تفسير سورة سورة القيامة من كتاب مفاتيح الغيب
المعروف بـتفسير الرازي
.
لمؤلفه
فخر الدين الرازي
.
المتوفي سنة 606 هـ
سورة القيامة
ﰡ
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة القيامةأربعون آية مكية
[سورة القيامة (٧٥) : الآيات ١ الى ٢]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (١) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (٢)فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُفَسِّرُونَ ذَكَرُوا فِي لَفْظَةِ (لَا) فِي قَوْلِهِ: لَا أُقْسِمُ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا صِلَةٌ زَائِدَةٌ وَالْمَعْنَى أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَنَظِيرُهُ لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ [الْحَدِيدِ: ٢٩] وقوله: ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ [الأعراف: ١٢] فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ [آلِ عِمْرَانَ: ١٥٩] وَهَذَا الْقَوْلُ عِنْدِي ضَعِيفٌ مِنْ وُجُوهٍ:
أَوَّلُهَا: أَنَّ تَجْوِيزَ هَذَا يُفْضِي إِلَى الطَّعْنِ فِي الْقُرْآنِ، لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَجُوزُ جَعْلُ النَّفْيِ إِثْبَاتًا وَالْإِثْبَاتِ نَفْيًا وَتَجْوِيزُهُ يُفْضِي إِلَى أَنْ لَا يَبْقَى الِاعْتِمَادُ عَلَى إِثْبَاتِهِ وَلَا عَلَى نَفْيِهِ وَثَانِيهَا: أَنَّ هَذَا الْحَرْفَ إِنَّمَا يُزَادُ فِي وَسَطِ الْكَلَامِ لَا فِي أَوَّلِهِ، فَإِنْ قيل: [فال] كلام عَلَيْهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا إِنَّمَا تُزَادُ فِي وَسَطِ الْكَلَامِ، أَلَا تَرَى إِلَى امْرِئِ الْقَيْسِ كَيْفَ زَادَهَا فِي مُسْتَهَلِّ قَصِيدَتِهِ وَهِيَ قَوْلُهُ:
لَا وَأَبِيكِ ابْنَةَ الْعَامِرِيِّ | لَا يَدَّعِي الْقَوْمُ أَنِّي أَفِرُّ |
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يُقْسِمُ كَانَ الْبِرُّ بِتَرْكِ الْقَسَمِ، وَالْحِنْثُ بِفِعْلِ الْقَسَمِ، فَظَهَرَ أَنَّ الْبَيْتَ الْمَذْكُورَ، لَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ الْقُرْآنَ كَالسُّورَةِ الْوَاحِدَةِ فِي عَدَمِ التناقض، فإما في أَنْ يُقْرَنَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا قُرِنَ بِالْآيَةِ الْأُخْرَى فَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّهُ يُلْزِمُ جَوَازَ أَنْ يُقْرَنَ بِكُلِّ إِثْبَاتٍ حَرْفُ النَّفْيِ فِي سَائِرِ الْآيَاتِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي انْقِلَابَ كُلِّ إِثْبَاتٍ نَفْيًا وَانْقِلَابَ كُلِّ نَفْيٍ إِثْبَاتًا، وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِنَا: لَا صلة أنه لَغْوٌ بَاطِلٌ، يَجِبُ طَرْحُهُ وَإِسْقَاطُهُ حَتَّى يَنْتَظِمَ الْكَلَامُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ وَصْفَ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى بِذَلِكَ/ لَا يَجُوزُ الْقَوْلُ الثَّانِي:
719
لِلْمُفَسِّرِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، مَا نُقِلَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَرَأَ، لَأُقْسِمُ عَلَى أَنَّ اللَّامَ لِلِابْتِدَاءِ، وَأُقْسِمُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، مَعْنَاهُ لَأَنَا أُقْسِمُ وَيُعَضِّدُهُ أَنَّهُ فِي مُصْحَفِ عُثْمَانَ بِغَيْرِ أَلِفٍ وَاتَّفَقُوا فِي قَوْلِهِ، وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ عَلَى لَا أُقْسِمُ، قَالَ الْحَسَنُ مَعْنَى الْآيَةِ أَنِّي أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ لِشَرَفِهَا، وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ لِخَسَاسَتِهَا، وَطَعَنَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَقَالَ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ هَذَا لَقَالَ: لَأُقْسِمَنَّ لِأَنَّ الْعَرَبَ لَا تَقُولُ: لَأَفْعَلُ كَذَا، وَإِنَّمَا يَقُولُونَ:
لَأَفْعَلَنَّ كَذَا، إِلَّا أَنَّ الْوَاحِدِيَّ حَكَى جَوَازَ ذَلِكَ عَنْ سِيبَوَيْهِ وَالْفَرَّاءِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ أَيْضًا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ شَاذَّةٌ، فَهَبْ أَنَّ هَذَا الشَّاذَّ اسْتَمَرَّ، فَمَا الْوَجْهُ فِي الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ؟ وَلَا يُمْكِنُ دَفْعُهَا وَإِلَّا لَكَانَ ذَلِكَ قَدْحًا فِيمَا ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ، وَأَيْضًا فَلَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارِ قَسَمٍ آخَرَ لِتَكُونَ هَذِهِ اللَّامُ جَوَابًا عَنْهُ، فَيَصِيرُ التَّقْدِيرُ:
وَاللَّهِ لَأُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ قَسَمًا عَلَى قَسَمٍ، وَإِنَّهُ رَكِيكٌ وَلِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى التَّسَلْسُلِ الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أن لفظة لا وردت للنفي، ثم هاهنا احْتِمَالَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا وَرَدَتْ نَفْيًا لِكَلَامٍ ذُكِرَ قَبْلَ الْقَسَمِ، كَأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا الْبَعْثَ فَقِيلَ: لَا لَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ، ثُمَّ قِيلَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَهَذَا أَيْضًا فِيهِ إِشْكَالٌ، لِأَنَّ إِعَادَةَ حَرْفِ النَّفْيِ مَرَّةً أُخْرَى فِي قَوْلِهِ: وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ مَا ذَكَرُوهُ تَقْدَحُ فِي فَصَاحَةِ الْكَلَامِ.
الاحتمال الثاني: أن لا هاهنا لِنَفْيِ الْقَسَمِ كَأَنَّهُ قَالَ: لَا أُقْسِمُ عَلَيْكُمْ بِذَلِكَ الْيَوْمِ وَتِلْكَ النَّفْسِ وَلَكِنِّي أَسْأَلُكَ غَيْرَ مُقْسِمٍ أَتَحْسَبُ أَنَّا لَا نَجْمَعُ عِظَامَكَ إِذَا تَفَرَّقَتْ بِالْمَوْتِ فَإِنْ كُنْتَ تَحْسَبُ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّا قَادِرُونَ عَلَى أَنْ نَفْعَلَ ذَلِكَ، وَهَذَا الْقَوْلُ اخْتِيَارُ أَبِي مُسْلِمٍ وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَيُمْكِنُ تَقْدِيرُ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى وُجُوهٍ أُخَرَ أَحَدُهَا: كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: لَا أُقْسِمُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَلَى إِثْبَاتِ هَذَا الْمَطْلُوبِ فَإِنَّ هَذَا الْمَطْلُوبَ أَعْظَمُ وَأَجَلُّ مِنْ أَنْ يُقْسَمَ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَيَكُونُ الْغَرَضُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ تَعْظِيمَ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ وَتَفْخِيمَ شَأْنِهِ وَثَانِيهَا: كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: لَا أُقْسِمُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَلَى إِثْبَاتِ هَذَا الْمَطْلُوبِ، فَإِنَّ إِثْبَاتَهُ أَظْهَرُ وَأَجْلَى وَأَقْوَى وَأَحْرَى، مِنْ أَنْ يُحَاوِلَ إِثْبَاتَهُ بِمِثْلِ هَذَا الْقَسَمِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ [القيامة: ٣] أَيْ كَيْفَ خَطَرَ بِبَالِهِ هَذَا الْخَاطِرُ الْفَاسِدُ مَعَ ظُهُورِ فَسَادِهِ وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْغَرَضُ مِنْهُ الِاسْتِفْهَامَ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ وَالتَّقْدِيرُ أَلَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ. أَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ عَلَى أَنَّ الْحَشْرَ وَالنَّشْرَ حَقٌّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي النَّفْسِ اللَّوَّامَةِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ كُلَّ نَفْسٍ فَإِنَّهَا تَلُومُ نَفْسَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ بَرَّةً أَوْ فاجرة، أما البرة فلأجل أنها لم لَمْ تَزِدْ عَلَى طَاعَتِهَا، وَأَمَّا الْفَاجِرَةُ فَلِأَجْلِ أَنَّهَا لِمَ لَمْ تَشْتَغِلْ بِالتَّقْوَى، وَطَعَنَ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا الْوَجْهِ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ مَنْ يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَلُومَ نَفْسَهُ عَلَى تَرْكِ الزِّيَادَةِ، لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ مِنْهُ لَوْمُ نَفْسِهِ عَلَى ذَلِكَ لَجَازَ مِنْ غَيْرِهِ أَنْ يَلُومَهَا عَلَيْهِ الثَّانِي: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِنَّمَا يَلُومُ نَفْسَهُ عِنْدَ الضَّجَارَةِ وَضِيقِ الْقَلْبِ، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ حَالَ كَوْنِهِمْ فِي الْجَنَّةِ، وَلِأَنَّ الْمُكَلَّفَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا مِقْدَارَ مِنَ/ الطَّاعَةِ إِلَّا وَيُمْكِنُ الْإِتْيَانُ بِمَا هُوَ أَزْيَدُ مِنْهُ، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُوجِبًا لِلَّوْمِ لَامْتَنَعَ الِانْفِكَاكُ عَنْهُ وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ مَطْلُوبَ الْحُصُولِ، وَلَا يُلَامُ عَلَى تَرْكِ تَحْصِيلِهِ وَالْجَوَابُ: عَنِ الْكُلِّ أَنْ يُحْمَلَ اللَّوْمُ عَلَى تَمَنِّي الزِّيَادَةِ، وَحِينَئِذٍ تَسْقُطُ هَذِهِ الْأَسْئِلَةُ وَثَانِيهَا: أَنَّ النَّفْسَ اللَّوَّامَةَ هِيَ النُّفُوسُ الْمُتَّقِيَةُ الَّتِي تَلُومُ النَّفْسَ الْعَاصِيَةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِسَبَبِ أَنَّهَا تَرَكَتِ التَّقْوَى.
ثَالِثُهَا: أَنَّهَا هِيَ النُّفُوسُ الشَّرِيفَةُ الَّتِي لَا تَزَالُ تَلُومُ نَفْسَهَا وَإِنِ اجْتَهَدَتْ فِي الطَّاعَةِ، وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا تَرَاهُ إِلَّا لَائِمًا نَفْسَهُ، وَأَمَّا الْجَاهِلُ فَإِنَّهُ يَكُونُ رَاضِيًا بِمَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْأَحْوَالِ الْخَسِيسَةِ وَرَابِعُهَا: أَنَّهَا
لَأَفْعَلَنَّ كَذَا، إِلَّا أَنَّ الْوَاحِدِيَّ حَكَى جَوَازَ ذَلِكَ عَنْ سِيبَوَيْهِ وَالْفَرَّاءِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ أَيْضًا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ شَاذَّةٌ، فَهَبْ أَنَّ هَذَا الشَّاذَّ اسْتَمَرَّ، فَمَا الْوَجْهُ فِي الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ؟ وَلَا يُمْكِنُ دَفْعُهَا وَإِلَّا لَكَانَ ذَلِكَ قَدْحًا فِيمَا ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ، وَأَيْضًا فَلَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارِ قَسَمٍ آخَرَ لِتَكُونَ هَذِهِ اللَّامُ جَوَابًا عَنْهُ، فَيَصِيرُ التَّقْدِيرُ:
وَاللَّهِ لَأُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ قَسَمًا عَلَى قَسَمٍ، وَإِنَّهُ رَكِيكٌ وَلِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى التَّسَلْسُلِ الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أن لفظة لا وردت للنفي، ثم هاهنا احْتِمَالَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا وَرَدَتْ نَفْيًا لِكَلَامٍ ذُكِرَ قَبْلَ الْقَسَمِ، كَأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا الْبَعْثَ فَقِيلَ: لَا لَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ، ثُمَّ قِيلَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَهَذَا أَيْضًا فِيهِ إِشْكَالٌ، لِأَنَّ إِعَادَةَ حَرْفِ النَّفْيِ مَرَّةً أُخْرَى فِي قَوْلِهِ: وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ مَا ذَكَرُوهُ تَقْدَحُ فِي فَصَاحَةِ الْكَلَامِ.
الاحتمال الثاني: أن لا هاهنا لِنَفْيِ الْقَسَمِ كَأَنَّهُ قَالَ: لَا أُقْسِمُ عَلَيْكُمْ بِذَلِكَ الْيَوْمِ وَتِلْكَ النَّفْسِ وَلَكِنِّي أَسْأَلُكَ غَيْرَ مُقْسِمٍ أَتَحْسَبُ أَنَّا لَا نَجْمَعُ عِظَامَكَ إِذَا تَفَرَّقَتْ بِالْمَوْتِ فَإِنْ كُنْتَ تَحْسَبُ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّا قَادِرُونَ عَلَى أَنْ نَفْعَلَ ذَلِكَ، وَهَذَا الْقَوْلُ اخْتِيَارُ أَبِي مُسْلِمٍ وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَيُمْكِنُ تَقْدِيرُ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى وُجُوهٍ أُخَرَ أَحَدُهَا: كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: لَا أُقْسِمُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَلَى إِثْبَاتِ هَذَا الْمَطْلُوبِ فَإِنَّ هَذَا الْمَطْلُوبَ أَعْظَمُ وَأَجَلُّ مِنْ أَنْ يُقْسَمَ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَيَكُونُ الْغَرَضُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ تَعْظِيمَ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ وَتَفْخِيمَ شَأْنِهِ وَثَانِيهَا: كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: لَا أُقْسِمُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَلَى إِثْبَاتِ هَذَا الْمَطْلُوبِ، فَإِنَّ إِثْبَاتَهُ أَظْهَرُ وَأَجْلَى وَأَقْوَى وَأَحْرَى، مِنْ أَنْ يُحَاوِلَ إِثْبَاتَهُ بِمِثْلِ هَذَا الْقَسَمِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ [القيامة: ٣] أَيْ كَيْفَ خَطَرَ بِبَالِهِ هَذَا الْخَاطِرُ الْفَاسِدُ مَعَ ظُهُورِ فَسَادِهِ وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْغَرَضُ مِنْهُ الِاسْتِفْهَامَ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ وَالتَّقْدِيرُ أَلَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ. أَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ عَلَى أَنَّ الْحَشْرَ وَالنَّشْرَ حَقٌّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي النَّفْسِ اللَّوَّامَةِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ كُلَّ نَفْسٍ فَإِنَّهَا تَلُومُ نَفْسَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ بَرَّةً أَوْ فاجرة، أما البرة فلأجل أنها لم لَمْ تَزِدْ عَلَى طَاعَتِهَا، وَأَمَّا الْفَاجِرَةُ فَلِأَجْلِ أَنَّهَا لِمَ لَمْ تَشْتَغِلْ بِالتَّقْوَى، وَطَعَنَ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا الْوَجْهِ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ مَنْ يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَلُومَ نَفْسَهُ عَلَى تَرْكِ الزِّيَادَةِ، لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ مِنْهُ لَوْمُ نَفْسِهِ عَلَى ذَلِكَ لَجَازَ مِنْ غَيْرِهِ أَنْ يَلُومَهَا عَلَيْهِ الثَّانِي: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِنَّمَا يَلُومُ نَفْسَهُ عِنْدَ الضَّجَارَةِ وَضِيقِ الْقَلْبِ، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ حَالَ كَوْنِهِمْ فِي الْجَنَّةِ، وَلِأَنَّ الْمُكَلَّفَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا مِقْدَارَ مِنَ/ الطَّاعَةِ إِلَّا وَيُمْكِنُ الْإِتْيَانُ بِمَا هُوَ أَزْيَدُ مِنْهُ، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُوجِبًا لِلَّوْمِ لَامْتَنَعَ الِانْفِكَاكُ عَنْهُ وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ مَطْلُوبَ الْحُصُولِ، وَلَا يُلَامُ عَلَى تَرْكِ تَحْصِيلِهِ وَالْجَوَابُ: عَنِ الْكُلِّ أَنْ يُحْمَلَ اللَّوْمُ عَلَى تَمَنِّي الزِّيَادَةِ، وَحِينَئِذٍ تَسْقُطُ هَذِهِ الْأَسْئِلَةُ وَثَانِيهَا: أَنَّ النَّفْسَ اللَّوَّامَةَ هِيَ النُّفُوسُ الْمُتَّقِيَةُ الَّتِي تَلُومُ النَّفْسَ الْعَاصِيَةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِسَبَبِ أَنَّهَا تَرَكَتِ التَّقْوَى.
ثَالِثُهَا: أَنَّهَا هِيَ النُّفُوسُ الشَّرِيفَةُ الَّتِي لَا تَزَالُ تَلُومُ نَفْسَهَا وَإِنِ اجْتَهَدَتْ فِي الطَّاعَةِ، وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا تَرَاهُ إِلَّا لَائِمًا نَفْسَهُ، وَأَمَّا الْجَاهِلُ فَإِنَّهُ يَكُونُ رَاضِيًا بِمَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْأَحْوَالِ الْخَسِيسَةِ وَرَابِعُهَا: أَنَّهَا
720
نَفْسُ آدَمَ لَمْ تَزَلْ تَلُومُ عَلَى فِعْلِهَا الَّذِي خَرَجَتْ بِهِ مِنَ الْجَنَّةِ وَخَامِسُهَا: الْمُرَادُ نُفُوسُ الْأَشْقِيَاءِ حِينَ شَاهَدَتْ أَحْوَالَ الْقِيَامَةِ وَأَهْوَالَهَا، فَإِنَّهَا تَلُومُ نَفْسَهَا عَلَى مَا صَدَرَ عَنْهَا مِنَ الْمَعَاصِي، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى مَا فَرَّطْتُ [الزُّمَرِ: ٥٦] وَسَادِسُهَا: أَنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ مَلُولًا، فَأَيَّ شَيْءٍ طَلَبَهُ إِذَا وَجَدَهُ مَلَّهُ، فَحِينَئِذٍ يَلُومُ نَفْسَهُ عَلَى أَنِّي لِمَ طَلَبْتُهُ، فَلِكَثْرَةِ هَذَا الْعَمَلِ سُمِّيَ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً [الْمَعَارِجِ: ١٩- ٢١] وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ (لَوَّامَةِ) يُنْبِئُ عَنِ التَّكْرَارِ وَالْإِعَادَةِ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي لَوَّامٍ وَعَذَّابٍ وَضَرَّارٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ إِشْكَالَاتٍ أَحَدُهَا: مَا الْمُنَاسِبَةُ بَيْنَ الْقِيَامَةِ وَبَيْنَ النَّفْسِ اللَّوَّامَةِ، حَتَّى جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا فِي الْقَسَمِ؟ وَثَانِيهَا: الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ، هُوَ وُقُوعُ الْقِيَامَةِ فَيَصِيرُ حَاصِلُهُ أَنَّهُ تَعَالَى أَقْسَمَ بِوُقُوعِ الْقِيَامَةِ وَثَالِثُهَا: لِمَ قَالَ: لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ وَلَمْ يَقُلْ: وَالْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ فِي سَائِرِ السُّوَرِ، وَالطَّوْرِ وَالذَّارِيَاتِ وَالضُّحَى؟ وَالْجَوَابُ: عَنِ الْأَوَّلِ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ أَحْوَالَ الْقِيَامَةِ عَجِيبَةٌ جِدًّا، ثُمَّ الْمَقْصُودُ مِنْ إِقَامَةِ الْقِيَامَةِ إِظْهَارُ أَحْوَالِ النُّفُوسِ اللَّوَّامَةِ. أَعْنِي سَعَادَتَهَا وَشَقَاوَتَهَا، فَقَدْ حَصَلَ بَيْنَ الْقِيَامَةِ وَالنُّفُوسِ اللَّوَّامَةِ هَذِهِ المناسبة الشدية وَثَانِيهَا: أَنَّ الْقَسَمَ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى عَجَائِبِ أَحْوَالِ النَّفْسِ عَلَى مَا
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ فَقَدْ عَرَفَ رَبَّهُ»
وَمِنْ أَحْوَالِهَا الْعَجِيبَةِ، قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذَّارِيَاتِ: ٥٦] وَقَوْلُهُ: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ إِلَى قَوْلِهِ وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ [الْأَحْزَابِ: ٧٢] وَقَالَ قَائِلُونَ:
الْقَسَمُ وَقَعَ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ عَلَى مَعْنَى التَّعْظِيمِ لَهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا أَبَدًا تَسْتَحْقِرُ فِعْلَهَا وَجِدَّهَا وَاجْتِهَادَهَا فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ تَعَالَى أَقْسَمَ بِالْقِيَامَةِ، وَلَمْ يُقْسِمْ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ، وَهَذَا عَلَى الْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ الَّتِي رَوَيْنَاهَا عَنِ الْحَسَنِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ تَعْظِيمًا لَهَا، وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ تَحْقِيرًا لَهَا، لِأَنَّ النَّفْسَ اللَّوَّامَةَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ كَافِرَةً بِالْقِيَامَةِ مَعَ عِظَمِ أَمْرِهَا، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ فَاسِقَةً مُقَصِّرَةً فِي الْعَمَلِ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَإِنَّهَا تَكُونُ مُسْتَحْقِرَةً.
وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّانِي: فَالْجَوَابُ عَنْهُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُحَقِّقِينَ قَالُوا: الْقَسَمُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ قَسَمٌ بِرَبِّهَا وَخَالِقِهَا فِي الْحَقِيقَةِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: أُقْسِمُ بِرَبِّ الْقِيَامَةِ عَلَى وُقُوعِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّالِثُ: فَجَوَابُهُ أَنَّهُ حَيْثُ أَقْسَمَ قَالَ: وَالطُّورِ [الطور: ١] وَالذَّارِياتِ [الذاريات:
١] وأما هاهنا فَإِنَّهُ نَفَى كَوْنَهُ تَعَالَى مُقْسِمًا بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ، فزال السؤال والله تعالى أعلم.
[سورة القيامة (٧٥) : الآيات ٣ الى ٤]
أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (٣) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (٤)
فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي جَوَابِ الْقَسَمِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ مَحْذُوفٌ عَلَى تَقْدِيرِ لَيُبْعَثَنَّ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ، وَثَانِيهَا: قَالَ الْحَسَنُ: وَقَعَ الْقَسَمُ عَلَى قَوْلِهِ: بَلى قادِرِينَ، وَثَالِثُهَا: وَهُوَ أَقْرَبُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِقَسَمٍ بَلْ هُوَ نَفْيٌ لِلْقَسَمِ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى الْجَوَابِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ:
لَا أُقْسِمُ بِكَذَا وَكَذَا عَلَى شَيْءٍ، وَلَكِنِّي أَسْأَلُكَ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ إِشْكَالَاتٍ أَحَدُهَا: مَا الْمُنَاسِبَةُ بَيْنَ الْقِيَامَةِ وَبَيْنَ النَّفْسِ اللَّوَّامَةِ، حَتَّى جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا فِي الْقَسَمِ؟ وَثَانِيهَا: الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ، هُوَ وُقُوعُ الْقِيَامَةِ فَيَصِيرُ حَاصِلُهُ أَنَّهُ تَعَالَى أَقْسَمَ بِوُقُوعِ الْقِيَامَةِ وَثَالِثُهَا: لِمَ قَالَ: لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ وَلَمْ يَقُلْ: وَالْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ فِي سَائِرِ السُّوَرِ، وَالطَّوْرِ وَالذَّارِيَاتِ وَالضُّحَى؟ وَالْجَوَابُ: عَنِ الْأَوَّلِ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ أَحْوَالَ الْقِيَامَةِ عَجِيبَةٌ جِدًّا، ثُمَّ الْمَقْصُودُ مِنْ إِقَامَةِ الْقِيَامَةِ إِظْهَارُ أَحْوَالِ النُّفُوسِ اللَّوَّامَةِ. أَعْنِي سَعَادَتَهَا وَشَقَاوَتَهَا، فَقَدْ حَصَلَ بَيْنَ الْقِيَامَةِ وَالنُّفُوسِ اللَّوَّامَةِ هَذِهِ المناسبة الشدية وَثَانِيهَا: أَنَّ الْقَسَمَ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى عَجَائِبِ أَحْوَالِ النَّفْسِ عَلَى مَا
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ فَقَدْ عَرَفَ رَبَّهُ»
وَمِنْ أَحْوَالِهَا الْعَجِيبَةِ، قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذَّارِيَاتِ: ٥٦] وَقَوْلُهُ: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ إِلَى قَوْلِهِ وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ [الْأَحْزَابِ: ٧٢] وَقَالَ قَائِلُونَ:
الْقَسَمُ وَقَعَ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ عَلَى مَعْنَى التَّعْظِيمِ لَهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا أَبَدًا تَسْتَحْقِرُ فِعْلَهَا وَجِدَّهَا وَاجْتِهَادَهَا فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ تَعَالَى أَقْسَمَ بِالْقِيَامَةِ، وَلَمْ يُقْسِمْ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ، وَهَذَا عَلَى الْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ الَّتِي رَوَيْنَاهَا عَنِ الْحَسَنِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ تَعْظِيمًا لَهَا، وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ تَحْقِيرًا لَهَا، لِأَنَّ النَّفْسَ اللَّوَّامَةَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ كَافِرَةً بِالْقِيَامَةِ مَعَ عِظَمِ أَمْرِهَا، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ فَاسِقَةً مُقَصِّرَةً فِي الْعَمَلِ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَإِنَّهَا تَكُونُ مُسْتَحْقِرَةً.
وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّانِي: فَالْجَوَابُ عَنْهُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُحَقِّقِينَ قَالُوا: الْقَسَمُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ قَسَمٌ بِرَبِّهَا وَخَالِقِهَا فِي الْحَقِيقَةِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: أُقْسِمُ بِرَبِّ الْقِيَامَةِ عَلَى وُقُوعِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّالِثُ: فَجَوَابُهُ أَنَّهُ حَيْثُ أَقْسَمَ قَالَ: وَالطُّورِ [الطور: ١] وَالذَّارِياتِ [الذاريات:
١] وأما هاهنا فَإِنَّهُ نَفَى كَوْنَهُ تَعَالَى مُقْسِمًا بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ، فزال السؤال والله تعالى أعلم.
[سورة القيامة (٧٥) : الآيات ٣ الى ٤]
أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (٣) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (٤)
فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي جَوَابِ الْقَسَمِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ مَحْذُوفٌ عَلَى تَقْدِيرِ لَيُبْعَثَنَّ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ، وَثَانِيهَا: قَالَ الْحَسَنُ: وَقَعَ الْقَسَمُ عَلَى قَوْلِهِ: بَلى قادِرِينَ، وَثَالِثُهَا: وَهُوَ أَقْرَبُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِقَسَمٍ بَلْ هُوَ نَفْيٌ لِلْقَسَمِ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى الْجَوَابِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ:
لَا أُقْسِمُ بِكَذَا وَكَذَا عَلَى شَيْءٍ، وَلَكِنِّي أَسْأَلُكَ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمَشْهُورُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْإِنْسَانِ إِنْسَانٌ مُعَيَّنٌ،
رُوِيَ أَنَّ عَدِيَّ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ خَتَنَ الْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ، وَهُمَا اللَّذَانِ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِيهِمَا: «اللَّهُمَّ اكْفِنِي شَرَّ جَارَيِ السُّوءِ» قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مُحَمَّدُ حَدِّثْنِي عَنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَتَى يَكُونُ وَكَيْفَ أَمْرُهُ؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: لَوْ عَايَنْتُ ذَلِكَ الْيَوْمَ لَمْ أُصَدِّقْكَ يَا مُحَمَّدُ وَلَمْ أُؤْمِنْ بِكَ كَيْفَ يَجْمَعُ اللَّهُ الْعِظَامَ؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآية،
وقال ابن عباس: يريد الإنسان هاهنا أَبَا جَهْلٍ، وَقَالَ جَمْعٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ: بَلِ الْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ الْمُكَذِّبُ بِالْبَعْثِ عَلَى الْإِطْلَاقِ.
الْمَسْأَلَةُ الثالثة: قرأ قتادة: أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْكَافِرَ ظَنَّ أَنَّ الْعِظَامَ بَعْدَ تَفَرُّقِهَا وَصَيْرُورَتِهَا تُرَابًا واختلاط تلك الأجزاء بغيرها وبعد ما نَسَفَتْهَا الرِّيَاحُ وَطَيَّرَتْهَا فِي أَبَاعِدِ الْأَرْضِ لَا يُمْكِنُ جَمْعُهَا مَرَّةً أُخْرَى وَقَالَ تَعَالَى فِي جَوَابِهِ: بَلى فَهَذِهِ الْكَلِمَةُ أَوْجَبَتْ مَا بَعْدَ النَّفْيِ وَهُوَ الْجَمْعُ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: بَلْ يَجْمَعُهَا، وَفِي قَوْلِهِ: قادِرِينَ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي نَجْمَعُ أَيْ نَجْمَعُ الْعِظَامَ قَادِرِينَ عَلَى تَأْلِيفِهَا جَمِيعِهَا وَإِعَادَتِهَا إِلَى التَّرْكِيبِ الْأَوَّلِ وَهَذَا الْوَجْهُ عِنْدِي فِيهِ إِشْكَالٌ وَهُوَ أَنَّ الْحَالَ إِنَّمَا يَحْسُنُ ذِكْرُهُ إِذَا أَمْكَنَ وُقُوعُ ذَلِكَ الْأَمْرِ لَا عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ تَقُولُ: رَأَيْتُ زَيْدًا رَاكِبًا لِأَنَّهُ يمكن أن نرى زيد غير راكب، وهاهنا كَوْنُهُ تَعَالَى جَامِعًا لِلْعِظَامِ يَسْتَحِيلُ وُقُوعُهُ إِلَّا مَعَ كَوْنِهِ قَادِرًا، فَكَانَ جَعْلُهُ حَالًا جَارِيًا مَجْرَى بَيَانِ الْوَاضِحَاتِ، وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ وَالثَّانِي: أَنَّ تَقْدِيرَ الْآيَةِ كُنَّا قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ فِي الِابْتِدَاءِ فَوَجَبَ أَنْ نَبْقَى قَادِرِينَ عَلَى تِلْكَ التَّسْوِيَةِ فِي الِانْتِهَاءِ، وَقُرِئَ قَادِرُونَ أَيْ وَنَحْنُ قَادِرُونَ، وَفِي قَوْلِهِ: عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ نَبَّهَ بِالْبَنَانِ عَلَى بَقِيَّةِ الْأَعْضَاءِ، أَيْ نَقْدِرُ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ/ بَعْدَ صَيْرُورَتِهِ تُرَابًا كَمَا كَانَ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى الشَّيْءِ فِي الِابْتِدَاءِ قَدَرَ أَيْضًا عَلَيْهِ فِي الْإِعَادَةِ وَإِنَّمَا خُصَّ الْبَنَانُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ آخِرُ مَا يَتِمُّ خَلْقُهُ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: نَقْدِرُ عَلَى ضَمِّ سُلَامَاتِهِ عَلَى صِغَرِهَا وَلَطَافَتِهَا بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ كَمَا كَانَتْ أَوَّلًا مِنْ غَيْرِ نُقْصَانٍ وَلَا تَفَاوُتٍ، فَكَيْفَ الْقَوْلُ فِي كِبَارِ الْعِظَامِ وَثَانِيهَا: بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ أَيْ نَجْعَلُهَا مَعَ كَفِّهِ صَفِيحَةً مُسْتَوِيَةً لَا شُقُوقَ فِيهَا كَخُفِّ الْبَعِيرِ، فَيُعْدَمُ الِارْتِفَاقُ بِالْأَعْمَالِ اللَّطِيفَةِ كَالْكِتَابَةِ وَالْخِيَاطَةِ وَسَائِرِ الْأَعْمَالِ اللَّطِيفَةِ الَّتِي يُسْتَعَانُ عَلَيْهَا بِالْأَصَابِعِ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ.
[سورة القيامة (٧٥) : آية ٥]
بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (٥)
اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: بَلْ يُرِيدُ عَطْفٌ عَلَى أَيَحْسَبُ فَيَجُوزُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ أَيْضًا اسْتِفْهَامًا كَأَنَّهُ اسْتَفْهَمَ عَنْ شَيْءٍ ثُمَّ اسْتَفْهَمَ عَنْ شَيْءٍ آخَرَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِيجَابًا كَأَنَّهُ اسْتَفْهَمَ أَوَّلًا ثُمَّ أَتَى بِهَذَا الْإِخْبَارِ ثَانِيًا. وَقَوْلُهُ:
لِيَفْجُرَ أَمامَهُ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَيْ لِيَدُومَ عَلَى فُجُورِهِ فِيمَا يَسْتَقْبِلُهُ مِنَ الزَّمَانِ لَا يَنْزِعُ عَنْهُ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: يُقَدِّمُ الذَّنْبَ وَيُؤَخِّرُ التَّوْبَةَ، يَقُولُ: سَوْفَ أَتُوبُ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْمَوْتُ عَلَى شَرِّ أَحْوَالِهِ وَأَسْوَأِ أَعْمَالِهِ الْقَوْلُ الثَّانِي: لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ، أَيْ لِيَكْذِبَ بِمَا أَمَامَهُ مِنَ الْبَعْثِ وَالْحِسَابِ، لِأَنَّ مَنْ كَذَّبَ حَقًّا كان كاذبا وفاجرا، والدليل عليه قوله: يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ [الْقِيَامَةِ: ٦] فَالْمَعْنَى يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ، أَيْ لِيُكَذِّبَ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُوَ أَمَامَهُ، فَهُوَ يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، مَتَى يَكُونُ ذَلِكَ تَكْذِيبًا له. ثم قال تعالى:
[سورة القيامة (٧٥) : آية ٦]
يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (٦)
رُوِيَ أَنَّ عَدِيَّ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ خَتَنَ الْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ، وَهُمَا اللَّذَانِ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِيهِمَا: «اللَّهُمَّ اكْفِنِي شَرَّ جَارَيِ السُّوءِ» قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مُحَمَّدُ حَدِّثْنِي عَنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَتَى يَكُونُ وَكَيْفَ أَمْرُهُ؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: لَوْ عَايَنْتُ ذَلِكَ الْيَوْمَ لَمْ أُصَدِّقْكَ يَا مُحَمَّدُ وَلَمْ أُؤْمِنْ بِكَ كَيْفَ يَجْمَعُ اللَّهُ الْعِظَامَ؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآية،
وقال ابن عباس: يريد الإنسان هاهنا أَبَا جَهْلٍ، وَقَالَ جَمْعٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ: بَلِ الْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ الْمُكَذِّبُ بِالْبَعْثِ عَلَى الْإِطْلَاقِ.
الْمَسْأَلَةُ الثالثة: قرأ قتادة: أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْكَافِرَ ظَنَّ أَنَّ الْعِظَامَ بَعْدَ تَفَرُّقِهَا وَصَيْرُورَتِهَا تُرَابًا واختلاط تلك الأجزاء بغيرها وبعد ما نَسَفَتْهَا الرِّيَاحُ وَطَيَّرَتْهَا فِي أَبَاعِدِ الْأَرْضِ لَا يُمْكِنُ جَمْعُهَا مَرَّةً أُخْرَى وَقَالَ تَعَالَى فِي جَوَابِهِ: بَلى فَهَذِهِ الْكَلِمَةُ أَوْجَبَتْ مَا بَعْدَ النَّفْيِ وَهُوَ الْجَمْعُ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: بَلْ يَجْمَعُهَا، وَفِي قَوْلِهِ: قادِرِينَ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي نَجْمَعُ أَيْ نَجْمَعُ الْعِظَامَ قَادِرِينَ عَلَى تَأْلِيفِهَا جَمِيعِهَا وَإِعَادَتِهَا إِلَى التَّرْكِيبِ الْأَوَّلِ وَهَذَا الْوَجْهُ عِنْدِي فِيهِ إِشْكَالٌ وَهُوَ أَنَّ الْحَالَ إِنَّمَا يَحْسُنُ ذِكْرُهُ إِذَا أَمْكَنَ وُقُوعُ ذَلِكَ الْأَمْرِ لَا عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ تَقُولُ: رَأَيْتُ زَيْدًا رَاكِبًا لِأَنَّهُ يمكن أن نرى زيد غير راكب، وهاهنا كَوْنُهُ تَعَالَى جَامِعًا لِلْعِظَامِ يَسْتَحِيلُ وُقُوعُهُ إِلَّا مَعَ كَوْنِهِ قَادِرًا، فَكَانَ جَعْلُهُ حَالًا جَارِيًا مَجْرَى بَيَانِ الْوَاضِحَاتِ، وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ وَالثَّانِي: أَنَّ تَقْدِيرَ الْآيَةِ كُنَّا قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ فِي الِابْتِدَاءِ فَوَجَبَ أَنْ نَبْقَى قَادِرِينَ عَلَى تِلْكَ التَّسْوِيَةِ فِي الِانْتِهَاءِ، وَقُرِئَ قَادِرُونَ أَيْ وَنَحْنُ قَادِرُونَ، وَفِي قَوْلِهِ: عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ نَبَّهَ بِالْبَنَانِ عَلَى بَقِيَّةِ الْأَعْضَاءِ، أَيْ نَقْدِرُ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ/ بَعْدَ صَيْرُورَتِهِ تُرَابًا كَمَا كَانَ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى الشَّيْءِ فِي الِابْتِدَاءِ قَدَرَ أَيْضًا عَلَيْهِ فِي الْإِعَادَةِ وَإِنَّمَا خُصَّ الْبَنَانُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ آخِرُ مَا يَتِمُّ خَلْقُهُ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: نَقْدِرُ عَلَى ضَمِّ سُلَامَاتِهِ عَلَى صِغَرِهَا وَلَطَافَتِهَا بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ كَمَا كَانَتْ أَوَّلًا مِنْ غَيْرِ نُقْصَانٍ وَلَا تَفَاوُتٍ، فَكَيْفَ الْقَوْلُ فِي كِبَارِ الْعِظَامِ وَثَانِيهَا: بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ أَيْ نَجْعَلُهَا مَعَ كَفِّهِ صَفِيحَةً مُسْتَوِيَةً لَا شُقُوقَ فِيهَا كَخُفِّ الْبَعِيرِ، فَيُعْدَمُ الِارْتِفَاقُ بِالْأَعْمَالِ اللَّطِيفَةِ كَالْكِتَابَةِ وَالْخِيَاطَةِ وَسَائِرِ الْأَعْمَالِ اللَّطِيفَةِ الَّتِي يُسْتَعَانُ عَلَيْهَا بِالْأَصَابِعِ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ.
[سورة القيامة (٧٥) : آية ٥]
بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (٥)
اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: بَلْ يُرِيدُ عَطْفٌ عَلَى أَيَحْسَبُ فَيَجُوزُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ أَيْضًا اسْتِفْهَامًا كَأَنَّهُ اسْتَفْهَمَ عَنْ شَيْءٍ ثُمَّ اسْتَفْهَمَ عَنْ شَيْءٍ آخَرَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِيجَابًا كَأَنَّهُ اسْتَفْهَمَ أَوَّلًا ثُمَّ أَتَى بِهَذَا الْإِخْبَارِ ثَانِيًا. وَقَوْلُهُ:
لِيَفْجُرَ أَمامَهُ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَيْ لِيَدُومَ عَلَى فُجُورِهِ فِيمَا يَسْتَقْبِلُهُ مِنَ الزَّمَانِ لَا يَنْزِعُ عَنْهُ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: يُقَدِّمُ الذَّنْبَ وَيُؤَخِّرُ التَّوْبَةَ، يَقُولُ: سَوْفَ أَتُوبُ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْمَوْتُ عَلَى شَرِّ أَحْوَالِهِ وَأَسْوَأِ أَعْمَالِهِ الْقَوْلُ الثَّانِي: لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ، أَيْ لِيَكْذِبَ بِمَا أَمَامَهُ مِنَ الْبَعْثِ وَالْحِسَابِ، لِأَنَّ مَنْ كَذَّبَ حَقًّا كان كاذبا وفاجرا، والدليل عليه قوله: يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ [الْقِيَامَةِ: ٦] فَالْمَعْنَى يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ، أَيْ لِيُكَذِّبَ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُوَ أَمَامَهُ، فَهُوَ يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، مَتَى يَكُونُ ذَلِكَ تَكْذِيبًا له. ثم قال تعالى:
[سورة القيامة (٧٥) : آية ٦]
يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (٦)
أَيْ يَسْأَلُ سُؤَالَ مُسْتَنْعِتٍ مُسْتَبْعِدٍ لِقِيَامِ السَّاعَةِ، فِي قَوْلِهِ: أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَنَظِيرُهُ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ [يونس: ٤٨] وَاعْلَمْ أَنَّ إِنْكَارَ الْبَعْثِ تَارَةً يَتَوَلَّدُ مِنَ الشُّبْهَةِ وَأُخْرَى مِنَ الشَّهْوَةِ، أَمَّا مِنَ الشُّبْهَةِ فَهُوَ الَّذِي حَكَاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ [القيامة: ٣] وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْإِنْسَانَ هُوَ هَذَا الْبَدَنُ فَإِذَا مَاتَ تَفَرَّقَتْ أَجْزَاءُ الْبَدَنِ وَاخْتَلَطَتْ تِلْكَ الْأَجْزَاءُ بِسَائِرِ أَجْزَاءِ التُّرَابِ وَتَفَرَّقَتْ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا فَكَانَ تَمْيِيزُهَا بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِهَا مُحَالًا فَكَانَ الْبَعْثُ مُحَالًا، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الشُّبْهَةَ سَاقِطَةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْإِنْسَانَ هُوَ هَذَا الْبَدَنُ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ شَيْءٌ مُدَبِّرٌ لِهَذَا الْبَدَنِ فَإِذَا فَسَدَ هَذَا الْبَدَنُ بَقِيَ هُوَ حَيًّا كَمَا كَانَ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ اللَّهُ تَعَالَى قَادِرًا عَلَى أَنْ يَرُدَّهُ إِلَى أَيِّ بَدَنٍ شَاءَ وَأَرَادَ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَسْقُطُ السُّؤَالُ، وَفِي الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى هَذَا لِأَنَّهُ أَقْسَمَ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ، ثُمَّ قَالَ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ وَهُوَ تَصْرِيحٌ بِالْفَرْقِ بَيْنَ النَّفْسِ وَالْبَدَنِ الثَّانِي: إِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْإِنْسَانَ هُوَ هَذَا الْبَدَنُ فَلِمَ قُلْتُمْ: إِنَّهُ بَعْدَ تَفْرِيقِ أَجْزَائِهِ لَا يُمْكِنُ جَمْعُهُ مَرَّةً أُخْرَى وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْجُزْئِيَّاتِ فَيَكُونُ عَالِمًا بِالْجُزْءِ الَّذِي هُوَ بَدَنُ عَمْرٍو، وَهُوَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ وَذَلِكَ التَّرْكِيبُ مِنَ/ الْمُمْكِنَاتِ وَإِلَّا لَمَا وُجِدَ أَوَّلًا، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى تَرْكِيبِهَا.
وَمَتَى ثَبَتَ كَوْنُهُ تَعَالَى عَالِمًا بِجَمِيعِ الْجُزْئِيَّاتِ قَادِرًا عَلَى جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ لَا يَبْقَى فِي الْمَسْأَلَةِ إِشْكَالٌ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ إِنْكَارُ مَنْ أَنْكَرَ الْمَعَادَ بِنَاءً عَلَى الشَّهْوَةِ فَهُوَ الَّذِي حَكَاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ [القيامة: ٥] وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْإِنْسَانَ الَّذِي يَمِيلُ طَبْعُهُ إِلَى الِاسْتِرْسَالِ فِي الشَّهَوَاتِ وَالِاسْتِكْثَارِ مِنَ اللَّذَّاتِ لَا يَكَادُ يُقِرُّ بِالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَبَعْثِ الْأَمْوَاتِ لِئَلَّا تَتَنَغَّصَ عَلَيْهِ اللَّذَّاتُ الْجُسْمَانِيَّةُ فَيَكُونُ أَبَدًا مُنْكِرًا لذلك قائلا على سبيل الهزء والسخرية أيان يوم القيامة.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ عَلَامَاتِ الْقِيَامَةِ فَقَالَ:
[سورة القيامة (٧٥) : الآيات ٧ الى ١٠]
فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (٩) يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (١٠)
[قوله تعالى فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ] وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مِنْ عَلَامَاتِ الْقِيَامَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أُمُورًا ثَلَاثَةً أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ قُرِئَ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَفَتْحِهَا، قَالَ الْأَخْفَشُ: الْمَكْسُورَةُ فِي كَلَامِهِمْ أَكْثَرُ وَالْمَفْتُوحَةُ لُغَةٌ أَيْضًا، قَالَ الزَّجَّاجُ: بَرِقَ بَصَرُهُ بِكَسْرِ الرَّاءِ يَبْرُقُ بَرْقًا إِذَا تَحَيَّرَ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنْ يُكْثِرَ الْإِنْسَانُ مِنَ النَّظَرِ إِلَى لَمَعَانِ الْبَرْقِ، فَيُؤَثِّرُ ذَلِكَ فِي نَاظِرِهِ، ثُمَّ يُسْتَعْمَلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ حَيْرَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ نَظَرٌ إِلَى الْبَرْقِ، كَمَا قَالُوا: قَمِرَ بَصَرُهُ إِذَا فَسَدَ مِنَ النَّظَرِ إِلَى الْقَمَرِ، ثُمَّ اسْتُعِيرَ فِي الْحَيْرَةِ، وَكَذَلِكَ بَعِلَ الرَّجُلُ فِي أَمْرِهِ، أَيْ تَحَيَّرَ وَدَهِشَ، وَأَصْلُهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: بَعَلَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا فَاجَأَهَا زَوْجُهَا، فَنَظَرَتْ إِلَيْهِ وَتَحَيَّرَتْ، وَأَمَّا بَرَقَ بِفَتْحِ الرَّاءِ، فَهُوَ مِنَ الْبَرِيقِ، أَيْ لَمَعَ مِنْ شِدَّةِ شُخُوصِهِ، وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ بلق بمعنى انفتح، وانفتح يُقَالُ: بَلَقَ الْبَابُ وَأَبْلَقْتُهُ وَبَلَقْتُهُ فَتَحْتُهُ.
وَمَتَى ثَبَتَ كَوْنُهُ تَعَالَى عَالِمًا بِجَمِيعِ الْجُزْئِيَّاتِ قَادِرًا عَلَى جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ لَا يَبْقَى فِي الْمَسْأَلَةِ إِشْكَالٌ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ إِنْكَارُ مَنْ أَنْكَرَ الْمَعَادَ بِنَاءً عَلَى الشَّهْوَةِ فَهُوَ الَّذِي حَكَاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ [القيامة: ٥] وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْإِنْسَانَ الَّذِي يَمِيلُ طَبْعُهُ إِلَى الِاسْتِرْسَالِ فِي الشَّهَوَاتِ وَالِاسْتِكْثَارِ مِنَ اللَّذَّاتِ لَا يَكَادُ يُقِرُّ بِالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَبَعْثِ الْأَمْوَاتِ لِئَلَّا تَتَنَغَّصَ عَلَيْهِ اللَّذَّاتُ الْجُسْمَانِيَّةُ فَيَكُونُ أَبَدًا مُنْكِرًا لذلك قائلا على سبيل الهزء والسخرية أيان يوم القيامة.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ عَلَامَاتِ الْقِيَامَةِ فَقَالَ:
[سورة القيامة (٧٥) : الآيات ٧ الى ١٠]
فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (٩) يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (١٠)
[قوله تعالى فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ] وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مِنْ عَلَامَاتِ الْقِيَامَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أُمُورًا ثَلَاثَةً أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ قُرِئَ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَفَتْحِهَا، قَالَ الْأَخْفَشُ: الْمَكْسُورَةُ فِي كَلَامِهِمْ أَكْثَرُ وَالْمَفْتُوحَةُ لُغَةٌ أَيْضًا، قَالَ الزَّجَّاجُ: بَرِقَ بَصَرُهُ بِكَسْرِ الرَّاءِ يَبْرُقُ بَرْقًا إِذَا تَحَيَّرَ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنْ يُكْثِرَ الْإِنْسَانُ مِنَ النَّظَرِ إِلَى لَمَعَانِ الْبَرْقِ، فَيُؤَثِّرُ ذَلِكَ فِي نَاظِرِهِ، ثُمَّ يُسْتَعْمَلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ حَيْرَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ نَظَرٌ إِلَى الْبَرْقِ، كَمَا قَالُوا: قَمِرَ بَصَرُهُ إِذَا فَسَدَ مِنَ النَّظَرِ إِلَى الْقَمَرِ، ثُمَّ اسْتُعِيرَ فِي الْحَيْرَةِ، وَكَذَلِكَ بَعِلَ الرَّجُلُ فِي أَمْرِهِ، أَيْ تَحَيَّرَ وَدَهِشَ، وَأَصْلُهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: بَعَلَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا فَاجَأَهَا زَوْجُهَا، فَنَظَرَتْ إِلَيْهِ وَتَحَيَّرَتْ، وَأَمَّا بَرَقَ بِفَتْحِ الرَّاءِ، فَهُوَ مِنَ الْبَرِيقِ، أَيْ لَمَعَ مِنْ شِدَّةِ شُخُوصِهِ، وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ بلق بمعنى انفتح، وانفتح يُقَالُ: بَلَقَ الْبَابُ وَأَبْلَقْتُهُ وَبَلَقْتُهُ فَتَحْتُهُ.
723
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ مَتَى تَحْصُلُ؟ فَقِيلَ: عِنْدَ الْمَوْتِ، وَقِيلَ: عِنْدَ الْبَعْثِ وَقِيلَ:
عِنْدَ رُؤْيَةِ جَهَنَّمَ، فَمَنْ قَالَ: إِنَّ هَذَا يَكُونُ عِنْدَ الْمَوْتِ، قَالَ: إِنَّ الْبَصَرَ يَبْرُقُ عَلَى مَعْنَى يَشْخَصُ عِنْدَ مُعَايَنَةِ أَسْبَابِ الْمَوْتِ، وَالْمَلَائِكَةِ كَمَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ إِذَا قَرُبَ مَوْتُهُ، وَمَنْ مَالَ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، قَالَ: إِنَّهُمْ إِنَّمَا سَأَلُوهُ عَنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَكِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذِهِ الْحَادِثَةَ عِنْدَ الْمَوْتِ وَالسَّبَبُ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُنْكِرَ لَمَّا قَالَ: أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ [الْقِيَامَةِ: ٦] عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ فَقِيلَ لَهُ: إِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ وَقَرُبَ الْمَوْتُ زَالَتْ عَنْهُ الشُّكُوكُ، وَتَيَقَّنَ حِينَئِذٍ أَنَّ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ مِنْ إِنْكَارِ الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ خَطَأٌ الثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا قَرُبَ مَوْتُهُ وَبَرِقَ بَصَرُهُ تَيَقَّنَ أَنَّ إِنْكَارَ الْبَعْثِ لِأَجْلِ طَلَبِ اللَّذَّاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ كَانَ بَاطِلًا، وَأَمَّا مَنْ قَالَ بِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ قِيَامِ الْقِيَامَةِ، قَالَ: لِأَنَّ السُّؤَالَ إِنَّمَا كَانَ عَنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَقَعَ الْجَوَابُ بِمَا يَكُونُ مِنْ خَوَاصِّهِ/ وَآثَارِهِ، قَالَ تَعَالَى:
إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ [إِبْرَاهِيمَ: ٤١]، وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ خُسُوفِ الْقَمَرِ ذَهَابَ ضَوْئِهِ كَمَا نَعْقِلُهُ مِنْ حَالِهِ إِذَا خَسَفَ فِي الدُّنْيَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ ذَهَابَهُ بِنَفْسِهِ كَقَوْلِهِ: فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ [الْقَصَصِ: ٨١].
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قُرِئَ: وَخَسَفَ الْقَمَرُ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي كَيْفِيَّةِ الْجَمْعِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ [يس: ٤٠] فَإِذَا جَاءَ وَقْتُ الْقِيَامَةِ أَدْرَكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ وَاجْتَمَعَا وَثَانِيهَا: جُمِعَا فِي ذَهَابِ الضَّوْءِ، فَهُوَ كَمَا يُقَالُ: الشَّافِعِيُّ يَجْمَعُ ما بين كذا وكذا في حكم كذاو ثالثها: يُجْمَعَانِ أَسْوَدَيْنِ مُكَوَّرَيْنِ كَأَنَّهُمَا ثَوْرَانِ عَقِيرَانِ فِي النَّارِ، وَقِيلَ: يُجْمَعَانِ ثُمَّ يُقْذَفَانِ فِي الْبَحْرِ، فَهُنَاكَ نَارُ اللَّهِ الْكُبْرَى وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي قَوْلِهِ، وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ إِنَّمَا تَسْتَقِيمُ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَجْعَلُ بَرْقَ الْبَصَرِ مِنْ عَلَامَاتِ الْقِيَامَةِ، فَأَمَّا مَنْ يَجْعَلُ بَرْقَ الْبَصَرِ مِنْ عَلَامَاتِ الْمَوْتِ قَالَ مَعْنَى: وَخَسَفَ الْقَمَرُ أَيْ ذَهَبَ ضَوْءُ الْبَصَرِ عِنْدَ الْمَوْتِ، يُقَالُ عَيْنٌ خَاسِفَةٌ، إِذَا فُقِئَتْ حَتَّى غَابَتْ حَدَقَتُهَا فِي الرَّأْسِ، وَأَصْلُهَا مِنْ خَسَفَتِ الْأَرْضُ إِذَا سَاخَتْ بِمَا عَلَيْهَا، وَقَوْلُهُ: وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ كِنَايَةٌ عَنْ ذَهَابِ الرُّوحِ إِلَى عَالَمِ الْآخِرَةِ، كَأَنَّ الْآخِرَةَ كَالشَّمْسِ، فَإِنَّهُ يَظْهَرُ فِيهَا الْمُغَيَّبَاتُ وَتَتَّضِحُ فِيهَا الْمُبْهَمَاتُ، وَالرُّوحُ كَالْقَمَرِ فَإِنَّهُ كَمَا أَنَّ الْقَمَرَ يَقْبَلُ النُّورَ مِنَ الشَّمْسِ، فَكَذَا الرُّوحُ تَقْبَلُ نُورَ الْمَعَارِفِ مِنْ عَالَمِ الْآخِرَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَاتِ بِعَلَامَاتِ الْقِيَامَةِ أَوْلَى مِنْ تَفْسِيرِهَا بِعَلَامَاتِ الْمَوْتِ وَأَشَدُّ مُطَابَقَةً لَهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّمَا قَالَ جَمَعَ، وَلَمْ يَقُلْ: جُمِعَتْ لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ جُمِعَ بَيْنَهُمَا فِي زَوَالِ النُّورِ وَذَهَابِ الضَّوْءِ، وَقَالَ الْكِسَائِيُّ، الْمَعْنَى جُمِعَ النُّورَانِ أَوِ الضِّيَاءَانِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ، الْقَمَرُ شَارَكَ الشَّمْسَ فِي الْجَمْعِ، وَهُوَ مُذَكَّرٌ، فَلَا جَرَمَ غَلَبَ جَانِبُ التَّذْكِيرِ فِي اللَّفْظِ، قَالَ الْفَرَّاءُ، قُلْتُ: لِمَنْ نَصَرَ هَذَا الْقَوْلَ: كَيْفَ تَقُولُونَ: الشَّمْسُ جُمِعَ وَالْقَمَرُ؟ فَقَالُوا: جُمِعَتْ، فَقُلْتُ مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ؟ فَرَجَعَ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: طَعَنَتِ الْمَلَاحِدَةُ فِي الْآيَةِ، وَقَالُوا: خُسُوفُ الْقَمَرِ لَا يَحْصُلُ حَالَ اجْتِمَاعِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْجَوَابُ: اللَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ الْقَمَرَ مُنْخَسِفًا، سَوَاءٌ كَانَتِ الْأَرْضُ مُتَوَسِّطَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّمْسِ، أو لم
عِنْدَ رُؤْيَةِ جَهَنَّمَ، فَمَنْ قَالَ: إِنَّ هَذَا يَكُونُ عِنْدَ الْمَوْتِ، قَالَ: إِنَّ الْبَصَرَ يَبْرُقُ عَلَى مَعْنَى يَشْخَصُ عِنْدَ مُعَايَنَةِ أَسْبَابِ الْمَوْتِ، وَالْمَلَائِكَةِ كَمَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ إِذَا قَرُبَ مَوْتُهُ، وَمَنْ مَالَ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، قَالَ: إِنَّهُمْ إِنَّمَا سَأَلُوهُ عَنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَكِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذِهِ الْحَادِثَةَ عِنْدَ الْمَوْتِ وَالسَّبَبُ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُنْكِرَ لَمَّا قَالَ: أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ [الْقِيَامَةِ: ٦] عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ فَقِيلَ لَهُ: إِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ وَقَرُبَ الْمَوْتُ زَالَتْ عَنْهُ الشُّكُوكُ، وَتَيَقَّنَ حِينَئِذٍ أَنَّ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ مِنْ إِنْكَارِ الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ خَطَأٌ الثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا قَرُبَ مَوْتُهُ وَبَرِقَ بَصَرُهُ تَيَقَّنَ أَنَّ إِنْكَارَ الْبَعْثِ لِأَجْلِ طَلَبِ اللَّذَّاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ كَانَ بَاطِلًا، وَأَمَّا مَنْ قَالَ بِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ قِيَامِ الْقِيَامَةِ، قَالَ: لِأَنَّ السُّؤَالَ إِنَّمَا كَانَ عَنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَقَعَ الْجَوَابُ بِمَا يَكُونُ مِنْ خَوَاصِّهِ/ وَآثَارِهِ، قَالَ تَعَالَى:
إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ [إِبْرَاهِيمَ: ٤١]، وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ خُسُوفِ الْقَمَرِ ذَهَابَ ضَوْئِهِ كَمَا نَعْقِلُهُ مِنْ حَالِهِ إِذَا خَسَفَ فِي الدُّنْيَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ ذَهَابَهُ بِنَفْسِهِ كَقَوْلِهِ: فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ [الْقَصَصِ: ٨١].
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قُرِئَ: وَخَسَفَ الْقَمَرُ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي كَيْفِيَّةِ الْجَمْعِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ [يس: ٤٠] فَإِذَا جَاءَ وَقْتُ الْقِيَامَةِ أَدْرَكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ وَاجْتَمَعَا وَثَانِيهَا: جُمِعَا فِي ذَهَابِ الضَّوْءِ، فَهُوَ كَمَا يُقَالُ: الشَّافِعِيُّ يَجْمَعُ ما بين كذا وكذا في حكم كذاو ثالثها: يُجْمَعَانِ أَسْوَدَيْنِ مُكَوَّرَيْنِ كَأَنَّهُمَا ثَوْرَانِ عَقِيرَانِ فِي النَّارِ، وَقِيلَ: يُجْمَعَانِ ثُمَّ يُقْذَفَانِ فِي الْبَحْرِ، فَهُنَاكَ نَارُ اللَّهِ الْكُبْرَى وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي قَوْلِهِ، وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ إِنَّمَا تَسْتَقِيمُ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَجْعَلُ بَرْقَ الْبَصَرِ مِنْ عَلَامَاتِ الْقِيَامَةِ، فَأَمَّا مَنْ يَجْعَلُ بَرْقَ الْبَصَرِ مِنْ عَلَامَاتِ الْمَوْتِ قَالَ مَعْنَى: وَخَسَفَ الْقَمَرُ أَيْ ذَهَبَ ضَوْءُ الْبَصَرِ عِنْدَ الْمَوْتِ، يُقَالُ عَيْنٌ خَاسِفَةٌ، إِذَا فُقِئَتْ حَتَّى غَابَتْ حَدَقَتُهَا فِي الرَّأْسِ، وَأَصْلُهَا مِنْ خَسَفَتِ الْأَرْضُ إِذَا سَاخَتْ بِمَا عَلَيْهَا، وَقَوْلُهُ: وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ كِنَايَةٌ عَنْ ذَهَابِ الرُّوحِ إِلَى عَالَمِ الْآخِرَةِ، كَأَنَّ الْآخِرَةَ كَالشَّمْسِ، فَإِنَّهُ يَظْهَرُ فِيهَا الْمُغَيَّبَاتُ وَتَتَّضِحُ فِيهَا الْمُبْهَمَاتُ، وَالرُّوحُ كَالْقَمَرِ فَإِنَّهُ كَمَا أَنَّ الْقَمَرَ يَقْبَلُ النُّورَ مِنَ الشَّمْسِ، فَكَذَا الرُّوحُ تَقْبَلُ نُورَ الْمَعَارِفِ مِنْ عَالَمِ الْآخِرَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَاتِ بِعَلَامَاتِ الْقِيَامَةِ أَوْلَى مِنْ تَفْسِيرِهَا بِعَلَامَاتِ الْمَوْتِ وَأَشَدُّ مُطَابَقَةً لَهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّمَا قَالَ جَمَعَ، وَلَمْ يَقُلْ: جُمِعَتْ لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ جُمِعَ بَيْنَهُمَا فِي زَوَالِ النُّورِ وَذَهَابِ الضَّوْءِ، وَقَالَ الْكِسَائِيُّ، الْمَعْنَى جُمِعَ النُّورَانِ أَوِ الضِّيَاءَانِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ، الْقَمَرُ شَارَكَ الشَّمْسَ فِي الْجَمْعِ، وَهُوَ مُذَكَّرٌ، فَلَا جَرَمَ غَلَبَ جَانِبُ التَّذْكِيرِ فِي اللَّفْظِ، قَالَ الْفَرَّاءُ، قُلْتُ: لِمَنْ نَصَرَ هَذَا الْقَوْلَ: كَيْفَ تَقُولُونَ: الشَّمْسُ جُمِعَ وَالْقَمَرُ؟ فَقَالُوا: جُمِعَتْ، فَقُلْتُ مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ؟ فَرَجَعَ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: طَعَنَتِ الْمَلَاحِدَةُ فِي الْآيَةِ، وَقَالُوا: خُسُوفُ الْقَمَرِ لَا يَحْصُلُ حَالَ اجْتِمَاعِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْجَوَابُ: اللَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ الْقَمَرَ مُنْخَسِفًا، سَوَاءٌ كَانَتِ الْأَرْضُ مُتَوَسِّطَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّمْسِ، أو لم
724
تَكُنْ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْأَجْسَامَ مُتَمَاثِلَةٌ، فَيَصِحُّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا مَا يَصِحُّ عَلَى الْآخَرِ، وَاللَّهُ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ، فَوَجَبَ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى إِزَالَةِ الضَّوْءِ عَنِ الْقَمَرِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ أَيْ يَقُولُ هَذَا الْإِنْسَانُ الْمُنْكِرُ لِلْقِيَامَةِ إِذَا/ عَايَنَ هَذِهِ الْأَحْوَالَ أَيْنَ الْمَفَرُّ، وَالْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ بِفَتْحِ الْفَاءِ، وَقُرِئَ أَيْضًا بِكَسْرِ الْفَاءِ، وَالْمَفَرُّ بِفَتْحِ الْفَاءِ هُوَ الْفِرَارُ، قَالَ الْأَخْفَشُ وَالزَّجَّاجُ: الْمَصْدَرُ مِنْ فَعَلَ يَفْعَلُ مَفْتُوحَ الْعَيْنِ. وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَالْمَعْنَى أَيْنَ الْفِرَارُ، وَقَوْلُ الْقَائِلِ: أَيْنَ الْفِرَارُ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَرَى عَلَامَاتِ مُكْنَةِ الْفِرَارِ فَيَقُولُ حِينَئِذٍ: أَيْنَ الْفِرَارُ، كَمَا إِذَا أَيَسَ مِنْ وِجْدَانِ زَيْدٍ يَقُولُ: أَيْنَ زِيدٌ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى إِلَى أَيْنَ الْفِرَارُ، وَأَمَّا الْمَفِرُّ بِكَسْرِ الْفَاءِ فَهُوَ الْمَوْضِعُ، فَزَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ الْمَفَرَّ بِفَتْحِ الْفَاءِ كَمَا يَكُونُ اسْمًا لِلْمَصْدَرِ، فَقَدْ يَكُونُ أَيْضًا اسْمًا لِلْمَوْضِعِ وَالْمَفِرُّ بِكَسْرِ الْفَاءِ كَمَا يَكُونُ اسْمًا لِلْمَوْضِعِ، فَقَدْ يَكُونُ مَصْدَرًا وَنَظِيرُهُ المرجع.
[سورة القيامة (٧٥) : آية ١١]
كَلاَّ لا وَزَرَ (١١)
قَوْلُهُ تَعَالَى: كَلَّا وَهُوَ رَدْعٌ عَنْ طَلَبِ الْمَفَرِّ لَا وَزَرَ قَالَ الْمُبَرِّدُ وَالزَّجَّاجُ: أَصْلُ الْوَزَرِ الْجَبَلُ الْمَنِيعُ، ثُمَّ يُقَالُ: لِكُلِّ مَا الْتَجَأْتَ إِلَيْهِ وَتَحَصَّنْتَ بِهِ وَزَرٌ، وَأَنْشَدَ الْمُبَرِّدُ قَوْلَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ:
وَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ يُعْتَصَمُ بِهِ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:
[سورة القيامة (٧٥) : آية ١٢]
إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (١٢)
وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَقَرُّ بِمَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ، بِمَعْنَى أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يَسْتَقِرُّوا إِلَى غَيْرِهِ، وَيَنْصَبُّوا إِلَى غَيْرِهِ، كَمَا قَالَ: إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى
[العلق: ٨] وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ [النور: ٤٢] أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ [الشُّورَى: ٥٣] وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى [النَّجْمِ: ١٢] الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى إِلَى رَبِّكَ مُسْتَقَرُّهُمْ، أَيْ مَوْضِعُ قَرَارِهِمْ مِنْ جَنَّةٍ أَوْ نَارٍ، أَيْ مُفَوَّضُ ذَلِكَ إِلَى مَشِيئَتِهِ مَنْ شَاءَ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ شاء أدخله النار.
[سورة القيامة (٧٥) : آية ١٣]
يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (١٣)
بِمَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلٍ عَمِلَهُ، وَبِمَا أَخَّرَ مِنْ عَمَلٍ لَمْ يَعْمَلْهُ، أَوْ بِمَا قَدَّمَ مِنْ مَالِهِ فَتَصَدَّقَ بِهِ وَبِمَا أَخَّرَهُ فَخَلَّفَهُ، أَوْ بِمَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَبِمَا أَخَّرَ مِنْ سُنَّةٍ حَسَنَةٍ أَوْ سَيِّئَةٍ، فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ مُفَسَّرٌ بِأَوَّلِ الْعَمَلِ وَآخِرِهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ [الْمُجَادَلَةِ: ٦] وَقَالَ: وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ [يس: ١٢] وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّ هَذَا الْإِنْبَاءَ يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ الْعَرْضِ، وَالْمُحَاسَبَةِ وَوَزْنِ الْأَعْمَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الْمَوْتِ وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا مَاتَ بُيِّنَ لَهُ مَقْعَدُهُ من الجنة والنار.
[سورة القيامة (٧٥) : آية ١٤]
بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ أَيْ يَقُولُ هَذَا الْإِنْسَانُ الْمُنْكِرُ لِلْقِيَامَةِ إِذَا/ عَايَنَ هَذِهِ الْأَحْوَالَ أَيْنَ الْمَفَرُّ، وَالْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ بِفَتْحِ الْفَاءِ، وَقُرِئَ أَيْضًا بِكَسْرِ الْفَاءِ، وَالْمَفَرُّ بِفَتْحِ الْفَاءِ هُوَ الْفِرَارُ، قَالَ الْأَخْفَشُ وَالزَّجَّاجُ: الْمَصْدَرُ مِنْ فَعَلَ يَفْعَلُ مَفْتُوحَ الْعَيْنِ. وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَالْمَعْنَى أَيْنَ الْفِرَارُ، وَقَوْلُ الْقَائِلِ: أَيْنَ الْفِرَارُ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَرَى عَلَامَاتِ مُكْنَةِ الْفِرَارِ فَيَقُولُ حِينَئِذٍ: أَيْنَ الْفِرَارُ، كَمَا إِذَا أَيَسَ مِنْ وِجْدَانِ زَيْدٍ يَقُولُ: أَيْنَ زِيدٌ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى إِلَى أَيْنَ الْفِرَارُ، وَأَمَّا الْمَفِرُّ بِكَسْرِ الْفَاءِ فَهُوَ الْمَوْضِعُ، فَزَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ الْمَفَرَّ بِفَتْحِ الْفَاءِ كَمَا يَكُونُ اسْمًا لِلْمَصْدَرِ، فَقَدْ يَكُونُ أَيْضًا اسْمًا لِلْمَوْضِعِ وَالْمَفِرُّ بِكَسْرِ الْفَاءِ كَمَا يَكُونُ اسْمًا لِلْمَوْضِعِ، فَقَدْ يَكُونُ مَصْدَرًا وَنَظِيرُهُ المرجع.
[سورة القيامة (٧٥) : آية ١١]
كَلاَّ لا وَزَرَ (١١)
قَوْلُهُ تَعَالَى: كَلَّا وَهُوَ رَدْعٌ عَنْ طَلَبِ الْمَفَرِّ لَا وَزَرَ قَالَ الْمُبَرِّدُ وَالزَّجَّاجُ: أَصْلُ الْوَزَرِ الْجَبَلُ الْمَنِيعُ، ثُمَّ يُقَالُ: لِكُلِّ مَا الْتَجَأْتَ إِلَيْهِ وَتَحَصَّنْتَ بِهِ وَزَرٌ، وَأَنْشَدَ الْمُبَرِّدُ قَوْلَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ:
النَّاسُ آلَتْ عَلَيْنَا فِيكَ لَيْسَ لَنَا | إِلَّا السُّيُوفَ وَأَطْرَافَ الْقَنَا وَزَرُ |
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:
[سورة القيامة (٧٥) : آية ١٢]
إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (١٢)
وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَقَرُّ بِمَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ، بِمَعْنَى أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يَسْتَقِرُّوا إِلَى غَيْرِهِ، وَيَنْصَبُّوا إِلَى غَيْرِهِ، كَمَا قَالَ: إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى
[العلق: ٨] وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ [النور: ٤٢] أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ [الشُّورَى: ٥٣] وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى [النَّجْمِ: ١٢] الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى إِلَى رَبِّكَ مُسْتَقَرُّهُمْ، أَيْ مَوْضِعُ قَرَارِهِمْ مِنْ جَنَّةٍ أَوْ نَارٍ، أَيْ مُفَوَّضُ ذَلِكَ إِلَى مَشِيئَتِهِ مَنْ شَاءَ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ شاء أدخله النار.
[سورة القيامة (٧٥) : آية ١٣]
يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (١٣)
بِمَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلٍ عَمِلَهُ، وَبِمَا أَخَّرَ مِنْ عَمَلٍ لَمْ يَعْمَلْهُ، أَوْ بِمَا قَدَّمَ مِنْ مَالِهِ فَتَصَدَّقَ بِهِ وَبِمَا أَخَّرَهُ فَخَلَّفَهُ، أَوْ بِمَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَبِمَا أَخَّرَ مِنْ سُنَّةٍ حَسَنَةٍ أَوْ سَيِّئَةٍ، فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ مُفَسَّرٌ بِأَوَّلِ الْعَمَلِ وَآخِرِهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ [الْمُجَادَلَةِ: ٦] وَقَالَ: وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ [يس: ١٢] وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّ هَذَا الْإِنْبَاءَ يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ الْعَرْضِ، وَالْمُحَاسَبَةِ وَوَزْنِ الْأَعْمَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الْمَوْتِ وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا مَاتَ بُيِّنَ لَهُ مَقْعَدُهُ من الجنة والنار.
[سورة القيامة (٧٥) : آية ١٤]
بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤)
اعلم أنه تعالى لما قال: يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ
بِأَعْمَالِهِ، قَالَ: بَلْ لَا يَحْتَاجُ إلى أن ينبئه غير غَيْرُهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ نَفْسَهُ شَاهِدَةٌ بِكَوْنِهِ فَاعِلًا لِتِلْكَ الْأَفْعَالِ، مُقْدِمًا عَلَيْهَا، ثُمَّ فِي قَوْلِهِ: بَصِيرَةٌ
وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: قَالَ الْأَخْفَشُ جَعَلَهُ فِي نَفْسِهِ بَصِيرَةً كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ جُودٌ وَكَرَمٌ، فَهَهُنَا/ أَيْضًا كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ بِضَرُورَةِ عَقْلِهِ يَعْلَمُ أَنَّ مَا يُقَرِّبُهُ إِلَى اللَّهِ وَيَشْغَلُهُ بِطَاعَتِهِ وَخِدْمَتِهِ فَهُوَ السَّعَادَةُ، وَمَا يُبْعِدُهُ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَيَشْغَلُهُ بِالدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا فَهُوَ الشَّقَاوَةُ، فَهَبْ أَنَّهُ بِلِسَانِهِ يُرَوِّجُ وَيُزَوِّرُ وَيَرَى الْحَقَّ فِي صُورَةِ الْبَاطِلِ وَالْبَاطِلَ فِي صُورَةِ الْحَقِّ، لَكِنَّهُ بِعَقْلِهِ السَّلِيمِ يَعْلَمُ أَنَّ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ فِي ظَاهِرِهِ جَيِّدٌ أَوْ رَدِيءٌ وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ جَوَارِحُهُ تَشْهَدُ عَلَيْهِ بِمَا عَمِلَ فَهُوَ شَاهِدٌ عَلَى نَفْسِهِ بِشَهَادَةِ جَوَارِحِهِ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُقَاتِلٍ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ [النُّورِ: ٢٤] وَقَوْلِهِ: وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ [يس: ٣٦] وَقَوْلِهِ: شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ [فُصِّلَتْ: ٢٠] فَأَمَّا تَأْنِيثُ الْبَصِيرَةِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لأن المراد بالإنسان هاهنا الْجَوَارِحُ كَأَنَّهُ قِيلَ: بَلْ جَوَارِحُ الْإِنْسَانِ، كَأَنَّهُ قِيلَ بَلْ جَوَارِحُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِ الْإِنْسَانِ بَصِيرَةٌ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ هَذِهِ الْهَاءُ لِأَجْلِ الْمُبَالَغَةِ كَقَوْلِهِ: رَجُلٌ رَاوِيَةٌ وَطَاغِيَةٌ وَعَلَّامَةٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّ الْإِنْسَانَ يُخْبَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَعْمَالِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ شَاهِدٌ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا عَمِلَ، فَقَالَ الْوَاحِدِيُّ هَذَا يَكُونُ مِنَ الْكُفَّارِ فَإِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ مَا عَمِلُوا فَيَخْتِمُ اللَّهُ على أفواههم وينطق جوارحهم.
[سورة القيامة (٧٥) : آية ١٥]
وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (١٥)
لِلْمُفَسِّرِينَ فِيهِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْمَعَاذِيرُ جَمْعُ مَعْذِرَةٍ يُقَالُ: مَعْذِرَةٌ وَمَعَاذِرُ وَمَعَاذِيرُ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : جَمْعُ الْمَعْذِرَةِ مَعَاذِرُ وَالْمَعَاذِيرُ لَيْسَ جَمْعَ مَعْذِرَةٍ، وَإِنَّمَا هُوَ اسْمُ جَمْعٍ لَهَا، وَنَحْوُهُ الْمَنَاكِيرُ فِي الْمُنْكَرِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْإِنْسَانَ وَإِنِ اعْتَذَرَ عَنْ نَفْسِهِ وَجَادَلَ عَنْهَا وَأَتَى بِكُلِّ عُذْرٍ وَحُجَّةٍ، فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ شَاهِدٌ عَلَى نَفْسِهِ الْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَ الضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ وَالْفَرَّاءُ وَالْمُبَرِّدُ وَالزَّجَّاجُ الْمَعَاذِيرُ السُّتُورُ، وَاحِدُهَا مِعْذَارٌ، قَالَ الْمُبَرِّدُ: هِيَ لُغَةٌ يَمَانِيَّةٌ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : إِنْ صَحَّتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ فَذَاكَ مَجَازٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّ السِّتْرَ يَمْنَعُ رُؤْيَةَ الْمُحْتَجِبِ كَمَا تَمْنَعُ الْمَعْذِرَةُ عُقُوبَةَ الذَّنْبِ، وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا الْقَوْلِ: أَنَّهُ وَإِنْ أَسْبَلَ السِّتْرَ لِيُخْفِيَ مَا يَعْمَلُ، فإن نفسه شاهدة عليه.
[سورة القيامة (٧٥) : آية ١٦]
لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦)
فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: زَعَمَ قَوْمٌ مِنْ قُدَمَاءِ الرَّوَافِضِ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ قَدْ غُيِّرَ وَبُدِّلَ وَزِيدَ فِيهِ وَنُقِصَ عَنْهُ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهَا وَلَوْ كَانَ هَذَا التَّرْتِيبُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَمَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ فِي بَيَانِ الْمُنَاسِبَةِ وُجُوهًا أَوَّلُهَا: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِعْجَالُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ، إِنَّمَا اتَّفَقَ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ إِنْزَالِ هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَيْهِ، فَلَا جَرَمَ نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ الِاسْتِعْجَالِ فِي هَذَا الْوَقْتِ، وَقِيلَ لَهُ: لَا تَحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْمُدَرِّسَ إِذَا كَانَ يُلْقِي عَلَى تِلْمِيذِهِ/ شَيْئًا، فَأَخَذَ التِّلْمِيذُ يَلْتَفِتُ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَيَقُولُ: الْمُدَرِّسُ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ الدَّرْسِ لَا تَلْتَفِتْ يَمِينًا وَشِمَالًا ثُمَّ يَعُودُ إِلَى الدَّرْسِ، فَإِذَا نَقَلَ ذَلِكَ الدرس مع
بِأَعْمَالِهِ، قَالَ: بَلْ لَا يَحْتَاجُ إلى أن ينبئه غير غَيْرُهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ نَفْسَهُ شَاهِدَةٌ بِكَوْنِهِ فَاعِلًا لِتِلْكَ الْأَفْعَالِ، مُقْدِمًا عَلَيْهَا، ثُمَّ فِي قَوْلِهِ: بَصِيرَةٌ
وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: قَالَ الْأَخْفَشُ جَعَلَهُ فِي نَفْسِهِ بَصِيرَةً كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ جُودٌ وَكَرَمٌ، فَهَهُنَا/ أَيْضًا كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ بِضَرُورَةِ عَقْلِهِ يَعْلَمُ أَنَّ مَا يُقَرِّبُهُ إِلَى اللَّهِ وَيَشْغَلُهُ بِطَاعَتِهِ وَخِدْمَتِهِ فَهُوَ السَّعَادَةُ، وَمَا يُبْعِدُهُ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَيَشْغَلُهُ بِالدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا فَهُوَ الشَّقَاوَةُ، فَهَبْ أَنَّهُ بِلِسَانِهِ يُرَوِّجُ وَيُزَوِّرُ وَيَرَى الْحَقَّ فِي صُورَةِ الْبَاطِلِ وَالْبَاطِلَ فِي صُورَةِ الْحَقِّ، لَكِنَّهُ بِعَقْلِهِ السَّلِيمِ يَعْلَمُ أَنَّ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ فِي ظَاهِرِهِ جَيِّدٌ أَوْ رَدِيءٌ وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ جَوَارِحُهُ تَشْهَدُ عَلَيْهِ بِمَا عَمِلَ فَهُوَ شَاهِدٌ عَلَى نَفْسِهِ بِشَهَادَةِ جَوَارِحِهِ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُقَاتِلٍ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ [النُّورِ: ٢٤] وَقَوْلِهِ: وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ [يس: ٣٦] وَقَوْلِهِ: شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ [فُصِّلَتْ: ٢٠] فَأَمَّا تَأْنِيثُ الْبَصِيرَةِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لأن المراد بالإنسان هاهنا الْجَوَارِحُ كَأَنَّهُ قِيلَ: بَلْ جَوَارِحُ الْإِنْسَانِ، كَأَنَّهُ قِيلَ بَلْ جَوَارِحُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِ الْإِنْسَانِ بَصِيرَةٌ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ هَذِهِ الْهَاءُ لِأَجْلِ الْمُبَالَغَةِ كَقَوْلِهِ: رَجُلٌ رَاوِيَةٌ وَطَاغِيَةٌ وَعَلَّامَةٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّ الْإِنْسَانَ يُخْبَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَعْمَالِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ شَاهِدٌ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا عَمِلَ، فَقَالَ الْوَاحِدِيُّ هَذَا يَكُونُ مِنَ الْكُفَّارِ فَإِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ مَا عَمِلُوا فَيَخْتِمُ اللَّهُ على أفواههم وينطق جوارحهم.
[سورة القيامة (٧٥) : آية ١٥]
وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (١٥)
لِلْمُفَسِّرِينَ فِيهِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْمَعَاذِيرُ جَمْعُ مَعْذِرَةٍ يُقَالُ: مَعْذِرَةٌ وَمَعَاذِرُ وَمَعَاذِيرُ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : جَمْعُ الْمَعْذِرَةِ مَعَاذِرُ وَالْمَعَاذِيرُ لَيْسَ جَمْعَ مَعْذِرَةٍ، وَإِنَّمَا هُوَ اسْمُ جَمْعٍ لَهَا، وَنَحْوُهُ الْمَنَاكِيرُ فِي الْمُنْكَرِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْإِنْسَانَ وَإِنِ اعْتَذَرَ عَنْ نَفْسِهِ وَجَادَلَ عَنْهَا وَأَتَى بِكُلِّ عُذْرٍ وَحُجَّةٍ، فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ شَاهِدٌ عَلَى نَفْسِهِ الْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَ الضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ وَالْفَرَّاءُ وَالْمُبَرِّدُ وَالزَّجَّاجُ الْمَعَاذِيرُ السُّتُورُ، وَاحِدُهَا مِعْذَارٌ، قَالَ الْمُبَرِّدُ: هِيَ لُغَةٌ يَمَانِيَّةٌ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : إِنْ صَحَّتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ فَذَاكَ مَجَازٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّ السِّتْرَ يَمْنَعُ رُؤْيَةَ الْمُحْتَجِبِ كَمَا تَمْنَعُ الْمَعْذِرَةُ عُقُوبَةَ الذَّنْبِ، وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا الْقَوْلِ: أَنَّهُ وَإِنْ أَسْبَلَ السِّتْرَ لِيُخْفِيَ مَا يَعْمَلُ، فإن نفسه شاهدة عليه.
[سورة القيامة (٧٥) : آية ١٦]
لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦)
فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: زَعَمَ قَوْمٌ مِنْ قُدَمَاءِ الرَّوَافِضِ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ قَدْ غُيِّرَ وَبُدِّلَ وَزِيدَ فِيهِ وَنُقِصَ عَنْهُ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهَا وَلَوْ كَانَ هَذَا التَّرْتِيبُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَمَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ فِي بَيَانِ الْمُنَاسِبَةِ وُجُوهًا أَوَّلُهَا: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِعْجَالُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ، إِنَّمَا اتَّفَقَ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ إِنْزَالِ هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَيْهِ، فَلَا جَرَمَ نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ الِاسْتِعْجَالِ فِي هَذَا الْوَقْتِ، وَقِيلَ لَهُ: لَا تَحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْمُدَرِّسَ إِذَا كَانَ يُلْقِي عَلَى تِلْمِيذِهِ/ شَيْئًا، فَأَخَذَ التِّلْمِيذُ يَلْتَفِتُ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَيَقُولُ: الْمُدَرِّسُ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ الدَّرْسِ لَا تَلْتَفِتْ يَمِينًا وَشِمَالًا ثُمَّ يَعُودُ إِلَى الدَّرْسِ، فَإِذَا نَقَلَ ذَلِكَ الدرس مع
726
هَذَا الْكَلَامِ فِي أَثْنَائِهِ، فَمَنْ لَمْ يَعْرِفِ السَّبَبَ يَقُولُ: إِنَّ وُقُوعَ تِلْكَ الْكَلِمَةِ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ الدَّرْسِ غَيْرُ مُنَاسِبٍ، لَكِنَّ مَنْ عَرَفَ الْوَاقِعَةَ عَلِمَ أَنَّهُ حَسُنَ التَّرْتِيبُ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى نَقَلَ عَنِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ يُحِبُّونَ السَّعَادَةَ الْعَاجِلَةَ، وَذَلِكَ هُوَ قَوْلُهُ: بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ [القيامة: ٥] ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ التَّعْجِيلَ مَذْمُومٌ مُطْلَقًا حَتَّى التَّعْجِيلَ فِي أُمُورِ الدِّينِ، فَقَالَ: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ
وَقَالَ فِي آخِرِ الآية: كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ [القيامة: ٢٠]، وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ
[القيامة: ١٤، ١٥] فَهَهُنَا كَانَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُظْهِرُ التَّعْجِيلَ فِي الْقِرَاءَةِ مَعَ جِبْرِيلَ، وَكَانَ يَجْعَلُ الْعُذْرَ فِيهِ خَوْفَ النِّسْيَانِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ: إِنَّكَ إِذَا أَتَيْتَ بِهَذَا الْعُذْرِ لَكِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّ الْحِفْظَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ وَإِعَانَتِهِ فَاتْرُكْ هَذَا التَّعْجِيلَ وَاعْتَمِدْ عَلَى هِدَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ
[القيامة: ١٦، ١٧] وَرَابِعُهَا: كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ غَرَضَكَ مِنْ هَذَا التَّعْجِيلِ أَنْ تَحْفَظَهُ وَتُبَلِّغَهُ إِلَيْهِمْ لَكِنْ لَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا فَإِنَّ الْإِنْسَانَ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَهُمْ بِقُلُوبِهِمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ وَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَإِنْكَارِ الْبَعْثِ مُنْكَرٌ بَاطِلٌ، فَإِذَا كَانَ غَرَضُكَ مِنْ هَذَا التَّعْجِيلِ أَنْ تُعَرِّفَهُمْ قُبْحَ مَا هُمْ عَلَيْهِ، ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْمَعْرِفَةَ حَاصِلَةٌ عِنْدَهُمْ، فَحِينَئِذٍ لَمْ يَبْقَ لِهَذَا التَّعْجِيلِ فَائِدَةٌ، فَلَا جَرَمَ قَالَ: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ
وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنِ الْكَافِرِ أَنَّهُ يَقُولُ: أَيْنَ الْمَفَرُّ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: كَلَّا لَا وَزَرَ إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ [القيامة: ١١، ١٢] فَالْكَافِرُ كَأَنَّهُ كَانَ يَفِرُّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى غَيْرِهِ فَقِيلَ: لِمُحَمَّدٍ إِنَّكَ فِي طَلَبِ حِفْظِ الْقُرْآنِ، تَسْتَعِينُ بِالتَّكْرَارِ وَهَذَا اسْتِعَانَةٌ مِنْكَ بِغَيْرِ اللَّهِ، فَاتْرُكْ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ، وَاسْتَعِنْ فِي هَذَا الْأَمْرِ بِاللَّهِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ الْكَافِرَ يَفِرُّ مِنَ اللَّهِ إِلَى غَيْرِهِ، وَأَمَّا أَنْتَ فَكُنْ كَالْمُضَادِّ لَهُ فَيَجِبُ أَنْ تَفِرَّ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ وَأَنْ تَسْتَعِينَ فِي كُلِّ الْأُمُورِ بِاللَّهِ، حَتَّى يَحْصُلَ لَكَ الْمَقْصُودُ عَلَى مَا قَالَ: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ
[القيامة: ١٧] وَقَالَ فِي سُورَةٍ أُخْرَى: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ، وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه: ١١٤] أَيْ لَا تَسْتَعِنْ فِي طَلَبِ الْحِفْظِ بِالتَّكْرَارِ بَلِ اطْلُبْهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَسَادِسُهَا: مَا ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ
لَيْسَ خِطَابًا مَعَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَلْ هُوَ خطاب مع الإنسان المذكور في قوله: يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ
[القيامة: ١٣] فَكَانَ ذَلِكَ لِلْإِنْسَانِ حَالَ مَا يُنَبَّأُ بِقَبَائِحِ أَفْعَالِهِ وَذَلِكَ بِأَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ كِتَابُهُ فَيُقَالُ لَهُ: اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الْإِسْرَاءِ: ١٤] فَإِذَا أَخَذَ فِي الْقِرَاءَةِ تَلَجْلَجَ لِسَانُهُ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ وَسُرْعَةِ الْقِرَاءَةِ فَيُقَالُ لَهُ لَا تَحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْنَا بِحُكْمِ الْوَعْدِ أَوْ بِحُكْمِ الْحِكْمَةِ أَنْ نَجْمَعَ أَعْمَالَكَ عَلَيْكَ وَأَنْ نَقْرَأَهَا عَلَيْكَ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ عَلَيْكَ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ بِالْإِقْرَارِ بِأَنَّكَ فَعَلْتَ تِلْكَ الْأَفْعَالَ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَ أَمْرِهِ وَشَرْحَ مَرَاتِبِ عُقُوبَتِهِ، وَحَاصِلُ الْأَمْرِ مِنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنَّهُ تَعَالَى يَقْرَأُ عَلَى الْكَافِرِ جَمِيعَ أَعْمَالِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ، وَفِيهِ أَشَدُّ الْوَعِيدِ فِي الدُّنْيَا وَأَشَدُّ التَّهْوِيلِ فِي الْآخِرَةِ، ثُمَّ قَالَ الْقَفَّالُ: فَهَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ لَيْسَ فِي الْعَقْلِ مَا يَدْفَعُهُ وَإِنْ كَانَتِ الْآثَارُ غَيْرَ وَارِدَةٍ بِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ مَنْ جَوَّزَ الذَّنْبِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ: إِنَّ ذَلِكَ الِاسْتِعْجَالَ إِنْ كَانَ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَيْفَ نَهَاهُ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ لَا بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ صَدَرَ الذَّنْبُ عَنْهُ الْجَوَابُ: لَعَلَّ ذَلِكَ الِاسْتِعْجَالَ كَانَ مَأْذُونًا فِيهِ إِلَى وَقْتِ النَّهْيِ عَنْهُ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ مَأْذُونًا فِيهِ فِي وَقْتٍ ثُمَّ يَصِيرُ مَنْهِيًّا عَنْهُ فِي وَقْتٍ آخَرَ، وَلِهَذَا السَّبَبِ قُلْنَا: يَجُوزُ النَّسْخُ.
وَقَالَ فِي آخِرِ الآية: كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ [القيامة: ٢٠]، وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ
[القيامة: ١٤، ١٥] فَهَهُنَا كَانَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُظْهِرُ التَّعْجِيلَ فِي الْقِرَاءَةِ مَعَ جِبْرِيلَ، وَكَانَ يَجْعَلُ الْعُذْرَ فِيهِ خَوْفَ النِّسْيَانِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ: إِنَّكَ إِذَا أَتَيْتَ بِهَذَا الْعُذْرِ لَكِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّ الْحِفْظَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ وَإِعَانَتِهِ فَاتْرُكْ هَذَا التَّعْجِيلَ وَاعْتَمِدْ عَلَى هِدَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ
[القيامة: ١٦، ١٧] وَرَابِعُهَا: كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ غَرَضَكَ مِنْ هَذَا التَّعْجِيلِ أَنْ تَحْفَظَهُ وَتُبَلِّغَهُ إِلَيْهِمْ لَكِنْ لَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا فَإِنَّ الْإِنْسَانَ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَهُمْ بِقُلُوبِهِمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ وَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَإِنْكَارِ الْبَعْثِ مُنْكَرٌ بَاطِلٌ، فَإِذَا كَانَ غَرَضُكَ مِنْ هَذَا التَّعْجِيلِ أَنْ تُعَرِّفَهُمْ قُبْحَ مَا هُمْ عَلَيْهِ، ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْمَعْرِفَةَ حَاصِلَةٌ عِنْدَهُمْ، فَحِينَئِذٍ لَمْ يَبْقَ لِهَذَا التَّعْجِيلِ فَائِدَةٌ، فَلَا جَرَمَ قَالَ: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ
وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنِ الْكَافِرِ أَنَّهُ يَقُولُ: أَيْنَ الْمَفَرُّ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: كَلَّا لَا وَزَرَ إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ [القيامة: ١١، ١٢] فَالْكَافِرُ كَأَنَّهُ كَانَ يَفِرُّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى غَيْرِهِ فَقِيلَ: لِمُحَمَّدٍ إِنَّكَ فِي طَلَبِ حِفْظِ الْقُرْآنِ، تَسْتَعِينُ بِالتَّكْرَارِ وَهَذَا اسْتِعَانَةٌ مِنْكَ بِغَيْرِ اللَّهِ، فَاتْرُكْ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ، وَاسْتَعِنْ فِي هَذَا الْأَمْرِ بِاللَّهِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ الْكَافِرَ يَفِرُّ مِنَ اللَّهِ إِلَى غَيْرِهِ، وَأَمَّا أَنْتَ فَكُنْ كَالْمُضَادِّ لَهُ فَيَجِبُ أَنْ تَفِرَّ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ وَأَنْ تَسْتَعِينَ فِي كُلِّ الْأُمُورِ بِاللَّهِ، حَتَّى يَحْصُلَ لَكَ الْمَقْصُودُ عَلَى مَا قَالَ: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ
[القيامة: ١٧] وَقَالَ فِي سُورَةٍ أُخْرَى: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ، وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه: ١١٤] أَيْ لَا تَسْتَعِنْ فِي طَلَبِ الْحِفْظِ بِالتَّكْرَارِ بَلِ اطْلُبْهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَسَادِسُهَا: مَا ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ
لَيْسَ خِطَابًا مَعَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَلْ هُوَ خطاب مع الإنسان المذكور في قوله: يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ
[القيامة: ١٣] فَكَانَ ذَلِكَ لِلْإِنْسَانِ حَالَ مَا يُنَبَّأُ بِقَبَائِحِ أَفْعَالِهِ وَذَلِكَ بِأَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ كِتَابُهُ فَيُقَالُ لَهُ: اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الْإِسْرَاءِ: ١٤] فَإِذَا أَخَذَ فِي الْقِرَاءَةِ تَلَجْلَجَ لِسَانُهُ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ وَسُرْعَةِ الْقِرَاءَةِ فَيُقَالُ لَهُ لَا تَحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْنَا بِحُكْمِ الْوَعْدِ أَوْ بِحُكْمِ الْحِكْمَةِ أَنْ نَجْمَعَ أَعْمَالَكَ عَلَيْكَ وَأَنْ نَقْرَأَهَا عَلَيْكَ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ عَلَيْكَ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ بِالْإِقْرَارِ بِأَنَّكَ فَعَلْتَ تِلْكَ الْأَفْعَالَ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَ أَمْرِهِ وَشَرْحَ مَرَاتِبِ عُقُوبَتِهِ، وَحَاصِلُ الْأَمْرِ مِنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنَّهُ تَعَالَى يَقْرَأُ عَلَى الْكَافِرِ جَمِيعَ أَعْمَالِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ، وَفِيهِ أَشَدُّ الْوَعِيدِ فِي الدُّنْيَا وَأَشَدُّ التَّهْوِيلِ فِي الْآخِرَةِ، ثُمَّ قَالَ الْقَفَّالُ: فَهَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ لَيْسَ فِي الْعَقْلِ مَا يَدْفَعُهُ وَإِنْ كَانَتِ الْآثَارُ غَيْرَ وَارِدَةٍ بِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ مَنْ جَوَّزَ الذَّنْبِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ: إِنَّ ذَلِكَ الِاسْتِعْجَالَ إِنْ كَانَ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَيْفَ نَهَاهُ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ لَا بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ صَدَرَ الذَّنْبُ عَنْهُ الْجَوَابُ: لَعَلَّ ذَلِكَ الِاسْتِعْجَالَ كَانَ مَأْذُونًا فِيهِ إِلَى وَقْتِ النَّهْيِ عَنْهُ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ مَأْذُونًا فِيهِ فِي وَقْتٍ ثُمَّ يَصِيرُ مَنْهِيًّا عَنْهُ فِي وَقْتٍ آخَرَ، وَلِهَذَا السَّبَبِ قُلْنَا: يَجُوزُ النَّسْخُ.
727
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ:
رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْتَدُّ عَلَيْهِ حِفْظُ التَّنْزِيلِ وَكَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ يُحَرِّكُ لِسَانَهُ وَشَفَتَيْهِ قَبْلَ فَرَاغِ جِبْرِيلَ مَخَافَةَ أَنْ لَا يَحْفَظَ، فَأَنْزَلَ تَعَالَى: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ
أَيْ بِالْوَحْيِ وَالتَّنْزِيلِ وَالْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا جَازَ هَذَا الْإِضْمَارُ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ لِدَلَالَةِ الْحَالِ عَلَيْهِ، كَمَا أُضْمِرَ فِي قَوْلُهُ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [الْقَدْرِ: ١] وَنَظِيرُ قَوْلُهُ: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ [طه: ١١٤] وَقَوْلِهِ: لِتَعْجَلَ بِهِ
أَيْ لتعجل بأخذه.
أما قوله تعالى:
[سورة القيامة (٧٥) : آية ١٧]
إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧)
فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: كَلِمَةُ عَلَى لِلْوُجُوبِ فَقَوْلُهُ: إِنَّ عَلَيْنا
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَالْوَاجِبِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَمَّا عَلَى مَذْهَبِنَا فَذَلِكَ الْوُجُوبُ بِحُكْمِ الْوَعْدِ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ: فَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْبَعْثَةِ لَا يَتِمُّ إِلَّا إِذَا كَانَ الْوَحْيُ مَحْفُوظًا مُبَرَّأً عَنِ النِّسْيَانِ، فَكَانَ ذَلِكَ واجبا نظرا إلى الحكمة.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ
مَعْنَاهُ عَلَيْنَا جَمْعُهُ فِي صَدْرِكَ وَحِفْظِكَ، وَقَوْلُهُ: وَقُرْآنَهُ
فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْقُرْآنِ الْقِرَاءَةُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَفِيهِ احْتِمَالَانِ أَحَدُهُمَا: أن يكون المزاد جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، سَيُعِيدُهُ عَلَيْكَ حَتَّى تَحْفَظَهُ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِنَّا سَنُقْرِئُكَ يَا مُحَمَّدُ إِلَى أَنْ تَصِيرَ بِحَيْثُ لَا تَنْسَاهُ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى [الْأَعْلَى: ٦] فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ الْأَوَّلِ الْقَارِئُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي الْقَارِئُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْقُرْآنِ الْجَمْعَ وَالتَّأْلِيفَ، مِنْ قولهم: ما قرأت الناقة سلاقط، أَيْ مَا جَمَعَتْ، وَبِنْتُ عَمْرِو بْنِ كُلْثُومٍ لَمْ تَقْرَأْ جَنِينًا، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ عِنْدَ تَفْسِيرِ الْقُرْءِ، فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ الْجَمْعُ وَالْقُرْآنُ وَاحِدًا فَيَلْزَمُ التَّكْرَارُ، قُلْنَا: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْجَمْعِ جَمْعَهُ في نفسه وجوده الْخَارِجِيَّ، وَمِنَ الْقُرْآنِ جَمْعَهُ فِي ذِهْنِهِ وَحِفْظَهُ، وحينئذ يندفع التكرار.
[سورة القيامة (٧٥) : آية ١٨]
فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: جَعَلَ قِرَاءَةَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قِرَاءَتَهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الشَّرَفِ الْعَظِيمِ لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَنَظِيرُهُ فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النِّسَاءِ: ٨٠].
المسألة الثالثة: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ فَإِذَا قَرَأَهُ جِبْرِيلُ فاتبع وَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: قَالَ قَتَادَةُ: فَاتَّبِعْ حَلَالَهُ وَحَرَامَهُ وَالثَّانِي: فَاتَّبِعْ قِرَاءَتَهُ، أَيْ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ قِرَاءَتُكَ مُقَارِنَةً لِقِرَاءَةِ جِبْرِيلَ، لَكِنْ يَجِبُ أَنْ تَسْكُتَ حَتَّى يُتِمَّ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْقِرَاءَةَ، فَإِذَا سَكَتَ جِبْرِيلُ فَخُذْ أَنْتَ فِي الْقِرَاءَةِ، وَهَذَا الْوَجْهُ أَوْلَى لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَ أَنْ يَدَعَ الْقِرَاءَةَ وَيَسْتَمِعَ مِنْ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ جِبْرِيلُ قَرَأَهُ، وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ مَا فِيهِ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ أَطْرَقَ واستمع فإذا ذهب قرأه.
رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْتَدُّ عَلَيْهِ حِفْظُ التَّنْزِيلِ وَكَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ يُحَرِّكُ لِسَانَهُ وَشَفَتَيْهِ قَبْلَ فَرَاغِ جِبْرِيلَ مَخَافَةَ أَنْ لَا يَحْفَظَ، فَأَنْزَلَ تَعَالَى: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ
أَيْ بِالْوَحْيِ وَالتَّنْزِيلِ وَالْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا جَازَ هَذَا الْإِضْمَارُ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ لِدَلَالَةِ الْحَالِ عَلَيْهِ، كَمَا أُضْمِرَ فِي قَوْلُهُ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [الْقَدْرِ: ١] وَنَظِيرُ قَوْلُهُ: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ [طه: ١١٤] وَقَوْلِهِ: لِتَعْجَلَ بِهِ
أَيْ لتعجل بأخذه.
أما قوله تعالى:
[سورة القيامة (٧٥) : آية ١٧]
إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧)
فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: كَلِمَةُ عَلَى لِلْوُجُوبِ فَقَوْلُهُ: إِنَّ عَلَيْنا
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَالْوَاجِبِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَمَّا عَلَى مَذْهَبِنَا فَذَلِكَ الْوُجُوبُ بِحُكْمِ الْوَعْدِ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ: فَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْبَعْثَةِ لَا يَتِمُّ إِلَّا إِذَا كَانَ الْوَحْيُ مَحْفُوظًا مُبَرَّأً عَنِ النِّسْيَانِ، فَكَانَ ذَلِكَ واجبا نظرا إلى الحكمة.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ
مَعْنَاهُ عَلَيْنَا جَمْعُهُ فِي صَدْرِكَ وَحِفْظِكَ، وَقَوْلُهُ: وَقُرْآنَهُ
فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْقُرْآنِ الْقِرَاءَةُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَفِيهِ احْتِمَالَانِ أَحَدُهُمَا: أن يكون المزاد جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، سَيُعِيدُهُ عَلَيْكَ حَتَّى تَحْفَظَهُ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِنَّا سَنُقْرِئُكَ يَا مُحَمَّدُ إِلَى أَنْ تَصِيرَ بِحَيْثُ لَا تَنْسَاهُ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى [الْأَعْلَى: ٦] فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ الْأَوَّلِ الْقَارِئُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي الْقَارِئُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْقُرْآنِ الْجَمْعَ وَالتَّأْلِيفَ، مِنْ قولهم: ما قرأت الناقة سلاقط، أَيْ مَا جَمَعَتْ، وَبِنْتُ عَمْرِو بْنِ كُلْثُومٍ لَمْ تَقْرَأْ جَنِينًا، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ عِنْدَ تَفْسِيرِ الْقُرْءِ، فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ الْجَمْعُ وَالْقُرْآنُ وَاحِدًا فَيَلْزَمُ التَّكْرَارُ، قُلْنَا: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْجَمْعِ جَمْعَهُ في نفسه وجوده الْخَارِجِيَّ، وَمِنَ الْقُرْآنِ جَمْعَهُ فِي ذِهْنِهِ وَحِفْظَهُ، وحينئذ يندفع التكرار.
[سورة القيامة (٧٥) : آية ١٨]
فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: جَعَلَ قِرَاءَةَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قِرَاءَتَهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الشَّرَفِ الْعَظِيمِ لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَنَظِيرُهُ فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النِّسَاءِ: ٨٠].
المسألة الثالثة: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ فَإِذَا قَرَأَهُ جِبْرِيلُ فاتبع وَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: قَالَ قَتَادَةُ: فَاتَّبِعْ حَلَالَهُ وَحَرَامَهُ وَالثَّانِي: فَاتَّبِعْ قِرَاءَتَهُ، أَيْ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ قِرَاءَتُكَ مُقَارِنَةً لِقِرَاءَةِ جِبْرِيلَ، لَكِنْ يَجِبُ أَنْ تَسْكُتَ حَتَّى يُتِمَّ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْقِرَاءَةَ، فَإِذَا سَكَتَ جِبْرِيلُ فَخُذْ أَنْتَ فِي الْقِرَاءَةِ، وَهَذَا الْوَجْهُ أَوْلَى لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَ أَنْ يَدَعَ الْقِرَاءَةَ وَيَسْتَمِعَ مِنْ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ جِبْرِيلُ قَرَأَهُ، وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ مَا فِيهِ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ أَطْرَقَ واستمع فإذا ذهب قرأه.
[سورة القيامة (٧٥) : آية ١٩]
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (١٩)فِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَقْرَأُ مَعَ قِرَاءَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَانَ يَسْأَلُ فِي أَثْنَاءِ قِرَاءَتِهِ مُشْكِلَاتِهِ، وَمَعَانِيَهُ لِغَايَةِ حِرْصِهِ عَلَى الْعِلْمِ، فَنُهِيَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا، أَمَّا عَنِ الْقِرَاءَةِ مَعَ قِرَاءَةِ جِبْرِيلَ فَبِقَوْلِهِ: فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
[القيامة: ١٨] وَأَمَّا عَنْ إِلْقَاءِ الْأَسْئِلَةِ فِي الْبَيَانِ فَبِقَوْلِهِ: ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ مَنْ جَوَّزَ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَأَجَابَ أَبُو الْحُسَيْنِ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَقْتَضِي وُجُوبَ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ وَأَنْتُمْ لَا تَقُولُونَ بِهِ الثَّانِي: أَنَّ عِنْدَنَا الْوَاجِبَ أَنْ يُقْرَنَ بِاللَّفْظِ إِشْعَارًا بِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ اللَّفْظِ مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُهُ، فَأَمَّا الْبَيَانُ التَّفْصِيلِيُّ فَيَجُوزُ تَأْخِيرُهُ فَتُحْمَلُ الْآيَةُ عَلَى تَأْخِيرِ الْبَيَانِ التَّفْصِيلِيِّ، وَذَكَرَ الْقَفَّالُ وَجْهًا ثَالِثًا: وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ أَيْ ثُمَّ إِنَّا نُخْبِرُكَ بِأَنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَكُّ رَقَبَةٍ إِلَى قَوْلِهِ ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [الْبَلَدِ: ١٣- ١٧] وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ اللَّفْظَ لَا يَقْتَضِي وُجُوبَ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ بَلْ يَقْتَضِي تَأْخِيرَ وُجُوبِ الْبَيَانِ، وَعِنْدَنَا الْأَمْرُ كَذَلِكَ لِأَنَّ وُجُوبَ الْبَيَانِ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ كَلِمَةَ ثُمَّ دَخَلَتْ مُطْلَقَ الْبَيَانِ فَيَتَنَاوَلُ الْبَيَانَ الْمُجْمَلَ وَالْمُفَصَّلَ، وَأَمَّا سُؤَالُ الْقَفَّالِ فَضَعِيفٌ أَيْضًا لِأَنَّهُ تَرْكٌ لِلظَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَيَانَ الْمُجْمَلِ وَاجِبٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَمَّا عِنْدَنَا فَبِالْوَعْدِ وَالتَّفَضُّلِ. وَأَمَّا عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ فبالحكمة.
[سورة القيامة (٧٥) : الآيات ٢٠ الى ٢١]
كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (٢٠) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (٢١)
وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : كَلَّا رَدْعٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَادَةِ الْعَجَلَةَ وَحَثٌّ عَلَى الْأَنَاةِ وَالتُّؤَدَةِ، وَقَدْ بَالَغَ فِي ذَلِكَ بِإِتْبَاعِهِ قَوْلَهُ: بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ كَأَنَّهُ قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ يَا بَنِي آدَمَ لِأَنَّكُمْ خُلِقْتُمْ مِنْ عَجَلٍ وَطُبِعْتُمْ عَلَيْهِ تَعْجَلُونَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَمِنْ ثَمَّ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ/ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ، وَقَالَ سَائِرُ الْمُفَسِّرِينَ:
كَلَّا مَعْنَاهُ حَقًّا أَيْ حَقًّا تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُوَنَ الْآخِرَةَ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُحِبُّونَ الدُّنْيَا وَيَعْمَلُونَ لَهَا وَيَتْرُكُونَ الْآخِرَةَ وَيُعْرِضُونَ عَنْهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قرئ تحبون وتذرون بِالتَّاءِ وَالْيَاءِ وَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: الْقُرْآنُ إِذَا نَزَلَ تَعْرِيفًا لِحَالِ قَوْمٍ، فَتَارَةً يَنْزِلُ عَلَى سَبِيلِ الْمُخَاطَبَةِ لَهُمْ. وَتَارَةً يَنْزِلُ عَلَى سَبِيلِ الْمُغَايَبَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ [يُونُسَ: ٢٢] الثَّانِي: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: الْيَاءُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِ الْإِنْسَانِ فِي قَوْلِهِ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ [القيامة: ٣] وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْكَثْرَةُ، كَقَوْلِهِ: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً [الْمَعَارِجِ: ١٩] وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُحِبُّونَ وَيَذَرُونَ، وَالتَّاءُ على قل لهم: بل تحبون وتذرون.
[سورة القيامة (٧٥) : آية ٢٢]
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢)قَالَ اللَّيْثُ: نَضَرَ اللَّوْنُ وَالشَّجَرُ وَالْوَرَقُ يَنْضُرُ نَضْرَةً، وَالنَّضْرَةُ النِّعْمَةُ، وَالنَّاضِرُ النَّاعِمُ، وَالنَّضِرُ الْحَسَنُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَمِنْهُ يُقَالُ لِلَّوْنِ إِذَا كَانَ مُشْرِقًا: نَاضِرٌ، فَيُقَالُ: أَخْضَرُ نَاضِرٌ، وَكَذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْأَلْوَانِ، وَمَعْنَاهُ الَّذِي يَكُونُ لَهُ بَرْقٌ، وَكَذَلِكَ يُقَالُ: شَجَرٌ نَاضِرٌ، وَرَوْضٌ نَاضِرٌ. وَمِنْهُ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «نَضَرَ اللَّهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا» الْحَدِيثَ.
أَكْثَرُ الرُّوَاةِ رَوَاهُ بِالتَّخْفِيفِ، وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ فِيهِ التَّشْدِيدَ، وَأَلْفَاظُ الْمُفَسِّرِينَ مُخْتَلِفَةٌ فِي تَفْسِيرِ النَّاضِرِ، وَمَعْنَاهَا وَاحِدٌ قَالُوا: مَسْرُورَةٌ، نَاعِمَةٌ، مضيئة، مسفرة، مُشْرِقَةٌ بَهِجَةٌ.
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: نَضَرَتْ بِنَعِيمِ الْجَنَّةِ، كَمَا قَالَ: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ [المطففين: ٢٤].
[سورة القيامة (٧٥) : آية ٢٣]
إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣)
اعْلَمْ أَنَّ جُمْهُورَ أَهْلِ السُّنَّةِ يَتَمَسَّكُونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي إِثْبَاتِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ اللَّهَ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ. أَمَّا المعتزلة فلهم هاهنا مَقَامَانِ أَحَدُهُمَا: بَيَانُ أَنَّ ظَاهِرَهُ لَا يَدُلُّ عَلَى رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالثَّانِي: بَيَانُ التَّأْوِيلِ.
أَمَّا الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: فَقَالُوا: النَّظَرُ الْمَقْرُونُ بِحَرْفِ إِلَى لَيْسَ اسْمًا لِلرُّؤْيَةِ، بَلْ لِمُقَدِّمَةِ الرُّؤْيَةِ وهي تقليب الحدقة نحو المرئي التماس لِرُؤْيَتِهِ، وَنَظَرُ الْعَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرُّؤْيَةِ كَنَظَرِ الْقَلْبِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَعْرِفَةِ، وَكَالْإِصْغَاءِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى السَّمَاعِ، فَكَمَا أَنَّ نَظَرَ الْقَلْبِ مُقَدِّمَةٌ لِلْمَعْرِفَةِ، وَالْإِصْغَاءَ مُقَدِّمَةٌ لِلسَّمَاعِ، فَكَذَا نَظَرُ الْعَيْنِ مُقَدِّمَةٌ لِلرُّؤْيَةِ، قَالُوا: وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّظَرَ لَيْسَ اسْمًا لِلرُّؤْيَةِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ [الْأَعْرَافِ: ١٩٨] أَثْبَتَ النَّظَرَ حَالَ عَدَمِ الرُّؤْيَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ النَّظَرَ غَيْرُ الرُّؤْيَةِ وَالثَّانِي: أَنَّ النَّظَرَ يُوصَفُ بِمَا لَا تُوصَفُ بِهِ الرُّؤْيَةُ، يُقَالُ: نَظَرَ إِلَيْهِ نَظَرًا شَزَرًا، وَنَظَرَ غَضْبَانَ، وَنَظَرَ رَاضٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ لِأَجْلِ أَنَّ حَرَكَةَ الْحَدَقَةِ تَدُلُّ عَلَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ، وَلَا تُوصَفُ الرُّؤْيَةُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَلَا يُقَالُ: رَآهُ شَزَرًا، وَرَآهُ رُؤْيَةَ غَضْبَانَ، أَوْ رُؤْيَةَ رَاضٍ الثَّالِثُ: يُقَالُ: انْظُرْ إِلَيْهِ حَتَّى تَرَاهُ، وَنَظَرْتُ إِلَيْهِ فَرَأَيْتُهُ، وَهَذَا يُفِيدُ كَوْنَ الرُّؤْيَةِ/ غَايَةً لِلنَّظَرِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْفَرْقَ بَيْنَ النَّظَرِ وَالرُّؤْيَةِ الرَّابِعُ: يقال: دور فُلَانٍ مُتَنَاظِرَةٌ، أَيْ مُتَقَابِلَةٌ، فَمُسَمَّى النَّظَرِ حَاصِلٌ هاهنا، ومسمى الرؤية غير حاصل الخامس: قوله الشَّاعِرِ:
وُجُوهٌ نَاظِرَاتٌ يَوْمَ بَدْرٍ | إِلَى الرَّحْمَنِ تَنْتَظِرُ الْخَلَاصَا |
فَيَا مَيُّ هَلْ يُجْزِي بكائي بمثله | مرارا وأنفاسي إليك الزوافر |
وَإِنِّي مَتَّى أُشْرِفُ عَلَى الْجَانِبِ الَّذِي | بِهِ أَنْتِ مِنْ بَيْنِ الْجَوَانِبِ نَاظِرَا |