار الاعتناءِ بمضمون ما بعدَهُ منْ قولِه تعالى
﴿فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ﴾ أي للجزاءِ كقوله تعالى مِنْهَا خلقناكم وفيها نعيكم وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أخرى
222
﴿يا بني آدم﴾ خطابٌ للناس كافةً وإيرادُهم بهذا العنوان مما لا يخفى سرُّه ﴿قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا﴾ أي خلقناه لكم بتدبيرات سماويةٍ وأسبابٍ نازلةٍ منها ونظيرُه وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الأنعامِ الخ وقوله تعالى وَأَنزْلْنَا الحديد ﴿يوارى سَوْآتكم﴾ التي قصد إبليسُ إبداءَها من أبويكم حتى اضطر إلى خصف الأوراق وأنتم مستغنون عن ذلك وروي أن العرب كانوا يطوفون بالبيت عرايا ويقولون لا نطوف بثياب عصينا الله تعالى فيها فنزلت ولعل ذكر قصةِ آدمَ عليه السلام حينئذ للإيذان بأن انكشافَ العورة أولُ سوءٍ أصاب الإنسان من قِبَل الشيطان وأنه أغواهم في ذلك كما أغة وى أبويهم ﴿وَرِيشًا﴾ ولباساً تتجملون به والريشُ الجمالُ وقيل مالاً ومنه ترّيش الرجلُ أي تموّل وقرىء رياشاً وهو جمعُ ريشٍ كشِعْب وشِعاب ﴿وَلِبَاسُ التقوى﴾ أي خشيةُ الله تعالى وقيلَ الإيمانُ وقيل السمتُ الحسَنُ وقيل لباسُ الحرب ورفعُه بالابتداء خبرُه جملةُ ﴿ذلك خَيْرٌ﴾ أو خبرٌ وذلك صفتُه كأنه قيل ولباسُ التقوى المشارُ إليه خيرٌ وقرىء ولباس التقوى بلنصب عطفاً على لباساً ﴿ذلك﴾ أي إنزالُ اللباس ﴿مِنْ آيات الله﴾ دالةٌ على عظيم فضلِه وعميمِ رحمتِه ﴿لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ فيعرِفون نعمتَه أو يتّعظون فيتورّعون عن القبائح
﴿يا بني آدم﴾ تكريرُ النداءِ للإيذان بكمال الاعتناءِ بمضمون ما صدر به وإيرادهم بهذا العنون مما لا يخفى سببُه
﴿لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشيطان﴾ أي لا يوقِعنّكم في الفتنة والمحنة بأن يمنعَكم من دخول الجنة
﴿كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مّنَ الجنة﴾ نعتٌ لمصدر محذوفٍ أي لا يفتِننّكم فتنةً مثلَ إخراجِ أبويكم وقد جُوّز أن يكون التقديرُ لا يُخرِجَنكم بفتنته إخراجاً مثلَ إخراجِه لأبويكم والنهيُ وإن كان متوجهاً إلى الشيطان لكنه في الحقيقة متوجِّهٌ إلى المخاطبين كما في قولك لا أرينك ههنا وقد مرَّ تحقيقُه مراراً
﴿يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتهما﴾ حال من أبويكم أو من فاعل أخرج وإسنادُ النزعِ إليه للتسبيب وصيغةُ المضارعِ لاستحضارِ الصُّورَةِ وقوله تعالى
﴿إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ﴾ أي جنودُه وذريتُه استئنافٌ لتعليل النهي وتأكيد التحذير منه
﴿مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ﴾ من لابتداء غايةِ الرؤية حيث ظرفٌ لمكان انتفاءِ الرؤية ولا ترَوْنهم في محل الجرِّ بإضافة الظرفِ إليه ورؤيتُهم لنا من حيث لا نراهم لا تقتضي امتناع رؤيتنا
222
الأعراف آية ٢٨ ٢٩
لهم مطلقاً واستحالةَ تمثّلِهم لنا
﴿إِنَّا جَعَلْنَا الشياطين﴾ جُعل قبيلُه من جملته فجمع
﴿الذين لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ أي جعلناعهم بما أوجدنا بينهم من المناسبة أو بإرسالهم عليهم وتمكينِهم من إغوائهم وحملِهم على ما سوّلوا لهم أولياءَ أي قُرناءَ مسلّطين عليهم والجملة تعليلٌ آخرُ للنهي وتأكيدٌ للتحذير إثرَ تحذير
223
﴿وَإِذَا فَعَلُواْ فاحشة﴾ جملةٌ بمتدأ لا محلَّ لها من الإعراب وقد جُوّز عطفُها على الصة والفاحشةُ الفَعلةُ المتناهيةُ في القبح والتاء لأنها مُجراةٌ على الموصوف المؤنث أو للنقل من الوصفية إلى الاسمية والمراد بها عبارة الأصنامِ وكشفُ العورة في الطواف ونحوُهما ﴿قَالُواْ﴾ جواباً للناهين عنها ﴿وَجَدْنَا عَلَيْهَا آباءنا والله أَمَرَنَا بِهَا﴾ محتجين بأمرين تقليدِ الآباءِ والافتراءِ على الله سبحانه ولعل تقديمَ المقدم للإيذان منهم بأن ى باءهم إنما كانوا يفعلونها بأمر الله تعالى بها على أن ضمير أمرنا لهم ولآبائهم فحينئذ يظهر وجهُ الإعراض عن الأول في رد مقالتِهم بقوله تعالى ﴿قُلْ إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بالفحشاء﴾ فإن عادتَه تعالى جاريةٌ على الأمر بمحاسن الأعمالِ والحثِّ على مراضي الخِصال ولا دِلالةَ فيه على أن قبحَ الفعلِ بمعنى ترتبِ الذم عليه عاجلا والعقاب ى جلا عقلي فإن المرادَ بالفاحشة ما ينفِر عنه الطبعُ السليم ويستنقِصُه العقلُ المستقيم وقيل هما جوابا سؤالين مترتبين كأنه قيل لما فعلوها لم فعلتم فقالوا وجدنا عليها آباءَنا فقيل لمَ فعلها آباؤُكم فقالوا الله أمرنا بها وعلى الوجهين يُمنع التقليدُ إذا قام الدليلُ بخلافه لا مطلقاً ﴿أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تعلمون﴾ من تمام القولِ المأمورِ به والهمزةُ لإنكارِ الواقعِ واستقباحِه وتوجيهُ الإنكارِ والتوبيخِ إلى قولهم عليه تعالى ما لا يعلمون صدورَه عنه تعالى مع أن بعضَهم يعلمون عدمَ صدورِه عنه تعالى مبالغةٌ في إنكار تلك الصورةِ فإن إسنادَ ما لم يعلم صدوره عنه تعالى إليه تعالى إذا كان مُنكراً فإسنادُ ما عُلم عدمُ صدورِه عنه إليه عز وجل أشدُّ قبحاً وأحقُّ بالإنكار...
﴿قُلْ أَمَرَ رَبّي بالقسط﴾ بيانٌ للمأمور به إثرَ نفس ما أُسند أمرُه إليه تعالى من الأمور المنهيِّ عنها والقسط هو العدلُ وهو الوسَطُ من كل شيء المتجافي عن طرفي الإفراطِ والتفريط
﴿وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ﴾ وتوجهوا إلى عبادته مستقيمين غيرَ عادلين إلى غيرها أو أقيموا وجوهَكم نحو القِبلة
﴿عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ﴾ في كل وقت سجودٍ أو مكانِ سجودٍ وهو الصلاةُ أو في أي مسجدٍ حضَرتْكم الصلاةُ عنده ولا تؤخروها حتى تعودوا إلى مساجدكم
﴿وادعوه﴾ واعبدوه
﴿مُخْلِصِينَ لَهُ الدين﴾ أي الطاعةَ فإن مصيرَكم إليه بالآخرة
﴿كَمَا بَدَأَكُمْ﴾ أي أنشأكم ابتداءً
﴿تَعُودُونَ﴾ إليه بإعادته فيجازيكم على أعمالكم وإنما شُبه الإعادةُ بالإبداء تقريراً لإمكانها والقدرةِ عليها وقيل كما بدأكم من التراب تعودون إليه وقيل حفاة عراة غر لا تعودون إليه وقيل كما بدأكم مؤمناً وكافراً يعيدكم
223
﴿فَرِيقًا هدى﴾ بأن وفقهم للإيمان ﴿وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضلالة﴾ بمقتضى القضاءِ السابقِ التابعِ للمشيئة المبنيةِ على الحِكَم البالغةِ وانتصابُه بفعل مُضمرٍ يفسِّره ما بعده أي وخذل فريقاً ﴿إِنَّهُمُ اتخذوا الشياطين أَوْلِيَاء مِن دُونِ الله﴾ تعليلٌ لخِذلانه أو تحقيقٌ لضلالتهم ﴿وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ﴾ فيه دلالةٌ على أن الكافرَ المُخطِىءَ والمعانِدَ سواءٌ في استحقاق الذمِّ وللفارق أن يحمِلَه على المقصِّر في النظر
﴿يا بني آدم خُذُواْ زِينَتَكُمْ﴾ أي ثيابَكم لمواراة عورتِكم ﴿عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ﴾ أي طوافٍ أو صلاةٍ ومن السنة أن يأخذ الرجلُ أحسنَ هيئتِه للصلاة وفيه دليلٌ على وجوب سترِ العورة في الصلاة ﴿وَكُلُواْ واشربوا﴾ مما طاب لكم روي أن بني عامرٍ كانوا في أيم حجِّهم لا يأكلون الطعام إلا قوتاً ولا يأكلون دسماً يعظِّمون بذلك حجهم فهمّ المسلمون بمثله فنزلت ﴿وَلاَ تُسْرِفُواْ﴾ بتحريم الحلالِ أو بالتعدّي إلى الحرام أو بالإفراط في الطعامِ والشّرَه عليه وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كل ماشئت ما أخطأتْك خصلتانِ سَرَفٌ ومَخِيلة وقال علي بن الحسين بن واقد جمع الله الطبَّ في نصف آية فقال كُلُواْ واشربوا وَلاَ تُسْرِفُواْ ﴿إِنَّهُ لاَ يحب المسرفين﴾ أيب لا يرتضي فعلَهم
﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله﴾ من الثياب وما يُتجمَّل به ﴿التى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ﴾ من النبات كالقُطن والكتّان والحيوانِ كالحرير والصوفِ والمعادن كالدروع ﴿والطيبات مِنَ الرزق﴾ أي المستلذاتِ من المآكل والمشارب وفيه دليلٌ على أنَّ الأصل في المطاعم والملابس وأنواعِ التجمُّلات الإباحةُ لأن الاستفهامَ في من إنكاري ﴿قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا﴾ بالأصالة والكفرةُ وإن شاركوهم فيها فبِالتَّبع ﴿خَالِصَةً يَوْمَ القيامة﴾ لا يشارركهم فيها غيرُهم وانتصابُه على الحالية وقرىء بالرفع على أنه خبرٌ بعد خبر ﴿كَذَلِكَ نُفَصِلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ أي مثلَ هذا التفصيلِ نفصِّلُ سائرَ الأحكامِ لقوم يعلمون ما في تضاعيفها من المعاني الرائقة
﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ الفواحش﴾ أي ما تفاحش قبحُه من الذنوب وقيل ما يتعلق منها بالفروج
﴿ما ظهرَ منها وما بَطَنَ﴾ بدلٌ من الفواحش أي جهرَها وسرَّها
﴿والإثم﴾ أي ما يوجب الإثمَ وَهُوَ تعميمٌ بعدَ تخصيصٍ وقيل هو شربُ الخمر
﴿والبغى﴾ أي الظلم أو الكبر أفرد بالذكر
224
الأعراف آية ٣٤ ٣٥ للمبالغة في الزجرعنه
﴿بغير الحق﴾ متعلق بالغي مؤكدٌ له معنى
﴿وَأَن تُشْرِكُواْ بالله مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سلطانا﴾ تهكّمٌ بالمشركين وتنبيهٌ على تحريم اتباعِ ما لا يدل عليه برهان
﴿وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ بالإلحاد في صفاته والافتراء عليه كقولهم والله أَمَرَنَا بِهَا وتوجيهُ التحريم إلى قولهم عليه تعالى ما لا يعلمون وقوعَه لا يعلمون عدمَ وقوعِه قد مر سرُّه
225
﴿ولكل أمةٍ﴾ من الأمم المُهلَكة ﴿أَجَلٌ﴾ حدٌّ معينٌ من الزمان مضروبٌ لِمَهلِكهم ﴿فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ﴾ إن جعل الضميرُ للأمم المدلولِ عليها بكل أمة فإظهار الأجل مضافا إليه لإفادة المعنى المقصودِ الذي هو بلوغ كل أمة أجلها الخاص بها ومجيئه غياها بواسطة اكتسابِ الأجل بالإضافة عموما يفيده معنى الجمعية كأنه قيل إذا جاءهم آجالهم بأن يجيء كل واحدةٍ من تلك الأمم أجلُها الخاصُّ بها وإن جُعل لكل أمةٍ خاصةً كما هو الظاهرُ فالإظهارُ في موقع الإضمار لزيادة التقريرِ والإضافةُ إلى الضمير لإفادة أكملِ التمييزِ أي إذا جاءها أجلُها الخاصُّ بها ﴿لاَ يَسْتَأْخِرُونَ﴾ عن ذلك الأجلِ ﴿سَاعَةً﴾ أي شيئا قليلا من الزما فإنها مثل ي غاية القلةِ منه أي لا يتأخرون أصلاً وصيغةُ الاستفعا ل للإشعار بعجزهم وحِرمانهم عن ذلك مع طلبهم له ﴿وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ﴾ أي ولا يتقدمون عليهِ وهو عطفٌ عَلى يستأخرون لكن لا لبيان انتفاء التقدم مع إمكانه في نفسه كالتأخر بل المبالغة في انتفاء التأخر بنظمه في سلك المستحيلِ عقلاً كمكا في قوله سبحانه وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ إِنّى تُبْتُ الان وَلاَ الذين يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ فإن من مات كافراً مع ظهور أن لا توبةَ له رأساً قد نُظم في عدم القبولِ في سلك من سوفها إلى حضور الموتِ إيذاناً بتساوي وجودِ التوبة حينئذ وعدمها بالمرة وقيل المرادُ بالمجيء الدنوُّ بحيث يمكن التقدمُ في الجملة كمجيء اليومِ الذي ضُرب لهلاكهم ساعةٌ فيه وليس بذاك وتقديمُ بيانِ انتفاء الاستيخار لما أن المقصودَ بالذات بيانُ عدمِ خلاصِهم من العذاب وأمَّا ما في قولِه تعالى مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يستأخرون من سبق السبق في الذكر فلما أن المراد هناك بيانُ سرِّ تأخيرِ إهلاكِهم مع استحقاقهم له حسبما ينبيء عنه قوله تعالى ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الامل فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ فالأهمُّ هناك بيانُ انتفاءِ السبْق
﴿يا بني آدم﴾ تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى كافى الناس اهتماماً بشأن ما في حيّزه
﴿إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ﴾ هي إنْ الشرطيةُ ضُمَّت إليها ما لتأكيد معنى الشرطِ ولذلك لزِمت فعلَها النونُ الثقيلةُ أو الخفيفةُ وفيه تنبيه على أن إرسال الرسل أمر حائز لا واجبٌ عقلاً
﴿رُسُلٌ مّنكُمْ﴾ الجارُّ متعلقٌ بمحذوفٍ هو صفةٌ لرسلٌ أي كائنون من جنسكم وقولُه
﴿يقصون عليكم آياتي﴾ صفةٌ أخرى لرسلٌ أي يبينون لكم أحكاميوشرائعي وقولُه تعالى
﴿فَمَنِ اتقى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ جملةٌ شرطية وقعت جوابا
225
الأعراف آية ٣٦ ٣٧
للشرط أيس فمن اتقى منكك التكذيبَ وأصلح عملَه فلا خوف الخ وكذا وقوله تعالى
226
﴿والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عَنْهَا أُوْلَئِكَ أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون﴾ أي والذين كذبوا منكم بآياتنا وإيرادُ الاتقاءِ في الأول للإيذان بأن مدارَ الفلاحِ ليس مجردَ عدمِ التكذيبِ بل هو الاتقاءُ والاجتنابُ عنه وإدخالُ الفاءِ في الجزاء الأولِ دون الثاني للمبالغة في الوعد والمسامحةِ في الوعيد
﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كذبا أو كذب بآياته﴾ أي تقول عليه ما لم يقُلْه أو كذّب ما قاله أيْ هُو أظلمَ منْ كل ظالمٍ وقد مرَّ تحقيقُه مراراً
﴿أولئك﴾ إشارةٌ إلى الموصول والجمعُ باعتبارِ معناه كما أن إفرادَ الفعلين باعتبار لفظِه وما فيه من معنى البعد للإيذان بتماديهم في سُوءِ الحالِ أي أولئك الموصوفون بما ذُكر من الافتراءِ والتَّكذيبِ
﴿ينالهم نصيبهم من الكتاب﴾ أي مما كُتب لهم من الأرزاق والأعمارِ وقيل الكتابُ اللوحُ أي ما أُثبت لهم فيه وأياً ما كان فمِن الابتدائيةُ متعلقةٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من نصيبهم أي ينالُهم نصيبُهم كائناً من الكتاب وقيل نصيبُهم من العذاب وسوادِ الوجه وزُرقةِ العيون وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كُتب لمن يفتري على الله سوادُ الوجهِ قال تعالى وَيَوْمَ القيامة تَرَى الذين كَذَبُواْ عَلَى الله وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ وقولُه تعالى
﴿حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا﴾ أي ملكُ الموتِ وأعوانُه
﴿يَتَوَفَّوْنَهُمْ﴾ أي حالَ كونِهم مُتوفِّين لأرواحهم يؤيد الأول فإنَّ حتَّى وإنْ كانتْ هي التي يُبتدأ بها الكلام لكنها غايةٌ لما قبلها فلا بد أن يكون نصيبُهم مما يتمتعون بها إلى حين وفانهم أي ينالهم نصيبُهم من الكتاب إلى أن يأتيَهم ملائكةُ الموتِ فإذا جاءتهم
﴿قَالُواْ﴾ لَهُمْ
﴿أَيْنَ مَا كُنتُمْ تدعون مِن دُونِ الله﴾ أي أين الآلهةُ التي كنتم تعبُدونها في الدنيا وما وقعت موصولةً بأين في خط المصحف وحقُّها الفصلُ لأنها موصولة
﴿قَالُواْ﴾ استئنافٌ وقع جوابا عن سؤالٍ نشأَ من حكايةِ سؤالِ الرسل كأنه قيل فماذا قالوا عند ذلك فقيل قَالُواْ
﴿ضَلُّواْ عَنَّا﴾ أي غابوا عنا أي لا ندري مكانَهم
﴿وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ﴾ عطفٌ على قالُوا أي اعترفوا على أنفسهم
﴿أَنَّهُمْ كَانُواْ﴾ أي في الدنيا
﴿كافرين﴾ عابدين لما لا يَستحِق العبادةَ أصلاً حيث شاهدوا حالَه وضلالَه ولعله أريد بوقت مجيءِ الرسل وحالِ التوفي الزمانُ الممتدُّ من ابتداء المجيءِ والتوفي إلى انتهائه يوم الجزاءِ بناءً على تحقق المجيءِ والتوفي في كل ذلك الزمان بقاءً وإن كان حدوثُهما في أوله فقط أو قُصد بيانُ غاية سرعةِ وقوعِ البعثِ والجزاء كأنهما حاصلان عند ابتداءِ التوفي كما ينبىء عنه قوله ﷺ من مات فقد قامت قيامتُه وإلا فهذا السؤال والجوابُ وما ترتب عليهما من الأمر بدخول النارِ وما جرى بين أهلها من التلاعن
226
الأعراف آي ٣٨ ٤٠
والتقاولِ إنما يكون بعد البحث لا محالة
227
﴿قَالَ﴾ أي الله عزَّ وجل يوم القيامة بالذات أو بواسطة الملك ﴿ادخلوا فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ﴾ أي كائنين من جملة أممٍ مصاحبين لهم ﴿مّنَ الجن والإنس﴾ يعني كفارَ الأمم الماضيةِ من النوعين ﴿فِى النار﴾ متعلقٌ بقوله أَدْخِلُواْ ﴿كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ﴾ من الأمم السابقةِ واللاحقةِ فيها ﴿لَّعَنَتْ أُخْتَهَا﴾ التي ضلت بالاقتداء بها ﴿حَتَّى إِذَا اداركوا فِيهَا جَمِيعًا﴾ أي تداركوا وتلاحقوا في النار ﴿قَالَتْ أُخْرَاهُمْ﴾ دخولاً أو منزلة وهم الأتباعُ ﴿لاولاهم﴾ أي لأجلهم إذِ الخطابُ مع الله تعالى لا معهم ﴿رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا﴾ سنّوا لنا الضلال فاقتدنا بهم ﴿فَآتِهِم عَذَاباً ضِعْفاً﴾ أي مضاعفاً مِنَ النار لأنهم ضلّوا وأضلوا ﴿قَالَ لِكُلّ ضِعْفٌ﴾ أما القادةُ فلِما ذُكر من الضلال والإضلالِ وأما الأتباعُ فلكفرهم وتقليدِهم ﴿ولكن لاَّ تَعْلَمُونَ﴾ اي ما لكم وما لِكُلّ فريقٍ من العذاب وقرىء بالياء
﴿وَقَالَتْ أولاهم﴾ أي مخاطِبين ﴿لأُخْرَاهُمْ﴾ حين سمعوا جوابَ الله تعالى لهم ﴿فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ﴾ أي فقد ثبت أن لا فضلَ لكم علينا وإنا وإياكم متساوون في الضلال واستحقاقِ العذاب ﴿فَذُوقُواْ العذاب﴾ أي العذابَ المعهودَ المضاعفَ ﴿بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ﴾ من قول القادة
﴿إن الذين كذبوا بآياتنا﴾ مع وضوحها
﴿واستكبروا عَنْهَا﴾ أي عن الإيمان بها والعملِ بمقتضاها
﴿لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أبواب السماء﴾ أي لا تُقبل أدعيتُهم ولا أعمالهم ولا تعْرُج إليها أرواحُهم كما هو شأنُ أدعيةِ المؤمنين وأعمالِهم وأرواحِهم والتاء في تفتح لتأنيث الأبواب والتشديد لكثرتها وقرىء بالتخفيف وبالتخفيف والياء وقرىء على البناء للفاعل ونصب الأبواب على أن الفعلَ للآيات وبالياء على أنه لله تعالى
﴿وَلاَ يَدْخُلُونَ الجنة حتى يَلِجَ الجمل فِى سَمّ الخياط﴾ أي حتى يدخُلَ ما هو مثل في عِظَم الجِرْم فيما علم في ضيق الملك وهو يقبة الإبرة وفي كون الجملِ مما ليس من شأنه الولج في سمِّ الإبرة مبالغةٌ في الاستبعاد وقرىء الجُمّل كالقمّل والجُمَل كالنُغَر والجُمل كالقُفل والجَمَل كالنصَب والجَمْل كالحبل وهي الحبلُ الغليظ من القنب وقيل حبلُ السفينة وسُمّ بالضم والكسر وقرىء في سَمّ المَخيط وهو الخِياط أي ما يُخاط به كالحِزام والمحزم
﴿وكذلك﴾ أيْ ومثلَ ذلكَ الجزاءِ الفظيعِ
﴿نَجْزِى المجرمين﴾ أي جنسَ المجرمين وهم داخلونَ في زُمرتهم دخولاً أوليا
227
﴿لَهُم مّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ﴾ أي فراشٌ من تحتهم والتنوينُ للتفخيم ومن تجريدية ﴿وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ﴾ أي أغطيةٌ والتنوينُ للبدل عن الإعلال عند سيبويهِ وللصرْفِ عند غيره وقرىء غواشِ على إلغاء المحذوف كما في قوله تعالى وَلَهُ الجوار المنشآت ﴿وكذلك﴾ ومثلَ ذلك الجزاءِ الشديد ﴿نَجْزِى الظالمين﴾ عبّر عنهم بالمجرمين تارةً وبالظالمين أخرى إشعاراً بأنهم بتكذيبهم الآياتِ اتّصفوا بكل واحدٍ من ذيْنِك الوصفين القبيحين وذكرُ الجُرم مع الحِرمان من دخول الجنةِ والظلم مع التعذيب بالنار للتنبيه على أنه أعظمُ الجرائمِ والجرائر
﴿والذين آمنوا﴾ أي بآياتنا أو بكلِّ ما يجبُ أنْ يُؤمن به فيدخُل فيه الآياتُ دُخولاً أوليَّا وقولُه تعالَى ﴿وَعَمِلُواْ الصالحات﴾ أي الأعمالَ الصالحةَ التي شُرعت بالآيات وهذا بمقابلة الاستكبارِ عنها ﴿لاَ نُكَلّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ اعتراضٌ وُسِّط بين المبتدإِ الذي هو الموصولُ والخبر الذي هو جملة ﴿أُوْلَئِكَ أصحاب الجنة﴾ للترغيب في اكتساب ما يؤدي إلى النعيم المقيم ببيان سهولةِ منالِه وتيسُّر تحصيلِه وقرىء لا تُكَلَّف نفسٌ واسمُ الإشارةِ مبتدأٌ وأصحابُ الجنةِ خبرُه والجملةُ خبرٌ للمبتأ الأولِ أو اسمُ الإشارةِ بدلٌ من المبتدأ الأولِ الذي هو الموصول والخبر أصحابُ الجنة وما فيه من معنى البعد للإيذانِ ببُعدِ منزلتِهم في الفضل والشرف ﴿هُمْ فِيهَا خالدون﴾ جحال من أصحاب الجنة وقد جوز كونُه حالاً من الجنة لاشتماله على ضميرها والعاملُ معنى الإضافةِ أو اللامُ المقدرةِ أو خبرٌ ثانٍ لأولئك على رأي من جوّزه وفيها متعلق بخالدون
﴿وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ﴾ أي نخرج من قلوبهم أسبابَ الغل أو نطهرها منه حتى لا يكون بينهم إلا التوادُّ وصيغةُ الماضي للإيذان بتحققه وتقررِه وعَنْ عليَ رضيَ الله تعالى عنه إني لأرجوا أن أكون أنا وعثمان وطلحةُ والزبيرُ منهم
﴿تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الأنهار﴾ زيادةٌ في لذتهم وسرورهم والجملةُ حالٌ منَ الضميرِ في صدورهم والعاملُ إما معنى الإضافة وإما العاملُ في المضاف أو حالٌ من فاعل نزعنا والعاملُ نزعنا وقيل هي مستأنفةٌ للإخبار عن صفة أحوالِهم
﴿وَقَالُواْ الحمد لِلَّهِ الذى هَدَانَا لهذا﴾ أي لِما جزاؤُه هذا
﴿وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ﴾ أي لهذا المطلبِ الأعلى أو لمطلب من المطالب التي هذا من جملتها
﴿لَوْلا أَنْ هَدَانَا الله﴾ ووفقنا له واللام لتأكيد النفي وجواب النفي لولا محذوفٌ ثقةً بدِلالة ما قبلَهُ عليه ومفعولُ نهتدي وهدانا الثاني
228
الأعراف آية ٤٤ ٤٦
محذوفٌ لظهور المرادِ أو لإرادة التعميمِ كما أشير إليه والجملةُ مستأنَفةٌ أو حالية وقرىء ما كنا لنهتديَ الخ بغير واو على أنها مبنية ومفسرةٌ للأولى
﴿لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبّنَا﴾ جوابُ قسمٍ مقدر قالوه تبجّحاً واغتباطاً بما نالوه وابتهاجاً بإيمانهم بما جاءتهم الرسلُ عليهم السلام والباء في قوله تعالى
﴿بالحق﴾ إما للتعدية فهي متعلقةٌ بجاءت أو للملابسة فهي متعلقةٌ بمقدرٍ وقع حالاً من الرسل أي والله لقد جاءوا بالحق ولقد جاءوا ملتبسين بالحق
﴿وَنُودُواْ﴾ أي نادتهم الملائكةُ عليهم السلام
﴿أَن تِلْكُمُ الجنة﴾ أن مفسرة لما في النِّداءِ من معنى القولِ أو مخففةٌ من أنَّ وضميرُ الشأنِ محذوفٌ ومعنى البُعد في اسم الإشارةِ إما لأنهم نوُدوا عند رؤيتِهم إياها من مكان بعيد غما لرفع منزلتِها وبُعدِ رتبتِها وإما للإشعار بأنها تلك الجنةَ التي وُعدوها في الدنيا
﴿أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ في الدُّنيا من الأعمالِ الصالحةِ أي أُعطيتموها بسبب أعمالِكم أو بمقابلة أعمالِكم والجملةُ حال من الجنة والعاملُ معنى الإشارةِ على أن تلكم الجنةُ مبتدأٌ وخبرٌ أو الجنةُ صفةٌ والخبرُ أورثتموها
229
﴿وَنَادَى أصحاب الجنة أصحاب النار﴾ تبجحاً بحالهم وشماتةً بأصحاب النار وتحسيراً لهم لا لمجرد الإخبارِ بحالهم والاستخبارِ عن حال مخاطَبيهم ﴿أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّا﴾ حيث نلنا هذا المنالَ الجليلَ ﴿فهل وجدتم ما وعد رَبُّكُمْ حَقّا﴾ حُذف المفعولُ من الفعل الثاني إسقاطاً لهم عن رتبة التشريفِ بالخطاب عند الوعدِ وقيل لأن ما ساءهم من الموعود لم يكن بأسره مخصوصاً بهم وعداً كالبعث والحساب ونعيم أهل الجنة فإنهم قد وجدوا جميعَ ذلك حقاً وإن لم يكن وعدُه مخصوصاً بهم ﴿قَالُواْ نَعَمْ﴾ أي وجدناه حقاً وقرىء بكسرِ العينِ وهي لغةٌ فيه ﴿فَأَذَّنَ مُؤَذّنٌ﴾ قيل هو صاحبُ الصُّور ﴿بَيْنَهُمْ﴾ أي بين الفريقين ﴿أَن لَّعْنَةُ الله عَلَى الظالمين﴾ بأنْ المخفَّفةِ أو المفسِّرةِ وقرىء بأنّ المشددةِ ونصْبِ لعنةُ وقرىء إنّ بكسر الهمزةِ على إرادة القول أو إجراء أذّن مُجرى قال
﴿الذين يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله﴾ صفةٌ مقرِّرةٌ للظالمين أو رُفع على الذم أو نصْبٌ عليه ﴿وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا﴾ أي يبغون لها عِوَجاً بأن يصفوها بالزيغ والميلِ عن الحق وهو أبعدُ شيء منهما والعِوَجُ بالكسر في المعاني والأعيان ما لم يكن منتصباً وبالفتح ما كان في المنتصِب كالرُّمحِ والحائط ﴿وَهُم بالاخرة كافرون﴾ غيرُ معترفين
﴿وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ﴾ أي بين الفريقين كقوله تعالى فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ أو بين الجنة والنار ليمنعَ وصولُ أثرِ إحداهما إلى الأخرى
﴿وَعَلَى الاعراف﴾ أي على أعراف الحجابِ وأعاليه وهو السورُ المضروبُ بينهما جمعُ
229
الأعراف ى ية ٤٧ ٤٩
عُرف مستعار من عُرف الفرس وقيل العرف ما ارتفع من الشيء فإنه بظهوره أعرفُ من غيره
﴿رِجَالٌ﴾ طائفةٌ من الموحدين قصّروا في العمل فيجلسون بين الجنة والنارِ حتى يقضيَ الله تعالى فيهم ما يشاء وقيل قومٌ عَلَت درجاتُهم كالأنبياء والشهداء والأخيارِ والعلماءِ من المؤمنين أو ملائكةٌ يُرَون في صور الرجال
﴿يَعْرِفُونَ كُلاًّ﴾ من أهل الجنة والنار
﴿بسيماهم﴾ بعلامتهم التي أعلمهم الله تعالى بها كبياض الوجهِ وسوادِه فعلى من سام إبِلَه إذا أرسلها في المرعى مُعْلَمةً أو مِنْ وَسَم بالقلب كالجاه من الوجه وإنما يعرفون ذلك بالإلهام أو بتعليم الملائكة
﴿وَنَادَوْاْ﴾ أي رجالُ الأعراف
﴿أصحاب الجنة﴾ حين رأوهم
﴿أَن سلام عَلَيْكُمْ﴾ بطريق الدعاءِ والتحية أو بطريق الإخبارِ بنجاتهم من المكارة
﴿لَمْ يَدْخُلُوهَا﴾ حالٌ من فاعل نادَوْا أو من مفعولِه وقولُه تعالى
﴿وَهُمْ يَطْمَعُونَ﴾ حال من فاعل يدخلوها أي نادوهم وهم لم يدخلوها حال كونهم طامعين في دخولها مترقبين له أي لم يدخلوها وهم في وقت عدمِ الدخول طامعون
230
﴿وَإِذَا صُرِفَتْ أبصارهم تِلْقَاء أصحاب النار﴾ أي إلى جهتهم وفي عدم التعرضِ لتعلق أنظارِهم بأصحاب الجنةِ والتعبير عن تعلق أبصارعهم بأصحاب النارِ بالصرف إشعارٌ بأن التعلقَ الأولَ بطريق الرغبة والميل الثاني بخلافه ﴿قَالُواْ﴾ متعوذين بالله تعالى من سوء حالِهم ﴿رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ القوم الظالمين﴾ أي في النار وفي وصفهم بالظلم دون ما هم عليه حينئذ من العذاب وسوءِ الحال الذي هو الموجبُ للدعاء إشعارٌ بأن المحذورَ عندهم ليس نفيَ العذابِ فقط بل مع ما يوجبه ويؤدي إليه من الظلم
﴿ونادى أصحاب الاعراف﴾ كرر ذكرهم مع كفاية الإضمار لزيادة التقرير ﴿رِجَالاً﴾ من رؤساء الكفارِ حين رأَوْهم فيما بين أصحابِ النار ﴿يَعْرِفُونَهُمْ بسيماهم﴾ الدالةِ على سوء حالِهم يومئذ وعلى رياستهم في الدنيا ﴿قَالُواْ﴾ بدلٌ من نادى ﴿مَا أغنى عنكم﴾ ما إما الاستفهامية للتوبيخ والتقريع أو نافية ﴿جَمْعُكُمْ﴾ أي أتباعُكم وأشياعُكم أو جمعُكم للمال ﴿وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ﴾ ما مصدريةٌ أي ما أغنى عنكم جميعا واستكبارُكم المستمرُّ عن قَبول الحقِّ أو على الخلق وهو الأنسب بما بعجه وقرىء تستكثرون من الكثرة أي من الأموال والجنود
﴿أهؤلاء الذين أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ الله بِرَحْمَةٍ﴾ من تتمة قولِهم للرجال والإشارةُ إلى ضعفاء المؤمنين الذين كانت الكفرةُ يحتقرونهم في الدنيا ويحلِفون صريحاً أنهم لا يدخُلون الجنةَ أو يفعلون ما ينبىء عن ذلك كما في قولِه تعالى أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مّن زَوَالٍ
﴿ادخلوا الجنة﴾ تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى أولئك المذكورين أي ادخُلوا الجنة على رُغم
230
الأعراف ى ية ٥٠ ٥٢
أنوفِهم
﴿لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ﴾ بعد هذا
﴿وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ﴾ أو قيل لأصحاب الأعراف ادخُلوا الجنةَ بفضل الله تعالى بعد أن حُبسوا وشاهدوا أحوالَ الفريقين وعرفوهم وقالوا لهم ما قالوا والأظهرُ أن لا يكون المراد بأصحالب الأعرافِ المقصِّرين في العمل لأن هذه المقالاتِ وما تنفرع هي عليه من المعرفة لا يليق بمن لم يتعيّنْ حالُه بعدُ وقيل لما عيّروا أصحابَ النار أقسموا أن أصحابَ الأعرافِ لا يدخُلون الجنة فقال الله تعالى أو الملائكةُ رداً عليهم أهؤلاء الخ وقرىء ادخَلوا ودَخَلوا على الاستئناف وتقديرُه دخلوا الجنةَ مقولاً في حقِّهم لا خوفٌ عليكم
231
﴿ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة﴾ بعد أن استقر بكل من الفريقين القرارُ واطمأنت به الدار ﴿أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الماء﴾ أي صبوه وفيه دلالة على أن الجنة فوق النار ﴿أَوْ مما رزقكم الله﴾ من سائر الأشربة ليلائم الإضافة أو من الأطعمة على أن الإفاضةَ عبارةٌ عن الإعطاء بكثرة ﴿قَالُواْ﴾ استئنافٌ مبنيٌّ على السؤالِ كأنه قيل فماذا قالوا فقيل قالوا ﴿إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا عَلَى الكافرين﴾ أي منعهما منهم منعاً كلياً فلا سبيل إلى ذلك قطعاً
﴿الذين اتخذوا دِينَهُمْ لَهْوًا ولعبا﴾ متحريم البَحيرة والسائبةَ ونحوِهما والتصديةِ حولَ البيت واللهوُ صرفُ الهمِّ إلى ما لا يحسُن أن يُصْرفَ إليه واللعبُ طلبُ الفرحِ بما لا يحسن أن يُطلب ﴿وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا﴾ بزخارفها العاجلةِ ﴿فاليوم ننساهم﴾ نفعل بهم ما يفعل الناس بالمنسيِّ من عدم الاعتدادِ بهم وتركِهم في النار تركاً كلياً والفاء في فاليوم فصيحةٌ وقوله تعالى ﴿كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هذا﴾ في محل النصبِ على أنَّه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ أي ننساهم مثلَ نسيانِهم لقاءَ يومِهم هذا حيث لم يُخطِروه ببالهم ولم يعتدّوا له وقولُه تعالى ﴿وَمَا كَانُواْ بآياتنا يَجْحَدُونَ﴾ عطفٌ على ما نسوا أي وكما كانوا منكرين بأنها من عند الله تعالى إنكاراً مستمراً
﴿وَلَقَدْ جئناهم بكتاب فصلناه﴾ أي بيّنا معانيَه من العقائد والأحكامِ والمواعظ والضميرُ للكفرة قاطبةً والمرادُ بالكتاب الجنسُ أو للمعاصِرين منهم والكتابُ هو القرآن
﴿على عِلْمٍ﴾ حالٌ من فاعِل فصلناه أي عالمين بوجه تفصيلِه حتى جاء حكيماً أو من مفعولِه أي مشتملاً على علم كثير وقرىء فضلناه أي على سائر الكتب عالمين بفضله
﴿هُدًى وَرَحْمَةً﴾ حال من المفعول
﴿لقوم لا يُؤْمِنُونَ﴾ لأنهم المغتنمون لآثاره المقتبسون من أنواره
231
﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ﴾ أي ما يناتظر هؤلاءِ الكفرةُ بعدم إيمانِهم به إلا ما يئول إليه أمرُه من تبيّن صدقِه بظهور ما أخبر به من الوعد والوعيد ﴿يَوْمَ يَأْتِى تَأْوِيلُهُ﴾ وهو يومُ القيامة ﴿يَقُولُ الذين نَسُوهُ مِن قَبْلُ﴾ أي تركوه ترْكَ المنسيِّ من قبل إتيانِ تأويلِه ﴿قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبّنَا بالحق﴾ أي قد تبين أنهم قد جاءوا بالحق ﴿فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لنا﴾ ويدفعوا عنا العذاب ﴿أَوْ نُرَدُّ﴾ أي هل نرد إلى الدنيا وقرىء بالنصب عطفاً على فيشفعوا أو لأن أو بمعنى إلى أن فعلى الأول المسئول أحدُ الأمرين إما الشفاعةُ لدفع العذاب أو الرد إلى الدنيا وعلى الثاني أن يكون لهم شفعاءُ إما لأحد الأمرين أو لأمر واحد هو الرد ﴿فَنَعْمَلَ﴾ بالنصب على أنه جواب الاستفهام الثاني وقرىء بالرفع أي فنحن نعمل ﴿غَيْرَ الذى كُنَّا نَعْمَلُ﴾ أي في الدنيا ﴿قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ﴾ بصرف أعمارِهم التي هي رأسُ مالِهم إلى الكفر والمعاصي ﴿وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾ أي ظهر بطلانُ ما كانوا يفترونه من أن الأصنامَ شركاءُ لله تعالى وشفعاؤهم يوم القيامة
﴿إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذى خلق السماوات والأرض فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ شروعٌ في بيان مبدأ الفطرةِ إثرَ بيانِ معادِ الكفَرة أي إن خالقَكم ومالككم الذي خالق الأجرامَ العلوية والسفليةَ في ستة أوقات كقوله تعالى وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ أو في مقدار ستةِ أيامٍ فإن المتعارفَ أن اليومَ زمانُ طلوعِ الشمسِ إلى غروبها ولم تكن هي حينئذ وفي خلق الأشياء مدرجاً مع القدرة على إبداعها دفعة دليل على الاختيار واعتبار للنظار وحث على التأني في الأمور
﴿ثُمَّ استوى عَلَى العرش﴾ أي استوى أمرُه واستولى وعن أصحابنا أن الاستواء على العرش صفة لله تعالى بلا كيف والمعنى أنه تعالى استوى على العرش على الوجه الذي عناه منزهاً عن الاستقرار والتمكن والعرشُ الجسم المحيط بسائر الأجسام سمي به لارتفاعه أو للتشبيه بسرير الملِك فإن الأمورَ والتدابير تنزِل منه وقيل الملك
﴿يَغْشَى اللَّيْلَ النَّهَارَ﴾ أي يغطّيه به ولم يُذكر العكسُ للعلم به أو لأن اللفظَ يحتملهما ولذلك قرىء بنصب الليلَ ورفع النهار وقرىء بالتشديد للدلالة على التكرار
﴿يَطْلُبُهُ حَثِيثًا﴾ أي يعقُبه سريعاً كالطالب له لا يفصل بينهما شيء والحثيثُ فعيل من الحث وهو صفةُ مصدرٍ محذوفٍ أو حالٌ من الفاعلِ أو من المفعول بمعنى حاثاً أو محثوثاً
﴿والشمس والقمر والنجوم مسخرات بِأَمْرِهِ﴾ أي خلقهن حال كونهِن مسخراتٍ بقضائه وتصريفِه وقرىء كلُّها بالرفع على
232
الأعراف آية ٥٥ ٥٦
الابتداء والخبر
﴿أَلاَ لَهُ الخلق والامر﴾ فإنه الموجدَ للكل والمتصرِّفَ فيه على الإطلاق
﴿تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين﴾ أي تعالى بالوحدانية في الألوهية وتعظّم بالتفرد في الربوبية وتحقيقُ الآية الكريمةِ والله تعالى أعلم إن الكفرة كانوا متخذين أرباباً فبيّن لهم أن المستحق الربوبية واحدٌ هو الله تعالى لأنه الذي له الخلقُ والأمرُ فإنه تعالى خلق العالمَ على ترتيب قويمٍ وتدبيرٍ حكيم فأبدع الأفلاكَ ثم زينها بالشمس والقمر والنجومِ كما أشار إليه بقوله تعالى فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سموات فِى يَوْمَيْنِ وعمَد إلى األأجرام السفليةِ فخلق جسماً قابلاً للصور لمتبدلة والهيئاتِ المختلفة ثم قسمها لصور نوعية متبانة الآثار والأفعالِ وأشار إليه بقوله تعالى وخلق الارض فِى يَوْمَيْنِ أي ما في جهة السُّفلِ في يومين ثم أنشأ أنواعَ المواليدِ الثلاثةِ بتركيب موادِّها أولاً وتصويرِها ثانياً كما قال بعد قوله تعالَى خَلَقَ الأرضَ فِى يَوْمَيْنِ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ مِن فَوْقِهَا وبارك فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أقواتَها فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ أي مع اليومين الأولين لِما فُصّل في سورة السجدة ثم لمّا تم له عالمُ الملك عمد إلى تدجبيره كالمالك الجالس على سريره فدبر الأمرَ مِنَ السماء إِلَى الأرض بتحريك الأفلاكِ وتسيير لكواكب وتكويرِ الليالي والأيامِ ثم صرّح بما هو فذلكةُ التقريرِ ونتيجتُه فقال تعالى ألا له الحلق والامر تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين ثم أمر بأن يدعوُه مخلِصين متذلِّلين فقال
233
﴿ادعوا رَبَّكُمْ﴾ الذي قد عرفتم شئونه الجليلة ﴿تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾ أي ذوي تضرّعٍ وخُفية فإن الإخفاءَ دليلُ الإخلاص ﴿إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المعتدين﴾ أي لا يحب دعاءَ المجاوزين لما أُمروا به في كلَّ شيءٍ فيدخُل فيه الاعتداءُ في الدعاء دخولاً أولياً وقد نُبِّه به على أن الداعيَ يجب أن لا يطلُب ما لا يليقُ به كرتبة الأنبياءِ والصعودِ إلى السماء وقيل هو الصياحُ في الدعاء والإسهابُ فيه وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم سيكونُ قومٌ يعتدون في الدعاء وحسْبُ المرءِ أن يقول اللهم إني أسألُك الجنةَ وما قرَّب إليها من قول وعملٍ وأعوذُ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل ثم قرأ إنَّهُ لا يحبُّ المعتدين
﴿وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الارض﴾ بالكفر والمعاصي
﴿بَعْدَ إصلاحها﴾ ببعث الأنبياء عليهم السلام وشرْعِ الأحكام
﴿وادعوه خَوْفًا وَطَمَعًا﴾ أي ذوي خوفٍ نظرا إلى قصور أعمالكم وعدم اسحقاقكم وطمَعٍ نظراً إلى سَعة رحمتِه ووفورِ فضلِه وإحسانِه
﴿إن رحمة الله قريب مِّنَ الْمُحْسِنِين﴾ في كل شيء ومن الإحسان في الدعاء أن يكون مقروناً بالخوف والطمع وتذكيرُ قريبٌ لأن الرحمةَ بمعنى الرحم أو لأنه صفةٌ لمحذوف أي أمرٌ قريبٌ أو على تشبيه بفعيل الذي هو بمعنى مفعول أو الذي هو مصدر كالنقيض والصهيل أو للفرق بين القريب من النسَب والقريب من غيره أو لاكتسابه التذكيرَ من المضاف إليه كما أن المضاف يكتب التأنيثَ من المضاف إليه
233
﴿وَهُوَ الذي يُرْسِلُ الرياح﴾ عطف على الجملة السابقة وقرىء الريحَ ﴿بُشْرًا﴾ تخفيفُ بُشُرٍ جمع بشير أي مبشّرات وقرىء بفتح الباءِ على أنه مصدرُ بَشَره بمعنى باشرات أو للبِشارة وقرىء نُشُراً بالنون المضمومة جمعُ نَشور أي ناشرات ونَشْراً على أنه مصدرٌ في موقعِ الحالِ بمعنى ناشرات أو مفعولٌ مطلقٌ فإن الإرسالَ والنَّشرَ متقاربان ﴿بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ﴾ قُدّامَ رحمتِه التي هي المطرُ فإن الصَّبا تُثير السحابَ والشَّمالَ تجمعُه والجَنوبَ تدُرّه والدَّبورَ تفرّقه ﴿حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ﴾ أي حملت واشتقاقُه من القِلة فإن المُقِلَّ للشيء يستقِلّه ﴿سَحَابًا ثِقَالاً﴾ بالماء جَمَعه لأنه بمعنى السحائب ﴿سقناه﴾ أي السحاب وإفرادُ الضميرِ لإفراد اللفظ ﴿لِبَلَدٍ مَّيّتٍ﴾ أي لأجله ولمنفعته أو لإحيائه أو لسقيه وقرىء ميْتٍ ﴿فَأَنزَلْنَا بِهِ الماء﴾ أي بالبلد أو بالسحاب أو بالسَّوْق أو بالريح والتذكيرُ بتأويل المذكور وكذلك قوله تعالى ﴿فَأَخْرَجْنَا بِهِ﴾ ويحتمل أن يعود الضميرُ إلى الماء وهو الظاهرُ وإذا كان للبلد فالباءُ للإلصاق في الأول والظرفية في الثاني وإذا كان لغيره فهي للسببية ﴿مِن كُلّ الثمرات﴾ أيْ من كل أنواعها ﴿كذلك نُخْرِجُ الموتى﴾ الإشارةُ إلى إخراج الثمراتِ أو إلى إحياء البلدِ الميتِ أي كما نحييه بإحداث القوةِ الناميةِ فيه وتطريتِها بأنواعِ النباتِ والثمراتِ نخرج الموتى من الأجداث ونحييها بردّ النفوسِ إلى موادّ أبدانِها بعد جَمعِها وتطريتها بالقُوى والحواسّ ﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ بطرح إحدى التاءين أي تتذكرون فتعلمون أن مَنْ قدَرَ على ذلك على هذا من غير شبهة
﴿والبلد الطيب﴾ أي الأرضُ الكريمةُ التربة
﴿يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبّهِ﴾ بمشيئته وتيسيرِه عبر به عن كثرة النباتِ وحسنِه وغزارة نفحه لنه أوقعه في مقابلةِ قولِه تعالى
﴿والذى خَبُثَ﴾ من البلاد كالسبخة والحرَّة
﴿لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا﴾ قليلاً عديمَ النفع ونصبُه على الحال والتقديرُ والبلدُ الذي خبُث لا يخرُج نباتُه إلا نكِداً فحُذف المضافُ وأُقيمَ المضافُ إليه مُقامَه فصار مرفوعاً مستتراً وقرىء لا يخرج إلا نكدا أي لا يخرجه البلدُ إلا نكداً فيكون إلا نكداً مفعولَه وقرىء نَكَداً على المصدر أي ذا نَكَدٍ ونَكْداً بالإسكان للتخفيف
﴿كذلك﴾ أي مثلَ ذلك التصريف البديع
﴿نصرف الآيات﴾ أي نرددها ونكررها
﴿لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ﴾ نعمةَ الله تعالى فيتفكرون فيها ويعتبرون بها وهذا كما ترى مثل لإرسال الرسل عليهم بالشرائع التي هي ماءُ حياةِ القلوبِ إلى المكلَّفين المنقسكمين إلى المقتبِسين من أنوارها والمحرومين من مغانمِ آثارِها وقد عُقّب ذلك بما يحققه ويقرّره من قصص الأممِ الخاليةِ بطريق الاستئناف فقيل
234
﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قَوْمِهِ﴾ هو جوابُ قسمٍ محذوفٍ أيْ والله لقد ارسلنا الخ واطرادا استعمالِ هذه اللامِ مع قد لكون مدخولِها مَظِنّةً للتوقع الذي هو معنى قد فغن الجملة القسَميةَ إنما تُساق لتأكيد الجملةِ المُقسَم عليها ونوح هو ابن لملك بن متوشلح بنِ أُخنوخ وهو إدريسُ النبيُّ عليهما السلام قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بُعثَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ على رأس أربعيم سنةً من عمره ولبِث يدعو قومه تسمعاءة وخمسين سنة وعاش بعد الطوفان مائتين وخمسين سنة فكان عمرُه ألفاً ومائتين وأربعين سنة وقال مقاتل بعث وهو ابنُ مائةِ سنة وقيل وهو ابن خمسين سنة وقيل وهو ابنُ مائتين وخمسين سنةً ومكث يدعو قومَه تسعمائة وخمسين سنة وعاش بعد الطوفان مائتين وخمسون سنة فكان عمره ألفا وأربَعَمِائةٍ وخمسين سنة ﴿فَقَالَ يا قوم اعبدوا الله﴾ أي اعبدوه وحدَه وتركُ التقييد بع للإيذان بأنها العبادةُ حقيقةً وأما العبادةُ بالإشراكِ فليستْ من العبادة في شيءٍ وقولُه تعالى ﴿مَّا لَكُمْ مّنْ إله غَيْرُهُ﴾ أي من مستحِقَ للعبادة استئنافٌ مَسوقٌ لتعليل العبادةِ المذكورةِ أو الأمرِ بها وغيرُه بالرَّفعِ صفةٌ لإله باعتبارِ محلِّه الذي هو الرفعُ عَلَى الابتداءِ أو الفاعلية وقُرىء بالجرِّ باعتبار لفظه وقُرىء بالنَّصبِ على الاستثناءِ وحكمُ غيرٍ حكمُ الاسمِ الواقعِ بعد إلا أي مَا لَكُم مّنْ إله إلا إياه كقولك ما في الدار من أحد إلا زبد أو غيرَ زيدٍ فمن إله إن جعل مبتدأً فلكم خبرُه أو خبرُه محذوفٌ ولكُم للتَّخصيصِ والتَّبيينِ أي ما لكُم في الوجودِ أو في العالمِ إله غيرُ الله ﴿إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ﴾ أي إن لم تعبدوه حسبماأمرت به ﴿عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ هو يومُ القيامة أو يومُ الطوفان والجملةُ تعليلٌ للعبادة ببيان الصارفِ عن تركها إثرَ تعليلِها ببيان الداعي إليها ووصفُ اليومِ بالعظم لبيان عظم ما يقع فيه وتكميلِ الإنذار
﴿قَالَ الملا مِن قَوْمِهِ﴾ استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية قولِه عليه السلام كأنه قيل فماذا قالُوا له عليهِ السَّلامُ في مقابلة نصحِه فقيل قال الرؤساءُ من قومه والأشراف الذين يمثلون صدورَ المحافل بإجرامهم والقلوبَ بجلالهم وهيبتِهم والأبصارَ بجمالهم وأُبّهتهم ﴿إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضلال﴾ أي ذهاب عن طريق الحقِّ والصواب والرؤيةُ قلبيةٌ ومفعولاها الضميرُ والظرفُ ﴿مُّبِينٌ﴾ بيّنٌ كونُه ضلالاً
﴿قَالَ﴾ استئناف كما سبق
﴿يا قوم﴾ ناداهم بإضافتهم إليه استمالةً لقلوبهم نحو الحق
﴿لَيْسَ بِى ضلالة﴾ أيُّ شيءٍ ما من الضلال قصد عليه الصلاة والسلام تحقيق الحقي في نفي الضلالِ عن نفسه رداً على الكفرة حيث بالغوا في إثباته له عليه الصلاة والسلام حيث جعلوه مستقراً في الضلال الواضِحِ كونُه ضلالاً وقوله تعالى
﴿وَلَكِنّي رَسُولٌ مِن رَّبّ العالمين﴾ استدراكٌ مما قبله باعتبار ما يستلزِمه من كونِه في أقصى مراتبِ الهداية فإن رسالةَ ربِّ العالمين مستلزِمةٌ
235
الأعراف آية ٦٢ ٦٤
لا محالة كأنَّه قيل ليس بي شيءٌ من الضلال ولكني في الغايةِ القاصيةِ من الهداية ومِنْ لابتداء الغايةِ مجازاً متعلقةٌ بمحذوف هو صفةٌ لرسولٌ مؤكدةٌ لما يفيده التنوينُ من الفخامةِ الذاتيةِ بالفخامةِ الإضافيةِ أي رسولٌ وأيُّ رسولٍ كائنٌ من رب العالمين
236
﴿أُبَلّغُكُمْ رسالات رَبّى﴾ استئنافٌ مسوق لتقرير رسالته ووتفصيل أحكامِها وأحوالِها وقيل صفة أخرى لرسولٌ على طريقة أنا الذي سمّتني أمي حيدَره وقُرِىءَ أبْلِغُكم من الإبلاغِ وجمع رسالات لاختلاف أوقاتِها أو لتنوّع معانيها أو لأن المرادَ بها ما أوحيَ إليه وإلى النبيين من قبله وتخصيصُ ربوبيتِه تعالى به عليه الصلاة والسلام بعد بيانِ عمومِها للعالمين للإشعار لعلة الحُكمِ الذي هو تبليغُ رسالتِه تعالى إليهم فإن ربوبيته تعالى له عليه الصلاة والسلام من موجبات امتثالِه بأمره تعالى بتبليغ رسالتِه تعالى إليهم ﴿وَأَنصَحُ لَكُمْ﴾ عطفٌ إلى أبلّغُكم مبينٌ لكيفية أداءِ الرسالة وزيادة الللام مع تعدّي النُصحِ بنفسه للدلالة على إمحاض النصيحةِ لهم وأنها لمنفعتهم ومصلحتِهم خاصة وصيغة المضارع للدللة على تجدد نصيحتِه لهم كما يعرب عنه قوله تعالى رَبّ إِنّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلاً ونَهَارًا وقولُه تعالى ﴿وأعلم من الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ عطفٌ على ما قبله وتقريرٌ لرسالته عليه الصلاة والسلام أي أعلم من جهة الله تعالى بالوحي ما لا تعلمونه من الأمورِ الآتيةِ أو أعلم من شئونه عز وجل وقدرتِه القاهرةِ وبطشِه الشديدِ على أعدائه وأن بأسَه لا يرد عن القم المجرمين ما لا تعلمونه قيل كانوا لم يسمعوا بقوم حل بهم العذابُ قبلَهم فكانوا غافلين آمنين لا يعلمون ما علِمه نوحٌ عليه السلام بالوحي
﴿أوعجبتم أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مّن رَّبّكُمْ﴾ جوابٌ ورد لمّا اكتُفيَ عن ذكره بقولهم إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضلال مُّبِينٍ من قولهم مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مّثْلَنَا وقولِهم لَوْ شَاء الله لاَنزَلَ ملائكة والهمزةُ للإنكارِ والواوُ للعطفِ على مقدر ينسحب عليه الكلام كأنه قيل أاستبعدتم وعجِبتم من أن جاءكم ذكرٌ أي وحيٌ أو موعظةٌ من مالك أموركم ومربّيكم ﴿على رَجُلٍ مّنكُمْ﴾ أي على لسان رجلٍ من جنسكم كقوله تعالى مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ وقلتم لأدل ذلك ما قلت من أن الله تعالى لو شاء لأنزل ملائكة ﴿لِيُنذِرَكُمْ﴾ علةٌ للمجيء أي ليحذركم عاقبة الكفر والعاصي ﴿وَلِتَتَّقُواْ﴾ عطفٌ على العلة الأولى مترتبةٌ عليها ﴿وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ عطف على العلة الثانية مترتبةٌ عليها أي ولتتعلق بكم الرحمةُ بسبب تقواكم وفائدةُ حرفِ الترجّي التنبيه على عزة المطلبِ وأن التقوى غير موجب للرحمة بل هي منوطةٌ بفضل الله تعالى وأن المتقيَ ينبغي أن لا يعتمد على تقواه ولا يأمن عذاب الله عز وجل
﴿فكذبوه﴾ فتموا على تكذيبه في دعوى النبوةِ وما نزلَ عليهِ منَ الوحيِ الذي بلّغه إليهم وأنذرهم بما في
236
الأعراف آية ٦٥
تضاعيفه واستمرّوا على ذلك هذه المدةَ المتطاولةَ بعد ما كرر عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عليهم الدعوةَ مراراً فلم يزدهم دعاؤُه إلا فراراً حسبما نطق به قوله تعالى رَبّ إِنّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلاً وَنَهَاراً الآيات إذ هو الذي يعقُبه اتلإنجاء والإغراق لا مجرد التكذيب
﴿فأنجيناه والذين مَعَهُ﴾ من المؤمنين قيل كانوا أربعين رجلاً وأربعين امرأةً وقيل تسعةً أبناؤُه الثلاثة وستةٌ ممّن آمن به وقوله تعالى
﴿فِى الفلك﴾ متعلقٌ بالاستقرار في الظرف أي استقروا معه في الفلك وصحبوه فيه أو بفعل الإنجاء أي أنجيناهم في السفينة ويجوز أن يتعلق بمُضْمَرٍ وقعَ حالاً مِنْ الموصول أو من ضميرِه في الظرف
﴿وأغرقنا الذين كذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾ أي استمروا على تكذيبها وليس المرادُ بهم الملأَ المتصدِّين للجواب فقط بل كان من أصرّ على التكذيب منهم ومن أعقابهم وتقديمُ ذكرِ الإنجاءِ على الإغراق للمسارعة إلى الإخبار به والإيذانِ بسبق الرحمةِ التي هي مقتضى الذاتِ وتقدُّمِها على الغضب الذي يظهر أثرُه بمقتضى جرائمِهم
﴿إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ﴾ عُمْيَ القلوبِ غيرَ مستبصرين قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عمِيَتْ قلوبُهم عن معرفة التوحيد والنبوةِ والمعاد وقرىء عامِينَ والأولُ أدلُّ على الثبات والقرار
237
﴿وإلى عاد﴾ متعلق بمضمر معطوف على قوله تعالى أرسلنا في قصَّة نوحٍ عليه السلام وهو الناصبُ لقوله تعالى
﴿أخاهم﴾ أي وأرسلنا إلى عاد أخاهم أي واحداً منهم في النسَب لا في الدين كقولهم يا أخا العرب وقيل العاملُ فيهما الفعلُ المذكور فيما سبق وأخاهم معطوف على نوحاً والأولُ هو الأولى وأياً ما كان فلعل تقديم المجرور ههنا على المفعول الصريح للحِذار عن الإضمار قبل الذكر يرشدك إلى ذلكَ ما سيأتِي من قوله تعالى وَلُوطاً الخ فإن قومَه لمّا لم يُعهدوا باسمٍ معروف يقتضي الحالُ ذكرَه عليه السلام مضافاً إليهم كما في قصة عاد وثمودَ ومدينَ خولف في النظم الكريم بين قصتِه عليه السلام وبين القصصِ الثلاثِ وقولُه تعالى
﴿هُودًا﴾ عطفُ بيانٍ لأخاهم وهو هودُ بنُ عبدِ اللَّه بن رباح بن الخلود ابن عاد بن عوص ابن إرم بن سام بنِ نوحٍ عليه السلام وقيل هود بن شالخ بن أرفخشذَ بنِ سامِ بن نوح بن عم أبي عاد وإنما جعل منهم لأنهم أفهمُ لكلامه وأعرفُ بحاله في صدقه وأمانتِه وأقربُ إلى اتباعه
﴿قَالَ﴾ استئناف مبني على سؤالٍ نشأَ من حكايةِ إرسالِه عليه السلام إليهم كأنه فماذا قال لهم فقيل قال
﴿قَالَ يَا قَومِ اعبدوا الله﴾ اي وحدوه كما يعرب عنه قوله
﴿مَا لَكُم مّنْ إله غَيْرُهُ﴾ فإنه استئنافٌ جارٍ مجرى البيان للعبادة المأمور بها والتعليلُ لها أو للأمر بها كأنه قيل خُصّوه بالعبادة وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً إذ ليس لكم إله سواه وغيرُه بالرَّفعِ صفةٌ لإله باعتبار محله وقرىء بالجمر حملاً له على لفظه
﴿أَفَلاَ تَتَّقُونَ﴾ إنكارٌ واستبعادٌ لعدم اتقائِهم عذابَ الله تعالى بعدَ ما علموا ما حل بقوم نوحٍ والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقامُ أي ألا تتفكرون أو أتغفُلون فلا تتقون فالتوبيخُ على المعطوفين معاً أو أتعلمون ذلك فلا تتقون فالتوبيخُ على المعطوف فقط وفي سورة هود أفلا تعقولن ولعله عليه السلام خاطبهم بكل منهما وقد اكتُفي بحكاية كلَ منهما في موطن عن حكايته في موطن آخرَ كما لم يذكر ههنا ما ذُكر هناك من قولِه تعالَى إِن أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ وقِسْ على ذلك حالَ بقيةِ ما ذُكر وما لم يُذكر من أجزاء القصةِ بل
237
الأعراف آية ٦٦ ٦٩
حالَ نظائرِه في سائر القصصِ لا سيما في المحاورات الجاريةِ في الأوقات المتعددة والله أعلم
238
﴿قَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ﴾ استئنافٌ كما مر وإنما وُصف الملأُ بالكفر إذْ لم يكن كلُّهم على الكفر كملأ قومِ نوحٍ بل كان منهم من آمن به عليه السلام ولكن كان يكتُم إيمانَه كمرثد بن سعد وقيل وصفوا له لمجرد الذم ﴿إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ﴾ أي متمكناً في خِفّة عقلٍ راسخاً فيها حيث فارق دينَ آبائِك أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السفهاءُ ولكن لا يعلمون ﴿وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكاذبين﴾ أي فيما ادعيْتَ من الرسالة قالوه لعراقتهم في التقليلد وحِرمانِهم من النظر الصحيح
﴿قَالَ﴾ مستعطفاً لهم ومستميلاً لقلوبهم مع ما سمع منهم ما سمع من الكلمة الشنعاءِ الموجبةِ لتغليظ القول والمشافهة بالسوء ﴿يا قوم لَيْسَ بِى سَفَاهَةٌ﴾ أي شيءٌ منها ولا شائبةٌ من شوائبها ﴿وَلَكِنّي رَسُولٌ مِن رَّبّ العالمين﴾ استدراكٌ مما قبله باعتبار ما يستلزمه ويقتضيه من كونه في الغاية القصوى من الرُّشد والأناةِ والصدقِ والأمانة فإن الرسالةَ من جهة ربِّ العالمين موجبةٌ لذلك حتماً كأنه قيل ليس بي شيء مما نيتموني إليه ولكني في غايةِ ما يكونُ من الرشدُ والصِّدقُ ولم يصرِّحْ بنفي الكذِب اكتفاءً بما في حيز الاستدراك ومِنْ لابتداء الغايةِ مجازاً متعلقةٌ بمحذوف وقع صفة لرسولٌ مؤكدة لما أفادَه التنوينُ من الفخامةِ الذاتيةِ بالفخامةِ الإضافيةِ وقولُه تعالى
﴿أُبَلّغُكُمْ رسالات رَبّى﴾ استئنافٌ سيق لتقرير رسالتِه وتفصيلِ احوالها وقيل صفة أخرى لرسولٌ والكلامُ في إضافة الربِّ إلى نفسه عليه السلام بعد إضافته إلى العالمين وكذا في جمع الرسالاتِ كالذي مر في قصة نوحٍ عليه السلام وقُرِىءَ أُبْلِغُكم من الإبلاغِ ﴿وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ﴾ معروفٌ بالنصح والأمانةِ مشهورٌ بين الناس بذلك وإنَّما جيء بالجملةِ الاسميةِ دلالة على الثبات والاستمرار وإيذاناً بأن مَنْ هذا حالُه لا يحوم حولَه شائبةُ السفاهةِ والكذب
﴿أوعجبتم أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مّن رَّبّكُمْ﴾ الكلامُ فيه كالذي مر في قصة نوح عليه السلام
﴿على رَجُلٍ مّنكُمْ﴾ أي من جنسكم
﴿لِيُنذِرَكُمْ﴾ ويحذرَكم عاقبةَ ما أنتم عليه من الكفر والمعاصي حتى نسبتموني إلى السفاهة والكذبِ وفي إجابة الأنبياءِ صلواتُ الله وسلامُه عليهم أجمعين من يشافِهُهم بما لاَ خيرَ فيهِ من أمثال تلك الأباطيلِ بما حُكيَ عنهم من المقالات الحقة المعربة عن نهاية الحلم والرزانة وكمالِ الشفقةِ والرأفة من الدلالة على حيازتهم القدحَ المُعلَّى من مكارم الأخلاق ما لا يخفى مكانُه
﴿واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء﴾ شروعٌ في بيان ترتيبِ أحكامِ النصح
238
الأعراف آية ٧٠ ٧١
والأمانةِ والإنذارِ وتفصيلِها وإذ منصوبٌ باذكروا على المفعولية دون الظرفية وتوجيهُ الأمر بالذكر إلى الوقت دون ما وقع فيه من الحوادث مع أنها المقصودةُ بالذات للمبالغة في إيجاب ذكرها لما أن إيجاب ذكر الوقت إيجاب لذكر ما فيه بالطريق البرهانيِّ ولأن الوقتَ مشتمِلٌ عليها فإذا استُحضر كانت هي حاضرةً بتفاصيلها كأنها مشاهَدةٌ عياناً ولعله معطوف على مقدرة كأنه قيل لا تعجبوا من ذلك أو تدبروا في أمركم واذكروا وقتَ جعْلِه تعالى إياكم خلفاءَ
﴿مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ﴾ أي في مساكنهم أو في الأرض بأن جعلكم ملوكاً فإن شدادَ بنَ عاد ممن ملك معمورةَ الأرضِ من رمل عالِجٍ إلى شحر عمان
﴿وَزَادَكُمْ فِى الخلق﴾ أي من الإبداع والتصوير أو في الناس
﴿بَسْطَةً﴾ قامةً وقوةً فإنه لم يكن في زمانهم مثلُهم في عِظَم الأجرامِ قال الكبي والسدي كانت قامةُ الطويلِ منهم مائةَ ذراعٍ وقامةُ القصير ستين ذراعاً
﴿فاذكروا آلاء الله﴾ التي أنعم بها عَلَيْكُمْ من فنون النَعماء التي هذه من جملتها وهذا تكريرٌ للتذكير لزيادة التقرير وتعميمٌ إثرَ تخصيص
﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ كي يؤديَكم ذلك إلى الشكر المؤدّي إلى النجاة من الكروب والقوز بالمطلوب
239
﴿قَالُواْ﴾ مجيبين عن تلك النصائحِ العظيمة ﴿أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ الله وَحْدَهُ﴾ أي لنخُصّه بالعبادة ﴿وَنَذَرَ مَا كَانَ يعبد آباؤنا﴾ أنركوا عليه عليه السلام مجيئَه لتخصيصه تعالى بالعبادة والإعراضِ عن عبادة الأوثان أنهما كان في التقليد وحباً لما ألِفوه وألِفوا أسلافَهم عليه ومعنى المجيء إما مجيئُه عليه السلام مِنْ مُتَعَبَّده ومنزلِه وإما من السماء على التهكم وإما القصدُ والتصدّي مجازاً كما يقال في مقابلِه ذهب يشتمني من غير إرادةِ معنى الذهاب ﴿فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا﴾ منَ العذاب والمدلول عليه بقوله تعالى أَفَلاَ تَتَّقُونَ ﴿إِن كُنتَ مِنَ الصادقين﴾ أي في الإخبار بنزول العذابِ وجوابُ إن محذوف لدلالة المذكور عليه أي فأت به
﴿قال قد وقع عليكم﴾ أي وجب وحق أو نزل بإصراركم هذا بناءً على تنزيل المتوقَّع منزلةَ الواقع كما في قوله تعالى أتى أمر الله
﴿مّن رَّبّكُمْ﴾ أي من جهته تعالى وتقديمُ الظرف الأولِ على الثاني مع أن مبدأ الشيءِ متقدمٌ على منتهاه للمسارعة إلى بيان إصابةِ المكروهِ لهم وكذا تقديمهما على الفاعل الذي هو قوله تعالى
﴿رجس﴾ مع ما فيه من التشويق إلى المؤخر ولأن فيه نوعَ طولٍ بما عُطف عليه من قوله تعالى
﴿وغضب﴾ فربما يخل تقديمهما بتجاوب النظمِ الكريم والرجسُ العذابُ من الارتجاس الذي هو الاضطرابُ والغضب إرادةُ الانتقام للتفخيم والتهويل
﴿أتجادلونني في أسماء﴾ عاريةٍ عن المسمى
﴿سميتموها﴾ أي سميتم بها
﴿أنتم وآباؤكم﴾ إنكارٌ واستقباح لإنكارهم مجيئَه عليه السلام داعياً لهم إلى عبادة الله تعالى وحده وتركِ
239
الأعراف آية ٧٢
عبادةِ الأصنام أي أتجادلونني في أشياءَ سمَّيتموها آلهةً ليست هي إلا محضُ الأسماءِ من غير أن يكون فيها من مصداق الإلهية شيءٌ ما لأن لمستحق للعبودية ليس إلا من أوجد الكلَّ وأنها لو استحقت لكان ذلك بجعله تعالى إما بإنزال آيةٍ أو نصبِ حُجةٍ وكلاهما مستحيلٌ وذلك قوله تعالى
﴿ما نزل الله بِهَا مِن سلطان﴾ وإذ ليس ذلك في حيز الإمكانِ تحققَ بطلان ما هم عليه
﴿فانتظروا﴾ مترتبٌ على قوله تعالى قد وقع عليكم أي فانتظروا ما تطلُبونه بقولكم فائتنا بما تعدنا الخ
﴿إني معكم من المنتظرين﴾ لما يَحِلُّ بكم والفاء في قوله تعالى
240
﴿فأنجيناه﴾ فصيحةٌ كما في قولِه تعالى فانفجرت أي فوقع ما قوع فأنجيناه
﴿والذين معه﴾ أي في الدين
﴿برحمة﴾ أي عظيمةٌ لا يُقادرُ قَدرُها وقوله تعالى
﴿منا﴾ أي من جهتنا متعلقٌ بمحذوف هو نعتٌ لرحمةٍ مؤكِّدٌ لفخامتها الذاتية المنفهة من تنكيرها بالفخامة الإضافية
﴿وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا﴾ أي استأصلناهم بالكلية ودمرناهم عن آخرهم
﴿وما كانوا مؤمنين﴾ عطفٌ على كذَّبوا داخلٌ معه في حكم الصلةِ أي أصرُّوا على الكفر والتكذيبِ ولم يرعووا عن ذلك أبداً وتقديمُ حكايةِ الإنجاءِ على حكاية الإهلاكِ قد مر سرُّه وفيه تنبيهٌ على أن مناطَ النجاةِ هو الإيمانُ بالله تعالى وتصديقُ آياتِه كما أن مدارَ البوارِ هو الكفرُ والتكذيب وقصتُهم أن عاداً قومٌ كانوا باليمن بالأحقاف وكانوا قد تبسّطوا في البلاد ما بين عُمان إلى حضْرَمَوتَ وكانت لهم أصنامٌ يعبُدونها صداً وصمود والهبا فبعثَ الله تعالى إليهم هوداً نبياً وكان من أوسطهم وأفضلهم حسباً فكذبوه وازدادوا عُتوّاً وتجبّراً فأمسك الله عنهم القطرَ ثلاثَ سنينَ حتى جهَدوا وكان الناس إذا نزل بهم بلاءٌ طلبوا إلى الله الفرجَ منه عند بيتِه الحرامِ مسلِمُهم ومشركُهم وأهل مكة إذ ذاك العماليقَ أولادَ عمليق ابن لاوذَ بنِ سامِ بنِ نوح وسيدُهم معاويةُ بنُ بكرٍ فجهزّت عادٌ إلى مكة من أماثلهم سبعين رجلا منهم قيل ابن عنز ومَرثدُ بن سعد الذي كان يكتُم إسلامَه فلما قدِموا نزلوا على معاويةَ بنِ بكر وهو بظاهر مكة خارجاً عن الحرم فأنزلهم وأكرمهم وكانوا أخوالَه وأصهارَه فأقاموا عنده شهراً يشربون الخمرَ وتغنّيهم قينتا معاوية فلما رأى طولَ مقامِهم وذهولَهم باللهو عما قدموا له أهمّه ذلك وقال قد هلك أخوالي وأصهاري وهؤلاء على ما هم عليه وكان يستحيي أن يكلمهم خشيةَ أن يظنوا به ثِقَلَ مقامهم عليه فذكر ذلم للقينتين فقالتا قل ضعرا نغنيهم به لا يدرون مَنْ قاله فقال معاوية... ألا يا قِيلُ ويحكَ قم فهينِم لعل الله يسقينا غماما... فيسقي أرضَ عادٍ إن عادا قَدَ أمسوا لا يبنون الكلاما فلما غنتا به قالوا إن قومَكم يتغوّثون من البلاء الذي نزل بهم وقد أبطأتم عليهم فادخُلوا الحرَم واستسقوا لقومكم فقال لهم مرثدُ بن سعد والله لا تُسقَون بدعائكم ولكن إن أطعتم نبيكم وتبتم إلى الله تعالى سُقِيتم وأظهر إسلامَه فقالوا لمعاوية احبِس عنا مرثداً لا يقدَمَن معنا فإنه قد اتبع هود وترك ديننا ثم دخلوا مكة فقال قيلُ اللهم اسقِ عاداً ما كنت تسقيهم فأنشأ الله تعالى سحاباتٍ ثلاثاً بيضاءَ وحمراءَ وسوداءَ ثم ناداه منادٍ من السماء يا قيلُ اختر لنفسك ولقومك فقال اخترت السوداءَ فإنها أكثرهم ماءً فخرجت على عاد من واد يقال له المغيث فاستبشَروا بها وقالوا هذا عارضٌ مُمطرُنا فجاءتهم منا ريح عقيم فأهلكتهم ونجال هودٌ والمؤمنون معه فأتَوا مكةَ فعبدوا الله تعالى
240
الأعراف آية ٧٣
فيها إلى أن ماتوا
241
﴿وإلى ثمود أخاهم صالحا﴾ عطف على ما سبق من قوله تعالى وإلى عاد أخاهم هوداً موافقٌ له في تقديم المجرورِ على المنصوب وثمودُ قبيلةٌ من العرب سُمُّوا باسم أبيهم الأكبرِ ثمودَ بنِ عابر بن إرم ابن سام بنِ نوحٍ عليه السلام وقيل إنما سُمُّوا بذلك لقلة مائِهم من الثمد وهو الماء القليل وقرىء بالصرف بتأويل الحيّ وكانت مساكنُهم الحِجْرَ بين الحدجاز واتلشام إلى واد القُرى وإخوةُ صالح عليه السلام لهم من حيث النسبُ كهودٍ عليه السلام فإنه صالحُ بنُ عبيد بنِ أسف بنِ ماسحِ بن عبيد بن حاذر بن ثمود ولما كان الإخبرا بإرساله عليه السلام إليهم مظنة لأن يسأل ويقال فماذا قال لهم قيل جوابا عنه بطريق الاستئناف
﴿قال يا قوم اعبدوا الله مَا لَكُم مّنْ إله غيره﴾ وقد مر الكلامُ في نظائره
﴿قد جاءتكم بينة﴾ أي آيةٌ ومعجزةٌ ظاهرة شاهدةٌ بنبوّتي وهي من الألفاظِ الجاريةِ مجرى الأبطحِ والأبرق في الاستغناء عن ذكر موصفاتها حالةَ الإفراد والجمع كالصالح إفراداً وجمعاً وكذلك الحسنةُ والسيئة سواءٌ كانتا صفتين للأعمال أو لمثوبة أو الحالة من الرخاء والشدة لذلك أوُلِيَت العوامل وقوله تعالى
﴿من رَّبّكُمْ﴾ متعلق بجاءتكم أو بمحذوف هو صفة لبينةٌ كما مر مراراً والمرادُ بها الناقةُ وليس هذا الكلام منه عليه السلام أولَ ما خاطبهم إثرَ دعوتِهم إلى التوحيد بل إنما قاله بعد ما نصحهم وذكّرهم بنعم الله تعالى فلم يقبلوا كلامَه وكذبوه ألا يُرى إلى ما في سورة هود من قولِه تعالى هُوَ أنشأكم من الأرض واستعْمَركم فيها إلى آخر الآيات روي أنه لما أُهلكت عادٌ عَمَرت ثمودُ بلادَها وخلفوهم في الأرض وكثُروا وعُمِّروا أعماراً طِوالاً حتى إن الرجل كان يبني المسكن المُحْكَم فينهدمُ في حيانه فنحتوا البيوتَ من الجبال وكانوا في سعة ورخاءٍ من العيش فعتَوْا على الله تعالى وأفسدوا في الأرض وعبدوا الأوثانَ فبعثَ الله تعالى إليهم صالحاً وكانوا قوماً عرباً وصالحٌ من أوساطهم نسباً فدعاهم إلى الله عزَّ وجلَّ فلم يتبعْه إلا قليلٌ منهم مستضعَفون فحذرهم وأنذرهم فسألوه آية فقال أيةَ ى ية تريدون قالوا تخرج معنا إلى عيدنا في يوم معلومٍ لهم من السنة فتدعو إلهك وندعوا آلهتنا فإن استجيب لك اتبعناك وإن استجيب لنا اتبعنا فقال صالح عليه السلام نعم فخرج معهم ودعَوْا أوثانهم وسألوا الاستجابة فلم تُجبْهم ثم قال سيدهم جندعُ بن عمرو وأشار إلى صخرة منفردة في ناحية الجيبل يقال لها الكاثبة أخرِجْ لنا من هذه الصخرةِ ناقةً مخترِجةً جوفاءَ وبراءً والمخترجة التي شاكلت البخث فإن فعلت صدقناك وأجبناك فأخذ صالح عليه السلام المواثيق لئن فعلتُ ذلك لتؤمِنُن ولتُصدِّقُنّ قالوا نعم فصلى ودعا ربه فتمخضت الصخرة وتمخض النتوج بولدها فانصدعت عن ناقشة عُشَراءَ جوفاء وبراءٍ كما وصفوا لا يعلم ما بين جنبيها إلا الله تعالى وعظماؤهم ينظرون ثم نُتِجت ولداً مثلَها في العظم فآمن به جندع ورهطٌ من قومه ومنع أعقابهم ناس من رءوسهم أن تؤمنوا فمكثت الناقة مع ولدها ترعى الشجرَ وتشرب الماءَ
241
الأعراف آية ٧٤
وكانت ترِدُ غِباً فإذا كان يومُها وضَعتْ رأسَها في البئر فما ترفعها حتى تشربَ كلَّ ما فيها ثم تتفحج فيحتلبون ما شاءوا حتى تمتلىء أوانيهم فيشربون ويدّخرون وكانت إذا وقع الحرُّ تصيّفت بظهر الوادي فيهرب منها أنعامهم فتهبِط إلى بطنه وإذا وقع البرد تشتت ببطن الوادي فتهرب مواشيهم إلى ظهره فشق ذلك عليهم وزيَّنَت عَقرَها لهم امرأتانِ عنيزة أم إن وصدقة بنتُ المختار لِما أضرَّت به من مواشيهما وكانتنا كثيرتي المواشي فعقروها واقتسموا لحمها وطبخوه فانطلق سقيها حتى رقيَ جبلاً اسمُه قارةُ فرَغا ثلاثاً وكان صالح عليه السلام قال لهم أدركوا الفصيل عسى أن يرفع عنكم العذاب فلم يقدروا عليه فانفجت الصخرةُ بعد رغائِه فدخلها فقال لهم صالح تُصبحون غدا وجوهكم مصفرة وبعد غدو وجوهكم محمرةٌ واليوم الثالث ووجوهكم مسودة يصبّحكم العذاب فلما رأوا العلاماتِ طلبوا أن يقتُلوه فأنجاه الله تعالَى إلى أرضِ فلسطين ولما كان اليومُ الرابع وارتفع الضحى تحنّطوا بالصبر وتكفنوا بالأنْطاع فأتتهم صيحةٌ من السماء ورجفةٌ من الأرض فتقطّعت قلوبُهم فهلكوا وقوله تعالى
﴿هذه ناقة الله لكم آية﴾ استئنافٌ مسوقٌ لبيان البينة وإضافةُ الناقةِ إلى الاسم الجليلِ لتعظيمها ولمجيئها من جهته تعالى بلا اسباب معهودة ووسايط معتاد ولذلك كانت آيةً وأيَّ آية ولكم بيانٌ لمن هي آيةٌ له وانتصابُ آيةً على الحالية والعاملُ فيها معنى الإشارةِ ويجوز أن يكون ناقةُ الله بدلاً من هذه أو عطف بيان له أو مبتدأ ثانياً ولكم خبراً عاملاً في آية
﴿فذروها﴾ تفريعٌ على كونها آيةً من ى يات الله تعالى فإنَّ ذلك ممَّا يوجب عدم التعرّضِ لها
﴿تأكل في أرض الله﴾ جوابُ الأمر أي الناقةُ ناقةُ الله والأرضُ أرضُ الله تعالى فاتركوها تأكلْ ما تأكلُ في أرض ربها فليس اكم أن تحولوا بينها وبينها وقرىء تأكلُ بالرفع على أنه في موضع الحالِ أي آكلةً فيها وعدمُ التعرض للشرب إما للاكتفاء عنه بذكر الأكلِ أو لتعميمه له أيضاً كَما في قولِه علفتُها تِبْناً وماء باردا وقد ذكر ذلك في قوله تعالى لها شِرْبٌ وَلَكُمْ شربُ يومٍ مَّعْلُومٍ
﴿ولا تمسوها بسوء﴾ نُهي عن المس الذي هو مقدمةُ الإصابةِ بالشرّ الشامل لأنواع الأذيةِ ونُكِّر السوءُ مبالغةً في النهي أي لا تتعرضوا لها بشيء مما يسوءها أصلاً ولا تطرُدوها ولا تيبوها إكرما لآية الله تعالى
﴿فيأخذكم عذاب أليم﴾ جوابٌ النهي ويُروى أن رسول الله ﷺ حين مر بالحِجر في غزوة تبوك قال لأصحابه لا يدخُلنّ أحدٌ منكم القريةَ ولا تشربوا من مائها ولا تدخُلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين أن يصيبَكم مثلُ الذي أصابهم وقال ﷺ لعلي رضيَ الله عُنهُ يا علي أتدري من أشقى الأولين قال الله ورسولُه أعلم قال عاقرُ ناقةِ صالح أتدري من أشقى الآخِرين قال الله ورسولُه أعلم قال قاتلُك
242
﴿واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء من بعد عاد﴾ أي خلفاءَ في الأرض أو خلفاءهم كما مر
﴿وبوأكم فِى الأرض﴾ ٦ أي جعلَ لكم مَباءةً ومنزلاً في أرض الحجر بين الحجاز والشام
﴿تتخذون من سهولها قصوراً﴾ استئنافٌ مبينٌ لكيفية التبوِئةِ أي تبننون في سهولها قصوراً رفيعةً أو تبنون من سهولة الأرض بما تعلمون منها من الرِهْص واللِبن والآجر
﴿وتنحتون الجبال﴾
242
الأعراف آية ٧٥ ٧٧
أي الصخورَ وقرىء تنحَتون بفتح الحاء وتناحتون بإشباع الفتحة كما في قوله ينباعُ من ذِفْرَى أسيلٍ حرّةٍ والنحتُ نجْرُ الشيءِ الصُّلب فانتصابُ الجبالِ على المفعولية وانتصابُ قوله تعالى
﴿بيوتاً﴾ عَلى أنَّها حالٌ مقدرةٌ منها كما تقول خِطْتُ هذا الثوبَ قميصاً وقيل انتصابُ الجبالِ على إسقاط الجار أي من الجبال وانتصابُ بيوتاً على المفعولية وقد جوّز أن يُضمَّن النحتُ معنى الاتخاذِ فانتصابُهما على المفعولية قيل كانوا يسكُنون السهولَ في الصيف والجبالَ في الشتاء
﴿فاذكروا آلاء الله﴾ التي أنعم بها عليكم مما ذكر أو جميعَ آلائِه التي هذه من جملتها
﴿وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الأرض مفسدين﴾ فإن حقَّ آلائِه تعالى أن تُشكَرَ ولا تُهملَ ولا يُغْفلَ عنها فكيف بالكفر والعِثيِّ في الأرض بالفساد
243
﴿قال الملأ الذين استكبروا من قومه﴾ أي عتَوْا وتكبروا استئنافٌ كما سلف وقرىء بالواو عطفاً على ما قبله من قوله تعالى قَالَ يا قوم الخ ة واللام في قوله تعالى ﴿للذين استضعفوا﴾ للتبليغ وقوله تعالى ﴿لمن آمن منهم﴾ بدلٌ من الموصول بإعادة العاملِ بدلَ الكلِّ إن كان ضميرُ منهم لقومه وبدلَ البعضِ إن كان للذين استُضعفوا على أن مِن المستضعفين مَنْ لم يؤمن والأولُ هو الوجهُ إذ لا داعيَ إلى توجيه الخطابِ أولاً إلى جميع المستضعفين مع أن المجاوبةَ مع المؤمنين منهم على أن الاستضعافَ مختصٌّ بالمؤمنين أي اقلوا للمؤمنين الذين استَضْعفوهم واسترذلوهم عدَلوا عن الجواب الموافِقِ لسؤالهم بأن يقولوا نعم أو نعلم أنه مرسلٌ منه تعالى مسارعة إلى تحقيق الحقِّ وإظهارِ ما لهُم من الإيمانِ الثابتِ المستمر الذي ينبىء عنه الجملةُ الاسميةُ وتنبيهاً على أن أمرَ إرسالِه منَ الظهورِ بحيثُ لا ينبغِي أنْ يُسألَ عنه وإنما الحقيقُ بالسؤال عنه هو الإيمانُ به
﴿قال الذين استكبروا﴾ أعيد الموصولُ مع صلته مع كفاية الضميرِ إيذاناً بأنهم قد قالوا ما قالوه بطريق العتُوِّ والاستكبار ﴿إنا بالذي آمنتم به كافرون﴾ وإنما لم يقولوا إنما بما أرسل به كافرون إظهاراً لمخالفتهم إياهم ورداً لمقالتهم
﴿فعقروا الناقة﴾ أي نحروها أسند الهقر إلى الكل مع أن المباشر بعضهم للملابسة أو لأن ذلك لما كان برضاهم فكأنه فَعلَه كلُّهم وفيه من تهويل الأمرِ وتفظيعِه بحيث أصابت غائلتُه الكلَّ ما لا يخفى
﴿وعتوا عَنْ أَمْرِ رَبّهِمْ﴾ أي استكبروا عن امتثاله وهو ما بلّغهم صالحٌ عليهِ السَّلامُ منَ الأمر والنهي
﴿وقالوا﴾ مخاطِبين له عليه السلام بطريق التعجيزِ والإفحامِ على زعمهم
﴿يا صالحُ ائتِنا بما تعدنا﴾ أي من العذاب والإطلاقُ للعلم به قطعاً
﴿إن كنت من المرسلين﴾ فإن كونَك من جملتهم يستدعي صدقَ ما تقول من
243
الأعراف ٧٨ ٨٠
الوعد والوعيد
244
﴿فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة﴾ أي الزلزلةُ لكن لا أثر ما قالوا ما قالوا بل بعدَ مَا جَرى عليهم ما جرى من مبادىء العذابِ في الأيام الثلاثةِ حسبما مر تفصيلُه ﴿فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ﴾ أي صاروا في أرضهم وبلدِهم أو في مساكنهم ﴿جاثمين﴾ خادمي موتى لا حَراكَ بهم وأصلُ الجثومِ البروكُ يقال الناسُ جثومٌ أي قعود لا حَراك بهم ولا ينبِسون نبْسةً قال أبو عبيدة الجثومُ للناس والطير والبروكُ للإبل والمرادُ كونُهم كذلك عند ابتداءِ نزولِ العذابِ بهم من غير اضطرابٍ ولا حركة كما يكون عند الموت المعتاد ولا يَخْفى ما فيهِ من شدة الأخذِ وسرعةِ البطش اللهم إنا بك نعوذ من نزول سخطِك وحُلولِ غضبِك وجاثمين خبرٌ لأصبحوا والظرفُ متعلقٌ به ولا مساغ لكونه خبراً أو جاثمين حالاً لإفضائه إلى كون الإخبارِ بكونهم في دارهم مقصوداً بالذات وكونِهم جاثمين قيداً تابعاً له غيرَ مقصودٍ بالذات قيل حيث ذُكرت الرجفةُ وُحِّدت الدارُ وحيث ذُكرت الصيحةُ جمعت لأن الصيحةَ كانت من السماء فبلوغُها أكثرُ وأبلغُ من الزلزلة فقُرن كلٌّ منهما بما هو أليقُ به
﴿فتولى عنهم﴾ إثرَ ما شاهد ما جرى عليهم تولي مغتم متحسر على ما فاتَهُم من الإيمان متحزن عليهم ﴿وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم﴾ بالترغيب والترهيبِ وبذلتُ فيكم وُسْعي ولكن لم تقبلوا مني ذلك وصيغةُ المضارعِ في قوله تعالى ﴿ولكن لا تحبون الناصحين﴾ حكايةُ حالٍ ماضيةٍ أي شأنُكم الاستمرارُ على بغض الناصحين وعداوتهم خاطبهم ﷺ بذلك خطابَ رسولِ الله ﷺ أهلَ قلَيبِ بدرٍ حيث قال إنا وجدْنا ما وعدنا ربُّنا حقاً فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً وقيل إنما تولى عنهم قبل نزولِ العذاب بهم عند مشاهدته ﷺ لعلاماته تولى ذاهب عنهم منكر لإصرارهم على ما هم عليه وروي أن عَقرَهم الناقةَ كان يوم الأربِعَاءِ ونزل بهم العذابُ يوم السبت وروي أنه خرج في مائة وعشرة من المسلمين وهو يبكي فالتفت فرأى الدخانَ ساطعاً فعلم أنهم قد هلَكوا وكانوا ألفاً وخمسَمائةِ دارٍ وروي أنه رجع بمن معه فسكنوا ديارَهم
﴿ولوطاً﴾ منصوبٌ بفعل مضمر معطوف على ما سبق وعدمُ التعرُّضِ للمرسل إليهم مقدماً على المنصوب حسبما وقع فيما سبقَ وما لحقَ قد مر بيانُه في قصة هودٍ عليه السلام وهو لوطُ بنُ هارانَ بن تارخ بنُ أخي إبراهيمَ كان من أرض بابلَ من العراق مع عمه إبراهيمَ فهاجر إلى الشأمِ فنزلَ فلسطينَ وأنزل لوطاً الأردُنّ وهي كورةٌ بالشام فأرسله الله تعالى إلى أهل سَدومَ وهي بلدٌ بحِمْصَ وقولُه تعالى
﴿إِذْ قَالَ لقومه﴾ ظرفٌ للمضمر المذكورِ أي أرسلنا لوطاً إلى قومه وقت قولِه لهم الخ ولعل تقييدَ إرسالِه عليه السلام بذلك لما أن إرسالَه إليهم لم يكمن في أول وصولِه إليهم وقيلَ هو بدلٌ من لوطاً بدلَ اشتمالٍ على أن انتصابَه باذكر أي اذكرْ وقتَ قولِه عليه السلام لقومه
﴿أتأتون الفاحشة﴾ بطريق الإنكارِ التوبيخيِّ التقريعيِّ أي أتفعلون تلك الفعلةَ المتناهيةَ في القبح المتماديةِ في
244
الأعراف آية ٨١ ٨٢
الشرية والسوء
﴿ما سبقكم بها﴾ ما عمِلها قبلكم على أن الباء للتعدية كما في قولِه عليه السلام سبقك بها عكاشة من قولك سبقته بالكرة أي ضربتها قبله ومِنْ في قولِه تعالَى
﴿من أحد﴾ مزيدةٌ لتأكيد النفي وإفادةِ معنى الاستغراقِ وفي قولِه تعالى
﴿مِن العالمين﴾ للتبعيض والجملةُ مستأنفةٌ مسوقة لتأكيدِ النكيرِ وتشديدِ التوبيخِ والتقريعِ فإن مباشرةَ القبيح واختراعَه أقبحُ ولقد أنكر الله تعالى عليهم أولاً إتيانَ الفاحشةِ ثم وبخهم بأنهم أولُ من عمِلها فإن سبكَ النظمِ الكريمِ وإنْ كانِ على نفي كونِهم مسبوقين من غير تعرّضٍ لكونهم سابقين لكن المرادَ أنهم سابقون لكل مَنْ عداهم من العالمين كما مرَّ تحقيقُه مراراً في نحوِ قولِه تعالى وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى على الله كذبا أو مسوقةٌ جواباً عن سؤال مقدَّرٍ كأنه قيل من جهتهم لم لا نأتيها فقيل بياناً للعلة وإظهاراً للزاجر ما سبقكم بها أحدٌ لغاية قُبْحِها وسوءِ سبيلها فكيف تفعلونها قال عمرو بن دينار ما نزَا ذكرٌ على ذكر حتى كان قومُ لوط قال محمد بن إسحق كانت لهم ثمارٌ وقُرى لم يكن في الدنيا مثلُها فقصدهم الناسُ فآذَوْهم فعرض لهم إبليسُ في صورة شيخ إن فعلتم بهم كذا وكذا نجَوْتم منهم فأبَوْا فلما ألحّ الناسُ عليهم قصدوهم فأصابوا غلمانا صبحا فأخبثوا فاستحكم فيهم ذلك قال الحسن كانُوا لا يفعلونَ ذلكَ إلا بالغرباء وقال الكلبي أول من فُعل به ذلك الفعلُ إبليسُ الخبيثُ حيث تمثل لهم في صورة شابٍ جميل فدعاهم إلى نفسه ثم عبثوا بذلك العمل
245
﴿إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال﴾ خبرٌ مستأنفٌ لبيان تلك الفاحشةِ وقرىء بهمزتين صريحتين وبتليين الثانيى ة بغير مدَ وبمد أيضاً على أنه تأكيدٌ للإنكار السابقِ وتشديدٍ للتوبيخ وفي زيادة إنّ واللامِ مزيدُ توبيخ وتقريع كأن ذلك أمرٌ لا يتحقق صدورُه عن أحد فيؤكد تأكيداً قوياً وفي إيراد لفظِ الرجالِ دون الغِلمان والمرادان ونحوِهما مبالغةً في التوبيخ وقوله تعالى ﴿شَهْوَةً﴾ مفعولٌ له أو مصدرٌ في موقعِ الحالِ وفي التقييد بها وصفهم بالبهيمة الصِّرْفة وتنبيهٌ عَلَى أنَّ العاقلَ ينبغي له أن يكون الداعي له إلى المباشرة طلبُ الولد وبقاءُ النوعِ لإقضاء الشهوةِ ويجوز أن يكون المرادُ الإنكارَ عليهم وتقريعَهم على اشتهائهم تلك الفعلةَ الخبيثةَ المكروهة كما ينبىء عنه قوله تعالى ﴿مّن دُونِ النساء﴾ أي متجاوزينَ النساءَ اللاتي هُنَّ محلُّ الاشتهاء كما ينبىء عنه قوله تعالى هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ﴿بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ﴾ إضرابٌ عن الإنكار المذكورِ إلى الإخبار بحالهم التي أفضَتْهم إلى ارتكاب أمثالِها وهي اعتيادُ الإسرافِ في كل شيءٍ أو عن الإنكار عليها إلى الذم على دميع معايبِهم أو عن محذوف أي لا عذرَ لكم فيه بل أنتم قومٌ عادتم الإسراف
﴿وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ﴾ أي المستكبرين منهم المتولين للأمر والنهي المتصدِّين للعقد والحل وقوله تعالى
﴿إَّلا أَن قَالُواْ﴾ استثناءٌ مفرَّغٌ من أعم الأشياء أي ما كان جواباً من جهة قومِه شيءٌ من الأشياءِ إِلاَّ قولُهم أي لبعضهم الآخرين المباتشرين للأمور معرضين عن مخاطبته عليه السلام
﴿أَخْرِجُوهُم﴾ أي لوطان ومن معه من أهله المؤمنين
﴿مّن قَرْيَتِكُمْ﴾ أيْ إلاَّ هذا القولُ الذي يستحيلُ أنْ يكونَ جواباً لكلام
245
الأعراف آية ٨٣ ٨٥
لوطٍ عليه السلام وقرىء برفع جواب على أنه اسم كان وإلا أن قالوا الخ خبرُها وهو أظهرُ وإن كان الأول أقوى في الصناعى لأن اللأعرف أحقُّ بالاسمية وأيا ما كان فليس المرادُ أنَّه لم يصدُرْ عنُهم بصددِ الجوابِ عن مقالات لوطٍ عليه السلام ومَواعظِه إلا هذه المقالةُ الباطلةُ كما هو المتسارعُ إلى الإفهام بل أنه لم يصدُرْ عنهم في المرَّةِ الأخيرةِ من مراات المحاورات الجاريةِ بينهم وبينه عليه السلام إلا هذه الكلمة الشنبيعة وإلا فقد صدرَ عنُهم قبل ذلك كثيرٌ من التُرَّهات حسبما حُكي عنهم في سائرِ السورِ الكريمةِ وهذا هو الوجهُ في نظائره الواردةِ بطريق القصر وقوله تعالى
﴿إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ تعليلٌ للأمر بالإخراج ووصفهم بالتطهير للاستهزاء والسخرية بهم وبتطهرهم من الفواحش والخبائث والافتخارِ بما هُم فيه من القذارة كما هو دين الشُطّار والدُعّار
246
﴿فأنجيناه وَأَهْلَهُ﴾ أي المؤمنين منهم ﴿إِلاَّ امرأته﴾ استثناءٌ من أهله فإنها كانت تُسِرّ بالكفر ﴿كَانَتْ مِنَ الغابرين﴾ أي الباقين في ديارهم الهالِكين فيها والتذكيرُ للتغليب ولبيان استحقاقِها لما يستحقه المباشِرون للفاحشة والجملةُ استئنافٌ وقعَ جواباً عن سؤال نشأ عن استثنائها من حكم الإنجاءِ كأنه قيل فماذا كان حالُها فقيل كانت من الغابرين
﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا﴾ أي نوعاً من المطر عجيباً وقد بينه قوله تعالى وأمططرنا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ قال ابو عبيدة مطرفي الرحمة وأُمطِر في العذاب وقال الراغب مُطر في الحبر وأُمطر في العذاب والصحيح أن أَمطَرنا بمعنى أرسلنا عليهم إرسالَ المطر قيل كانت المؤتَفِكةُ خمسَ مدائن وقيل كانوا أربعةَ آلافٍ بين الشام والمدينة فأمطر الله عليهم الكِبريتَ والنارَ وقيل خَسَف بالمقيمين منهم وأُمطرت الحجارةُ على مسافريهم وشُذّاذهم وقيل أُمطر عليهم ثم خصف بهم ورُوي أن تاجراً منهم كان في الحرَم فوقف الحجرُ له أربعين يوماً حتى قضى تجارتَه وخرج من الحرم فوقع عليه وروي أن امرأتَه التفتت نحوَ ديارِها فأصابها حَجَرٌ فماتت ﴿فانظر كَيْفَ كان عاقبة المجرمين﴾ خطابٌ لكلِّ مَنْ يتأتَّى منْهُ التأملُ والنظرُ تعجيباً من حالهم وتحذيراً من أعمالهم
﴿وإلى مَدْيَنَ أخاهم شُعَيْباً﴾ عطفٌ على قوله وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا وما عُطف عليه وقد روعيَ ههنا ما في المعطوف عليه من تقديم المجرورِ على المنصوب أي وأرسلنا إليهم وهم أولاد مدين بن إبراهيم عليه السلام شعيب بنُ ميكائيلَ بنِ يشجَر بنِ مدينَ وقيل شعيبُ بنُ ثويبِ بنِ مدينَ وقيل شعيبُ بنُ يثرونَ بنِ مدينَ وكان يقال له خطيب الأنبياء لحسن مراجعتِه قومَه وكانوا أهلَ بخسٍ للمكاييل والموازين مع كفرهم
﴿قَالَ﴾ استئنافٌ مبنيٌ
246
الأعراف آية ٨٦
على سؤال نشأ عن حكاية إرسالِه إليهم كأنَّه قيلَ فماذَا قالَ لهم فقيل قال
﴿يا قوم اعبدوا الله مَا لَكُم مّنْ إله غَيْرُهُ﴾ مر تفسيرُه مراراً
﴿قَدْ جَاءتْكُم بَيّنَةٌ﴾ أي معجزةٌ وقوله تعالى
﴿من رَّبّكُمْ﴾ متعلق بجاءتكم أو بمحذوف هو صلةٌ لفاعله مؤكدةٌ لفخامته الذاتيةِ المستفادةِ من تنكيره بفخامته الإضافيةِ أي بينةٌ عظيمةٌ ظاهرةٌ كائنةٌ من ربكم ومالِك أمورِكم ولم يُذكرْ معجزتُه عليه السلام في القرآن العظيم كما لم يُذكر أكثرُ معجزاتِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم فمنها ما روي من محاربة عصا موسى عليه السلام التّنّينَ حين دفع إليه غنمَه ومنها ولادةُ الغنمِ الدرعَ خاصة حين وعد أن يكون له الدرعُ من أولادها ومنها وقوعُ عصا آدمَ عليه السَّلامُ على يده في المرات السبعِ لأن كلَّ ذلك كان قبل أن يُستنبأ مُوسى عليه السَّلامُ وقيل البينةُ مجيئُه عليهِ السَّلامُ كَما في قوله تعالى يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّى أي حجةٌ واضحةٌ وبرهانٌ نيِّرٌ عبّر بهما عما آتاه الله من النبوة والحكمة
﴿فَأَوْفُواْ الكيل﴾ أي المكيالَ كما وقعَ في سورةِ هودٍ يؤيده قوله تعالى
﴿والميزان﴾ قلإن المتبادرَ منه الآلةُ وإن جاز كونه مصدرا كالميعاد وقيل آلةَ الكيل والوزن على الإضمار والفاءُ لترتيبِ الأمرِ على مجيء البينةِ ويجوز أن تكون عاطفةً على اعبدوا فإن عبادةَ الله تعالى موجبة للاحتناب عن المناهي التي معظمُها بعد الكفرِ البخْسِ الذي كانوا يباشرونه
﴿وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءهُمْ﴾ التي تشترونها بهما معتمدين على تمامهما أيَّ شيءٍ كان وأيَّ مقدارٍ كان فإنهم كانوا يبخسون الجليلَ والحقيرَ والقليلَ والكثيرَ وقيل كانوا مكّاسين لا يدَعون شيئاً إلا مكَسوه قال زهير... أفي كل أسواق العراق إتاوة وفي كا ما باع امرؤٌ مَكْسُ درهمِ
﴿وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الارض﴾ أي بالكفر والحيف
﴿بعد إصلاحها﴾ بعدما أصلح أمرَها وأهلَها الأنبياءُ وأتباعهم بإجراء الشرائعِ أو أصلحوا فيها وإضافتُه إليها كإضافة مكرِ الليلِ والنهار
﴿ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ إشارةٌ إلى العمل بما أمرَهم به ونهاهم عنه ومعنى الخيريةِ إما الزيادةُ مطلقاً أو في الإنسانية وحسنِ الأُحدوثة وما يطلُبونه من التكسب والربح لأن الناسَ إذا عرفوهم بالأمانة رغِبوا في معاملتهم ومُتاجَرَتِهم
﴿إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ أي مصدّقين لي في قولي هذا
247
﴿وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلّ صراط تُوعِدُونَ﴾ أي بكل طريقٍ من طرق الدِّين كالشيطان وصراطُ الحقِّ وإن كان واحداً لكنه يتشعب إلى معارفَ وحدودٍ وأحكامٍ وكانوا إذا رأو أحداً يشرَع في شيء منها منعوه وقيل كانوا يجلسون على المراصد فيقولن لمن يريد شعيباً إنه كذابٌ لا يفتنَنَّك عن دينك ويتوعجون لمن آمن به وقيل يقطعون الطريق
﴿وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله﴾ أي السبيلِ الذي قعَدوا عليه فوقع المُظهرُ موقعَ المضمرِ بياناً لكل صراطٍ ودلالةً على عِظم ما يصدون عنه تقبيحا لما كمانوا عليه أو الإيسمان بالله أو بكل صراط على أنه عبارةٌ عن طرق الدين وقوله تعالى
﴿من آمن بِهِ﴾ مفعول تصدون على أعمال الأقرب لو كان مفعة ول توعِدون لقيل وتصُدونهم وتوعِدون حال من الضمير في تقعدوا
﴿وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا﴾ أي وتطلبون لسبيل الله عوجاً بإلقاء الشُبَهِ أو بوصفها للناس بأنها مُعْوجةٌ وهي أبعدُ شيءٍ من شائبة الاعوجاج
247
الأعراف آية ٨٧ ٨٨
﴿واذكروا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ﴾ بالبركة في النسل والمال
﴿وانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة المفسدين﴾ من الأمم الماضيةِ كقومِ نوحٍ ومَنْ بعدهم من عاد وثمودَ وأضرابِهم واعتبِروا بهم
248
﴿وَإِن كَانَ طَائِفَةٌ مّنكُمْ آمنوا بالذى أُرْسِلْتُ بِهِ﴾ من الشرائع والأحكام ﴿وَطَائِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ﴾ أي به أو لم يفعلوا الإيمان ﴿فاصبروا حتى يَحْكُمَ الله بَيْنَنَا﴾ أي بين الفريقين بنصر المُحقّين على المبطلين فهو وعدٌ للمؤمنين ووعيدٌ للكافرين ﴿وهو خير الحاكمين﴾ غذ لا معقِّبَ لحكمه ولا حَيْفَ فيه
﴿قال الملأ الذين استكبروا من قومه﴾ استئناف مبني على سؤال ينساق إليه المقالُ كأنه قيل فماذا قالوا بعد ما سمعوا هذه المواعظَ من شعيبٍ عليه السَّلامُ فقيل قال أشرافُ قومِه المستكبرون متطاولين عليه عليه السلام غيرَ مكتفِين بمجرد الاستعصاءِ عليه والامتناعِ من الطاعة له بل بالغين من العُتوِّ والاستكبارِ إلى أن قصَدوا استتباعَه عليه السلام فيما هم فيه وأتباعَه المؤمنين واجترءوا على إكراههم عليه بوعيد النفي وخاطبوه بذلك على طريقة التوكيدِ القسمي
﴿لَنُخْرِجَنَّكَ يا شعيب والذين آمنوا﴾ بنسبة الإخراجِ إليه عليه السلام أولا إلى المؤمنين ثانياً بعطفهم عليه تنبيهاً على أصالته عليه السلام في الإخراج وتبعيتِهم له فيه كما ينبىء عنه قوله تعالى
﴿مَعَكَ﴾ فإنه متعلقٌ بالإخراج لا بالإيمان وتوسيطُ النداءِ باسمه العَلَميِّ بين المعطوفَين لزيادة التقرير والتهديد الناشئة عن غاية الوقاحةِ والطغيان أي والله لنُخرجنّك وأتباعَك
﴿مِن قَرْيَتِنَا﴾ بغضاً لكم ودفعاً لفتنتكم المترتبةِ على المساكنة والجِوارِ وقوله تعالى
﴿أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا﴾ عطفٌ على جوابِ القسمِ أيْ والله ليكونن أحدُ الأمرين البتنة على أن المقصِدَ الأصليَّ هو العَوْدُ وإنما ذُكر النفيُ والإجلاءُ لمحض القسر والأجاء كما يُفصِحُ عنه عدمَ تعرُّضِه عليه السلام لجواب الإخراجِ كأنهم قالوا لا ندعكم فيما بيننا حتى تدخُلوا في ملتنا وإدخالُهم له عليهِ السَّلامُ في خطاب العَوْدِ مع استحالة كونه عليه السلام في ملتهم قبل ذلك إنما هو بطريق تغليل الجماعةِ على الواحد وإنما لم يقولوا أو لنُعيدنّكم على طريقة ما قبله لِما أن مُرادَهم أن يعودوا إليها بصوررة الطواعيةِ حِذارَ الإخراجِ باختيار أخون الشرَّين لا إعادتُهم بسائر وجوهِ الإكراهِ والتعذيب
﴿قَالَ﴾ استئنافٌ كما سبق أي قال عليه السلام رداً لمقالتهم الباطلةِ وتكذيباً لهم في أيمانهم الفاجرة
﴿أولو كُنَّا كارهين﴾ على أنَّ الهمزةُ لإنكارِ الوقوعِ ونفْيِه لا لإنكارِ الواقعِ واستقباحِه كالتي في قولِه تَعالَى أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَىء مُّبِينٍ ويجوز أن يكون الاستفهامُ فيه باقياً على حاله وقد مرَّ مراراً أنَّ كلمةَ لو في مثلِ هذا المقامِ ليست لبيان انتفاءِ الشيءِ في الزمن الماضي لانتفاء غيرِه فيه فلا يلاخحظ لها جوابٌ قد حُذف تعويلاً على دِلالة ما قبلها عليه ملاحظة قصدية إلا عند القصدِ إلى بيان الإعرابِ على القواعد الصناعيةِ بل هي لبيان تحققِ ما يفيده الكلام السابق
248
الأعراف آية ٨٨
بالذَّاتِ أو بالواسطةِ من الحُكم الموجَبِ أو المنفي على كل حالٍ مفروض من الأحوال المقارنةِ له على الإجمال بإدخالِها على أبعدِها منه وأشدِّها منافاةً له ليظهرَ بثبوتهِ أو انتفائِه معه ثبوتُه أو انتفاؤُه مع ما عداه من الأحوال بطريق الأولوية لِما أن الشيءَ متى تحقَّقَ مع المنافي القويِّ فلأنْ يتحقَّقَ مع غيره أولى ولذلك لا يُذكر معه شيءٌ من سائرِ الأحوال ويكتفى عنه بذكر الواوِ العاطفةِ للجُملة على نظيرتها المقابلةِ لها الشاملةِ لجميع الأحوالِ المغايرةِ لها عند تعدّدِها وهذا معنى قولِهم أنها لاستقصاء الأحوالِ على سبيلِ الإجمالِ وهذا المعنى ظاهرٌ في الخبر الموجَبِ والمنفيِّ والأمرِ والنهي كما في قولك فلانٌ جوادٌ يُعطي ولو كان فقيراً أو بخيلٌ لا يُعطي ولو كان غنياً وكقولك أحس غليه ولو أساءَ إليك ولا تُهِنْه ولو أهانك لبقائه على حاله سالماً عما يغيّره وأما فيما نحنُ فيه ففية نوعُ خفاءٍ لتغيّره بورود الإنكارِ عليه لكن الأصلَ في الكل واحدٌ إلا أن كلمةَ لو في الصور المذكورةِ متعلقةٌ بنفس الفعل المذكورِ قبلها وأن ما يُقصد بيانُ تحققِه على كل حالٍ هو نفسُ مدلولِه وأن الجملةَ حالٌ من ضميره أو مما يتعلق به وأن ما في حيز لو مقرّرٌ على ما هو عليه من الاستبعاد بخلاف ما نحن فيه لما أن كلمةَ لو متعلقةٌ فيه بفعل مقدرٍ يقتضيه المذكورُ وأن ما يُقصد بيانُ تحققِه على كل حال هو مدلولُه لا مدلولُ المذكورِ وأن الجملةَ حالٌ من ضميره لا من ضمير المذكور كما سيأتي وأن المقصودج الأصلي إنكارُ مدلولِه من حيث مقارنتُه للحالة المذكورةِ وأما تقديرُ مقارنته لغيرها فلتوسيع الدائرةِ وأن ما في حيز لولا يُقصد استبعادُه في نفسه بل يقصد الإشعارُ بأنه أمرٌ مقرّرٌ إلا أنه أُخرج مُخرَجَ الاستبعادِ مبالغةً في الإنكار من جهة أن العودَ مما يُنكر عند كونِ الكراهةِ أمراً مستبعدا فكيف به عند كونِها أمراً محققاً ومعاملةً مع المخاطَبين على معتقدَهم لاستنزالهم من رتبة العِناد وليس المرادُ بالكراهة مجردَ كراهةِ المؤمنين للعود في ملة الكفرِ ابتداءً حتى يقال إنها معلومةٌ لهم فكيف تكون ممستبعدة عندهم بل إنما هي كراهتُهم له بعد وعيدِ الإخراجِ الذي جُعل قريناً للقتل في قوله تعالى وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا الآية فإنهم كانوا يستبعدونها ويطمَعون في أنهم حينئذ يختارون العود خشية الإخراج غذ رُب مكروهٍ يُختار عند حلولِ ما هُو أشدُّ منْهُ وأفظعُ والتقديرُ أنعودُ فيها لو لم نكن كارهين ولو كنا كارهين غيرَ مبالين بالإكراه فالجملةُ في محل النصب على الحالية من ضمير الفعل المقدرِ حسبما أُشير إليه إذ مآله ألعود فيها حالَ عدمِ الكراهةِ وحال الكراهة إنكارا لما تفيده كلمتُهم الشنيعةُ بإطلاقها من العَوْد على أي حالةٍ كانت غيرَ أنه اكتُفيَ بذكر الحالة الثانيةِ التي هي أشدُّ الأحوالِ منافاةً للعود وأكثرُها بُعداً منه تنبيهاً على أنها هي الواقعةُ في نفس الأمر وثقةً بإغنائها عن ذكر الأولى إغناءً واضحاً لأن العودَ الذي تعلق به الإنكارُ حين تحققَ مع الكراهة على ما يوجبه كلامُهم فلأن يتحققَ مع عدمها أولى إن قلتَ النفيُ المستفادُ من الاستفهامِ الإنكاريِّ فيما نحن فيه بمنزلة صريحِ النفي ولا ريب في أن الأولويةَ هناك معتبرةٌ بالنسبة إلى النفي ألا يُرى أن الأولى بالتحقق فيما ذُكر من مثال النفي عند الحالةِ المسكوتِ عنها أعني عدمَ الغِنى هو عدمُ الإعطاءِ لا نفسُه فكان ينبغي أن يكون الأولى بالتجحقق فيما نحن فيه عند عدمِ الكراهةِ عدمُ العَوْدِ لا نفسُه إذ هو الذي يدل عليه قولُنا أنعود لأنه في معنى لا نعود فلمَ اختلف الحالُ بينهما قلتُ لِما أن مناطَ الأولويةِ هو الحكم
249
الأعراف آية ٨٩
الذي أريد بيانُ تحققِه على كل حالٍ وذلك في مثال النفي عدمُ الإعطاءِ المستفادِ من الفعل المنفيِّ المذكور وأما فيما نحن فيه فهو نفسُ العودِ المستفادِ من الفعل المقجر إذ هو الذي يقتضيه الكلامُ السابقُ أعني قولَهم لتعودُن وأما الاستفهامُ فخارجٌ عنه واردٌ عليه لإبطال ما يفيده ونفي مال يقتضيه لا أنه من تمامه كما في صورة النفي وتوضيحُه أن بين النفيين فرقاً معنوياً تختلف به أحكامُهما التي من جملتها ما ذكر من اعتبار الأولوية في أحدهما بالنسبة إلى نفسه وفي الآخر بالنسبة إلى متعلَّقه ولذلك لا تستقيم إقامةُ أحدِهما مُقامَ الآخَر على وجه الكلية ألا يُرى أنك لو قلت مكانَ أنعود فيها الخ لا نعود فيها ولو كنا كارهين لاختلَّ المعنى اختلالاً فاحشاً لأن مدلولَ الأولِ نفيُ العَوْد المقيدِ بحال الكراهة ومدلولَ الثاني تقييدُ العودِ المنفيِّ بها وذلك لأن حرفَ النفي يباشر نفسَ الفعلِ وينفيه وما يُذكر بعده يرجِعُ إليه من حيث هو منفيٌّ وأما همزةُ الاستفهامِ فإنها تباشر الفعل بعد تقييده بما بعده لما أن دِلالتَها على الإنكار والنفي ليست بدلالة وضعيةٍ كدِلالة حرفِ النفي حتى يتعلقَ معناها بنفس الفعلِ الذي يليها ويكونَ ما بعده راجعاً إليه من حيث هو منفيٌّ بل هي دِلالةٌ عقليةٌ مستفادةٌ من سياق الكلامِ فلا بد أن يكون ما يُذكر بعج الفعلِ من موانعه ودواعي إنكارِه ونفيِه حتماً ليكون قرينةً صارفةً للهمزة عن حقيقتها إلى معنى الإنكارِ والنفي ثم لما كان المقصود نفي الحاكم على كل حال مع الاقتصاد على ذكر بعضٍ منها مغنٍ عن ذكر ما عجاها لاستلزام تحقّقِه معه تحققه مع غيره بطريق الأولوية وكانت حالُ الكراهةِ عند كونها قيداً لنفس العَوْدِ كذلك أي مغنياً عن ذكر سائرِ الأحوالِ ضرورة أن تحققَ العَوْدِ في حال الكراهة مكستلزم لتحققه في حال عدمِها البتةَ وعند كونِها قيداً لنفيخ بخلاف ذلك أي غيرُ مغنٍ عن ذكر غيرِها ضرورة أن نفيَ العودِ في حال الكراهةِ لا يستلزمُ نفيَه في غيرها بل الأمرُ بالعكس فإن نفيَه في حال الإرادةِ مستلزمٌ لنفيه في حال الكراهةِ قطعاً استقام الأول لإفادته نفي العودى ة في الحالتين مع الاقتصار على ما ذِكْر ما هو مغنٍ عن ذكر الأخرى ولم يستقم الثاني لعدم إفادتِه إيَّاهُ على الوجهِ المذكورِ إن قيل فما وجهُ استقامتِهما جميعاً عند ذكرِ المعطوفَيْن معاً حيث يصِحّ أن يقال لا نعودُ فيها لو لم نكن كارهيم كما يصح أن يقال أنعودُ فيها لو لم نكن كارهين ولو كنا كارهين مع أن المقدّر في حكم الملفوظِ قلنا وجهُها أن كلاًّ منهما يفيد معنىً صحيحاً في نفسه لا أن معنى أحدِهما عينُ معنى الآخر أو متلازمان متفقانِ في جميع الأحكام كيف لا ومدلولُ الأولِ أن العودَ منتفٍ في الحالتين ومدلولُ الثاني مصحِّحٌ لنفي العَوْدِ في الحالتين منتفٍ وكلا المعنيين صحيحٌ في نفسه مصحِّحٌ لنفي العود فسي الحالتين مع ذكرهما معا غير أن الثاني مصحِّحٌ لنفي العَوْدِ في الحالتين مع الاقتصار على ذكر حالة الكراهة على عكس المعنى الأول فإنه مصحِّحٌ لنفيه فيهما مع الاقتصاد على ذكر حالةِ الإرادة
250
﴿قَدِ افترينا عَلَى الله كَذِبًا﴾
250
أي كذباً عظيما لا يُقادَر قدرُه
﴿إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُمْ﴾ التي هي الشركُ وجوابُ الشرطِ محذوفٌ لدلالة ما قبله عليه أي إن عجنا في ملتكم
﴿بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا﴾ فقد افترينا على الله كذبا عظيماً حيث نزعُم حينئذ أن الله تعالى نِداً وليس كمثله شيءٌ وأنه قد تبين لنا أن ما كُنَّا عليه من الإسلام باطلٌ وأن ما كنتم عليه من الكفر حقٌّ وأيُّ افتراءٍ أعظمُ من ذلك وقيل إنه جوابُ قسمٍ محذوف حذف عنه اللامُ تقديره والله لقد افترينا الخ
﴿وَمَا يَكُونُ لَنَا﴾ أي وما يصِحّ وما يستقيم لنا
﴿أن نعود فيها﴾ في حالمن الأحوالِ أو في وقتٍ من الأوقات
﴿إِلاَّ أَن يَشَاء الله﴾ أي إلا حالَ مشيئةِ الله تعالى أو وقتَ مشيئتِه تعالى لعَوْدنا فيها وذلك مما لا يكاد يكون كما ينبىء عنه قوله تعالى
﴿رَبَّنَا﴾ فإن التعرض لعنوان لاربوبيته تعالى لهم مما ينبىء عن استحالة مشيئتِه تعالى لارتدادهم قطعاً وكذا قوله تعالى بع إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا فإن تنجيتَه تعالى لهم منها من دلائل عدمِ مشيئتِه لعَودِهم فيها وقيل معناه إلا أن يشاء الله خِذلانَنا وقيل فيه دليلٌ على أنَّ الكفرَ بمشيئته تعالى وأيا ما كان فليس المرادُ بذلك بيانَ أن العودَ فيها في حيز الإمكانِ وخطرِ الوقوعِ بناءً على كون مشيئتِه تعالى كذلك بل بيانُ استحالةِ وقوعِها كأنه قيل وما كان لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربُّنا وهيهاتَ ذلك بدليل ما ذُكر من موجبات عدم مشيئتِه تعالى له
﴿وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْء عِلْمًا﴾ فهو محيطٌ بكل ما كان وما يكون من الأشياء التي من جملتها أحوالُ عبادِه وعزائمُهم ونياتُهم وما هو اللائقُ بكل واحدٍ منهم فمُحالٌ من لطفه أن يشاء عَودَنا فيها بعد ما نجانا منها مع اعتصامنا به خاصةً حسبما ينطِق به قوله تعالى
﴿عَلَى الله تَوَكَّلْنَا﴾ أي في أن يثبتَنا على ما نحنُ عليه من الإيمان ويُتمَّ علينا نعمتَه بإنجائنا من الإشراك بالكلية وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موقع الإضمارِ للمبالغةِ في التضرعِ والجُؤار وقوله تعالى
﴿رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق﴾ إعراضٌ عن مقاولتهم إثرَ ما ظهر له عليه الصلاة والسلام أنهم من العتو والعِناد بحيث لا يُتصور منهم الإيمانُ أصلاً وإقبالٌ على الله تعالى بالدعاء لفصل ما بينه وبينهم بما يليق بحال كلَ من الفريقين أي احكم بيننا بالحق والفَتاحَةُ الحكومة أو أظهرْ أمرنا حتى ينكشِفَ ما بيننا وبينهم ويتميز المُحقُّ من المبطِل من فتَحَ المُشكلَ إذا بيّنه
﴿وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين﴾ تذييلٌ مقررلمضمون ما قبله على المعنيين
251
﴿وَقَالَ الملا الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ﴾ عطفٌ على قال الملأ الذين الخ ولعل هؤلاء غير أولئك المستكبرين ودونهم في الرتبة شأنُهم الوساطةُ بينهم وبين العامةِ والقيامُ بأمورهم حسبما يراه المستكبرون ويجوز أن يكون عينَ الأولين وتغييرُ الصلةِ لما أن مدارَ قولِهم هذا هو الكفرُ كما أن مناطَ قولِهم السابقِ هو الاستكبارُ أي قال أشرافُهم الذين أصروا على الكفر لأعقابهم بعد ما شاهدوا صلابةَ شعيبٍ عليهِ السَّلامُ ومنْ معَهُ من المؤمنين في الإيمان وخافوا أن يستتبوا قومَهم تثبيطاً لهم عن الإيمان به وتنفيراً لهم عنه على طريقة التوكيدِ القسَمي والله
﴿لَئِنِ اتبعتم شُعَيْبًا﴾ ودخلتم في دينه وتركتم جين آبائِكم
﴿إِنَّكُمْ إِذاً لخاسرون﴾ أي في الدين لاشترائكم الضلالةَ بهداكم أو في الدنيا لفوات ما يحصُل لكم بالخس والتطفيف وإذن حرفُ جوابٍ وجزاءٍ معترِضٌ بين اسمِ إنَّ وخبرِها والجملةُ سادةٌ مسد
251
الأعراف آية ٩١ ٩٤
جوابي الشرطِ والقسمِ الذي وطَّأَتْه اللام
252
﴿فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة﴾ أي الزَّلزلةُ وهكذا في سورة العنكبوت وفي سورة هود وَأَخَذَتِ الذين ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ أي صيحةُ جبريلَ عليهِ السَّلامُ ولعلها من مبادى الرجفةِ فأُسند هلاكُهم إلى السبب القريبِ تارةً وإلى البعيد أخرى ﴿فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ﴾ أي في مدينتهم وفي سورة هودج في ديارهم ﴿جاثمين﴾ أي ميتين لازمين لأماكنهم لا بَراحَ لهم منهَا
﴿الذين كَذَّبُواْ شُعَيْبًا﴾ استئنافٌ لبيان ابتلائهم بشئوم قولِهم فيما سبق لَنُخْرِجَنَّكَ يا شعيب والذين آمنوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا وعقوبتِهم بمقابلته والموصولُ مبتدأٌ خبرُه قوله تعالى ﴿كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا﴾ أي استُؤصِلوا بالمرة وصاروا كأنهم لم يقيموا بقريتهم أصلاً أي عوقبوا بقولهم ذلك وصاروا هم المُخرَجين من القرية إخراجاً لا دخولَ بعده أبداً وقولُه تعالَى ﴿الذين كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ هُمُ الخاسرين﴾ اتستئناف آخرُ لبيان ابتلائِهم بعقوبة قولِهم الأخيرِ وإعادةُ الموصولِ والصلةِ كما هي لزيادةِ التقريرِ والإيذانِ بأنَّ ما ذكر في حيز الصلة هو الذي استوجب العقوبتين أي الذين كذبوه عليه السلام عوقبوا بمقالتهم الأخيرة فصاروا هم الخاسرين للدنيا والدين لا المتبعون له عليه الصلاة والسلام وبهذا القصر اكتُفي عن التصريح والذين آمنوا مَعَهُ الخ
﴿فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أَبْلَغْتُكُمْ رسالات رَبّى وَنَصَحْتُ لكم﴾ قالَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بعد ما هلكوا تأسفاً بهم لشدة حزنِه عليهم ثم أنكر على نفسه ذلك فقال ﴿فكيف آسى﴾ أحزن حزناً شديداً ﴿على قَوْمٍ كافرين﴾ أي مُصِرِّين على الكفر ليسوا أهلَ حزنٍ لاستحقاقهم ما نزل عليهم بكفرهم أو قاله اعتذار عن عدم شدة حزنِه عليهم والمعنى لقد بالغتُ في الإبلاغ والإنذار وبذلتُ وُسعي في النصح والإشفاقِ فلم تُصدِّقوا قولي فكيف آسى عليكم وقرىء إيسى بإمالتين
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مّن نَّبِىٍّ﴾ إشارةٌ إجمالية إلى بيان أحوالِ سائرِ الأمم إثرَ بيان أحوالِ الأمم المذكورة وتفصيلا ومن مزيدة لتأكيد النفي والصفةُ محذوفةٌ أي من نبي كُذِّب أو كذَّبه أهلُها
﴿إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا﴾ استثناء مفرغ من أعم الأحوالِ وأخذنا في محل النصب من فاعل أرسلنا والفعلُ الماضي لا يقع بعد إلا بأحد شرطين إما تقديرِ قد كما في هذه الآية أو مقارَنةِ قد كما في قولك ما زيد إلا قد قام والتقديرُ وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ من القرى المُهلَكة نبياً من الأنبياء في حالٍ من الأحوالِ إلا حالَ كونِنا آخذين
252
الأعراف آية ٩٥ ٩٧
أهلَها
﴿بالبأساء﴾ بالبؤس والفقرِ
﴿والضراء﴾ بالضُّرّ والمرض لكنْ لا على مَعْنى أن ابتداءَ الإرسالِ مقارِنٌ للأخذ المذكورِ بل على أنه مستتبِعٌ له غيرُ منفكَ عنه بالآخرة لاستكبارهم عن اتباع نبيِّهم وتعزُّزِهم عليه حسبما فعلت الأممُ المذكورة
﴿لعلهم يتضرعون﴾ كي يتضرعوا ويتذللوا ويحُطّوا أرديةَ الكِبْر والعزةِ عن أكتافهم كقوله تعالى لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إلى أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ فأخذناهم بالبأساء والضراء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ
253
﴿ثُمَّ بَدَّلْنَا﴾ عطفٌ على أخذنا داخلٌ في حكمه ﴿مَكَانَ السيئة﴾ التي أصابتهم للغاية المذكورةِ ﴿الحسنة﴾ أي أعطيناهم بدلَ ما كانُوا فيه من البلاء والمحنةِ والرخاء والسعةَ كقوله تعالى وبلوناهم بالحسنات والسيئات ﴿حتى عَفَواْ﴾ أي كثُروا عَدداً وعُدداً من عفا النباتُ إذا كثر وتكاثر وأبطرتهم النعمة ﴿قالوا﴾ غيرَ واقفين على أنَّ ما أصابَهم من الأمرين ابتلاءٌ من الله سبحانه ﴿قد مس آباءنا الضراء والسراء﴾ كما مسّنا ذلك وما هو إلا من عادة الدهرِ يعاقِب في الناس بين الضراءِ والسراء من غير أن يكون هناك داعيةٌ تؤدي إليهما أو تِبعةٌ تترتب عليهما ولعل تأخيرَ السراءِ للإشعار بأنها تعقُب الضراءَ فلا ضيرَ فيها ﴿فأخذناهم﴾ إثر ذلك ﴿بغتة﴾ فجاءة أشدَّ الأخذِ وأفظعَه ﴿وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾ بذلك ولا يخطرون ببالهم شيئاً من المكاره كقوله تعالى حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ الآية وليس المرادُ بالأخذ بغتةً إهلاكَهم طرفة عينٍ كإهلاك عادٍ وقومِ لوطٍ بل ما يعُمّه وما يمضي بين الأخذ وإتمام الإهلاكِ أيام كدأب ثمود
﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى﴾ أي القرى المُهلَكة المدلولَ عليها بقولِه تعالَى قَرْيَةٍ وقيل هي مكةُ وما حولها من القُرى وقيل جنس القُرى المنتظمةِ لما ذكر ههنا انتظاما أوليا ﴿آمنوا﴾ بما أوحي إلى أبيائهم معتبِرين بمَا جَرى عليهمْ من الابتلاء بالضراء والسراء ﴿واتقوا﴾ أي الكفرَ والمعاصيَ أو اتقَوْا ما أُنذروا به على ألسنة الأنبياءِ ولم يُصروا على ما فعلوا من القبائح ولم يحملوا ابتلاء الله تعالى على عادات الدهر وقالَ ابنُ عباسٍ رضيَ الله تعالى عنهما وحدوا الله واتقوا الشرك ﴿لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بركات مّنَ السماء والارض﴾ لوسّعنا عليهم الخيرَ ويسّرناه لهم من كل جانبٍ مكانَ ما أصابهم من فنون العقوباتِ التي بعضُها من السماء وبعضُها من الأرض وقيل المرادُ المطرُ والنباتُ وقرىء لفتّحنا بالتشديد للتكثير ﴿ولكن كَذَّبُواْ﴾ أي ولكن لم يؤمنوا ولم يتقوا وقد اكتفوى بذكر الأولِ لاستلزامه للثاني ﴿فأخذناهم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ منَ أنواع الكفرِ والمعاصي التي من جُملتها قولُهم قد مس آباءَنا الخ وهذا الأخذُ عبارةٌ عما في قوله تعالى فأخذناهم بَغْتَةً لا عن الجدب والقَحطِ كما قيل فإنهما قد زالا بتبديل الحسنةِ مكانَ السيئة
﴿أفأمن أهل القرى﴾ أي أهل القرى المذكورة
253
الأعراف آية ٩٨ ١٠٠
على وضعِ المظهرِ موضِعَ المُضْمَرِ للإيذان بأن مدارَ التوبيخِ أمْنُ كلِّ طائفةٍ ما أتاهم من البأس لا أمنُ مجموعِ الأمم فإن مل طائفةٍ منهم أصابهم بأسٌ خاصٌّ بهم لا يتعداهم إلى غيرهم كما سيأتي والهمزةُ لإنكارِ الواقعِ واستقباحِه لا لإنكار الوقوعِ ونفيِه كما قاله أبو شامةَ وغيره لقوله تعالى للا يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ القوم الخاسرون والفاءُ للعطف على أخذناهم وما بينهما اعتراضٌ توسّط بينهما للمُسارعةِ إلى بيانِ أنَّ الأخذَ المذكورَ مما كسبتْه أيديهم والمعنى أبعدَ ذلك الأخذِ أمِنَ أهلُ القرى
﴿أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بياتا﴾ أي تبييتاً أو وقتَ بياتٍ أن مَبيتاً أو مبيتين وهو في الأصل مصدرٌ بمعنى البيتوتة ويجيء بمعنى التبييتِ السلام بمعنى التسليم
﴿وَهُمْ نَائِمُونَ﴾ حالٌ من ضميرهم البارزِ أو المستترِ في بياتاً
254
﴿أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القرى﴾ إنكارٌ بعد إنكارٍ للمبالغة في التوة بيخ الشديد ولذلك لم يقل أفأمن أهلُ القرى أَن يَأْتِيَهُم بأسنا بياتاً وهم نائمونَ أو ضحىً وهم يلعبون وقرىء أوْ بسكون الواوِ على الترديد ﴿أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى﴾ أي ضحوةَ النهارِ وهو في الأصل ضوءُ الشمسِ إذا ارتفعت ﴿وهم يلعبون﴾ أي يلهوم من فرط الغفلةِ أو يشتغلون بما لا ينفعهم كأنهم يلعبون
﴿أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله﴾ تكريرٌ للنكير لزيادة التقريرِ ومكرُ الله تعالى استعارةٌ لاستدراجه العبدوأخذه مِن حيثُ لاَ يحتسبُ والمراد به بيان إتيانُ بأسِه تعالى في الوقتين المذكورين ولذلك عُطف الأول والثالث بالفاء في الإنكار فيهما متوجهٌ إلى ترتب الأمنِ على الأخذ المذكور وأما الثاني فمن تتمة الأولِ ﴿فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ القوم الخاسرون﴾ أي الذين خسِروا أنفسَهم وأضاعوا فطرةَ الله التي فطرَ الناسَ عليها والاستعدادَ القريبَ المستفادَ من النظر في الآيات
﴿أولم يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأرض مِن بَعْدِ أَهْلِهَا﴾ أي يخلُفون مَنْ خلا قبلهم من الأمم المُهلَكة ويرثون ديارَهم والمرادُ بهم أهلُ مكةَ ومَنْ حولها وتعديةُ فعل الهداية باللام إما لتنزيلها منزلة اللام كأنه قيل أغفلَوا ولم يفعلِ الهدايةَ لهم الخ وإما لأنها بمعنى التبيينِ والمفعولُ محذوفٌ والفاعلُ على التقديرين هو الجملةُ الشرطية أي أولم يبيَّن لهم مآلُ أمرِهم
﴿أَن لَّوْ نَشَاء أصبناهم﴾ بِذُنُوبِهِمْ أي أن الشأنَ لو نشأ أصبْناهم بجزاء ذنوبِهم أو بسبب ذنوبِهم كما أصبنا مَنْ قبلهم وقرىء نَهدِ بنون العظمة فالجملة مفعولُه
﴿وَنَطْبَعُ على قُلُوبِهِمْ﴾ عطفٌ على ما يُفهم من قولِه تعالَى أَوْ لَمْ يَهْدِ كأنه قيل لا يهتدون أو يغفُلون عن الهداية أو عن التفكر والتأمل أو منقطعٌ عنه بمعنى ونحن نطبع ولا يجوزعطفه على أصبناهم على أنه بمعنى طبعنا لإفضائه إلى نفي الطبْعِ عنهم لأنه في سياق جوابِ لو
﴿فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ﴾ أي أخبار الأمم المهلكة فضلاعن التدبر والنظرِ فيها والاغتنامِ بِمَا في تضاعِيفِها منَ الهداية
254
﴿تِلْكَ القرى﴾ جملةٌ مستأنفةٌ جاريةٌ مجرى الفذلكةِ لما قبلها من القِصص منبئةٌ عن غاية غَوايةِ الأممِ المذكورة وتماديهم فيها بعد ما أنتهم الرسلُ بالمعجزات الباهرة وتلك إشارةٌ إلى قرى الأمم المُهلَكة على أن اللامَ للعهد وهو مبتدأٌ وقولُه تعالى
﴿نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَائِهَا﴾ خبرُه وصيغة المضارع للإيذان بعدم انقضاءِ القصة بعد ومِنْ للتبعيض أي بعضُ أخبارها التي فيها عظةٌ وتذكيرٌ وقيل تلك مبتدأ والقرة خبرُه وما بعده حالٌ أو خبرٌ بعد خبر عند من يجوِّز كون الخبر الثاني جملةً كما في قوله تعالى فَإِذَا هِىَ حَيَّةٌ تسعى وتصديرُ الكلام بذكر القرى وإضافةُ الأنباء إليها مع أن المقصوصَ أنباءُ أهلِها والمقصودُ بيانُ أحوالهم حسبما يُعرب عنه قوله تعالى
﴿وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات﴾ لما أن حكايةَ هلاكِهم بالمرة على وجه الاستئصالِ بحيث يشمل أماكنَهم أيضاً بالخسف بها والرجفةِ وبقائِها خاويةً معطلةً أهولُ وأفظعُ والباء في قوله تعالى بالبينات متعلقةٌ إما بالفعل المذكور على أنها للتعدية وإما بمحذوفٍ وقعَ حالاً من فاعله أي ملاتبسين بالبينات لكن لا بأن يأتيَ كلُّ رسولٍ ببينة واحدة بل بينات كثيرة خاصةٍ به معينةٍ له حسب اقتضاءِ الحِكمة فإن مراعاة انقسام الآحاد إلى الآحاد إنما هي فيما بين الرسل وضميرِ الأممِ والجملةُ مستأنفةٌ مبينةٌ لكمال عُتوِّهم وعنادِهم أي وبالله لقد جاء كلَّ أمةٍ مِنْ تلكَ الأممِ المُهلَكة رسولُهم الخاصُّ بهم بالمعجزات البيّنةِ المتكثرة المتواردةِ عليهم الواضحة الجلالة على صحة رسالتِه الموجبةِ للإيمان حتماً وقوله تعالى
﴿فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ﴾ بيانٌ لاستمرار عدم إيمانهم في الزمان الماضي لا لعدم استمرارِ إيمانِهم وترتيبُ حالتِهم هذه على مجيء الرسلِ بالبينات بالفاء لما أن الاستمرارَ على فعل من الأفعال بعد ورود ما يوجب الإقلاعَ عنه وإن كان استمرارا عليه في الحقيقة لكنه بحسَب العنوان فعلٌ جديد وصنعٌ حادثٌ نحوُ وعظتُه فلم ينزجِرْ ودعوتُه فلم يُجب واللامُ لتأكيد النفي أي فما صح وما استقام لقوم من أولئك الأقوامِ في وقتٍ من الأوقاتِ أن يؤمنوا لكل كان ذلك ممتنعاً منهم إلى أنْ لَقوُا ما لقوُا لغاية عتوِّهم وشدةِ شكيمتِهم في الكفر والطغيانِ ثم إن كان المحكي عنهم آخرَ حالِ كلِّ قوم منهم فالمرادُ بعدم إيمانِهم المذكور ههنا إصرارُهم على ذلك بعد اللتيا والتي وبما أشير إليه بقوله تعالى
﴿بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ﴾ تكذيبُهم من لدن مجيءِ الرسل إلى وقت الإصرارِ والعناد وإنما لم يُجعل ذلك مقصوداً بالذات كالأول بل جُعل صلةً للموصول إيذاناً بأنه بيِّنٌ بنفسه وإنما المحتاجُ إلى البيان عدمُ إيمانهم بعد تواتر البينات الظاهرة وتظاهر المعجزات الباهرة التي كانت تضطرهم إلى القَبول لو كانوا من أصحاب العقول والموصول الذي تعلق به الإيمان والتكذيب سلباً وإيجاباً عبارةٌ عن جميع الشرائعِ التي جاء بها كلُّ رسولٍ أصولِها وفروعِها وإن كان المحكيُّ جميع أحوال كل قوم منهم فالمراد بما ذكر أولاً كفرُهم المستمرُّ من حين مجيءِ الرسل الخ وبما أشير إليه آخرا تكذيبُهم قبل مجيئِهم فلا بد من جعل الموصولِ المذكور عبارة عن أصول الشرائعِ التي أجمعت عليها الرسل قاطبة ودعوا أممهم إليها آثر ذي أثير لاستحالة تبدلها وتغيرها مثل ملة التوحيد ولوازمها ومعنى تكذيبهم بها قبل مجيء رسلهم
255
الأعراف آية ٢٥٦
أنهم ما كانوا في زمن الجاهلية بحيث لم يسمعوا كلمةَ التوحيد قط بل كانت كلُّ أمةٍ من أولئك الأمم يتسامعون بهال من بقايا من قبلهم فيكذبونها ثم كانت حالتهم بعد مجيءِ رسلِهم كحالتهم قبل ذلك كأن لم يبعث إليهم أحد وتخصيص التكذيب وعدم الإيمان بما ذكر من الأصول لظهور حال الباقي بدلالة النص فإنهم حين لم يؤمنوا بما أجمعت عليه كافةُ الرسل فلأن يؤمنوا بما تفرَّد به بعضهم أولى وعدم جعل هذا التكذيبِ مقصوداً بالذات لما أن ما عليه يدور فلكُ العذابِ والعقابِ هو التكذيبُ الواقعُ بعد الدعوة حسبما يُعرب عنه قوله تعالى وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً وإنما ذكرها ما وقع قبلها بياناً لعراقتهم في الكفر والتكذيب وعلى كلا التقديرين فالضمائرُ الثلاثة متوافقة في المرجع وقيل ضميرُ كذبوا راجعٌ إلى أسلافهم والمعنى فما كان الأبناءُ ليؤمنوا بما كذب به الآباءُ ولا يَخْفى ما فيهِ من التعسف وقيل المرادُ ما كانوا ليؤمنوا لو أحييناهم بعد إهلاكِهم ورددناهم إلى دار التكليفِ بما كذبوا من قبلُ كقوله تعالى وَلَوْ رُدُّواْ لعادوا لِمَا نهوا عنه وقيل الباء للسببية وما مصدريةٌ أي بسبب تعوُّدِهم تكذيبَ الحق وتمرنهم عليه قبل بعثةِ الرسلِ ولا يرِدُ عليه ههنا ما ورد في سورة يونُسَ من مخالفة الجمهورِ بجعل ما المصدريةِ من قبيل الأسماء كما هو رأيُ الأخفشِ وابنِ السرّاج ليرجِعَ إليه الضميرُ في به
﴿كذلك﴾ أي مثلَ ذلك الطبعِ الشديدِ المُحكَم
﴿يَطْبَعُ الله على قُلُوبِ الكافرين﴾ أي من المذكورين وغيرهم فلا يكاد يؤثر فيها الآياتُ والنذرُ وفيه تحذير للسامعين وإظهارُ الاسمِ الجليلِ بطريق الالتفاتِ لتربية المهابة وإدخالِ الروعة
256
﴿وَمَا وَجَدْنَا لاِكْثَرِهِم﴾ أي أكثرِ الأممِ المذكورين واللامُ متعلقةٌ بالوُجدان كما في قولك ما وجدتُ له مالا أي ما صدفت له مالاً ولا لقِيته أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً مِنْ قوله تعالى ﴿مّن عَهْدٍ﴾ لأنَّه في الأصلِ صفةٌ للنكرة فلما قُدّمت عليها انتصبت حالاً والأصلُ ما وجدنا عهداً كائناً لأكثرهم ومن مزيدة للاستغراق أي وما وجدنا لأكثرهم من وفاء عهدٍ فإنهم نقضوا مَا عاهدوا الله عَلَيْهِ عند مساسِ البأساء والضراءِ قائلين لئن أنجيتنا من هذه لنكونَنّ من الشاكرين فتخصيصُ هذا الشأنِ بأكثرهم ليس لأن بعضَهم كانوا يوفون بعهودهم بل لأن بعضَهم كانوا لا يعهدون ولا يوفون وقيل المرادُ بالعهد ما عهِد الله تعالى إليهم من الإيمان والتقوى بنصب الآياتِ وإنزالِ الحُجج وقيل ما عهِدوا عند خطابِ أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ فالمرادُ بأكثرهم كلُّهم وقيل الضمير للبأس والجملةُ اعتراضٌ فإن أكثرَهم لا يوفون بالعهود بأي معنى كان ﴿وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ﴾ أي أكثرُ الأمم أي علِمناهم كما في قولك وجدتُ زيداً ذا حِفاظ وقيل الأول أيضاً كذلك وإنْ مخففةٌ من أن وضمير الشأن محذوفٌ أي إن الشأنَ وجدناهم ﴿لفاسقين﴾ خارجين عن الطاعة ناقضين للعهود وعند الطكوفينن أنّ إنْ نافيةٌ واللامُ بمعنى إلا أي ما وجدناهم إلا فاسقين
﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم موسى﴾ أي أرسلناه من بعد انقضاء
256
الأعراف آية ١٠٤ ١٠٥
وقائعِ الرسل المذكورين أو من بعد هلاكِ الأممِ المحكيةِ والتصريحُ بذلكَ مع دِلالة ثم على التراخي للإيذان بأن بعثه عليه الصلاة والسلام جرى على سَنن السُنةِ الإلهية من إرسال الرسلِ تترى وتقديمُ الجارِّ والمجرور على المفعول الصريح لما مر مرارا من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر
﴿بآياتنا﴾ متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من مفعول بعثنا أو صفةٌ لمصدرِه أي بعثناه عليه الصلاة والسلام ملتبساً بآياتنا أو بعثناه بَعْثاً ملتبساً بها وهي الآيات التسع المفصلات التي هي العصا واليدُ البيضاء والسِّنونَ ونقصُ الثمرات والطوفانُ والجَرادُ والقُمّلُ والضفادعُ والدم حبما سيأتي على التفصيل
﴿إلى فِرْعَوْنَ﴾ هو لقبٌ لكل من ملَك مِصْرَ من العمالقة كما أن كِسرى لقب لكل من ملك فارسَ وقيصرَ لكل مَنْ ملك الروم واسمُه قابوسُ وقيلالوليد بن مصعب بن ريان
﴿وَمَلَئِهِ﴾ أي أشرافِ قومِه وتحصيصهم بالذكر مع عموم رسالتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لقومه كافةً حيث كانوا جميعاً مأمورين بعبادة ربِّ العالمين عز سلطانه وترك العظيمةِ الشنعاءِ التي كانَ يدَّعِيها الطاغيةُ ويقبلُها منهُ فئتُه الباغيةُ لأصالتهم في تدبير الأمور واتباعِ غيرِهم لهم في الورود والصدور
﴿فَظَلَمُواْ بِهَا﴾ أي كفروا بها أُجري الظلمُ مُجرى الكفرِ لكونهما من وادٍ واحدٍ أو ضُمّن معنى الكفرِ أو التكذيبِ أي ظلموا كافرين بها أو مكذِّبين بها أو كفروا بها مكان الإيمانِ الذي هو من حقها لوضوحها ولهذا المعنى وُضع ظلَموا موضِعَ كفروا وقيل ظلموا أنفسَهم بسببها بأن عرّضوها للعذاب الخالد أو ظلموا الناسَ بصدهم عن الإيمان بها والمرادُ به الاستمرارُ على الكفر بها إلى أن لقُوا من العذاب ما لقُوا ألا يُرى إلى قوله تعالى
﴿فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة المفسدين﴾ فكما أن ظلمهم بها مستتبعٌ لتلك العاقبةِ الهائلةِ كذلك حكايةُ ظلمِهم بها مستتبعٌ للأمر بالنظر إليها وكيف خبرُ كان قُدّم على اسمها لاقتضائه الصدارةَ والجملةُ في حيز النصبِ بإسقاط الخافضِ أي فانظر بعين عقلِك إلى كيفية ما فعلنا بهم ووضعُ المفسدين موضعَ ضميرِهم للإيذان بأن الظلم مستلزِمٌ للإفساد
257
﴿وَقَالَ مُوسَى﴾ كلامٌ مبتدأٌ مَسوقٌ لتفصيل ما أُجمل فيما قبله من كيفية إظهار الآياتِ وكيفيةِ عاقبة المفسدين ﴿يا فرعون إِنِّي رَسُولٌ﴾ أي إليك ﴿مِن رَّبّ العالمين﴾ على الوجه الذي مر بيانه
﴿حقيق على أن لا أَقُولَ عَلَى الله إِلاَّ الحق﴾ جوابٌ عما ينساقُ إليه الذهنُ من حكاية ظلمِهم بالآيات من تكذيبه إياه عليه الصلاة والسلام في دعوى الرسالةِ وكان أصلُه حقيقٌ على أن لا أقول الخ كما هو قراءة نافع فقلب للأمن من الإلباس كما في قول وتشقى الرماحُ بالضياطرة الحُمُر أو لأن ما لزِمك فقد لزِمتَه أو للإغراق في الوصف بالصدق والمعنى واجبٌ عليّ القولُ الحقُّ أن أكون أنا قائلُه لا يَرضَى إلا بمثلي ناطقاً به أو ضُمّن حقيقٌ معنى حريص أو وُضِعَ على موضعَ الباءِ لإفادة التمكن كقولهم
257
الأعراف آية ١٠٦ ١٠٩
رميتُ على القوس وجئتُ على حال حسنةٍ ويؤيده قراءة أبي بالباء وقرىء حقيق أن لا أقول وقوله تعالى
﴿قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيّنَةٍ مّن رَّبّكُمْ﴾ استئنافٌ مقرر لما قبله من ككونه رسولاً من رب العالمين وكونِه حقيقاً بقول الحقِّ ولم يكن هذا القول منه عليه الصلاة والسلام وما بعده من جواب فرعون إثرَ ما ذكر ههنا بل بعدَ مَا جَرى بينهما من المحاورة المحكيةِ بقوله تعالى قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا الآيات وقوله تعالى وَمَا رَبُّ العالمين الآيات وقد طوى ههنا ذكرُه للإيجاز ومِنْ متعلقة إما بجئتُكم على أنها لابتداء الغايةِ مجازاً وإما بمحذوف وقع صفةً لبينة مفيدةً لفخامتها الإضافية المؤكدةِ لفخامتها الذاتية المستفادةِ من التنوين التفخيمي وإضافةُ اسمِ الرب إلى المخاطبين بعد إضافتِه فيما قبله إلى العالمين لتأكيد وجواب الإيمان بها
﴿فَأَرْسِلْ مَعِىَ بني إسرائيل﴾ أي فخلّهم حتى يذهبوا معي إلى الأرض المقدسةِ التي هي وطنُ آبائِهم وكان ق استبعدهم بعد انقراضِ الأسباطِ يستعملهم ويكلفهم الأفاعيلَ الشاقة فأنقذهم الله تعالى بموسى عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وكانَ بين اليوم الذي دخل يوسفُ مصرَ واليومِ الذي دخله موسى عليهما السلام أربعُمائة عام والفاءُ لترتيب الإرسالِ أو الأمرِ به على ما قبله من رسالته عليه السلام ومجيئه بالبينة
258
﴿قال﴾ الأاستئناف وقع جوابا عن سؤال ينساقُ إليهِ الكلامُ كأنَّه قيل فماذا قال فرعونُ له عليه السلام حين قال له ما قال فقيل قَالَ ﴿إِن كُنتَ جِئْتَ بآية﴾ أي من عندج مَنْ أرسلك كما تدعيه ﴿فَأْتِ بِهَا﴾ أي فأحضِرْها حتى تُثبت بها رسالتَك ﴿إِن كُنتَ مِنَ الصادقين﴾ في دعواك فإن كونَك من جملة المعروفين بالصدق يقتضي إظهارَ الآيةِ لا محالة
﴿فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ﴾ أي ظاهرٌ أمرُه لا يُشك في كونه ثعباناً وهو الحيةُ العظيمةُ وإيثارُ الجملةِ الاسميةِ للدِلالة على كمال سرعةِ الانقلاب وثباتِ وصفِ الثُعبانية فيها كأنها في الأصل كذلك روي أنه لما ألقاها صارت ثعبانا أشعر فاغر فاهُ بين لَحْيَيهِ ثمانونَ ذراعا وضع لحيه الأسف عَلى الأرضِ والأَعْلى على سور القصرِ ثم توجه نحو فرعون فهرب منه وأحدث فانهزم الناسُ مزدحِمين فماتَ منهُم خمسةٌ وعشرون ألفاً فصاح فرعونُ يا موسى أنشُدك بالذي أرسلك خُذْه وأنا أؤمن بك وأرسلُ معك بني إسرائيلَ فأخذه فعاد عصا
﴿وَنَزَعَ يَدَهُ﴾ أي من جيبه أو من تحت إِبطِه ﴿فَإِذَا هِىَ بَيْضَاء للناظرين﴾ أي بيضاءُ بياضاً نورانياً خارجاً عن العادة يجتمع عليه النَّظارةُ تعجباً من أمرها وذلك ما يروى أنه أرى فرعونَ يدَه وقال ما هذه فقال يدُك ثم أدخلها جيبه وعليه مدرّعةُ صوفٍ ونزعها فإذا هي بيضاءُ بياضاً نورانياً غلب شعاعُه شعاعَ الشمس وكان عليه السلام آدجم شديدَ الأدَمةِ وقيل بيضاء للناظرين لا أنها كانت بيضاءَ في جِبِلّتها
﴿قَالَ الملا مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ﴾
258
أي الأشرافُ منهم وهم أصحابُ مشورتِه
﴿إِنَّ هذا لساحر عَلِيمٌ﴾ أيْ مبالغٌ في علم السحر ماهرفيه قالوه تصديقاً لفرعون وتقريراً لكلامه فإن هذا القولَ بعينه مَعْزيٌّ في سورة الشعراء إليه
259
﴿يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مّنْ أَرْضِكُمْ﴾ أي من أرض مصرَ ﴿فَمَاذَا تَأْمُرُونَ﴾ بفتح النون وما في ماذا في محل النصب على أنه مفعول ثان لتأمرون بحذف الجار والأولُ محذوف والتقديرُ بأي شيء تأمرونني وهذا من كلام فرعونَ كما في قوله تعالى ذلك لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بالغيب أي فإذا كان كذلك فماذا تشيرون عليّ في أمره وقيل قاله الملأ من قبله بطريق التبليغِ إلى العامة فقوله تعالى
﴿قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ﴾ على الأول وهو الأظهرُ حكايةً لكلام الملأ الذين شاورهم فرعونُ وعلى الثاني لكلام العامة الذي خاطبهم الملأ ويأباه أن الخطابَ لفرعون وأن المشاورةَ ليست من وظائفَهم أي أخِّرْه وأخاه وعدمُ التعرض لذكره لظهور كونه معه حسبما ينادي به الآياتُ الأُخَرُ والمعنى أخِّرْ أمرَهما وأصدِرْهما عنك حتى ترى رأيك فيهما وتدبر شأنهما وقرىء أرجته وأرجِهِ من أرْجَأَه وأرْجاه ﴿وَأَرْسِلْ فِى المدائن حاشرين﴾ قيل هي مدائنُ صعيدِ مصرَ وكان رؤساءُ السحرةِ ومَهَرتُهم بأقصى مدائنِ الصعيد وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهاما أنهم كانوا سبعين ساحراً أخذوا السحرَ من رجلين مجوسيين من أهل نينَوى مدينةِ يونسَ عليه السلام بالمَوْصِل ورُد ذلك بأن المجوسيةَ ظهرت بزرادَشْت وهو إنما جاء بعد موسى عليه الصلاة والسلام
﴿يَأْتُوكَ بِكُلّ ساحر عَلِيمٍ﴾ أي ماهرٍ في السحر وقرىء بكل سحّار عليم والجملةُ جوابُ الأمر
﴿وجاء السحرة فرعون﴾ بعدما أرسل إليهم الحاشرين وإنما لم يصرح بهم حسبما فو قوله تعالى فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِى المدائن حاشرين للإيذان بمسارعة فرعونَ إلى الإرسال ومبادرةِ الحاشرين والسحرة إلى الامتثال ﴿قَالُواْ﴾ استئنافٌ منوطٌ بسؤال نشأَ من حكايةِ مجيءِ السحرةِ كأنه قيل فماذا قالوا له عند مجيئِهم إياه فقيل قالوا مدْلين بما عندهم واثقين بغلبتهم ﴿إِنَّ لَنَا لاجْرًا إِن كنا نحن الغالبين﴾ بطريق الإخبار بثبوت الأجر وإيجابه كأنهم قالوا لا بُدَّ لنا من أجر عظيم حينئذ أو بطريق الاستفهامِ التقريري بحذف الهمزة وقرىء بإثباتها وقولُهم إن كنا لمجرد تعيينِ مناطِ ثبوتِ الأجرِ لا لترددهم في الغلبة وتوسيطُ الضميرِ وتحليةُ الخبر باللام للقصر أي إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين لا موسى
﴿قَالَ نَعَمْ﴾ وقوله تعالى
﴿وَإِنَّكُمْ لَمِنَ المقربين﴾ عطف على محذوف سد مسدَّه حرف الإيجاب
259
الأعراف آية ١١٥ ١٢٠
كأنه قال إن لكم لأجراً وإنكم مع ذلك لمن المقربين للمبالغة في الترغيب روي أنه قال لهم تكونُون أولَ من يدخُل مجلسي وآخِرَ من يخرُج منه
260
﴿قَالُواْ﴾ استئنافٌ كما مر كأنَّه قيلَ فمَاذا فعلُوا بعد ذلك فقيل قالوا متصدّين لشأنهم مخاطِبين لموسى عليه السلام ﴿يا موسى إِمَّا أَن تُلْقِىَ﴾ ما تلقي أولاً ﴿وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الملقين﴾ أي لِما نُلقي أولاً أو الفاعلين للإلقاء أولاً خيّروه عليه السلام بالبدء بالإلقاءِ مراعاة للأدب وإظهار للجلادة وأنه لا يختلف حالُهم بالتقديم والتأخير ولكن كانت رغبتُهم في التقديم كما ينبىء عنه تغييرُهم للنظم بتنعريف الخبر وتوسيطُ ضميرِ الفصل وتأكيدِ الضمير المتصل
﴿قَالَ أَلْقَوْاْ﴾ غيرَ مبالٍ بأمرهم أي ألقوا ما تُلقُون ﴿فَلَمَّا أَلْقُوْاْ﴾ ما ألقَوْا ﴿سَحَرُواْ أَعْيُنَ الناس﴾ بأن خيّلوا إليهم ما لا حقيقةَ له ﴿واسترهبوهم﴾ أي بالغوا في إرهابهم ﴿وجاؤوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ﴾ في بابه روي أنهم ألقَوا حِبالاً غلاظاً وخشَباً طِوالاً كأنها حياتٌ ملأت الواديَ وركِبَ بعضُها بعضاً
﴿وَأَوْحَيْنَا إلى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ﴾ الفاءُ فصيحة أي فألقاها فصارت حيةً فإذا هي الآية وإنما حُذف للإشعار بمسارعة موسى عليه السلام إلى الإلقاء وبغاية سرعةِ الانقلاب كأن لقْفَها لما يأفكون قد حصل متصلاً بالأمر بالإلقاء وصيغةُ المضارعِ لاستحضار صورةِ اللقْفِ الهائلةِ والإفك الصِّرْفِ والقلب عن الوجه المعتاد وما موصولةٌ أو موصوفةٌ والعائدُ محذوفٌ أي ما يأفِكونه ويزوّرونه أو مصدريةٌ وهي مع الفعل بمعنى المفعول روي أنها لمل تلقّفت مِلءَ الوادي من الخشب والحِبال ورفعها موسى فرجعت عصاً كما كانت وأَعدم الله تعالى بقدرته الباهرة تلط الأجرامَ العظامَ أو فرَّقها أجزاءً لطيفةً قالت السحرة لو كان هذا سحراً لبقِيَتْ حبالُنا وعِصِيُّنا
﴿فَوَقَعَ الحق﴾ أي فثبت لظهور أمر ﴿وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ أي ظهر بطلانُ ما كانوا مستمرِّين على عمله
﴿فغلبوا﴾ اي فوعون وقومُه ﴿هُنَالِكَ﴾ أي في مجلسهم ﴿وانقلبوا صاغرين﴾ أي صاروا أذلاء مبهوتين أو رجَعوا إلى المدينة أذلاء مقهورين والأولُ هو الظاهرُ لقولهخ تعالى
﴿وَأُلْقِىَ السحرة ساجدين﴾ فإن ذلك كان بمحضرلا مكنم فرعون قطعاً أي خروا سجداً كأنما ألقاهم مُلْقٍ لشدة خرورِهم كيف لا وقد
260
الأعراف آية ١٢١ ١٢٥
بهرهم الحقُّ واضْطَّرّهم إلى ذلك
261
﴿قالوا آمنا بربّ العالمين﴾ ﴿ربَّ موسى وهارون﴾ أبدلوا الثانيَ من الأول لئلا يُتوهم أن مرادَهم فرعون عن ابن عباس رضي الله عنهمات أنه قال لما آمنت السحرةُ اتبع موسى من بني إسرائي ستُّمائةِ ألف
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٢١:﴿ قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون ﴾ أبدلوا الثانيَ من الأول لئلا يُتوهم أن مرادَهم فرعون. عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : لما آمنت السحرةُ اتبع موسى من بني إسرائيلَ ستُّمائةِ ألف.
﴿قَالَ فِرْعَوْنُ﴾ منكِراً على السحرة موبِّخاً لهم على ما فعلوه ﴿آمَنْتُم بِهِ﴾ بهمزة واحدة إما على الإخبار المحضِ المتضمِّنِ للتوبيخ أو على الاستفهام التوبيخيِّ بحذف الهمزةِ كما مر في إن لنا لأجراً وقد قرىء بتحقيق الهمزتين معا وباحقيق الأولى وتسهيلِ الثانية بيْنَ بيْنٍ أي آمنتم بالله تعالى ﴿قبل أن آذَنَ لَكُمْ﴾ أي بغيرِ أنْ آذنَ لكم كما في قوله تعاللا لَنَفِدَ البحر قَبْلَ أَن تَنفَدَ كلمات رَبّى لا أن الإذنَ منه ممكنٌ في ذلك ﴿إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ﴾ يعني أن ما صنعتموه ليس مما اقتضى الحالُ صدورَه عنكم لقوة الجليل وظهور المعجزة بل هو حيلة احتلتموها مع موطأة موسى ﴿فِى المدينة﴾ يعني مصرَ قبل أن تخرجوا إلى الميعاد رُوي أن موسى عليه الصلاة والسلام وأميرَ السحرةِ التقيا فقال له موسى أرأيتَك إن غلبتُك أتؤمن بي وتشهد أن ما جئت به الحقُّ فقال الساحرُ والله لئن غلبتَني لأومننَّ بك وفرعونُ يسمعهما وهو الذي نشأ عنه هذا القول ﴿لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا﴾ أي القبط وتخلصهلي لك ولبني إسرائيلَ وهاتان شبهتان ألقاهما إلى أسماع عوامِّ القِبطِ عند معاينتهم لارتفاع أعلامِ المعجزةِ ومشاهدتِهم لخضوع أعناقِ السحرةِ لها وعدم تمالُكِهم من أن يؤمنوا بها ليمنعهم بهما عن الإيمان بنبوة موسى عليه الصلاة والسلام بإراءة أن إيمان السحر مبني على المة واضعة بينهم وبين موسى وأن غرضَهم بذلك إخراجُ القوم من المدينة وإبطالُ مُلْكِهم ومعلومٌ أن مفارقةَ الأوطانِ المألوفةِ والنعمةِ المعروفةِ مما لا يُطاق به فجمع اللعينُ بين الشبهتين تثبيتاً للقِبطَ على ما هم عليه وتهييجاً لعداوتهم له عليهالصلاة والسلام ثم عقبهما بالوعيد ليُريَهم أن له قوزة وقدرةً على المدافعة فقال ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ أي عاقبة ما فعلتم وهذا وعيدٌ ساقه بطريق الإجمالِ للتهويل ثم عقبه بالتفصيل فقال
﴿لاقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ﴾ أي من كل شقَ طرَفاً ﴿ثُمَّ لاَصَلّبَنَّكُمْ أجمعين﴾ تفضيحا لكم وتنكيلا لأمثالكم قيل هو أولُ من سن ذلك فشرعه الله تعالى لقُطّاع الطريق تعظيماً لجُرمهم ولذلك سماه الله تعالى محاربةً لله ورسوله
﴿قَالُواْ﴾ استئنافٌ مَسوقٌ للجواب
261
الأعراف آية ١٢٦ ١٢٨
عن سؤال ينساق إليه الذهنُ كأنَّه قيلَ فماذَا قالَ السحرةُ عندما سمِعوا وعيدَ فرعونَ هل تأثروا به تصلبوا فيمَا هُم فيهِ من الدين فقيل قالوا ثابتين على ما أحدثوا من الإيمان
﴿إِنَّا إلى رَبّنَا مُنقَلِبُونَ﴾ أي بالموت لا محالة فسواءٌ كان ذلك من قِبَلك أو لا فلا نبالي بوعيدك أو إنا إلى رحمة ربنا وثوابِه منقلبون إن فعلتَ بنا ذلك كأنهم استطابوه شَغَفاً على لقاء الله تعالى وإنا جميعاً إلى ربنا منقلبون فيحكم بيننا وبينك
262
﴿وَمَا تَنقِمُ مِنَّا﴾ أي وما تُنكر وتَعيب منا ﴿إلا أن آمنا بآيات رَبِّنَا لَمَّا جَآءَتْنَا﴾ وهو خيرُ الأعمال وأصلُ المفاخر ليس مما يتأتى لنا العجول عنه طلباً لمرضاتك ثم أعرضوا عن مخاطبته إظهاراً لما في قلوبهم من العزيمة على ما قالوا وتقرير آلة ففزعوا إلى الله عزَّ وجلَّ وقالوا ﴿رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا﴾ أي أفِضْ علينا من الصبر ما يغمُرنا كما يغمرُ الماءُ أو صُبّ علينا ما يُطَهّرنا من أوضار الأوزار وأدناسِ الآثام وهو الصبرُ على وعيد فرعون ﴿وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ﴾ ثابتين على ما رزقتنا من الإسلام غيرَ مفتونين من الوعيد قيل فَعل بهم ما أوعدهم به وقيل لم يقدر عليه لقوله تعالى أَنتُمَا وَمَنِ اتبعكما الغالبون
﴿وَقَالَ الملا مِن قَوْمِ فِرْعَونَ﴾ مخاطِبين له بعد ما شاهدوا من أمر موسى عليه السلام ﴿أَتَذَرُ موسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِى الأرض﴾ أي في أرض مصر بتغير الناسِ عليك وصرفِهم عن متابعتك ﴿وَيَذَرَكَ﴾ عطفٌ على يُفسدوا أو جوابُ الاستفهام بالواو كما في قول الحطيئة... ألم أك جارك ويكونَ بيني وبينكم المودةُ والإخاء أي أيوكون منك تركُ موسى ويكونَ تركُه إياك وقرىء بالرفع عطفا على أتذر أو استئنافاً أو حالاً وقرىء بالسكون كأنه قيل يفسدوا ويذلك كقوله تعالى فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن ﴿وآلهتك﴾ ومعبوداتِك قيل إنه كان يعبد الكواكبَ وقيل صنع لقومه أصناماً وأمرهم بأن يعبُدوها تقرباً إليه ولذلك قال أنا ربكم الأعلى وقرىء وإلهتك أي عبادتَك ﴿قَالَ﴾ مجيباً لهم ﴿سَنُقَتّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِى نِسَاءهُمْ﴾ كما طكنا نفعل بهم ذلك من قبلُ ليُعلم أنا على ما كُنَّا عليه من القهر والغلبةِ ولا يُتَوَهّم أنَّه المولودُ الذي حكَم المنجمون والكهنةُ بذهاب مُلكِنا على يديه وقرىء سنقتل بالتخفيف ﴿وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهرون﴾ كما كنا لم يتغير حالُنا أصلاً وهم مقهورون تحت أيدينا كذلك...
﴿قَالَ موسى لِقَوْمِهِ﴾ تسليةً لهم وعِدةً بحسن العاقبة حين سمعوا قولَ فرعون وتضجّروا منه
﴿استعينوا بالله واصبروا﴾ على ما سمعتم من أقاويله الباطلة
﴿إِنَّ الارض للَّهِ﴾ أي أرضَ مصر أو جنس
262
الأعراف آية ١٢٨٩ ١٣٠
الأرض وهي داخلة فيخها دخولاً أولياً
﴿يورثُها مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ﴾ الذين أنتم منهم وفيه إيذانٌ بأن الاستعانةَ بالله تعالى والصبرَ من باب التقوى وقرىء والعاقبةَ بالنصبِ عطفاً على اسمِ إن
263
﴿قَالُواْ﴾ أي بنو إسرائيلَ ﴿أُوذِينَا﴾ أي من جهة فرعونَ ﴿مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا﴾ أي بالرسالة يعنون بذلك قتلَ أبنائِهم قبل مولد موسى عليه الصلاة والسلام وبعدَه ﴿وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا﴾ أي رسولاً يعنون ما توعدهم به من إعادة قتلِ الأبناءِ وسائر ما كان يفعل بهم لعداوة موسى عليه السلام من فنون الجَوْر والظلمِ والعذاب وأما ما كانوا يُستعبَدون به ويُمتهنون فيه من أنواع الخَدَم والمِهَن كما قيل فليس مما يلحقهم بواسطته عليه السلام فليس لذكره كثيرُ ملابسة بالمقام ﴿قَالَ﴾ أي موسى عليه الصلاة والسلام لما رأى شدةَ جَزَعِهم مما شاهدوه مسلياً لهم بالتصريح بما لَوَّح به في قوله إن الأرض لله الخ ﴿عسى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ﴾ الذي فعل بكم ما فعل وتوعّدكم بإعادته ﴿وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى الارض﴾ أي يجعلَكم خلفاءَ في أرض مصرَ ﴿فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ أحسناً أم قبيحاً فيجازيَكم حسبما يظهر منك من الأعمال وفيه تأكيدٌ للتسلية وتحقيقٌ للأمر قيل لعل الإتيانَ بفعل الطمع لعدم الجزمِ منه عليه السلام بأنهم هم المستخلَفون بأعيانهم أو أولادُهم فقد روي أن مصرَ إنما فتحت في زمن داودَ عليه السلام ولا يساعده قوله تعالى وأورثنا القوم الذين يُسْتَضْعَفُونَ مشارق الارض ومغاربها فإن المتبادرَ استخلافُ أنفسِ المستضعفين لا استخلافُ أولادِهم إنما مجيءُ فعلِ الطمعِ للجَريِ على سَنَنِ الكبرياءِ
﴿ولقد أخذنا آل فِرْعَوْنَ بالسنين﴾ شروعٌ في تفصيل مبادي الهلاكِ الموعودِ وإيذانٌ بأنه تعالى لم يُمهِلْهم بعد ذلك ولم يكونوا في خفْضٍ ودَعَةٍ بل رُتّبت أسبابُ هلاكِهم فتحولوا من حال إلى حال إلى أن حل بهم عذابُ الاستئصالِ وتصديرُ الجملة بالقسملإظهار الاعتناءِ بمضمونها والسنونَ جمعُ سنة والمرادُ بها عامُ القحطِ وفيها لغتانِ أشهرُهما إجراؤها مُجرى المذكرِ السالمِ فيرفع بالواو ويُنصَب ويُجرُّ بالياء ويحذف نونُه بالإضافة واللغةُ الثانية إجراءُ الإعراب على النون ولكن مع الباء خاصةً إما بإثبات تنوينِها أو بحذفه قال الفراء هي اللغة مصروفة عنج بني عامرٍ وغيرُ مصروفةٍ عند بني تميم ووجهُ حذف التنوين والتخفيف وحينئذ لا يُحذف النونُ للإضافة وعلى ذلك جاء قول الشاعر... دعانيَ من نجدٍ فإن سنينَه لعِبْنَ بنا شيباً وشيَّبْننا مُرْدا وجاء اتلحديث اللهم اجعلْها عليهم سنينَ كسِني يوسُفَ وسنينَ كسنينِ يوسف باللغتين
﴿وَنَقْصٍ مّن الثمرات﴾ بإصابة العاهات عن كعبيأتي على الناس زمانٌ لا تحمل النخلة إلا تمرة قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أما السنونَ فكانت لباديتهم وأهلِ ماشيتِهم وأما نقصُ الثمرات فكان في أمصارهم
﴿لَعَلَّهُمْ يذكرون﴾ كي تذكروا ويتعظوا بذلك ويقِفوا على أن ذلك لأجل معاصيهم وينزجر وأعمالهم عليهِ من العُتوِّ والعِنادِ قال الزجاج إن أحوالَ
263
الأعراف ى ية ١٣١ ١٣٢
الشدةِ ترقِّقُ القلوب وترغّب فيما عند الله عوز وجب وفي الرجوع إليه تعالى ألا يُرى إلى قوله تعالى وغذا مَسَّهُ الشر فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ وقد مرَّ تحقيقُ القولِ في لعل وفي محلسها في تفسيرِ قولِه تعالى لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ في أوائل سورة البقرة وقوله تعالى
264
﴿فَإِذَا جَاءتْهُمُ الحسنة﴾ الخ بيانٌ لعدم تذكّرِهم وتماديهم في الغنى أي فغذا جاءتهم السعةُ والخِصْبُ وغيرُهما من الخيرات ﴿قَالُواْ لَنَا هذه﴾ أي لأجلنا واستحقاقِنا لها ﴿وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ﴾ أي جدْبٌ وبلاء ﴿يَطَّيَّرُواْ بموسى وَمَن مَّعَهُ﴾ أي يتشاءموا بهم ويقولوا ما أصابتنا إلا بشؤمهم وهذا كما ترى شاهدٌ بكمال قساوةِ قلوبِهم ونهايةِ جهلِهم وغباوتِهم فإن الشدائدَ ترقّقُ القلوبَ وتُلين العرائِكَ لا سيما بعد مشاهدةِ الآياتِ وقد كانوا بحيث لم يؤثر فيهم شيءٌ منها بل ازدادوا عتوّاً وعِناداً وتعريفُ الحسنةِ وذِكرُها بأداة التحقيقِ للإيذان بكثرة وقوعِها وتعلقِ الإرادةِ بها بالذات كما أن تنكيرَ السيئةِ وإيرادَها بحرف الشكِّ للإشعار بنُدرة وقوعِها وعدم تعلّقِ الإرادةِ بها إلا بالعَرَض وقوله تعالى ﴿أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ الله﴾ استئنافٌ مَسوقٌ من قِبَله تعالى لردِّ مقالتِهم الباطلةِ وتحقيقِ الحقِّ في ذلك وتصديرُه بكلمة التنبيهِ لإبراز كمالِ العنايةِ بمضمونِه أي ليس سببُ خيرِهم إلا عنده تعالى وهو حكمُه ومشيئتُه المتضمنةُ للحِكَم والمصالحِ أو ليس سبب شؤمِهم وهو أعمالُهم السيئةُ إلا عنده تعالى أي مكتوبةٌ لديه فإنها التي ساقت إليهم ما يسوؤهم لا ما عجاها وقرىء إنما طَيرُهم وهو اسمٌ جمعُ طائرٍ وقيل جمعٌ له ﴿ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ ذلك فيقولون مكا يقولون مما حُكي عنهم وإسنادُ عدمِ العلمِ إلى أكثرهم للإشعار بأن بعضهم يعلمون أن ما أصابهم من الخير والشرِّ من جهة الله تعالى أو يعلمون أن ما أصابهم من المصائب والبلايا ليس إلا بما كسبتْ أيديهم ولكن لا يعلمون بمقتضاه عنادا واستكبارا
﴿وقالوا﴾ شرو في بيان بعضٍ آخَرَ مما أُخذ به آلُ فرعونَ من فنونِ العذابِ التي هي في أنفسها آياتٌ بيناتٌ وعدمُ ارعوائِهم مع ذلك عمَّا كانوا عليه من الكفر والعناد أي قالوا بعج مارأوا ما رأوا من شأن العصا والسنينَ ونقصِ الثمرات
﴿مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ﴾ كلمةُ مهما تستعمل للشرط والجزاءِ وأصلُها ما الجزائية ضُمت إليها ما المزيدةُ للتأكيد كما ضُمّت إلى أين وإن في أينما تكونوا وإما نَذْهَبَنَّ بِكَ خلا أن ألِفَ الأولى قُلبت هاءً حذَراً من تكرير المتجانسين هذا هو الرأيُ السديدُ وقيل مه كلمةٌ يصوِّتُ بها الناهي ضُمّت إليها ما الشرطيةُ ومحلُّها الرفعُ بالابتداء أو النصبُ بفعل يفسره ما بعدها أي أيُّ شيءٍ تظهره لدينا وقوله تعالى
﴿من آية﴾ بيان لمهما وتسميتهم إياها وقوله تعالى
﴿لّتَسْحَرَنَا بِهَا﴾ إظهار لكما الطغيانِ والغلوّ فيه وتسميةِ للإرشاد إلى الحق بالسحر وتسكير الأبصار والضميران المجروران راجعان إلى مهما وتذكيرُ الأولِ لمراعاة جانب اللفظِ لإبهامه
264
الأعراف آية ١٣٣ ١٣٤
وتأنيثُ الثاني للمحافظة على جانب المعنى لتنبيه بآية كما في قوله تعالى مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ
﴿فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ بمصدِّقين لك ومؤمنين لنبوتك
265
﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ﴾ عقوبةً لجرائمهم لا سيما لقولهم هذا ﴿الطوفان﴾ أي الماءَ الذي طاف به وغشي أما طكنهم وحروثَهم من مطر أو سَيل وقيل هو الجُدَريّ وقي المَوَتان وقيل الطاعون ﴿والجراد والقمل﴾ قيل هو كبارُ القردان وقيل أولادُ الجراد قبل نباتِ أجنحتِها ﴿والضفادع والدم﴾ رُوي أنهم مُطروا ثمانيةَ أيام في ظلمة شديدةٍ لا يستطيع أن يخرُج أحدٌ من بيته ودخل الماءُ بيوتَهم حتى قاموا فيه إلى تراقيهم ولم يدخل بيوتَ بني إسرائيلَ منه قطرةٌ وهي في خلال بيوتِهم وفاض المار على أرشهم وركدَ فمنعَهم من الحرْث والتصرّف ودام ذلك سبعةَ أيام فقالُوا له عليه الصَّلاةُ والسلام ادعُ لنا ربك يكشفْ عنا ونحن نؤمنُ بك فدعا فكُشف عنهم فنبت من العشب والكلأ ما لم يُعهَدْ قبله ولم يؤمنوا فبعث الله عليهم الجرادَ فأكل زروعَهم وثمارَهم وأبوابهم وسقوفهم وثيابَهم ففزِعوا إليه عليه الصلاة والسلام لما ذكر فخرج إلى الصحراء وأشار بعصاه نحو المشرقِ والمغربِ فرجعت إلى النواحي التي ججاءت منها فلم يؤمنوا فسلط الله تعالى عليهم القُمّلَ فأكل ما أبقته الجرادُ وكان يقع في أطعمتهم ويدخُل بين ثيابهم وجلودِهم فيمُصّها ففزِعوا إليه ثالثاً فرفع عنهم فقالوا قد تحققنا الآن أنك ساحرٌ ثم أرسل الله عليهم الضفادع بحيث لا يكشف ثوبٌ ولا طعام إلا وجدت فيه وكانت تمتلىء منها مضاجعُهم وتثب إلى قدورهم وهي تغلي وإلى أفواههم عند التكلم ففزعوا إليه رابعاً وتضرعوا فأخذ عليهم العُهود فدعا فكشف الله عنهم فنقضوا العهدَ فأرسل الله عليهم الدمَ فصارت مياههم دماءً حتى كان يجتمع القِبطيُّ والإسرائيليُّ على إناء فيكون ما يليه دماً وما يلي الإسرائيليّ ماءً على حاله ويمص من فم الإسرائيليِّ فيصير دماً في فيه وقيل سلط الله عليهم الرُّعاف ﴿آيات﴾ حال من المنصوبات المذكورة ﴿مّفَصَّلاَتٍ﴾ مبينات لا يشكل على عاقل أنَّها آياتُ الله تعالى ونقمته وقيل مفرقات بعضها من بعض لامتحان أحوالهم وكان بين كل آيتين منها شهر وكان امتدادج كل واحدة منهخا أسبوعاً وقيل إنه عليه السلام لبث فيهم بعدَ مَا غلبَ السحرةَ عشرين سنة يريهم هذه الآيات على مهل ﴿فاستكبروا﴾ أي عن الإيمان بها ﴿وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ﴾ جملة معترضة مقررة لمضمون ما قبلها
﴿وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرجز﴾ أي العذاب المذكور على التفصيل فاللامُ للجنس المنتظمِ لكل واحدةٍ من الآيات المفصلة أي كلما وقع عليهم عقوبةٌ من تلك العقوبات قالوا في كل مرة
﴿يا موسى ادع لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ﴾ أي بعهده عندك وهو
265
الأعراف آية ١٣٥ ١٣٧
النبوةُ أو بالذي عهِد إليك أن تدعوَه فيجيبَك كما أجابك في آياتك وهو صلةٌ لادْعُ أو حالٌ من الضمير فيه بمعنى ادعُ الله متوسلاً إليه بما عهد عندك أو متعلقٌ بمحذوف دلَّ عليه التماسُهم مثلُ أسعِفْنا إلى ما نطلب بحق ما عندك أو قسم أجيب بقوله تعالى
﴿لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرجز﴾ الذي وقع علينا
﴿لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ ولنرسلن معك بني إسرائيل﴾ أي أقسَمْنا بعهد الله عندك لئن كشف الخ
266
﴿فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرجز إلى أَجَلٍ هُم بالغوه﴾ أي إلى حد الزمان هو بالغوه فمعذوبن بعدجه أو مُهلَكون ﴿إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ﴾ جوابُ لمّا أي فلما كشفنا عنهم فاجئوا النّكْثَ من غير تأمل وتوقف
﴿فانتقمنا مِنْهُمْ﴾ أي فأردنا أن ننتقم منهم لِما أسلفوا من المعاصي والجرائم فإن قوله تعالى ﴿فأغرقناهم﴾ عينُ الانتقام منهم فلا يصح دخول الفاء بينهما ويجوز أن يكون المرادُ مطلقَ الانتقام منهم والفاءُ تفسيرية كما في قوله تعالى وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبّ الخ ﴿فِي اليم﴾ في البحرِ الذي لا يُدرك قعرُه وقيل في لُجّته ﴿بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِين﴾ تعليلٌ للإغراق أي كان إغراقُهم بسبب تكذيبِهم بآياتِ الله تعالى وإعراضِهم عنها وعدمِ تفكرِهم فيها بحيث صاروا كالغافلين عنها بالكلية والفاءُ وإن دلت على ترتب الإغراقِ على ما قبله من النكْثِ لكنه صرّح بالتعليل إيذاناً بأن مدارَ جميعِ ذلك تكذيبُ آياتِ الله تعالى والإعراضُ عنها
﴿وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ﴾ أي بالاستبعاد وذبحِ الأبناءِ والجمعُ بين صيغتي الماضي والمستقبلِ للدَلالةِ على استمرار الاستضعافِ وتجدّدِه وهم بنو إسرائيلَ ذُكروا بهذا العُنوانِ إظهاراً لكمال لُطفِه تعالى بهم وعظيمِ إحسانِه إليهم في رفعهم من حضيض المذلةِ إلى أوْج العزى ة
﴿مشارق الارض ومغاربها﴾ أي جانبيها الشرقيَّ والغربيَّ حيث ملكها بنو إسرائيل بعج الفراعنةِ والعمالقةِ وتصرّفوا في أكنافها الشرقيةِ والغربية كيف شاءوا وقوله تعالى
﴿التى بَارَكْنَا فِيهَا﴾ أي بالخِصْب وسَعةِ الأرزاقِ صفةٌ للمشارق والمغارب وقيل للأرض وفيه ضعفٌ للفصل بين الصفةِ والموصوفِ بالمعطوف كما في قولك قام أو هند وأبوها العاقلةُ
﴿وَتَمَّتْ كلمة رَبّكَ الحسنى﴾ وهي وعدُه تعالى إياهم بالنصر والتمكين كما ينبىء عنه قوله تعالى وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الذين استضعفوا فِى الأرض ونحعلهم أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوارثين وقرىء كلماتُ لتعدد المواعيدِ ومعنى تمت مضَت واستمرت
﴿على بني إسرائيل بِمَا صَبَرُواْ﴾
266
أي بسبب صبرِهم على الشدائد التي كابدوها من جهة فرعونَ وقومِه
﴿وَدَمَّرْنَا﴾ أي خرّبنا وأهلكنا
﴿مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ﴾ من العِمارات والقصورِ أي ودمرنا الي كان فرعونُ يصنعه على أن فرعونَ اسمُ كان ويصنع خبرٌ مقدمٌ والجملة الكونيةُ صلةُ ما والعائدُ محذوفٌ وقيل اسمُ كان ضمير عائد إلى ما الموصولةِ ويصنع مُسندٌ إلى فرعون والجملة خبرُ كان والعائدُ محذوف أيضاً والتقدير ودمرنا الذي كان هو يصنعُه فرعونُ الخ وقيل كان كان زائدةٌ وما مصدريةٌ والتقديرُ ما يصنع فرعون الخ وقيل كان زائءدة كما ذكر وما موصولةٌ اسميةٌ والعائدُ محذوف تقديره ودمرنا الذي يصنعه فرعون الخ أي صُنعَه والعدولُ إلى صيغة المضارعِ على هذين القولين لاستحضار الصورة
﴿وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ﴾ من الجنات أو ما كانوا يرفعونه من البُنيان كصرح هامانَ وقرىء يعرُشون بضم الراءِ والكسرُ أفصح وهذا آخِرُ قصةِ فرعونَ وقومه وقوله عز وجل
267
﴿وجاوزنا ببني إسرائيل البحر﴾ شروعٌ في قصة بني إسرائيلَ وشرحِ ما أحدثوه من الأمور الشنيعةِ بعد أن أنقذهم الله عزَّ وجلَّ من مَلَكة فرعون ومنّ عليهم من النعم العظامِ الموجبةِ للشكر وأراهم من الآيات الكبارِ ما تخِرّ له شمُّ الجبال تسليةً لرسول الله ﷺ وإيقاظاً للمؤمنين حتى لا يغفُلوا عن محاسبة أنفسِهم ومراقبةِ أحوالِهم وجاوز بمعنى جاز وقرىء جوّزنا بالتشديد وهو أيضاً بمعنى جاز فعُدّي بالباء أي قطعنا بهم البحر روي أنه عبر بهم مُوسى عليه السَّلام يوم عاشوراءَ بعد ما أهلكَ الله تعالى فرعون فصاموه شكراً لله عز وجل ﴿فَاتُواْ﴾ أي مروا ﴿على قَوْمٍ﴾ قيل كانوا من لَخْمٍ وقيل من العمالقة الكنعانيين الذين أُمر موسى عليه السلام بقتالهم ﴿يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ لَّهُمْ﴾ أي يواظبون على عبادتها ويلازمونها وقرىء بكسر الكاف قال ابن جريج كانت أصنامُهم تماثيلَ بقرٍ وهو أولُ شأن العجل ﴿قَالُواْ﴾ عندما شاهدوا أحوالهم ﴿يا موسى اجعل لَّنَا إلها﴾ مثالاً نعبده ﴿كما لهم آلهة﴾ الكافُ متعلقةٌ بمحذوف وقع صفة لإلها وما موصولة ولهم صلتها وآلهة بدل من ما والتقدير هذا إثرَ ما شاهدوا من الآية الكبرى والمعجزةِ العُظمى فوصفهم بالجهل المطلقِ إذ لا جهل أعظمُ مما ظهر منهم وأكده بقوله
﴿إِنَّ هَؤُلآء﴾ يعني القومَ الذين يعبدون تلك التماثيلَ
﴿مُتَبَّرٌ﴾ أي مُدمّرٌ مكسَّرٌ
﴿مَّا هُمْ فِيهِ﴾ أي من الدين الباطلِ أي يُتبرّ الله تعالى ويهدِم دينَهم الذي هم عليه عن قريب ويحطّم أصنامَهم ويتكرها رُضاضاً وإنَّما جيء بالجملةِ الاسميةِ للدلالةِ على التحقق
﴿وباطل﴾ أي مضمحلٌّ بالكلية
﴿ما كانوا يعملون﴾ من عبادتها وإن كان قصدُهم بذلك التقربِ إلى الله تعالى فإنه كفرٌ محضٌ وليس هذا كما في قوله تعالى وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً كما تُوهم فإن المرادَ به أعمالُ البر التي عملوها في الجاهلية فإنها في أنفسها حسنات
267
الأعراف آية ١٤٠ ١٤٢
لو قارنت الإيمانَ لاستتبعت أجورَها وإنما بطَلت لمقارنتها الكفرَ وفي إيقاع هؤلاءِ اسماً لإن وتقديمِ الخبر من الجملةِ الواقعةِ خبراً لها وسْمٌ لعبدة الأصنامِ بأنهم هم المُعرَّضون للتبار وأنه لا يعدوهم البتةَ وأنه لهم ضربةُ لازبٍ ليحذّرهم عاقبةَ ما طلبوا ويُبغِضَ إليهم ما أحبوا
268
﴿قَالَ أَغَيْرَ الله أَبْغِيكُمْ إلها﴾ شروعٌ في بيانِ شئون الله تعالى الموجبةِ لتخصيصِ العبادةِ بهِ تعالى بعد بيانِ أن ما طلبوا عبادتَه مما لا يمكن طلبُه أصلاً لكونه هالكاً باطلاً ولذلك وسّط بينهما قال مع كونِ كلَ منهما كلام موسى عليه الصلاة والسلام والاستفهامُ للإنكار والتعجب والتوبيخِ وإدخالُ الهمزةِ على غير للإيذان بأن المنكو هو كونُ المبْغيِّ غيرَه تعالى لما أنه لاختصاص الإنكار بغيره تعالى دون إنكارِ الاختصاصِ بغيره تعالى وانتصابُ غير على أنه مفعولُ أبغي بحذف اللام أي أبغي لكم أي أطلب لكم غيرَ الله تعالى وإلها إما تمييزا أو حال أو على الحالية من إلها وهو المفعولُ لأبغي على أن الأصلَ أبغي لكم إلها غيرَ الله فغيرَ الله صفةٌ لإلها فلما قُدّمت صفةُ النكرةِ انتصبت حالاً ﴿وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى العالمين﴾ أي والحالُ أنَّه تعالى خصكم بنعمٍ لم يُعطِها غيرَكم وفيه تنبيهٌ على ما صنعوا من سوء المعاملةِ حيث قابلوا تخصيصَ الله تعالى إياهم من بين أمثالِهم بما لم يستحقوه تفضلا بأن عمجوا إلى أخسّ شيءٍ من مخلوقاته فجعلوه شريكاً له تعالى تباً لهم ولما يعبدون
﴿وإذ نجيناكم﴾ تذكيرٌ لهم من جهته سبحانه بنعمة الإنجاءِ من ملكة فرعون وقرىء نجيناكم من التنجية وقرىء أنجاكم فيكون مَسوقاً من جهة موسى عليه الصلاة والسلام أي واذكروا وقت إنجائِنا إياكم ﴿من آل فرعون﴾ من ملَكتهم لا بمجرد تخليصِكم من أيديهم وهم على حالهم في المَكِنة والقدرة بل بإهلاكهم بالكلية وقوله تعالى ﴿يَسُومُونَكُمْ سُوء العذاب﴾ من سامه خسفاً أي أولاه إياه وكلفه غياه وهو إما استئنافٌ لبيان ما أنجاهم منه أو حال منن المخاطَبين أو من آلِ فرعونَ أو منهما معاً لاشتمالِه على ضميريِهما وقوله تعالى ﴿يُقَتّلُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ﴾ بدلٌ من يسومونكم مُبين أو مفسّرٌ له ﴿وَفِى ذلكم﴾ الإنجاءِ أو سوءِ العذاب ﴿بَلاءٌ﴾ أي نعمةٌ أو محنة ﴿مّن رَّبّكُمْ﴾ من مالك أمرِكم فإن النعمةَ والنقِمةَ كلتاهما منه سبحانه وتعالى ﴿عظِيمٌ﴾ لا يقادَر قدرُه
﴿وواعدنا موسى ثلاثين لَيْلَةً﴾ رُوي أن موسى عليه السلام وعد بني إسرائيلَ وهم بمصرَ إن أهلك الله عجوهم أتاهم بكتاب فيه بيانُ ما يأتون وما يذرون فلما هلك فرعونُ سأل موسى عليه السلام ربه الكتابَ فأمره بصومِ ثلاثين يوماً وهو شهرُ ذي القَعدة فلما أتمّ الثلاثين أنكر خُلوفَ فيه فتسوّك
268
الأعراف آية ١٤٣
فقالت الملائكةُ كنا نشم من فيك رائحةَ المسك فأفسدته بالسواك وقيل أوحى الله تعالى إليه أما علمتَ أن ريحَ فمِ الصائمِ أطيبُ عندي من ريح المِسْك فأمره الله تعالى بأن يزظيد عليها عشرةَ أيامٍ من ذي الحِجّة لذلك وذلك قوله تعالى
﴿وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ﴾ والتعبير عنها بالليالي لأنها غُررُ الشهور وقيل أمره الله تعالى بأن يصوم ثلاثين يوماً وأن يعمل فيها بما يقرّبه من الله تعالى ثم أنزلت عليه التوراةُ في العشر وكلم فيها وقد أُجمل ذكر الأربعين في سورة البقرة وفصل ههنا وواعدنا بمعنى وعدْنا وقد قرىء كذلك وقيل الصيغةُ على بابها بناءً على تنزيل قَبول موسى عليه السلام منزلةَ الوعدِ وثلاثين مفعولٌ ثانٍ لواعدنا بحذف المضاف أي إنما ثلاثين ليلةً
﴿فَتَمَّ ميقات رَبّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾ أي بالغا أربعين ليلة
﴿وَقَالَ موسى لاِخِيهِ هارون﴾ حين توجه إلى المناجاة حسبما أُمر به
﴿اخلفنى﴾ أي كن خليفتي
﴿فِى قَوْمِى﴾ وراقِبْهم فيما يأتُون وما يَذَرُون
﴿وَأَصْلِحْ﴾ ما يحتاج إلى الإصلاح من أمورهم أو كن مصلحاً
﴿وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المفسدين﴾ أي لا تتبع مَنْ سلك الإفسادَ ولا تُطِعْ من دعاك إليه
269
﴿وَلَمَّا جَاء موسى لميقاتنا﴾ لوقتنا الذي وقتنا واللامُ للاختصاص أي اختَصَّ مجيئُه بميقاتنا
﴿وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ﴾ من غير واسطةٍ كما يكلِّمُ الملائكةَ عليهم السَّلامُ وفيما روي أنه عليه الصلاةُ والسلام كان يسمع ذلك من كل جهةٍ تنبيهٌ على أن سماع كلامه عزَّ وجلَّ ليس من جنس سماعِ كلام المحدّثين
﴿قَالَ رَبّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ﴾ أي أرني ذاتك بأن تمكنني من رؤيتك أو تتجلى لي فأنظرَ إليك وأراك وهو دليلٌ على أن رؤيتَه تعالى جائزةٌ في الجملة لما أن طلبَ المستحيلِ مستحيلٌ من الأنبياء لا سيما ما يقتضي الجهل بشئون الله تعالى ولذلك رده بقوله تعالى لن تراني دون لن أرى ولن أُرِيَك ولن تنظُرَ إليّ تنبيهاً على أنه قاصرٌ عن رؤيته لتوقفها على معد في الرائي ولم يوجد فيه ذلك بعد وجعل الؤال لتبكيت قومِه الذين قالوا أرنا الله جهرةً خطأٌ إذ لو كانت الرؤيةُ ممتنعةً لوجب أن يُجهِّلَهم ويُزيحَ شبهتَهم كما فعل ذلك حين قالوا اجعل لَّنَا إلها وأن لا يتبعَ سبيلَهم كما قال لأخيه ولا تتبعْ سبيلَ المفسدين والاستدلالُ بالجواب على استحالتها أشدُّ خطأً إذ لا يدل الإخبارُ بعدم رؤيتِه إياه على أنه لا يراه ابدا وأن لا يراه غيرُه أصلاً فضلاً عن أن يدل على استحالتها ودعوى الضرورةِ مكابرة أو جهل لحقيقة الرؤية
﴿قَالَ﴾ استئنافٌ مبني على سؤالٍ نشأَ من الكلامِ كأنَّه قيلَ فماذَا قالَ ربُّ العزة حين قال موسى عليه السلام ما قل فقيل قال
﴿لَن تَرَانِى ولكن انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِى﴾ استدراكٌ لبيان أنه لا يُطيق بها وفي تعليقها باستقرار الجيل أيضاً دليلٌ على الجواز ضرورةَ أن المعلَّق بالممكن ممكنٌ والجبلُ قيل هو جبل أردن
﴿فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ﴾ أي ظهرت له عظمتُه وتصدّى له اقتدارُه وأمرُه وقيل أُعطي الجبلُ حياةً ورؤيةً حتى رآه
﴿جَعَلَهُ دَكّا﴾ مدكوكاً مُفتّتاً والدكُّ والدقُّ أخَوَان كالشك والشق
269
الأعراف آية ١٤٤ ١٤٥
وقرىء دَكَّاء أي أرضاً مستويةً ومنه ناقةٌ دكاءُ للتي لا سنامَ لها وقرىء دُكاً جمعُ دكّاءَ أي قطعاً
﴿وخر موسى صعقا﴾ منغشيل عليه من هول ما رآه
﴿فَلَمَّا أَفَاقَ﴾ الإفاقةُ رجوعُ العقلِ والفهم إلى الإنسان بعد ذهابِهما بسبب من الأسباب
﴿قَالَ﴾ تعظيماً لما شاهدجه
﴿سبحانك﴾ أي تنزيهاً لك من أن أسألك شيئاً بغير إذنٍ منك
﴿تُبْتُ إِلَيْكَ﴾ أي من الجراءة والإقدامِ على السؤال بغير إذن
﴿وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين﴾ أي بعظمتك وجلالِك وقيل أولُ من آمن بأنك لا تُرى في الدنيا وقيل بأنه لا يجوز السؤال بغير إذن منك
270
﴿قَالَ يَا موسى﴾ استئنافٌ مسوق لتسليته عليه الصلاة والسلام من عدم الإجابةِ إلى سؤال الرؤيةِ كأنه قيل إن منعتُك الرؤيةَ فقد أعطيتك من النعم العظامِ ما لم أعْطِ أحداً من العالمين فاغتنِمْها وثابرْ على شكرها ﴿إِنْى اصطفيتك﴾ أي اخترتُك واتخذتُك صفوةً وآثرتُك ﴿عَلَى الناس﴾ أي المعاصرين لك وهرون إن كان نبياً كان مأموراً باتباعه وما كان كَليماً ولا صاحبَ شرعٍ ﴿برسالاتي﴾ أي بأسفار التوراةِ وقرىء برسالتي ﴿وبكلامي﴾ وبتكليمي أياك بغير واسطة ﴿فَخُذْ مَا آتيتك﴾ أي أعطيتك من شرف النبوةِ والحكمة ﴿وَكُنْ مّنَ الشاكرين﴾ على ما أُعطيت من جلائل النعمِ قيل كان سؤالُ الرؤيةِ يوم عرفةَ وإعطاءُ التوراةِ يومَ النحر
﴿وَكَتَبْنَا لَهُ فِى الالواح مِن كُلّ شَىْء﴾ أي مما يحتاجونَ إليهِ من أمورِ دينِهم
﴿مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَىْء﴾ بدلٌ من الجارّ والمجرور أي كتبنا له كلَّ شيءٍ من المواعظ وتفصيلِ الأحكام واختُلف في عدد الألواحِ وفي جوهرها ومقدارِها فقيل إنها كانت عشَرةَ ألواحٍ وقيل سبعةً وقيل لوحين وأنها كانت من زمردة جاء بها جبريلُ عليه السَّلامُ وقيل من زَبَرْجَدةٍ خضراءَ أو ياقوتةٍ حمراءَ وقيل أمر الله تعالى موسى بقطعها من صخرة صماء لينهاله فقطعها بيده وضققها بأصابعه وعن الحسنِ رضيَ الله عنه كانت من خشب نزلت من السماء فيها التوراةُ وأن طولَها كان عشَرةَ أذرُع وقيل أُنزلت التوراةُ وهي سبعون وِقْرَ بعيرٍ يقر الجزءُ منه في سنة لم يقرأها إلا أربعةُ نفرٍ موسى ويوشعُ وعُزيرٌ وعيسى عليهم السلام وعن مقاتل رضي اللعه عنه كُتب في الألواح إني أنا الله الرحمن الرحيم لا تشرِكوا بي شيئاً ولا تقطعوا السبيلَ ولا تزْنوا ولا تعقُّوا الوالدين
﴿فَخُذْهَا﴾ على إضمار قولٍ معطوف على كتبنا فقلنا خذها
﴿بِقُوَّةٍ﴾ بجدَ وعزيمة وقيلَ هو بدلٌ من قوله تعالى فَخُذْ ما آتيتك والضمير للألوالح أو لكل شيءٍ لأنه بمعنى الأشياء أو للرسالة أو للتوراة
﴿وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا﴾ أي بأحسنِ ما فيها كالعفو والصبر بالإضافة إلى الاقتصاص والانتصارِ على طريقة الندبِ والحثِّ على اختيار الأفضل كما في قوله تعالى واتبعوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مّن رَّبّكُمْ أو بواجباتها فإنها
270
الأعراف آية ١٤٦
أحسنُ من المباح وقيل المعنى بأخذوا بها وأحسن صلةٌ قال قُطرُب أي بحسَنها وكلُّها حسنٌ كقوله تعالى وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ وقيل هو أن تُحمل الكلمةُ المحتملةُ لمعنيين أو لمعان على أشبه محتملانها بالحق وأقربِها إلى الصواب
﴿سأريكم دَارَ الفاسقين﴾ تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى قومِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بطريق الالتفاتِ حملاً لهم على الجد في الامتثال بما أُمروا به إما على نهج الوعيدِ والترهيب على أن المرادَ بدار الفاسقين أرضَ مصرَ وديارُ عادٍ وثمودَ وأضرابِهم فإن رؤيتها وهي الخالية عن أهلها خاويةٌ على عروشها موجبةٌ للاعتبار والانزجارِ عن مثل أعمالِ أهلِها كيلا يحِلَّ بهم ما حل بأولئك وإما على نهج الوعدِ والترغيبِ على أن المرادَ بدار الفاسقين إما أرضُ مصرَ خاصةً أو مع أرض الجبابرةِ والعمالقةِ بالشام فإنها أيضاً مما أتيح لبني إسرائيلَ وكُتب لهم حسبما ينطِق به قوله عز وجل يا قوم ادْخُلُوا الاْرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ومعنى الإراءةِ الإدخالُ بطريق الإيراثِ ويُؤيده قراءةُ مَن قرأَ سأوُرثكم بالثاء المثلثة كما في قوله تعالى وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مشارق الارض ومغاربها وقرىء سأُوريكم ولعله من أورَيْتُ الزند أي سأبينها لكم وقوله تعالى
271
﴿سأصرف عن آياتي الذين يَتَكَبَّرُونَ فِي الارض﴾ استئنافٌ مَسوقٌ لتحذيرهم عن التكبر الموجبِ لعدم التفكرِ في الآيات التي هي ما كتب في ألواح التوراةِ من المواعظ والأحكامِ أو ما يعمُّها وغيرَها من الآيات التكوينيةِ التي من جملتها ما وعد إراءته من دار الفاسقين ومعنى صرفِهم عنها الطبعُ على قلوبهم بحيث لا يكادون يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها لإصرارهم على ما هم عليه من التكبر والتجبر كقوله تعالى فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ وتقديمُ الجارِّ والمجرور على المفعول الصريحِ لإظهار الاعتناءِ بالمقدم والتشويقِ إلى المؤخر مع أن في المؤخر نوع كول يُخلُّ تقديمُه بتجاوب أطراف النظمِ الجليلِ أي سأطبع على قلوب الذين يعدّون أنفسَهم كُبراءَ ويرَوْن لهم على الخلق مزِيةً وفضلاً فلا ينتفعون بآياتي التنزيليةِ والتكوينيةِ ولا يغتنمون مغانمَ آثارِها فلا تسلُكوا مسلكَهم لتكونوا أمثالهم وقيل المعنى سأصرِفهم عن إبطالها وإن اجتهدوا كما اجتهد فرعونُ في إبطال ما رآه من الآيات فأبى الله تعالى إلا إحقاقَ الحقِّ وإزهاقَ الباطل وعلى هذا فالأنسبُ أن يُرادَ بدار الفاسقين أرضُ الجبابرةِ والعمالقة والمشهورين بالفسق والتكبر في الأرض ووبإراءتها للمخاطَبين إدخالُهم الشامَ وإسكانُهم في مساكنهم ومنازلِهم حسبما نطق به قوله تعالى يا قوم ادْخُلُوا الاْرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ويكون قولُه تعالى سَأَصْرِفُ عَنْ آياتي الخ جواباً عن سؤال مقدَّرٍ ناشىءٍ من الوعد بإدخال الشامِ على أن المرادَ بالآيات ما تُلي آنفاً ونظائرُه وبصرفهم عنها إزالتُهم عن مَقام معارضتِها وممانعتِها لوقوع أخبارِها وظهور أحكامِها وآثارِها بإهلاكهم على يد موسى عليه الصلاةُ والسلامُ حين سار بعد التّيهِ بمن بقيَ من بني إسرائيل
271
الأعراف آية ١٤٧ ١٤٨
أو بذرياتهم على اختلاف الروايتين إلى أريحا ويوشعُ بنُ نونٍ في مقدمته ففتحها واستقر بنو إسرائيلَ بالشام وملكوا مشارقَها ومغاربَها كأنه قيل كيف يرون دارهم وهم فيها فقيل سأُهلِكُهم وإنما عدل إلى الصَرْف ليزدادوا ثقةً بالآيات واطمئناناً بها وقوله تعالى
﴿بِغَيْرِ الحق﴾ إما صلةٌ للتكبر أي يتكبرون بما ليس بحق وهو دينُهم الباطلُ وظلمُهم المُفْرِطُ أو متعلقٌ بمحذوف هو حال من فاعله أي يتكبرون ملتبسين بغير الحق وقوله تعالى
﴿وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها﴾ عطفٌ على يتكبرون داخلٌ معه في حكم الصلة والمراد بالآية إما منزلة فالمرادُ برؤيتها مشاهدتُها بسماعها أو ما يعمُّها وغيرَها من المعجزات فالمرادُ برؤيتها مطلقُ المشاهَدةِ المنتظمةِ للسماع والإبصار أي وإن يشاهِدوا كُلَّ آيَةٍ من الآيات لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا على عمومِ النفي لا على نفي العُموم أي كفروا بكل واحدة منها لعدم اجتلائِهم إياها كما هي وهذا كما ترى يؤيد كونَ الصرفِ بمعنى الطبع وقوله تعالى
﴿وإن يروا سَبِيلَ الرشد لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً﴾ عطفٌ على ما قبله داخلٌ في حُكمهِ أيْ لا يتوجهون إلى الحق ولا يسلُكون سبيله أصلاً لاستيلاء الشيطنةِ عليهم ومطبوعتهم على الانحراف والزيغ وقرىء بفتحتين وقرىء الرشادِ وثلاثتُها لغات كالسقم والسقم والسقام
﴿وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الغى يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً﴾ أي يختارونه لأنفسهم مسلَكاً مستمراً لا يكادون يعدِلون عنه لموافقته لأهوائهم الباطلةِ وإفضائه بهم إلى شهواتهم
﴿ذلك﴾ إشارة إلى ما ذكر من تكبُّرهم وعدمِ إيمانهم بشي من الآيات وإعراضِهم عن سبيل الرشدِ وإقبالِهم التامّ إلى سبيل الغيِّ وهو مبتدأٌ خبرُهُ قولُه تعالى
﴿بِأَنَّهُمْ﴾ أي حاصلٌ بسبب أنهم
﴿كذبوا بآياتنا﴾ الدالةِ على بطلان ما اتصفوا به من القبائح وعلى حقية أضدادِها
﴿وَكَانُواْ عَنْهَا غافلين﴾ لا يتفكرون فيها وإلا لما فعلُوا ما فعلُوا من الأباطيل ويجوز أن يكون إشارة إلى ما ذكر من الصرف ولا يمنعُه الإشعارُ بعلية مَا في حيزِ الصلةِ كيف لا وقد مر أن ذلك في قولِه تعالَى ذلك بِمَا عَصَواْ الآية يجوزُ أن يكون إشارةً إلى ضرب الذِلة والمسكنةِ والبَوْءِ بالغضب العظيمِ مع كون ذلك معللا بالكفر بآيان الله صريحاً وقيل محلُّ اسمِ الإشارةِ النصبُ على المصدر أي سأصرفهم ذلك الصَّرْفَ بسبب تكذيبِهم بآياتنا وغفلنتهم عنها
272
﴿والذين كذبوا بآياتنا وَلِقَاء الاخرة﴾ أي وبلقائهم الدارَ الآخرةَ أو لقائهم ما وعده الله تعالى في الآخرة من الجزاء ومحلُّ الموصولِ الرفعُ على الابتداءِ وقولُه تعالَى ﴿حَبِطَتْ أعمالهم﴾ خبرُه أي ظهر بُطلانُ أعمالِهم التي كانوا عمِلوها من صلة الأرحامِ وإغاثةِ الملهوفين ونحوِ ذلك أو حبطت أعمالهم بعد ما كانت مرجُوَّةَ النفعِ على تقدير إيمانهم بها ﴿هَلْ يُجْزَوْنَ﴾ أي لا يُجزون ﴿إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ أي الإجزاءَ ما كانوا يعملونه من الكفر والمعاصي
﴿واتخذ قَوْمُ موسى مِن بَعْدِهِ﴾ أي من بعد ذهابِه إلى الطور
﴿مِنْ حُلِيّهِمْ﴾ متعلقٌ باتخذ كالجارِّ الأول لاختلاف معنييهما فإن الأول للابتداء
272
العراف آية ١٤٩
والثاني للتبعيض أو للبيان أو الثاني متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً مما بعده إذ لو تأخرَ لكانَ صفةً لهُ وإضافةُ الحُلِيِّ إليهم مع أنها كانت للقِبْط لأدنى الملابسة حيث كانوا استعاروها من أربابها قُبيل الغرقِ فبقِيَتْ في أيديهم وأما أنهم ملكوها بعد الغرقِ فذلك منوطٌ بتملك بني إسرائيلَ غنائمَ القِبطِ وهم مستأمَنون فيما بينهم فلا يساعده قولُهم حُمّلْنَا أَوْزَاراً مّن زِينَةِ القوم والحلي بضم الحاء وكسر اللام جمعُ حَلْيٍ كثَدْيٍ وثُدِيّ وقرىء بكسر الحاء بالإتباع كدِليّ وقرىء حَلْيِهم على الإفراد وقوله تعالى
﴿عِجْلاً﴾ مفعولُ اتخذ أُخِّر عن المجرور لما مرَّ من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر مع ما فيه من نوع طول يُخِلّ تقديمُه بتجاوب أطرافِ النظمِ الكريم وقيل هو متعدَ إلى اثنين بمعنى التصيير والمفعول الثاني محذوفٌ أي إلها وقوله تعالى
﴿جَسَداً﴾ بدلٌ من عجلا أو جُثةً ذا دمٍ ولحمٍ أو جسداً من ذهب لا روحَ معه وقوله تعالى
﴿لَّهُ خُوَارٌ﴾ أي صوتُ بقر وقرىء بالجيم والهمزة وهو الصياح نعتٌ لعجلاً روي أن السامريَّ لما صاغ العجلَ ألقى في فمه تراباً من أثر فرسِ جبريل عليه الصلاةُ والسلامُ وقد كان أخذه عند فلْقِ البحر أو عند توجُّهِه إلى الطور فصار حيّاً وقيل صاغه بنوع من الحيل فيدخُلُ الريحُ في جوفه فيصوِّت والأنسبُ بما في سورة طه هو الأولُ وإنما نُسبَ اتخاذُه إليهم وهو فعلُه إما لأنه واحد منهم وإما لأنهم رضُوا به فكأنهم فعلوه وإما لأن المرادَ بالاتخاذ اتخاذُهم إياه إلها لا صنعُه وإحداثُه
﴿أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلّمُهُمْ﴾ استئنافٌ مَسوقٌ لتقريعهم وتشنيعِهم وتركيكِ عقولِهم وتسفيهِهم فيما أقدموا عليه من المنكر الذي هو اتخاذُه إلها أي ألم يرَوا أنه ليس فيه شيءٌ من أحكام الألوهية حيث لا يكلمهم
﴿وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً﴾ بوجه من الوجوه فكيف اتخذوه إلها وقوله تعالى
﴿فاتخذوه﴾ أي فعلوا ذلك
﴿وَكَانُواْ ظالمين﴾ أي واضعين للأشياء في غير موضعِها فلم يكن هذا أولَ منكرٍ فعلوه والجملةُ اعتراضٌ تذييليٌّ وتكريرٌ اتخذوه لتثنية التشنيعِ وترتيبِ الاعتراض عليه
273
﴿وَلَمَّا سُقِطَ فَى أَيْدِيهِمْ﴾ أي ندموا غايةَ الندمِ فإن ذلك كنايةٌ عنه لأن النادمَ المتحسِّرَ يعَضُّ يدَه غماً فتصير يدُه مسقوطاً فيها وقرىء سقَطَ على البناء للفاعل بمعنى وقع العضُّ فيها فاليدُ حقيقةٌ وقال الزجاج معناه سقَط الندمُ في أنفسهم إما بطريق الاستعارةِ بالكناية أو بطريق التمثيل
﴿وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ﴾ باتخاذ العجلِ أي تبيّنوا بحيث تيقنوا بذلك حتى كأنهم رأَوْه بأعينهم وتقديمُ ذكرِ ندمِهم على هذه الرؤيةِ مع كونه متأخرا عنها للمساعرة إلى بيانه والإشعارِ بغاية سُرعتِه كأنه سابقٌ على الرؤية
﴿قَالُواْ﴾ والله
﴿لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا﴾ بإنزال التوبةِ المكفرة
﴿وَيَغْفِرْ لَنَا﴾ ذنوبَنا بالتجاوز عن خطيئتنا وتقديمُ الرحمةِ على المغفرة مع أن التخليةَ حقُّها أن تُقدَّم على التحلية إما للمسارعة إلى ما هو المقصودُ الأصليّ وإما لأن المرادَ بالرحمة مطلقُ إرادةِ الخير بهم وهو مبدأٌ لإنزال التوبةِ المكفرة لذنوبهم واللامُ في لئن موطئةٌ للقسم كما أشير إليه وفي قوله تعالى
﴿لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين﴾ لجواب القسمِ وما حُكي عنهم من الندامة والرؤية والقولِ وإن كان بعد
273
الأعراف آية ١٥٠
ما رجع موسى عليه الصلاة والسلام إليهم كما ينطِق به الآياتُ الواردة في سورة طه لكن أريد بتقديمه عليه حكايةُ ما صدرَ عنهُم من القول والفعلِ في موضع واحد
274
﴿وَلَمَّا رَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ﴾ شروعٌ في بيان ما جرى مِن موسى عليه السَّلام بعد رجوعِه من الميقات إثرَ بيانِ ما وقع من قومه بعده وقولُه تعالى
﴿غضبان أَسِفًا﴾ حالان مِن مُوسى عليه السَّلام أو الثاني من المستكنّ في غضبانَ والآسِفُ الشديدُ الغضبِ وقيل الحزين
﴿قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِى مِن بَعْدِى﴾ أي بئسما فعلتم من بعد غَيْبتي حيث عبدتم العجلَ بعد ما رأيتم فعلي من توحيد الله تعالى ونفيِ الشركاءِ عنه وإخلاصِ العبادةِ له أو من حملكم على ذلك وكفِّكم عما طمَحَت نحوه أبصارُكم حيث قلتم اجعلْ لنا إلها كما لهم آلهةٌ ومن حق الهلفاء أن يسيروا بسيرة المستخلِفِ فالخطابُ للعبَدَة من السامريِّ وأشياعِه أو بئسما قمتم مقامي ولم تراعوا عهدي حيث لم تكفوا العبَدَةَ عما فعلوا فالخطابُ لهرون وَمَنْ مَعَهُ من المؤمنينَ كما ينبىء عنه قوله تعالى قال يا هرون مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّواْ أَن لا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِى ويجوزُ أن يكونَ الخطابُ للكل على أن المرادَ بالخليفة ما يعم الأمرين المذكورين وما نكرةٌ موصوفةٌ مفسِّرةٌ لفاعل بئس المستكنِّ فيه والمخصوصُ بالذم مححذوف تقديره بئس خلافة خلفتمونبها من بعدي خلافتُكم
﴿أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبّكُمْ﴾ أي تركتموه غيرَ تام على تضمين عجِلَ معنى سبَق يقال عجِل عن الأمر إذا تركه غيرَ تام أو أعجِلتم وعدَ ربِّكم الذي وعدجنيه من الأربعين وقدّرتم موتي وغيّرتم بعدي كما غيرت الأممُ بعد أنبيائِهم
﴿وَأَلْقَى الألواح﴾ طرحا من شدة الغضبِ وفرطِ الضجر حميةً للدين روي أن التوراةَ كانت سبعةَ أسباعٍ في سبعة ألواح فلما ألقاها انكسرت فرفعت ستةُ أسباعِها التي كان فيها تفصيلُ كلِّ شيءٍ وبقي سُبعٌ كان فيه المواعظ والأحكان
﴿وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ﴾ بشعر رأسِه عليهما السلام
﴿يَجُرُّهُ إليه﴾ حال من ضمير أخذ فعلَه عليه السلام توهما أنه قصّر في كفهم وهرون كان أكبرَ منه عليهما السلام بثلاث سنينَ وكان حَمولاً ولذلك كان أحبَّ إلى بني إسرائيل
﴿قَالَ﴾ أي هرون لما أن حقّ الأمِّ أعظمُ وأحقُّ بالمراعاة مع أنها كانت مؤمنةً وقد قاست فيه المخاوفَ والشدائد وقرىء بكسر الميم بإسقاط الياءِ تخفيفا كالمنادى المضاف إلى الياء وقراءةُ الفتح لزيادة التخفيف أو لتشبيهه بخمسةَ عشرَ
﴿إِنَّ القوم استضعفونى وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِى﴾ إزاحةً لتوهم التقصيرِ في حقه والمعنى بذلتُ جُهدي في كفهم حتى قهروني واستضعفوني وقاربوا قتلي
﴿فَلاَ تُشْمِتْ بِىَ الاعداء﴾ أي فلا تفعلْ بي ما يكون سبباً لشماتتهم بي
﴿وَلاَ تَجْعَلْنِى مَعَ القوم الظالمين﴾ أي معدوداً في عدادهم بالمؤاخذة أو النسبة إلى التقصير وهَذا يؤيدُ كونَ الخطابِ للكل أولا تعتقد أني واحدٌ من الظالمين مع براءتي منهم ومن ظلمهم
274
﴿قال﴾ استئناف مبني على سؤالٍ نشأَ من حكايةِ اعتذار هرون عليه السلام كأنَّه قيلَ فماذَا قالَ موسى عند ذلكَ فقيل قال ﴿رَبّ اغفر لِى﴾ أي ما فعلتُ بأخي من غير ذنبٍ مقرِّرٍ من قِبَله ﴿وَلأَخِى﴾ إن فرَطَ منه تقصيرٌ ما في كفهم عما فعلوه من العظيمة استغفرَ عليه السلام لنفسه ليُرضِيَ أخاه ويُظهر للشامتين رضاه لئلا تتم شماتتُهم به ولأخيه للإيذان بأنه محتاجٌ إلى الاستغفار حيث كان يجبُ عليه أنْ يقاتلَهم ﴿وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ﴾ بمزيد الإنعامِ بعد غُفران ما سلف منا ﴿وَأَنتَ أرحم الراحمين﴾ فلا غَرْوَ في انتظامنا في سلك رحمتِك الواسعةِ في الدنيا والآخرة والجملةُ اعتراض تذييلي مقرر لما قبله
﴿إِنَّ الذين اتخذوا العجل﴾ أي تمّوا على اتخاذه واستمروا على عبادته كالسامريِّ وأشياعِه من الذين أُشربوه في قلوبهم كما يُفصح عنه كونُ الموصولِ الثاني عبارةً عن التائبين فإن ذلك صريحٌ في أن الموصولَ الأولَ عبارةٌ عن المصِرّين ﴿سَيَنَالُهُمْ﴾ أي في الآخرة ﴿غَضَبٌ﴾ أي عظيمٌ لا يُقادرُ قدرُه مستتبِعٌ لفنون العقوباتِ لما أن جريمتَهم أعظمُ الجرائم وأقبحُ الجرائر وقولُه تعالى ﴿مّن رَّبّهِمُ﴾ أي مالكِهم متعلقٌ بينا لهم أو بمحذوف هو نعتٌ لغضبٍ مؤكِّدٌ لما أفادَه التنوينُ من الفخامةِ الذاتيةِ بالفخامةِ الإضافيةِ أي كائنٌ من ربهم ﴿وَذِلَّةٌ فِى الحياة الدنيا﴾ هي ذلةُ الاغترابِ التي تُضرب بها الأمثال والمسكنة المتنظمة لهم ولأولادهم جميعاً والذلةُ التي اختص بها السامريُّ من الانفراد عن الناس والابتلاء بلا مِساس يروى أن بقاياهم اليومَ يقولون ذلك وإذا مس أحدَهم أحدٌ غيرُهم حُمّاً جميعاً في الوقت وإيرادُ ما نالهم في حيز السين مع مُضِيِّه بطريق تغليب حالِ الأخلافِ على حال الأسلاف وقيل المرادُ بهم التائبون وبالغضب ما أُمروا به من قتل أنفسِهم واعتُذر عن السين بأن ذلك حكايةٌ عما أخبر الله تعالى به موسَى عليهِ السلامُ حين أخبره بافتتان قومِه واتخاذِهم العجلَ بأنه سينالهم غضبٌ من ربهم وذلةٌ فيكون سابقاً على الغضب وأنت خبيرٌ بأن سباقَ النظم الكريم وسياقَه نابيان عن ذلك نُبوّاً ظاهراً كيف لا وقوله تعالى ﴿وكذلك نَجْزِى المفترين﴾ ينادي على خلافه فإنهم شهداءُ تائبون فكيف يمكن وصفهم بعج ذلك بالافتراء وأيضاً ليس يجزي الله تعالى كلَّ المفترين بهذا الجزاءِ الذي ظاهرُه قهرٌ وباطنُه لطفٌ ورحمة وقيل المرادُ بهم أبناؤهم المعاصِرون لرسول الله ﷺ فإن تعييرَ الأبناءِ بأفاعيلِ الآباء مشهورٌ معروفٌ منه قولُه تعالى وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا الآية وقولُه تعالى وإذ قلتم يا موسى الآية والمرادُ بالغضب الغضبُ الأخرويُّ وبالذلة ما أصابهم من القتل والإجلاءِ وضربِ الجزية عليهم وقيل المرادُ بالموصول المتّخِذون حقيقةً وبالضمير في ينالُهم أخلافُهم ولا ريب في أن توسيطَ حالِ هؤلاء في تضاعيف بيانِ حالِ المتخِذين من قبيل الفصل بين الشجر ولِحائه
﴿والذين عَمِلُواْ السيئات﴾ أيَّ سيئة كانت
275
الأعراف آية ١٥٣ ١٥٥
﴿ثُمَّ تَابُواْ﴾ عن تلك السيئات
﴿مِن بَعْدِهَا﴾ أي من بعد عملها
﴿وآمنوا﴾ إيماناً صحيحاً خالصاً واشتغلوا بإقامة ما هو من مقتضياته من الأعمال الصالحةِ ولم يُصروا على ما فعلوا كالطائفة الأولى
﴿إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا﴾ أي من بعد تلك التوبةِ المقرونةِ بالإيمان
﴿لَغَفُورٌ﴾ للذنوب إن عظُمت وكثُرت
﴿رَّحِيمٌ﴾ مبالِغٌ في إفاضةِ فنونِ الرحمةِ الدنيويةِ والأخروية والتعرّضُ لعنوانِ الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام للتشريف
276
﴿وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الغضب﴾ شروعٌ في بيان بقية الحكاية غثر ما بيّن تحزب القوم إلى مصر وتائب والإشارةِ إلى مآل كلَ منهما إجمالاً أي لما سكن عنه الغضبُ باعتذار أخيه وتوبةِ القوم وهذا صريحٌ في أنَّ ما حُكي عنهم من الندم وما يتفرّع عليه كان بعد مجىء موسى عليه الصلاة والسلام وفي هذا النظم الكريمِ من البلاغة والمبالغةِ بتنزيل الغضبِ الحاملِ له عَلَى ما صَدَرَ عنْهُ من الفعل والقول منزلةَ الآمرِ بذلك المُغري عليه بالتحكم والتشديد والتعبير عن شكوته بالسكوت ما لا يخفى وقرىء سَكَن وسكَت وأسكتَ على أن الفاعل هو الله تعالى أو أخوه أو التائبون ﴿أَخَذَ الالواح﴾ التي ألقاها ﴿وَفِى نُسْخَتِهَا﴾ أي فيما نُسخ فيها وكُتب فُعلة بمعنى مفعول كالخُطبة وقيل فيما نسخ منها أي من الألواح المنكسرة ﴿وهدى﴾ أي بيانٌ للحق ﴿وَرَحْمَةً﴾ للخلق بإرشادهم إلى ما فيه الخيرُ والصلاح ﴿لّلَّذِينَ هُمْ لِرَبّهِمْ يَرْهَبُونَ﴾ اللامُ الأولى متعلقةٌ بمحذوف هو صفةٌ لرحمة أي كائنةٌ لهم أو هي لامُ الأجَل أي هدى ورحمةٌ لأجلِهم والثانيةُ لتقوية عمل الفعلِ المؤخّر كما في قوله تعالى إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ أو هي أيضاً لامُ العلة والمفعولُ محذوفٌ أي يرهبون المعاصيَ لأجل ربهم لا للرياء والسمعة
﴿واختار موسى قَوْمَهُ﴾ شروعٌ في بيانِ كيفيةِ استدعاءِ التوبةِ وكيفية وقوعِها واختار يتعدّى إلى اثنين ثانيهما مجرورٌ بمن أي اختار من قومه بحذفِ الجارِّ وإيصالِ الفعلِ إلى المجرور كما قوله... اختارك الناسَ إذْ رثت خلائقهم واعتنل مَنْ كان يُرجَى عنده السُّولُ أي اختارك من الناس
﴿سَبْعِينَ رَجُلاً﴾ مفعولٌ لاختار أُخِّر عن الثاني لما مر مرارا من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر
﴿لميقاتنا﴾ الذي وقتناه بعد ما وقع من قومه ما وقع لا لميقاتِ الكلام الذي ذكر
276
الأعراف آية ١٥٥
قبل ذلك كما قيل قال السدي أمره الله تعالى بأن يأتيَه في ناس من بني إسرائيلَ يعتذرون إليه تعالى من عبادة العجلِ ووعدهم موعداً فاختار عليه السلام من قومه سبعين رجلاً وقال محمد بن إسحق اختارهم ليتوبوا إليه تعالى مما صنعوه ويسألوه التوبةَ على من ترطكوهم وراءهم من قومهم قالوا اختار عليه الصلاة والسلام من كل سِبطٍ ستةً فزاد اثنانِ فقال ليتخَلَّفْ منكم رجلان فتشاحّوا فقال عليه الصلاة والسلام إن لمن قعد مثلَ أجرِ من خرج فقعد كالب ويوشع وذهب مع الباقين وأمرهم أن يصوموا ويتطهروا ويُطهِّروا ثيابهم فخرج بهم إلى طور سيناء فلما دنَوا من الجبل غشية غمانم فدخل موسى بهم الغمامَ وخرّوا سُجّداً فسمِعوه تعالى يكلم موسى يأمرُه وينهاه حسبما يشاءُ وهو الأمرُ بقتل أنفسِهم توبةً
﴿فَلَمَّا أخذتهم الرجفة﴾ مما اجترءوا عليه من طلب الرؤيةِ فإنه يروى أنه لما انكشف الغمامُ أقبلوا إلى مُوسى عليهِ السَّلامُ وقالُوا لن نؤمنَ لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الرجفةُ أي الصاعقةُ أو رجفةُ الجبل فصُعِقوا منها أي ماتوا ولعلهم أرادوا بقولهم لن نؤمنَ لك لن نصدِّقك في أن الآمر بما سمعنا من الأمرَ بقتل أنفسِهم هو الله تعالى حتى نراه حيث قاسوا رؤيتَه تعالى على سماع كلامِه قياساً فاسداً فحين شاهد موسى تلك الحالةَ الهائلة
﴿قَالَ رَبّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مّن قَبْلُ﴾ أي حين فرّطوا في النهي عن عبادة العجلِ وما فارقوا عبَدَتَه حين شاهدوا إصرارَهم عليها
﴿وإياى﴾ أيضاً حين طلبتُ منك الرؤيةَ أي لو شئتَ إهلاكَنا بذنوبنا لأهلكتَنا حينئذ أراد به عليه السلام تذكيرَ العفوِ السابقِ لاستجلاب العفوِ اللاحقِ فإن الاعتراف باتلذنب والشكرَ على النعمة مما يربِط العتيدَ ويستجلب المزيد يعني إنا كنا مستحقين للإهلاك ولم يكن من موانعه إلا عدمُ مشيئتِك إياه فحيث لطَفْتَ بنا وعفوتَ عنا تلك الجرائمَ فلا غروَ في أنْ تعفوَ عنا هذه الجريمةَ أيضاً وحملُ الكلام على التمني يأباه قوله تعالى
﴿أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السفهاء مِنَّا﴾ أي الذين لا يعلمون تفاصيل شئونك ولا يتثبتون في المداحض والهمزةُ إما لإنكار وقوعِ الإهلاكِ ثقةً بلطف الله عزَّ وجلَّ كما قاله ابن الأنباري أو للاستعطاف كما قاله المبرد أي لا تهلكنا
﴿إن هى إلا فتنتك﴾ استئناف مقرر لما قبله واعتذارٌ عما صنعوا ببيان منشأ غلطِهم أي ما الفتنةُ التي وقع فيها السفهاءُ وقالوا بسببها ما قالوا من العظيمة إلا فتنتُك أي محنتُك وابتلاؤك حيث أسمعتهم كلامك فاتتنوا بذلك ولم يتثبتوا فطمِعوا فيما فوق ذلك تابعين للقياس الفاسد وقوله تعالى
﴿تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِى مَن تَشَاء﴾ إما استئنافٌ مبينٌ لحُكم الفتنةِ أو حالٌ من فتنتك أي حالَ كونِها مضِلاًّ بها الخ أي تُضل بسلببها من تشاء إضلالَه فلا يهتدي إلى التثبت وتهدي من تشاء هِدايتَه إلى الحق فلا يتزلزل في أمثالها فيقوى بها غيمانه
﴿أَنتَ وَلِيُّنَا﴾ أي القائمُ بأمورنا الدنيويةِ والأخرويةِ وناصرُنا وحافظُنا لا غيرُك
﴿فاغفر لَنَا﴾ ما قارفناه من المعاصي والفاءُ لترتيب الدعاءِ على مكا قبله من الولاية كأنه قيل فمن شاء الوليِّ المغفرةُ والرحمةُ وقيل إن إقدامه عليه الصلاة والسلام على أن يقولُ إِنْ هِىَ إِلاَّ فتنتُك الخ جراءةٌ عظيمةٌ فطلب من الله تعالى غفرانها والتجاوزَ عنهات
﴿وارحمنا﴾ بإفاضة آثار الحمة الدنيويةِ والأخروية علينا
﴿وَأَنتَ خَيْرُ الغافرين﴾ اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّرٌ لما قبله من الدعاء وتخصيصُ المغفرةِ بالذكر لأنها الأهمُّ بحسب المقام
277
﴿واكتب لَنَا﴾ أي عيِّنْ لنا وقيل أوجِبْ وحقِّقْ وأثبتْ
﴿فِى هذه الدنيا حَسَنَةٌ﴾ أي نعمةً وعافيةً أو خَصلة حسنةً قال ابن عباس رضي الله عنهما اقبَلْ وِفادتَنا ورُدَّنا بالمغفرة والرحمة
﴿وَفِي الاخرة﴾ أي واكتبْ لنا فيها أيضاً حسنةً وهي المثوبةُ الحسنى والجنة
﴿إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ﴾ أي تُبْنا وأنبْنا إليك من هاد يهودُ إذا رجَع وقرىء بكسر الهاء من هاده يهيدُه إذا حرَّكه وأماله ويحتمل أن يكون مبنياً للفاعل أو للمفعول بمعنى أمَلْنا أنفسَنا أو أمِلْنا إليك وتجويزُ أن تكون القراءةُ المشهورةُ على بناء المفعول على لغة من يقول عودَ المريضُ مع كونها لغةً ضعيفةً مما لا يليق بشأن التنزيل الجليل والجملةُ استئنافٌ مَسوقٌ لتعليل الدعاءِ فإن التوبة مما يوجي قبله بموجَب الوعدِ المحتوم وتصديرُها بحرف التحقيق لإظهار كمال النشاطِ والرغبةِ في التوبة والمعنى إنا تُبنا ورجَعْنا عما صنعنا من المعصية العظيمةِ التي جئناك للاعتذار عنها وعما وقع ههنا من طلب الرؤية فيعيد من لطفك وفضلك أن لا تقبلَ توبةُ التائبين قيل لما أخذتْهم الرجفةُ ماتوا جميعاً فأخذ موسى عليه الصلاة والسلام يتضرع إلى الله تعالى حتى أحياهم وقيل رجَفوا وكادت تَبينُ مفاصلُهم وأشرفوا على الهلاك فخاف موسى عليه الصلاة والسلام فبكى فكشفها الله تعالى عنهم
﴿قَالَ﴾ استئنافٌ وقع جوابا عن سؤال ينساقُ إليهِ الكلامُ كأنَّه قيلَ فماذَا قالَ الله تعالى عند دعاءِ مُوسى عليه السَّلامُ فقيل قال
﴿عَذَابِى أصيب به من أشاء﴾ لعله عز وجل حين جعل توبةَ عبدةِ العجلِ بقتلهم أنفسَهم ضمّن موسى عليه السلام دعاءَه التخفيفَ والتيسير حيث قال واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة أي خَصلةً حسنةً عاريةً عن المشقة والشدة فإن في قتل أنفسهم من العذاب والتشديد ما لا يخفى فأجاب تعالى بأن عذابي شأنُه أن أُصيبَ به من أشاء تعذيبَه من غير دخل لغيري فيه وهم ممن تناولَتْه مشيئتي ولذلك جُعلت توبتُهم مشوبةً بالعذاب الدنيوي
﴿وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْء﴾ أي شأنُها أن تسَعَ في الدنيا المؤمنَ والكافرَ بل كلَّ ما يدخل تحته الشيئية من المكلفين وغيرِهم وقد نال قومَك نصيبٌ منها في ضمن العذاب الدنيوي وفي نسبة الإصابة إلى العذاب بصيغة المضارعِ ونسبةِ السعةِ إلى الرحمة بصيغة الماضي إيذانٌ بأن الرحمةَ مقتضى الذاتِ وأما العذاب فبمقتضى العذاب معاصي العباد والمشيئةُ معتبرةٌ في جانب الرحمةِ أيضاً وعدمُ التصريحِ بها للإشعار بغاية الظهور ألا يُرى إلى قوله تعالى
﴿فَسَأَكْتُبُهَا﴾ أي أُثبتها وأعيِّنُها فإنه متفرعٌ على اعتبار المشيئةِ كأنه قيل فإذا كان الأمرُ كذلك أي كما ذكر من إصابة عذابي وسَعةِ رحمتي لكل من أشاء فسأكتبُها كَتْبةً كائنة كما دعوتَ بقولك واكتب لنا في هذه الخ أي شأكتبها خالصةً غيرَ مشوبةٍ بالعذاب الدنيوي
﴿لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ أي الكفَر والمعاصي إما ابتداء أو بعد ملابستهما وفيه تعريض بقومه كأنه قيل لا لقومك لأنهم غير متقين فيكفيهم ما قدر لهم من الرحمة وإن كانت مقارنة للعذاب الدنيوي
﴿ويؤتون الزكاة﴾
278
وفيه أيضا تعريضٌ بهم حيث كانت الزكاةُ شاقةً عليهم ولعل الصلاةَ إنما لم تذكَرْ مع إنافتها على سائر العبادات اكتفاءً عنها بالاتقاء الذي هو عبارة عن فعل الموجبات بأسرها وتركِ المنكرات عن آخرها وإيرادُ إيتاءِ الزكاة لما مر من التعريض
﴿والذين هم بآياتنا﴾ جميعاً
﴿يُؤْمِنُونَ﴾ إيماناً مستمراً من غير إخلالٍ بشيء منها وفيه تعريضٌ بهم وبكفرهم بالآيات العظامِ التي جاء بها موسى عليه الصلاة والسلام وبما سيجيء بعد ذلك من الآيات البيناتِ كتظليل الغمامِ وإنزالِ المنِّ والسَّلْوى وغيرِ ذلك وتكريرُ الموصولَ مع أن المرادَ به عينُ ما أريد بالموصول الأولِ دون أن يقال يؤمنون بآياتنا عطفاً على يؤتون الزكاة كما عُطف هو على يتقون لما أشير إليه من القَصْر بتقديم الجار والمجرور ورأى هم بجميع آياتنا يؤمنون لا ببعضها دون بعض
279
﴿الذين يَتَّبِعُونَ الرسول﴾ الذي نوحي إليه كتاباً مختصاً به
﴿النبى﴾ أي صاحبَ المعجزة وقيل عنوانُ الرسالةِ بالنسبة إليه تعالى وعنوانُ النبوة بالنسبة إلى الأمة
﴿الامى﴾ بضم الهمزة نسبةً إلى الأم كأنه باقٍ على حالته التي وُلد عليها من أمّه أو إلى أمة العرب كما قال ﷺ إنا أمةٌ لا نحسُب ولا نكتب أو إلى أم القرى وقرىء بفتح الهمزة أي الذي لم يمارس القراءةَ والكتابة وقد جمع مع ذلك علومَ الأولين والآخِرين والموصولُ بدلٌ من الموصولِ الأولِ بدلَ الكلِّ أو منصوبٌ على المدحِ أو مرفوع عليه أي أعني الذين أو هم اللذين وأما جعلُه مبتدأً على أن خبرَه يأمرُهم أو أولئك هم المفلحون فغيرُ سديد
﴿الذى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا﴾ باسمه ونعة وته بحيث لا يشكّون أنه هو ولذلك عدل عن أن يقال يجدون اسمَه أو وصفه مكتوباً
﴿عِندَهُمُ﴾ زيد هذا لزيادة التقريرِ وأن شأنِه عليه الصلاةُ والسلام حاضرٌ عندهم لا يَغيب عنهم أصلاً
﴿فِي التوراة والإنجيل﴾ اللذيْن تُعِبِّد بهما بنو إسرائيلَ سابقاً ولاحقاً والظرفان متعلقان بيجدونه أو بمكتوباً وذكرُ الإنجيلِ قبل نزولِه من قبيل ما نحن فيه من ذكر النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم والقرآنِ الكريم قبل مجيئِهما
﴿يَأْمُرُهُم بالمعروف وينهاهم عَنِ المنكر﴾ كلامٌ مستأنفٌ لا محلَّ له من الإعراب قاله الزجاج متضمنٌ لتفصيل بعض أحكامِ الرحمةِ التي وعد فيما سبق بكتبها إجمالاً فإن ما بُيّن فيه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإحلالِ الطيبات وتحريمِ الخبائث وإسقاطِ التكاليف الشاقةِ كلُّها من آثار رحمته الواسعة وقيل في محل النصب على أنه حالٌ مقدرةٌ من مفعول يجدونه أو من النبي أة ومن المستكن في مكتوباً أو مفسِّرٌ لمكتوباً أي لما كُتب
﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطيبات﴾ التي حُرِّمت عليهم بشؤم ظلمهم
﴿ويحرم عليهم الخبائث﴾ كالدم ولحمِ الخِنزيرِ والربا والرشوة
﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والاغلال التى كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ أي يخفف عنهم ما كُلّفوه من التكاليف الشاقةِ التي هي من قَبيل ما كتب عليهم حينئذ من كونه التوبة بقتل
279
الأعراف آية ١٥٨
النفس كتعيين القصاصِ في العمد والخطأ من غير شرعِ الدية وقطع الأعضاءِ الخاطئةِ وقرضِ موضعِ النجاسة من الجلد والثوب وإحراقِ الغنائم وتحريمِ السبت وعن عطاء أنه كانت بنو إسرائيلَ إذا قاموا يصلون لبسوا المسموح وغلّوا أيديَهم إلى أعناقهم وربما ثقَبَ الرجلُ تَرْقُوتَه وجعل فيها طرف السلسلةِ وأوثقها إلى السارية يحبِس نفسه على العبادة وقرىء آصارَهم أصل الأصر الثق الذي يأصر صاحيه من الحراك
﴿فالذين آمنوا بِهِ﴾ تعليمٌ لكيفية اتّباعِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وبيانٌ لعلو رتبةِ متّبعيه واغتنامِهم مغانمَ الرحمةِ الواسعةِ في الدارين إثرَ بيانِ نعوتِه الجليلة والإشارةِ إلى إرشاده عليهِ الصلاةُ والسلامُ إيَّاهُم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإحلالِ الطيبات وتحريمِ الخبائث أي فالذين آمنوا بنبوته وأطاعوه في أوامره ونواهيه
﴿وَعَزَّرُوهُ﴾ أي عظّموه ووقّروه وأعانوه بمنع أعدائه عنه وقرىء بالتخفيف وأصلُه المنعُ ومنه التعزير
﴿ونصروه﴾ على أعجائه في الدين
﴿واتبعوا النور الذى أُنزِلَ مَعَهُ﴾ أي مع نوبته وهو القرآنُ عبّر عنه بالنور المنبىءِ عن كونه ظاهراً بنفسه ومُظهِراً لغيره أو مظهِراً للحقائق كاشفاً عنها لمناسبة الاتّباعِ ويجوزُ أن يكون معه متعلقاً باتّبعوا أي واتّبعوا القرآنَ المنزل مع اتباعه ﷺ بالعمل بسنته وبما أُمِرَ به ونُهيَ عنه أو اتبعوا القرآنَ مصاحبين له في اتباعه
﴿أولئك﴾ إشارةٌ إلى المذكورين من حيث اتصافُهم بما فُصّل من الصفاتِ الفاضلة للإشعار بعليتهاللحكم وما فيه من معنى البُعد للإيذان بعلوّ درجتِهم وسمو طبقتهم فيالفضل والشَّرفِ أي أولئك المنعوتُون بتلك النعوت الجليلة
﴿هُمُ المفلحون﴾ أي هم الفائزون بالمطلوب الناجون عن الكروب لا غيرُهم من الأمم فيدخُل فيهم قوم موسى عليه الصلاة والسلام دخولاً أولياً حيث لم ينجو عما في توبيتهم من المشقة الهائلةِ وبه يتحقق التحقيقُ ويتأتّى التوفيقُ والتطبيق بين دعائِهِ عليهِ الصلاةُ والسلام وبين الجوابِ لا بمجرد ما قيل من أنه دعا لنفسه ولبني إسرائيلَ أجيب بما هو منطوٍ على توبيخ بني إسرائيلَ على استجازتهم الرؤيةَ على الله عزَّ وجلَّ وعلى كفرهم بآياته العظامِ التي أجرها على يد موسى عليه الصلاة والسلام وعرّض بذلك في قوله تعالى والذين هم بآياتنا يُؤْمِنُونَ وأريد أن يكون استماعُ أوصافِ أعقابِهم الذين آمنوا برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم وبما جاء به كعبدِ اللَّه بنِ سَلاَم وغيرِه من أهل الكتابين لطفاً بهم وترغيباً في إخلاص الإيمانِ والعمل الصالح
280
﴿قل يا أيها الناسُ أنى رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ﴾ لما حكي في الكتابين من نعوت رسول الله ﷺ وشرف مَنْ يتّبعه من أهلهما ونيلِهم لسعادة الدارين أمرعليه الصلاةُ والسلامُ ببيانِ أنَّ تلكَ السعادةَ غيرُ مختصةٍ بهم بل شاملةٌ لكل من يتبعه كائناً مَنْ كان ببيان عمومِ رسالتِه للثقلين مع اختصاص رسالةِ سائرِ الرسلِ عليهم السلام بأقوامهم وإرسالِ موسى عليه السلام إلى فرعون وملته بالآيات التسعِ إنما كان لأمرهم بعبادة ربِّ العالمين عز سلطانه
280
الأعراف آية ١٥٩
وتركِ العظيمةِ التي كانَ يدَّعِيها الطاغيةُ ويقبلُها منهُ فتنة الباغية وإرسال بني إسرائيلَ من الأسرِ والقسرِ وأما العملُ بأحكام التوارة فمختص ببني إسرايل
﴿جَمِيعاً﴾ حالٌ من الضمير في إليكم
﴿الذى لَهُ ملك السماوات والارض﴾ منصوبٌ أو مرفوعٌ على المدح أو مجرورٌ على أنه صفةٌ للجلالة وإن حيل بينهما بما هو متعلقٌ بما أضيف إليه فإنه في حكم المتقدّمِ عليه وقولُه تعالى
﴿لاَ إله إلا هو﴾ بيانٌ لما قبله مَنْ ملَك العالمَ كان هو الإله لا غيرُه وقوله تعالى
﴿يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ لزيادة تقرير ألوهيتِه والفاءُ في قوله تعالى
﴿فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ﴾ لتفريع الأمرِ على ما تمهّد وتقرّر من رسالته ﷺ وإيراد نفسه عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالةِ على طريقة الالتفاتِ إلى الغيبة المبالغة في إيجاب الامتثالِ بأمره ووصف الرسول بقوله
﴿النبى الامى﴾ لمدحه عليه الصلاة والسلام بهما ولزيادة تقريرِ أمرِه وتحقيق أنه الكتوب في الكتابين ووصفُه بقوله تعالى
﴿الذى يُؤْمِنُ بالله وكلماته﴾ أي ما أنزل إليه وإلى سائر الرسلِ عليهم السَّلامُ من كُتُبه ووحيِه لحمل أهلِ الكتابين على الامتثال بما أُمروا به والتصريحُ بإيمانه بالله تعالى للتنبيه على أن الإيمانَ به تعالى لا ينفك عن الإيمان بكلماته ولا يتحقق إلا به وقرىء وكلمتِه على إرادة اجنس أو القرآنِ تنبيهاً على أن المأمورَ به هو الإيمان به عليه الصلاة والسلام من حيث أنزل عليه القرآنُ لا من حيثيةٍ أخرى أو على أنَّ المرادَ بها عيسى عليه الصلاة والسلام تعريضاً باليهود وتنبيهاً على أن من لم يؤمن به لم يُعتدَّ بإيمانه
﴿واتبعوه﴾ أي في كلِّ ما يأتي وما يذرُ من أمور الدين
﴿لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ علةٌ للفعلين أو حال من فاعليهما أي رجاءً لاهتدائكم إلى المطلوب أو راجين له وفي تعليقه بهما إيذانٌ بأن من صدّقه ولم يتبعْه بالتزام أحكام شريعتِه فهو بمعزل من الاهتداء مستمر على الغي والضلال
281
﴿وَمِن قَوْمِ مُوسَى﴾ كلامٌ مبتدأ لدفع ما عسى يُوهِمه تخصيصُ كَتْبِ الرحمة والتقوى والإيمان بالآيات بمتّبعي رسولِ الله ﷺ من حِرمانِ أسلافِ قومِ موسى عليه السلام من كل خير وبيانِ أن كلَّهم ليسوا كما حُكيت أحوالُهم بل منهم
﴿أُمَّةٌ يَهْدُونَ﴾ أي الناسَ
﴿بالحق﴾ أي ملتبسين به أو يهدونهم بكلمة الحق
﴿وَبِهِ﴾ أي بالحق
﴿يَعْدِلُونَ﴾ أي في الأحكام الجاريةِ فيما بينهم وصيغةُ المضارعِ في الفعلين لحكاية الحالِ الماضيةِ وقيل هم الذين آمنوا بالنبي ﷺ ويأباه أنه قد مر ذكرُهم فيما سلف وقيل إن بني إسرائيلَ لما بالغوا في العتُوّ والطغيان حتى اجترءوا على قتل الأنبياءِ عليهم السلام تبرّأ سِبطٌ منهم مما صنعوا واعتذروا وسألوا الله تعالى أن يفرِّق بينهم وبين أولئك الطاغين ففتح الله تعالى لهم نفقاً في الأرض فساروا فيه سنةً ونصفاً حتى خرجوا من وراء الصين وهم اليوم هنالك حنفاءُ مسلمون يستقبلون قِبلتَنا وقد ذكر عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم أنَّ جبريلَ عليهِ السَّلامُ ذهب به ليلة الإسراءِ نحوَهم فكلمهم فقال جبريلُ عليه السَّلامُ هل تعرِفونَ من تكلمون قالوا لا قال هذا محمد النبي الأمي فآمنوا به وقالوا يا رسولَ الله إنَّ موسى أوصانا مَنْ أدرك منكم أحمد غفليقرأ مني عليه السلام فرد محمد على موسى السلام عليهما السلامَ ثم أقرأهم عشرَ سورٍ من القرآن نزلت بمكة
281
الأعراف آية ١٦٠
ولم تكن نزلت يومئذ فريضةٌ غيرَ الصلاة والزكاة أمرهم أن يُقيموا مكانهم وكانوا يسْبِتون فأمرهم أن يجمعوا ويتركوا البت هذا وأنت خبيرٌ بأن تخصيصَهم بالهداية من بين قومِه عليه الصلاةُ والسَّلامُ مع أنَّ منهم مَنْ آمن بجميع الشرائعِ لا يخلو عن بعد
282
﴿وقطعناهم﴾ أي قومَ موسى لا الأمةَ المذكورةَ منهم وقرىء بالتخفيف وقوله تعالى
﴿اثنتى عَشْرَةَ﴾ ثاني مفعولي قطع لتضمّنه معنى التصيير والتأنيثُ للحمل على الأمة أو القِطعة أي صيرناهم اثنتي عشْرةَ أمةً أو قطعةً متميزاً بعضُها من بعض أو حالٌ من مفعولِهِ أي فرقناهم معدودين هذا العددَ وقوله تعالى
﴿أسباطا﴾ بدل منه وذلك جُمع أو مميزٌ له على أن كل واحدةٍ من اثنتي عشرةَ قطعةً أسباطٌ لا سبطٌ وقرىء عشِرة بكسر الشين وقوله تعالى
﴿أُمَمًا﴾ على الأول بدلٌ بعدَ بدلٍ أو نعتٌ لأسباطاً وعلى الثاني بدل من أسباكا
﴿وَأَوْحَيْنَا إلى مُوسَى إِذِ استسقاه قَوْمُهُ﴾ حين استولى عليهم العطشُ في التيه الذي وقعوا فيه بسوء صنيعِهم لا بمجرد استسقائِهم إياه عليه الصلاة والسلام بل باستسقائه لقوله تعالى وإذ استسقة موسى قومه وقولُه تعالى
﴿أَنِ اضرب بّعَصَاكَ الحجر﴾ مفسرٌ لفعل الإيحاءِ وقد مر بيانُ شأنِ الحَجَر في تفسير سورة البقرة
﴿فانبجست﴾ عطفٌ على مقدَّرٍ ينسحبُ عليه الكلام قد حذفتعويلا على كمال الظهورِ وإيذاناً بغاية مسارعتِه عليه السَّلامُ إلى الامتثال وإشعاراً بعدم تأثير الضربِ حقيقةً وتنبيهاً على كمال سرعةِ الانبجاسِ وهو الانفجارُ كأنه حصل إثرَ الأمر قبل تحقق الضربِ كما في قوله تعالى اضرب بعصاك فانفلق أي فضرب فابجست
﴿مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْنًا﴾ بعدد الأسابط وأما ما قيل من أن التقديرَ فإن ضربت فقد انبجست فغيرُ حقيقٍ بجزالة النظمِ التنزيلي وقرىء عشِرة بكسر الشين وفتحها
﴿قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ﴾ كلُّ سبطٍ عبّر عنهم بذلك إيذاناً بكثرة كل واحدٍ من الأسباط
﴿مَّشْرَبَهُمْ﴾ أي عينَهم الخاصةَ بهم
﴿وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الغمام﴾ أي جعلناها بحيث تُلقي عليهم ظلَّها تسير في التيه بسيرهم وتسكُن بإقامتهم وكان ينزل بالليل عمودٌ من نار يسيرون بضوئه
﴿وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ المن والسلوى﴾ أي الترنجبين والسمانى قيل كان ينزل عليهم المنُّ مثلَ الثلج من الفجر إلى الطلوع لكل إنسانٍ صاعٌ وتبعَثُ الجَنوبُ عليهم السُّمانى فيذبح الرجلُ منه ما يكفيه
﴿كُلُواْ﴾ أي وقلناهم كلوا
﴿مِن طَيّبَاتِ مَا رزقناكم﴾ أي مستلذاته وما موصولةً كانت أو موصوفةً عبارةٌ عن المن والسلوى
﴿وَمَا ظَلَمُونَا﴾ رجوعٌ إلى سنن الكلامِ الأولِ بعد حكايةِ خطابِهم وهو معطوفٌ على جملة محذوفةٍ للإيجاز والإشعارِ بأنه أمرٌ محققٌ غني عن اتصريح به أي فظلموا بأن كفروا بتلك النعمَ الجليلةَ وما ظلمونا بذلك
﴿ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ إذ لا يتخطاهم ضررُه وتقديمُ المفعولِ لإفادة القصْرِ الذي يقتضيه النفيُ السابقُ وفيه ضرب من
282
الأعراف آية ١٦١ ١٦٢ التهكم بهم والجمعُ بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على تماديهم فيمَا هُم فيهِ من الظلم والكفر
283
﴿وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ﴾ منصوبٌ بمضمرٍ خُوطب به النبيُّ ﷺ وإيرادُ الفعلِ على البناء مع استناده إليه تعالى كما يُفصح عنه ما وقع في سورةِ البقرةِ من قولِه تعالى وَإِذْ قُلْنَا للجَريِ على سَنَنِ الكبرياءِ والإيذان بالغِنى عن التصريح به لتعين الفاعلِ وتغيير النظلم بالأمر بالذكر للتشديد في التوبيخ أي أذكُر لهم وقت قولِه تعالى لأسلافهم ﴿اسكنوا هذه القرية﴾ منصوب على المفعولية يقال سكنت الدارَ وقيل على الظرفية اتساعاً وهي بيتُ المقدِس وقيل أريحا وهي قريةُ الجبارين وكان فيها قومٌ من بقية عادٍ يقال لهم العمالقة رأسهم عوجُ بنُ عنقٍ وفي قوله تعالى اسكنوا إيذان بأن امأمور به في سورة البقرة هو الدخول على لوجه السُّكنى والإقامة ولذلك اكتُفي به عن ذكر رغداً في قوله تعالى ﴿وَكُلُواْ مِنْهَا﴾ أي من مطاعمها وثمارِها على أن من تبعيضية أو منها على أنها ابتدائية ﴿حَيْثُ شِئْتُمْ﴾ أي من نواحيها من غير أن يزاحمكك فيها أحدٌ فإن الأكلَ المستمرَّ على هذا الوجه لا يكون إلا رغداً واسعاً وعطفُ كلوا على اسكنوا بالواو لمقارنتهما زماناً بخلاف الدخولِ فأنه مقدمٌ على الأكل ولذلك قيل هناك فكلوا ﴿وَقُولُواْ حطة﴾ أي مئلتنا أو أمرُك حِطةٌ لذنوبنا وهي فِعلة من الحَطّ كالجِلسة ﴿وادخلوا الباب﴾ أي بابَ القرية ﴿سُجَّدًا﴾ أي متطامنين مُخْبتين أو ساجدين شكرا على إخراجهممن التيه وتقديم الأمر باالدخول على الأمر بالقول المذكور في سورة البقرة غيرُ مُخلَ بهذا الترتيب لأن المأمور به هو الجمعُ بين الفعلين من غير اعتبارِ الترتيبِ بينهما ثمَّ إنْ كان المرادُ بالقرية أريحا فقد روي أنهم دخلوها حيث سار إليها موسى عليه السلام بمن بقيَ من بني إسرائيلَ أو بذراريهم على اختلاف الروايتين ففتحها كما مر في سورة المائدة وأما إن كانت بيتَ المقدس فقد رُوي أنهم لم يدخُلوه في حياة مُوسى عليه السَّلامُ فقيل المرادُ بالباب بابُ القُبة التي كانوا يصلّون إليها ﴿نَّغْفِرْ لَكُمْ خطيئاتكم﴾ وقرىء خطاياكم كما في سورة البقرةِ وتُغفَرْ لكم خطيئاتُكم وخطاياكم وخطيئتُكم على البناء للمفعول ﴿سَنَزِيدُ المحسنين﴾ عِدةٌ بشيئين بالمغفرة وبالزيادة وطرح الواو ههنا لا يخل بذلك لأنه استئنافٌ مترتبٌ على تقدير سؤال نشأ من الإخبار بالغفران كأنه قيل فماذا لهم بعد الغفرانِ فقيل سنزيد وكذلك زيادةٌ منهم زيادةَ بيان
﴿فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ﴾ بما أُمروا به من التوبة والاستغفارِ حيث أعرضوا عنه ووضعوا موضعَه
﴿قَوْلاً﴾ آخ رمما لا خيرَ فيه رُوي أنهم دخلوه زاحفين على أستاههم وقالوا مكانَ حطةٌ حنطة وقيلقالوا بالنبطية حطاً شمقاثاً يعنون حنطةً حمراءَ استخفافاً بأمر الله تعالى واستهزاءً بموسى عليه السلام
283
الأعراف ى ية ١٦٣
والسلام وقوله تعالى
﴿غَيْرَ الذى قِيلَ لَهُمْ﴾ نعتٌ لقولاً صرّح بالمغايرة مع دِلالة التبديلِ عليها قطعاً تحقيقاً للمهالفة وتنصيصاً على المغايرة من كل وجه
﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ﴾ إثرَ ما فعلُوا ما فعلُوا من غير تأخير وفي سورة البقرة عَلَى الذين ظَلَمُواْ والمعنى واحدٌ والإرسالُ من فوق فيكون كالإنزال
﴿رِجْزًا مّنَ السماء﴾ عذاباً كائناً منها والمراد الطاعون وروي أنه مات منهم في ساعة واحدةٍ أربعةٌ وعشرون ألفاً
﴿بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ﴾ بسببظلمهم المستمرِّ السابق واللاحقِ حسبما يفيدُه الجمعُ بينَ صيغتي المَاضِي والمستقبلِ لا بسبب التبديلِ فقط كما يُشعِرُ به ترتتي الإرسالِ عليه بالفاء والتصريحُ بهذا التعليل لما أن الحكم ههنا مترتبٌ على المضمر دون الموصولِ بالظلم كما في سورة البقرةِ وأما التعليلُ بالفسق بعد الإشعارِ بعلّية الظلمِ فقد مر وجهُه هناك والله تعالى أعلم
284
﴿واسألهم﴾ عطفعلى المقدر في إذ قيل أي واسأل اليهودَ المعاصرين لك سؤالَ تقريعٍ وتقرير بقديم كفرَهم وتجاوزَهم لحدود الله تعالى وإعلاما بأن ذلك مع كونه من علومهم الخفيةِ التي لا يقف عليها إلا من مارس كتبَهم قد أحاط به النبيُّ صلَّى الله عليهِ وسلم خُبْراً وإذ ليس ذلك بالتلقي من متبهم لأنه ﷺ بمعزل من ذلك تعين أنه من الجهة الوحي الصريح
﴿عَنِ القرية﴾ أي عن حالها وخيرها وما جرى على أهلها من الداهية الدهياءِ وهي أَيْلَةُ قريةٌ بين مدْيَنَ والطور وقيل هي مدينُ وقيب طبرية والعرب تسمي المدينةَ قرية
﴿التى كَانَتْ حَاضِرَةَ البحر﴾ أي قريبةً منه مشرقة على شاطئه
﴿إِذْ يَعْدُونَ فِى السبت﴾ أي يتجاوزون حدودَ الله تعالى بالصيد يوم السبت وإذ ظرفٌ للمضاف المحذوفِ أو بدلٌ منه وقيل ظرفٌ لكانت أو حاضرة وليس بذاك إذْ لا فائدةَ في تقييد الكونِ أو الحضور بوقت العجة وان وقرىء يعدون وألصه يعتدون ويُعِدّون من الإعداد حيث كانوا يُعِدّون آلاتِ الصيد يوم السبت منهيّون عن الاشتغال فيه بغير العبادة
﴿إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ﴾ ظرفٌ ليَعْدون أو بدلٌ بعد بدلٍ والأولُ هو الأولى لأن السؤالَ عن عداوتهم أدخلُ في التقريع والحيتانُ جمعُ حوتٍ قُلبت الواوُ ياءً لانكسار ما قبلها كنونٍ ونينانٍ لفظاً ومعنى وإضافتُها إليهم للإشعار باختصاصها به لاستقلالها بما لا يكاد يوجد في سائر أفرادِ الجنس من الخواصّ الخارقةِ للعادة أو لأن المرادَ بها الحيتانُ الكائنةُ في تلك الناحيةِ وأن ما ذُكر من الإتيان وعدمِه لاعتيادها أحوزالهم ف عدم التعرّض يوم السبت
﴿يَوْمَ سَبْتِهِمْ﴾ ظرفٌ لتأتيهم أي تأتيهم يومَ تعظيمِهم لأمر السبت وهو مصر سَبَتت اليهودُ إذا عظّمت السبْت بالتجرد للعبادة وقيل اسمٌ لليوم والإضافةُ لاختصاصهم بأحكام فيه ويؤيد الأولَ قراءةُ من قرأ يوم أسباتِهم وقوله تعالى
﴿شُرَّعًا﴾ جمعُ شارع من شرع عليه إذا دنا وأشرف وهو حا من حيتانُهم أي تأتيهم يوم سبْتِهم ظاهرةً على وجه الماء قريبةً من الساحل
﴿وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ﴾ أي لا يراعون أمرَ اسبت لكن لا بمجرد عدمِ المراعاةِ مع تحقق يوم السبتِ كما هو المتبادرُ بل مع انتفائهما معاً أي لا سبت ولا مراعاة كما في قوله ولاَ ترَى الضبَّ بها ينجحِرُ وقرىء
284
الأعراف آية ١٦٤ لا يُسبتون من أسبت ولا يُسبَتون على البناء للمفعول بمعنى لا يدخلون في السبت ولا يُدار عليهم حكمُ السبتِ ولا يؤمرون فيه بما أمروا به يوم السبت
﴿لاَ تَأْتِيهِمْ﴾ كما كانت تأتيهم يوم السبت حذارا من صيدهم وتغيرر السبْكِ حيث لم يقل ولا تأتيهم يوم لا يسبتون لما أن الإخبارَ بإتيانها يوم سبْتهم مظِنةُ أن يقال فماذا حالهم يوم لا يسبتون فقيل يوم لا يسبتون لا تأتيهم
﴿كذلك نَبْلُوهُم﴾ أي مثلَ ذلك البلاءِ العجيب الفظيعِ نعاملهم معاملةَ من يختبرهم ليظهر عدواتهم ونؤاخذهم به وصيغةُ المضارعِ لحكايةِ الحالِ الماضيةِ لاستحضار صورتها والتعجيبِ منها
﴿بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ﴾ أي بسبب فسقِهم المستمرِّ المدلولِ عليه بالجمع بين صيغتي الماضي والمستقبلِ لكن لا في تلك المادةِ فإن فسقَهم فيها لا يكون سبباً للبلوى بل بسبب فسقهم المستمر في كلِّ ما يأتُون وما يذرون وقيل كذلك متصلٌ بما قبله أي لا تأتيهم مثلَ ما تأتيهم يوم سبتهم فاجملة بعده حينئذ استئنافٌ مبنيٌّ على السؤالِ عن حكمة اختلافِ حال الحيتانِ بالإتيان تارة وعدمِه أخرى
285
﴿وَإِذْ قَالَتِ﴾ عطفٌ على إذ يعدون مَسوقٌ لتماديهم في العدوان وعدمِ انزجارِهم عنه بعد العظاتِ والإنذارات
﴿أُمَّةٌ مّنْهُمْ﴾ أي جماعةٌ من صلحائهم الذين ركبوا في عِظتهم متن كلِّ صعبٍ وذَلول حتى يئسوا من احتمال القبولِ لآخرين لا يقلعون عن التذكيررجاء للنفع والتأثير مبالغةً في الإعذار وطمعاً في فائدة الإنذار
﴿لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا الله مُهْلِكُهُمْ﴾ أي مخترِمُهم بالكلية ومطهرُ الأرض منهم
﴿أَوْ مُعَذّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيدًا﴾ دون الاستئصال بالمرة وقيل مهلكهم مخزيهم في الدنيا أو معذبُهم في الآخرة لعدم إقلاعِهم عمَّا كانوا عليه من الفسق والطغيانِ والترديد لمنه الخلوِّ دون منع الجمعِ فإنهم مهلَكون في الدنيا ومعذَّبون في الآخرة وإيثارُ صيغةِ اسمِ الفاعل مع أن كلاًّ من الإهلاك والتعذيب مترقَّبٌ للدِلالة على تحققهما وتقرُّرِهما البتةَ كأنهما واقعان وإنما قالوه مبالغةً في أن الوعظَ لا ينجع فيهم أو ترهيباً للقوم أو سؤالاً عن جكمة الوعظِ ونفعِه ولعلهم إنما قالوه بمحضر من القوم حثاً لهم على الاتعاظ فإن بتَّ القولِ بهلاكهم وعذابهم بما يُلقي في قلوبهم الخوفَ والخشيةَ وقيل المرادُ طائفةٌ من الفِرقة الهالكةِ أجابوا به وُعّاظَهم رداً عليهم وتهكماً بهم وليس بذاك كما ستقف عليه
﴿قَالُواْ﴾ أي الوعاظُ
﴿مَعْذِرَةً إلى رَبّكُمْ﴾ أي نعظُهم معذرةً إليه تعالى على أنَّه مفعولٌ له وهو الأنسب بظاهر قولِهم لمَ تعِظون أو نعتذر معذرةً على أنه مصدرٌ لفعل محذوفٍ وقرىء بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي موعظتُنا معذرةٌ إليه تعالى حتى لا نُنسَبَ إلى نوع تفريطٍ في النهي عن المنكر وفي إضافة الربِّ إلى ضمير المخاطَبين نوع تعرض بالسائلين
﴿ولعلهم يتقون﴾ عطفعلى معذرةً أي ورجاءً لأن يتقوا بعضَ التقاة وهذا صريحٌ في أنَّ القائلين لمَ تعظون الخ ليسوا من الفِرقة الهالكةِ وإلا لوجب الخطاب
285
﴿فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ﴾ أي تركوا ما ذكرهم به صلحاؤُهم تركَ الناسي للشيء وأعرضوا عنه إعراضاً كلياً بحيث لم يخطر ببالِهم شيءٌ من تلك المواعظ أصلاً ﴿أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السوء﴾ وهم الفريقان المذكورانِ وإخراجُ إنجائهم مخرج الحواب الذي حقُّه الترتبُ على الشرط وهو نِسيانُ المعتدين المستتبِعُ لإهلاكهم لما أن ما في حيز الشرط شيآنِ النسيانُ والتذكيرُ كأنه قيل فلما ذكر المذكرون ولم يتذكر المعتدون أنجينا الأولين وأخذنا الآخَرين وأما تصديرُ الجواب بإنجائهم فلما مر مراراً من المسارعة إلى بيان نجاتِهم من أول الأمرِ مع ما في المؤخر من نوع طُول ﴿وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ﴾ بالاعتداء ومخالفةِ الأمر ﴿بِعَذَابٍ بئيس﴾ أيشديد وزناً ومعنى من بَؤُس يبؤُس بأساً إذا اشتد وقرىء بيئس على وزن فيعل بفتح العين وكسرها وبئس كحذر على تخفيف العين ونقلِ حركتِها إلى الفاء ككَبِد في كبد وءيس بقلب الهمزة ياءً كذيب في ذئب وبيّس كريّس بقلب همزةِ بئيس ياءً وإدغام الياء فيها وبَيْسٍ على تخفيف بيّس كهَيْن في هيّن وتنكيرُ العذاب للتفخيم والتهويل ﴿بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ﴾ متعلقٌ بأخذنا كالباء الأولى ولا ضيرَ فيه لاختلافهما معنى أي أخذناهم بما ذُكِرَ من العذابِ بسبب تماديهم في الفسق الذي هو الخروجُ عن الطاعة وهو الظلمُ والعدوانُ أيضاً وإجراءُ الحكم على الموصول وإن أشعرَ بعلية مَا في حيزِ الصِّلةِ له لكنه صرّح بالتعليل المذكورِ إيذاناً بأن العلةَ هو الاستمرارُ على الظلم والعدوان مع اعتبار كونِ ذلك خروجاً عن طاعةِ الله عزَّ وجلَّ لا نفسُ الظلم والعدوان وإلا لما أخّروا عن ابتجاء المباشرة ساعة ولعله تعالى قد عذبهم بعذاب شديد دون الاستئصالِ فلم يُقلعوا عما كانوا عليه بل ازدادوا في الغي فمسخهم بعد ذلك لقوله تعالى
﴿فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ﴾ أي تمرّدوا وتكبروا وأبوا أن يتركواما نُهوا عنه
﴿قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خاسئين﴾ صاغرين أذلاء بعجاء عن الناس والمرادُ بالأمر هو الأمرُ التكوينيُّ لا القولي وترتيبُ المسخِ على العتو عن الانتهاءِ عمَّا نُهوا عنْهُ للإيذان بأنه ليس لخصوصيات الحوتِ بل العمدةُ في ذلك هو مخالفةُ الأمر وة الاستعصاء عليه تعالى وقيل المرادُ بالعذاب البئيس هو المسخُ والجملةُ الثانية تقريرٌ للأولى روي أن اليهودَ أُمروا باليوم الذي أُمرنا به وهو يومُ الجمعة فتركوه واختاروا السبت وهو المعنيُّ بقوله تعالى إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فِيهِ فابتُلوا به وحُرّم عليهم الصيدُ فيه وأمرة وا بتعظزيمه فكانت الحيتانُ تأتيهم يوم السبت كأنها المخاضُ لا يُرى وجهُ الماء لكثرتها ولا تأتيهم في سائر الأيامِ فكانوا على ذلك برهةً من الدهر ثم جاءهم غبليس فقال لهم إنما نُهيتم عن أخذها يوم السبت فاتخذوا حياض سهلة الورود صعبة الصجور ففعلوا فجعلوا يسوقون الحيتانَ إليها يوم السبت فلا تقدر على الخروج منها ويأخذونها يوم الأحد وأخذ رجل منهم حوتاً وربط في ذنبه خيطاً إلى
286
الأعراف آية ١٦٧ ١٦٨ خشبة في الساحل ثم شواه يوم الأحد فوجد جاره ريح السمك فتطاله في تنّوره فقال له إني أرى الله سيعذبك فلما لم يَرَه عُذّب أخذ في يوم السبت القابلِ حُوتين فلما رأوا أن العذابَ لا يعاجلُهم استمروا على ذلك فصادوا وأكلوا وملّحوا وباعوا وكانوا نحواً من سبعين ألفاً فصار أهلُ القرية أثلاثاً ثلثٌ استمروا على النهي وثلثٌ ملُّوا التذكير وسئِموه وقالوا للواعظين لم تعِظون الخ وثلث باشروا الخطيئة فلما لم ينتهوا قال المسلمون نحن لا نساكنُكم فسموا القريةَ بجدار للمسلمين بابٌ وولمعتدين باب ولعنهم داودُ عليه السلام فأصبح الناهون ذاتَ يوم في مجالسهم ولم يخرج من المعتديم أحد فقالوا إن لهم لشأناً فعَلَوا الجدارَ فنظروا فغذا هم قردةٌ ففتحوا الباب ودخلوا عليهم فعرفتالقدرة أسباءهم من الإنس وهم لا يعرفونها فجعل القردُ يأتي نسيبَه فيشم ثيابه فيبكي فيقول له نسيبُه ألم ننهَكم فيقول القردُ برأسه بللا ثم ماتوا عن ثلاث وقيل صار الشباة قردةً والشيوخُ خنازير وعن مجاهد رضي اللهعنه مُسخت قلوبُهم وقال الحسن البصري أكلوا وااله أوخَمَ أكلةٍ أكلها أهلُها أثقلُها خزياً في الدنيا وأطولُها عذاباً في الآخرة هاه وأيمُ الله ما حوتٌ أخذه قومٌ فأكلوه أعظمُ عند الله من قتل رجل مسلم ولكن الله تعالى جعل موهدا والساعةُ أدهى وأمرّ
287
﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ﴾ منصوبٌ على المفعوليةِ بمضمرِ معطوفٍ على قوله تعالى واسألهم وتأذّن بمعنى آذن كما أن توعّد بمعنى أوعد أو بمعنى عزم فإن العازمَ على الأمر يحدث به نفسه وأُجري مُجرى فعل القسمِ كعلم الله وشهد الله فلذك أجيب بجوابه حيث قيل ﴿لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إلى يَوْمِ القيامةِ﴾ أي واذكر لهم وقت إيجابِه تعالى على نفسه أن يسلِّط على اليهود البتة ﴿مَن يَسُومُهُمْ سُوء العذاب﴾ كالإذلال وضربِ الجزية وغير ذلكَ من فنونِ العذابِ وقد بعثَ الله تعالى عليهم بعد سليمانَ عليه السلام بُختَ نَصّر فخرّب ديارهم وقتل مقاتِلتَهم وسبى نساءَهم وذرارِيَهم وضربِ الجزية على مَنْ بقي منهم ووكانوا يؤدّونها إلى المجوس حتى بعث النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم ففعل ما فعل ثم ضرب الجزيةَ عليهم فلا تزوال مضروبةً إلى آخر الدهر ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ العقاب﴾ يعاقبهم في الدنيا ﴿وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ لمن تاب وآمن منهم
﴿وقطعناهم﴾ أي فرقنا بني إسرائيلَ
﴿فِى الأرض﴾ وجعلنا كل فِرقةٍ منهم في قُطر من أقطارها بحيث لا تخلوا ناحيةٌ منها منهم تكملةً لأدبارهم حتى لا تكون لهم شوكةٌ وقوله تعالى
﴿أُمَمًا﴾ إما مفعولٌ ثانٍ لقطّعنا أو حالٌ من مفعوله
﴿مّنْهُمُ الصالحون﴾ صفةٌ لأمماً أو بدلٌ منه وهم الذين آمنوا بالمدينة ومن يسير بسيرتهم
﴿وَمِنْهُمْ دُونَ ذلك﴾ أي ناسٌ دون ذلك الوصفِ أي منحطّون عن الصلاح وهم كَفرتُهم وفَسَقتُهم
﴿وبلوناهم بالحسنات والسيئات﴾
287
بالنعم والنقم
﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ عمَّا كانُوا فيهِ منَ الكفرِ والمعاصي
288
﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ﴾ أي من بعد المذكورين ﴿خَلْفٌ﴾ أي بدلُ سوءٍ مصدرٌ نُعت به ولذلك يقعُ على الواحدِ والجمعِ وقيل جمع وهو شائعٌ في الشر والخَلَفُ بفتح اللام في الخير والمرادُ به الذين كانوا في عصر رسول الله ﷺ ﴿وَرِثُواْ الكتاب﴾ أي التوراةَ مِن أسلافهم يقرءونها ويقفُون عَلى ما فَيها ﴿يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذا الادنى﴾ استئنافٌ مَسوقٌ لبيان ما يصنعون بالكتاب بعد وراثتِهم إياه أي يأخذون حُطامَ هذا الشيءِ الأدنى أي الدنيا وهو من الدنو أو الدناءة والمرادُ به ما كانوا يأخذونه من الرِّشا في الحكومات وعلى تحريف الكلاموقيل حال من واو ورثوا ﴿وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا﴾ ولا يؤاخذُنا الله تعالى بذلك ويتجاوز عنه والجملةُ تحتمل العطفَ والحالية والفعلُ مسندٌ مسندٌ إلى الجار والمجرور أو مصدر يأخذون ﴿وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ﴾ حال من الضمير في لنا أي يرجعون المغفرةَ والحال أنهم مُصِرّون على الذنب عائدون إلى مثله غيرَ تائبين عنه ﴿أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مّيثَاقُ الكتاب﴾ أي الميثاقُ الواردُ في الكتاب ﴿أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق﴾ عطفُ بيانٍ للميثاق أو متعلق به أي بأن لا يقولوا الخ والمرادُ به الردُّ عليهم والتوبيخُ على بتّهم القولَ بالمغفرة بلا توبةٍ والدِلالةُ على أنها افتراءٌ على الله تعالى وخروجٌ عن ميثاق الكتاب ﴿وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ﴾ عطفٌ على ألم يؤخذ من حيث المعنى فإنه تقريرٌ أو على ورِثوا وهو اعتراض ﴿والدار الاخرة خَيْرٌ لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ ما فعل هؤلاء ﴿أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ فتعلموا ذلك فلا تستبدلوا الأدنى المؤدّي إلى العقاب بالنعيم المخلّد وقرىء بالياء وفي الالتفات تشديدٌ التوبيخ
﴿والذين يُمَسّكُونَ بالكتاب﴾ أي يتمسكون في أمور دينهم يقال مسَك بالشيء وتمسّك به قال مجاهد هم الذين آمنوا من أهلِ الكتابِ كعبدِ اللَّه بنُ سَلاَمٍ وأصحابِه تمسكوا بالكتاب الذي جاءَ به موسَى عليه السلام فلم يحرّفوه ولم يكتُموه ولم يتخذوه مأكلةً وقال عطاء هم أمة محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم وقرىء يُمْسِكون من الإمساك وقرىء تمسكوا واستمسكوا موافقاً لقوله تعالى
﴿وأقاموا الصلاة﴾ ولعلالتغيير في المشهور للدلالة على أن التمسّك بالكتاب أمرٌ مستمرٌ في جميع الأزمنة بخلاف إقامةِ الصلاة فإنها مختصةٌ بأوقاتها وتخصيصُها بالذِّكرِ من بين سائر العبادات لإنافتها عليها ومحلُّ الموصولِ إما الجرُّ نسقاً على الذين يتقون وقولُه أفلا تعقلون اعتراضٌ مقرر لما قبله وإما الرفعُ على الابتداءِ والخبرُ قوله تعالى
﴿إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ المصلحين﴾ والرابطُ إما الضميرُ المحذوفُ كما هو رأيُ جمهورِ البصْريين والتقديرُ أجرُ المصلحين منهم وإما الألفُ واللامُ كما هو رأيُ الكوفيِّينَ فإنه في حكم مُصلحيهم كما في قوله تعالى فإن الجنة
288
الأعراف آية ١٧١ ١٧٢
هِىَ المأوى أي مأواهم وقولُه تعالى مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الابواب أي أبوابُها وإما العمومُ في مصلحين فإنه من الروابط ومنه نعم الرجلُ زيدٌ على أحد الوجة وه وقيل الخبرُ محذوفٌ والتقديرُ والذين يمسّكون بالكتاب مأجورون أو مثابون وقوله تعالى إِنَّا لاَ نُضِيعُ الخ اعتراضٌ مقرر لما قبله
289
﴿وَإِذ نَتَقْنَا الجبل فَوْقَهُمْ﴾ أي قلعناه من مكانه ورفعناه عليهم ﴿كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ﴾ أي سقيفةٌ وهي كلُّ ما أظلك ﴿وَظَنُّواْ﴾ أي تيقنوا ﴿أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ﴾ ساقطٌ عليهم لأن الجبلَ لا يثبُت في الجو لأنهم كانوا يُوعَدون به وإطلاق الظن في الحطكاية لعدم وقوعِ متعلَّقِه وذلك أنهم أبَوْا أن يقبلوا أحكامَ التوراة لثقلها فرفع الله تعالى عليهم الططور وقيل لهم إن قبِلتم ما فيها فبها وإلا ليقعَنَّ عليكم ﴿خُذُواْ ما آتيناكم﴾ أي وقلنا أو قائلين خذوا ما آتيناكم من الكتاب ﴿بقوة﴾ بحدو عزيمة على تحمل مشاقِّه وهو حالٌ من الواو ﴿واذكروا مَا فِيهِ﴾ بالعمل ولا تتركوه كالمنسيِّ ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ بذلك قبائحَ الأعمالِ ورذائلَ الأخلاق أو راجين أن تنتظِموا في سلك المتقين
﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ﴾ منصوبٌ بمضمرٍ معطوفٌ على ما انتصب به إذ نتقنا مَسوقٌ للاحتجاج على اليهود بتذكير الميثاقِ العام المنتظمِ للناس قاطبةً وتوبيخِهم بنقضه إثرَ الاحتجاج عليهم بتذكير ميثاقِ الطورِ وتعليقُ الذكر بالوقت مع أن المقصودَ تذكيرُ ما وقع فيه من الحوزادث قد مر بيانُه مراراً أي واذكرُ لهم أخذ ربُّك
﴿مِن بَنِى آدم﴾ المرادُ بهم الذين وَلدَهم كائناً من كان نسلاً بعد نسلٍ سوى مَنْ لم يولدْ له بسبب من الأسباب كالعُقم وعدمِ التزوج والموت صغير وإيثارُ الأخذ على الإخراج للإيذان بالاعتناء بشأن المأخوذِ لما فيه من الإنباء عن الاجتناء والاصطفاء هو السببُ في إسناده إلى اسم الربِّ بطريق الالتفاتُ مع ما فيه من التمهيد للاستفهام الآتي وإضافتُه إلى ضميره ﷺ للتشريف وقوله تعالى
﴿مِن ظُهُورِهِمْ﴾ بدلٌ من بني آدمَ بدلَ البعضِ بتكرير الجار كما في قوله تعالى لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ آمن منهم ومن في الموضعين ابتدائيةٌ وفيه مزيدُ تقريرٍ لابتنائه على البيان بعد الإبهامِ والتفصيلُ غب الإجمال وتنبيه على أن الميثاقَ قد أُخذ منهم وهم في أصلاب الآباءِ ولم يُستودَعوا في أرحام الأمهات وقوله تعالى
﴿ذُرّيَّتُهُم﴾ مفعولُ أخذَ أُخِّر عن المفعول بواسطة الجارِّ لاشتماله على ضمير راجعٍ إليه ولمراعاة أصالتِه ومنشتيته ولما مرا مراراً من التَّشويقِ إلى المؤخّر وقرىء ذرّياتِهم والمرادُ بهم أولادُهم على العموم فيندرج فيهم اليهودُ المعاصِرون لرسول الله ﷺ اندراجاً أولياً كما اندرج أسلافُهم في بني آدم كذلك وتخصيصُهما باليهود سلفاً وخلفاً مع أن ما أريد بيانُه من بديع صنع الله تعالى عزَّ وجلَّ شاملٌ للكل كافة مُخِلٌّ بفخامة التنزيلِ وجزالةِ التمثيل
﴿وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ﴾ أي أشهد كل واحدةٍ من أولئك الذرياتِ المأخوذين من
289
الأعراف آية ١٧٣
ظهور آبائهم على نفسها لا على غيرها تقريراً لهم بربوبيته التامةِ وما تستتبعه من المعبودية على الاختصاص وغيرِ ذلك من أحكامها وقوله تعالى
﴿أَلَسْتَ بربكم﴾ على إرادى ة القولِ أي قائلاً ألست بربكم ومالكَ أمرِكم ومربيكم على الإطلاق من غير أن يكون لأحد مدخلٌ في شأن من شئونكم فينتظم استحقاقُ المعبودية ويستلزم اختصاصَه به تعالى
﴿قَالُواْ﴾ استئناف مبنيٌّ على سؤال نشأَ من الكلامِ كأنَّه قيل فماذا قالوا حينئذ فقيل
﴿قالوا بلى شَهِدْنَا﴾ أي على أنفسنا بأنك ربنا وإلهنا لا ربَّ لنا غيرُك كما ورد في الحديث الشريف وهذا تمثيلٌ لخلقه تعالى إياهم جميعاً في مبدأ الفطرةِ مستعدين للاستدلال بالدلائل المنصوبةِ في الآفاق والأنفسِ المؤدية إلى التوحيد والإسلامِ كما ينطِق به قوله ﷺ كلُّ مولودٍ يُولد على الفطرة الحديث مبنيٌّ على تشبيه الهيئةِ المنتزَعَةِ من تعريضه تعالى إياهم لمعرفة ربوبيتِه بعد تمكينِهم منها بما رَكَّز فيهم من العقول والبصائر ونصبَ لهم في الآفاق والأنفسِ من الدلائل تمكيناً تاماً ومن تمكنهم منها تمكنا كاملا وتعهرضهم لها تعرضاً قوياً بهيئة منتزعةٍ من حمله تعالى إياهم على الاعتراف بها بطريق الأمرِ ومن مسارعتهم إلى ذلك من غير تلعثم أصلاً من غير أن يكون هناك أخذٌ وإشهادٌ وسؤالٌ وجواب كما في قوله تعالى فَقَالَ لهاوللأرض ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ وقوله تعالى
﴿أَن تَقُولُواْ﴾ بالتاء على تلوين الخطابِ وصرفِه عن رسول الله ﷺ إلى معاصريه من اليهود تشديداً في الإلزام أو إليهم وإلى متقدّميهم بطريق التغليبِ لكن لا من حيث إنهم مخاطَبون بقوله تعالى أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ فإنه ليس من الكلام المحكىء وقرىءبالياء على أن الضمير للذرية وأيا ما كان فهو مفعولٌ له لما قبله من الأخذ والإشهاد أيْ فعلنَا ما فعلنَا كراهةَ أن تقولوا أو لئلا تقولوا أيها الكفرةُ أو يقولوا هم
﴿يَوْمُ القيامة﴾ عند ظهور الأمرِ
﴿إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا﴾ عن وحدانية الربوبيةِ وأحكامِها
﴿غافلين﴾ لم ننبه عليه فإنه حيث جُبلوا على ما ذكر من التهيؤ التامِّ لتحقيق الحقِّ والقوة القريبةِ من الفعل صاروا محجوجين عاجزين عن الاعتذار بذلك إِذْ لا سبيلَ لأحدٍ إلى إنكار ما ذُكر من خلقَهم على الفطرة السليمةِ وقوله تعالى
290
﴿أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آباؤنا﴾ عطف على تقولوا وأو لمنعِ الخلوِّ دونَ الجمعِ أي هم اخترعوال الإشراكَ وهم سنّوه
﴿مِن قَبْلُ﴾ أي من قبل زمانِنا
﴿وَكُنَّا﴾ نحن
﴿ذُرّيَّةً مّن بَعْدِهِمْ﴾ لا نهتدي إلى السبيل ولا نقدِر على الاستدلال بالدليل
﴿أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المبطلون﴾ من آبائنا المُضلّين بعد ظهور أنهم المجرمون ونحن عاجزون عن التجبير والاستبداج بالرأي أو تؤاخذنا فتهلكنا الخ فإنَّ ما ذُكر من استعدادهم الكاملِ يسُدّ عليهم بابَ الاعتذار بهذا أيضاً فإن التقليدَ عند قيامِ الدلائلِ والقدرةِ على الاستدلال بها مما لا مساغَ له أصلاً هذا وقد حُملت هذه المقاولة على الحقيقة كما رُوي عن ابنِ عباس رضي الله عنهما من أنه لما خلقَ الله تعالى آدمَ عليه السلام مسحَ ظهرَه فأخرج منه كلَّ نسَمةٍ هو خالقُها إلى يوم القيامة فقال أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بلى فنودي يومئذ جَفّ القلمُ بما هو كائنٌ إلى يوم القيامة وقد روي عن عمر رضيَ الله عنه أنَّه سئل عن الآية الكريمة فقال سمعت رسول الله ﷺ سُئل عنها فقال إنَّ الله تعالى خلق آدمَ ثم مسحَ ظهرَه بيمينه فاستخرج منه ذريةً فقال خلقت هؤلاء للجنة
290
الأعراف آية ١٧٤ ١٧٥ وبعمل أهلِ الجنة يعملون ثم مسح ظهرَه فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهلِ النار يعملون وليس المعنى أنه تعالى أخرج الكلَّ من ظهره عليه الصلاة والسلام بالذات بل أخرج من ظهره عليه السلام أبناءَه الصُّلبية ومن ظهرهم أبناءَهم الصلبية وهكذا إلى آخر السلسلة لكن لما كان المظهر الأصلي ظهره عليه الصَّلاة والسَّلام كان مَساقُ الحديثين الشريفين بيانَ حال الفريقين إجمالا من غير أيتعلق بذكر الوسايط غرض علمي نسلب إخراجِ الكلِّ إليه وأما الآيةُ الكريمة فحيث كانت مسوقةً للاحتجاج على الكفرة المعاصرين لرسول الله ﷺ وبيانِ عدمِ إفادةِ الاعتذارِ بإسناد الإشراكِ إلى آبائهم اقتضى الحالُ نسبةَ إخراجِ كل واحدٍ منهم إلى ظهر أبيهم من غير تعرّضٍ لإخراج الأبناءِ الصلبيةِ لآدم عليه السلام من ظهره قطعاً وعدمُ بيان الميثاقِ في حديث عمرَ رضي الله تعالى عنه ليس بياناً لعدمه ولا مستلزِماً له وأما ما قالُوا من أنَّ أخذَ الميثاق لإسقاط عذرِ الغفلةِ حسبما ينطِق به قوله تعالى أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافلين ومعلوم أنه غيرُ دافع لغفلتهم في دار التكليفِ إذ لا فردٍ من أفراد البشر يذكُر ذلك فمردودٌ لكنْ لا بما قيلَ من أن الله عز وجل قد أوضح الدلائلَ على وحدانيته وصدقِ رسلهِ فيما أَخبروا به فمن أنكره كان معانداً ناقضاً للعهد ولزِمتْه الحُجة ونسيانُهم وعدمُ حفظهم لا يُسقط الاحتجاجَ بعد إخبار المخبِرِ الصادقِ بل بأن قوله تعالى أَن تَقُولُواْ الخ ليس مفعولا لا لقوله تعالى وَأَشْهَدَهُمْ وما يتفرَّع عليه من قوله بلى شهِدنا حتى يجب كونُ ذلك الإشهادِ والشهادة محفوظاً لهم في إلزامهم بل لفعل مضمر ينسحب عليه الكلامُ والمعنى فعلنَا مَا فعلنَا منْ الأمر بذكر الميثاقِ وبيانِه كراهةَ أن تقولوا أو لئلا تقولوا أيها الكفرةُ يوم القيامة إنا كنا غافلين عن ذلك الميثاقِ لم نُنَبَّه عليه في دار التكليفِ وإلا لعمِلنا بموجبه هذا على قراءة الجمهور وأما على القراءة بالياء فهو مفعول له لنفس الأمر المضمرِ العاملِ في إذ أخذ والمعنى اذكُرْ لهم الميثاقَ المأخوذَ منهم فيما مضى لئلا يعتذروا يوم القيامة بالغفلة عنه أو بتقليد الآباءِ هذا على تقديرِ كونِ قوله تعالى شَهِدْنَا من كلام الذرية وهو الظاهرُ فأما على تقديرِ كونِه من كلامه تعالى فهو العامل في أن تقولوا ولا محذور ألأصلا إذ المعنى شهِدنا قولَكم هذا لئلا تقولوا يوم القيامة الخ لأنا نردكم ونكذبكم حينئذ
291
﴿وكذلك﴾ إشارةٌ إلى مصدر الفعل المذكور بعجه وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو شأنِ المُشَارِ إليهِ وبُعْدِ منزلتِه والكاف مقحمة لما أفاده اسمُ الإشارةِ من الفخامة والتقديمُ على الفعلِ لإفادةِ القصْر ومحلُه النصبُ على المصدرية أي ذلك التفصيلَ البليغَ المستتبِعَ للمنافع الجليلة ﴿نُفَصّلُ الآيات﴾ المذكورةَ لا غيرَ ذلك ﴿وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ وليرجعوا عمَّا هُم عليهِ من الإصرار على الباطل وتقليدِ الآباء نفعل التفصيلَ المذكورَ قالوا إن ابتدائيتان ويجوز أن تكون الثانيةُ عاطفةً على مقدَّرَ مترتبٍ على التفصيل أي وكذلك نفصل الآيات ليقفوا عَلى ما فَيها من المرغّبات والزواجر وليرجعوا الخ
الأعراف آية ١٧٦
على المضمرِ العاملِ في غذ أخذ واردٌ على نمطه في الإنباء عن الحَوْر بعد الكَوْر والضلالةِ بعد الهدى أي واتل على اليهود
﴿نَبَأَ الذى آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا﴾ أي خبَره الذي له شأنٌ وخطَرٌ وهو أحدُ علماءِ بني إسرائيلَ وقيل هو بلعمُ بنُ باعوراءَ أو بلعامُ بنُ باعر من الكنعانيين أوتي علمَ بعضِ كتبِ الله تعالى وقيلَ هُو أُميةُ بنُ أبي الصَّلْت وكان قد قرأ الكتبَ وعلم أن الله تعالى مرسِلٌ في ذلك الزمان رسولاً ورجا أن يكون هو الرسولَ فلما بعث الله تعالى النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم حسَده وكفر به والأولُ هو الأنسبُ بمقام التوبيخ اليهود بهَناتهم
﴿فانسلخ مِنْهَا﴾ أي من تلك الآيات انسلاخَ الجِلد من الشاة ولم يُخطِرْها بباله أصلاً أو خرج منها بالكلية بأن كفر بها ونبذها وراء ظهرِه وأياً ما كان فالتعبير عنه بالانسلاخ المنبىءعن اتصال المحيد بالمُحاط خلقةً وعن عدم الملاقاة بينهما أبداً للإيذان بكمال مباينتِه للآيات بعد أن كان بينهما كمالُ الاتصال
﴿فَأَتْبَعَهُ الشيطان﴾ أي تبعه حتى لحِقه وأدركه فصار قريناً له وهو المعنى على قراءة فاتّبعه من الافتعال وفيه تلويحٌ بأنه أشدُّ من الشيطان غَوايةً أو أتبعه خُطُواتِه
﴿فَكَانَ مِنَ الغاوين﴾ فصار من زمرة الضالين الراسخين في الغَواية بعد أن كان من المهتدين وروي أن قومه طلبوا إليه أن يدعوَ على موسى عليه السلامك فقال كيف أدعو على مَنْ معه الملائكة فلم يزالوا به حتى فعل فبقُوا في التيه ويرده أن التيهَ كان لموسى عليه السلام رَوْحاً وراحة وإنما عُذب به بنو إسرائيل وقد كان ذلك بدعائه عليه السلام عليهم كما مر في سورة المائدة
292
﴿وَلَوْ شِئْنَا﴾ كلامٌ مستأنفٌ مَسوقٌ لبيانِ مناطِ ما ذُكر من انسلاخه من الآيات ووقوعِه في مهاوي الغَواية ومفعولُ المشيئةِ محذوفٌ لوقوعِها شرطاً وكونِ مفعولِها مضمونَ الجزاءِ على القاعدة المستمرة أي ولو شئنا رفعه لرفعنا أي إلى المنازل العاليةِ للأبرار العالمين بتلك الآياتِ والعاملين بموجبها لكن لا بمحض مشيئتِنا من غير أن يكون له دخلٌ في ذلك أصلاً فإنه منافٍ للحكمة التشريعية المؤسسةِ على تعليق الأجزيةِ بالأفعال الاختيارية للعباد بل مع مباشرته للعمل المؤدِّي إلى الرفع بصرف اختيارِه إلى تحصيله كما ينبىء عنه قوله تعالى
﴿بِهَا﴾ أي بسبب تلك الآياتِ بأن عمِل بموجبها فإن اختيارَه وإن لم يكن مؤثراً في حصوله ولا في ترتب الرفعِ عليه بل كلاهما بخلق الله تعالى لكن خلقَه تعالى مَنوطٌ بذلك البتةَ حسب جَرَيان العادةِ الإلهية وقد أُشير إلى ذلك في الاستدراك بأن أُسند ما يؤدي إلى نقيض التالي إليه حيث قيل
﴿ولكنه أَخْلَدَ إِلَى الارض﴾ مع أن الإخلادَ إليها أيضاً مما لا يتحقق عند صرف اختيارِه إليه إلا بخلقه تعالى كأنه قيل ولو شئنا رفعَه بمباشرته لسببه لرفعناه بسبب تلك الآيات التي هي أقوى أسبابِ الرفع ولكن لم نشأْه لمباشرته لسبب نقيضِه فتُرك في كل من المقامين ما ذُكِرَ في الآخر تعويلاً على إشعار المذكورِ بالمطويّ كما في قوله تعالى وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فلا راد
292
الأعراف آية ١٧٦
لِفَضْلِهِ وتخصيصُ كلَ من المذكورين بمقامه للإيذان بأن الرفعَ مرادٌ له تعالى بالذات وتفضّلٌ محضٌ عليه لا دخلَ فيه لفعله حقيقةً كيف لا وجميعُ أفعاله ومباديها من نعمه تعالى وتفضّلاته وإن نقيضَه إنما أصابه بسوء اختيارِه على موجب الوعيدِ لا بالإرادة الذاتيةِ له سبحانه كما قيل في وجه ذكر الإرادة مع الخير والمسِّ مع الضرّ في الآية المذكورةِ وهو السرُّ في جريان السنة القرآنيةِ على إسناد الخيرِ إليه تعالى وإضافةِ الشرِّ إلى الغير كما في قوله تعالى وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ونظائرِه والإخلادُ إلى الشيء الميلُ إليه مع الاطمئنان به والمرادُ بالأرض الدنيا وقيل السفالة والمعنى ولكنه آثرَ الدنيا الدنيةَ على المنازل السنية أو الضَّعةَ والسَّفالةَ على الرِفعة والجلالة
﴿واتبع هَوَاهُ﴾ مُعرِضاً عن تلك الآياتِ الجليلة فانحط أبلغَ انحطاط وارتد أسفلَ سافلين وإلى ذلك أشير بقوله تعالى
﴿فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلب﴾ لما أنه أخسُّ الحيوانات وأسفلُها وقد مُثّل حالُه بأخس أحوالِه وأذلِّها حيث قيل
﴿إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث﴾ أي فحالُه التي هي مَثَلٌ في السوء كصفته في أرذل أحوالِه وهي حالةُ دوامِ اللهَثِ به في حالتي التعبِ والراحة فكأنه قيل فتردّى إلى ما لا غايةَ وراءَه في الخسة والدناءة وإيثارُ الجملة الاسميةِ على العفلية بأن يقال فصار مثلُه كمثل الكلب الخ للإيذان بدوام اتصافه لتلك الحالة الخسيسة وكمال استقراره واستمراره عليها والخطابُ في فعل الشرطِ لكل أحدٍ ممن له حظٌّ من الخطاب فإنه أدخلُ في إشاعة فظاعةِ حالِه واللهَثُ إدلاعُ اللسانِ بالتنفس الشديد أي هو ضيِّقُ الحال مكروبٌ دائمُ اللهَثِ سواءٌ هيّجتَه وأعجته بالطرد العنيف أو تركته على حاله فإنه في الكلاب طبعٌ لا تقدِر على نفض الهواءِ المتسخّن وجلبِ الهواءِ البارد بسهولة لضعف قلبها وانقطاع فؤادِها بخلاف سائر الحيواناتِ فإنها لا تحتاج إلى التنفس الشديد ولا يلحقها الكربُ والمضايقةُ إلا عند التعب والإعياءِ والشرطيةُ مع أختها تفسيرٌ لما أُبهم في المَثَل وتفصيلٌ لما أُجمِلَ فيه وتوضيحٌ للتمثيل ببيان وجهِ الشبهِ لا محلَّ له من الإعراب على منهاج قوله تعالى خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ إثرَ قولَه تعالى إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدم وقيل هي في محل النصب على الحالية من الكلب بناءً على خروجهما من حقيقة الشرطِ وتحوّلِهما إلى معنى التسوية حسب تحولِ الاستفهامين المتناقضين إليه في مثلِ قولِه تعالى أأنذرتهم أم لم تنذرهم كأنه قيل لاهثاً في الحالتين وأياً ما كان فالأظهرُ أنه تشبيهٌ للهيئة المنتزَعَة مما اعتراه بعد الانسلاخِ من سوء الحالِ واضطرامِ القلب ودوامِ القلق والاضطراب وعدمِ الاستراحة بحال من الأحوال بالهيئة المنتزعةِ مما ذكر من حال الكلب وقيل لما دعا بلعم على موسى عليه السلام خرج لسانُه فتدلى على صدره وجعل يلهث كالكلب إلى أن هَلَك
﴿ذلك﴾ إشارة إلى ما ذُكر من الحالة الخسيسةِ منسوبةٌ إلى الكلب أو إلى المنسلخ وما فيه من معنى البعد للإيذان ببُعد منزلتِها في الخسة والدناءة أي ذلك المثلُ السيءُ
﴿مَثَلُ القوم الذين كذبوا بآياتنا﴾ وهم اليهودُ حيث أوُتوا في التوراة ما أوُتوا من نعوت النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وذكر القرآن المعجزة وما فيه فصدقوه وبشروا الناسَ باقتراب مبعثِه وكانوا يستفتِحون به فلما جاءهم ما عَرَفوا كفروا به وانسلخوا من حكم التوراة
﴿فاقصص القصص﴾ القَصصُ مصدرٌ سُمِّي به المفعولُ كالسلْب واللامُ للعهد والفاءُ لترتيب ما بعدها على ما قبلها أي إذا تحقق أن المثل المذكورَ مثلُ هؤلاء المكذبين فاقصُصه عليهم حسبما أوحي إليك
﴿لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ فيقفون على جلية الحالِ وينزجرون
293
الأعراف آية ١٧٧ ١٧٨
عمَّا هُم عليهِ من الكفر والضلالِ ويعلمون أنك قد علِمتَه من جهة الوحي فيزدادون إيقاناً بك والجملة في محل النصب على أنها حالٌ من ضمير المخاطَب أو على أنها مفعولٌ له أي فاقصُص القصص راجياً لتفكرهم أي أو رجاءً لتفكرهم
294
﴿سَاء مَثَلاً﴾ استئنافٌ مَسوقٌ لبيان كمالِ قبحِ حالِ المكذبين بعد بيانِ كونِه كحال الكلبِ أو المنسلخ وساء بمعنى بئس وفاعلُها مضمرٌ فيها ومثلاً تمييزٌ مفسرٌ له والمخصوصُ بالذم قولُه تعالى ﴿القوم الذين كذبوا بآياتنا﴾ وحيث وجب التصادقُ بينه وبين الفاعلِ والتمييز وجب المصيرُ إلى تقدير مضافٍ إما إليه وهو الظاهرُ أي ساء مثلاً مثَلُ القو الخ أو إلى التمييز أي ساء أصحابُ مثلِ القوم الخ وقرىء ساء مثلُ القوم وإعادةُ القومِ موصوفاً بالموصول مع كفاية الضميرِ بأن يقال ساء مثلاً مثلُهم للإيذان بأن مدارَ السوء مَا في حيزِ الصِّلةِ ولربط قولِه تعالى ﴿وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ﴾ به فإنه إما معطوفٌ على كذَبوا داخلٌ معه في حكم الصلةِ بمعنى جمعوا بين تكذيبِ آياتِ الله بعد قيام الحجةِ عليها وعلْمِهم بها وبين ظلمهم لأنفسهم خاصة أو منقطع عنه بمعنى وما ظلموا بالتكذيب إلا أنفسهم فإن وبالَه لا يتخطاها وأيا ما كان ففي يظلمون لمحٌ إلى أن تكذيبَهم بالآيات متضمنٌ للظلم وأن ذلك أيضاً معتبرٌ في القصرُ المستفادِ من تقديمِ المفعول
﴿مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتدى﴾ لما أُمر النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم بأن يقُصَّ قصصَ المنسلخِ على هؤلاء الضالين الذين مثلُهم كمثله ليتفكروا فيه ويترُكوا ما هم عليه من الإخلاد إلى ى الضلالة ويهتدوا إلى الحقعقب ذلك بتحقيق أن الهدايةَ والضلالةَ من جهةِ الله عزَّ وجل وإنما العِظةُ والتذكيرُ من قبيل الوسائطِ العادية في حصول الاهتداءِ من غير تأثير لها فيه سوى كونِها دواعيَ إلى صرف العبدِ اختيارَه نحو تحصيلِه حسبما نيط به خلقُ الله تعالى إياه كسائر أفعالِ العباد فالمرادُ بهذه الهدايةِ ما يوجب الاهتداءَ قطعاً لكن لا لأن حقيقتَها الدلالة الموصلة إلى الغية البتة بل لأنها الفردُ الكاملُ من حقيقة الهدايةِ التي هي الدلالةُ إلى ما يوصل إلى البغتة أي ما مِنْ شأنِه الإيصالُ إليها كما سبق تحقيقُه في تفسيرِ قولِه تعالى هُدًى لّلْمُتَّقِينَ وليس المرادُ مجردَ الإخبار باهتداء من هداه الله تعالى حتى يُتوهّم عدمُ الإفادةِ بحسب الظاهر لظهور استلزامه هدايتِه تعالى للاهتداء ويُحمل النظمُ الكريمُ على تعظيم شأن الأهتداءِ والتنبيه على أنه في نفسه كمالٌ جسيمٌ ونفعٌ عظيمٌ لو لم يحصل له غير لكفاه بل هو قصرُ الاهتداء على من هداه الله تعالى حسبما يقضي به تعريفُ الخبرِ فالمعنى من يهدِه الله أي يخلقْ فيه الاهتداء على الوجه المذكور فهو المهتدي لا غيرُ كائناً من كان
﴿وَمَن يُضْلِلِ﴾ بأن لم يخلُقْ فيه الاهتداءَ بل خلق فيه الضلاللا لصرف اختياره نحوَها
﴿فَأُوْلَئِكَ﴾ الموصوفون بالضلالة على الوجه المذكور
﴿هُمُ الخاسرون﴾ أي الكاملونَ في الخُسران لا غير وإفرادُ المهتدي نظراً إلى لفظ مَنْ وجمع الخاسرين نظراً إلى معناها للإيذان باتحاد منهاجِ الهُدى وتفرّقِ
294
الأعراف آية ١٧٩
طرقِ الضلال
295
﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا﴾ كلامٌ مستأنفٌ مقرّرٌ لمضمون ما قبله بطريق التذييلِ أيخلقنا
﴿لِجَهَنَّمَ﴾ أي لدخولها والتعذيبِ بها وتقديمُه على قوله تعالى
﴿كَثِيراً﴾ أي خلقاً كثيراً مع كونه مفعولاً به لما في توابعه من نوع طولٍ يؤدي توسيطه بينهما وتأخيره وعنها إلى الإخلالِ بجَزَالةِ النظمِ الكريمِ وقوله تعالى
﴿مّنَ الجن والإنس﴾ متعلقٌ بمحذوفٍ هو صفةٌ لكثيراً أي كائناٍ منهما وتقديمُ الجنِّ لأنهما أعرف من الإنس في الاتصاف بما نحن فيه من الصفات وأكثرُ عدداً وأقدمُ خلقاً والمرادُ بهم الذين حقت عليهم الكلمةُ الأزليةُ بالشقاوة ولكن لا بطريق الجبرِ من غير أنْ يكون مِنْ قِبَلهم ما يؤدي إلى ذلك بل لعلمه تعالى بأنهم لا يصرفون اختيارَهم نحوَ الحقِّ أبداً بل يُصِرُّون على الباطل من غير صارف يلويهم ولا عاطفٍ يَثنيهم من الآيات والنذر فبهذا الاعتبارِ جُعل خلقهم مغيابها كما أن جميعَ الفريقين باعتبار استعدادِهم الكامِل الفطري للعبادة وتمكنِهم التامِّ منها جعل خلقهم مغيابها كما نطق به قوله تعالى وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ وقوله تعالى
﴿لَهُمْ قُلُوبٌ﴾ في محل النصبُ على أنَّه صفةٌ أخرى لكثيرا وقوله تعالى
﴿لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا﴾ في محلِ الرفعِ على أنه صفةٌ لقلوبٌ مؤكدةٌ لما يفيده تنكيرُها وإبهامُها من كونها غيرَ معهودةٍ مخالِفةً لسائر أفرادِ الجنس فاقدةً لكماله بالكلية لكن لا بحسب الفطرة حقيقةً بل بسبب امتناعِهم عن صرفها إلى تحصيله وهذا وصفٌ لها بكمال الإغراقِ في القساوة فإنها حيث لم يَتأتَّ منها الفقهُ بحال فكأنها خلقت غيرَ قابلةٍ له رأساً وكذا الحالُ في أعينهم وآذانِهم وحذفُ المفعول للتعميم أي لهم قلوبٌ ليس من شأنها أن يفقهوا بها شيئاً مما مِنْ شأنه أن يُفقَه فيدخلُ فيه ما يليق بالمقام من الحق ودلائلِه دخولاً أولياً وتخصيصُه بذلك مُخلٌّ بالإفصاح عن كُنه حالِهم
﴿وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا﴾ الكلامُ فيه كما فيما عطف هو عليه والمرادُ بالأبصار والسمع المنفيَّيْن ما يختص بالعقلاء من الإدراك على ما هو وظيفةُ الثقلين لا ما يتناول مجردَ الإحساسِ بالشبَح والصوتِ كما هو وظيفة الأنعام أي لا يبصرون بها شيئاً من المبصرا فيندرج فيه الشواهدُ التكوينيةُ الدالةُ على الحق اندراجاً أوليا
﴿وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا﴾ أي شيئاً من المسموعات فيتناول الآياتِ التنزيلية تناولاً أولياً وإعادةُ الخبر في الجملتين المعطوفتين مع انتظامِ الكلامِ بأنْ يقال وأعينٌ لا يبصرون بها وآذانٌ لا يسمعون بها لتقرير سوءِ حالهِم وفي إثبات المشاعر الثلاثةِ لهم ثم وصفِها بعدم الشعورِ دون سلبِها عنهم ابتداءً بأن يقال ليس لهم قلوبٌ يفقهون بها ولا أعينٌ يبصرون بها ولا آذانٌ يسمعون بها من الشهادة بكمالِ رسوخِهم في الجهل والغَواية ما لا يخفى
﴿أولئك﴾ إشارةٌ إلى المذكورين باعتبار اتصافِهم بما ذكر من الصفات وما فيه من معنى البعد للإيذانِ ببُعدِ منزلتِهم في الضلال أي أولئك الموصوفون بالأوصاف المذكورة
﴿كالانعام﴾ أي في انتفاء الشعورِ على الوجهِ المذكورِ أو في أن مشاعرَهم متوجهةٌ إلى أسباب التعيشِ مقصورةٌ عليها
﴿بَلِ هُمْ أَضَلُّ﴾ فإنها تدرِكُ ما من شأنها أن تُدركَه من المنافع والمضارِّ فتجتهد في جلبها وسلبِها غايةَ جهدِها مع كونها بمعزلٍ من الخلود وهؤلاء ليسوا
295
الأعراف آية ١٨٠ ١٨١
كذلك حيث لا يميِّزون بين المنافعِ والمضارِّ بل يعكسون الأمرَ فيتركون النعيمَ المقيمَ ويُقْدِمون على العذاب الخالد وقيل لأنها تعرِف صاحبها وتذكره وتطيعه وهوؤلاء لا يعرِفون ربَّهم ولا يذكُرونه ولا يطيعونه وفي الخبر كلُّ شيءٍ أطوعُ لله من ابن آدم
﴿أولئك﴾ المعنوتون بما مرّ من مِثْلية الأنعامِ والشرِّيَّة منها
﴿هُمُ الغافلون﴾ الكاملون في الغفلة المستحِقّون لأن يُخَصَّ بهم الاسمُ ولا يطلقَ على غيرهم كيف لا وإنهم لا يعرون من شئون الله عز وجل ولا من شئون ما سواه شيئاً فيشركون به سبحانه وليس كمثله شيءٌ وهو السميع البصير أصنامَهم التي هي من أخسّ مخلوقاتهِ تعالى
296
﴿وَللَّهِ الأسماء الحسنى﴾ تنبيهٌ للمؤمنين على كيفية ذكره تعالى وكيفية المعاملةِ مع المُخِلّين بذلك الغافلين عنه سبحانه عما يليق به من الأمور وما لا يليقبه إثرَ بيانِ غفلتِهم التامةِ وضلالتهم الطامة والحسنى تأثيث الأحسن أي الأسماءُ التي هي أحسنُ الأسماءِ وأجلُّها لإنبائها عن أحسن المعاني وأشرفِها ﴿فادعوه بِهَا﴾ أي فسمُّوه بتلك الأسماء ﴿وَذَرُواْ الذين يلحدون في أسمائه﴾ الإلحاد واللحد الميل وافنحراف يقال لحَد وألحَد إذا مال عن القصد وقرىء يَلحَدون من الثلاثي أي يَميلون في شأنها عن الحق إلى الباطل إما بأن يسمّوه تعالى بما لا توقيفَ فيه أو بما يوهم معنى فاسداً كما في قول أهل البدو يا أبا المكارم يا أبيضَ الوجه يا بخى ونحوُ ذلك فالمرادُ بالترك المأمور به الاجتنابُ عن ذلك وبأسمائه ما أطلقوه عليه تعالى وسمَّوْه به على زعمهم لا أسماؤُه تعالى حقيقةً وعلى ذلك يُحمل تركُ الإضمارِ بأن يقال يلحدون فيها وإما بأن يعدلوا عن تسميته تعالى ببعض أسمائِه الكريمة كما قالوا وما الرحمن ما نعرِف سوى رحمانِ اليمامة فالمرادُ بالترك الاجتنابُ أيضاً وبالأسماء أسماؤُه تعالى حقيقةً فالمعنى سمُّوه تعالى بجميع أسمائِه الحسنى واجتنبوا إخراجَ بعضِها من البين وإما بأن يُطلقوها على غيره تعالى كما سمَّوا أصنامَهم آلهة وإما بأن يشتقوا من بعضها أسماءَ أصنامِهم كما اشتقوا اللاتَ من الله تعالى والعُزّى من العزيز فالمراد بالأسماء أسماؤُه تعالى حقيقةً كما في الوجه الثاني والإظهارُ في موقعِ الإضمارِ مع التجريد عن الوصف في الكل للإيذان بأن إلحادَهم في نفس الأسماءِ من غير اعتبار الوصفِ وليس المرادُ بالترك حينئذ الاجتنابَ عن ذلك إذ لا يتوهم صدورُ مثلِ هذا الإلحادِ عن المؤمنين ليُؤمَروا بتركه بل هو الإعراضُ عنهم وعدمُ المبالاة بما فعلوا ترقباً لنزول العقوبةِ بهم عن قريب كما هو المتبادَرُ من قوله تعالى ﴿سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ فإنه استئنافٌ وقع جوابا عن سؤال نشأ من الأمر بعدم المبالاةِ والإعراض عن المجازاة كأنَّه قيلَ لَم لا نبالي بإلحادهم ولا نتصدىّ لمجازاتهم فقيل لأنه ينزل بهم عقوبتَه وتتشفَّوْن بذلك عن قريب وأما على الوجهين الأولين فالمعنى اجتنبوا إلحادَهم كيلا يُصيبَكم ما أصابهم فإنه سينزِل بهم عقوبةُ إلحادهم
﴿وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾ بيانٌ إجمالي لحال
296
الأعراف آية ١٨٢ ١٨٣
مَنْ عدا المذكورين من الثقلين الموصوفينَ بما ذُكر من الضلال والإلحادِ عن الحق ومحلُّ الظرفِ الرفعُ على أنه مبتدأ إما باعتبارِ مضمونِه أو بتقديرِ الموصوفِ وما بعده خبرُه كما مرَّ في تفسيرِ قولِه تعالى وَمِنَ الناس الخ أي وبعضُ مَنْ خلقنا أو وبعضٌ ممن خلقنا أمةٌ أي طائفةٌ كثيرةٌ يهدون الناسَ ملتبسين بالحق أو يهدونهم بكلمة الحقِّ ويدلونهم على الاستقامة وبالحق يحكمون في الحكومات الجاريةِ فيما بينهم ولا يجورون فيها عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا قرأها هذه لكم وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها ومن قوم موسى أمة الآيةَ وعنه عليه الصَّلاةُ والسلام إن من أمتي قوماً على الحق حتى ينزل عيسى وروي لا تزال من أمتي طائفةٌ على الحق إلى أن يأتي أمرُ الله وروي لا تزال من أمتي أمةٌ قائمةً بأمر الله لا يضرُهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتيَ أمر الله تعالى وهم ظاهرون وفيه من الدلالة على صحة الإجماعِ ما لا يخفي والاقتصار على نعتهم بهداية الناس للإيذان بأن اهتداءهم في أنفسهم أمرٌ محققٌ غنيٌّ عن التصريح به
297
﴿والذين كذبوا بآياتنا﴾ شروعٌ في تحقيق الحقِّ الذي به يهدي الهادون وبه بعدل العادلون وحملُ الناسِ على الأهتداء به على وجه الترهيب ومحلُّ الموصولِ الرفعُ على أنَّه مبتدأٌ خبرُه ما بعدَهُ من الجملةِ الاستقبالية وإضافةُ الآياتِ إلى نُونِ العظمةِ لتشريفها واستعظامِ الإقدام على تكذيبها أي والذين كذبوا بآياتنا التي هي معيارُ الحقِّ ومصداقُ الصدقِ والعدل ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُم﴾ أي نستدينهم البتةَ إلى الهلاك شيئاً فشيئاً والاستدراجُ استفعالٌ من درَجَ إما بمعنى صعِد ثم اتُسِع فيه فاستُعمل في كل نقل تدريجيَ سواءٌ كان بطريق الصعودِ أو الهبوط أو الاستقامة وإما بمعنى مضى مشياً ضعيفاً وإما بمعنى طوَى والأولُ هو الأنسبُ بالمعنى المرادِ الذي هو النقلُ إلى أعلى درجاتِ المهالك ليبلُغ أقصى مراتبِ العقوبة والعذاب ثم استعير لطلب كل نقل تدريجيَ من حال إلى حال من الأحوال الملائمةِ للمنتقل الموافقةِ لهواه بحيث يزعُم أن ذلك ترقَ في مراقي منافعِه مع أنه في الحقيقة تردَ في مهاوي مصارعِه فاستدراجُه سبحانه إياهم أن يواتر عليهم النعم مع انهماكهم في الغيّ فيحسَبوا أنها لُطفٌ لهم منه تعالى فيزداد بطراً وطغياناً لكن لا على أن المطلوبَ تدرُّجُهم في مراتب النعمِ بل هو تدرجُهم في مدارج المعاصي إلى أن يحِقَّ عليهم كلمةُ العذاب على أفظع حال وأشعنها والأولُ وسيلةٌ إليه وقوله تعالى ﴿من حيث لا يَعْلَمُونَ﴾ متعلقٌ بمُضمرٍ وقع صفةً لمصدر الفعلِ المذكور أي سنستدرجهم استدراجاً كائناً من حيث لا يعلمون أنه كذلك بل يحسَبون أنه أثَرةٌ من الله عز وجل وتقريبٌ منه وقيل لا يعلمون ما يراد بهم
﴿وَأُمْلِى لَهُمْ﴾ عطفٌ على سنستدرجهم غيرُ داخلٍ في حكم السين لِما أن الإملاءِ الذي هو عبارةٌ عن الإمهال والإطالةِ ليس من الأمور التدريجية كالاستدراج الحاصلِ في نفسه شيئاً فشيئاً بل هو فعلٌ يحصُل دفعةً وإنما الحاصلُ بطريق التدريج آثاره
297
٨ -
الأعراف آية ١٨٤
وأحكامهُ لا نفسُه كما يلوح به تغييرُ التعبيرِ بتوحيد الضميرِ مع ما فيه من الافتنان المنبىءِ عن مزيدِ الاعتناءِ بمضمون الكلامِ لابتنائه على تجديد القصدِ والعزيمة وأما أن ذلك للإشعار بأنه بمحض التقديرِ الإلهي والاستدراجِ بتوسط المدبّرات فمبْناه دِلالةُ نون الفظيعة على الشركة وأنى ذلك وإلا لاحتُرز عن إيرادها في قوله تعالى وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لاِنفُسِهِمْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ الآية بل إنما إيرادُها في أمثال هذه المواردِ بطريق الجَرَيانِ على سَننِ الكبرياء
﴿إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ﴾ تقريرٌ للوعيد وتأكيدٌ له أي قويلا يُدافع بقوة ولا بحيلة والمرادُ به إما الإستدراجُ والإملاءُ مع نتيجتهما التي هي الآخذُ الشديدُ على غِرّة فتسميتُه كيداً لما أن ظاهرَه لطفٌ وباطنَه قهو وإما نفس ذلك ألخذ فقط فالتسميةُ لكون مقدماتِه كذلك وأما أن حقيقةَ الكيدِ هو الأخذُ على خفاء من غيرِ أنْ يُعتبر فيه إظهارُ خلافِ ما أبطنه فمما لا تعويلَ عليه مع عدم مناسبتِه للمقام ضرورةَ استدعائِه لاعتبار القيدِ المذكورِ حتماً
298
﴿أولم يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مّن جِنَّةٍ﴾ كلامٌ مبتدأٌ مَسوقٌ لإنكار عدمِ تفكرهم في شأنه ﷺ وجعلهم بحقيقة حالِه الموجبةِ للإيمان به وبما أنزل عليه من الآيات التي كذبوا بها والهمزةُ للإنكار والتعجيبِ والتوبيخ والواو للعطفِ على مقدرٍ يستدعيه سياق النظم الكريم وسياقه وما إما استفهاميةٌ إنكاريةٌ في محل الرفِع بالابتداء والخبرُ بصاحبهم وإما نافيةٌ اسمُها جِنةٌ وخبرُها بصاحبهم والجِنةُ من المصادر التي يُراد بها الهيئة كالركبة والجِلْسة وتنكيرُها للتقليل والتحقير والجملة معلقة فعل التفكر لكونه من أفعل القلوب ومحلُها على الوجهين النصبُ على نزعِ الجارِّ أي أكذّبوا بها ولم يتفكروا في أي شيء من جنون ما كائنٍ بصاحبهم الذي هو أعظمُ الأمةِ الهادية بالحق وعليه أنزلت الآيات أوفى أنه ليس بصاحيهم شيءٌ من جِنّة حتى يؤدِّيَهم التفكرُ في ذلك إلى الوقوف على صدقه وصحةِ نبوته فيؤمنوا به وبما أنزل عليه من الآيات وقيل قد تم الكلامُ عند قوله تعالى أولم يَتَفَكَّرُواْ أي أكذّبوا بها ولم يفعلوا التفكرَ ثم ابتُدىء فقيل أيُّ شيءٍ بصاحبهم من جنة ما على طريقة الإنكار والتعجيب والتبكيت أو قيل ليس بصاحبهم شيءٌ منها والتعبيرُ عنه ﷺ بصاحبهم للإيذان بأن طولَ مصاحبتهم له ﷺ مما يطلعهم على نزاهته ﷺ عن شائبة ما ذكر ففيه تأكيدٌ للنكير وتشديدٌ له والتعرضُ لنفي الجنونِ عنه ﷺ مع وضوح استحالةِ ثبوتِه له ﷺ لما أن التكلمَ بما هو خارقلقضية العقولِ والعادات لا يصدُر إلا عمن به مسن من الجنونِ كيفما اتَّفق من غيرِ أن يكون له أصلٌ ومعنى أو عمن له تأييد إلهي يخبر به عن الأمور الغيبية وإذ ليس به ﷺ شائبةُ الأولِ تعين أنه ﷺ مؤيدٌ من عندِ الله تعالى وقيل إنه ﷺ علا الصفات ليلا فجعل يدعو قريضا فخِذاً فخِذاً يحذّرهم بأسَ الله تعالى فقال قائلُهم إن صاحبَكم هذا لمجنونٌ بات يهوت إلى الصباح فنزلت فالتصريحُ بنفي الجنونِ حينئذ الرد على عظيمتهم الشنعاءِ والتعبيرُ عنه ﷺ بصاحبهم واردٌ على شاكلة كلامِهم مع ما فيه من النكتة المذكورة وقوله تعالى
﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ جملةٌ مقررة لمضمون ما قبلها ومبينةٌ لحقيقة حاله ﷺ على منهاج قوله تعالى إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ بعد قوله تعالى مَا هذا بَشَرًا أي ما هو إلا مبالغٌ في الإنذار مظهرٌ له غاية الإظهار إبراز لكمال الرأفة
298
الأعراف آية ١٨٥
ومبالغةً في الإعذار وقوله تعالى
299
﴿أولم ينظُروا في ملكوت السماوات والارض﴾ استئناف آخرُ مسوقٌ للإنكار والتوبيخ بإخلالهم بالتأمل في الآياتِ التكوينيةِ المنصوبةِ في الآفاق والأنفسِ الشاهدةِ بصحة مضمونِ الآيات المنزلةِ إثر مانعي عليهم إخلالُهم بالتفكر في شأنه ﷺ والهمزةُ لما ذكر من الإنكار والتعجب والتوبيخ والوا للعطف على المقدر المذكورِ أو على الجملة المنفيةِ بلم والملكوتُ الملكُ العظيم أي أكذبوا بها أو ألم يتفكروا فيما ذكر ولم ينظروا نظرَ تأملٍ فيما يدل عليه السمواتُ والأرض من عِظَم المُلك وكمالِ القدرة
﴿وَمَا خَلَقَ الله﴾ أي وفيما خلق فيهما على أنَّه عطفٌ على ملكوت وتخصيصه بهما لكما ظهورِ عِظَم المُلك فيهما أو وفي ملكوت ما خلق على أنَّه عطفٌ على السموات والأرض والتعميمُ لاشتراك الكل في الدِلالة على عظم الملكِ في الحقيقة وعليه قوله تعالى فسبحان الذى بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَىْء وقولُه تعالى
﴿مِن شَىْء﴾ بيانٌ لما خلق مفيدٌ لعدم اختصاص الدِلالة المذكورة بجلائل المصنوعاتِ دون دقائِقها والمعنى أولم ينظروا فى ملكوتُ السموات والأرض وما خُلق فيهما من جليل ودقيقٍ مما ينطلق عليه اسمُ الشيءِ ليدلَّهم ذلك على العلم بوحدانيته تعالى وبسائر شئونه التي ينطِق بها تلك الآياتُ فيؤمنوا بها لاتحادهما في المدلول فإن كلَّ فردٍ من أفراد الأكوانِ مما عزوهان دليلٌ لائحٌ على الصانع المجيد وسبيلٌ واضحٌ إلى عالم التوحيد وقوله تعالى
﴿وَأَنْ عسى أَن يَكُونَ قَدِ اقترب أَجَلُهُمْ﴾ عطف على ملكوت وإنْ مخففةٌ من أن واسمُها ضميرُ الشأن وخبرُها عسى مع فاعلها الذي هو أن يكون واسمُ يكون أيضاً ضميرُ الشأن والخبرُ قد اقترب أجلهم والمعنى أَوَ لَمْ يَنظُرُواْ فِى أن الشأن عسى أن يكون الشأنُ قد اقترب أجلُهم وقد جوز أن يكون اسمُ يكون أجلُهم وخبرُها قد اقترب على أنها جملةٌ من فعل وفاعل هو ضمير أجلهم لتقدمه حكماً وأياً ما كان فمناطُ الإنكارِ والتوبيخِ تأخيرُهم للنظر والتأمل أي لعلم يموتون عما قريب فمالهم لا يسارعون إلى التدبُّر في الآيات التكوينيةِ الشاهدة بما كذبوه من الآيات القرآنيةِ وقد جوز أن يكون الأجلُ عبارةً عن الساعة والإضافةُ إلى ضميرهم لملابستهم لها من جهة إنكارِهم لها وبحثِهم عنها وقوله تعالى
﴿فَبِأَيّ حَدِيثٍ بعده يؤمنون﴾ قطع الاحتمال إيمانِهم رأساً ونفيٌ له بالكلية مترتبٌ على ما ذكر من تكذيبهم بالآيات وإخلالِهم بالتفكر والنظر والباءُ متعلقةٌ بيؤمنون وضميرُ بعده للآيات على حذفِ المضاف المفهومِ من كذبوا والتذكيرُ باعتبار كونِها قرآناً أو بتأويلها بالمذكور وإجراءِ الضَّميرِ مُجرى اسمِ الإشارةِ والمعنى أكذبوا بها ولم يتفكروا فيما يوجب تصديقها من أحواله ﷺ وأحوالِ المصنوعاتِ فبأي حديث يؤمنون بعد تكذيبه ومعه مثلُ هذه الشواهدِ القويةِ كلا وهيهات وقيل الضميرُ للقرآن والمعنى فبأي حديث بعد القرآنِ يُؤْمِنُونَ إذَا لم يُؤمنُوا به وهو النهايةُ في البيان وقيل هو إنكارٌ وتبكيتٌ لهم مترتيب على إخلالهم بالمسارعة إلى التأمل فيما ذُكر كأنه قيل لعل أجلَهم قد اقترب
299
الأعراف آية ١٨٦ ١٨٧
فما لهم لا يبادِرون إلى الإيمان بالقرآن قبل الفَوْتِ وماذا ينتظرون بعد وضوحِ الحقِّ وبأي حديثٍ أحقَّ منه يريدون أن يؤمنوا وقيل الضميرُ لأجَلهم والمعنى فبأي حديث بعد انقضائ أجلِهم يؤمنون وقيل للرسول ﷺ على حذفِ مضافٍ أيْ فبأي حديثٍ بعد حديثِه يؤمنون وهو أصدقُ الناس وقوله تعالى
300
﴿مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ﴾ استئنافٌ مقررٌ لما قبله منبىءٌ عن الطبع على قلوبهم وقوله تعالى ﴿وَيَذَرُهُمْ فِى طغيانهم﴾ بالياء والرفع على الاستئناف أي وهو يذرُهم وقرىء بنون العظيمة على طريقة الالتفاتِ أي ونحن نذرهم وقرىء بالياء والجزمِ عطفاً على محل فلا هاديَ له كأنه قيل من يُضللِ الله لا يهدِهِ أحدٌ ويذرْهم وقد روي الجزمُ بالنون عن نافع وأبي عمرو في الشواذ وقوله تعالى ﴿يعمهون﴾ أي يترددون ويتحيرون حالٌ من مفعول يذرُهم وتوحيدُ الضمير في حيز النفي نظراً إلى لفظ مَنْ وجمعُه في حيز افثبات نظراً إلى معناها للتنصيص على شمول النفي والإثباتِ للكل
﴿يسألونك عَنِ الساعة﴾ استئنافٌ مَسوقٌ لبيان بعضأحكام ضلالِهم وطغيانِهم أي عن القيامة وهي من الأسماء الغالبة وإطلاقُها عليها إما لوقوعها بغتةً أو لسرعة ما فيها من الحساب أو لأنها ساعةٌ عندِ الله تعالى معَ طولها في نفسها قيل إن قوماً من اليهود قالوا يا محمدج أخبرنا متى الساعةُ إن كنت نبياً فإنا نعلم متى هي وكان ذلك امتحاناً منهم مع علمهم أنه تعالى قد استأثر بعلمها وقيل السائلون قريشٌ وقوله تعالى
﴿أَيَّانَ مرساها﴾ بفتح الهمزة وقد قرىء بكسرها وهو ظرفُ زمانٍ متضمِّنٌ لمعنى الاستفهام ويليه المبتدأُ أو الفعلُ المضارِعُ دون الماضي بخلاف متى حيث يليها كلاهما قيل اشتقاقُه من أيّ فَعْلانَ منه لأن معناه أيّ وقتٍ وهو من أويتُ إلى الشيء لأن البعضَ آو إلى الكل ممتساند إليه ومحلُّه الرفعُ على أنَّه خبرٌ مقدمٌ ومرساها مبتدأٌ مؤخرٌ أي متى إرساؤُها أي إثباتُها وتقريرُها فإنه مصدرٌ ميميٌّ من أرساه إذا أثبته وأقره ولا يكاد يُستعمل إلا في الشيء الثقيل كما في قوله تعالى والجبال أرساها ومنه مرساةُ السفن ومحلُّ الجملة قيل الجرُّ على البدليَّةِ من الساعة والتحقيقُ أن محلها النصبُ بنزع الخافضِ لأنها بدلٌ من الجار والمجرور لا من المجرور فقط كأنه قيل يسألونك عَنِ الساعة أَيَّانَ مُرساها وفي تعليق السؤالِ بنفس الساعةِ أولاً وبوقت وقوعِها ثانياً تنبيهٌ على أن المقصِدَ الأصليَّ من السؤال نفسُها باعتبار حلولِها في وقتِها المعين لا وقتُها باعتبار كونِه محلاً لها وقد سُلك هذا المسلكُ في الجواب المقن أيضاً حيث أُضيف العلمُ بالمطلبو بالسؤال إلى ضميرها فأخبر باختصاصه به عز وجل وحيث قيل
﴿قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا﴾ أي علمُها بالاعتبار المذكور
﴿عِندَ رَبّى﴾ ولم يقل إنما علمُ وقتِ إرسائِها ومن لم يتنبّه لهذه النكتة حمل
300
الأعراف آية ١٨٧
النظمَ الكريمَ على حذف المضافِ والتعرضُ لعنوانِ الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضميره ﷺ للإيذان بأن توفيقه ﷺ للجواب على الوجه المذكور من باب التربية والإرشاد ومعنى كونِه عنده تعالى خاصة أنه تعالى قد استأثر به بحيث لم يخبِرْ به أحداً من ملك مقرّبٍ أو نبيَ مرسل وقوله تعالى
﴿لاَ يُجَلّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ﴾ بيانٌ لاستمرار تلك الحالةِ إلى حين قيامِها وإقناطٌ كليٌّ عن إظهار أمرها بطريق الإخبارِ من جهتِه تعالى أو من جهة غيرِه لاقتضاء الحكمةِ التشريعيةِ إياه فإنه أدعى إلى الطاعة وأزجرُ عن المعصية كما أن إخفاءَ الأجل الخاصِّ للإنسان كذلك والمعنى لا يَكِشفُ عنها ولا يُظهر للناس أمرَها الذي تسألونني عنه إلا هو بالذات من غير أن يشعر به أحد من المخلوقين فيتوسّط في إظهاره لهم لكن لا بأن لا يُخبرَهم بوقتها قبل مجيئِه كما هوئول بل بأن يُقيمَها فيشاهدوها عِياناً كما يفصح عنه التجليةُ المُنبئةُ عن الكشف التامِّ المزيلِ للإبهام بالكلية وقوله تعالى لِوَقْتِهَا أي في وقتها قيْدٌ للتجلية بعد ورودِ الاستثناء عليها لا قبلَه كأنه قيل لا يجلّيها إلا هو في وقتها إلا أنه قدم على الاتثناء للتنبيه منْ أولِ الأمرِ عَلى أن تجليتَها ليست بطريق الإخبارِ بوقتها بل بإظهار عينِها في وقتها الذي يسألون عنه وقوله تعالى
﴿ثقلت في السماوات والارض﴾ استئنافٌ كما قبله مقرر لمضمون ما قبله أي كبُرت وشقتْ على أهلهما من الملائكة والثقلين كلٌّ منهم أهمّه خفاؤُها وخروجُها عن دائرة العقولِ وقيل عظُمت عليهم حيث يُشفقون منها ويخافون شدائدَها وأهوالَها وقيل ثقلت فيهما إذ لا يُطيقها منهما ومما فيهما شيءٌ أصلاً والأولُ هو الأنسبُ بما قبله وبما بعده من قوله تعالى
﴿لاَ تَأْتِيكُمْ إلا بغتة﴾ فإنَّه استئنافٌ مقررٌ لمضمونِ ما قبله فلا بُدَّ من اعتبار الثِقَل من حيث الخفاءُ أي لا تأتيكم إلا فجأةً على غفلة كما قال ﷺ إن الساعةَ تهيجُ بالناس والرجلُ يُصلح حَوضَه والرجلُ يسقي ماشيتَه والرجلُ يقوّم سلعتَه في سوقه والرجلُ يخفض ميزانه ويرفعه
﴿يسألونك كَأََنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا﴾ استئنافٌ مَسوقٌ لبيان خطئِهم في توجيه السؤالِ إلى رسول الله ﷺ بناءً على زعمهم أنه ﷺ عالم بالمسئول عنه أو أن العلمَ بذلك من مواجب الرسالةِ إثرَ بيانِ خطِئهم في أصل السؤال بإعلام شأنِ المسئول عنه والجملةُ التشبيهيةُ في محل النصب على أنها حالٌ من الكاف جيء بها بياناً لما يدعوهم إلى السؤال على زعمهم وإشعاراً بخطئهم في ذلك أي يسألونك مُشبّهاً حالُك عندهم بحال من هو حفيٌّ عنها أي مبالِغٌ في العلم بها فعيلٌ من حِفيَ وحقيقتُه كأنك مبالغٌ في السؤال عنها فإن ذلك في حكم المبالغةِ في العلم بها لِما أن مَنْ بالغ في السؤال عن الشيء والبحثِ عنه استحكم علمُه به ومبنى التركيبِ على المبالغة والاستقصاءِ ومنه إحفاءُ الشاربِ واحتفاءُ البقل أي استئصالُه والإحفاءُ في المسألة أي الإلحافُ فيها وقيل عن متعلقةٌ بيسألونك وقولُه تعالى كَأَنَّكَ حَفِىٌّ معترض وصلةُ حفيٌّ محذوفة أي حفي بها وقد قرىء كذلك وقيل هو من الحَفاوة بمعنى البِرِّ والشفقة فإن قريشاً قالوا له ﷺ إن بيننا وبينك قرابةً فقل لنا متى الساعة والمعنى يسألونك كأنك تتحفّى بهم فتخصّهم بتعليم وقتِها لأجل القرابة وتَزْوي أمرَها عن غيرهم ففيه تخطئةٌ لهم من جهتين وقيل هو من حفِيَ بالشيء بمعن فرح به والمعنى كأنك فرِحٌ بالسؤال عنها تحبّه مع أنك كارِهٌ له لِما أنه تعرُّضٌ لحُرَم الغيبِ الذي استأثر الله عز وجل بعلمه
﴿قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله﴾ أمر ﷺ بإعادة الجوابِ الأول تأكيداً للحكم وتقريراً له وإشعاراً بعلته على الطريقة البرهانيةِ بإيراد اسمِ الذات المُنبىءِ عن
301
الأعراف آية ١٨٨ ١٨٩
استتباعها لصفات الكمالِ التي من جملتها العلمُ وتمهيداً للتعريض بجهلهم بقوله تعالى
﴿ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أي لا يعلمون ما ذُكر من اختصاص علمِها به تعالى فبعضُهِم ينكرونها رأساً فلا يعلمون شيئاً مما ذكر قطعاً وبعضُهم يعلمون أنها واقعةٌ البتةَ ويزعُمون أنك واقفٌ على وقت وقوعِها فيسألونك عنه جهلاً وبعضُهم يدّعون أن العلم بذلك من مواجب الرسالةِ فيتخذون السؤالَ عنه ذريعةً إلى القدح في رسالتك والمستثنى من هؤلاء هم الواقفون على جلية الحالِ من المؤمنين وأما السائلون عنها من اليهود بطريق الامتحانِ فهم منتظِمون في سلك الجاهلين حيث لم يعلموا بعلمهم وقوله تعالى
302
﴿قل لا أملك لنفسى نَفْعًا وَلاَ ضَرّا﴾ شروعٌ في الجواب عن السؤال ببيان عجزِه عن علمها إثرَ بيانِ عجزِ الكلِ عنه وإبطالُ زعمِهم الذي بنَوْا عليه سؤالَهم من كونه ﷺ ممن يعلمها وإعادةُ الأمر لإظهار كمالِ العنايةِ بشأن الجوابِ والتنبيهِ على استقلاله ومغايرتِه للأول والتعرضُ لبيان عجزه عما ذُكر من النفع والضُرِّ لإثبات عجزِه عن علمها بالطريق البرهاني واللامُ إمَا متعلقٌ بأملك أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً من نفعا أي لا أقدر لأجل نفسي على جلب نفعٍ ما ولا على دفع ضرَ ما ﴿إِلاَّ ما شاء الله﴾ أن أملِكَه من ذلك بأن يُلْهِمنيه فيُمكِنَني منه ويُقدِرَني عليه أو لكنْ ما شاء الله من ذلك كائنٌ فالاستثناءُ منقطعٌ وهذا أبلغُ في إظهار العجز ﴿وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغيب﴾ أي جنسَ الغيبِ الذي من جملته ما بين الأشياء من المناسبات المصححةِ عادة للسببية والمسببية ومن المباينات المستتبعة للمانعة والمدافعةِ ﴿لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخير﴾ أي لحصّلتُ كثيراً من الخير الذي نيط تحصيلُه بالأفعال الاختياريةِ للبشر بترتيب أسبابِه ودفعِ موانِعه ﴿وَمَا مَسَّنِىَ السوء﴾ أي السوءُ الذي يمكن التقصّي عنه بالتوقيِّ عن موجباته والمدافعةِ بموانعه لا سوءٌ ما فإن منه ما لا مدفعَ له ﴿إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ﴾ أي ما أنا إلا عبدٌ مرسَلٌ للإنذار والبشارة شأني حيازةُ ما يتعلق بهما من العلوم الدينيةِ والدنيوية لا الوقوفُ على الغيوب التي لا علاقة بينها وبين الأحكامِ والشرائعِ وقد كشفتُ من أمر الساعةِ ما يتعلق به الإنذارُ من مجيئها لا محالة واقترابِها وأما تعيينُ وقتِها فليس ما يستدعيه الإنذارُ بل هو مما يقدح فيه لما مرَّ منْ أنَّ إيهامه أدعى إلى الانزجار عن المعاصي وتقديمُ النذيرِ على البشير لما أن المَقام مقامُ الإنذار وقوله تعالى ﴿لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ إما متعلقٌ بهما جميعاً لأنهم ينتفعون بالإنذار كما ينتفعون بالبشارة وإما بابشير فقط وما يتعلق بالنذير محذوف أي نذير للكافرين أي الباقين على الكفر وبشيرٌ لقوم يؤمنون أي في أيّ وقتٍ كان ففيه ترغيبٌ للكفرة في إحداث الإيمانِ وتحذيرٌ عن الإصرار على الكفر والطغيان
﴿هُوَ الذى خَلَقَكُمْ﴾ استئناف سيق لبيان كمالِ عِظَمِ جنايةِ الكَفَرةِ في جراءتهم على الإشراك بتذكير مبادى
302
الأعراف آية ١٨٩ أحوالِهم المنافيةِ له وإيقاعُ الموصول خبراً لتفخيم شأنِ المبتدأ أي هو ذَلِكَ العظيمُ الشأنِ الذي خلقكم جميعاً وحدَه من غير أن يكون لغيره مدخلٌ في ذلك بوجهٍ من الوجوه
﴿مّن نَّفْسٍ واحدة﴾ هو آدم عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وهذا نوعُ تفصيلٍ لما أشيرَ إليه في مطلعِ السورة الكريمة إشارة إجالية من خلقهم وتصويرِهم في ضمن خلق آدمَ وتصويرِه وبيانٌ لكيفيته
﴿وَجَعَلَ﴾ عطف على خلقكم داخلٌ في حكمِ الصلةِ ولا ضيرَ في تقدمه عليه وجوداً لِما أن الواوَ لا تستدعي الترتيبَ في الوجود
﴿مِنْهَا﴾ أي من جنسها كما في قوله تعالى جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا أو من جسدها لما يُروى أنه تعالى خلقَ حواءَ من ضلع من أضلاع آدم عليه الصلاة والسلام والأولُ هو الأنسُب إذِ الجنسيةُ هي المؤديةُ إلى الغاية الآتيةِ لا الجزئيةُ والجعلُ إما بمعنى التصييرِ فقوله تعالى
﴿زَوْجَهَا﴾ مفعولُه الأولُ والثاني هو الظرفُ المقدّم وإما بمعنى الإنشاءِ والظرفُ متعلقٌ بجعل قُدّم على المفعول الصريح لما مر مرارا من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر أو بمحذوفٍ هو حالٌ من المفعول والأولُ هو الأولى وقوله تعالى
﴿لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا﴾ علةٌ غائيةٌ للجعل باعتبار تعلُّقِه بمفعولِه الثاني أي ليستأنسَ بها ويطمئِنّ إليها اطمئناناً مصححاً للازدواج كما يلوح به تنذكير الضميرِ ويُفصح عنه قوله تعالى
﴿فَلَمَّا تَغَشَّاهَا﴾ أي جامعها
﴿حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا﴾ في مبادىء الأمرِ فإنه عند كونه نطفةً أو علقة أو مضغة أخفُّ عليها بالنسبة إلى ما بعد ذلك من المراتب والتعرض لذكر خِفته للإشارة إلى نعمته تعالى عليهم في إنشائه تعالى إياهم متدرجين في أطوار الخلقِ من العدم إلى الوجود ومن الضَّعف إلى القوة
﴿فَمَرَّتْ بِهِ﴾ أي فاستمرّت به كما كانت قبل حيث قامتْ وقعدت وأخذت وتركت وعليه قراءةُ ابن عبَّاسً رضي الله تعالى عنهما وقرىء فمرت بالتخفيف وفمارت من المورود هو المجيءُ والذهابُ أو من المِرْية فظنت الحملَ وارتابت به وأما ما قيل من أن المعنى حملت حملاً خفّ عليها ولم تلْقَ منه ما يلقى بعضُ الحبالى من حملهن من الكرب والأذّية ولم تستثقِلْه كما يستثقِلْنَه فمرّت به أي فمضَت به إلى ميلاده منن غير إخداج ولا إزلاق فيرده قوله تعالى
﴿فَلَمَّا أَثْقَلَت﴾ إذ معناه فلما صارت ذاتَ ثِقلٍ لكبر الولدِ في بطنها ولا ريب في أن الثقلَ بهذا المعنى ليس مقابلاً للخفة بالمعنى المذكور إنما يقابلها الكربُ الذي يعتري بعضَهن من أول الحمل إلى آخره دون بعضٍ أصلاً وقرىء أُثقِلت على البناء للمفعول أي أثقلها حملُها
﴿دَّعَوَا الله﴾ أي آدمُ وحواءُ عليهما السلام لمّا دَهِمهما أمرٌ لم يعهَداه ولم يعرِفا مآله فاهتما به وتضرّعا إليه عزَّ وجلَّ وقولُه تعالَى
﴿رَبُّهُمَا﴾ أي مالكَ أمرِهما الحقيقُ بأن يُخصَّ به الدعاءُ إشارةٌ إلى أنهما قد صدّرا به دعاءَهما كما في قولهما رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا الآية ومتعلَّقُ الدعاءِ محذوفٌ تعويلاً على شهادة الجملةِ القسَمية به أي دَعَواه تعالى أن يُؤتيَهما صالحاً ووعدا بمقابلته الشكرَ على سبيل التوكيدِ القسَميِّ وقالا أو قائلين
﴿لئن آتيتنا صالحا﴾ أي ولداً من جنسنا سوياً
﴿لَنَكُونَنَّ﴾ نحن ومن يتناسل من ذريتنا
﴿مِنَ الشاكرين﴾ الراسخين في الشكر على نعمائك التي من جملتهخا هذه النعمةُ وترتيبُ هذا الجوابِ على الشرط المذكورِ لما أنهما قد علما أن ما علّقا به دعاءَهما أُنموذَجٌ لسائر أفرادِ الجنسِ ومعيارٌ لها ذاتاً وصفةَ وجودُه مستتبعٌ لوجودها وصلاحُه مستلزِمٌ لصلاحها فالدعاءُ في حقه متضمنٌ للدعاء في حق الكل مستتبِعٌ له كأنهما قالا لئن آتيتنا وذريتَنا أولاداً صالحة وقيل إن ضميرَ آتيتَنا أيضاً لهما ولكل من يتناسل من ذريتهما فالوجهُ ظاهرٌ وأنت خبيرٌ بأن نظم الكل
303
الأعراف آية ١٩٠
في سلك الدعاءِ أصالةً يأباه مقام المبالغةِ في الاعتناء بشأن ما هما بصدده وأما جعلُ ضميرِ لنكونن للكل فلا محذورَ فيه لأن توسيع دائر الشكر غيرُ مُخِلَ بالاعتناء المذكور بل مؤكدٌ له وَأياً مَا كان فمَعنى قوله تعالى
304
﴿فلما آتاهما صالحا﴾ لما ى تاهما ما طلباه أصالةً واستتباعاً من الولد وولد الولدِ ما تناسلوا فقوله تعالى
﴿جَعَلاَ﴾ أي جعل أولادُهما
﴿لَهُ﴾ تعالى
﴿شُرَكَاء﴾ على حذفِ المضافِ وإقامةِ المضافِ إليه مُقامه ثقةً بوضوح الأمرِ وتعويلاً على ما يعقُبه من البيان وكذا الحالُ في قولِه تعالى
﴿فيما آتاهما﴾ أي فيما آتى أولادَهما من الأولد حيث سمَّوْهم بعبد مناف وعبدِ العزّى ونحوِ ذلك وتخصيصُ إشراكِهم هذا بالذكر في مقام التوبيخِ مع أن إشراكَهم بالعبادة أغلظُ منه جنايةً وأقدمُ وقوعاً لما أنَّ مساقَ النظمِ الكريمِ لبيان إخلالِهم بالشكر في مقابلة نعمةِ الولدِ الصلح وأولُ كفرِهم في حقه إنما هو تسميتُهم إياه بما ذُكر وقرىء شِرْكاً أي شركةً أو ذوي شركةٍ أي شركاءَ إن قيل ما ذُكر من حذفِ المضافِ وإقامةِ المضافِ إليه مقامه إنما يصادر إليه فيما يكون للفعل ملابسةٌ ما بالمضاف إليه أيضاً بسرايته إليه حقيقةً أو حكماً وتتضمن نسبتُه إليه صورةً مزيةً يقتضيها المقام كما في مثلِ قولِه تعالى وَإِذْ نجيناكم مّنْ آل فِرْعَوْنَ الآية فإن الإنجاءَ منهم مع أن تعلّقه حقيقةً ليس إلا بأسلاف اليهودِ قد نُسب إلى أخلافهم بحكم سرايتِه إليهم توفيةً لمقام الامتنانِ حقَّه وكذا في قولِه تعالى قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاء الله الآية فإن القتلَ حقيقةً مع كونه من جناية آبائِهم قد أُسند إليهم بحكم رضاهم به أداءً لحق مقامِ التوبيخِ والتبكيت ولا ريبَ في أنَّهما عليهما الصلاة والسلام بريئان من سرايةِ الجعلِ المذكورِ إليهما بوجه من الوجوه فما وجهُ إسنادِه إليهما صورةً قلنا وجهُه الإيذانُ بتركهما الأَوْلى حيث أقدما على نظم أولادِهما في سلك أنفسِهما والتزما شكرَهم في ضمن شكرِهما وأقسما على ذلك قبل تعرُّف أحوالِهم ببيان أن إخلالَهم بالشكر الذي وعداه وعداً مؤكداً باليمين بمنزلة إخلالِهما بالذات في استيجاب الحِنْثِ والخُلْف مع ما فيه من الاشعار بتضاعف جنايتِهم ببيان أنهم بجعلهم المذكورِ أوقعوهما في ورطة الحِنثِ والخُلفِ وجعلوهما كأنهما باشراه بالذات فجمعوا بين الجنايةِ على الله تعالى والجنايةِ عليهما عليهما السلام
﴿فتعالى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ تنزيهٌ فيه معنى التعجبِ والفاءُ لترتيبه على ما فُصِّل من أحكام قدرتِه تعاتلى وآثارِ نعمتِه الزاجرةِ عن الشرك الداعية إلى التة وحيد وصيغةُ الجمعِ لما أشير إليه من تعين الفاعلِ وتنزيهِ آدمَ وحواءَ عن ذلك وما في عما إما مصدريةٌ أيْ عن إشراكِهم أو موصولةٌ أو موصوفةٌ أي عما يشركونه به سبحانه والمرادُ بإشراكهم إما تسميتُهم المذكورةُ أو مطلقُ إشراكِهم المنتظِمِ لها انتظاماً أولياً وقرىء تشركون بتاء الخطاب بطريق الالتفاتِ وقيل الخطابُ لآلقصي من قريش والمرادُ بالنفس الواحدةِ نفسُ قصيّ فإنهم خُلقوا منه وكان له زوجٌ من جنسه عربيةٌ قرشيةٌ وطلبا من الله تعالى ولداً صالحاً فأعطاهما أربعةَ بنينَ فسمَّياهم عبدَ مناف وعبدَ شمسٍ وعبدَ قصي وعبد الداروضمير يشركون لهما ولأعقابهما المقتدين بهما وأما ما قيل من أنه لما حملت حواءُ أتاها إبليسُ في صورة رجل فقال لها ما يُدريك ما في بطنك لعله بهيمةٌ أو كلبٌ أو خنزيرٌ وما يدريك من أين يخرج فخافت من
304
الأعراف آية ١٩١ ١٩٣
ذلك فذكرته لآدمَ فأهمّهما ذلك ثم عاد إليها وقال إني من الله تعالى بمنزلة فإن دعوتُه أن يجعله خلقاً مثلَك ويسهّل عليك خروجَه تسمّيه عبد الحرث وكان اسمُه حارثاً في الملائكة فقبِلت فلما ولدتْه سمته عبد الحرث فمما لا تعويلَ عليه كيف لا وأنه ﷺ كان علَماً في علم الأسماءِ والمسميات فعدمُ علمِه بإبليسَ واسمِه واتباعُه إياه في مثل هذا الشأنِ الخطيرِ أمرٌ قريبٌ من المحال والله تعالَى أعلمُ بحقيقةِ الحال
305
﴿أَيُشْرِكُونَ﴾ استئنافٌ مسوقٌ لتوبيخ المشركين واستقباحِ إشراكِهم على الإطلاق وإبطالِه بالكلية ببيان شأنِ ما أشركوه به سبحانه وتفصيلِ أحوالِه القاضيةِ ببطلان ما اعتقدوه في حقه أي أيشركون به تعالى ﴿مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً﴾ أي لا يقدرُ على أنْ يخلقشيئا من الأشياء أصلاً ومن حق المعبودِ أن يكون خالقاً لعابده لا محالةَ وقولُه تعالَى ﴿وَهُمْ يُخْلَقُونَ﴾ عطفٌ على لا يخلق وإيرادُ الضميرين بجمع العقلاءِ وتسميتِهم لها آلهةً وكذا حالُ سائر الضمائرِ الآتيةِ ووصفُها بالمخلوقية بعد وصفِها بنفي الخالقيةِ لإبانة كمالِ منافاةِ حالِها لما اعتقدوه في حقها وإظهارِ غايةِ جهلِهم فإنَّ إشراكَ ما لا يقدِرُ على خلق شيء ما بخاقه وخالق جمسع الأشياء مما لا يمكن أن يسوّغه من له عقلٌ في الجملة وعدمُ التعرضِ لخالقها للإيذان بتعينه والاستغناءِ عن ذكره
﴿وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ﴾ أي لعبدتعم إ ١ احزبهم أمرٌ مهِمّ وخطبٌ مُلِمٌّ ﴿نَصْراً﴾ أي نصراً ما بجلب منفعةٍ أو دفعِ مضرةٍ ﴿وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ﴾ إذا اعتراهم حادثةٌ من الحوادث أي لا يدفعونها عن أنفسهم وإيرادُ النصر للمشاكلة وهذا بيانٌ لعجزهم عن إيصال منفعةٍ ما من المنافع الوجوديةِ والعدميةِ إلى عبدتهم وأنفسِهم بعد بيانِ عجزِهم عن إيصال منفعةِ الوجود إليهم وإلى أنفسهم خلا أنهم وُصفوا هناك بالمخلوقية لكونهم أهلاً لها وههنا لم يوصفوا بالمنصورية لأنهم ليسوا أهلاً لها وقوله تعالى
﴿وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الهدى﴾ بيانٌ لعجزهم عما هو أدنى من النصر المنفيِّ عنهم وأيسر هو مجردُ الدِلالةِ على المطلوب والإرشادِ إلى طريق حصولِه من غير أن يحصّله الطالب والخطابُ للمشركين بطريق الالتفاتِ المنبىءِ عن مزيد الاعتناءِ بأمر التوبيخِ والتبكيتِ أي إنْ تدعوهم أيها المشركون إلى أن يَهدوكم إلى ما تحصلون به المطالبَ أو تنجون به عن المكاره
﴿لاَ يَتَّبِعُوكُمْ﴾ إلى مرادكم وطِلْبتِكم وقرىء بالتخفيف وقوله تعالى
﴿سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صامتون﴾ استئنافٌ مقررٌ لمضمونِ ما قبله ومبينٌ لكيفية عدمِ الاتباع أي مستوٍ عليكم في عدم الإفادةِ دعاؤكم لهم وسكوتكم البحث فإنه لا يتغير حالُكم في الحالين كما لا يتغير حالُهم بحكم الجمادية وقوله تعالى أَمْ أَنتُمْ صامتون جملةٌ اسميةٌ في معنى الفعليةِ معطوفةٌ على الفعلية لأنها في قوة أمْ صَمَتّم عُدل عنها للمبالغة في عدم إفادةِ الدعاء
305
الأعراف آية ١٩٤ ١٩٥
ببيان مساواتِه للسكوت الدائمِ المستمر وما قيل من أن الخطابَ للمسلمين والمعنى وإن تدعوا لمشركين إلى الهدى أي الإسلامِ لا يتبعوكم الخ مما يساعده سياق النظم الكريم وسياقُه أصلاً على أنه لو كان كذلك لقيل عليهم مكان عليكم كما في قوله تعالى سواء عليهم أأنذرتهم أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ فإن استواءَ الدعاءِ وعدمَه إنما هو بالنسبة إلى المشركين لا بالنسبة إلى الداعين فإنهم فائزون بفضل الدعوة
306
﴿إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله﴾ تقريرٌ لما قبلَهُ من عدم اتباعِهم لهم أي إن الذين تعبدونهم مِن دُونِهِ تعالى مِن الأصنام وتسمونهم آلهى ة ﴿عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ﴾ أي مماثلةٌ لكن لكن لا من كل وجهٍ بل من حيث إنها مملوكة لله عز وجل مسخَّرةٌ لأمره عاجزة عن النفع والضررِ وتشبيهُها بهم في ذلك مع كون عجزِها عنهما أظهرَ وأقوى من عجزهم إنما هو لاعترافهم بعجز أنفسِهم وادّعائِهم لقدرتها عليهما إذ هو الذي يدعوهم إلى عبادتها والاستعانةِ بها وقوله تعالى ﴿فادعوهم فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ﴾ تحقيقٌ لمضمون ما قبله بتعجيزهم وتبكيتِهم أي فادعوْهم في جلب نفعٍ أو كشف ضُرَ ﴿إِن كُنتُمْ صادقين﴾ في زعمكم أنهم قادرون على ما أنتم عاجزون عنه وقوله تعالى
﴿أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا﴾ الخ تبكيتٌ إثرَ تبكيتٍ مؤكدٌ لما يفيده الأمرُ التعجيزيُّ من عدم الاستجابةِ ببيان فُقدانِ آلاتِها بالكلية فإن الاستجابةَ من الهياكل الجُسمانية إنما تُتصوّر إذا كان لها حياةٌ وقُوىً محرّكة ومُدركة وما ليس له شيءٌ من ذلك فهو بمعزل من الأفاعيل بالمرة كأنه قيل ألهم هذه الآلاتُ التي بها تتحقق الاستجابةُ حتى يمكن استجابتُهم لكم وقد وجه الإنكار إلى كل واحدةٍ من هذه الآلات الأربعِ على حدة تكريراً للتبكيت وتثنية للتقريع إشعارا بأن انتفاءَ كلِّ واحدةٍ منها يحيالها كافٍ في الدلالة على استحالة اللاستجابة ووصف الأرجل باالمشي بها للإيذان بأن مدارَ الإنكارِ هو الوصفُ وإنما وُجّه إلى الأرجلِ لا إلى الوصف بأن يقال أيمشون بأرجلهم لتحقيق أنها حيث لم يظهر منها ما يظهر من سائر الأرجلِ فهي ليست بأرجل في الحقيقة وكذا الكلامُ فيما بعده من الجوارحِ الثلاثِ الباقية وكلمةُ أم في قوله تعالى
﴿أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا﴾ منقطعةٌ وما فيها من الهمزة لما مر من التبكيت والإلزامِ وبل للإضراب المفيدِ للانتقال من فنّ من التبكيت بعد تمامِه إلى فن آخرَ منه لما ذكر من المزوايا والبطشُ الآخذُ بقوة وقرىء يبطُشون بضمِّ الطاءِ وهي لغةٌ فيه والمعنى بل ألهم أيدٍ يأخُذون بها ما يريدون أخذَه وتأخيرُ هذا عما قبله لما أن المشيَ حالُهم في أنفسهم والبطشَ حالُهم بالنسبة إلى الغير وأما تقديمُه على قوله تعالى
﴿أَمْ لَهم أَعْينٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بها﴾
306
الأعراف آية ١٩٦ ١٩٨
مع أن الكل سواءٌ في أنها من أحوالهم بالنسبة إلى الغير فلمراعاة المقابلةِ بين الأيدي والأرجل ولأن انتفاءَ المشي والبطشِ أظهرُ والتبكيتَ بذلك أقوى وأما تقديمُ الأعينِ فلما أنها أشهرُ من الآذان وأظهرُ عيناً وأثراً هذا وقد قرىء إنِ الذين تَدْعُونَ مِن دونه الله عباداً أمثالَكم على إعمال إنْ النافية عملَ ما الحجازية أي ما الذين تدعون من دونه تعالى عباداً أمثالَكم بل أدنى منكم فيكونُ قوله تعالى أَلَهُمْ الخ تقريراً لنفي المماثلةِ بإثبات القصورِ والنُقصان
﴿قُلِ ادعوا شُرَكَاءكُمْ﴾ بعد ما بُيّن أن شركاءَهم لاَّ يَقْدِرُونَ على شَىْء ما أصلاً أُمر رسول الله ﷺ بأن يناصِبَهم للمُحاجّة ويكررَ عليهم التبكيتَ وإلقامُ الحجرِ أي ادعوا شركاءهم واستعينوا بهم عليّ
﴿ثُمَّ كِيدُونِ﴾ جميعاً أنتم وشركاؤكم وبالِغوا في ترتيب ما تقدرون عليه من مبادى الكيدِ والمكر
﴿فَلاَ تُنظِرُونِ﴾ أي فلا تُمهلوني ساعةً بعد ترتيبِ مقدمات الكيدِ فإني لا أبالي بكم أصلاً
307
﴿إِنَّ وَلِيّىَ الله الذى نَزَّلَ الكتاب﴾ تعليلٌ لعدم المبالاةِ المنفهمِ من السَّوْق انفهاماً جلياً ووصفُه تعالى بتنزيل الكتابِ للإشعار بدليل الولايةِ والإشارةِ إلى علة أخرى لعدم المبالاةِ كأنه قيل لا أبالي بكم وبشركائكم لأن وليّيَ هو الله الذى أَنزَلَ الكتابَ الناطقَ بأنه وليِّي وناصري وبأن شركاءَكم لاَ يَسْتَطِيعُونَ نصرَ أنفسِهم فضلاً عن نصركم وقوله تعالى ﴿وَهُوَ يَتَوَلَّى الصالحين﴾ تذييلٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبله أي ومن عادته أن يتولى الصالحين من عباده وينصُرَهم ولا يخذُلَهم
﴿والذين تَدْعُونَ﴾ أي تعبدونهم ﴿مِن دُونِهِ﴾ تعالى أو تدعونهم للاستعانة بهم عليّ حسبما أمرتُكم به ﴿لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ﴾ أي في أمرٍ من الأمورِ أو في خصوص الأمرِ المذكور ﴿وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ﴾ إذا نابتْهم نائبةٌ
﴿وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الهدى﴾ إلى أن يهدوكم إلى ما تحصّلون به مقاصدَكم على الإطلاقِ أو في خصوص الكيدِ المعهود
﴿لاَ يَسْمَعُواْ﴾ أي دعاءَكم فضلاً عن المساعدة والإمدادِ وهذا أبلغُ من نفي الاتباعِ وقوله تعالى
﴿وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ﴾ بيانٌ لعجزهم عن الإبصار بعد بيانِ عجزِهم عن السمع وبه يتم التعليلُ فلا تكرارَ أصلاً والرؤيةُ بصريةٌ وقوله تعالى يَنظُرُونَ إِلَيْكَ حالٌ من المفعول والجملةُ الاسميةُ حالٌ من فاعل ينظرون أي وترى الأصنامَ رأيَ العين يُشبهون الناظرين إلأيك ويخيل إليك أنهم يبصرونك لما أنه صنعوا لها أعيناً مركبةً بالجواهر المضيئة المتلألئة وصوّروها صورة مَنْ قلبَ حدَقتَه إلى الشيء ينظُر إليه والحالُ أنهم غيرُ قادرين على الإبصار وتوحيدُ الضمير في تراهم مع رجوعه إلى المشركين لتوجيه الخِطابِ إلى كل واحد واحد منهم لا إلى الكلُّ من حيثُ هو كلٌّ الخطابات السابقةِ تنبيها على أن رؤية الأصنامِ على الهيئة المذكورةِ لا تتسنّى للكل معا بل
307
الأعراف آية ١٩٩ ٢٠١
لكل من يواجهها وقيل ضميرُ الفاعل في تراهم لرسول الله ﷺ وضميرُ المفعولِ على حاله وقيل للمشركين على أن التعليلَ قد تمَّ عند قولِه تعالى لاَ يَسْمَعُواْ أي وترى المشركين ينظُرون إليك والحال أنهم لا يبصِرونك كما أنت عليه وعن الحسن أن الخكاب في قوله تعالى وأن تَدْعُواْ للمؤمنين على أن التعليلَ قد تمَّ عند قولِه تعالى يُنصَرُونَ أي وإن تدعوا أيها المؤمنون المشركين إلى الإسلام لا يلتفتوا إليكم ثم خوطب ﷺ بطريق التجريدِ بأنك تراهم ينظرون إليك والحال أنهم لا يُبصرونك حقَّ الإبصار تنبيهاً على أن ما فيه ﷺ من شواهد النبوةِ ودلائلِ الرسالةِ من الجلاءِ بحيث لا يكاد بخفى على الناظرين
308
﴿خُذِ العفو﴾ بعدَ ما عُدّ من أباطيلِ المشركين وقبائحِهم ما لا يطاق تحمله أمر ﷺ بمجامع مكارمِ الأخلاق التي من جملتها الإغضاءُ عنهم أي خذ ما هفا لك من أفعا الناسِ وتسهل ولا تكلِّفْهم ما يشُقُّ عليهم من العفو الذي هو ضدُّ الجَهدِ أو خذ العفوَ من المذنبين أو الفضلَ من صدقاتهم وذلك قبل وجوبِ الزكاة ﴿وَأْمُرْ بالعرف﴾ بالجميل المستحسَن من الأفعال فإنها قريبةٌ من قَبول الناس من غير نكير ﴿وَأَعْرِض عَنِ الجاهلين﴾ من غير مماراةٍ ولا مكافأة قيل لما نزلت سأل رسول الله ﷺ جبريلُ عليه السَّلامُ فقال لا أدري حتى أسأل ثم رجع فقال يا محمدُ إن ربك أمرك أن تصِل مَنْ قطعك وتعطيَ من حَرَمك وتعفُوَ عمّن ظلمك وعن جعفرٍ الصادقِ أمر الله تعالى نبيَّه بمكارم الأخلاق وروي أنه لما نزلت الآيةُ الكريمة قال ﷺ كيف يا ربّ والغضبُ متحقق فنزل قوله تعالى
﴿وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نزغ﴾ النزغ والنسع والنخْسُ الغرزُ شُبّهت وسوستُه للناس وإغراؤه لهم على المعاصي بغَرْز السائق لما يسوقه وإسنادُه إلى النزغ من قَبيل جَدّ جِدُّه أي وإما يحمِلنّك من جهته وسوسةٌ ما على خلاف ما أُمرت به من اعتراء غضبٍ أو نحوه ﴿فاستعذ بالله﴾ فالتجِىءْ إليه تعالى من شره ﴿إِنَّهُ سَمِيعٌ﴾ يسمع استعاذتَك به قولاً ﴿عَلِيمٌ﴾ يعلم تضرُّعَك إليه قلباً في ضمن القولِ أو بدونه فيعصمُك من شره وقد جُوِّز أن يرادَ بنزغ االشيطان اعتراءُ الغضبِ على نهج الاستعارة كما في قول الصدِّيقِ رضيَ الله عنه إن لي شيطاناً يعتريني ففيه زيادةُ تنفيرٍ عنه وفرطُ تحذيرٍ عن العمل بموجبه وفي الأمر بالاستعاذة بالله تعالى تهويلٌ لأمره وتنبيهٌ على أنه من الغوائل الصعبةِ التي لا يُتخَلّص من مَضَرَّتها إلا بالتجاء إلى حرم عصمته عز وجل وقيل يعلمُ ما فيه صلاحُ أمرِك فيحملك عليه أو سميعٌ بأقوال مَنْ آذاك عليمٌ بأفعاله فيجازيه عليها
﴿إِنَّ الذين اتقوا﴾ استئنافٌ مقرِّرٌ لما قبله إِنَّ ما أمر به ﷺ من الاستعاذة بالله تعالى سنةٌ مسلوكةٌ للمتقين والإخلالُ بها ديدنُ الغاوين أي إن الذين اتصفوا بوقاية أنفسِهم عما يضُرّها
﴿إِذَا مسهم طائف مّنَ الشيطان﴾ أدنى لمّةٍ منه على أن تنوينَه للتحقير وهو اسمُ فاعلِ من طاف يطوف
308
الأعراف آية ٢٠٢ ٢٠٣
كأنها تطوف بهم وتدور حولهم لتوقِعَ بهم أو من طاف به الخيالُ يطيفُ طيفاً أي ألمَّ وقرىء طيفٌ على أنَّه مصدرٌ أو تخفيفٌ من طيِّف من الواوي أو اليائي كهين ولين والمارد بالشيطان الجنسُ ولذلك جُمع ضميرُه فيما سيأتي
﴿تَذَكَّرُواْ﴾ أي الاستعاذةَ بهِ تعالى والتوكلَ عليه
﴿فَإِذَا هُم﴾ بسبب ذلك التذكّرِ
﴿مُّبْصِرُونَ﴾ مواقِعَ الخطأ ومكايدَ الشيطانِ فيحترزون عنها ولا يتبعونه
309
﴿وإخوانهم﴾ أي إخوان الشيطان وهم المنهمِكون في الغي المعرضون عن وقاية أنفسِهم عن المضار ﴿يَمُدُّونَهُمْ فِى الغي﴾ أي يكونالشياطين مدداً لهم فيه ويعضدونهم بالتزيين والحملِ عليه وقرىء يُمِدّونهم من الإمداد ويُمادّونهم كأنهم يُعينونهم بالتسهيل والإغراء وهؤلاء بالاتباع والامتثال ﴿ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ﴾ أي لا يمسكون عنم الإغواء حتى يردوهم بالكلية ويجوزُ أنْ يكونَ الضميرُ للإخوان أي لا يرعوون عن الغي ولا يقصرون كالمتقين ويجوز أن يراد بالإخوان الشياطين ويرجعُ الضميرُ إلى الجاهليل فيكون الخبرُ جارياً على من هو له
﴿وإذا لم تأتهم بآية﴾ من القرآن عند تراخي الوحي أو بآية مما اقترحوه
﴿قَالُواْ لَوْلاَ اجتبيتها﴾ اجتبى الشيءَ بمعنى جباه لنفسه أي هلاّ جمعتَها من تلقاء نفسِك تقوّلا يرون بذلك أن سائرَ الآياتِ أيضاً كذلك أو هلا تلقيتها من ربك استدعاءً
﴿قُلْ﴾ رداً عليهم
﴿إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَىَّ مِن رَّبّى﴾ من غير أن يكون الي دخلٌ ما في ذلك أصلاً على معنى تخصيص حاله ﷺ باتباع ما يوحى إليه بتوجيِه القصرِ المستفادِ من كلمة إنما إلى نفس الفعلِ بالنسبة إلى مقابله الذي كلفوه غياه ﷺ لا على معنى تخصيص اتباعه ﷺ بما يوحى إليه بتوجيه القصر إلى المفعول بالقياس إلى مفعولٍ آخرَ كما هو الشائعُ في موارد الاستعمال وقد مرَّ تحقيقُه في قولِه تعالى أَنِ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَىَّ كأنه قيل ما أفعلُ إلا اتباعَ ما يوحى إلي منه تعالى وفي التعرُّض لوصفِ الربوبيةِ المنبئةِ عن المالكية والتبليغِ إلى الكمال اللائقِ مع الإضافة إلى ضميره ﷺ من تشريفه ﷺ والتنبيهِ على تأييده ما لا يخفى
﴿هذا﴾ إشارةٌ إلى القرآن الكريم المدلولِ عليه بما يوحى إلي
﴿بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ﴾ بمنزلة البصائرِ للقلوب بها تُبصِر الحقَّ وتدرك الصواب وقيل حججٌ بينةٌ وبراهينُ نيِّرةٌ ومِنْ متعلقةٌ بمحذوفٍ هو صفةٌ لبصائرَ مفيدةٌ لفخامتها أي بصائرُ كائنةٌ منه تعالَى والتعرضُ لعنوانِ الربوبيةِ مع الإضافةِ إلى ضميرِهم لتأكيد وجوبِ الإيمانِ بها وقوله تعالى
﴿وَهُدًى وَرَحْمَةٌ﴾ عطفٌ على بصائرُ وتقديمُ الظرفِ عليهما وتعقيبُهما بقوله تعالى
﴿لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ للإيذان بأن كونَ القرآنِ بمنزلة البصائرِ للقلوب متحققٌ بالنسبة إلى الكل وبه تقوم الحجة على الجميع وأما كونُه هدى ورحمةً فمختصٌّ بالمؤمنين به إذ هم المقتسمون من أنواره والمغتنِمون بآثاره والجملةُ من تمام القولِ المأمورِ به
309
﴿وإذا قرئ القرآن فاستمعوا لَهُ﴾ إرشادٌ إلى طريق الفوز بما أشير إليه من المنافع الجليلةِ التي ينطوي عليها القرآنُ أي وإذا قرىء القرآنُ الذي ذكرت شئونه العظيمةُ فاستمعوا له استماعَ تحقيقٍ وقَبول ﴿وَأَنصِتُواْ﴾ أي واسكُتوا في خلال القراءةِ وراعوها إلى انقضائها تعظيماً له وتكميلاً للاستماع ﴿لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ أي تفوزون بالرحمة التي هي أقصى ثمراتِه وظاهرُ النظم الكريمِ يقتضي وجوبَ الاستماعِ والإنصاتِ عند قراءةِ القرآن في الصلاة وغيرِها وقيل معناه إذا تلا عليكم الرسولُ القرآنَ عند نزولِه فاستمعوا له وجمهورُ الصحابة رضي الله تعالى عنهم على أنه في استماع المؤتمِّ وقد روي أنهم كانوا يتكلمون في الصلاة فأُمروا باستماع قراءةِ الإمامِ والإنصاتِ له وعن ابن عباس رضي الله تعالَى عنُهمَا أنَّ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم قرأ في المكتوبة وقرأ أصحابُه خلفه فنزلت وأما خارج الصلاة فعامةُ العلماءِ على استحبابهما والآيةُ إما من تمام القول به أو استئنافٌ من جهتِه تعالى فقوله تعالى
﴿واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ﴾ على الأولِ عطفٌ على قل وعلى الثاني فيه تجريد للخطاب إلى رسول الله ﷺ وهو عام في الأذكار كافةً فإن الإخفاءَ أدخلُ في الإخلاص وأقربُ من الإجابة ﴿تَضَرُّعًا وَخِيفَةً﴾ أي متضرعاً وخائفاً ﴿وَدُونَ الجهر مِنَ القول﴾ أي ومتكلماً دون الجهر فإنه أقرب إلى حسن التفكر ﴿بالغدو والاصال﴾ متعلقٌ باذكر أي اذكره في وقت الغُدوات والعشيات وقرىء والإيصال وهو مصدر آصَلَ أي دخل في الآصيل موافقٌ للغدو ﴿وَلاَ تَكُنْ مّنَ الغافلين﴾ عن ذكرِ الله تعالى
﴿إِنَّ الذين عِندَ رَبّكَ﴾ وهم الملائكةُ عليهم السلام ومعنى كونِهم عنده سبحانه وتعالى قربُهم من رحمته وفضلِه لتوفرهم على طاعته تعالى
﴿لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ﴾ بل يؤدونها حسبما أمروا به
﴿وَيُسَبّحُونَهُ﴾ أي ينزّهونه عن كل ما لا يليقُ بجنابِ كبريائِه
﴿وَلَهُ يَسْجُدُونَ﴾ أي يخُصّونه بغاية العبوديةِ والتذللِ لا يشركون به شيئاً وهو تعريضٌ بسائر المكلفين ولذلك شُرع السجود عند قراءته عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم إذا قرأ ابنُ آدمَ آيةَ السجدة فسجد اعتزل الشيطانُ يبكي فيقول يا ويله أُمر هذا بالسجود فسجد فله الجنةُ وأُمرت بالسجود فعصَيت فلي النار وعنه ﷺ من قرأ سورةَ الأعرافِ جعل الله تعالى يومَ القيامةِ بينه وبين إبليسَ ستراً وكان آدمُ عليه السلام شفيعاً له يوم القيامة
310
٨ سورة الأنفال الآية (١)
سورة الأنفال مدنية وهى خمس وسبعون آية
﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم﴾
2