وآياتها أربعون
كلماتها : ١٩٩ ؛ حروفها : ٥٢٩
ﰡ
﴿ لا أقسم بيوم القيامة ( ١ ) ﴾
أقسم الله تعالى بيوم القيامة- ولربنا الحكيم أن يحلف بما شاء- و﴿ لا ﴾ صلة لتوكيد القسم، مثلها في قوله تعالى :﴿ لئلا يعلم أهل الكتاب أن لا يقدرون على شيء من فضل الله... ﴾١ أي ليعلم، وجيء ب ﴿ لا ﴾ لتوكيد العلم. و﴿ يوم القيامة ﴾ يسمى به اليوم الذي تعود فيه الأرواح إلى الأجساد يوم البعث. وربما يطلق على كثير من أحوال الآخرة وأهوالها ومنازلها، كيوم انتهاء الحياة في هذا الكون، يوم تنشق السماء، وتتنثر الكواكب، وتنسف الجبال، أو يوم تشقق القبور وينشر الموتى، أو يوم تساق الخلائق ويجمع الناس، أو يوم يحشرون للقاء رب العالمين، أو يوم يحاسبون ويفصل بينهم أحكم الحاكمين، أو يوم يدخلون دار الجزاء- الجنة للمتقين والنار للغاوين- بل يطلق يوم القيامة ويراد به ما بين الدنيا والآخرة، فقد نقل عن السلف : من مات فقد قامت قيامته. ويقولون : من دفن فقد قامت قيامته.
كان المولى جل شأنه يحلف بالنفس التي إذا ألمت بسيئة ندمت على خطئها، وسارعت بالعودة إلى مرضاة ربها، وإذا قصرت في طاعة استحت من تقصيرها، وأقلعت عن تفريطها ؛ أصحاب هذه النفوس أهل لرضوان الله تعالى وحبه ﴿ إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ﴾١.
جاء في سبب نزولها أن عدي بن ربيعة سمع من النبي صلى الله عليه وسلم شيئا من أمر القيامة فقال : لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك يا محمد، ولم أومن به ؟ أو يجمع الله العظام ؟ !
أيظن الكافر المنكر للبعث أنا لن نجمع لحمه المتمزق، وشعره المتفرق، وعظامه النخرة البالية ؟ ؟. بل وربي ليعيدن الله الخلق كما أنشأهم أول مرة. وذكر العظام هنا كجزء من أجزاء الجسد، والمراد به الجسم كله والروح معه.
بلى نجمع العظام والأجسام قادرين على ذلك وعلى كل ما نريد. و﴿ بنانه ﴾ : أصابعه أو أطراف أصابعه-الأنامل- نقل صاحب تفسير غرائب القرآن :﴿ قادرين ﴾ حال مؤكدة لأنه يستحيل جمع العظام بدون القدرة الكاملة التي نبه عليها بقوله :﴿ .. أن نسوي بنانه ﴾ لأن من قدر على ضم سلاميات الإصبع مع صغرها ولطافتها كما كانت، كان على ضم العظام الكبار أقدر ؛ وإنما خص البنان- وهو الأنملة- بالذكر لأنه آخر ما يتم خلقه، فذكره يدل على تمام الإصبع، وتمام الإصبع يدل على تمام سائر الأعضاء التي هي أطرافها، وقيل : معنى التسوية : جعلها شيئا واحدا كخف البعير، وحافر الحمار، بحيث لا يقدر على البطش ؛ والمراد أنه قادر على رد العظام والمفاصل إلى هيئتها الأولى، وعلى ضد ذلك. اه.
أكثر جنس الإنسان يحب الشهوات، ومقارفة العصيان، ويحب أن يمضي فيها حالا ومستقبلا، راكبا رأسه، ومطيعا أمله، ومسوفا لتوبته.
﴿ أيان ﴾ أي : متى : يستعجل بيوم القيامة- استهزاء به- المكذبون، ويستبعده الغافلون، الذين هم في غمرة ساهون، بل وينكره المترفون البطرون، ولقد شهد القرآن عليهم بما يقولون :﴿ هيهات هيهات لما توعدون. إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين ﴾١.
كأنه جواب عما سأل عنه الذي يقول : متى يوم القيامة ؟ أي : يكون حين تلمع الأعين من شدة شخوصها، وتفزع وتبهت حيرة فلا يرتد إليها طرفها، وتنبهر الأبصار، وتخشع وتحار، وتذل من شدة الأهوال- هول الموت وما بعدها من الأحوال-
ذهب ضوؤه. والخسوف في الدنيا إلى انجلاء، بخلاف الآخرة فإن ضوءه لا يعود.
يجمعهما الواحد القهار بقدرته ويكورهما ويذهبهما.
عند توارد هذه الشدائد يقول ابن آدم : أين الملجأ ؟ ؟ أين الموئل ؟ ! ربما يقولها كل إنسان لعظم الغاشية، أو يقولها الكافر ؛ أما المؤمن فهو مستيقن بوعد الله ﴿ وينجي الله الذين اتقوا... ﴾١، ﴿ .. تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون ﴾٢.
٢ - سورة فصلت. من الآية ٣٠..
فيرد الواحد القهار، على أهل الحسرة والحيرة الكفار، أن لا حيلة لهم في الفرار، فلا محيص ولا منعة. والوزر في اللغة : ما يلجأ إليه من حصن أو جبل أو غيرهما.
المصير والمنتهى إلى رب العالمين مالك يوم الدين.
يخبر الإنسان يوم الحساب بما أنجزه من عمل، أو خلف من سنة وطريقة يستن الناس بها بعده- حسنة كانت أو سيئة-.
فهو حين تعرض صحائفه، وتنطق جوارحه، شهيد على نفسه، بصير بما كان منها. قال بعض اللغويين : جعله هو البصيرة، كما تقول للرجل أنت حجة على نفسك.
ومهما حاول أن يجادل عن نفسه، ويأتي بالمعاذير فهو بما اقترف بصير، ولن تقبل منه يومئذ الأعذار ﴿ يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار ﴾١.
الخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، والضمير في ﴿ به ﴾ للقرآن الكريم. روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان يشتد على النبي صلى الله عليه وسلم حفظ التنزيل، فكان إذا نزل عليه الوحي حرك لسانه وشفتيه قبل فراغ جبرائيل مخافة النسيان فنهاه الله عن ذلك اه.
تكفل الله- تباك اسمه- وتوكل أن يجمع القرآن في قلب النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يثبت قراءته في لسانه، فالقرآن هنا وفيما بعد مصدر يراد به القراءة.
فحين يتم جبريل قراءته عليك بوحينا فاقرأ مثل ما قرأ ؛ أو فإذا قرأه عليك فاتبع بفكرك قرآنه واستمع إليه وأنصت.
وتوكل المولى الحكيم بتبيين معاني كتابه العزيز، فقد أنزله – سبحانه- ميسرا فهي نعم متممات : جمعه في صدره، وتيسير تلاوته، وبيان معانيه.
لكن الناس- وقد خلقوا من عجل، في فطرتهم الميل إلى ما هو قريب منهم- تزين لهم متع الحياة التي يحيون وإن كانت دنيا زائلة.
يمضي حب حطم الحياة الفانية بأصحابها، حتى يعرضوا عن الآخرة ويتركوا التزود لها، بل يصل بهم الغرور إلى جحودها :﴿ إنهم كانوا قبل ذلك مترفين. وكانوا يصرون على الحنث العظيم. وكانوا يقولون آئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون ﴾١. وهكذا يحسب الذي جمع مالا وعدده أن ماله أخلده، ويظن صاحب الحديقتين أنه وقد أوتي الزرع البهيج والثمر الوفير لم يفارق النعمة ولن تفارقه ﴿ ... قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا. وما أظن الساعة قائمة.. ﴾٢
٢ - سورة الكهف. من الآيتين ٣٥، ٣٦..
﴿ وجوه ﴾ مبتدأ وصح وقوع النكرة مبتدأ لأن الموضع موضع تفصيل. والتنوين للتكثير، أي وجوه كثيرة، و﴿ يومئذ ﴾ ظرٍف زمان متعلق ب ﴿ ناضرة ﴾ و﴿ ناضرة ﴾ خبر المبتدأ.
﴿ إلى ربها ﴾ متعلق بناظرة، والجملة خبر ثان للمبتدأ، أو نعت لناضرة ؛ ومعنى الآيتين الكريمتين : وجوه المؤمنين يوم القيامة تعلوها النضرة والصفاء والبشر، وتنظر إلى الباري – تبارك اسمه- والنظرة بالعينين وهما بالوجه. وقد ورد في صحيحي البخاري ومسلم أحاديث رؤية المؤمنين لله تبارك وتعالى في الآخرة، منها رواية أبي هريرة وأبي سعيد، وجرير، وأبي موسى، وصهيب، وجابر وغيرهم – رضوان الله تعالى عليهم أجمعين- وكذا تضافرت روايات أحاديث صحاح وحسان رواها النسائي والترمذي وأبو داود أحمد وغيرهم- رحمهم الله تعالى. يقول علماء أحكام القرآن وأئمة السنة :
وهذا مجمع عليه بين الصحابة والتابعين وسلف هذه الأمة، كما هو متفق عليه بين أئمة الإسلام وهداة الأنام، ثم قد تواترت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما دل عليه سياق الآية الكريمة وهي قوله – تبارك اسمه- :﴿ إلى ربها ناظرة ﴾.
إعرابها كإعراب الآية ٢٢ ( وجوه ) مبتدأ و﴿ باسرة ﴾ الخبر، و﴿ يومئذ ﴾ متعلق ب ﴿ باسرة ﴾، والبسور : التغير ؛ ووجه باسر : أي كالح ذليل.
﴿ كلا ﴾ أي من تتابع النذر لا يؤمنون بالآخرة، ﴿ إذا بلغت التراقي ﴾ إذا بلغت الروح الحلقوم، و﴿ التراقي ﴾ جمع ترقوة وهي العظام المحيطة بنقرة النحر- وهو مقدم الحلق من أعلى الصدر- يذكر الله القوي بشدة سكرات الموت والحشرجة، وحينئذ لا يملك من حوله أن يردوا عليه حياته، وإنما يتحاورون : هل من راق يشفى برقيته ؟ وهل من طيب يداوي بصنعته ؟ ! وإنما هو قول المستعبد اليائس.
﴿ كلا ﴾ أي من تتابع النذر لا يؤمنون بالآخرة، ﴿ إذا بلغت التراقي ﴾ إذا بلغت الروح الحلقوم، و﴿ التراقي ﴾ جمع ترقوة وهي العظام المحيطة بنقرة النحر- وهو مقدم الحلق من أعلى الصدر- يذكر الله القوي بشدة سكرات الموت والحشرجة، وحينئذ لا يملك من حوله أن يردوا عليه حياته، وإنما يتحاورون : هل من راق يشفى برقيته ؟ وهل من طيب يداوي بصنعته ؟ ! وإنما هو قول المستعبد اليائس.
وأيقن المحتضر أنه فراق هذه الحياة بأهلها وزينتها، وأحوالها وأموالها.
واتصلت شدة آخر الدنيا بشدة أول الآخرة.
إلى المعبود – سبحانه- يكون سوق الخلق يوم القيامة، و﴿ الساق ﴾ مصدر ميمي. وإليه – تبارك اسمه- المرجع والمآب.
فالكافر الخاسر لما يصدق بما أرسلت به الرسل، ولا صلى ما كتب الله عليه من الصلوات، فباطنه معاند لأمر الله، وظاهره كذلك.
لكن قلبه أعرض عن العهد الحق، عهد الله إلينا أن نؤمن ؛ وقالبه أعرض عن عهد الله أن نؤدي ما افترض علينا.
ثم عاد إلى أهله مختالا مرحا متعاليا ؛ وأصل التمطي : ليّ الظهر والتبختر وهكذا وصف الله المجرمين في سورة المطففين :﴿ إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون. وإذا مروا بهم يتغامزون. وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين ﴾١.
تحذير من أربعة لأربعة، يحذر الله من : ترك التصديق، وترك الصلاة، ومن التكذيب، والإعراض وكأن المعنى : الويل له حيا، والويل له ميتا، والويل له يوم البعث، والويل له يوم يدخل النار.
أو : الوعيد أولى به، وأقرب إليه.
تحذير من أربعة لأربعة، يحذر الله من : ترك التصديق، وترك الصلاة، ومن التكذيب، والإعراض وكأن المعنى : الويل له حيا، والويل له ميتا، والويل له يوم البعث، والويل له يوم يدخل النار.
أو : الوعيد أولى به، وأقرب إليه.
أيظن الآدمي أن يخلى متروكا مهملا لا يبعث ؟ ! ويشير إلى هذا المعنى ما جاء في قوله سبحانه :﴿ أفحسبتم إنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون ﴾١.
ألم يك ماء قليلا في صلب رجل وترائب امرأة، فهو ليس إلا قطرة تراق في رحم.
ثم يصير دما منعقدا يعلق بغشاء مخاطي داخل ظلمات ثلاث، ثم يطورها ربنا الحكيم خلقا من بعد خلق حتى يسويه ويعدل بنيانه وصورته وينفخ فيه الروح.
فجعل من الإنسان أولادا له ذكورا وإناثا. ﴿ الزوجين ﴾ الصنفين. فهي مفعول ﴿ فجعل ﴾، و﴿ الذكر والأنثى ﴾ بدل من ﴿ الزوجين ﴾
أليس هذا الخلاق العليم الذي أنشأنا من العدم وجعل نسلنا من سلالة من ماء مهين، أليس هذا العظيم بقادر على أن يعيدنا بعد موتنا أحياء ؟ بل إن الإعادة أهون من البدء في قياس العقل.
روى أحمد وأبو داود والترمذي وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي والحاكم وصححه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم :( من قرأ منكم ﴿ والتين والزيتون ﴾ إلى آخرها ﴿ أليس الله بأحكم الحاكمين ﴾ فليقل بلى ! وأنا على ذلكم من الشاهدين، ومن قرأ ﴿ لا أقسم بيوم القيامة ﴾ فانتهى إلى ﴿ أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى ﴾ فليقل بلى، ومن قرأ ﴿ والمرسلات... ﴾ فبلغ ﴿ فبأي حديث بعده يؤمنون ﴾ فليقل آمنا بالله ).