ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة القيامة (٧٥) : آية ١]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (١)كذا يقرأ أكثر القراء، وعن الحسن والأعرج «لأقسم بيوم القيامة» «١» على أنها لام قسم لا ألف فيها قال أبو جعفر: وهذا لحن عند الخليل وسيبويه وإنما يقال بالنون:
لأقومن والقراءة الأولى فيها أقوال منها أنّ «لا» زائدة للتوكيد مثل ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ [الأعراف: ١٢] وهذا القول عند الفراء «٢» خطأ من جهتين: إحداهما أن «لا» إذا كانت زائدة لم يبتدأ بها، والأخرى أنه أن «لا» إنما تزاد في النفي، كما قال: [البسيط] ٥١١-
ما كان يرضى رسول الله فعلهما | والطيّبان أبو بكر ولا عمر «٣» |
وليس قوله بأنها في أول الكلام مما يردّ هذا القول لأن القرآن كلّه بمنزلة سورة واحدة، وعلى هذا نظمه ورصفه وتأليفه. وقد صحّ عن ابن عباس: أن الله جلّ وعزّ أنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا في شهر رمضان ثم نزل متفرّقا من السماء، وإنما يردّ هذا الحديث أهل البدع. قال أبو جعفر: وأما قول الفراء إنّ «لا» لا تزاد إلا في النفي فمخالف فيه. حكى ذلك من يوثق بعلمه من البصريين منهم أبو عبيدة «٤». وأنشد: [الرجز] ٥١٢- في بئر لا حور سرى وما شعر «٥»
(٢) انظر معاني الفراء ٣/ ٢٠٧.
(٣) الشاهد لجرير في ديوانه ٢٦٣، والكامل ١٢٥، وبلا نسبة في رصف المباني ٢٧٣ ولسان العرب (لا).
(٤) انظر مجاز القرآن ١/ ٢٥.
(٥) الرجز للعجاج في ديوانه ٢٠، والأزهيّة ١٥٤، والأشباه والنظائر ٢/ ١٦٤، وخزانة الأدب ٤/ ٥١، وشرح المفصل ٨/ ١٣٦ وتاج العروس (حور) و (لا)، وتهذيب اللغة ٥/ ٢٢٨، وبلا نسبة في لسان العرب (حور) و (غير)، وخزانة الأدب ١١/ ٢٢٤، والخصائص ٢/ ٤٧٧، وجمهرة اللغة ٥٢٥، ومجمل اللغة ٢/ ١٢٠.
[سورة القيامة (٧٥) : آية ٢]
وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (٢)
لا اختلاف في هذا أن الألف فيه بعد «لا» فقول الحسن أنّ «لا» نافية وقد بيّنا قول غيره.
[سورة القيامة (٧٥) : آية ٣]
أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (٣)
وقراءة الكوفيين أَيَحْسَبُ والماضي حسب بلا اختلاف فالقياس في المستقبل يحسب إلا أنه روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم الكسر «٢».
[سورة القيامة (٧٥) : آية ٤]
بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (٤)
قادِرِينَ في موضع نصب، وفي نصبه أقوال: منها أنه قيل: التقدير: بلى نقدر فلمّا حوّل نقدر إلى قادرين نصب كما قال الفرزدق: [الطويل] ٥١٣-
على حلفة لا أشتم الدّهر مسلما | ولا خارجا من فيّ زور كلام «٣» |
(٢) انظر إعراب الآية ٨٨- النمل.
(٣) الشاهد للفرزدق في ديوانه ٢١٢، والكتاب ١/ ٤١١، وأمالي المرتضى ١/ ٦٣، وتذكرة النحاة ٨٥، وخزانة الأدب ١/ ٢٢٣ وشرح أبيات سيبويه ١/ ١٧٠، وشرح المفصل ٢/ ٥٩، ولسان العرب (خرج) والمحتسب ١/ ٥٧، والمقتضب ٤/ ٣١٣ وبلا نسبة في شرح شافية ابن الحاجب ١/ ١٧٧ ولسان العرب (رتج)، والمقتضب ٣/ ٢٦٩.
(٤) انظر معاني الفراء ٣/ ٢٠٨.
[سورة القيامة (٧٥) : آية ٥]
بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (٥)
هذه لام كي وقولهم لام «إنّ» لا معنى له، ولكن يريد يدلّ على الإرادة أي إرادته ليفجر أمامه.
[سورة القيامة (٧٥) : آية ٦]
يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (٦)
التقدير أي وقت يوم القيامة، وفتحت النون من إيان لالتقاء الساكنين.
[سورة القيامة (٧٥) : الآيات ٧ الى ٨]
فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨)
فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧) قراءة أبي عمرو وعاصم وشيبة وحمزة والكسائي، وقرأ نصر بن عاصم وابن أبي إسحاق وأبو جعفر ونافع فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ «١» بفتح الراء ومعنى الكسر بيّن أي حار وفزع من الموت ومن أمر القيامة وبرق ولمع. قال الحسن وقتادة: وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨) ذهب ضوءه.
[سورة القيامة (٧٥) : آية ٩]
وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (٩)
يقال: الشّمس مؤنثة بلا اختلاف فكيف لم يقل، وجمعت ففي هذا أجوبة منها أن التقدير وجمع بين الشمس والقمر فحمل التذكير على بين، وقيل: لما كان وجمع الشمس لا يتمّ به الكلام حتى يقال: والقمر وكان القمر مذكّرا كان المعنى جمعا فوجب أن يذكر فعلهما في التقديم كما يكون في التأخير. وأولى ما قيل فيه قول الكسائي، قال: المعنى: وجمع النوران أي الضياءان وفي موضع آخر: فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي [الأنعام: ٧٨] وأما محمد بن يزيد فيقول: هذا كلّه تأنيث غير حقيقي لأنه لم يؤنّث للفرق بين شيء وشيء فلك تذكيره لأنه بمعنى شخص وشيء.
[سورة القيامة (٧٥) : آية ١٠]
يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (١٠)
فهذا مصدر بلا اختلاف أي أين الفرار؟ وروى ابن عيينة عن عمرو بن دينار قال:
سمعت ابن عباس يقرأ أَيْنَ الْمَفَرُّ «٢» قال أبو جعفر: هذا إسناد مستقيم، وهو عند البصريين اسم للمكان وزعم الفراء «٣» : إنه يجيز في المصدر الكسر.
(٢) انظر مختصر ابن خالويه ١٦، والبحر المحيط ٨/ ٣٧٧.
(٣) انظر معاني الفراء ٣/ ٢١٠. [.....]
[سورة القيامة (٧٥) : آية ١١]
كَلاَّ لا وَزَرَ (١١)وهو الملجأ فقيل: وزير مشتقّ من هذا لأن صاحبه قد سلم إليه أموره فلجأ إليه واعتمد عليه، وقيل: لأن أوزار ما يتقلّده صاحبه بيده والأوزار ما كان من الذهب والفضة وغيرهما.
[سورة القيامة (٧٥) : آية ١٢]
إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (١٢)
قال قتادة: المنتهى.
[سورة القيامة (٧٥) : آية ١٣]
يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (١٣)
من أحسن ما قيل فيه قول قتادة قال: بما قدّم من طاعة الله جلّ وعزّ وأخّر من حقّه ينبأ به كلّه، وقد روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس بما قدّم من خير أو شرّ بعده.
[سورة القيامة (٧٥) : آية ١٤]
بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤)
مشكل الإعراب والمعنى، فقول ابن عباس سمعه وبصره ويداه ورجلاه وجوارحه شاهدة عليه. قال أبو جعفر: فعلى هذا القول الْإِنْسانُ
مرفوع بالابتداء وبَصِيرَةٌ
ابتداء ثان و «على نفسه» خبر الثاني والجملة خبر الأول. وشرحه بل الإنسان على نفسه من نفسه رقباء تحفظه وتشهد عليه فهذا قول وقول سعيد بن جبير وقتادة: إن الإنسان هو البصيرة. قال سعيد بن جبير: الإنسان والله بصيرة على نفسه، وقال قتادة: تراه والله عارفا بذنب غيره وعيبه متغافلا عن نفسه فعلى هذا القول «الإنسان» مرفوع بالابتداء و «بصيرة» خبره فإن قيل: لم دخلت الهاء والإنسان مذكّر؟ ففيه جوابان أحدهما أن الهاء للمبالغة كما يقال: رجل راوية وعلّامة وقيل: دخلت الهاء لأن المعنى بل الإنسان حجّة على نفسه.
[سورة القيامة (٧٥) : آية ١٥]
وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (١٥)
جمع على غير قياس عند سيبويه «١» لأن عذرا ليس جمعه معاذير وإنما معاذير جمع معذار.
[سورة القيامة (٧٥) : الآيات ١٦ الى ١٧]
لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧)
إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ
(١٧) فيضمن الله جلّ وعزّ جمعه فبهذا كفّر الفقهاء من زعم أنه قد بقي منه شيء لأنه ردّ على ظاهر التنزيل، وسئل سفيان بن عيينة كيف غيّرت التوراة والإنجيل وهما من عند الله؟ فقال: إن الله جلّ وعزّ وكل حفظهما إليهم فقال جل ثناؤه بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ [المائدة: ٤٤] ولم يكل حفظ القرآن إلى أحد
[سورة القيامة (٧٥) : آية ١٨]
فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨)
اختلف العلماء في معنى هذا. فروى سعيد بن جبير عن ابن عباس: فإذا أنزلناه فاستمع له، وقال قتادة: أي فاتبع حلاله وحرامه. ومن حسن ما قيل فيه ما رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس فَإِذا قَرَأْناهُ
قال: يقول: فإذا بيّناه فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
قال:
يقول: فاعمل بما فيه.
[سورة القيامة (٧٥) : آية ١٩]
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (١٩)
قال قتادة: بيان الحلال من الحرام عن ابن عباس بَيانَهُ بلسانك.
[سورة القيامة (٧٥) : آية ٢٠]
كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (٢٠)
أي الحال العاجلة أو الدنيا العاجلة.
[سورة القيامة (٧٥) : آية ٢١]
وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (٢١)
لأنها بعد الأولى.
[سورة القيامة (٧٥) : الآيات ٢٢ الى ٢٣]
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣)
وُجُوهٌ رفع بالابتداء ناضِرَةٌ نعت لها وناظِرَةٌ خبر الابتداء، ويجوز أن يكون «ناضرة» خبر «وجوه» وناظِرَةٌ خبرا ثانيا، ويجوز أن يكون ناضرة نعتا لناظرة أو لوجوه ويقال: أجوه وهو جمع للكثير وللقليل أوجه وفي ناظِرَةٌ ثلاثة أقوال: منها أن المعنى منتظرة ومنها أن المعنى إلى ثواب ربّها، ومنها أنها تنظر إلى الله جلّ وعزّ.
قال: ويعرف الصواب في هذه الأجوبة من العربية فلذلك وغيره أخّرنا شرحه لنذكره في الإعراب. قال أبو جعفر: أما قول من قال: معناه منتظرة فخطأ. سمعت علي بن سليمان يقول: نظرت إليه بمعنى انتظرته وإنما يقال: نظرته وهو قول إبراهيم بن محمد بن عرفة وغيره ممن يوثق بعلمه وأما من قال: إن المعنى إلى ثواب ربّها فخطأ أيضا على قول النحويين الرؤساء لأنه لا يجوز عندهم ولا عند أحد علمته نظرت زيدا أي نظرت ثوابه. ونحن نذكر الاحتجاج في ذلك من قول الأئمة والعلماء وأهل اللغة إذا كان أصلا من أصول السنة، ونذكر ما عارض به أهل الأهواء ونبدأ بالأحاديث الصحيحة عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم إذا كان المبين عن الله جلّ وعزّ. كما قرئ على أحمد بن شعيب بن علي عن إسحاق بن راهويه ثنا بقيّة بن الوليد ثنا بحير بن سعد عن خالد بن معدان عن عمرو بن الأسود أن قتادة بن أبي أمية حدثهم عن عبادة بن الصامت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إني حدّثتكم عن المسيح الدجّال حتى خفت ألّا تعقلوه إنه قصير أفحج جعد أعور مطموس العين اليسرى ليست بناتئة ولا جحرا فإن التبس عليكم فاعلموا أن ربكم
«إنّكم ترون ربّكم يوم القيامة كما ترون هذا لا تضامون في رؤيته» «٤» يعني القمر. قال حسين الجعفي: على رغم أنف جهيم والمريسي. قال أبو القاسم: وحدّثنا أحمد بن إبراهيم العبدي وأبو بكر بن أبي شيبة قالا: حدّثنا عبد الله بن إدريس ثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدريّ قال: قلنا يا رسول الله أنرى ربّنا جلّ ثناؤه قال:
«أتضارون في رؤية الشمس في الظهيرة في غير سحاب؟» قلنا لا. قال: أفتضارّون في رؤية القمر ليلة البدر في غير سحاب؟» قلنا: لا قال: «فإنكم لا تضارّون في رؤيته كما لا تضارّون في رؤيتهما». قال أبو القاسم: وحدّثت عن أحمد بن حنبل عن يحيى بن آدم عن أبي بكر بن عياش. قال: قال الأعمش: لا تضارّون يعني لا تمارون. قال أبو القاسم: وحدّثنا هدبة بن خالد ثنا وهيب بن خالد ثنا مصعب بن محمد عن أبي صالح السمّان عن أبي هريرة قال: قيل يا رسول الله أكلنا يرى ربه جل ذكره يوم القيامة؟ قال:
(٢) انظر حلية الأولياء ٥/ ١٥٧، ومشكاة المصابيح (٥٤٨٥).
(٣) أخرجه البخاري في صحيحه ٦/ ١٨١، ومسلم في صحيحه، الإيمان ٢٩٦، وابن ماجة في سننه ١٨٦، والحديث في إتحاف السادة المتقين ١٠/ ٥٢٤، وتفسير ابن كثير ٤/ ١١٥.
(٤) أخرجه الترمذي في سننه ١١/ ٢٦٩.
قال رجل لابن عمر: كيف سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول في النجوى؟ قال: سمعته يقول: «يدنى المؤمن يوم القيامة من ربه جلّ وعزّ حتى يضع عليه كنفه فيقرّره بذنوبه فيقول: هل تعرف فيقول: ربّ أعرف قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا وإني أغفرها لك اليوم- قال فيعطى صحيفة حسابه وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الخلائق هؤلاء الذين كذبوا على الله» «٢». قال أبو جعفر: وهذا الباب عن أنس وعن أبي رزين عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وفيه عن الصحابة رضي الله عنهم منهم أبو بكر الصديق وحذيفة عن التابعين إلا إنّا كرهنا الإطالة إذ كان ما ذكرناه من الحديث كفاية. وقد حدّثنا عبد الله بن أحمد بن عبد السّلام سمعت محمد بن يحيى النيسابوري يقول:
السّنّة عندنا وهو قول أئمتنا مالك بن أنس وأبي عبد الرّحمن بن عمر، والأوزاعي وسفيان بن سعيد الثوري وسفيان بن عيينة الهلالي وأحمد بن حنبل وعليه عهدنا أهل العلم أنّ الله جلّ وعزّ يرى في الآخرة بالأبصار يراه أهل الجنة، فأما سواهم من بني آدم فلا قال: والحجة في ذلك أحاديث مأثورة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قيل له: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة وذكر الحديث. قال محمد بن يحيى: وإن الإيمان بهذه الأحاديث المأثورة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في رؤية الربّ في القيامة والقدر والشفاعة وعذاب القبر والحوض والميزان والدّجال والرجم ونزول الربّ تبارك وتعالى في كلّ ليلة بعد النصف أو الثلث الباقي والحساب والنار والجنة أنّهما مخلوقتان غير فانيتين، وأنه ليس أحد سيكلمه الله يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان يترجم له ونحوها من الأحاديث،
(٢) أخرجه الترمذي في صفة القيامة ٩/ ٢٥٢، وابن ماجة باب ١٣ حديث ١٨٥.
قال أبو جعفر: فهذا كلام العلماء في كل عصر المعروفين بالسّنة حتى انتهى ذلك إلى أبو جعفر محمد بن جرير، فذكر كلام من أنكر الرؤية واحتجاجه وتمويهه وردّ ذلك عليه وبيّنه ونحن نذكر كلامه «١» نصا إذ كان قد بلغ فيه المراد إن شاء الله فذكر اعتراضهم بقوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ [الأنعام: ١٠٣] فأما قوله جلّ وعزّ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي [الأعراف: ١٤٣] فمما لا يحتاج إلى حجّة لأن فيه دليلا على النظر إذ كان موسى صلّى الله عليه وسلّم مع محلّه لا يجوز أن يسأل ما لا يكون فدلّ على أن هذا جائز أن يكون، وكان الوقت الذي سأله في الدنيا، فالجواب أنه لا يراه في الدنيا أحد واحتجّ في تمويههم بقوله عزّ وجلّ لا تدركه الأبصار بقول عطية العوفي في قول الله جلّ وعزّ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ قال: هم ينظرون إلى الله عزّ وجلّ لا تحيط أبصارهم به من عظمته وبصره يحيط بهم فذلك قوله: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ قال: واعتلّ قائلو هذه المقالة بقوله جلّ وعزّ: حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ [يونس: ٩٠] والغرق غير موصوف بأنه رآه قالوا: فمعنى «لا تدركه الأبصار» من معنى لا تراه بعيدا لأن الشيء قد يدرك الشيء ولا يراه مثل «حتّى إذا أدركه الغرق» فكذا قد يرى الشيء الشيء ولا يدركه ومثله: قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء: ٦١] وقد كان أصحاب فرعون رأوهم ولم يدركوهم وقد قال جلّ ثناؤه لا تَخافُ دَرَكاً [طه: ٧٧] فإذا كان الشيء قد يرى الشيء لا يدركه ويدركه ولا يراه علم أنّ «لا تدركه الأبصار» من معنى لا تراه الأبصار بمعزل، وأن معنى ذلك لا تحيط به الأبصار لأن الإحاطة به غير جائزة. والمؤمنون وأهل الجنة يرون ربهم جلّ وعزّ ولا تدركه أبصارهم بمعنى لا تحيط به إذ كان غير جائز أن يكون يوصف الله بأن شيئا يحيط به ونظير جواز وصفه بأنه يرى ولا يدرك جواز وصفه بأنه يعلم ولا يحاط به. قال تبارك وتعالى: وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ [البقرة: ٢٥٥] ومعنى العلم هنا المعلوم فلم يكن في نفيه عن خلقه أن يحيطوا بشيء من علمه إلا بما شاء نفي عن أن يعلموه وإنما هو نفي الإحاطة به، كذا ليس في نفي إدراك الله جلّ وعزّ البصر في رؤيته له نفي رؤيته له فكما جاز أن يعلم الخلق شيئا ولا يحيطون به علما كذا جاز أن يروا ربهم بأبصارهم ولا تدركه أبصارهم إذ كان معنى الرؤية غير معنى الإدراك، ومعنى الإدراك غير معنى الرؤية لأن معنى الإدراك الإحاطة كما قال ابن عباس: لا تحيط به الأبصار وهو يحيط بها. فإن قيل: وما أنكرتم أن يكون معنى «لا تدركه الأبصار» لا
المعنى لا تدركه أبصار الظالمين في الدنيا والآخرة وتدركه أبصار المؤمنين، وقيل: «لا تدركه الأبصار» بالنهاية والإحاطة. فأما الرؤية فنعم، وقيل: لا تدركه الأبصار كإدراكه الخلق، لأن أبصارهم ضعيفة، وقال آخرون: الآية على العموم ولن يدرك الله جلّ ثناؤه بصر أحد في الدنيا والآخرة، ولكن الله جلّ وعزّ يحدث لأوليائه يوم القيامة حاسة سادسة سوى حواسهم الخمس فيرونه بها. والصواب من القول في ذلك عندنا ما تظاهرت به الأخبار عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنكم سترون ربكم فالمؤمنون يرونه والكافرون عند يومئذ محجوبون» «٢». ولأهل هذه المقالة أشياء يلبسون بها فمنهم من يدفع الحديث مكابرة وطعنا على أهل الإسلام، ومنهم من يأتي بأشياء نكره ذكرها. قال محمد بن جرير: وإنما ذكرنا هذا ليعرف من نظر نعني فيه أنهم لا يرجعون من قولهم إلّا إلى ما لبّس عليهم الشيطان مما يسهل على أهل الحق البيان عن فساده، ولا يرجعون في قولهم إلى آية من التنزيل، ولا رواية عن الرسول صحيحة ولا سقيمة، فهم في الظلماء يخبطون وفي العمياء يترددون نعوذ بالله من الحيرة والضلالة. قال أبو جعفر: فأما شرح «تضارون» واختلاف الرواية فيه فنمليه. فيه ثمانية أوجه: يروى «تضارون» بالتخفيف و «تضامون» مخففا، ويجوز تضامّون وتضامّون بضم التاء وتشديد الميم والراء، ويجوز تضامّون على أن الأصل تتضامّون حذفت التاء كما قال جلّ وعزّ وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران: ١٠٣]، ويجوز تضّامّون تدغم التاء في الضاد، ويجوز تضارّون على حذف التاء، ويجوز تضّارّون على إدغام التاء في الضاد والذي رواه المتقنون مخفّف تضامون وتضارون. سمعت أبا إسحاق يقول: معناه لا ينالكم ضيم ولا ضير في رؤيته أي ترونه حتى تستووا في الرؤية فلا يضيم بعضكم بعضا، ولا يضير بعضكم بعضا وقال أهل اللغة قولين آخرين قالوا: لا تضارّون بتشديد الراء، ولا تضامّون بتشديد الميم مع ضم التاء، وقال بعضهم: بفتح التاء وتشديد الراء والميم على معنى تتضامّون وتتضارّون، ومعنى هذا أنه لا يضار بعضكم بعضا أي لا يخالف بعضكم بعضا في ذلك. يقال ضاررت فلانا أضارّه مضارّة وضرارا إذا خالفته. ومعنى لا تضامّون في رؤيته أنه لا يضمّ بعضكم إلى بعض فيقول واحد للآخر أرنيه كما يفعلون عند النظر إلى الهلال.
(٢) انظر تفسير الطبري ٧/ ٣٠٢.
[سورة القيامة (٧٥) : آية ٢٤]
وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (٢٤)
مبتدأ وخبره.
[سورة القيامة (٧٥) : آية ٢٥]
تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (٢٥)
ولا يجوز رفع يفعل وجاز في وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ [المائدة: ٧١] لأن «لا» عوض، والفاقرة الداهية والأمر العظيم.
[سورة القيامة (٧٥) : الآيات ٢٦ الى ٢٧]
كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (٢٦) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (٢٧)
كَلَّا تكون بمعنى حقا، وتكون مبتدأ على هذا هاهنا. وزعم محمد بن جرير «١» أن التمام هنا «كلا» وأن المعنى ليس الأمر كما يقول المشركون من أنهم لا يجازون على شركهم ومعصيتهم إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ يكون العامل في إذا «باسرة» أو «بلغت» فإذا كان العامل فيها «بلغت» كان الجواب فيما بعد وحذفت الياء من مَنْ راقٍ
«٢» لسكونها وسكون التنوين وأثبتت في التراقي لأنه لا تنوين فيه.
[سورة القيامة (٧٥) : آية ٣٠]
إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (٣٠)
في موضع جواب إذا.
[سورة القيامة (٧٥) : الآيات ٣١ الى ٣٢]
فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (٣١) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٣٢)
فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى لا هاهنا نفي، وليست بعاطفة، ولا يجوز عند النحويين:
ضربت زيدا لا ضربت عمرا، والعلّة في ذلك أنه كره أن يشبه الثاني الدعاء. وفي الآية المعنى لم يصدّق ولم يصلّ يدل على هذا وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى.
[سورة القيامة (٧٥) : آية ٣٣]
ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (٣٣)
أي ذهب معرضا عن طاعة الله جلّ وعزّ متهاونا بالموعظة ويَتَمَطَّى في موضع نصب على الحال.
(٢) انظر البحر المحيط ٨/ ٣٨١.
[سورة القيامة (٧٥) : الآيات ٣٤ الى ٣٥]
أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٤) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٥)يقال لمن وقع في هلكة أو قاربها.
[سورة القيامة (٧٥) : آية ٣٦]
أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (٣٦)
في موضع نصب أيضا على الحال، وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس أن معنى «أن يترك سدّى» يقول مهملا.
[سورة القيامة (٧٥) : آية ٣٧]
أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (٣٧)
على تذكير المني، وهو أقرب إليه و «تمنى» «١» للنطفة.
[سورة القيامة (٧٥) : آية ٣٨]
ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨)
أي فخلقه الله جلّ وعزّ فسوّاه بشرا ناطقا سميعا بصيرا.
[سورة القيامة (٧٥) : آية ٣٩]
فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣٩)
قيل: المعنى فجعل من الإنسان أولادا ذكورا وإناثا، الذكر والأنثى على البدل من الزوجين.
[سورة القيامة (٧٥) : آية ٤٠]
أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (٤٠)
فدلّ جلّ وعزّ دلالة بيّنة أنّ إحياءه إيّاه بعد الموت ليس بأكثر من خلقه إياه من نطفة ثم سوّاه إنسانا إلى أن ولد له، وأجاز الفراء «٢» عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بقلب حركة الياء الأولى على الحاء ويدغم الياء في الياء. وهذا خطأ عند الخليل وسيبويه «٣» والعلّة في ذلك، وهو معنى كلام أبي إسحاق أنك إذا قلت: «يحيي» لم يجز الإدغام بإجماع النحويين لئلا يلتقي ساكنان فإذا قلت: أن يحيي لم يجز الإدغام أيضا لأن الياء وإن كانت قد تحركت فحركتها عارضة وأيضا فكيف يجوز أن يكون حرف واحد يدغم في موضع لعامل دخل عليه غير ملازم، ولا يجوز أن يدغم وهو في موضع رفع، والرفع الأصل.
(٢) انظر معاني الفراء ٣/ ٢١٣. [.....]
(٣) انظر الكتاب ٤/ ٥٤٠.