تفسير سورة إبراهيم

أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
تفسير سورة سورة إبراهيم من كتاب أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن .
لمؤلفه الشنقيطي - أضواء البيان . المتوفي سنة 1393 هـ

قوله تعالى :
﴿ الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ﴾ الآية.
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم هذا الكتاب العظيم ليخرج به الناس من ظلمات الكفر والضلال إلى نور الإيمان والهدى وأوضح هذا المعنى في آيات أخر كقوله ﴿ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ ءَايَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ﴾ [ الحديد : ٩ ] وقوله ﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءامَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ﴾ [ البقرة : ٢٥٧ ] الآية إلى غير ذلك من الآيات كما تقدمت الإشارة إليه وقد بين تعالى هنا أنه لا يخرج أحداً من الظلمات إلى النور إلا بإذنه جل وعلا في قوله :﴿ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ﴾ الآية وأوضح ذلك في آيات أخر كقوله :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [ النساء : ٦٤ ] الآية وقوله :﴿ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [ يونس : ١٠٠ ] الآية إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ ﴾ الآية.
بين الله تعالى في هذه الآية الكريمة أنه لم يرسل رسولاً إلا بلغة قومه، لأنه لم يرسل رسولاً إلا إلى قومه دون غيرهم ولكنه بين في مواضع أخر أن نبينا صلى الله عليه وسلم أرسل إلى جميع الخلائق دون اختصاص بقومه ولا بغيرهم كقوله تعالى :﴿ قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ﴾ [ الأعراف : ١٥٨ ] وقوله :﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً ﴾ [ الفرقان : ١ ] وقوله :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ ﴾ [ سبأ : ٢٨ ] الآية، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على عموم رسالته لأهل كل لسان فهو صلى الله عليه وسلم يجب عليه إبلاغ أهل كل لسان، وقد قدمنا في سورة البقرة قول ابن عباس رضي الله عنهما «إن الله فضل محمداً صلى الله عليه وسلم على الأنبياء وعلى أهل السماء فقالوا بم يا بن عباس فضله على أهل السماء، فقال إن الله تعالى قال :﴿ وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذالِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِى الظَّالِمِينَ ﴾، وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم :﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً * لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً ﴾ [ الفتح : ١و٢ ] قالوا : فما فضله على الأنبياء قال : قال الله تعالى :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ﴾ وقال الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ ﴾ [ سبأ : ٢٨ ]، فأرسله إلى الجن والإنس »، ذكره أبو محمد الدارمي في مسنده كما تقدم وهو تفسير من ابن عباس للآية بما ذكرنا والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِى أَفْوَاهِهِمْ ﴾ الآية.
اختلف العلماء في معنى هذه الآية الكريمة فقال بعض العلماء معناها أن أولئك الكفار جعلوا أيدي أنفسهم في أفواههم ليعضوا عليها غيظاً وحنقاً لما جاءت به الرسل إذ كان فيه تسفيه أحلامهم وشتم أصنامهم وممن قال بهذا القول عبد الله بن مسعود وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم واختاره ابن جرير واستدل له بقوله تعالى ﴿ وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ ﴾ وهذا المعنى معروف في كلام العرب ومنه قول الشاعر :
تردون في فيه غش الحسود *** حتى يعض على الأكف
يعني أنهم يغيظون الحسود حتى يعض على أصابعه وكفيه : قال القرطبي ومنه قول الآخر أيضاً :
قد أفنى أنامله أزمة *** فأضحى يعض على الوظيفا
أي أفنى أنامله عضاً وقال الراجز :
لو أن سلمى أبصرت تخددي *** ودقة بعظم ساقي ويدي
وبعد أهلي وجفاء عودي *** عضت من الوجد بأطراف اليد
وفي الآية الكريمة أقوال غير هذا منها : أنهم لما سمعوا كتاب الله عجبوا ورجعوا بأيديهم إلى أفواههم من العجب. ويروى عن ابن عباس، ومنها : أنهم كانوا إذا قال لهم نبيهم أنا رسول الله إليكم أشاروا بأصابعهم إلى أفواههم أن اسكت تكذيباً له ورداً لقوله. ويروى هذا عن أبي صالح ومنها : أن معنى الآية أنهم ردوا على الرسل قولهم وكذبوهم بأفواههم فالضمير الأول للرسل والثاني للكفار، وعلى هذا القول ففي بمعنى الباء ويروى هذا القول عن مجاهد وقتادة ومحمد بن كعب قال ابن جرير وتوجيهه أن في هنا بمعنى الباء قال وقد سمع من العرب أدخلك الله بالجنة يعنون في الجنة وقال الشاعر :
وأرغب فيها عن لقيط ورهطه *** ولكنني عن سنبس لست أرغب
يريد وأرغب بها : قال ابن كثير : ويؤيد هذا القول تفسير ذلك بتمام الكلام وهو قوله تعالى :﴿ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِى شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ ﴾ [ إبراهيم : ٩ ].
قال مقيده عفا الله عنه : الظاهر عندي خلاف ما استظهره ابن كثير رحمه الله تعالى، لأن العطف بالواو يقتضي مغايرة ما بعده لما قبله، فيدل على أن المراد بقوله :﴿ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ ﴾ الآية غير التصريح بالتكذيب بالأفواه والعلم عند الله تعالى. وقيل : المعنى أن الكفار جعلوا أيديهم في أفواه الرسل رداً لقولهم وعليه. فالضمير الأول للكفار والثاني للرسل، ويروى هذا عن الحسن وقيل جعل الكفار أيدي الرسل على أفواه الرسل ليسكتوهم ويقطعوا كلامهم ويروى هذا عن مقاتل وقيل رد الرسل أيدي الكفار في أفواههم وقيل غير ذلك فقد رأيت الأقوال وما يشهد له القرآن منها والعلم عند الله تعالى.
تنبيه
جمع الفم مكسراً على أفواه يدل على أن أصله فوه فحذفت الفاء والواو وعوضت عنهما الميم.
قوله تعالى :﴿ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ ﴾.
صرح تعالى في هذه الآية الكريمة أن الكفار صرحوا للرسل بأنهم كافرون بهم وأنهم شاكون فيما جاؤوهم به من الوحي وقد نص تعالى على بعضهم بالتعيين أنهم صرحوا بالكفر به وأنهم شاكون فيما يدعوهم إليه كقول قوم صالح له. ﴿ أَتَنْهَانَآ أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ ﴾ [ هود : ٦٢ ] وصرحوا بالكفر به في قوله :﴿ قَالَ الْمَلأ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ ءَامَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُواْ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُون َقَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا بِالَّذِي ءَامَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ﴾ [ الأعراف : ٧٥-٧٦ ] ونحو ذلك من الآيات وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يذكر عموم في آية ثم يصرح في آية أخرى بدخول بعض أفراد ذلك العموم فيه كما هنا وكما تقدم المثال له بقوله تعالى :﴿ ذالِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ ﴾ [ الحج : ٣٢ ] مع قوله :﴿ وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ ﴾ [ الحج : ٣٦ ] الآية.
قوله تعالى :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ في مِلَّتِنَا ﴾. بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن الكفار توعدوا الرسل بالإخراج من أرضهم والنفي من بين أظهرهم إن لم يتركوا ما جاءوا به من الوحي وقد نص في آيات أخر أيضاً على بعض ذلك مفصلاً كقوله من قوم شعيب ﴿ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا في مِلَّتِكُمْ ﴾ [ الأعراف : ٨٨-٨٩ ] الآية وقوله عن قوم لوط ﴿ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُواْ ءَالَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ﴾ [ النمل : ٥٦ ] وقوله عن مشركي قريش ﴿ وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ [ الإسراء : ٧٦ ] وقوله :﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [ الأنفال : ٣٠ ] إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى :﴿ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِين *َوَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذالِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ ﴾ [ ١٣-١٤ ].
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه أوحى إلى رسله أن العاقبة والنصر لهم على أعدائهم وأنه يسكنهم الأرض بعد إهلاك أعدائهم وبين هذا المعنى في آيات كثيرة كقوله :﴿ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ*إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ*وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ﴾ [ الصافات : ١٧١-١٧٣ ] وقوله :﴿ كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ ﴾[ المجادلة : ٢١ ] وقوله ﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ في الْحَيَواةِ الدُّنْيَا ﴾ [ غافر : ٥١ ] الآية.
وقوله :﴿ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُواْ بِاللَّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [ الأعراف : ١٢٨ ] وقوله :﴿ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ﴾ [ الأعراف : ١٣٧ ] إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى :﴿ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ﴾.
لم يبين هنا كيفية خيبة الجبار العنيد ولكنه أشار إلى معنى خيبته وبعض صفاته القبيحة في قوله في سورة «ق » ﴿ أَلْقِيَا في جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً ءَاخَرَ فَأَلْقِيَاهُ في الْعَذَابِ الشَّدِيدِ ﴾ [ ق : ٢٤-٢٦ ] والجبار المتجبر في نفسه والعنيد المعاند للحق، قاله ابن كثير.
قوله تعالى :﴿ مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ ﴾ الآية.
وراء هنا بمعنى أمام كما هو ظاهر. ويدل له إطلاق وراء بمعنى إمام في القرآن وفي كلام العرب، فمنه في القرآن قوله تعالى :﴿ وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً ﴾ [ الكهف : ٧٩ ] أي أمامهم ملك. وكان ابن عباس يقرؤها وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً، ومن إطلاق وراء بمعنى أمام في كلام العرب قول لبيد :
أليس ورائي إن تراخت منيتي لزوم العصا تحنى عليها الأصابع
وقول الآخر :
أترجو بنو مروان سمعي وطاعتي وقومي تميم والفلاة ورائيا
وقوله الآخر :
ومن ورائك يوم أنت بالغه لا حاضر معجز عنه ولا باد
فوراء بمعنى أمام في الأبيات. وقال بعض العلماء ؛ ومعنى من ورائه جهنم، أي من بعد هلاكه جهنم، وعليه فوراء في الآية بمعنى بعد، ومن إطلاق وراء بمعنى بعد قول النابغة :
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة وليس وراء الله للمرء مذهب
أي ليس بعد الله مذهب، قاله القرطبي. والأول هو الظاهر وهو الحق.
قوله تعالى :﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ ﴾ الآية.
ضرب الله تعالى لأعمال الكفار مثلاً في هذه الآية الكريمة برماد اشتدت به الرياح في يوم عاصف، أي شديد الريح، فإن تلك الريح الشديدة العاصفة تطير ذلك الرماد ولم تبق له أثراً فكذلك أعمال الكفار كصلات الأرحام وقري الضيف والتنفيس عن المكروب وبر الوالدين ونحو ذلك يبطلها الكفر ويذهبها كما تطير تلك الريح ذلك الرماد وضرب أمثالاً أخر في آيات أخر لأعمال الكفار بهذا المعنى كقوله :﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآءً حَتَّى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً ﴾ [ النور : ٣٩ ] وقوله ﴿ مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ في هِذِهِ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ ﴾ [ آل عمران : ١١٧ ] الآية وقوله ﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾[ البقرة : ٢٦٤ ] وقوله :﴿ وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً ﴾ [ الفرقان : ٢٣ ] إلى غير ذلك من الآيات.
وبين في موضع آخر أن الحكمة في ضربه للأمثال أن يتفكر الناس فيها فيفهموا الشيء بنظرة وهو قوله :﴿ وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [ الحشر : ٢١ ] ونظيره قوله ﴿ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ [ إبراهيم : ٢٥ ] وبين في موضع آخر أن الأمثال لا يعقلها إلا أهل العلم وهو قوله تعالى :﴿ وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ الْعَالِمُونَ ﴾ [ العنكبوت : ٤٣ ] وبين في موضع آخر أن المثل المضروب بجعله الله سبب هداية لقوم فهموه وسبب ضلال لقوم لم يفهموا حكمته وهو قوله :﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ ﴾ [ البقرة : ٢٦ ] وبين في موضع آخر أنه تعالى لا يستحي أن يضرب مثلاً ما ولو كان المثل المضروب بعوضة فما فوقها قيل فما هو أصغر منها لأنه يفوقها في الصغر وقيل فما فوقها أي فما هو أكبر منها هو قوله :﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْىِ أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ﴾ [ البقرة : ٢٦ ] ولذلك ضرب المثل بالعنكبوت في قوله ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَآءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ﴾ [ العنكبوت : ٤١ ] وضربه بالحمار في قوله ﴿ كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً ﴾ [ الجمعة : ٥ ] الآية وضربه. بالكلب في قوله ﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ﴾ إلى غير ذلك والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَيءٍ ﴾.
هذه المحاجة التي ذكرها الله هنا عن الكفار بينها في مواضع أخر كقوله :﴿ وَإِذْ يَتَحَآجُّونَ في النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِّنَ النَّارِ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُلٌّ فِيهَآ إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ ﴾ [ غافر : ٤٧-٤٨ ] كما تقدم إيضاحه.
قوله تعالى :﴿ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِىَ الأمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ﴾.
بين في هذه الآية أن الله وعدهم وعد الحق وأن الشيطان وعدهم فأخلفهم ما وعدهم وبين هذا المعنى في آيات كثيرة كقوله في وعد الله ﴿ وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً ﴾ [ النساء : ١٢٢ ] وقوله :﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ﴾ [ آل عمران : ٩ ] وقوله في وعد الشيطان ﴿ يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً ﴾ [ النساء : ١٢٠ ] ونحو ذلك من الآيات.
قوله تعالى :﴿ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ ﴾.
بين في هذه الآية الكريمة أن تحية أهل الجنة في الجنة سلام وبين في مواضع أخر أن الملائكة تحييهم بذلك وأن بعضهم يحيي بعضاً بذلك فقال في تحية الملائكة لهم :﴿ وَالمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ *سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ ﴾ [ الرعد : ٢٣-٢٤ ] الآية وقال :﴿ وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ ﴾ [ الزمر : ٧٣ ] الآية وقال :﴿ وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَاماً ﴾ [ الفرقان : ٧٥ ] وقال في تحية بعضهم بعضاً :﴿ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ ﴾ [ يونس : ١٠ ] كما تقدم إيضاحه.
قوله تعالى :﴿ قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ ﴾.
هذا تهديد منه تعالى لهم بأن مصيرهم إلى النار وذلك المتاع القليل في الدنيا لا يجدي من مصيره إلى النار وبين هذا المعنى في آيات كثيرة كقوله :﴿ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ﴾ [ الزمر : ٨ ] وقوله :﴿ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ ﴾ [ لقمان : ٢٤ ] وقوله ﴿ مَتَاعٌ في الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ ﴾ [ يونس : ٧٠ ] وقوله :﴿ لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ في الْبِلَادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ﴾ [ آل عمران : ١٩٦-١٩٧ ] الآية إلى ذلك من الآيات.
قوله تعالى :﴿ قُل لِّعِبَادِىَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلَالٌ ﴾.
أمر تعالى في هذه الآية الكريمة بالمبادرة إلى الطاعات كالصلوات والصدقات من قبل إتيان يوم القيامة الذي هو اليوم الذي لا بيع فيه ولا مخالة بين خليلين فينتفع أحدهما بخلة الآخر فلا يمكن أحداً أن تباع له نفسه فيفديها ولا خليل ينفع خليله يومئذ وبين هذا المعنى في آيات كثيرة كقوله :﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ ﴾ [ البقرة : ٢٥٤ ] الآية. وقوله :﴿ فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلاَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ [ الحديد : ١٥ ] وقوله :﴿ وَاتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا ﴾. [ البقرة : ١٢٣ ] الآية. ونحو ذلك من الآيات والخلال في هذه الآية قبل : جمع خلة كقلة وقلال والخلة : المصادقة وقيل : هو مصدر خاله على وزن فاعل مخالة وخلالاً ومعلوم أن فاعل ينقاس مصدرها على المفاعلة والفعال. وهذا هو الظاهر ومنه قول امرئ القيس :
صرفت الهوى عنهن من خشية الردى ولست بمقلي الخلال ولا قال
أي ليست بمكروه المخالة.
قوله تعالى :﴿ وَاجْنُبْنِي وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ ﴾.
لم يبين هنا هل أجاب دعاء نبيه إبراهيم هذا ولكنه بين في مواضع أخر أنه أجابه في بعض ذريته دون بعض كقوله :﴿ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ ﴾ [ الصافات : ١١٣ ] وقوله :﴿ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً في عَقِبِهِ ﴾ [ الزخرف : ٢٨ ] الآية.
قوله تعالى :﴿ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّى وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾.
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن نبيه إبراهيم قال : إن من تبعه فإنه منه وأنه رد أمر من لم يتبعه إلى مشيئة الله تعالى إن شاء الله غفر له لأنه هو الغفور الرحيم وذكر نحو هذا عن عيسى ابن مريم في قوله :﴿ إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [ المائدة : ١١٨ ] وذكر عن نوح وموسى التشديد في الدعاء على قومهما فقال عن نوح إنه قال :﴿ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً ﴾ [ نوح : ٢٦ ] إلى قوله :﴿ فَاجِراً كَفَّاراً ﴾ [ نوح : ٢٧ ] وقال عن موسى إنه قال :﴿ رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الألِيمَ ﴾ [ يونس : ٨٨ ] والظاهر أن نوحاً وموسى عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام ما دعوا ذلك الدعاء على قومهما إلا بعد أن علما من الله أنهم أشقياء في علم الله لا يؤمنون أبداً، أما نوح فقد صرح الله تعالى له بذلك في قوله :﴿ وَأُوحِىَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ ءَامَنَ ﴾ [ هود : ٣٦ ] وأما موسى فقد فهم ذلك من قول قومه له :﴿ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن ءَايَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [ الأعراف : ١٣٢ ] فإنهم قالوا هذا القول بعد مشاهدة تلك الآيات العظيمة المذكورة في الأعراف وغيرها.
قوله تعالى :﴿ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مَّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِّنَ الثَّمَرَاتِ ﴾ الآية.
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن نبيه إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام دعا لذريته الذين أسكنهم بمكة المكرمة أن يرزقهم الله من الثمرات، وبين في سورة البقرة أن إبراهيم خص بهذا الدعاء المؤمنين منهم، وأن الله أخبره أنه رازقهم جميعاً مؤمنهم وكافرهم ثم يوم القيامة يعذب الكافر وذلك بقوله :﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ ءَامَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ ﴾ [ البقرة : ١٢٦ ] الآية. قال بعض العلماء : سبب تخصيص إبراهيم المؤمنين في هذا الدعاء بالرزق أنه دعا لذريته أولاً أن يجعلهم الله أئمة ولم يخصص بالمؤمنين فأخبره الله أن الظالمين من ذريته لا يستحقون ذلك. قال تعالى :﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ [ البقرة : ١٢٤ ] فلما أراد أن يدعو لهم بالرزق خص المؤمنين بسبب ذلك فقال : وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر فأخبره الله أن الرزق ليس كالإمامة فالله يرزق الكافر من الدنيا ولا يجعله إماماً. ولذا قال له في طلب الإمامة لا ينال عهدي الظالمين ولما خص المؤمنين بطلب الرزق قال له :﴿ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ﴾ [ البقرة : ١٢٦ ] الآية.
قوله تعالى :﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لي وَلِوَالِدَىَّ ﴾ الآية.
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن إبراهيم طلب المغفرة لوالديه وبين في آيات أخر أن طلبه الغفران لأبيه إنما كان قبل أن يعلم أنه عدو لله فلما علم ذلك تبرأ منه كقوله :﴿ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ﴾ [ التوبة : ١١٤ ] ونحو ذلك من الآيات.
قوله تعالى :﴿ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ ﴾.
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه يؤخر عقاب الكفار إلى يوم تشخص فيه الأبصار من شدة الخوف وأوضح ذلك في قوله تعالى :﴿ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِىَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ [ الأنبياء : ٩٧ ] الآية. ومعنى شخوص الأبصار أنها تبقى منفتحة لا تغمض من الهول وشدة الخوف.
قوله تعالى :﴿ مُهْطِعِينَ ﴾ الآية.
الإهطاع في اللغة : الإسراع، وقد بين تعالى في مواضع أخر أنهم يوم القيامة يأتون مهطعين أي مسرعين إذا دعوا للحساب كقوله تعالى :﴿ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ ﴾ [ القمر : ٧-٨ ] الآية. وقوله :﴿ يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ ﴾ [ المعارج : ٤٣ ] وقوله :﴿ يَوْمَ تَشَقَّقُ الأرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ ﴾ [ ق : ٤٤ ] إلى غير ذلك من الآيات.
ومن إطلاق الإهطاع في اللغة بمعنى الإسراع قول الشاعر :
بدجلة دارهم ولقد أراهم بدجلة مهطعين إلى السماع
أي مسرعين إليه.
قوله تعالى :﴿ وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ في الأصْفَادِ ﴾.
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن المجرمين وهم الكفار يوم القيامة يقرنون في الأصفاد وبين تعالى هذا المعنى في مواضع أخر كقوله :﴿ وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُّقَرَّنِينَ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً ﴾ [ الفرقان : ١٣ ] ونحو ذلك من الآيات.
والأصفاد : هي الأغلال والقيود، واحدها : صفد بالسكون وصفد بالتحريك. ومنه قول عمرو بن كلثوم :
فآبوا بالنهاب وبالسبايا وأبنا بالملوك مصفدينا
وقوله تعالى :﴿ وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّآءٍ وَغَوَّاصٍ وَءَاخَرِينَ مُقَرَّنِينَ في الأصْفَادِ ﴾.
قوله تعالى :﴿ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ ﴾.
بين في هذه الآية الكريمة أن النار يوم القيامة تغشى وجوه الكفار فتحرقها، وأوضح ذلك في مواضع أخر كقوله :﴿ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ ﴾ [ المؤمنون : ١٠٤ ] وقوله :﴿ لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ ﴾ [ الأنبياء : ٣٩ ] الآية. إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى :﴿ هَذَا بَلَاغٌ لِّلنَّاسِ ﴾ الآية.
بين في هذه الآية الكريمة أن هذا القرآن بلاغ لجميع الناس وأوضح هذا المعنى في قوله :﴿ وَأُوحِىَ إِلَىَّ هَذَا الْقُرْءَانُ لأنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ ﴾ [ الأنعام : ١٩ ] وبين أن من بلغه ولم يؤمن به فهو في النار كائناً من كان في قوله :﴿ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ في مِرْيَةٍ مِّنْهُ ﴾ [ هود : ١٧ ] الآية.
قوله تعالى :﴿ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ ﴾ [ ٥٢ ].
بين في هذه الآية الكريمة أن من حكم إنزال القرآن العظيم العلم بأنه تعالى إله واحد، وأن من حكمه أن يتعظ أصحاب العقول. وبين هذا في مواضع أخر فذكر الحكمة الأولى في أول سورة هود في قوله :﴿ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءايَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ ﴾ [ هود : ١-٢ ] الآية، كما تقدم إيضاحه، وذكر الحكمة الثانية في قوله :﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُواْ ءَايَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الألْبَابِ ﴾ [ ص : ٢٩ ] وهم أصحاب العقول السليمة من شوائب الاختلال، واحد الألباب لب بالضم، والعلم عند الله تعالى.
Icon