مكية وآياتها ثمان وعشرون ومائة غير ثلاث آيات في أخرها
وحكى الأصم عن بعضهم أن كلها مدنية، وقال آخرون : من أولها إلى قوله :﴿ كن فيكون ﴾ مدني وما سواه فمكي، وعن قتادة بالعكس.
واعلم أن السورة تسمى سورة النعم وهي مائة وعشرون وثمان آيات مكية.
ﰡ
مَكِّيَّةٌ، إِلَّا الْآيَاتِ الثَّلَاثَ الْأَخِيرَةَ فمدنية وآياتها: ١٢٨، نزلت بعد سورة الكهف بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١ الى ٢]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (٢)سورة النحل مكية غير ثلاث آيات في أخرها وَحَكَى الْأَصَمُّ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ كُلَّهَا مَدَنِيَّةٌ، وَقَالَ آخَرُونَ: مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى قَوْلِهِ: كُنْ فَيَكُونُ مَدَّنِيٌّ وَمَا سِوَاهُ فَمَكِّيٌّ، وَعَنْ قَتَادَةَ بِالْعَكْسِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ تُسَمَّى سُورَةَ النِّعَمِ وَهِيَ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ وَثَمَانِ آيَاتٍ مَكِّيَّةٍ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ.
فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ مَعْرِفَةَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مُرَتَّبَةٌ عَلَى سُؤَالَاتٍ ثَلَاثَةٍ:
فَالسُّؤَالُ الْأَوَّلُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُخَوِّفُهُمْ بِعَذَابِ الدُّنْيَا تَارَةً وَهُوَ الْقَتْلُ وَالِاسْتِيلَاءُ عَلَيْهِمْ كَمَا حَصَلَ فِي يَوْمِ بَدْرٍ، وَتَارَةً بِعَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ الَّذِي يَحْصُلُ عِنْدَ/ قِيَامِ السَّاعَةِ، ثُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ لَمَّا لَمْ يُشَاهِدُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ احْتَجُّوا بِذَلِكَ عَلَى تَكْذِيبِهِ وَطَلَبُوا مِنْهُ الْإِتْيَانَ بِذَلِكَ الْعَذَابِ وَقَالُوا لَهُ ائْتِنَا بِهِ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ [الْأَنْبِيَاءِ: ١] فَأَشْفَقُوا وَانْتَظَرُوا يَوْمَهَا فَلَمَّا امْتَدَّتِ الْأَيَّامُ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ مَا نَرَى شَيْئًا مِمَّا تُخَوِّفُنَا بِهِ فَنَزَلَ قَوْلُهُ: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَوَثَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَفَعَ النَّاسُ رُؤُوسَهُمْ فَنَزَلَ قَوْلُهُ: فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أَكْثَرَ مِنْ تَهْدِيدِهِمْ بِعَذَابِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ وَلَمْ يَرَوْا شَيْئًا نَسَبُوهُ إِلَى الْكَذِبِ.
فَأَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ بِقَوْلِهِ: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ وَفِي تَقْرِيرِ هَذَا الْجَوَابِ وَجْهَانِ:
الوجه الْأَوَّلُ: أَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَأْتِ ذَلِكَ الْعَذَابُ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ وَاجِبَ الْوُقُوعِ وَالشَّيْءُ إِذَا كَانَ بِهَذِهِ الْحَالَةِ وَالصِّفَةِ فَإِنَّهُ يُقَالُ فِي الْكَلَامِ الْمُعْتَادِ أَنَّهُ قَدْ أَتَى وَوَقَعَ إِجْرَاءً لِمَا يَجِبُ وُقُوعُهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَجْرَى الْوَاقِعِ يُقَالُ لِمَنْ طَلَبَ الْإِغَاثَةَ وَقَرُبَ حُصُولُهَا: قَدْ جَاءَكَ الْغَوْثُ فَلَا تَجْزَعْ.
وَالوجه الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يُقَالَ أَنَّ أَمْرَ اللَّهِ بِذَلِكَ وَحُكْمَهُ بِهِ قَدْ أَتَى وَحَصَلَ وَوَقَعَ، فَأَمَّا الْمَحْكُومُ بِهِ فَإِنَّمَا لَمْ يَقَعْ، لِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ بِوُقُوعِهِ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ فَقَبْلَ مَجِيءِ ذَلِكَ الْوَقْتِ لَا يَخْرُجُ إِلَى الْوُجُودِ وَالْحَاصِلُ كَأَنَّهُ قِيلَ:
أَمْرُ اللَّهِ وَحُكْمُهُ بِنُزُولِ الْعَذَابِ قَدْ حَصَلَ وَوُجِدَ مِنَ الْأَزَلِ إِلَى الْأَبَدِ فَصَحَّ قَوْلُنَا أَتَى أَمْرُ اللَّهِ، إِلَّا أَنَّ الْمَحْكُومَ بِهِ وَالْمَأْمُورَ بِهِ إِنَّمَا لَمْ يَحْصُلْ، لِأَنَّهُ تَعَالَى خَصَّصَ حُصُولَهُ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ وَلَا تَطْلُبُوا حُصُولَهُ قَبْلَ حُضُورِ ذَلِكَ الْوَقْتِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: قَالَتِ الْكُفَّارُ: هَبْ أَنَّا سَلَّمْنَا لَكَ يَا مُحَمَّدُ صِحَّةَ مَا تَقُولُهُ مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ بِإِنْزَالِ الْعَذَابِ عَلَيْنَا إِمَّا فِي الدُّنْيَا وَإِمَّا فِي الْآخِرَةِ، إِلَّا أَنَّا نَعْبُدُ هَذِهِ الْأَصْنَامَ فَإِنَّهَا شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ فَهِيَ تَشْفَعُ لَنَا عِنْدَهُ فَنَتَخَلَّصُ مِنْ هَذَا الْعَذَابِ الْمَحْكُومِ بِهِ بِسَبَبِ شَفَاعَةِ هَذِهِ الْأَصْنَامِ.
فَأَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ بِقَوْلِهِ: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ فَنَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ شَرِكَةِ الشُّرَكَاءِ وَالْأَضْدَادِ، وَالْأَنْدَادِ وَأَنْ يَكُونَ لِأَحَدٍ مِنَ الْأَرْوَاحِ وَالْأَجْسَامِ أَنْ يَشْفَعَ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ وَ (مَا) فِي قَوْلِهِ: عَمَّا يُشْرِكُونَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، وَالتَّقْدِيرُ: سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ إِشْرَاكِهِمْ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الَّذِي، أَيْ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ هَذِهِ الْأَصْنَامِ الَّتِي جَعَلُوهَا شُرَكَاءَ لِلَّهِ، لِأَنَّهَا جَمَادَاتٌ خَسِيسَةٌ، فَأَيُّ مُنَاسَبَةٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَدْوَنِ الْمَوْجُودَاتِ فَضْلًا عَنْ أن يحكم بكونها شركاء لمدبر الأرض والسموات.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: هَبْ أَنَّهُ تَعَالَى قَضَى عَلَى بَعْضِ عَبِيدِهِ بِالسَّرَّاءِ وَعَلَى آخَرِينَ بِالضَّرَّاءِ وَلَكِنْ/ كَيْفَ يُمْكِنُكَ أَنْ تَعْرِفَ هَذِهِ الْأَسْرَارَ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ، وَكَيْفَ صِرْتَ بِحَيْثُ تَعْرِفُ أَسْرَارَ اللَّهِ وَأَحْكَامَهُ فِي مُلْكِهِ وَمَلَكُوتِهِ؟
فَأَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ وَتَقْرِيرُ هَذَا الْجَوَابِ أَنَّهُ تَعَالَى يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عَبِيدِهِ وَيَأْمُرُ ذَلِكَ الْعَبْدَ بِأَنْ يُبَلِّغَ إِلَى سَائِرِ الْخَلْقِ أَنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ وَاحِدٌ كَلَّفَهُمْ بِمَعْرِفَةِ التَّوْحِيدِ وَالْعِبَادَةِ وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَازُوا بِخَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ تَمَرَّدُوا وَقَعُوا فِي شَرِّ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَبِهَذَا الطَّرِيقِ صَارَ مَخْصُوصًا بِهَذِهِ الْمَعَارِفِ مِنْ دُونِ سَائِرِ
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: (يُنَزِّلُ) بِالْيَاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ وَتَشْدِيدِهَا، وَالْمَلَائِكَةَ بِالنَّصْبِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو يُنْزِلُ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ وَتَخْفِيفِهَا، وَالْأَوَّلُ مِنَ التَّفْعِيلِ، وَالثَّانِي مِنَ الْإِفْعَالِ، وَهُمَا لُغَتَانِ:
المسألة الثَّانِيَةُ: رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: يُرِيدُ بِالْمَلَائِكَةِ جِبْرِيلَ وَحْدَهُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَتَسْمِيَةُ الْوَاحِدِ بِاسْمِ الْجَمْعِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ الْوَاحِدُ رَئِيسًا مُقَدَّمًا جَائِزٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ.
[نوح: ١] وإِنَّا أَنْزَلْناهُ [يوسف: ٢]. وإِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ [الْحِجْرِ: ٩] وَفِي حَقِّ النَّاسِ كَقَوْلِهِ: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ [آلِ عِمْرَانَ: ١٧٣] وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ سَيَأْتِي شَرْحُهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَوْلُهُ: بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ فِيهِ قَوْلَانِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الرُّوحِ الْوَحْيُ وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشُّورَى: ٥٢] وَقَوْلُهُ: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ
[غَافِرٍ: ١٥] قَالَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ: الْجَسَدُ مَوَاتٌ كَثِيفٌ مُظْلِمٌ، فَإِذَا اتَّصَلَ بِهِ الرُّوحُ صَارَ حَيًّا لَطِيفًا نُورَانِيًّا. فَظَهَرَتْ آثَارُ النُّورِ فِي الْحَوَاسِّ الْخَمْسِ، ثُمَّ الرُّوحُ أَيْضًا ظَلْمَانِيَّةٌ جَاهِلَةٌ، فَإِذَا اتَّصَلَ الْعَقْلُ بِهَا صَارَتْ مُشْرِقَةً نُورَانِيَّةً، كَمَا قَالَ تَعَالَى، وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ [النَّحْلِ: ٧٨] ثُمَّ الْعَقْلُ أَيْضًا لَيْسَ بِكَامِلِ النُّورَانِيَّةِ وَالصَّفَاءِ وَالْإِشْرَاقِ حَتَّى يُسْتَكْمَلَ بِمَعْرِفَةِ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَمَعْرِفَةِ أَحْوَالِ عَالَمِ الْأَرْوَاحِ وَالْأَجْسَادِ، وَعَالَمِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْمَعَارِفَ الشَّرِيفَةَ الْإِلَهِيَّةَ لَا تَكْمُلُ وَلَا تَصْفُو إِلَّا بِنُورِ الْوَحْيِ وَالْقُرْآنِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْقُرْآنُ وَالْوَحْيُ بِهِ تَكْمُلُ الْمَعَارِفُ الْإِلَهِيَّةُ، وَالْمُكَاشَفَاتُ الرَّبَّانِيَّةُ وَهَذِهِ الْمَعَارِفُ بِهَا يُشْرِقُ الْعَقْلُ وَيَصْفُو وَيَكْمُلُ، وَالْعَقْلُ بِهِ يَكْمُلُ جَوْهَرُ الرُّوحِ، وَالرُّوحُ بِهِ يَكْمُلُ حَالُ الْجَسَدِ، وَعِنْدَ هَذَا يَظْهَرُ أَنَّ الرُّوحَ الْأَصْلِيَّ الْحَقِيقِيَّ هُوَ الْوَحْيُ وَالْقُرْآنُ، لِأَنَّ بِهِ يَحْصُلُ الْخَلَاصُ/ مِنْ رَقْدَةِ الْجَهَالَةِ، وَنَوْمِ الْغَفْلَةِ، وَبِهِ يَحْصُلُ الِانْتِقَالُ مِنْ حَضِيضِ الْبَهِيمِيَّةِ إِلَى أَوْجِ الْمَلَكِيَّةِ، فَظَهَرَ أَنَّ إِطْلَاقَ لَفْظِ الرُّوحِ عَلَى الْوَحْيِ فِي غَايَةِ الْمُنَاسَبَةِ وَالْمُشَاكَلَةِ، وَمِمَّا يُقَوِّي ذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى أَطْلَقَ لَفْظَ الرُّوحِ عَلَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ [الشُّعَرَاءِ: ١٩٣، ١٩٤] وَعَلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ: رَوْحِ اللَّهِ [يُوسُفَ: ٨٧] وَإِنَّمَا حَسُنَ هَذَا الْإِطْلَاقُ، لِأَنَّهُ حَصَلَ بِسَبَبِ وُجُودِهِمَا حَيَاةُ الْقَلْبِ وَهِيَ الْهِدَايَةُ وَالْمَعَارِفُ، فَلَمَّا حَسُنَ إِطْلَاقُ اسْمِ الرُّوحِ عَلَيْهِمَا لِهَذَا الْمَعْنَى، فَلَأَنْ يَحْسُنَ إِطْلَاقُ لَفْظِ الرُّوحِ عَلَى الْوَحْيِ وَالتَّنْزِيلِ كَانَ ذَلِكَ أَوْلَى.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ إِنَّ الرُّوحَ هاهنا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ:
بِالرُّوحِ بِمَعْنَى مَعَ كَقَوْلِهِمْ خَرَجَ فُلَانٌ بِثِيَابِهِ، أَيْ مَعَ ثِيَابِهِ وَرَكِبَ الْأَمِيرُ بِسِلَاحِهِ أَيْ مَعَ سِلَاحِهِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ مَعَ الرُّوحِ وَهُوَ جِبْرِيلُ، وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ، وَتَقْرِيرُ هَذَا الوجه: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ وَحْدَهُ، بَلْ فِي أَكْثَرِ الْأَحْوَالِ كَانَ يُنَزِّلُ مَعَ جِبْرِيلَ أَفْوَاجًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي يَوْمِ بَدْرٍ وَفِي كَثِيرٍ مِنَ الْغَزَوَاتِ كَانَ يَنْزِلُ مَعَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَقْوَامٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَكَانَ يَنْزِلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَارَةً مَلَكُ الْجِبَالِ. وَتَارَةً مَلَكُ الْبِحَارِ. وَتَارَةً رِضْوَانُ. وَتَارَةً غَيْرُهُمْ. وَقَوْلُهُ: مِنْ أَمْرِهِ يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ التَّنْزِيلَ
يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [النَّحْلِ: ٥] وَقَوْلُهُ: لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التَّحْرِيمِ: ٦] فَكُلُّ هَذِهِ الْآيَاتِ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يُقْدِمُونَ عَلَى عَمَلٍ مِنَ الْأَعْمَالِ إِلَّا بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِذْنِهِ، وَقَوْلُهُ: عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ يُرِيدُ الْأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ خَصَّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِرِسَالَتِهِ، وَقَوْلُهُ: أَنْ أَنْذِرُوا قَالَ الزَّجَّاجُ: أَنْ بَدَلٌ مِنَ الرُّوحِ وَالْمَعْنَى: يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِأَنْ أَنْذِرُوا، أَيْ أَعْلِمُوا الْخَلَائِقَ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا، وَالْإِنْذَارُ هُوَ الْإِعْلَامُ مَعَ التَّخْوِيفِ.
المسألة الثالثة: فِي الْآيَةِ فَوَائِدُ: الْفَائِدَةُ الْأُولَى: أَنَّ وُصُولَ الْوَحْيِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى الْأَنْبِيَاءِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ، وَمِمَّا يُقَوِّي ذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [الْبَقَرَةِ: ٢٨٥] فَبَدَأَ بِذِكْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ الْمَلَائِكَةِ، لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَتَلَقَّوْنَ الْوَحْيَ مِنَ اللَّهِ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَذَلِكَ الْوَحْيُ هُوَ الْكُتُبُ، ثُمَّ إِنَّ الْمَلَائِكَةَ يُوَصِّلُونَ ذَلِكَ الْوَحْيَ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ فَلَا جَرَمَ كَانَ التَّرْتِيبُ الصَّحِيحُ هُوَ الِابْتِدَاءُ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ بِذِكْرِ الْمَلَائِكَةِ، ثُمَّ بِذِكْرِ الْكُتُبِ وَفِي الدَّرَجَةِ الرَّابِعَةِ بِذِكْرِ الرُّسُلِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِذَا أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى الْمَلَكِ فَعِلْمُ ذَلِكَ الْمَلَكِ بِأَنَّ ذَلِكَ الْوَحْيَ وَحْيُ اللَّهِ عِلْمٌ ضَرُورِيٌّ أَوِ اسْتِدْلَالِيٌّ. وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ اسْتِدْلَالِيًّا فَكَيْفَ الطَّرِيقُ إِلَيْهِ؟ وَأَيْضًا الْمَلَكُ إِذَا بَلَّغَ ذَلِكَ الْوَحْيَ إِلَى الرَّسُولِ فَعِلْمُ الرَّسُولِ بِكَوْنِهِ مَلَكًا صَادِقًا لَا شَيْطَانًا رَجِيمًا ضَرُورِيٌّ أَوِ اسْتِدْلَالِيٌّ فَإِنْ كَانَ اسْتِدْلَالِيًّا فَكَيْفَ الطَّرِيقُ إِلَيْهِ؟ فَهَذِهِ مَقَامَاتٌ ضَيِّقَةٌ، وَتَمَامُ الْعِلْمِ بِهَا لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالبحث عَنْ حَقِيقَةِ الْمَلَكِ وَكَيْفِيَّةِ وَحْيِ اللَّهِ إِلَيْهِ، وَكَيْفِيَّةِ تَبْلِيغِ الْمَلَكِ ذَلِكَ الْوَحْيَ إِلَى الرَّسُولِ. فَأَمَّا إِذَا أَجْرَيْنَا هَذِهِ الْأُمُورَ عَلَى الْكَلِمَاتِ الْمَأْلُوفَةِ صَعُبَ الْمَرَامُ وَزَالَ النِّظَامُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ آيَاتِ الْقُرْآنِ نَاطِقَةٌ بِأَنَّ هَذَا الْوَحْيَ وَالتَّنْزِيلَ إِنَّمَا حَصَلَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَوْ نَقُولُ: هَبْ أَنَّ آيَاتِ الْقُرْآنِ لَمْ تَدُلَّ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا أَنَّ احْتِمَالَ كَوْنِ الْأَمْرِ كَذَلِكَ قَائِمٌ فِي بَدِيهَةِ الْعَقْلِ.
وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَا نَعْلَمُ كَوْنَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ صَادِقًا مَعْصُومًا عَنِ الْكَذِبِ وَالتَّلْبِيسِ إِلَّا بِالدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ، وَصِحَّةُ الدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَادِقٌ، وَصِدْقُهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مُعْجِزٌ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى، لَا مِنْ قِبَلِ شَيْطَانٍ خَبِيثٍ، وَالْعِلْمُ بِذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ بِأَنَّ جِبْرِيلَ صَادِقٌ مُحِقٌّ مُبَرَّأٌ عَنِ التَّلْبِيسِ وَعَنْ أَفْعَالِ الشَّيْطَانِ، وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ الدَّوْرُ، فَهَذَا مَقَامٌ صَعْبٌ. أَمَّا إِذَا عَرَفْنَا حَقِيقَةَ النُّبُوَّةِ وَعَرَفْنَا حَقِيقَةَ الْوَحْيِ زَالَتْ هَذِهِ الشُّبْهَةُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرُّوحَ الْمُشَارَ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ لَيْسَ إِلَّا لِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ: لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ وَهَذَا كَلَامٌ حَقٌّ، لِأَنَّ مَرَاتِبَ السَّعَادَاتِ الْبَشَرِيَّةِ أَرْبَعَةٌ: أَوَّلُهَا:
النَّفْسَانِيَّةُ، وَثَانِيهَا: الْبَدَنِيَّةُ، وَفِي الْمَرْتَبَةِ الثَّالِثَةِ: الصِّفَاتُ الْبَدَنِيَّةُ الَّتِي لَا تَكُونُ مِنَ اللَّوَازِمِ، وَفِي الْمَرْتَبَةِ الرَّابِعَةِ:
الْأُمُورُ الْمُنْفَصِلَةُ عَنِ الْبَدَنِ.
أَمَّا الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: وَهِيَ الْكَمَالَاتُ النَّفْسَانِيَّةُ، فَاعْلَمْ أَنَّ النَّفْسَ لَهَا قُوَّتَانِ: إِحْدَاهُمَا: اسْتِعْدَادُهَا لِقَبُولِ صُوَرِ الْمَوْجُودَاتِ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ، وَهَذِهِ الْقُوَّةُ هِيَ الْقُوَّةُ الْمُسَمَّاةُ بِالْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ، وَسَعَادَةُ هَذِهِ الْقُوَّةِ فِي حُصُولِ
وَأَمَّا الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ السَّعَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ فَهِيَ أَيْضًا قِسْمَانِ: الصِّحَّةُ الْجَسَدَانِيَّةُ، وَكَمَالَاتُ الْقُوَى الْحَيَوَانِيَّةِ، أَعْنِي الْقُوَى السَبْعَ عَشْرَةَ الْبَدَنِيَّةَ.
وَأَمَّا الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: وَهِيَ السَّعَادَاتُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالصِّفَاتِ الْعَرَضِيَّةِ الْبَدَنِيَّةِ، فَهِيَ أَيْضًا قِسْمَانِ: سَعَادَةُ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، أَعْنِي كَمَالَ حَالِ الْآبَاءِ. وَكَمَالَ حَالِ الْأَوْلَادِ.
وَأَمَّا الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ: وَهِيَ أَخَسُّ الْمَرَاتِبِ فَهِيَ السَّعَادَاتُ الْحَاصِلَةُ بِسَبَبِ الْأُمُورِ الْمُنْفَصِلَةِ وَهِيَ الْمَالُ وَالْجَاهُ، فَثَبَتَ أَنَّ أَشْرَفَ مَرَاتِبِ السَّعَادَاتِ هِيَ الْأَحْوَالُ النَّفْسَانِيَّةُ، وَهِيَ مَحْصُورَةٌ فِي كَمَالَاتِ الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ والعملية، فلهذا السبب ذكر الله هاهنا أَعْلَى حَالِ هَاتَيْنِ الْقُوَّتَيْنِ فَقَالَ: أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ.
[سورة النحل (١٦) : آية ٣]
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِيمَا سَبَقَ أَنَّ مَعْرِفَةَ الْحَقِّ لِذَاتِهِ، وَهِيَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا وَمَعْرِفَةَ الْخَيْرِ لِأَجْلِ الْعَمَلِ بِهِ وَهِيَ الْمُرَادُ مِنْ قوله: فَاتَّقُونِ [النحل: ٢] رُوحُ الْأَرْوَاحِ، وَمَطْلَعُ السَّعَادَاتِ، وَمَنْبَعُ الْخَيْرَاتِ وَالْكَرَامَاتِ، أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ الدَّلَائِلِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْإِلَهِ تَعَالَى وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ دَلَائِلَ الْإِلَهِيَّاتِ، إِمَّا التَّمَسُّكُ بِطَرِيقَةِ الْإِمْكَانِ فِي الذَّوَاتِ أَوْ فِي الصِّفَاتِ. أَوِ التَّمَسُّكُ بِطَرِيقَةِ الْحُدُوثِ فِي الذَّوَاتِ أَوْ فِي الصِّفَاتِ أَوْ بِمَجْمُوعِ الْإِمْكَانِ وَالْحُدُوثِ فِي الذَّوَاتِ أَوِ الصِّفَاتِ، فَهَذِهِ طُرُقٌ سِتَّةٌ، وَالطَّرِيقُ الْمَذْكُورُ فِي كُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُنَزَّلَةِ، هُوَ التَّمَسُّكُ بِطَرِيقَةِ حُدُوثِ الصِّفَاتِ وَتَغَيُّرَاتِ الْأَحْوَالِ. ثُمَّ هَذَا الطَّرِيقُ يَقَعُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَمَسَّكَ بِالْأَظْهَرِ فَالْأَظْهَرِ مُتَرَقِّيًا إِلَى الْأَخْفَى فَالْأَخْفَى، وَهَذَا الطَّرِيقُ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَإِنَّهُ تعالى قال: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَجَعَلَ تَعَالَى تَغَيُّرَ أَحْوَالِ نَفْسِ كُلِّ وَاحِدٍ دَلِيلًا عَلَى احْتِيَاجِهِ إِلَى الْخَالِقِ. ثُمَّ ذَكَرَ عَقِيبَهُ الِاسْتِدْلَالَ بِأَحْوَالِ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [الْبَقَرَةِ: ٢١] ثُمَّ ذَكَرَ عَقِيبَهُ الِاسْتِدْلَالَ بِأَحْوَالِ الْأَرْضِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً لِأَنَّ الْأَرْضَ أَقْرَبُ إِلَيْنَا مِنَ السَّمَاءِ، ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْمَرْتَبَةِ الرَّابِعَةِ قَوْلَهُ: وَالسَّماءَ بِناءً ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْمَرْتَبَةِ الْخَامِسَةِ الْأَحْوَالَ الْمُتَوَلِّدَةَ مِنْ تَرْكِيبِ السَّمَاءِ بِالْأَرْضِ، فَقَالَ: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ [الْبَقَرَةِ: ٢٢].
الثَّانِي مِنَ الدَّلَائِلِ الْقُرْآنِيَّةِ: أَنْ يَحْتَجَّ اللَّهُ تَعَالَى بِالْأَشْرَفِ فَالْأَشْرَفِ نَازِلًا إِلَى الْأَدْوَنِ/ فَالْأَدْوَنِ، وَهَذَا الطَّرِيقُ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى ابْتَدَأَ فِي الِاحْتِجَاجِ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ الْمُخْتَارِ بِذِكْرِ الْأَجْرَامِ الْعَالِيَةِ الْفَلَكِيَّةِ، ثُمَّ ثَنَّى بِذِكْرِ الِاسْتِدْلَالِ بِأَحْوَالِ الْإِنْسَانِ، ثُمَّ ثَلَّثَ بِذِكْرِ الِاسْتِدْلَالِ بِأَحْوَالِ الْحَيَوَانِ، ثم
إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ فَنَقُولُ:
النوع الْأَوَّلُ: مِنَ الدَّلَائِلِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى وجود الإله الحكيم الاستدلال بأحوال السموات وَالْأَرْضِ فَقَالَ:
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الْأَنْعَامِ: ١] أَنَّ لَفْظَ الْخَلْقِ مِنْ كَمْ وَجْهٍ يَدُلُّ عَلَى الِاحْتِيَاجِ إِلَى الْخَالِقِ الْحَكِيمِ، وَلَا بأس بأن نعيد تلك الوجوه هاهنا فَنَقُولُ: الْخَلْقُ عِبَارَةٌ عَنِ التَّقْدِيرِ بِمِقْدَارٍ مَخْصُوصٍ، وهذا المعنى حاصل في السموات مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ كُلَّ جِسْمٍ مُتَنَاهٍ فَجِسْمُ السَّمَاءِ مُتَنَاهٍ، وَكُلُّ مَا كَانَ مُتَنَاهِيًا فِي الْحَجْمِ وَالْقَدْرِ، كَانَ اخْتِصَاصُهُ بِذَلِكَ الْقَدْرِ الْمُعَيَّنِ دُونَ الْأَزْيَدِ وَالْأَنْقَصِ أَمْرًا جَائِزًا، وَكُلُّ جَائِزٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُقَدِّرٍ وَمُخَصِّصٍ، وَكُلُّ مَا كَانَ مُفْتَقِرًا إِلَى الْغَيْرِ فَهُوَ مُحْدَثٌ. الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الْحَرَكَةَ الْأَزَلِيَّةَ مُمْتَنِعَةٌ، لِأَنَّ الْحَرَكَةَ تَقْتَضِي الْمَسْبُوقِيَّةَ بِالْغَيْرِ، وَالْأَزَلُ يُنَافِيهِ فَالْجَمْعُ بَيْنَ الْحَرَكَةِ وَالْأَزَلِ مُحَالٌ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِمَّا أَنْ يُقَالَ أَنَّ الْأَجْرَامَ وَالْأَجْسَامَ كَانَتْ مَعْدُومَةً فِي الْأَزَلِ، ثُمَّ حَدَثَتْ أَوْ يُقَالَ إِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي الْأَزَلِ إِلَّا أَنَّهَا كَانَتْ سَاكِنَةً ثُمَّ تَحَرَّكَتْ. وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَلِحَرَكَتِهَا أَوَّلٌ، فَحُدُوثُ الْحَرَكَةِ مِنْ ذَلِكَ الْمَبْدَأِ دُونَ مَا قَبْلَهُ أَوْ مَا بَعْدَهُ خَلْقٌ وَتَقْدِيرٌ، فَوَجَبَ افْتِقَارُهُ إِلَى مُقَدِّرٍ وَخَالِقٍ وَمُخَصِّصٍ لَهُ. الثَّالِثُ: أَنَّ جِسْمَ الْفَلَكِ مُرَكَّبٌ مِنْ أَجْزَاءٍ بَعْضُهَا حَصَلَتْ فِي عُمْقِ جِرْمِ الْفَلَكِ وَبَعْضُهَا فِي سَطْحِهِ، وَالَّذِي حَصَلَ فِي الْعُمْقِ كَانَ يُعْقَلُ حُصُولُهُ فِي السَّطْحِ وَبِالْعَكْسِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا كَانَ اخْتِصَاصُ كُلِّ جُزْءٍ بِمَوْضِعِهِ الْمُعَيَّنِ أَمْرًا جَائِزًا فَيَفْتَقِرُ إِلَى الْمُخَصِّصِ وَالْمُقَدِّرِ، وَبَقِيَّةُ الْوُجُوهِ مَذْكُورَةٌ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا احْتَجَّ بالخلق والتقدير على حدوث السموات وَالْأَرْضِ قَالَ بَعْدَهُ: تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ وَالْمُرَادُ أن القائلين بقدم السموات وَالْأَرْضِ كَأَنَّهُمْ أَثْبَتُوا لِلَّهِ شَرِيكًا فِي كَوْنِهِ قَدِيمًا أَزَلِيًّا فَنَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ ذَلِكَ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا قَدِيمَ إِلَّا هُوَ، وَبِهَذَا الْبَيَانِ ظَهَرَ أَنَّ الْفَائِدَةَ الْمَطْلُوبَةَ مِنْ قَوْلِهِ: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ [يونس: ١٨] فِي أَوَّلِ السُّورَةِ غَيْرُ الْفَائِدَةِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْ ذكر هذه الكلمة هاهنا، لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ هُنَاكَ إِبْطَالُ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْأَصْنَامَ تَشْفَعُ لِلْكُفَّارِ فِي دَفْعِ الْعِقَابِ عنهم، والمقصود/ هاهنا إبطال قول من يقول: الأجسام قديمة، والسموات وَالْأَرْضُ أَزَلِيَّةٌ، فَنَزَّهَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ نَفْسَهُ عَنْ أَنْ يُشَارِكَهُ غَيْرُهُ فِي الْأَزَلِيَّةِ وَالْقِدَمِ وَاللَّهُ أعلم.
[سورة النحل (١٦) : آية ٤]
خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٤)
[في قوله تعالى خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ] اعْلَمْ أَنَّ أَشْرَفَ الْأَجْسَامِ بَعْدَ الْأَفْلَاكِ وَالْكَوَاكِبِ هُوَ الْإِنْسَانُ، فَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الِاسْتِدْلَالَ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ الْحَكِيمِ بِأَجْرَامِ الْأَفْلَاكِ، أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى هَذَا الْمَطْلُوبِ بِالْإِنْسَانِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِنْسَانَ مُرَكَّبٌ مِنْ بَدَنٍ وَنَفْسٍ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ إِشَارَةٌ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِبَدَنِهِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْحَكِيمِ، وَقَوْلُهُ: فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ إِشَارَةٌ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِأَحْوَالِ نَفْسِهِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْحَكِيمِ.
أَمَّا الطَّرِيقُ الْأَوَّلُ: فَتَقْرِيرُهُ أَنْ نَقُولَ: لَا شَكَّ أَنَّ النُّطْفَةَ جِسْمٌ مُتَشَابِهُ الْأَجْزَاءِ بِحَسَبِ الْحِسِّ والمشاهدة،
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: النُّطْفَةُ فِي نَفْسِهَا إِمَّا أَنْ تَكُونَ جِسْمًا مُتَشَابِهَ الْأَجْزَاءِ فِي الطَّبِيعَةِ وَالْمَاهِيَّةِ، أَوْ مُخْتَلِفَ الْأَجْزَاءِ فِيهَا، فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ هُوَ الْأَوَّلَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْمُقْتَضِيَ لِتَوَلُّدِ الْبَدَنِ مِنْهَا هُوَ الطَّبِيعَةُ الْحَاصِلَةُ فِي جَوْهَرِ النُّطْفَةِ وَدَمِ الطَّمْثِ، لِأَنَّ الطَّبِيعَةَ تَأْثِيرُهَا بِالذَّاتِ وَالْإِيجَابِ لَا بِالتَّدْبِيرِ وَالِاخْتِيَارِ. وَالْقُوَّةُ الطَّبِيعِيَّةُ إِذَا عَمِلَتْ فِي مَادَّةٍ مُتَشَابِهَةِ الْأَجْزَاءِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِعْلُهَا هُوَ الْكُرَةُ، وَعَلَى هَذَا الْحَرْفِ عَوَّلُوا فِي قَوْلِهِمُ الْبَسَائِطُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ أَشْكَالُهَا الطَّبِيعِيَّةُ فِي الْكُرَةِ فَلَوْ كَانَ الْمُقْتَضِي لِتَوَلُّدِ الْحَيَوَانِ مِنَ النُّطْفَةِ هُوَ الطَّبِيعَةُ، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ شَكْلُهَا الْكُرَةَ. وَحَيْثُ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، عَلِمْنَا أَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِحُدُوثِ الْأَبْدَانِ الْحَيَوَانِيَّةِ لَيْسَ هُوَ الطَّبِيعَةُ، بَلْ فَاعِلٌ مُخْتَارٌ، وَهُوَ يَخْلُقُ بِالْحِكْمَةِ وَالتَّدْبِيرِ وَالِاخْتِيَارِ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: النُّطْفَةُ جِسْمٌ مُرَكَّبٌ مِنْ أَجْزَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي الطَّبِيعَةِ وَالْمَاهِيَّةِ فَنَقُولُ:
بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ تَوَلُّدُ الْبَدَنِ مِنْهَا بِتَدْبِيرِ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ حَكِيمٍ وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ:
الوجه الْأَوَّلُ: أَنَّ النُّطْفَةَ رُطُوبَةٌ سَرِيعَةُ الِاسْتِحَالَةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتِ الْأَجْزَاءُ الْمَوْجُودَةُ فِيهَا لَا تَحْفَظُ الْوَضْعَ وَالنِّسْبَةَ، فَالْجُزْءُ الَّذِي هُوَ مَادَّةُ الدِّمَاغِ يُمْكِنُ حُصُولُهُ فِي الْأَسْفَلِ، وَالْجُزْءُ الَّذِي هُوَ مَادَّةُ الْقَلْبِ قَدْ يَحْصُلُ فِي الْفَوْقِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ لَا تَكُونَ أَعْضَاءُ الْحَيَوَانِ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ الْمُعَيَّنِ أَمْرًا دَائِمًا وَلَا أَكْثَرِيًّا، وَحَيْثُ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، عَلِمْنَا أَنَّ حُدُوثَ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ الْخَاصِّ لَيْسَ إِلَّا بِتَدْبِيرِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ الْحَكِيمِ.
وَالوجه الثَّانِي: أَنَّ النُّطْفَةَ بِتَقْدِيرِ أَنَّهَا جِسْمٌ مُرَكَّبٌ مِنْ أَجْزَاءٍ مُخْتَلِفَةِ الطَّبَائِعِ، إِلَّا أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَنْتَهِيَ تَحْلِيلُ تَرْكِيبِهَا إِلَى أَجْزَاءٍ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا فِي نَفْسِهِ جِسْمًا بَسِيطًا، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَلَوْ كَانَ الْمُدَبِّرُ لَهَا قُوَّةً طَبِيعِيَّةً لَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْبَسَائِطِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ شَكْلُهُ هُوَ الْكُرَةُ فَكَانَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْحَيَوَانُ عَلَى شَكْلِ كُرَاتٍ مَضْمُومَةٍ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، وَحَيْثُ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، عَلِمْنَا أَنَّ مُدَبِّرَ أَبْدَانِ الْحَيَوَانَاتِ لَيْسَ هِيَ الطَّبَائِعُ وَلَا تَأْثِيرَاتُ الْأَنْجُمِ وَالْأَفْلَاكِ، لِأَنَّ تِلْكَ التَّأْثِيرَاتِ مُتَشَابِهَةٌ، فَعَلِمْنَا أَنَّ مُدَبِّرَ أَبْدَانِ الْحَيَوَانَاتِ فَاعِلٌ مُخْتَارٌ حَكِيمٌ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، هَذَا هُوَ الِاسْتِدْلَالُ بِأَبْدَانِ الْحَيَوَانَاتِ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ الْمُخْتَارِ. وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْمُخْتَارِ الْحَكِيمِ بِأَحْوَالِ النَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ فَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: فِي بَيَانِ وَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ وَتَقْرِيرِهِ: أَنَّ النُّفُوسَ الْإِنْسَانِيَّةَ فِي أَوَّلِ الْفِطْرَةِ أَقَلُّ فَهْمًا وَذَكَاءً وَفِطْنَةً مِنْ نُفُوسِ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ، أَلَا تَرَى أَنَّ وَلَدَ الدَّجَاجَةِ كَمَا يَخْرُجُ مِنْ قِشْرِ الْبَيْضَةِ يُمَيِّزُ بَيْنَ الْعَدُوِّ وَالصَّدِيقِ فَيَهْرَبُ مِنَ الْهِرَّةِ وَيَلْتَجِئُ إِلَى الْأُمِّ، وَيُمَيِّزُ بَيْنَ الْغِذَاءِ الَّذِي يُوَافِقُهُ وَالْغِذَاءِ الَّذِي لَا يُوَافِقُهُ وَأَمَّا وَلَدُ الْإِنْسَانِ فَإِنَّهُ حَالَ انْفِصَالِهِ عَنْ بَطْنِ الْأُمِّ، لَا يُمَيِّزُ أَلْبَتَّةَ بَيْنَ الْعَدُوِّ وَالصَّدِيقِ وَلَا بَيْنَ الضَّارِّ وَالنَّافِعِ، فَظَهَرَ أَنَّ الْإِنْسَانَ فِي أَوَّلِ
وَإِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الدَّقِيقَةَ أَمْكَنَكَ التَّنْبِيهُ لِوُجُوهٍ كَثِيرَةٍ:
المسألة الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا يَخْلُقُ الْإِنْسَانَ مِنَ النُّطْفَةِ بِوَاسِطَةِ تَغَيُّرَاتٍ كَثِيرَةٍ مَذْكُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ [الْمُؤْمِنُونَ: ١٢، ١٣] إِلَّا أَنَّهُ تعالى اختصر هاهنا لِأَجْلِ أَنَّ ذَلِكَ الِاسْتِقْصَاءَ مَذْكُورٌ فِي سَائِرِ الْآيَاتِ، وَقَوْلُهُ، فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ فِيهِ بَحْثَانِ:
البحث الْأَوَّلُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْخَصِيمُ بِمَعْنَى الْمُخَاصِمِ، قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: خَصِيمُكَ الَّذِي يُخَاصِمُكَ وَفَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفَاعِلٍ مَعْرُوفٌ كَالنَّسِيبِ بِمَعْنَى الْمُنَاسِبِ، وَالْعَشِيرِ بِمَعْنَى الْمُعَاشِرِ، وَالْأَكِيلِ وَالشَرِيبِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَصِيمٌ فَاعِلًا مِنْ خَصَمَ يَخْصِمُ بِمَعْنَى اخْتَصَمَ، وَمِنْهُ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ: تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ [يس: ٤٩].
البحث الثَّانِي: لِقَوْلِهِ: فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: فَإِذَا هُوَ مُنْطَبِقٌ مُجَادِلٌ عَنْ نَفْسِهِ، مُنَازِعٌ لِلْخُصُومِ بَعْدَ أَنْ كَانَ نُطْفَةً قَذِرَةً، وَجَمَادًا لَا حِسَّ لَهُ وَلَا حَرَكَةَ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ: أَنَّ الِانْتِقَالَ مِنْ تِلْكَ الْحَالَةِ الْخَسِيسَةِ إِلَى هَذِهِ الْحَالَةِ الْعَالِيَةِ الشَّرِيفَةِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِتَدْبِيرِ مُدَبِّرٍ حَكِيمٍ عَلِيمٍ. وَالثَّانِي: فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ لِرَبِّهِ، مُنْكِرٌ عَلَى خالقه، قائل: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس: ٧٨] وَالْغَرَضُ مِنْهُ وَصْفُ الْإِنْسَانِ بِالْإِفْرَاطِ فِي الْوَقَاحَةِ وَالْجَهْلِ، وَالتَّمَادِي فِي كُفْرَانِ النِّعْمَةِ، وَالوجه الْأَوَّلُ أَوْفَقُ، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ مَذْكُورَةٌ لِتَقْرِيرِ وَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْحَكِيمِ، لَا لِتَقْرِيرِ وَقَاحَةِ النَّاسِ وَتَمَادِيهِمْ في الكفر والكفران.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٥ الى ٧]
وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٥) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٧)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ أَشْرَفَ الْأَجْسَامِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ بَعْدَ الْإِنْسَانِ سَائِرُ الْحَيَوَانَاتِ لِاخْتِصَاصِهَا بِالْقُوَى الشَّرِيفَةِ. وَهِيَ الْحَوَاسُّ الظَّاهِرَةُ وَالْبَاطِنَةُ، وَالشَّهْوَةُ وَالْغَضَبُ، ثُمَّ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتُ قِسْمَانِ:
مِنْهَا مَا يَنْتَفِعُ الْإِنْسَانُ بِهَا، وَمِنْهَا مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ: أَشْرَفُ مِنَ الثَّانِي، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْإِنْسَانُ أَشْرَفَ الْحَيَوَانَاتِ وَجَبَ فِي كُلِّ حَيَوَانٍ يَكُونُ انْتِفَاعُ الْإِنْسَانِ بِهِ أَكْمَلَ. وَأَكْثَرَ أَنْ يَكُونَ أَكْمَلَ وَأَشْرَفَ مِنْ غَيْرِهِ، ثُمَّ نَقُولُ: وَالْحَيَوَانُ الَّذِي يَنْتَفِعُ الْإِنْسَانُ بِهِ إِمَّا أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ فِي ضَرُورِيَّاتِ مَعِيشَتِهِ مِثْلَ الْأَكْلِ وَاللِّبْسِ أَوْ لَا يَكُونُ
وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَنْعَامَ عِبَارَةٌ عَنِ الْأَزْوَاجِ الثَّمَانِيَةِ وَهِيَ: الضَّأْنُ، وَالْمَعْزُ. وَالْإِبِلُ. وَالْبَقَرُ، وَقَدْ يُقَالُ أَيْضًا:
الْأَنْعَامُ ثَلَاثَةٌ: الْإِبِلُ. وَالْبَقَرُ. وَالْغَنَمُ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَأَكْثَرُ مَا يَقَعُ هَذَا اللَّفْظُ عَلَى الْإِبِلِ. وَقَوْلُهُ:
وَالْأَنْعامَ مَنْصُوبَةٌ وَانْتِصَابُهَا بِمُضْمَرٍ يُفَسِّرُهُ الظَّاهِرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ [يس: ٣٩] وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطَفَ عَلَى الْإِنْسَانِ. أَيْ خَلَقَ الْإِنْسَانَ وَالْأَنْعَامَ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها ثُمَّ ابْتَدَأَ وَقَالَ: لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ تَمَامُ الْكَلَامِ عِنْدَ قَوْلِهِ: لَكُمْ ثُمَّ ابْتَدَأَ وَقَالَ: فِيها دِفْءٌ قَالَ صَاحِبُ «النَّظْمِ» : أَحْسَنُ الِوَجْهَيْنِ أَنْ يَكُونَ الْوَقْفُ عِنْدَ قَوْلِهِ: خَلَقَها وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ وَالتَّقْدِيرُ لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ.
المسألة الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ خَلَقَ الْأَنْعَامَ لِلْمُكَلَّفِينَ أَتْبَعَهُ بِتَعْدِيدِ تِلْكَ الْمَنَافِعِ، وَاعْلَمْ أَنَّ مَنَافِعَ النَّعَمِ مِنْهَا ضَرُورِيَّةٌ، وَمِنْهَا غَيْرُ ضَرُورِيَّةٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى بَدَأَ بِذِكْرِ الْمَنَافِعِ الضَّرُورِيَّةِ.
فَالْمَنْفَعَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَقَدْ ذكر هذه الْمَعْنَى فِي آيَةٍ أُخْرَى فَقَالَ: وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها [النَّحْلِ: ٨٠] وَالدِّفْءُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ مَا يُسْتَدْفَأُ بِهِ مِنَ الْأَكْسِيَةِ، قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: وَيَكُونُ الدِّفْءُ السُّخُونَةَ. يُقَالُ: أَقْعُدُ فِي دِفْءِ هَذَا الْحَائِطِ، أَيْ فِي كِنِّهِ. وَقُرِئَ: دِفٌ بِطَرْحِ الْهَمْزَةِ وَإِلْقَاءِ حَرَكَتِهَا عَلَى الْفَاءِ.
وَالْمَنْفَعَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَمَنافِعُ قَالُوا: الْمُرَادُ نَسْلُهَا وَدَرُّهَا، وَإِنَّمَا عَبَّرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ نَسْلِهَا وَدَرِّهَا بِلَفْظِ الْمَنْفَعَةِ وَهُوَ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى الْوَصْفِ الْأَعَمِّ، لِأَنَّ النَّسْلَ وَالدَّرَّ قَدْ يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الْأَكْلِ وَقَدْ يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الْبَيْعِ بِالنُّقُودِ، وَقَدْ يُنْتَفَعُ بِهِ بِأَنْ يُبَدَّلَ بِالثِّيَابِ وَسَائِرِ الضَّرُورِيَّاتِ فَعَبَّرَ عَنْ جُمْلَةِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ بِلَفْظِ الْمَنَافِعِ لِيَتَنَاوَلَ الْكُلَّ.
وَالْمَنْفَعَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: وَمِنْها تَأْكُلُونَ.
فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: وَمِنْها تَأْكُلُونَ يُفِيدُ الْحَصْرَ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ قَدْ يُؤْكَلُ مِنْ غَيْرِهَا، وَأَيْضًا مَنْفَعَةُ الْأَكْلِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى مَنْفَعَةِ اللُّبْسِ، فَلِمَ أَخَرَّ مَنْفَعَتَهُ فِي الذِّكْرِ؟
قُلْنَا: الْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْأَكْلَ مِنْهَا هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي يَعْتَمِدُهُ النَّاسُ فِي مَعَايِشِهِمْ، وَأَمَّا الْأَكْلُ مِنْ غَيْرِهَا كَالدَّجَاجِ وَالْبَطِّ وَصَيْدِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، فَيُشْبِهُ غَيْرَ الْمُعْتَادِ. وَكَالْجَارِي مَجْرَى التَّفَكُّهِ، وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنَّ غَالِبَ أَطْعِمَتِكُمْ مِنْهَا لِأَنَّكُمْ تَحْرُثُونَ بِالْبَقْرِ وَالْحَبُّ وَالثِّمَارُ الَّتِي تَأْكُلُونَهَا مِنْهَا، وَأَيْضًا تَكْتَسِبُونَ بِإِكْرَاءِ الْإِبِلِ وَتَنْتَفِعُونَ بِأَلْبَانِهَا وَنَتَاجِهَا وَجُلُودِهَا، وَتَشْتَرُونَ بِهَا جَمِيعَ أَطْعِمَتِكُمْ.
وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي: أَنَّ الْمَلْبُوسَ أَكْثَرُ بَقَاءً مِنَ الْمَطْعُومِ، فَلِهَذَا قَدَّمَهُ عَلَيْهِ فِي الذِّكْرِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَنَافِعَ الثَّلَاثَةَ هِيَ الْمَنَافِعُ الضَّرُورِيَّةُ الْحَاصِلَةُ مِنَ الْأَنْعَامِ. وَأَمَّا الْمَنَافِعُ الْحَاصِلَةُ مِنَ الْأَنْعَامِ الَّتِي هِيَ لَيْسَتْ بِضَرُورِيَّةٍ فَأُمُورٌ:
الْمَنْفَعَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ الْإِرَاحَةُ رَدُّ الإبل بالعشي
وَاعْلَمْ أَنَّ وَجْهَ التَّجَمُّلِ بِهَا أَنَّ الرَّاعِيَ إِذَا رَوَّحَهَا بِالْعَشِيِّ وَسَرَّحَهَا بِالْغَدَاةِ تَزَيَّنَتْ عِنْدَ تِلْكَ الْإِرَاحَةِ وَالتَّسْرِيحِ الْأَفْنِيَةُ، وَتَجَاوَبَ فِيهَا الثُّغَاءُ وَالرُّغَاءُ، وَفَرِحَتْ أَرْبَابُهَا وَعَظُمَ وَقْعُهُمْ عِنْدَ النَّاسِ بِسَبَبِ كَوْنِهِمْ مَالِكِينَ لَهَا.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ قُدِّمَتِ الْإِرَاحَةُ عَلَى التَّسْرِيحِ؟
قُلْنَا: لِأَنَّ الْجَمَالَ فِي الْإِرَاحَةِ أَكْثَرُ. لِأَنَّهَا تُقْبِلُ مَلْأَى الْبُطُونِ حَافِلَةَ الضُّرُوعِ، ثُمَّ اجْتَمَعَتْ فِي الْحَظَائِرِ حَاضِرَةً لِأَهْلِهَا بِخِلَافِ التَّسْرِيحِ، فَإِنَّهَا عِنْدَ خُرُوجِهَا إِلَى الْمَرْعَى تَخْرُجُ جَائِعَةً عَادِمَةَ اللَّبَنِ ثُمَّ تَأْخُذُ فِي التَّفَرُّقِ وَالِانْتِشَارِ، فَظَهَرَ أَنَّ الْجَمَالَ فِي الْإِرَاحَةِ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي التَّسْرِيحِ.
وَالْمَنْفَعَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
المسألة الْأُولَى: الْأَثْقَالُ جَمْعُ ثَقَلٍ وَهُوَ مَتَاعُ الْمُسَافِرِ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
يُرِيدُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ. أَوْ إِلَى الْيَمَنِ. أَوْ إِلَى الشَّامِ. أَوْ إِلَى مِصْرَ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: هَذَا قَوْلُهُ وَالْمُرَادُ كُلُّ بَلَدٍ لَوْ تَكَلَّفْتُمْ بُلُوغَهُ عَلَى غَيْرِ إِبِلٍ لَشَقَّ عَلَيْكُمْ وَخَصَّ ابْنُ عَبَّاسٍ هَذِهِ الْبِلَادَ، لَأَنَّ/ مَتَاجِرَ أَهْلِ مَكَّةَ كَانَتْ إِلَى هَذِهِ الْبِلَادِ، وَقُرِئَ: بِشِقِّ الْأَنْفُسِ بِكَسْرِ الشِّينِ وَفَتْحِهَا، وَأَكْثَرُ الْقُرَّاءِ عَلَى كَسْرِ الشِّينِ. وَالشِّقُّ الْمَشَقَّةُ وَالشَّقُّ نِصْفُ الشيء، وحمل اللفظ هاهنا عَلَى كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ جَائِزٌ، فَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى المشقة كان المعنى: لم تكونوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِالْمَشَقَّةِ، وَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى نِصْفِ الشيء كان المعنى: لم تكونوا بَالِغِيهِ إِلَّا عِنْدَ ذَهَابِ النِّصْفِ مِنْ قُوَّتِكُمْ أَوْ مِنْ بَدَنِكُمْ وَيَرْجِعُ عِنْدَ التَّحْقِيقِ إِلَى الْمَشَقَّةِ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها الْإِبِلُ فَقَطْ بِدَلِيلِ أَنَّهُ وَصَفَهَا فِي آخِرِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ وَهَذَا الْوَصْفُ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْإِبِلِ.
قُلْنَا: الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ تَعْدِيدُ مَنَافِعِ الْأَنْعَامِ فَبَعْضُ تِلْكَ الْمَنَافِعِ حَاصِلَةٌ فِي الْكُلِّ وَبَعْضُهَا مُخْتَصٌّ بِالْبَعْضِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنَّ قَوْلَهُ: وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حَاصِلٌ فِي الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ مِثْلَ حُصُولِهِ فِي الْإِبِلِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
المسألة الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ مُنْكِرُو كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالُوا: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُمْكِنُهُ الِانْتِقَالُ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ، وَحَمْلِ الْأَثْقَالِ عَلَى الْجِمَالِ وَمُثْبِتُو الْكَرَامَاتِ يَقُولُونَ: إِنَّ الْأَوْلِيَاءَ قَدْ يَنْتَقِلُونَ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ بَعِيدٍ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ غَيْرِ تَعَبٍ وَتَحَمُّلِ مَشَقَّةٍ، فَكَانَ ذَلِكَ عَلَى خِلَافِ هَذِهِ الْآيَةِ فَيَكُونُ بَاطِلًا، وَلَمَّا بَطُلَ الْقَوْلُ بِالْكَرَامَاتِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بَطُلَ الْقَوْلُ بِهَا فِي سَائِرِ الصُّوَرِ، لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ.
وَجَوَابُهُ: أَنَّا نُخَصِّصُ عُمُومَ هَذِهِ الْآيَةِ بالأدلة الدالة على وقوع الكرمات. والله أعلم.
[سورة النحل (١٦) : آية ٨]
وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٨)
المسألة الْأُولَى: قَوْلُهُ: وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ عَطَفَ عَلَى الْأَنْعَامِ، أَيْ وَخَلَقَ الْأَنْعَامَ لِكَذَا وَكَذَا، وَخَلَقَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لِلرُّكُوبِ. وَقَوْلُهُ: وَزِينَةً أَيْ وَخَلَقَهَا زِينَةً، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تعالى: زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً [فُصِّلَتْ: ١٢] الْمَعْنَى: وَحَفِظْنَاهَا حِفْظًا. قَالَ الزَّجَّاجُ: نُصِبَ قَوْلُهُ: وَزِينَةً عَلَى أنه مفعول له. والمعنى: وخالقها لِلزِّينَةِ.
المسألة الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِتَحْرِيمِ لُحُومِ الْخَيْلِ بِهَذِهِ الْآيَةِ. فَقَالُوا مَنْفَعَةُ الْأَكْلِ أَعْظَمُ/ مِنْ مَنْفَعَةِ الرُّكُوبِ، فَلَوْ كَانَ أَكْلُ لَحْمِ الْخَيْلِ جَائِزًا لَكَانَ هَذَا الْمَعْنَى أَوْلَى بِالذِّكْرِ، وَحَيْثُ لَمْ يَذْكُرْهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلِمْنَا أَنَّهُ يَحْرُمُ أَكْلُهُ، وَيُمْكِنُ أَيْضًا أَنْ يَقْوَى هَذَا الِاسْتِدْلَالُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ. فَيُقَالُ: إِنَّهُ تَعَالَى قال في صفة الأنعام: وَمِنْها تَأْكُلُونَ [النحل: ٥] وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ تُفِيدُ الْحَصْرَ، فَيَقْتَضِي أَنْ لَا يَجُوزَ الْأَكْلُ مِنْ غَيْرِ الْأَنْعَامِ، فَوَجَبَ أَنْ يحرم مَخْلُوقَةٌ لِلرُّكُوبِ، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ مَنْفَعَةَ الْأَكْلِ مَخْصُوصَةٌ بِالْأَنْعَامِ وَغَيْرُ حَاصِلَةٍ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَيُمْكِنُ الِاسْتِدْلَالُ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وَجْهٍ ثَالِثٍ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: لِتَرْكَبُوها يَقْتَضِي أَنَّ تَمَامَ الْمَقْصُودِ مِنْ خَلْقِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ هُوَ الرُّكُوبُ وَالزِّينَةُ، وَلَوْ حَلَّ أَكْلُهَا لَمَا كَانَ تَمَامُ الْمَقْصُودِ مِنْ خَلْقِهَا هُوَ الرُّكُوبُ، بَلْ كَانَ حِلُّ أَكْلِهَا أَيْضًا مَقْصُودًا، وَحِينَئِذٍ يَخْرُجُ جَوَازُ رُكُوبِهَا عَنْ أَنْ يَكُونَ تَمَامَ الْمَقْصُودِ، بَلْ يَصِيرُ بَعْضَ الْمَقْصُودِ.
وَأَجَابَ الْوَاحِدِيُّ بِجَوَابٍ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ فَقَالَ: لَوْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى تَحْرِيمِ أَكْلِ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ لَكَانَ تَحْرِيمُ أَكْلِهَا مَعْلُومًا فِي مَكَّةَ لِأَجْلِ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ، وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَكَانَ قَوْلُ عَامَّةِ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُحَدِّثِينَ أَنَّ لُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ حُرِّمَتْ عَامَ خَيْبَرَ بَاطِلًا، لِأَنَّ التَّحْرِيمَ لَمَّا كَانَ حَاصِلًا قَبْلَ هَذَا الْيَوْمِ لَمْ يَبْقَ لِتَخْصِيصِ هَذَا التَّحْرِيمِ بِهَذِهِ الشُّبْهَةِ فَائِدَةٌ، وَهَذَا جَوَابٌ حَسَنٌ مَتِينٌ.
المسألة الثَّالِثَةُ: الْقَائِلُونَ بِأَنَّ أَفْعَالَ اللَّهِ تَعَالَى مُعَلَّلَةٌ بِالْمَصَالِحِ وَالحكم، احْتَجُّوا بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ مَخْلُوقَةٌ لِأَجْلِ الْمَنْفَعَةِ الْفُلَانِيَّةِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [إِبْرَاهِيمَ: ١] وَقَوْلُهُ: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذَّارِيَاتِ: ٥٦] وَالْكَلَامُ فِيهِ مَعْلُومٌ.
المسألة الرَّابِعَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لَمَّا كَانَ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَلِيَجْعَلَهَا زِينَةً لَكُمْ فَلِمَ تَرَكَ هَذِهِ الْعِبَارَةَ؟
وَجَوَابُهُ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ لَصَارَ الْمَعْنَى أَنَّ التَّزَيُّنَ بِهَا أَحَدُ الْأُمُورِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْمَقْصُودِ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّ التَّزَيُّنَ بِالشَّيْءِ يُورِثُ الْعُجْبَ وَالتِّيهَ وَالتَّكَبُّرَ، وَهَذِهِ أَخْلَاقٌ مَذْمُومَةٌ وَاللَّهُ تَعَالَى نَهَى عَنْهَا وَزَجَرَ عَنْهَا فَكَيْفَ يَقُولُ إِنِّي خَلَقْتُ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ لِتَحْصِيلِ هَذِهِ الْمَعَانِي بَلْ قَالَ: خَلَقَهَا لِتَرْكَبُوهَا فَتَدْفَعُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ بِوَاسِطَتِهَا ضَرَرَ الْإِعْيَاءِ وَالْمَشَقَّةِ، وَأَمَّا التَّزَيُّنُ بِهَا فَهُوَ حَاصِلٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، ولكنه غير
أَوِ اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَوَّلًا: أَحْوَالَ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي يَنْتَفِعُ الْإِنْسَانُ بِهَا انْتِفَاعًا ضَرُورِيًّا/ وَثَانِيًا: أَحْوَالَ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي يَنْتَفِعُ الْإِنْسَانُ بِهَا انْتِفَاعًا غَيْرَ ضَرُورِيٍّ بَقِيَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ وَهِيَ الْأَشْيَاءُ الَّتِي لَا يَنْتَفِعُ الْإِنْسَانُ بِهَا فِي الْغَالِبِ فَذَكَرَهَا عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ فَقَالَ: وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَنْوَاعَهَا وَأَصْنَافَهَا وَأَقْسَامَهَا كَثِيرَةٌ خَارِجَةٌ عَنِ الْحَدِّ وَالْإِحْصَاءِ وَلَوْ خَاضَ الْإِنْسَانُ فِي شَرْحِ عَجَائِبِ أَحْوَالِهَا لَكَانَ الْمَذْكُورُ بَعْدَ كَتْبَةِ الْمُجَلَّدَاتِ الْكَثِيرَةِ كَالْقَطْرَةِ فِي الْبَحْرِ فَكَانَ أَحْسَنُ الْأَحْوَالِ ذِكْرَهَا عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ،
وَرَوَى عَطَاءٌ وَمُقَاتِلٌ وَالضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ عَلَى يَمِينِ الْعَرْشِ نَهْرًا مِنْ نور مثل السموات السَّبْعِ وَالْأَرَضِينَ السَّبْعِ، وَالْبِحَارِ السَّبْعَةِ يَدْخُلُ فِيهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كُلَّ سَحَرٍ وَيَغْتَسِلُ فَيَزْدَادُ نُورًا إِلَى نُورِهِ وَجَمَالًا إِلَى جَمَالِهِ، ثُمَّ يَنْتَفِضُ فَيَخْلُقُ اللَّهُ مِنْ كُلِّ نُقْطَةٍ تَقَعُ مِنْ رِيشِهِ كَذَا وَكَذَا أَلْفَ مَلَكٍ يَدْخُلُ مِنْهُمْ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفًا الْبَيْتَ الْمَعْمُورَ، وَفِي الْكَعْبَةِ أَيْضًا سَبْعُونَ أَلْفًا، ثُمَّ لَا يعودون إليه إلى أن تقوم الساعة.
[سورة النحل (١٦) : آية ٩]
وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (٩)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ دَلَائِلَ التَّوْحِيدِ قَالَ: وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ أَيْ إِنَّمَا ذَكَرْتُ هَذِهِ الدَّلَائِلَ وَشَرَحْتُهَا إِزَاحَةً لِلْعُذْرِ وَإِزَالَةً لِلْعِلَّةِ لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةِ. وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْقَصْدُ اسْتِقَامَةُ الطَّرِيقِ يُقَالُ: طَرِيقٌ قَصْدٌ وَقَاصِدٌ إِذَا أَدَّاكَ إِلَى مَطْلُوبِكَ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَفِي الْآيَةِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَعَلَى اللَّهِ بَيَانُ قَصْدِ السَّبِيلِ، ثم قال: وَمِنْها جائِرٌ أَيْ عَادِلٌ مَائِلٌ وَمَعْنَى الْجَوْرِ فِي اللُّغَةِ الْمَيْلُ عَنِ الْحَقِّ وَالْكِنَايَةُ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْها جائِرٌ تَعُودُ عَلَى السَّبِيلِ، وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ فِي لُغَةِ الْحِجَازِ يَعْنِي وَمِنَ السَّبِيلِ مَا هُوَ جَائِرٌ غَيْرُ قَاصِدٍ لِلْحَقِّ وَهُوَ أَنْوَاعُ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى الْإِرْشَادُ وَالْهِدَايَةُ إِلَى الدِّينِ وَإِزَاحَةُ الْعِلَلِ وَالْأَعْذَارِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَكَلِمَةُ «عَلَى» لِلْوُجُوبِ قَالَ تَعَالَى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آلِ عِمْرَانَ: ٩٧] وَدَلَّتِ الْآيَةُ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُضِلُّ أَحَدًا وَلَا يُغْوِيهِ وَلَا يَصُدُّهُ عَنْهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ كَانَ فَاعِلًا لِلضَّلَالِ لَقَالَ: وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَعَلَيْهِ جَائِرُهَا أَوْ قَالَ: وَعَلَيْهِ الْجَائِرُ فَلَمَّا لَمْ يَقُلْ كَذَلِكَ بَلْ قَالَ فِي قَصْدِ السَّبِيلِ أَنَّهُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَقُلْ فِي جَوْرِ السَّبِيلِ أَنَّهُ عَلَيْهِ بَلْ قَالَ/ وَمِنْها جائِرٌ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُضِلُّ عَنِ الدِّينِ أَحَدًا.
أَجَابَ أَصْحَابُنَا أَنَّ الْمُرَادَ عَلَى اللَّهِ بِحَسَبِ الْفَضْلِ وَالْكَرَمِ أَنْ يُبَيِّنَ الدِّينَ الْحَقَّ وَالْمَذْهَبَ الصَّحِيحَ فَأَمَّا أَنْ يُبَيِّنَ كَيْفِيَّةَ الْإِغْوَاءِ وَالْإِضْلَالِ فَذَلِكَ غَيْرُ وَاجِبٍ فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
المسألة الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مَا شَاءَ هِدَايَةَ الْكُفَّارِ، وَمَا أَرَادَ مِنْهُمُ الْإِيمَانَ، لِأَنَّ كَلِمَةَ (لَوْ) تُفِيدُ انْتِفَاءَ شَيْءٍ لِانْتِفَاءِ شَيْءٍ غَيْرِهِ قَوْلُهُ، وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ مَعْنَاهُ: لَوْ شَاءَ هِدَايَتَكُمْ لَهَدَاكُمْ، وَذَلِكَ يُفِيدُ أَنَّهُ تَعَالَى مَا شَاءَ هِدَايَتَهُمْ فَلَا جَرَمَ مَا هَدَاهُمْ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْمَقْصُودِ.
وَأَجَابَ الْأَصَمُّ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ لَوْ شَاءَ أَنْ يُلْجِئَكُمْ إِلَى الْإِيمَانِ لَهَدَاكُمْ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَشِيئَةَ الْإِلْجَاءِ لَمْ تحصل.
وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ الْمُرَادُ: وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ إِلَى الْجَنَّةِ ابْتِدَاءً عَلَى سَبِيلِ التَّفَضُّلِ، إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى عَرَّفَكُمْ لِلْمَنْزِلَةِ الْعَظِيمَةِ بِمَا نَصَبَ مِنَ الْأَدِلَّةِ وَبَيَّنَ، فَمَنْ تَمَسَّكَ بِهَا فَازَ بِتِلْكَ الْمَنَازِلِ وَمَنْ عَدَلَ عَنْهَا فَاتَتْهُ وَصَارَ إِلَى الْعَذَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ قَدْ ذَكَرْنَاهَا مِرَارًا وَأَطْوَارًا مَعَ الجواب فلا فائدة في الإعادة.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١٠ الى ١١]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ] اعْلَمْ أَنَّ أَشْرَفَ أَجْسَامِ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ بَعْدَ الْحَيَوَانِ النَّبَاتُ، فَلَمَّا قَرَّرَ اللَّهُ تَعَالَى الِاسْتِدْلَالَ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْحَكِيمِ بِعَجَائِبَ أَحْوَالِ الْحَيَوَانَاتِ، أَتْبَعَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِذِكْرِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْحَكِيمِ بِعَجَائِبَ أَحْوَالِ النَّبَاتِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَاءَ الْمُنَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ هُوَ الْمَطَرُ، وَأَمَّا أَنَّ الْمَطَرَ نَازِلٌ مِنَ السَّحَابِ أَوْ مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ مِرَارًا، وَالْحَاصِلُ: أَنَّ مَاءَ الْمَطَرِ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا: هُوَ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى شَرَابًا لَنَا وَلِكُلِّ حَيٍّ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى أَنَّ هَذِهِ النِّعْمَةَ جَلِيلَةٌ فَقَالَ:
وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الْأَنْبِيَاءِ: ٣٠].
فَإِنْ قِيلَ: أَفَتَقُولُونَ إِنَّ شُرْبَ الْخَلْقِ لَيْسَ إِلَّا مِنَ الْمَطَرِ، أَوْ تَقُولُونَ قَدْ يَكُونُ مِنْهُ وَقَدْ يَكُونُ مِنْ غَيْرِهِ، وَهُوَ الْمَاءُ الْمَوْجُودُ فِي قَعْرِ الْأَرْضِ؟
أَجَابَ الْقَاضِي: بِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ الْمَطَرَ شَرَابُنَا وَلَمْ يَنْفِ أَنْ نَشْرَبَ مِنْ غَيْرِهِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ يُفِيدُ الْحَصْرَ لِأَنَّ مَعْنَاهُ مِنْهُ لَا مِنْ غَيْرِهِ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ الْعَذْبُ تَحْتَ الْأَرْضِ مِنْ جُمْلَةِ مَاءِ الْمَطَرِ يَسْكُنُ هُنَاكَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ: وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ [الْمُؤْمِنُونَ: ١٨] وَلَا يَمْتَنِعُ أَيْضًا فِي غَيْرِ الْعَذْبِ وَهُوَ الْبَحْرُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ مَاءِ الْمَطَرِ، وَالْقِسْمُ الثَّانِي مِنَ الْمِيَاهِ النَّازِلَةِ مِنَ السَّمَاءِ مَا يَجْعَلُهُ اللَّهُ سَبَبًا لِتَكْوِينِ النَّبَاتِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَفِيهِ مَبَاحِثُ:
البحث الْأَوَّلُ: ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ إِسَامَةَ الشَّجَرِ مُمْكِنَةٌ، وَهَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ لَوْ كَانَ المراد من الشجر الكلأ والعشب، وهاهنا قَوْلَانِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: كُلُّ مَا ثَبَتَ عَلَى الْأَرْضِ فَهُوَ شَجَرٌ وَأَنْشَدَ:
يَعْنِي أَنَّهُمْ يَسْقُونَ الْخَيْلَ اللَّبَنَ إِذَا أَجْدَبَتِ الْأَرْضُ، وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمُرَادُ مِنَ الشَّجَرِ الْكَلَأُ، وَفِي حَدِيثِ عِكْرِمَةَ لَا تَأْكُلُوا ثَمَنَ الشَّجَرِ فَإِنَّهُ سُحْتٌ يَعْنِي الْكَلَأَ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ [الرَّحْمَنِ: ٦] وَالْمُرَادُ مِنَ النَّجْمِ مَا يَنْجُمُ مِنَ الْأَرْضِ مِمَّا لَيْسَ لَهُ سَاقٌ، وَمِنَ الشَّجَرِ مَا لَهُ سَاقٌ، هَكَذَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ، وَبِالْجُمْلَةِ فَلَمَّا عَطَفَ الشَّجَرَ عَلَى النَّجْمِ دَلَّ عَلَى التَّغَايُرِ بَيْنَهُمَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ عَطْفَ الْجِنْسِ عَلَى النوع وَبِالضِّدِّ مَشْهُورٌ وَأَيْضًا فَلَفَظُ الشَّجَرِ مُشْعِرٌ بِالِاخْتِلَاطِ، يُقَالُ: تَشَاجَرَ الْقَوْمُ إِذَا اخْتَلَطَ أَصْوَاتُ بَعْضِهِمْ بِالْبَعْضِ وَتَشَاجَرَتِ الرِّمَاحُ إِذَا اخْتَلَطَتْ وَقَالَ تَعَالَى: حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النِّسَاءِ: ٦٥] وَمَعْنَى الِاخْتِلَاطِ حَاصِلٌ فِي الْعُشْبِ وَالْكَلَأِ، فَوَجَبَ جَوَازُ إِطْلَاقِ لَفْظِ الشَّجَرِ عَلَيْهِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْإِبِلَ تَقْدِرُ عَلَى رَعْيِ وَرَقِ الْأَشْجَارِ الْكِبَارِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ.
البحث الثَّانِي: قَوْلُهُ: فِيهِ تُسِيمُونَ أَيْ فِي الشَّجَرِ تَرْعُونَ مَوَاشِيَكُمْ يُقَالُ: أَسَمْتُ الْمَاشِيَةَ إِذَا خَلَّيْتُهَا تَرْعَى، وَسَامَتْ هِيَ تَسُومُ سَوْمًا إِذَا رَعَتْ حَيْثُ شَاءَتْ فَهِيَ سَوَامٌ وَسَائِمَةٌ قَالَ الزَّجَّاجُ: أَخَذَ ذَلِكَ مِنَ السَّوْمَةِ وَهِيَ الْعَلَامَةُ. وَتَأْوِيلُهَا أَنَّهَا تُؤَثِّرُ فِي الْأَرْضِ بِرَعْيِهَا عَلَامَاتٍ، وَقَالَ غَيْرُهُ. لِأَنَّهَا تُعَلَّمُ لِلْإِرْسَالِ فِي الْمَرْعَى، وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِي هَذَا اللَّفْظِ قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ [آلِ عِمْرَانَ: ١٤].
أما قوله تَعَالَى: يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ فَفِيهِ مَبَاحِثُ:
البحث الْأَوَّلُ: هُوَ أَنَّ النَّبَاتَ الَّذِي يُنْبِتُهُ اللَّهُ مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا: مُعَدٌّ لِرَعْيِ الْأَنْعَامِ وَإِسَامَةِ الْحَيَوَانَاتِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فِيهِ تُسِيمُونَ. وَالثَّانِي: مَا كَانَ مَخْلُوقًا لِأَكْلِ الْإِنْسَانِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ:
يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ تَعَالَى بَدَأَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِذِكْرِ مَا يَكُونُ مَرْعًى لِلْحَيَوَانَاتِ، وَأَتْبَعَهُ بِذِكْرِ مَا يَكُونُ غِذَاءً لِلْإِنْسَانِ، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى عَكَسَ هَذَا التَّرْتِيبَ فَبَدَأَ بِذِكْرِ مَأْكُولِ الْإِنْسَانِ، ثُمَّ بِمَا يَرْعَاهُ سَائِرُ الْحَيَوَانَاتِ فَقَالَ:
كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ [طه: ٥٤] فَمَا الْفَائِدَةُ فِيهِ؟
قُلْنَا: أَمَّا التَّرْتِيبُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَيُنَبِّهُ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ اهْتِمَامُ الْإِنْسَانِ بِمَنْ يَكُونُ تَحْتَ يَدِهِ أَكْمَلَ مِنَ اهْتِمَامِهِ بِحَالِ نَفْسِهِ، وَأَمَّا التَّرْتِيبُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى، فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ مَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي
قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «ابْدَأْ بِنَفْسِكِ ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ».
البحث الثَّانِي: قَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ: نُنْبِتُ بِالنُّونِ عَلَى التَّفْخِيمِ وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَالْيَاءُ أَشْبَهُ بِمَا تَقَدَّمَ.
البحث الثَّالِثُ: اعْلَمْ أَنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ مُحْتَاجًا إِلَى الْغِذَاءِ، وَالْغِذَاءُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْحَيَوَانِ أَوْ مِنَ
حُبُوبٌ. وَفَوَاكِهٌ، أَمَّا الْحُبُوبُ فَإِلَيْهَا الْإِشَارَةُ بِلَفْظِ الزَّرْعِ وَأَمَّا الْفَوَاكِهُ فَأَشْرَفُهَا الزَّيْتُونُ. وَالنَّخِيلُ. وَالْأَعْنَابُ، أَمَّا الزَّيْتُونُ فَلِأَنَّهُ فَاكِهَةٌ مِنْ وَجْهٍ وَإِدَامٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ لِكَثْرَةِ مَا فِيهِ مِنَ الدُّهْنِ وَمَنَافِعُ الْأَدْهَانِ كَثِيرَةٌ فِي الْأَكْلِ وَالطَّلْيِ وَاشْتِعَالِ السُّرُجِ، وَأَمَّا امْتِيَازُ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ مِنْ سَائِرِ الْفَوَاكِهِ، فَظَاهِرٌ مَعْلُومٌ، وَكَمَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي يَنْتَفِعُ النَّاسُ بِهَا عَلَى التَّفْصِيلِ، ثم قال فِي صِفَةِ البقية: وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ [النحل: ٨] فكذلك هاهنا لَمَّا ذَكَرَ الْأَنْوَاعَ الْمُنْتَفَعَ بِهَا مِنَ النَّبَاتِ، قَالَ فِي صِفَةِ الْبَقِيَّةَ: وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ تَفْصِيلَ الْقَوْلِ فِي أَجْنَاسِهَا وَأَنْوَاعِهَا وَصِفَاتِهَا وَمَنَافِعِهَا لَا يُمْكِنُ ذِكْرُهُ فِي مُجَلَّدَاتٍ، فَالْأَوْلَى الِاقْتِصَارُ فِيهِ عَلَى الْكَلَامِ الْمُجْمَلِ.
ثم قال: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وهاهنا بَحْثَانِ:
البحث الْأَوَّلُ: فِي شَرْحِ كَوْنِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ آيَاتٍ دَالَّةً عَلَى وُجُودِ اللَّهِ تَعَالَى فَنَقُولُ: إِنَّ الْحَبَّةَ الْوَاحِدَةَ تَقَعُ فِي الطِّينِ فَإِذَا مَضَتْ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ مَقَادِيرُ مُعَيَّنَةٌ مِنَ الْوَقْتِ نَفَذَتْ فِي دَاخِلِ تِلْكَ الْحَبَّةِ أَجْزَاءٌ مِنْ رُطُوبَةِ الْأَرْضِ وَنَدَاوَتِهَا فَتَنْتَفِخُ الْحَبَّةُ فَيَنْشَقُّ أَعْلَاهَا وَأَسْفَلُهَا، فَيَخْرُجُ مِنْ أَعْلَى تِلْكَ الْحَبَّةِ شَجَرَةٌ صَاعِدَةٌ مِنْ دَاخِلِ الْأَرْضِ إِلَى الْهَوَاءِ. وَمِنْ أَسْفَلِهَا شَجَرَةٌ أُخْرَى غَائِصَةٌ فِي قَعْرِ الْأَرْضِ وَهَذِهِ الْغَائِصَةُ هِيَ الْمُسَمَّاةُ بِعُرُوقِ الشَّجَرَةِ، ثُمَّ إِنَّ تِلْكَ الشَّجَرَةَ لَا تَزَالُ تَزْدَادُ وَتَنْمُو وَتَقْوَى، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْهَا الْأَوْرَاقُ وَالْأَزْهَارُ وَالْأَكْمَامُ وَالثِّمَارُ، ثُمَّ إِنَّ تِلْكَ الثَّمَرَةَ تَشْتَمِلُ عَلَى أَجْسَامٍ مُخْتَلِفَةِ الطَّبَائِعِ مِثْلَ الْعِنَبِ، فَإِنَّ قِشْرَهُ وَعَجَمَهُ بَارِدَانِ يَابِسَانِ كَثِيفَانِ، وَلَحْمَهُ وَمَاؤَهُ حَارَّانِ رَطْبَانِ لَطِيفَانِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: نِسْبَةُ الطَّبَائِعِ السُّفْلِيَّةِ إِلَى هَذَا الْجِسْمِ مُتَشَابِهَةٌ وَنِسْبَةُ التَّأْثِيرَاتِ الْفَلَكِيَّةِ وَالتَّحْرِيكَاتِ الْكَوْكَبِيَّةِ إِلَى الْكُلِّ مُتَشَابِهَةٌ. وَمَعَ تَشَابُهِ نِسَبِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ تَرَى هَذِهِ الْأَجْسَامَ مُخْتَلِفَةً فِي الطَّبْعِ وَالطَّعْمِ وَاللَّوْنِ وَالرَّائِحَةِ وَالصِّفَةِ، فَدَلَّ صَرِيحُ الْعَقْلِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ إِلَّا لِأَجْلِ فَاعِلٍ قَادِرٍ حَكِيمٍ رَحِيمٍ فَهَذَا تَقْدِيرُ هَذِهِ الدَّلَالَةِ.
البحث الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى خَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أنه: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً... يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَنْبَتَهَا وَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ إِنَّمَا حَدَثَتْ وَتَوَلَّدَتْ بِسَبَبِ تَعَاقُبِ الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ وَتَأْثِيرَاتِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ؟ وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا السُّؤَالَ فَمَا لَمْ يَقُمِ الدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ هَذَا الِاحْتِمَالِ لَا يَكُونُ هَذَا الدَّلِيلُ تَامًّا وَافِيًا بِإِفَادَةِ هَذَا الْمَطْلُوبِ، بَلْ يَكُونُ مَقَامُ الْفِكْرِ وَالتَّأَمُّلِ بَاقِيًا، فَلِهَذَا السَّبَبِ خَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ.
تم الجزء التاسع عَشَرَ، وَيَلِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى الْجُزْءُ العشرون، وأوله قوله تعالى وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ من سورة النحل. أعان الله على إكماله
[تتمة سورة النحل]
بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١٢ الى ١٣]وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢) وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٣)
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَجَابَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَنِ السُّؤَالِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ:
أَنْ نَقُولَ: إِنَّ حُدُوثَ الْحَوَادِثِ فِي هَذَا الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ مُسْنَدَةٌ إِلَى الِاتِّصَالَاتِ الْفَلَكِيَّةِ وَالتَّشَكُّلَاتِ الْكَوْكَبِيَّةِ إِلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ لِحَرَكَاتِهَا وَاتِّصَالَاتِهَا مِنْ أَسْبَابٍ، وَأَسْبَابُ تِلْكَ الْحَرَكَاتِ إِمَّا ذَوَاتُهَا وَإِمَّا أُمُورٌ مُغَايِرَةٌ لَهَا، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَجْسَامَ مُتَمَاثِلَةٌ، فَلَوْ كَانَ جِسْمٌ عِلَّةً لِصِفَةٍ لَكَانَ كُلُّ جِسْمٍ وَاجِبَ الِاتِّصَافِ بِتِلْكَ الصِّفَةِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَالثَّانِي: أَنَّ ذَاتَ الْجِسْمِ لَوْ كَانَتْ عِلَّةً لِحُصُولِ هَذَا الْجُزْءِ مِنَ الْحَرَكَةِ لَوَجَبَ دَوَامُ هَذَا الْجُزْءِ مِنَ الْحَرَكَةِ بِدَوَامِ تِلْكَ الذَّاتِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ، لَوَجَبَ بَقَاءُ الْجِسْمِ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ غَيْرِ تَغَيُّرٍ أَصْلًا، وَذَلِكَ يُوجِبُ كَوْنَهُ سَاكِنًا، وَيَمْنَعُ مِنْ كَوْنِهِ مُتَحَرِّكًا، فَثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْجِسْمَ مُتَحَرِّكٌ لِذَاتِهِ يُوجِبُ كَوْنَهُ سَاكِنًا لِذَاتِهِ وَمَا أَفْضَى ثُبُوتُهُ إِلَى عَدَمِهِ كَانَ بَاطِلًا، فَثَبَتَ أَنَّ الْجِسْمَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مُتَحَرِّكًا لِكَوْنِهِ جِسْمًا، فَبَقِيَ أَنْ يَكُونَ مُتَحَرِّكًا لِغَيْرِهِ، وَذَلِكَ الْغَيْرُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ سَارِيًا فِيهِ أَوْ مُبَايِنًا عَنْهُ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، لِأَنَّ البحث الْمَذْكُورَ عَائِدٌ فِي أَنَّ ذَلِكَ الْجِسْمَ بعينه لم اخْتُصَّ بِتِلْكَ الْقُوَّةِ بِعَيْنِهَا دُونَ سَائِرِ الْأَجْسَامِ، فَثَبَتَ أَنَّ مُحَرِّكَ أَجْسَامِ الْأَفْلَاكِ وَالْكَوَاكِبِ أُمُورٌ مُبَايِنَةٌ عَنْهَا، وَذَلِكَ الْمُبَايِنُ إِنْ كَانَ جِسْمًا أَوْ جُسْمَانِيًّا عَادَ التَّقَسُّمُ/ الْأَوَّلُ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جِسْمًا وَلَا جُسْمَانِيًّا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا بِالذَّاتِ أَوْ فَاعِلًا مُخْتَارًا وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، لِأَنَّ نِسْبَةَ ذَلِكَ الْمُوجِبِ بِالذَّاتِ إِلَى جَمِيعِ الْأَجْسَامِ عَلَى السَّوِيَّةِ، فَلَمْ يَكُنْ بَعْضُ الْأَجْسَامِ بِقَبُولِ بَعْضِ الْآثَارِ الْمُعَيَّنَةِ أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ، وَلَمَّا بَطَلَ هَذَا ثَبَتَ أَنَّ مُحَرِّكَ الْأَفْلَاكِ وَالْكَوَاكِبِ هُوَ الْفَاعِلُ الْمُخْتَارُ الْقَادِرُ الْمُنَزَّهُ عَنْ كَوْنِهِ جِسْمًا وَجُسْمَانِيًّا، وَذَلِكَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، فَالْحَاصِلُ أَنَّا وَلَوْ حَكَمْنَا بِإِسْنَادِ حَوَادِثِ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ إِلَى الْحَرَكَاتِ الْفَلَكِيَّةِ وَالْكَوْكَبِيَّةِ فَهَذِهِ الْحَرَكَاتُ الْكَوْكَبِيَّةُ، وَالْفَلَكِيَّةُ لَا يُمْكِنُ إِسْنَادُهَا إِلَى أَفْلَاكٍ أُخْرَى وَإِلَّا لَزِمَ التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُحَالٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ خَالِقُ هَذِهِ الْحَرَكَاتِ وَمُدَبِّرُهَا هُوَ اللَّهَ تَعَالَى، وَإِذَا كَانَتِ الْحَوَادِثُ السُّفْلِيَّةُ مُسْتَنِدَةً إِلَى الْحَرَكَاتِ الْفَلَكِيَّةِ، وَثَبَتَ أَنَّ الْحَرَكَاتِ الْفَلَكِيَّةَ حَادِثَةٌ بِتَخْلِيقِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَقْدِيرِهِ وَتَكْوِينِهِ، فَكَانَ هَذَا اعْتِرَافًا بِأَنَّ الْكُلَّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَبِإِحْدَاثِهِ وَتَخْلِيقِهِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ يَعْنِي إِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْحَوَادِثُ السُّفْلِيَّةُ لِأَجْلِ
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: عَنْ ذَلِكَ السُّؤَالِ أَنْ نَقُولَ: نَحْنُ نُقِيمُ الدَّلَالَةَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حُدُوثُ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ لِأَجْلِ تَأْثِيرِ الطِّبَاعِ وَالْأَفْلَاكِ وَالْأَنْجُمِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الطَّبَائِعِ وَالْأَفْلَاكِ وَالْأَنْجُمِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكُلِّ وَاحِدٌ، ثُمَّ نَرَى أَنَّهُ إِذَا تَوَلَّدَ الْعِنَبُ كَانَ قِشْرُهُ عَلَى طَبْعٍ وَعَجَمُهُ عَلَى طَبْعٍ وَلَحْمُهُ عَلَى طَبْعٍ ثَالِثٍ وَمَاؤُهُ عَلَى طَبْعٍ رَابِعٍ، بَلْ نَقُولُ: إِنَّا نَرَى فِي الْوَرْدِ مَا يَكُونُ أَحَدُ وَجْهَيِ الْوَرَقَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْهُ فِي غَايَةِ الصُّفْرَةِ، وَالوجه الثَّانِي: مِنْ تِلْكَ الْوَرَقَةِ فِي غَايَةِ الْحُمْرَةِ وَتِلْكَ الْوَرَقَةُ تَكُونُ فِي غَايَةِ الرِّقَّةِ وَاللَّطَافَةِ، وَنَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ نِسْبَةَ الْأَنْجُمِ وَالْأَفْلَاكِ إِلَى وَجْهَيْ تِلْكَ الْوَرَقَةِ الرَّقِيقَةِ، نِسْبَةٌ وَاحِدَةٌ، وَالطَّبِيعَةُ الْوَاحِدَةُ فِي الْمَادَّةِ الْوَاحِدَةِ لَا تَفْعَلُ إِلَّا فِعْلًا وَاحِدًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ قَالُوا: شَكْلُ الْبَسِيطِ هُوَ الْكُرَةُ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الطَّبِيعَةِ الْوَاحِدَةِ فِي الْمَادَّةِ الْوَاحِدَةِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَشَابِهًا، وَالشَّكْلُ الَّذِي يَتَشَابَهُ جَمِيعُ جَوَانِبُهُ هُوَ الْكُرَةُ، وَأَيْضًا إِذَا وَضَعْنَا الشَّمْعَ فَإِذَا اسْتَضَاءَ خَمْسَةُ أَذْرُعٍ مِنْ ذَلِكَ الشَّمْعِ مِنْ أَحَدِ الْجَوَانِبِ، وَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ مِثْلُ هَذَا الْأَثَرِ فِي جَمِيعِ الْجَوَانِبِ، لِأَنَّ الطَّبِيعَةَ الْمُؤَثِّرَةَ يَجِبُ أَنْ تَتَشَابَهَ نِسْبَتُهَا إِلَى كُلِّ الْجَوَانِبِ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: ظَهَرَ أَنَّ نِسْبَةَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْأَنْجُمِ وَالْأَفْلَاكِ وَالطَّبَائِعِ إِلَى وَجْهَيْ/ تِلْكَ الْوَرَقَةِ اللَّطِيفَةِ الرَّقِيقَةِ نِسْبَةٌ وَاحِدَةٌ، وَثَبَتَ أَنَّ الطَّبِيعَةَ الْمُؤَثِّرَةَ مَتَى كَانَتْ نِسْبَتُهَا وَاحِدَةً كَانَ الْأَثَرُ مُتَشَابِهًا وَثَبَتَ أَنَّ الْأَثَرَ غَيْرُ مُتَشَابِهٍ، لِأَنَّ أَحَدَ جَانِبَيْ تِلْكَ الْوَرَقَةِ فِي غَايَةِ الصُّفْرَةِ، وَالوجه الثَّانِي فِي غَايَةِ الْحُمْرَةِ فَهَذَا يُفِيدُ الْقَطْعَ بِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي حُصُولِ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَالْأَلْوَانِ وَالْأَحْوَالِ لَيْسَ هُوَ الطَّبِيعَةَ، بَلِ الْمُؤَثِّرُ فِيهَا هُوَ الْفَاعِلُ الْمُخْتَارُ الْحَكِيمُ، وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَدَارُ هَذِهِ الْحُجَّةِ عَلَى أَنَّ الْمُؤَثِّرَ الْمُوجِبَ بِالذَّاتِ وَبِالطَّبِيعَةِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ نِسْبَتُهُ إِلَى الْكُلِّ نِسْبَةً وَاحِدَةً، فَلَمَّا دَلَّ الْحِسُّ فِي هَذِهِ الْأَجْسَامِ النَّبَاتِيَّةِ عَلَى اخْتِلَافِ صِفَاتِهَا وَتَنَافُرِ أَحْوَالِهَا ظَهَرَ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِيهَا لَيْسَ وَاجِبًا بِالذَّاتِ بَلْ فَاعِلًا مُخْتَارًا فَهَذَا تَمَامُ تَقْرِيرِ هَذِهِ الدَّلَائِلِ وَثَبَتَ أَنَّ خَتْمَ الْآيَةِ الْأَوْلَى بِقَوْلِهِ: لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَالْآيَةِ الثَّانِيَةِ بِقَوْلِهِ: لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَالْآيَةِ الثَّالِثَةِ بِقَوْلِهِ: لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ هُوَ الَّذِي نَبَّهَ عَلَى هَذِهِ الْفَوَائِدِ النَّفِيسَةِ وَالدَّلَائِلِ الظَّاهِرَةِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى أَلْطَافِهِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا.
المسألة الثَّانِيَةُ: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ كُلَّهَا بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ هُوَ قَوْلُهُ:
مُسَخَّراتٌ وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ: وَالنُّجُومُ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَالنُّجُومُ ابْتِدَاءً وَإِنَّمَا حَمَلَهَا عَلَى هَذَا لِئَلَّا يَتَكَرَّرَ لَفْظُ التَّسْخِيرِ، إِذِ الْعَرَبُ لَا تَقُولُ سَخَّرْتُ هَذَا الشَّيْءَ مُسَخَّرًا فَجَوَابُهُ أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى سَخَّرَ لَنَا هَذِهِ الْأَشْيَاءَ حَالَ كَوْنِهَا مُسَخَّرَةً تَحْتَ قُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ الصَّحِيحُ، وَالتَّقْدِيرُ: أَنَّهُ تَعَالَى سَخَّرَ لِلنَّاسِ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ وَجَعَلَهَا مُوَافِقَةً لِمَصَالِحِهَا حَالَ كَوْنِهَا مُسَخَّرَةً تَحْتَ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمْرِهِ وَإِذْنِهِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالتَّكْرِيرُ الْخَالِي عَنِ الفائدة غير لازم والله علم. بَقِيَ فِي الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ:
وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا دَبَّرَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ عَلَى طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ مُطَابِقَةٍ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ صَارَتْ شَبِيهَةً بِالْعَبْدِ الْمُنْقَادِ الْمِطْوَاعِ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى أَطْلَقَ عَلَى هَذَا النوع مِنَ التَّدْبِيرِ لَفْظَ التَّسْخِيرِ. وَعَنِ الوجه الثَّانِي فِي الْجَوَابِ: وَهُوَ لَا يَسْتَقِيمُ إِلَّا عَلَى مَذْهَبِ أَصْحَابِ عِلْمِ الْهَيْئَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: الْحَرَكَةُ الطَّبِيعِيَّةُ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ هِيَ الْحَرَكَةُ مِنَ الْمَغْرِبِ إِلَى الْمَشْرِقِ وَاللَّهُ تَعَالَى يُحَرِّكُ هَذِهِ الْكَوَاكِبَ بِوَاسِطَةِ حَرَكَةِ الْفَلَكِ الْأَعْظَمِ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْحَرَكَةُ قَسْرِيَّةً، فَلِهَذَا السَّبَبِ وَرَدَ فِيهَا اللَّفْظُ التَّسْخِيرُ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: إِذَا كَانَ لَا يَحْصُلُ لِلنَّهَارِ وَاللَّيْلِ وُجُودٌ إِلَّا بِسَبَبِ حَرَكَاتِ الشَّمْسِ كَانَ ذِكْرُ/ النَّهَارِ وَاللَّيْلِ مُغْنِيًا عَنْ ذِكْرِ الشَّمْسِ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ حُدُوثَ النَّهَارِ وَاللَّيْلِ لَيْسَ بِسَبَبِ حَرَكَةِ الشَّمْسِ، بَلْ حُدُوثُهُمَا بِسَبَبِ حَرَكَةِ الْفَلَكِ الْأَعْظَمِ الَّذِي دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ حَرَكَتَهُ لَيْسَتْ إِلَّا بِتَحْرِيكِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَأَمَّا حَرَكَةُ الشَّمْسِ فَإِنَّهَا عِلَّةٌ لِحُدُوثِ السَّنَةِ لَا لِحُدُوثِ الْيَوْمِ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ وَالْمُؤَثِّرُ فِي التَّسْخِيرِ هُوَ الْقُدْرَةُ لَا الْأَمْرُ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ الْأَفْلَاكَ وَالْكَوَاكِبَ جَمَادَاتٌ أَمْ لا، وأكثر المسلمين على أَنَّهَا جَمَادَاتٌ، فَلَا جَرَمَ حَمَلُوا الْأَمْرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْخَلْقِ وَالتَّقْدِيرِ، وَلَفْظُ الْأَمْرِ بِمَعْنَى الشَّأْنِ وَالْفِعْلِ كَثِيرٌ قَالَ تَعَالَى: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النَّحْلِ: ٤٠] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إِنَّهَا لَيْسَتْ جَمَادَاتٌ فَهَهُنَا يُحْمَلُ الْأَمْرُ عَلَى الأذن والتكليف والله أعلم.
[سورة النحل (١٦) : آية ١٤]
وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٤)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا احْتَجَّ عَلَى إِثْبَاتِ الإله في المرتبة الأولى بأجرام السموات، وَفِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ بِبَدَنِ الْإِنْسَانِ وَنَفْسِهِ، وَفِي الْمَرْتَبَةِ الثَّالِثَةِ بِعَجَائِبِ خِلْقَةِ الْحَيَوَانَاتِ، وَفِي الْمَرْتَبَةِ الرَّابِعَةِ بِعَجَائِبِ طَبَائِعِ النَّبَاتِ ذَكَرَ فِي الْمَرْتَبَةِ الْخَامِسَةِ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ بِعَجَائِبِ أَحْوَالِ الْعَنَاصِرِ فَبَدَأَ مِنْهَا بِالِاسْتِدْلَالِ بِعُنْصُرِ الْمَاءِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ عُلَمَاءَ الْهَيْئَةِ قَالُوا: ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ كُرَةِ الْأَرْضِ غَائِصَةٌ فِي الْمَاءِ وَذَاكَ هُوَ الْبَحْرُ الْمُحِيطُ وَهُوَ كُلِّيَّةُ عُنْصُرِ الْمَاءِ وَحَصَلَ فِي هَذَا الرُّبْعِ الْمَسْكُونِ سَبْعَةٌ مِنَ الْبِحَارِ كَمَا قَالَ بَعْدَهُ: وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ [لُقْمَانَ: ٢٧] وَالْبَحْرُ الَّذِي سَخَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلنَّاسِ هُوَ هَذِهِ الْبِحَارُ، وَمَعْنَى تَسْخِيرِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهَا لِلْخَلْقِ جَعْلُهَا بِحَيْثُ يَتَمَكَّنُ النَّاسُ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهَا إِمَّا بِالرُّكُوبِ أَوْ بِالْغَوْصِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مَنَافِعَ الْبِحَارِ كَثِيرَةٌ وَاللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مِنْهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ:
الْمَنْفَعَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَفِيهِ مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ لَحْمٌ طَرِيٌّ غَيْرَ مَهْمُوزٍ، وَقَدْ طَرُوَ يَطْرُو طَرَاوَةً، وَقَالَ/ الْفَرَّاءُ: طَرَا
وَاعْلَمْ أَنَّ فِي ذِكْرِ الطَّرِيِّ مَزِيدَ فَائِدَةٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ السَّمَكُ كُلُّهُ مَالِحًا، لَمَا عُرِفَ بِهِ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى مَا يُعْرَفُ بِالطَّرِيِّ فَإِنَّهُ لَمَّا خَرَجَ مِنَ الْبَحْرِ الْمِلْحِ الزُّعَاقِ الْحَيَوَانُ الَّذِي لَحْمُهُ فِي غَايَةِ الْعُذُوبَةِ عُلِمَ أَنَّهُ إِنَّمَا حَدَثَ لَا بِحَسَبِ الطَّبِيعَةِ، بَلْ بِقُدْرَةِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ حَيْثُ أَظْهَرَ الضِّدَّ مِنَ الضِّدِّ.
المسألة الثَّانِيَةُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ اللَّحْمَ فَأَكَلَ لَحْمَ السَّمَكِ لَا يَحْنَثُ قَالُوا: لِأَنَّ لَحْمَ السَّمَكِ لَيْسَ بِلَحْمٍ، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ يَحْنَثُ لِأَنَّهُ تَعَالَى نَصَّ عَلَى كَوْنِهِ لَحْمًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَلَيْسَ فَوْقَ بَيَانِ اللَّهِ بَيَانٌ. رُوِيَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمَّا قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ وَسَمِعَهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ بَعَثَ إِلَيْهِ رَجُلًا وَسَأَلَهُ عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ لَا يُصَلِّي عَلَى الْبِسَاطِ فَصَلَّى عَلَى الْأَرْضِ هَلْ يَحْنَثُ أَمْ لَا؟ قَالَ سُفْيَانُ: لَا يَحْنَثُ فَقَالَ السَّائِلُ: أَلَيْسَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً [نُوحٍ: ١٩] قَالَ فَعَرَفَ سُفْيَانُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِتَلْقِينِ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا الْكَلَامُ لَيْسَ بِقَوِيٍّ، لِأَنَّ أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّا تَرَكْنَا الْعَمَلَ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ فِي لَفْظِ الْبِسَاطِ لِلدَّلِيلِ الَّذِي قَامَ عَلَيْهِ فَكَيْفَ يَلْزَمُنَا تَرْكُ الْعَمَلِ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ فِي آيَةٍ أُخْرَى وَالْفَرْقُ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَمَّا حَلَفَ لَا يُصَلِّي عَلَى الْبِسَاطِ فَلَوْ أَدْخَلْنَا الْأَرْضَ تَحْتَ لَفْظِ الْبِسَاطِ لَزِمَنَا أَنْ نَمْنَعَهُ مِنَ الصَّلَاةِ، لِأَنَّهُ إِنْ صَلَّى عَلَى الْأَرْضِ الْمَفْرُوشَةِ بِالْبِسَاطِ لَزِمَهُ الْحِنْثُ لَا مَحَالَةَ، وَلَوْ صَلَّى عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي لَا تَكُونُ مَفْرُوشَةً لَزِمَهُ الْحِنْثُ أَيْضًا عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يُدْخِلَ الْأَرْضَ تَحْتَ لَفْظِ الْبِسَاطِ، فَهَذَا يَقْتَضِي مَنْعَهُ مِنَ الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إِذَا أَدْخَلْنَا لَحْمَ السَّمَكِ تَحْتَ لَفْظِ اللَّحْمِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَنْعِهِ مِنْ أَكْلِ اللَّحْمِ عَلَى الْإِطْلَاقِ مَحْذُورٌ فَظَهَرَ الْفَرْقُ. الثَّانِي: أَنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ مِنْ عُرْفِ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ وُقُوعَ اسْمِ الْبِسَاطِ عَلَى الْأَرْضِ الْخَالِصَةِ مَجَازٌ أَمَّا وُقُوعُ اسْمِ اللَّحْمِ عَلَى لَحْمِ السَّمَكِ فَلَمْ يُعْرَفْ أَنَّهُ مَجَازٌ، فَظَهَرَ الْفَرَقُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ: مَبْنَى الْأَيْمَانِ عَلَى الْعَادَةِ، وَعَادَةُ النَّاسِ إِذَا ذُكِرَ اللَّحْمُ عَلَى الْإِطْلَاقِ أَنْ لَا يُفْهَمَ مِنْهُ لَحْمُ السَّمَكِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِغُلَامِهِ اشْتَرِ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ لَحْمًا فَجَاءَ بِالسَّمَكِ كَانَ حَقِيقًا بِالْإِنْكَارِ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّا رَأَيْنَاكُمْ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ تَارَةً تَعْتَبِرُونَ اللَّفْظَ وَتَارَةً تَعْتَبِرُونَ الْعُرْفَ، وَمَا رَأَيْنَاكُمْ ذَكَرْتُمْ ضَابِطًا بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إِذَا قَالَ لِغُلَامِهِ اشْتَرِ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ لَحْمًا فَجَاءَ بِلَحْمِ الْعُصْفُورِ كَانَ حَقِيقًا بِالْإِنْكَارِ عَلَيْهِ، مَعَ أَنَّكُمْ تَقُولُونَ إِنَّهُ يَحْنَثُ بِأَكْلِ لَحْمِ الْعُصْفُورِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْعُرْفَ/ مُضْطَرِبٌ، وَالرُّجُوعُ إِلَى نَصِّ الْقُرْآنِ مُتَعَيِّنٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَنْفَعَةُ الثَّانِيَةُ: مِنْ مَنَافِعِ الْبَحْرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَالْمُرَادُ بِالْحِلْيَةِ اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ [الرَّحْمَنِ: ٢٢] وَالْمُرَادُ: بِلُبْسِهِمْ لُبْسُ نِسَائِهِمْ لِأَنَّهُنَّ مِنْ جُمْلَتِهِمْ، وَلِأَنَّ إِقْدَامَهُنَّ عَلَى التَّزَيُّنِ بِهَا إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ أَجْلِهِمْ فَكَأَنَّهَا زِينَتُهُمْ وَلِبَاسُهُمْ، وَرَأَيْتُ بَعْضَ أَصْحَابِنَا تَمَسَّكُوا فِي مَسْأَلَةِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الْحُلِيِّ الْمُبَاحِ
بِحَدِيثِ عُرْوَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا زَكَاةَ فِي الْحُلِيِّ»
فَقُلْتُ هَذَا الْحَدِيثُ ضَعِيفُ الرِّوَايَةِ وَبِتَقْدِيرِ الصِّحَّةِ فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ لَفْظُ الْحُلِيِّ لَفْظٌ مُفْرَدٌ مُحَلَّى
الْمَنْفَعَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: مَخْرُ السَّفِينَةِ شَقُّهَا الْمَاءَ بِصَدْرِهَا، وَعَنِ الْفَرَّاءِ: أَنَّهُ صَوْتُ جَرْيِ الْفُلْكِ بِالرِّيَاحِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَواخِرَ أَيْ جِوَارِيَ، إِنَّمَا حَسُنَ التَّفْسِيرُ بِهِ، لِأَنَّهَا لَا تَشُقُّ الْمَاءَ إِلَّا إِذَا كَانَتْ جَارِيَةً. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ يَعْنِي لِتَرْكَبُوهُ لِلتِّجَارَةِ فَتَطْلُبُوا الرِّبْحَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَإِذَا وَجَدْتُمْ فَضْلَ اللَّهِ تَعَالَى وَإِحْسَانَهُ فَلَعَلَّكُمْ تُقْدِمُونَ عَلَى شُكْرِهِ. وَاللَّهُ أعلم.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١٥ الى ١٦]
وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦)
اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ ذِكْرُ بَعْضِ النِّعَمِ الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَرْضِ.
فَالنِّعْمَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
المسألة الْأُولَى: قَوْلُهُ: أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ يَعْنِي لِئَلَّا تَمِيدَ بِكُمْ عَلَى قَوْلِ الْكُوفِيِّينَ وَكَرَاهَةَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ عَلَى قَوْلِ الْبَصْرِيِّينَ، وَذَكَرْنَا هَذَا عِنْدَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النِّسَاءِ: ١٧٦] وَالْمَيْدُ الْحَرَكَةُ وَالِاضْطِرَابُ يَمِينًا وَشِمَالًا يُقَالُ: مَادَ يَمِيدُ مَيْدًا.
المسألة الثَّانِيَةُ: الْمَشْهُورُ عَنِ الْجُمْهُورِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ قَالُوا: إِنَّ السَّفِينَةَ إِذَا أُلْقِيَتْ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ، فَإِنَّهَا تَمِيدُ مِنْ جَانِبٍ إِلَى جَانِبٍ، وَتَضْطَرِبُ، فَإِذَا وُضِعَتِ الْأَجْرَامُ الثَّقِيلَةُ فِي تِلْكَ السَّفِينَةِ اسْتَقَرَّتْ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ فَاسْتَوَتْ. قَالُوا فَكَذَلِكَ لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَرْضَ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ اضْطَرَبَتْ وَمَادَتْ، فَخَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهَا هَذِهِ الْجِبَالَ الثِّقَالَ فَاسْتَقَرَّتْ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ بِسَبَبِ ثِقَلِ هَذِهِ الْجِبَالِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا يُشْكِلُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ إِمَّا أَنْ يُذْكَرَ مَعَ تَسْلِيمِ كَوْنِ الْأَرْضِ وَالْمَاءِ ثَقِيلَةً بِالطَّبْعِ أَوْ مَعَ الْمَنْعِ مِنْ هَذَا الْأَصْلِ وَمَعَ الْقَوْلِ بِأَنَّ حَرَكَاتِ هَذِهِ الْأَجْسَامِ بِطِبَاعِهَا أَوْ لَيْسَتْ بِطِبَاعِهَا بَلْ هِيَ وَاقِعَةٌ بِتَخْلِيقِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، أَمَّا عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ فَهَذَا التَّعْلِيلُ مُشْكِلٌ، لِأَنَّ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ لَا شَكَّ أَنَّ الْأَرْضَ أَثْقَلُ مِنَ الْمَاءِ، وَالْأَثْقَلُ مِنَ الْمَاءِ يَغُوصُ فِي الْمَاءِ وَلَا يَبْقَى طَافِيًا عَلَيْهِ وَإِذَا لَمْ يَبْقَ طَافِيًا عَلَيْهِ امْتَنَعَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا تَمِيدُ وَتَمِيلُ وَتَضْطَرِبُ، وَهَذَا بِخِلَافِ السَّفِينَةِ لِأَنَّهَا مُتَّخَذَةٌ مِنَ الْخَشَبِ وَفِي دَاخِلِ الْخَشَبِ تَجْوِيفَاتٌ مَمْلُوءَةٌ مِنَ الْهَوَاءِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ تَبْقَى الْخَشَبَةُ طَافِيَةً عَلَى الْمَاءِ فَحِينَئِذٍ تَضْطَرِبُ وَتَمِيدُ وَتَمِيلُ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ فَإِذَا أُرْسِيَتْ بِالْأَجْسَامِ الثَّقِيلَةِ اسْتَقَرَّتْ وَسَكَنَتْ فَظَهَرَ الْفَرْقُ، وَأَمَّا عَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ لِلْأَرْضِ وَلَا لِلْمَاءِ طَبَائِعُ تُوجِبُ الثِّقَلَ وَالرُّسُوبَ وَالْأَرْضُ إِنَّمَا تَنْزِلُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجْرَى عَادَتَهُ بِجَعْلِهَا كَذَلِكَ وَإِنَّمَا صَارَ الْمَاءُ مُحِيطًا بالأرض لمجرد إجراء العادة، وليس هاهنا طَبِيعَةٌ لِلْأَرْضِ وَلَا لِلْمَاءِ تُوجِبُ حَالَةً مَخْصُوصَةً فَنَقُولُ:
فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ عِلَّةُ سُكُونِ الْأَرْضِ هِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَخْلُقُ فِيهَا السُّكُونَ وَعِلَّةُ كَوْنِهَا مَائِدَةً مُضْطَرِبَةً هِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَخْلُقُ فِيهَا الْحَرَكَةَ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَإِنَّهُ يَفْسُدُ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْأَرْضَ كَانَتْ مَائِلَةً فَخَلَقَ اللَّهُ الْجِبَالَ وَأَرْسَاهَا
السُّؤَالُ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ إِرْسَاءَ الْأَرْضِ بِالْجِبَالِ إِنَّمَا يُعْقَلُ لِأَجْلِ أَنْ تَبْقَى الْأَرْضُ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَمِيدَ وَتَمِيلَ مِنْ جَانِبٍ إِلَى جَانِبٍ، وَهَذَا إِنَّمَا يُعْقَلُ إِذَا كَانَ الْمَاءُ الَّذِي اسْتَقَرَّتِ الْأَرْضُ عَلَى وَجْهِهِ وَاقِفًا فَنَقُولُ:
فَمَا الْمُقْتَضِي لِسُكُونِ ذَلِكَ الْمَاءِ وَوُقُوفِهِ فِي حَيِّزِهِ الْمَخْصُوصِ، فَإِنْ قُلْتَ: الْمُقْتَضِي لِسُكُونِهِ فِي ذَلِكَ الْحَيِّزِ الْمَخْصُوصِ هُوَ أَنَّ طَبِيعَتَهُ الْمَخْصُوصَةَ تُوجِبُ وُقُوفَهُ فِي ذَلِكَ الْمُعَيَّنِ، فَلِمَ لَا تَقُولُ: مِثْلَهُ فِي الْأَرْضِ وَهُوَ أَنَّ الطَّبِيعَةَ الْمَخْصُوصَةَ الَّتِي لِلْأَرْضِ تُوجِبُ وُقُوفَهَا فِي ذَلِكَ الْحَيِّزِ الْمُعَيَّنِ وَذَلِكَ يُفِيدُ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْأَرْضَ إِنَّمَا وَقَفَتْ بِسَبَبِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى/ أَرْسَاهَا بِالْجِبَالِ. فَإِنْ قُلْتَ: الْمُقْتَضِي لِسُكُونِ الْمَاءِ فِي حَيِّزِهِ الْمُعَيَّنِ هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَكَّنَ الْمَاءَ بِقُدْرَتِهِ فِي ذَلِكَ الْحَيِّزِ الْمَخْصُوصِ، فَلِمَ لَا تَقُولُ مِثْلَهُ فِي سُكُونِ الْأَرْضِ، وَحِينَئِذٍ يَفْسُدُ هَذَا التَّعْلِيلُ أَيْضًا.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: أَنَّ مَجْمُوعَ الْأَرْضِ جِسْمٌ عَظِيمٌ، فَبِتَقْدِيرِ أَنْ تَمِيدَ كُلِّيَّتُهُ وَتَضْطَرِبَ عَلَى وَجْهِ الْبَحْرِ الْمُحِيطِ لَمْ تَظْهَرْ تِلْكَ الْحَالَةُ لِلنَّاسِ.
فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ الْأَرْضَ تُحَرِّكُهَا الْبُخَارَاتُ الْمُحْتَقِنَةُ فِي دَاخِلِهَا عِنْدَ الزَّلَازِلِ، وَتَظْهَرُ تِلْكَ الْحَرَكَاتُ لِلنَّاسِ فَبِمَ تُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ لَوْلَا الْجِبَالُ لَتَحَرَّكَتِ الْأَرْضُ، إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَرْسَاهَا بِالْجِبَالِ الثِّقَالِ لَمْ تَقْوَ الرِّيَاحُ عَلَى تَحْرِيكِهَا.
قُلْنَا: تِلْكَ الْبُخَارَاتُ إِنَّمَا احْتَقَنَتْ فِي دَاخِلِ قِطْعَةٍ صَغِيرَةٍ مِنَ الْأَرْضِ، فَلَمَّا حَصَلَتِ الْحَرَكَةُ فِي تِلْكَ الْقِطْعَةِ الصَّغِيرَةِ ظَهَرَتْ تِلْكَ الْحَرَكَةُ. قَالَ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ: إِنَّ ظُهُورَ الْحَرَكَةِ فِي تِلْكَ الْقِطْعَةِ الْمُعَيَّنَةِ مِنَ الْأَرْضِ يَجْرِي مَجْرَى اخْتِلَاجٍ يَحْصُلُ فِي عُضْوٍ مُعَيَّنٍ مِنْ بَدَنِ الْإِنْسَانِ أَمَّا لَوْ حُرِّكَتْ كُلِّيَّةُ الْأَرْضِ لَمْ تَظْهَرْ تِلْكَ الْحَرَكَةُ، أَلَا تَرَى أَنَّ السَّاكِنَ فِي السَّفِينَةِ لَا يَحُسُّ بِحَرَكَةِ كُلِّيَّةِ السَّفِينَةِ وَإِنْ كَانَتْ وَاقِعَةً عَلَى أَسْرَعِ الْوُجُوهِ وَأَقْوَاهَا فَكَذَا هاهنا، فَهَذَا مَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنَ الْمَبَاحِثِ الدَّقِيقَةِ الْعَمِيقَةِ وَالَّذِي عِنْدِي فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الْمُشْكَلِ أَنْ يُقَالَ ثَبَتَ بِالدَّلَائِلِ الْيَقِينِيَّةِ أَنَّ الْأَرْضَ كُرَةٌ، وَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْجِبَالَ عَلَى سَطْحِ هَذِهِ الْكُرَةِ جَارِيَةٌ مَجْرَى خُشُونَاتٍ تَحْصُلُ عَلَى وَجْهِ هَذِهِ الْكُرَةِ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَوْ فَرَضْنَا أَنَّ هَذِهِ الْخُشُونَاتِ مَا كَانَتْ حَاصِلَةً بَلْ كَانَتِ الْأَرْضُ كُرَةً حَقِيقِيَّةً خَالِيَةً عَنِ الْخُشُونَاتِ وَالتَّضْرِيسَاتِ لَصَارَتْ بِحَيْثُ تَتَحَرَّكُ بِالِاسْتِدَارَةِ بِأَدْنَى سَبَبٍ لِأَنَّ الْجِرْمَ الْبَسِيطَ الْمُسْتَدِيرَ إِمَّا أَنْ يَجِبَ كَوْنُهُ مُتَحَرِّكًا بِالِاسْتِدَارَةِ عَلَى نَفْسِهِ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ ذَلِكَ عَقْلًا إِلَّا أَنَّهُ بِأَدْنَى سَبَبٍ يَتَحَرَّكُ عَلَى هَذَا الوجه، أَمَّا لَمَّا حَصَلَ عَلَى ظَاهِرِ سَطْحِ كُرَةِ الْأَرْضِ هَذِهِ الْجِبَالُ وَكَانَتْ كَالْخُشُونَاتِ الْوَاقِعَةِ عَلَى وَجْهِ الْكُرَةِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْجِبَالِ إِنَّمَا يَتَوَجَّهُ بِطَبْعِهِ نَحْوَ مَرْكَزِ الْعَالَمِ وَتَوَجُّهُ ذَلِكَ الْجَبَلِ نَحْوَ مَرْكَزِ الْعَالَمِ بِثِقَلِهِ الْعَظِيمِ وَقُوَّتِهِ الشَّدِيدَةِ يَكُونُ جَارِيًا مَجْرَى الْوَتَدِ الَّذِي يَمْنَعُ كُرَةَ الْأَرْضِ مِنَ الِاسْتِدَارَةِ، فَكَانَ تَخْلِيقُ هَذِهِ الْجِبَالِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ كَالْأَوْتَادِ الْمَغْرُوزَةِ فِي الْكُرَةِ الْمَانِعَةِ لَهَا عَنِ الْحَرَكَةِ الْمُسْتَدِيرَةِ، فَكَانَتْ مَانِعَةً لِلْأَرْضِ مِنَ الْمَيْدِ وَالْمَيْلِ وَالِاضْطِرَابِ بِمَعْنَى أَنَّهَا مَنَعَتِ الْأَرْضَ مِنَ الْحَرَكَةِ الْمُسْتَدِيرَةِ، فَهَذَا مَا وَصَلَ إِلَيْهِ بَحْثِي فِي هَذَا الْبَابِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ.
البحث الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: وَأَنْهاراً مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ وَالتَّقْدِيرُ وألقى رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا. وَخَلْقُ الْأَنْهَارِ لَا يَبْعُدُ أَنْ يسمى بالإلقاء فيقال: ألقى الله فِي الْأَرْضِ أَنْهَارًا كَمَا قَالَ: وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ [ق: ٧] وَالْإِلْقَاءُ مَعْنَاهُ الْجَعْلُ أَلَا تَرَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها [فُصِّلَتْ: ١٠] وَالْإِلْقَاءُ يُقَارِبُ الْإِنْزَالَ، لِأَنَّ الْإِلْقَاءَ يَدُلُّ عَلَى طَرْحِ الشَّيْءِ مِنَ الْأَعْلَى إِلَى الْأَسْفَلِ، إِلَّا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْإِلْقَاءِ الْجَعْلُ وَالْخَلْقُ قَالَ تَعَالَى: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي [طه: ٣٩].
البحث الثَّانِي: أَنَّهُ ثَبَتَ فِي الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ أَنَّ أَكْثَرَ الْأَنْهَارِ إِنَّمَا تَتَفَجَّرُ مَنَابِعُهَا فِي الْجِبَالِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْجِبَالَ أَتْبَعَ ذِكْرَهَا بِتَفْجِيرِ الْعُيُونِ وَالْأَنْهَارِ.
النِّعْمَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَهِيَ أَيْضًا مَعْطُوفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ وَالتَّقْدِيرُ: وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ سُبُلًا وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَظْهَرَهَا وَبَيَّنَهَا لِأَجْلِ أَنْ تَهْتَدُوا بِهَا فِي أَسْفَارِكُمْ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا [طه: ٥٣] وَقَوْلُهُ: لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ أَيْ لِكَيْ تَهْتَدُوا.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ أَظْهَرَ فِي الْأَرْضِ سُبُلًا مُعَيَّنَةً ذَكَرَ أَنَّهُ أَظْهَرَ فِيهَا عَلَامَاتٍ مخصوصة حيت يَتَمَكَّنَ الْمُكَلَّفُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا فَيَصِلَ بِوَاسِطَتِهَا إِلَى مَقْصُودِهِ فَقَالَ: وَعَلاماتٍ وَهِيَ أَيْضًا مَعْطُوفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ:
فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ وَالتَّقْدِيرُ: وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ وَأَلْقَى فِيهَا أَنْهَارًا وَسُبُلًا وَأَلْقَى فِيهَا عَلَامَاتٍ وَالْمُرَادُ بِالْعَلَامَاتِ مَعَالِمُ الطُّرُقِ وَهِيَ الْأَشْيَاءُ الَّتِي بِهَا يُهْتَدَى، وَهَذِهِ الْعَلَامَاتُ هِيَ الْجِبَالُ وَالرِّيَاحُ وَرَأَيْتُ جَمَاعَةً يَشُمُّونَ التُّرَابَ وَبِوَاسِطَةِ ذَلِكَ الشَّمِّ يَتَعَرَّفُونَ الطُّرُقَ. قَالَ الْأَخْفَشُ تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَعَلاماتٍ وَقَوْلُهُ: وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ كَلَامٌ مُنْفَصِلٌ عَنِ الْأَوَّلِ، وَالْمُرَادُ بِالنَّجْمِ الْجِنْسُ كَقَوْلِكَ: كَثُرَ الدِّرْهَمُ فِي أَيْدِي النَّاسِ. وَعَنِ السُّدِّيِّ هُوَ الثُّرَيَّا، وَالْفَرْقَدَانِ، وَبَنَاتُ نَعْشٍ، وَالْجَدْيُ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ: وَبِالنَّجْمِ بِضَمَّتَيْنِ وَبِضَمَّةٍ فَسُكُونٍ، وَهُوَ جَمْعُ نَجْمٍ كَرَهْنٍ وَرُهُنٍ وَالسُّكُونُ تَخْفِيفٌ. وَقِيلَ: حُذِفَ الْوَاوُ مِنَ النَّجْمِ تَخْفِيفًا.
فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ خِطَابٌ الحاضرين وَقَوْلُهُ: وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ خِطَابٌ لِلْغَائِبِينَ فَمَا السَّبَبُ فِيهِ؟
قُلْنَا: إِنَّ قُرَيْشًا كَانَتْ تُكْثِرُ أَسْفَارَهَا لِطَلَبِ الْمَالِ، وَمَنْ كَثُرَتْ أَسْفَارُهُ كَانَ عِلْمُهُ بِالْمَنَافِعِ الْحَاصِلَةِ مِنَ الِاهْتِدَاءِ بِالنُّجُومِ أَكْثَرَ وَأَتَمَّ فَقَوْلُهُ: وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ إِشَارَةٌ إِلَى قُرَيْشٍ لِلسَّبَبِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ قَوْلُهُ: وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ مُخْتَصٌّ بِالْبَحْرِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا/ ذَكَرَ صِفَةَ الْبَحْرِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْمَنَافِعِ بَيَّنَ أَنَّ مَنْ يَسِيرُونَ فِيهِ يَهْتَدُونَ بِالنَّجْمِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ هُوَ مُطْلَقٌ يَدْخُلُ فِيهِ السَّيْرُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَهَذَا الْقَوْلُ أَوْلَى، لِأَنَّهُ أَعَمُّ فِي كَوْنِهِ نِعْمَةً وَلِأَنَّ الِاهْتِدَاءَ بِالنَّجْمِ قَدْ يَحْصُلُ فِي الْوَقْتَيْنِ مَعًا، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ يَجْعَلُ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْمُسَافِرَ إِذَا عَمِيَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِالنُّجُومِ وَبِالْعَلَامَاتِ الَّتِي فِي الْأَرْضِ، وَهِيَ الْجِبَالُ وَالرِّيَاحُ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ، لِأَنَّهُ كَمَا يُمْكِنُ الِاهْتِدَاءُ بِهَذِهِ الْعَلَامَاتِ فِي
وَاعْلَمْ أَنَّ اشْتِبَاهَ الْقِبْلَةِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِعَلَامَاتٍ لَائِحَةٍ أَوْ لَا يَكُونَ، فَإِنْ كَانَتْ لَائِحَةً وَجَبَ أَنْ يَجِبَ الِاجْتِهَادُ وَيَتَوَجَّهَ إِلَى حَيْثُ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ هُوَ الْقِبْلَةُ، فَإِنْ تَبَيَّنَ الْخَطَأُ وَجَبَ الْإِعَادَةُ، لِأَنَّهُ كَانَ مُقَصِّرًا فِيمَا وَجَبَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ تَظْهَرِ الْعَلَامَاتُ فَهَهُنَا طَرِيقَانِ:
الطَّرِيقُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ مُخَيَّرًا فِي الصَّلَاةِ إِلَى أَيِّ جِهَةٍ شَاءَ لِأَنَّ الْجِهَاتِ لَمَّا تَسَاوَتْ وَامْتَنَعَ التَّرْجِيحُ لَمْ يَبْقَ إِلَّا التَّخْيِيرُ.
وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنْ يُصَلِّيَ إِلَى جَمِيعِ الْجِهَاتِ فَحِينَئِذٍ يَعْلَمُ بِيَقِينٍ أَنَّهُ خَرَجَ عَنِ الْعُهْدَةِ وَهَذَا كَمَا يَقُولُهُ الْفُقَهَاءُ: فِيمَنْ نَسِيَ صَلَاةً لَا يَعْرِفُهَا بِعَيْنِهَا أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ فِي الْقَضَاءِ أَنْ يَأْتِيَ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ لِيَكُونَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ قَضَاءِ مَا لَزِمَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: الْوَاجِبُ مِنْهَا وَاحِدَةٌ فَقَطْ وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّهُ لَمَّا لَزِمَهُ أَنْ يَفْعَلَ الْكُلَّ كَانَ الْكُلُّ وَاجِبًا وَإِنْ كَانَ سَبَبُ وُجُوبِ كُلِّ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ فَوْتَ الصَّلَاةِ الْوَاحِدَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١٧ الى ٢١]
أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٧) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (١٩) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٢١)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الدَّلَائِلَ الدَّالَّةَ عَلَى وُجُودِ الْقَادِرِ الْحَكِيمِ عَلَى التَّرْتِيبِ الْأَحْسَنِ وَالنَّظْمِ الْأَكْمَلِ وَكَانَتْ تِلْكَ الدَّلَائِلُ كَمَا أَنَّهَا كَانَتْ دَلَائِلَ، فَكَذَلِكَ أَيْضًا كَانَتْ شَرْحًا وَتَفْصِيلًا لِأَنْوَاعِ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَقْسَامِ إِحْسَانِهِ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ إِبْطَالِ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ لَمَّا دَلَّتْ هَذِهِ الدَّلَائِلُ الْبَاهِرَةُ، وَالْبَيِّنَاتُ الزَّاهِرَةُ الْقَاهِرَةُ عَلَى وُجُودِ إِلَهٍ قَادِرٍ حَكِيمٍ، وَثَبَتَ أَنَّهُ هُوَ الْمَوْلَى لِجَمِيعِ هَذِهِ النِّعَمِ وَالْمُعْطِي لِكُلِّ هَذِهِ الْخَيْرَاتِ فَكَيْفَ يَحْسُنُ فِي الْعُقُولِ الِاشْتِغَالُ بِعِبَادَةِ مَوْجُودٍ سِوَاهُ لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ ذلك الْمَوْجُودُ جَمَادًا لَا يَفْهَمُ وَلَا يَقْدِرُ، فَلِهَذَا الوجه قَالَ بَعْدَ تِلْكَ الْآيَاتِ: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ وَالْمَعْنَى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا كَمَنْ لَا يَخْلُقُ بَلْ لَا يَقْدِرُ الْبَتَّةَ عَلَى شَيْءٍ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ فَإِنَّ هَذَا الْقَدْرَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَدَبُّرٍ وَتَفَكُّرٍ وَنَظَرٍ. وَيَكْفِي فِيهِ أَنْ تَتَنَبَّهُوا عَلَى مَا فِي عُقُولِكُمْ مِنْ أَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَلِيقُ إِلَّا بِالْمُنْعِمِ الْأَعْظَمِ، وَأَنْتُمْ تَرَوْنَ فِي الشَّاهِدِ إِنْسَانًا عَاقِلًا فَاهِمًا يُنْعِمُ بِالنِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ يَقْبُحُ عِبَادَتُهُ فَهَذِهِ الْأَصْنَامُ جَمَادَاتٌ مَحْضَةٌ، وَلَيْسَ لَهَا فَهْمٌ وَلَا قُدْرَةٌ وَلَا اخْتِيَارٌ فَكَيْفَ تُقْدِمُونَ عَلَى عِبَادَتِهَا، وَكَيْفَ تُجَوِّزُونَ الِاشْتِغَالَ بِخِدْمَتِهَا وَطَاعَتِهَا.
المسألة الثَّانِيَةُ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: كَمَنْ لَا يَخْلُقُ الْأَصْنَامُ، وَأَنَّهَا جَمَادَاتٌ فَلَا يَلِيقُ بِهَا لَفْظَةُ «مَنْ» لِأَنَّهَا لِأُولِي الْعِلْمِ. وَأُجِيبَ عَنْهُ مِنْ وجوه:
وَالوجه الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ أَنَّ السَّبَبَ فِيهِ الْمُشَاكَلَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ يَخْلُقُ.
وَالوجه الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ مَنْ يَخْلُقُ لَيْسَ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ مِنْ أُولِي الْعِلْمِ فَكَيْفَ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدِهِ كَقَوْلِهِ: أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها يَعْنِي أَنَّ الْآلِهَةَ الَّتِي تَدْعُونَهَا حَالُهُمْ مُنْحَطَّةٌ عَنْ حَالِ مَنْ لَهُمْ أَرْجُلٌ وَأَيْدٍ وَآذَانٌ وَقُلُوبٌ، لِأَنَّ هَؤُلَاءِ أَحْيَاءٌ وَهُمْ أَمْوَاتٌ فَكَيْفَ يَصِحُّ مِنْهُمْ عِبَادَتُهَا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَوْ صَحَّتْ لَهُمْ هَذِهِ الْأَعْضَاءُ لَصَحَّ أَنْ يُعْبَدُوا.
فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ إِلْزَامُ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، حَيْثُ جَعَلُوا غَيْرَ الْخَالِقِ مِثْلَ الْخَالِقِ فِي التَّسْمِيَةِ بِالْإِلَهِ، وَفِي الِاشْتِغَالِ بِعِبَادَتِهَا، فَكَانَ حَقُّ الْإِلْزَامِ أَنْ يُقَالَ: أَفَمَنْ لَا يَخْلُقُ كَمَنْ يَخْلُقُ.
وَالْجَوَابُ: الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ مَنْ يَخْلُقُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الْعَظِيمَةَ وَيُعْطِي هَذِهِ الْمَنَافِعَ الْجَلِيلَةَ كَيْفَ يُسَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَذِهِ الْجَمَادَاتِ الْخَسِيسَةِ فِي التَّسْمِيَةِ بِاسْمِ الْإِلَهِ، وَفِي الِاشْتِغَالِ بِعِبَادَتِهَا وَالْإِقْدَامِ عَلَى غَايَةِ تَعْظِيمِهَا فَوَقَعَ التَّعْبِيرُ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ.
المسألة الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ بَعْضُ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ غَيْرُ خَالِقٍ لِأَفْعَالِ نَفْسِهِ فَقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى مَيَّزَ نَفْسَهُ عَنْ سَائِرِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا بِصِفَةِ الْخَالِقِيَّةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ الْغَرَضُ مِنْهُ بَيَانُ كَوْنِهِ مُمْتَازًا عَنِ الْأَنْدَادِ بِصِفَةِ الْخَالِقِيَّةِ وَأَنَّهُ إِنَّمَا اسْتَحَقَّ الْإِلَهِيَّةَ وَالْمَعْبُودِيَّةَ بِسَبَبِ كَوْنِهِ خَالِقًا، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْعَبْدَ لَوْ كَانَ خَالِقًا لِبَعْضِ الْأَشْيَاءِ لَوَجَبَ كَوْنُهُ إِلَهًا مَعْبُودًا، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا عَلِمْنَا أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ الْجَوَابُ: عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ:
الوجه الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ أَفَمَنْ يخلق ما تقدم ذكره من السموات وَالْأَرْضِ وَالْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَالْبِحَارِ وَالنُّجُومِ وَالْجِبَالِ كَمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى خَلْقِ شَيْءٍ أَصْلًا، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ كَانَ خَالِقًا لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَإِنَّهُ يَكُونُ إِلَهًا وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ أَنَّ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى أَفْعَالِ نَفْسِهِ أَنْ يَكُونَ إِلَهًا.
وَالوجه الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ مَنْ كَانَ خَالِقًا كَانَ أَفْضَلَ مِمَّنْ لَا يَكُونُ خَالِقًا، فَوَجَبَ امْتِنَاعُ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْإِلَهِيَّةِ وَالْمَعْبُودِيَّةِ، وَهَذَا الْقَدْرُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ خَالِقًا فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ إِلَهًا. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها [الْأَعْرَافِ: ١٩٥] وَمَعْنَاهُ: أَنَّ الَّذِي حَصَلَ لَهُ رِجْلٌ يَمْشِي بِهَا يَكُونُ أَفْضَلَ مِنَ الَّذِي حَصَلَ لَهُ رِجْلٌ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَمْشِيَ بِهَا، وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ أَفْضَلَ مِنَ الصَّنَمِ، وَالْأَفْضَلُ لَا يَلِيقُ بِهِ عِبَادَةُ الْأَخَسِّ، فَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، ثُمَّ إِنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ حَصَلَ لَهُ رِجْلٌ يمشي بها أن يكون إلها، فكذلك هاهنا الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ بَيَانُ أَنَّ الْخَالِقَ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِ الْخَالِقِ، فَيَمْتَنِعُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْإِلَهِيَّةِ وَالْمَعْبُودِيَّةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ بِمُجَرَّدِ حُصُولِ صِفَةِ الْخَالِقِيَّةِ يَكُونُ إِلَهًا.
وَالوجه الثَّالِثُ فِي الْجَوَابِ: أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ لَا يُطْلِقُونَ لَفْظَ الْخَالِقِ عَلَى الْعَبْدِ. قَالَ الْكَعْبِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ» إِنَّا لَا نَقُولُ: إِنَّا نَخْلُقُ أَفْعَالَنَا: قَالَ وَمَنْ أَطْلَقَ ذَلِكَ فَقَدْ أَخْطَأَ إِلَّا فِي مَوَاضِعَ ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى كَقَوْلِهِ:
وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ [الْمَائِدَةِ: ١١٠] وَقَوْلِهِ: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [الْمُؤْمِنُونَ: ١٤].
إِطْلَاقُ لَفْظِ الْخَالِقِ عَلَى الْعَبْدِ حَقِيقَةٌ وَعَلَى اللَّهِ مَجَازٌ، لِأَنَّ الخلق عِبَارَةٌ عَنِ التَّقْدِيرِ، وَذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنِ الظَّنِّ وَالْحُسْبَانِ، وَهُوَ فِي حَقِّ الْعَبْدِ حَاصِلٌ وَفِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَجْوِبَةَ قَوِيَّةٌ وَالِاسْتِدْلَالَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِنَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
أما قوله تَعَالَى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ بِالْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ بَاطِلٌ وَخَطَأٌ بَيَّنَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يُمْكِنُهُ الْإِتْيَانُ بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَشُكْرِ نِعَمِهِ وَالْقِيَامِ بِحُقُوقِ كَرَمِهِ عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ وَالتَّمَامِ، بَلِ الْعَبْدُ وَإِنْ أَتْعَبَ نَفْسَهُ فِي الْقِيَامِ بِالطَّاعَاتِ وَالْعِبَادَاتِ، وَبَالَغَ فِي شُكْرِ نِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ يَكُونُ مُقَصِّرًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِشُكْرِ النِّعَمِ مَشْرُوطٌ بِعِلْمِهِ بِتِلْكَ النِّعَمِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ وَالتَّحْصِيلِ، فَإِنَّ مَنْ لَا يَكُونُ مُتَصَوَّرًا وَلَا مَفْهُومًا وَلَا مَعْلُومًا امْتَنَعَ الِاشْتِغَالُ بِشُكْرِهِ، إِلَّا أَنَّ الْعِلْمَ بِنِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ غَيْرُ حَاصِلٍ لِلْعَبْدِ، لِأَنَّ نِعَمَ اللَّهِ تَعَالَى كَثِيرَةٌ وَأَقْسَامَهَا وَشُعَبَهَا وَاسِعَةٌ عَظِيمَةٌ، وَعُقُولُ الْخَلْقِ قَاصِرَةٌ عن الإحاطة بمباديها فضلا عن غاياتها أنها غَيْرُ مَعْلُومَةٍ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ الِاشْتِغَالُ بِشُكْرِهِ عَلَى الوجه الَّذِي يَكُونُ ذَلِكَ الشُّكْرُ لَائِقًا بِتِلْكَ النِّعَمِ. فَهَذَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها يَعْنِي: أَنَّكُمْ لَا تَعْرِفُونَهَا عَلَى سَبِيلِ التَّمَامِ وَالْكَمَالِ، وَإِذَا لَمْ تَعْرِفُوهَا امْتَنَعَ مِنْكُمُ الْقِيَامُ بِشُكْرِهَا عَلَى سَبِيلِ التَّمَامِ والكمال، وذلك يدل على أن شكر الخلق قَاصِرٌ عَنْ نِعَمِ الْحَقِّ، وَعَلَى أَنَّ طَاعَاتِ الْخَلْقِ قَاصِرَةٌ عَنْ رُبُوبِيَّةِ الْحَقِّ وَعَلَى أَنَّ مَعَارِفَ الْخَلْقِ قَاصِرَةٌ عَنْ كُنْهِ جَلَالِ الْحَقِّ، وَمِمَّا يَدُلُّ قَطْعًا عَلَى أَنَّ عُقُولَ الْخَلْقِ قَاصِرَةٌ عَنْ مَعْرِفَةِ أَقْسَامِ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْبَدَنِ الْإِنْسَانِيِّ لَوْ ظَهَرَ فِيهِ أَدْنَى خَلَلٍ لَتَنَغَّصَ الْعَيْشُ عَلَى الْإِنْسَانِ، وَلَتَمَنَّى أَنْ يُنْفِقَ كُلَّ الدُّنْيَا حَتَّى يَزُولَ عَنْهُ ذَلِكَ الْخَلَلُ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى يُدَبِّرُ أَحْوَالَ بَدَنِ الْإِنْسَانِ عَلَى الوجه الْأَكْمَلِ الْأَصْلَحِ، مَعَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا عِلْمَ لَهُ بِوُجُودِ ذَلِكَ الْجُزْءِ وَلَا بِكَيْفِيَّةِ مَصَالِحِهِ وَلَا بِدَفْعِ مَفَاسِدِهِ، فَلْيَكُنْ هَذَا الْمِثَالُ حَاضِرًا فِي ذِهْنِكَ، ثُمَّ تَأْمَّلْ فِي جَمِيعِ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي هَذَا الْعَالَمِ مِنَ الْمَعَادِنِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ، وَجَعَلَهَا مُهَيَّأَةً لِانْتِفَاعِكَ بِهَا، حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّ عُقُولَ الْخَلْقِ تَفْنَى فِي مَعْرِفَةِ حِكْمَةِ الرَّحْمَنِ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ فَضْلًا عَنْ سَائِرِ وُجُوهِ الْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَلَمَّا قَرَّرْتُمْ أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالشُّكْرِ مَوْقُوفٌ عَلَى حُصُولِ الْعِلْمِ بِأَقْسَامِ النِّعَمِ، وَدَلَّلْتُمْ عَلَى أَنَّ حُصُولَ الْعَالِمِ بِأَقْسَامِ النِّعَمِ مُحَالٌ أَوْ غَيْرُ وَاقِعٍ، فَكَيْفَ أَمَرَ اللَّهُ الْخَلْقَ بِالْقِيَامِ بِشُكْرِ النِّعَمِ؟
قُلْنَا: الطَّرِيقُ إِلَيْهِ أَنْ يَشْكُرَ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى جَمِيعِ نِعَمِهِ مُفَصَّلِهَا وَمُجْمَلِهَا. فَهَذَا هُوَ الطَّرِيقُ الَّذِي بِهِ يُمْكِنُ الْخُرُوجُ عَنْ عُهْدَةِ الشُّكْرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
المسألة الثَّانِيَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: إنه ليس لله على الكافر نِعْمَةٌ وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: لِلَّهِ عَلَى الْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ نِعَمٌ كَثِيرَةٌ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنَّ الْإِنْعَامَ بِخَلْقِ السموات وَالْأَرْضِ وَالْإِنْعَامَ بِخَلْقِ الْإِنْسَانِ مِنَ النُّطْفَةِ، وَالْإِنْعَامَ بِخَلْقِ الْأَنْعَامِ وَبِخَلْقِ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ، وَبِخَلْقِ أَصْنَافِ النِّعَمِ مِنَ الزَّرْعِ وَالزَّيْتُونِ وَالنَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ، وَبِتَسْخِيرِ الْبَحْرِ لِيَأْكُلَ الْإِنْسَانُ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَيَسْتَخْرِجَ مِنْهُ حِلْيَةً يَلْبَسُهَا كُلُّ ذَلِكَ مُشْتَرَكٌ فِيهِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، ثُمَّ أَكَّدَ
أما قوله: إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم: ٣٤] وقال هاهنا: إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُمْكِنُهُ الْقِيَامُ بِأَدَاءِ الشُّكْرِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ. قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ أَيْ غَفُورٌ لِلتَّقْصِيرِ الصَّادِرِ عَنْكُمْ فِي الْقِيَامِ بِشُكْرِ نِعَمِهِ، رَحِيمٌ بِكُمْ حَيْثُ لَمْ يَقْطَعْ نِعَمَهُ عَلَيْكُمْ بِسَبَبِ تَقْصِيرِكُمْ.
أما قوله: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا مَعَ اشْتِغَالِهِمْ بِعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى يُسِرُّونَ ضُرُوبًا مِنَ الْكُفْرِ فِي مَكَايِدِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَجَعَلَ هَذَا زَجْرًا لَهُمْ عَنْهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى زَيَّفَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ بِسَبَبِ أَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَهَا عَلَى الْخَلْقِ وَالْإِنْعَامِ وَزَيَّفَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَيْضًا عِبَادَتَهَا بِسَبَبِ أَنَّ الْإِلَهَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالسِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَهَذِهِ الْأَصْنَامُ جَمَادَاتٌ لَا مَعْرِفَةَ لَهَا بِشَيْءٍ أَصْلًا فَكَيْفَ تَحْسُنُ عِبَادَتُهَا؟
أما قوله: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ هَذِهِ الْأَصْنَامَ بِصِفَاتٍ كَثِيرَةٍ.
فَالصِّفَةُ الْأُولَى: أَنَّهُمْ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ قَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ يُسِرُّونَ وَيُعْلِنُونَ وَيُدْعَوْنَ كُلَّهَا بِالْيَاءِ عَلَى الْحِكَايَةِ عَنِ الْغَائِبِ، وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ يَدْعُونَ بِالْيَاءِ خَاصَّةً عَلَى الْمُغَايَبَةِ وتُسِرُّونَ وتُعْلِنُونَ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ، وَالْبَاقُونَ كُلَّهَا بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ عَطْفًا عَلَى مَا قَبْلَهُ.
فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ قَوْلَهُ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَصْنَامَ لَا تَخْلُقُ شيئا وقوله هاهنا: لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً يَدُلُّ عَلَى نَفْسِ هَذَا الْمَعْنَى، فَكَانَ هَذَا مَحْضَ التَّكْرِيرِ.
وَجَوَابُهُ: أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ لَا يَخْلُقُونَ شيئا، والمذكور هاهنا أَنَّهُمْ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَأَنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ لِغَيْرِهِمْ، فَكَانَ هَذَا زِيَادَةً فِي الْمَعْنَى، وَكَأَنَّهُ تَعَالَى بَدَأَ بِشَرْحِ نَقْصِهِمْ فِي ذَوَاتِهِمْ وَصِفَاتِهِمْ فَبَيَّنَ أَوَّلًا أَنَّهَا لَا تَخْلُقُ شَيْئًا، ثُمَّ ثَانِيًا أَنَّهَا كَمَا لَا تَخْلُقُ غَيْرَهَا فَهِيَ مَخْلُوقَةٌ لِغَيْرِهَا.
وَالصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ آلِهَةً عَلَى الْحَقِيقَةِ لَكَانُوا أَحْيَاءً غَيْرَ أَمْوَاتٍ، أَيْ غَيْرَ جَائِزٍ عَلَيْهَا الْمَوْتُ كَالْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَأَمْرُ هَذِهِ الْأَصْنَامِ عَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ.
فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا قَالَ: أَمْواتٌ عُلِمَ أَنَّهَا غَيْرُ أَحْيَاءٍ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ: غَيْرُ أَحْياءٍ.
وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِلَهَ هُوَ الْحَيُّ الَّذِي لَا يَحْصُلُ عَقِيبَ حَيَاتِهِ مَوْتٌ، وَهَذِهِ/ الْأَصْنَامُ أَمْوَاتٌ لَا يَحْصُلُ عَقِيبَ مَوْتِهَا الْحَيَاةُ. وَالثَّانِي: أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مَعَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ، وَهُمْ فِي نِهَايَةِ الْجَهَالَةِ وَالضَّلَالَةِ، وَمَنْ تَكَلَّمَ مَعَ الْجَاهِلِ الْغَرِّ الْغَبِيِّ فَقَدْ يَحْسُنُ أَنْ يُعَبِّرَ عَنِ الْمَعْنَى الْوَاحِدِ بِالْعِبَارَاتِ الْكَثِيرَةِ، وَغَرَضُهُ مِنْهُ الْإِعْلَامُ بِكَوْنِ ذَلِكَ الْمُخَاطَبِ فِي غَايَةِ الْغَبَاوَةِ وَأَنَّهُ إنما يعيد الْكَلِمَاتِ لِكَوْنِ ذَلِكَ السَّامِعِ فِي نِهَايَةِ الْجَهَالَةِ، وَأَنَّهُ لَا يَفْهَمُ الْمَعْنَى الْمَقْصُودَ بِالْعِبَارَةِ الْوَاحِدَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: الْأَصْنَامُ جَمَادَاتٌ، وَالْجَمَادَاتُ لَا تُوصَفُ بِأَنَّهَا أَمْوَاتٌ، وَلَا تُوصَفُ بِأَنَّهُمْ لَا يَشْعُرُونَ كَذَا وَكَذَا.
وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْجَمَادَ قَدْ يُوصَفُ بِكَوْنِهِ مَيِّتًا قَالَ تَعَالَى: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ [الروم: ١٩]. الثاني: أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا وَصَفُوا تِلْكَ الْأَصْنَامَ بِالْإِلَهِيَّةِ وَالْمَعْبُودِيَّةِ قِيلَ لَهُمْ، لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، بَلْ هِيَ أَمْوَاتٌ وَلَا يَعْرِفُونَ شَيْئًا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْعِبَارَاتُ عَلَى وَفْقِ مُعْتَقَدِهِمْ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ:
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الْمَلَائِكَةَ، وَكَانَ نَاسٌ مِنَ الْكُفَّارِ يَعْبُدُونَهُمْ فَقَالَ اللَّهُ إِنَّهُمْ أَمْوَاتٌ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنَ الْمَوْتِ غَيْرُ أَحْيَاءٍ، أَيْ غَيْرُ بَاقِيَةٍ حَيَاتُهُمْ: وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ أَيْ لَا عِلْمَ لهم بوقت بعثهم والله أعلم.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٢٢ الى ٢٣]
إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٢٢) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (٢٣)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا زَيَّفَ فِيمَا تَقَدَّمَ طَرِيقَةَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ وَبَيَّنَ فَسَادَ مَذْهَبِهِمْ بِالدَّلَائِلِ الْقَاهِرَةِ قَالَ: إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى مَا لِأَجْلِهِ أَصَرَّ الْكُفَّارُ عَلَى الْقَوْلِ بِالشِّرْكِ وَإِنْكَارِ التَّوْحِيدِ فَقَالَ: فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ وَالْمَعْنَى أَنَّ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَيَرْغَبُونَ فِي الْفَوْزِ بِالثَّوَابِ الدَّائِمِ وَيَخَافُونَ الْوُقُوعَ فِي الْعِقَابِ الدَّائِمِ إِذَا سَمِعُوا الدَّلَائِلَ وَالتَّرْغِيبَ وَالتَّرْهِيبَ، خَافُوا الْعِقَابَ فَتَأَمَّلُوا وَتَفَكَّرُوا فِيمَا يَسْمَعُونَهُ، فَلَا جَرَمَ يَنْتَفِعُونَ بِسَمَاعِ الدَّلَائِلِ، وَيَرْجِعُونَ مِنَ الْبَاطِلِ إِلَى الْحَقِّ، أَمَّا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَيُنْكِرُونَهَا فَإِنَّهُمْ لَا يَرْغَبُونَ فِي حُصُولِ الثَّوَابِ وَلَا يَرْهَبُونَ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْعِقَابِ فَيَبْقُونَ مُنْكِرِينَ لِكُلِّ كَلَامٍ يُخَالِفُ قَوْلَهُمْ وَيَسْتَكْبِرُونَ عَنِ الرُّجُوعِ إِلَى قَوْلِ غَيْرِهِمْ، فَلَا جَرَمَ يَبْقُونَ مُصِرِّينَ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ.
ثم قال تَعَالَى: لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ أَنَّ إِصْرَارَهُمْ عَلَى هَذِهِ الْمَذَاهِبِ الْفَاسِدَةِ لَيْسَ لِأَجْلِ شُبْهَةٍ تَصَوَّرُوهَا أَوْ إِشْكَالٍ تَخَيَّلُوهُ، بَلْ ذَلِكَ لِأَجْلِ التَّقْلِيدِ وَالنَّفْرَةِ عَنِ الرُّجُوعِ إِلَى الْحَقِّ وَالشَّغَفِ بِنُصْرَةِ مَذَاهِبِ الْأَسْلَافِ وَالتَّكَبُّرِ وَالنَّخْوَةِ. فَلِهَذَا قَالَ: إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ وَهَذَا الْوَعِيدُ يَتَنَاوَلُ كُلَّ المتكبرين.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٢٤ الى ٢٥]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٤) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ مَا يَزِرُونَ (٢٥)
فَالشُّبْهَةُ الْأُولَى: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا احْتَجَّ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ نَفْسِهِ بِكَوْنِ الْقُرْآنِ مُعْجِزَةً طَعَنُوا فِي الْقُرْآنِ وَقَالُوا: إِنَّهُ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْمُعْجِزَاتِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ ذَلِكَ السَّائِلَ مَنْ كَانَ؟ قِيلَ هُوَ كَلَامُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَقِيلَ هُوَ قَوْلُ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ، وَقِيلَ: هُوَ قَوْلُ الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ اقْتَسَمُوا مَدَاخِلَ مَكَّةَ يُنَفِّرُونَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَأَلَهُمْ وُفُودُ الْحَاجِّ عَمَّا أُنْزِلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
المسألة الثَّانِيَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: كَيْفَ يَكُونُ تَنْزِيلُ رَبِّهِمْ أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ؟
وَجَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَذْكُورٌ عَلَى سَبِيلِ السُّخْرِيَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُمْ: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشُّعَرَاءِ: ٢٧]، وقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الْحِجْرِ: ٦] وقوله:
يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ [الزُّخْرُفِ: ٤٩]. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ هَذَا الَّذِي تَذْكُرُونَ أَنَّهُ مُنْزَّلٌ مِنْ رَبِّكُمْ هُوَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ. الثَّالِثُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مِمَّا أَنْزَلَهُ اللَّهُ لَكِنَّهُ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْعُلُومِ وَالْفَصَاحَةِ وَالدَّقَائِقِ وَالْحَقَائِقِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى شُبَهَهُمْ قَالَ: لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ اللَّامُ فِي لِيَحْمِلُوا لَامُ الْعَاقِبَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَصِفُوا الْقُرْآنَ بِكَوْنِهِ أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ لِأَجْلِ أَنْ يَحْمِلُوا الْأَوْزَارَ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتْ عَاقِبَتُهُمْ ذَلِكَ حَسُنَ ذِكْرُ هَذِهِ اللَّامِ كَقَوْلِهِ: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [الْقَصَصِ: ٨] وَقَوْلُهُ: كامِلَةً مَعْنَاهُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُخَفِّفُ مِنْ عِقَابِهِمْ شَيْئًا، بَلْ يُوصِلُ ذَلِكَ الْعِقَابَ بِكُلِّيَّتِهِ إِلَيْهِمْ، وَأَقُولُ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ يُسْقِطُ بَعْضَ الْعِقَابِ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ، إِذْ لَوْ كَانَ هَذَا الْمَعْنَى حَاصِلًا فِي حَقِّ الْكُلِّ، لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ بِهَذَا التَّكْمِيلِ مَعْنًى، وَقَوْلُهُ: وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ مَعْنَاهُ: وَيَحْصُلُ لِلرُّؤَسَاءِ مِثْلُ أَوْزَارِ الْأَتْبَاعِ، وَالسَّبَبُ فِيهِ مَا
رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَيُّمَا دَاعٍ دَعَا إِلَى الْهُدَى فَاتُّبِعَ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنِ اتَّبَعَهُ لَا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ وَأَيُّمَا دَاعٍ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ فَاتُّبِعَ كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَنِ اتَّبَعَهُ لَا يَنْقُصُ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْءٌ».
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ تَعَالَى يُوصِلُ الْعِقَابَ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ الْأَتْبَاعُ إِلَى الرُّؤَسَاءِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا لَا يَلِيقُ بِعَدْلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا مَا سَعى [النَّجْمِ: ٣٩] وَقَوْلُهُ: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الْإِسْرَاءِ: ١٥] بَلِ الْمَعْنَى: أَنَّ الرَّئِيسَ إِذَا وَضَعَ سُنَّةً قَبِيحَةً عَظُمَ عِقَابُهُ، حَتَّى أَنَّ ذَلِكَ الْعِقَابَ يَكُونُ مُسَاوِيًا لِكُلِّ مَا يَسْتَحِقُّهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَتْبَاعِ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَلَفْظَةُ: (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ لَيْسَتْ لِلتَّبْعِيضِ، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ لِلتَّبْعِيضِ لَخَفَّ عَنِ الْأَتْبَاعِ بَعْضُ أَوْزَارِهِمْ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ،
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ».
وَلَكِنَّهَا لِلْجِنْسِ، أَيْ لِيَحْمِلُوا مِنْ جِنْسِ أَوْزَارِ الْأَتْبَاعِ. وَقَوْلُهُ: بِغَيْرِ عِلْمٍ يَعْنِي أَنَّ هَؤُلَاءِ الرُّؤَسَاءَ إِنَّمَا يُقْدِمُونَ عَلَى هَذَا الْإِضْلَالِ جَهْلًا مِنْهُمْ بِمَا يَسْتَحِقُّونَهُ مِنَ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ عَلَى ذَلِكَ الْإِضْلَالِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خَتَمَ الْكَلَامَ بِقَوْلِهِ: أَلا ساءَ مَا يَزِرُونَ وَالْمَقْصُودُ الْمُبَالَغَةُ فِي الزَّجْرِ.
قُلْنَا: السَّبَبُ فِيهِ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ كَوْنَ الْقُرْآنِ مُعْجِزًا بِطَرِيقَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحَدَّاهُمْ بِكُلِّ الْقُرْآنِ، وَتَارَةً بِعَشْرِ سُوَرٍ، وَتَارَةً بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ، وَتَارَةً بِحَدِيثٍ وَاحِدٍ، وَعَجَزُوا عَنِ الْمُعَارَضَةِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مُعْجِزًا.
الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى هَذِهِ الشُّبْهَةَ بِعَيْنِهَا فِي آيَةٍ أُخْرَى وَهُوَ قَوْلُهُ: اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الْفَرْقَانِ: ٥] وَأَبْطَلَهَا بِقَوْلِهِ: قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْفَرْقَانِ: ٦] وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْقُرْآنَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْإِخْبَارِ عَنِ الْغُيُوبِ، وَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى إلا ممن يكون عالما بأسرار السموات وَالْأَرْضِ، فَلَمَّا ثَبَتَ كَوْنُ الْقُرْآنِ مُعْجِزًا بِهَذَيْنَ الطَّرِيقَيْنِ، وَتَكَرَّرَ شَرْحُ هَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ مِرَارًا كَثِيرَةً لَا جَرَمَ اقْتَصَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مُجَرَّدِ الْوَعِيدِ وَلَمْ يَذْكُرْ مَا يَجْرِي مَجْرَى الجواب عن هذه الشبهة، والله أعلم.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٢٦ الى ٢٨]
قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (٢٦) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (٢٧) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ] اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْآيَةِ الْمُبَالِغَةُ فِي وَصْفِ وَعِيدِ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ، وَفِي الْمُرَادِ بِالَّذِينِ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْلَانِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ نُمْرُوذُ بْنُ كَنْعَانَ بَنَى صَرْحًا/ عَظِيمًا بِبَابِلَ طُولُهُ خمسة آلاف ذراع. وفيل فَرْسَخَانِ، وَرَامَ مِنْهُ الصُّعُودَ إِلَى السَّمَاءِ لِيُقَاتِلَ أهلها، فالمراد بالمكر هاهنا بِنَاءُ الصَّرْحِ لِمُقَاتَلَةِ أَهْلِ السَّمَاءِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ، أَنَّ هَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْمُبْطِلِينَ الَّذِينَ يُحَاوِلُونَ إِلْحَاقَ الضَّرَرِ وَالْمَكْرِ بِالْمُحِقِّينَ.
أما قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
المسألة الْأُولَى: أَنَّ الْإِتْيَانَ وَالْحَرَكَةَ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ، فَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَمَّا كَفَرُوا أَتَاهُمُ اللَّهُ بِزَلَازِلَ قَلَعَ بِهَا بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ وَالْأَسَاسِ.
المسألة الثَّانِيَةُ: فِي قَوْلِهِ: فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ قَوْلَانِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا مَحْضُ التَّمْثِيلِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ رَتَّبُوا مَنْصُوبَاتٍ لِيَمْكُرُوا بِهَا أَنْبِيَاءَ اللَّهِ تَعَالَى فَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى حَالَهُمْ فِي تِلْكَ الْمَنْصُوبَاتِ مِثْلَ حَالِ قَوْمٍ بَنَوْا بُنْيَانًا وَعَمَّدُوهُ بِالْأَسَاطِينِ فَانْهَدَمَ ذَلِكَ الْبِنَاءُ، وَضَعُفَتْ تِلْكَ الْأَسَاطِينُ، فَسَقَطَ السَّقْفُ عَلَيْهِمْ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُمْ: مَنْ حَفَرَ بِئْرًا لِأَخِيهِ أَوْقَعَهُ اللَّهُ فِيهِ.
أما قوله تَعَالَى: فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ فَفِيهِ سُؤَالٌ: وَهُوَ أَنَّ السَّقْفَ لَا يَخِرُّ إِلَّا مِنْ فَوْقِهِمْ، فَمَا مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ.
وَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ التَّأْكِيدَ. وَالثَّانِي: رُبَّمَا خَرَّ السَّقْفُ، وَلَا يَكُونُ تَحْتَهُ أَحَدٌ، فَلَمَّا قَالَ: فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ دَلَّ هَذَا الْكَلَامُ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا تَحْتَهُ، وَحِينَئِذٍ يُفِيدُ هَذَا الْكَلَامُ أَنَّ الْأَبْنِيَةَ قَدْ تَهَدَّمَتْ وَهُمْ مَاتُوا تَحْتَهَا. وَقَوْلُهُ: وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ إِنْ حَمَلْنَا هَذَا الْكَلَامَ عَلَى مَحْضِ التَّمْثِيلِ فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمُ اعْتَمَدُوا عَلَى مَنْصُوبَاتِهِمْ. ثُمَّ تَوَلَّدَ الْبَلَاءُ مِنْهَا بِأَعْيَانِهَا، وَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الظَّاهِرِ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ نَزَلَ ذَلِكَ السَّقْفُ عَلَيْهِمْ بَغْتَةً، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ أَعْظَمَ فِي الزَّجْرِ لِمَنْ سَلَكَ مِثْلَ سَبِيلِهِمْ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ عَذَابَهُمْ لَا يَكُونُ مَقْصُورًا عَلَى هَذَا الْقَدْرِ، بَلِ اللَّهُ تَعَالَى يُخْزِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالْخِزْيُ هُوَ الْعَذَابُ مَعَ الْهَوَانِ، وَفَسَّرَ تَعَالَى ذَلِكَ الْهَوَانَ بِأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ لَهُمْ: أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ وَفِيهِ أَبْحَاثٌ:
البحث الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: قَوْلُهُ: أَيْنَ شُرَكائِيَ مَعْنَاهُ: أَيْنَ شُرَكَائِيَ فِي زَعْمِكُمْ وَاعْتِقَادِكُمْ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الْأَنْعَامِ: ٢٢] وَقَالَ أَيْضًا: وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانا/ تَعْبُدُونَ [يُونُسَ: ٢٨] وَإِنَّمَا حَسُنَتْ هَذِهِ الْإِضَافَةُ لِأَنَّهُ يَكْفِي فِي حُسْنِ الْإِضَافَةِ أَدْنَى سَبَبٍ، وَهَذَا كَمَا يُقَالُ لِمَنْ يَحْمِلُ خَشَبَةً خُذْ طَرَفَكَ وَآخُذُ طَرَفِي، فَأُضِيفَ الطَّرَفُ إِلَيْهِ.
البحث الثَّانِي: قَوْلُهُ: تُشَاقُّونَ فِيهِمْ أَيْ تُعَادُونَ وَتُخَاصِمُونَ الْمُؤْمِنِينَ فِي شَأْنِهِمْ، وَقِيلَ: الْمُشَاقَّةُ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ فِي شِقٍّ وَكَوْنِ الْآخَرِ فِي الشِّقِّ الْآخَرِ.
البحث الثَّالِثُ: قَرَأَ نَافِعٌ: تُشَاقُّونَ بِكَسْرِ النُّونِ عَلَى الْإِضَافَةِ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ النُّونِ عَلَى الْجَمْعِ.
ثم قال تَعَالَى: قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ وَفِيهِ بَحْثَانِ:
البحث الْأَوَّلُ: قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ الْمَلَائِكَةَ، وَقَالَ آخَرُونَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ يَقُولُونَ حِينَ يَرَوْنَ خِزْيَ الْكُفَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ، وَالْفَائِدَةُ فِيهِ أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يُنْكِرُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا فَإِذَا ذَكَرَ الْمُؤْمِنُ هَذَا الْكَلَامَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي مَعْرِضِ إِهَانَةِ الْكَافِرِ كَانَ وَقْعُ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى الْكَافِرِ وَتَأْثِيرُهُ فِي إِيذَائِهِ أَكْمَلَ وَحُصُولُ الشَّمَاتَةِ بِهِ أَقْوَى.
البحث الثَّانِي: الْمُرْجِئَةُ احْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْعَذَابَ مُخْتَصٌّ بِالْكَافِرِ قَالُوا لِأَنَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَاهِيَّةَ الْخِزْيِ وَالسُّوءِ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ مُخْتَصَّةٌ بِالْكَافِرِ، وَذَلِكَ يَنْفِي حُصُولَ هَذِهِ الْمَاهِيَّةِ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ، وَتَأَكَّدَ هَذَا بِقَوْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [طه: ٤٨] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ عَذَابَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَقَالَ: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَرَأَ حَمْزَةُ: يَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ بِالْيَاءِ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ ذُكُورٌ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّاءِ لِلَّفْظِ.
ثم قال: فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ وَفِيهِ قَوْلَانِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ إِلْقَاءَ السَّلَمِ عِنْدَ الْقُرْبِ مِنَ الْمَوْتِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ ثُمَّ عَادَ الْكَلَامُ إِلَى حِكَايَةِ كَلَامِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلْقَوُا السَّلَمَ وَقَالُوا مَا كُنَّا نَعْمَلُ في الدنيا من سوء، ثم هاهنا اخْتَلَفُوا، فَالَّذِينَ جَوَّزُوا الْكَذِبَ عَلَى أَهْلِ الْقِيَامَةِ، قَالُوا: هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْكَذِبِ/ وَإِنَّمَا أَقْدَمُوا عَلَى هَذَا الْكَذِبِ لِغَايَةِ الْخَوْفِ، وَالَّذِينَ قَالُوا إِنَّ الْكَذِبَ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ قَالُوا: مَعْنَى الْآيَةِ، مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ عِنْدَ أَنْفُسِنَا أَوْ فِي اعْتِقَادِنَا، وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ الْكَذِبَ عَلَى أَهْلِ الْقِيَامَةِ هَلْ يَجُوزُ أَمْ لَا؟ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الْأَنْعَامِ: ٢٣] وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ قَالَ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ قَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ بَعْضُ الْمَلَائِكَةِ رَدًّا عَلَيْهِمْ وَتَكْذِيبًا لَهُمْ، وَمَعْنَى بَلَى الرَّدُّ لِقَوْلِهِمْ: مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يَعْنِي أَنَّهُ عَالِمٌ بِمَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا فَلَا يَنْفَعُكُمْ هَذَا الْكَذِبُ فَإِنَّهُ يُجَازِيكُمْ عَلَى الْكُفْرِ الَّذِي عَلِمَهُ مِنْكُمْ. ثم صرح بذكر العقاب فقال:
[سورة النحل (١٦) : آية ٢٩]
فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٢٩)
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَفَاوُتِ مَنَازِلِهِمْ فِي الْعِقَابِ، فَيَكُونُ عِقَابُ بَعْضِهِمْ أَعْظَمَ مِنْ عِقَابِ بَعْضٍ، وَإِنَّمَا صَرَّحَ تَعَالَى بِذِكْرِ الْخُلُودِ لِيَكُونَ الْغَمُّ وَالْحَزَنُ أَعْظَمَ.
ثم قال: فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ على قَبُولِ التَّوْحِيدِ وَسَائِرِ مَا أَتَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ، وَتَفْسِيرُ التَّكَبُّرِ قَدْ مَرَّ فِي هَذَا الْكِتَابِ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٣٠ الى ٣٢]
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (٣١) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٢)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَحْوَالَ الْأَقْوَامِ الَّذِينَ إِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا: أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ. وَذَكَرَ أَنَّهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ وَمِنْ أَوْزَارِ أَتْبَاعِهِمْ، وَذَكَرَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَوَفَّاهُمْ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ، وَذَكَرَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ يُلْقُونَ السَّلَمَ، وَذَكَرَ أَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ لَهُمُ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ، أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ وَصْفِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ إِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْقَاضِي: يَدْخُلُ تَحْتَ التَّقْوَى أَنْ يَكُونَ تَارِكًا لِكُلِّ الْمُحَرَّمَاتِ فَاعِلًا لِكُلِّ الْوَاجِبَاتِ، وَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ كَامِلُ الْإِيمَانِ، وَقَالَ أَصْحَابُنَا: يُرِيدُ الَّذِينَ اتَّقَوُا الشِّرْكَ وَأَيْقَنُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، وَأَقُولُ: هَذَا أَوْلَى مِمَّا قَالَهُ الْقَاضِي، لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّهُ يَكْفِي فِي صِدْقِ قَوْلِهِ فُلَانٌ قَاتِلٌ أَوْ ضَارِبٌ كَوْنُهُ آتِيًا بِقَتْلِ وَاحِدٍ وَضَرْبِ وَاحِدٍ، وَلَا يَتَوَقَّفُ صِدْقُ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى كَوْنِهِ آتِيًا بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْقَتْلِ وَجَمِيعِ أَنْوَاعِ الضَّرْبِ، فَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ: وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ أَتَى بِنَوْعٍ وَاحِدٍ مِنْ أَنْوَاعِ التَّقْوَى إِلَّا أَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ التَّقْوَى عَنِ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَزِيدَ عَلَى هَذَا الْقَيْدِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ خِلَافَ الْأَصْلِ، كَانَ تَقْيِيدُ الْمُقَيِّدِ أَكْثَرَ مُخَالَفَةً لِلْأَصْلِ، وَأَيْضًا فَلِأَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَ هَؤُلَاءِ فِي مُقَابَلَةِ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَأَشْرَكُوا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَنِ اتَّقَى عَنْ ذَلِكَ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُ قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى، قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالُوا خَيْرًا، فَلِمَ رُفِعَ الْأَوَّلُ وَنُصِبَ هَذَا؟
أَجَابَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» عَنْهُ بِأَنْ قَالَ: الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْفَصْلُ بَيْنَ جَوَابِ الْمُقِرِّ وَجَوَابِ الْجَاحِدِ يَعْنِي أَنَّ هَؤُلَاءِ لَمَّا سُئِلُوا لَمْ يَتَلَعْثَمُوا، وَأَطْبَقُوا الْجَوَابَ عَلَى السُّؤَالِ بَيِّنًا مَكْشُوفًا مَفْعُولًا لِلْإِنْزَالِ فَقَالُوا خَيْرًا أَيْ أَنْزَلَ خَيْرًا، وَأُولَئِكَ عَدَلُوا بِالْجَوَابِ عَنِ السُّؤَالِ فَقَالُوا هُوَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ وَلَيْسَ مِنَ الْإِنْزَالِ فِي شَيْءٍ.
المسألة الثَّالِثَةُ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ هَذَا كَانَ فِي أَيَّامِ الْمَوْسِمِ، يَأْتِي الرَّجُلُ مَكَّةَ فَيَسْأَلُ الْمُشْرِكِينَ عَنْ مُحَمَّدٍ وَأَمْرِهِ فَيَقُولُونَ إِنَّهُ سَاحِرٌ وَكَاهِنٌ وَكَذَّابٌ، فَيَأْتِي الْمُؤْمِنِينَ وَيَسْأَلُهُمْ عَنْ مُحَمَّدٍ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ خَيْرًا، وَالْمَعْنَى: أَنْزَلَ خَيْرًا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الَّذِي قَالُوهُ مِنَ الْجَوَابِ مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ خَيْرٌ، وَقَوْلُهُمْ خَيْرٌ جَامِعٌ لِكَوْنِهِ حَقًّا وَصَوَابًا، وَلِكَوْنِهِمْ مُعْتَرِفِينَ بِصِحَّتِهِ وَلُزُومِهِ فَهُوَ بِالضِّدِّ مِنْ قَوْلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ، أَنَّ ذَلِكَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ عَلَى وَجْهِ التَّكْذِيبِ.
المسألة الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا وَمَا بَعْدَهُ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: خَيْراً وَهُوَ حِكَايَةٌ لِقَوْلِ الَّذِينَ اتَّقَوْا، أَيْ قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ، وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا إِخْبَارًا عَنِ اللَّهِ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ لَمَّا قِيلَ لَهُمْ: مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَكَّدَ قَوْلَهُمْ وَقَالَ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَفِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا قَوْلَانِ، أَمَّا الَّذِينَ يَقُولُونَ: إن أهل لا إله لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ فَإِنَّهُمْ يَحْمِلُونَهُ عَلَى قَوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مَعَ الِاعْتِقَادِ الْحَقِّ، وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ فُسَّاقَ أَهْلِ الصَّلَاةِ لَا يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ يَحْمِلُونَ قَوْلَهُ: أَحْسَنُوا عَلَى مَنْ أَتَى بِالْإِيمَانِ، وَجَمِيعِ الْوَاجِبَاتِ وَاحْتَرَزَ عَنْ كُلِّ الْمُحَرَّمَاتِ. وَأما قوله: فِي هذِهِ الدُّنْيا فَفِيهِ قَوْلَانِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: أَحْسَنُوا وَالتَّقْدِيرُ: لِلَّذِينِ اتَّقَوْا بِعَمَلِ الْحَسَنَةِ فِي الدُّنْيَا فَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ حَسَنَةٌ، وَتِلْكَ الْحَسَنَةُ هِيَ الثَّوَابُ الْعَظِيمُ، وَقِيلَ: تِلْكَ الْحَسَنَةُ هُوَ أَنَّ ثَوَابَهَا يُضَاعَفُ بِعَشْرِ مَرَّاتٍ وَبِسَبْعِمِائَةٍ وَإِلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ.
وَأما قوله: وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ فَقَدْ بَيَّنَّا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي قَوْلِهِ: وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ [الْأَنْعَامِ: ٣٢] بِالدَّلَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ حُصُولَ هَذَا الْخَيْرِ، ثم قال: وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ أَيْ لَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ دَارُ الْآخِرَةِ، فَحُذِفَتْ لِسَبْقِ ذِكْرِهَا، هَذَا إِذَا لَمْ تُجْعَلُ هَذِهِ الْآيَةُ مُتَّصِلَةً بِمَا بَعْدَهَا، فَإِنْ وَصَلْتَهَا بِمَا بَعْدَهَا قُلْتَ:
وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ جَنَّاتُ عَدْنٍ فَتَرْفَعُ جَنَّاتٍ عَلَى أَنَّهَا اسْمٌ لِنِعْمَ، كَمَا تَقُولُ: نِعْمَ الدَّارُ دَارٌ يَنْزِلُهَا زَيْدٌ. وَأما قوله: جَنَّاتُ عَدْنٍ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ مَوْصُولَةً بِمَا قَبْلَهَا، فَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ ارْتِفَاعِهَا، وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ مَقْطُوعَةً، فَقَالَ الزَّجَّاجُ: جَنَّاتُ عَدْنٍ مَرْفُوعَةٌ بِإِضْمَارِ «هِيَ» كَأَنَّكَ لَمَّا قُلْتَ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ/ قِيلَ: أَيُّ دَارٍ هِيَ هَذِهِ الْمَمْدُوحَةُ فَقُلْتَ: هِيَ جَنَّاتُ عَدْنٍ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: جَنَّاتُ عَدْنٍ رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ، ويدخلونها خَبَرُهُ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: نِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ خَبَرُهُ، وَالتَّقْدِيرُ: جَنَّاتُ عَدْنٍ نِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ.
المسألة الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: جَنَّاتُ يَدُلُّ عَلَى الْقُصُورِ وَالْبَسَاتِينِ وَقَوْلُهُ: عَدْنٍ يَدُلُّ عَلَى الدَّوَامِ، وَقَوْلُهُ:
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حَصَلَ هُنَاكَ أَبْنِيَةٌ يَرْتَفِعُونَ عَلَيْهَا وَتَكُونُ الْأَنْهَارُ جَارِيَةً مِنْ تَحْتِهِمْ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ وَفِيهِ بَحْثَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ تَدُلُّ عَلَى حُصُولِ كُلِّ الْخَيْرَاتِ وَالسَّعَادَاتِ، وَهَذَا أَبْلَغُ من قوله: فِيها مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ [الزُّخْرُفِ: ٧١] لِأَنَّ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ دَاخِلَانِ فِي قَوْلِهِ: لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ مَعَ أَقْسَامٍ أُخْرَى. الثَّانِي: قَوْلُهُ: لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ يَعْنِي هَذِهِ الْحَالَةُ لَا تَحْصُلُ إِلَّا فِي الجنة، لأن قوله: لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ يُفِيدُ الْحَصْرَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَجِدُ كُلَّ مَا يُرِيدُهُ فِي الدُّنْيَا.
ثم قال تَعَالَى: كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ [إلى آخره الآية] أَيْ هَكَذَا جَزَاءُ التَّقْوَى، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى عَادَ إِلَى وَصْفِ الْمُتَّقِينَ فَقَالَ: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ وَهَذَا مَذْكُورٌ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ [النَّحْلِ: ٢٨] وَقَوْلِهِ: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ صِفَةٌ لِلْمُتَّقِينَ فِي قَوْلِهِ: كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ وَقَوْلُهُ: طَيِّبِينَ كَلِمَةٌ مُخْتَصَرَةٌ جَامِعَةٌ لِلْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ إِتْيَانُهُمْ بِكُلِّ مَا أُمِرُوا بِهِ، وَاجْتِنَابُهُمْ عَنْ كُلِّ مَا نُهُوا عَنْهُ وَيَدْخُلُ فِيهِ كَوْنُهُمْ مَوْصُوفِينَ بِالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ مُبَرَّئِينَ عَنِ الْأَخْلَاقِ الْمَذْمُومَةِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ كَوْنُهُمْ مُبَرَّئِينَ عَنِ الْعَلَائِقِ الْجُسْمَانِيَّةِ مُتَوَجِّهِينَ إِلَى حَضْرَةِ الْقُدْسِ وَالطَّهَارَةِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ أَنَّهُ طَابَ لَهُمْ قَبْضُ الْأَرْوَاحِ وَأَنَّهَا لَمْ تُقْبَضْ إِلَّا مَعَ الْبِشَارَةِ بِالْجَنَّةِ حَتَّى صَارُوا كَأَنَّهُمْ مُشَاهِدُونَ لَهَا وَمَنْ هَذَا حاله
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٣٣ الى ٣٤]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٣٣) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ مَا عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٤)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ لِمُنْكِرِي النُّبُوَّةِ، فَإِنَّهُمْ طَلَبُوا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ يُنْزِلَ اللَّهُ تَعَالَى مَلَكًا مِنَ السَّمَاءِ يَشْهَدُ عَلَى صِدْقِهِ فِي ادِّعَاءِ النبوة فقال تعالى: لْ يَنْظُرُونَ
فِي التَّصْدِيقِ بِنُبُوَّتِكَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ شَاهِدِينَ بِذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْقَوْمَ لَمَّا طَعَنُوا فِي الْقُرْآنِ بِأَنْ قَالُوا: إِنَّهُ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْوَاعَ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ لَهُمْ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ الْوَعْدِ لِمَنْ وَصَفَ الْقُرْآنَ بِكَوْنِهِ خَيْرًا وَصِدْقًا وَصَوَابًا، عَادَ إِلَى بَيَانِ أَنَّ أُولَئِكَ الْكُفَّارَ لَا يَنْزَجِرُونَ عَنِ الْكُفْرِ بِسَبَبِ الْبَيَانَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، بَلْ كَانُوا لَا يَنْزَجِرُونَ عَنْ تِلْكَ الْأَقْوَالِ الْبَاطِلَةِ إِلَّا إِذَا جَاءَتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ بِالتَّهْدِيدِ وَأَتَاهُمْ أَمْرُ رَبِّكَ وَهُوَ عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ على كلا التقديرين فقد قال تعالى: ذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
أَيْ كَلَامُ هَؤُلَاءِ وَأَفْعَالُهُمْ يُشْبِهُ كَلَامَ الْكُفَّارِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَأَفْعَالَهُمْ.
ثم قال: ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
وَالتَّقْدِيرُ: كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَصَابَهُمُ الْهَلَاكُ الْمُعَجَّلُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ، فَإِنَّهُ أَنْزَلَ بِهِمْ مَا اسْتَحَقُّوهُ بِكُفْرِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِأَنْ كَفَرُوا، وَكَذَّبُوا الرَّسُولَ فَاسْتَوْجَبُوا مَا نَزَلْ بِهِمْ.
ثم قال: فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ مَا عَمِلُوا وَالْمُرَادُ أَصَابَهُمْ عِقَابُ سَيِّئَاتِ مَا عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ أَيْ نَزَلَ بِهِمْ عَلَى وَجْهٍ أَحَاطَ بجوانبهم: ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي عقاب استهزائهم.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٣٥ الى ٣٧]
وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٣٥) وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٧)
[في قوله تعالى وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا إلى قوله حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ] اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ لِمُنْكِرِي النُّبُوَّةِ، وَتَقْرِيرُهَا: أَنَّهُمْ تَمَسَّكُوا بِصِحَّةِ الْقَوْلِ بِالْجَبْرِ عَلَى الطَّعْنِ فِي النُّبُوَّةِ فَقَالُوا: لَوْ شَاءَ اللَّهُ الْإِيمَانَ لَحَصَلَ الْإِيمَانُ، سَوَاءٌ جِئْتَ أَوْ لم تجيء، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ الْكُفْرَ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الشُّبْهَةَ هِيَ عَيْنُ مَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي قَوْلِهِ:
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الْأَنْعَامِ: ١٤٨] وَاسْتِدْلَالُ الْمُعْتَزِلَةِ بِهِ مِثْلُ اسْتِدْلَالِهِمْ بِتِلْكَ الْآيَةِ. وَالْكَلَامُ فِيهِ اسْتِدْلَالًا وَاعْتِرَاضًا عَيْنُ مَا تَقَدَّمَ هُنَاكَ فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ نَذْكُرَ مِنْهُ الْقَلِيلَ فَنَقُولُ: الْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ هِيَ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَمَّا كَانَ الْكُلُّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ بَعْثُهُ الْأَنْبِيَاءَ عَبَثًا. فَنَقُولُ: هَذَا اعْتِرَاضٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ قَوْلَهُمْ: إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي بَعْثَةِ الرَّسُولِ مَزِيدُ فَائِدَةٍ فِي حُصُولِ الْإِيمَانِ وَدَفْعِ الْكُفْرِ كَانَتْ بَعْثَةُ الْأَنْبِيَاءِ غَيْرَ جَائِزَةٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَهَذَا الْقَوْلُ جَارٍ مَجْرَى طَلَبِ الْعِلَّةِ فِي أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى وفي أفعاله، وذلك باطل، بل الله تَعَالَى أَنْ يَحْكُمَ فِي مُلْكِهِ وَمَلَكُوتِهِ مَا يَشَاءُ وَيَفْعَلُ مَا يُرِيدُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لَهُ: لِمَ فَعَلْتَ هَذَا وَلِمَ لَمْ تَفْعَلْ ذَلِكَ؟ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْإِنْكَارَ إِنَّمَا تَوَجَّهَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى صَرَّحَ فِي آخِرِ هَذِهِ الْآيَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى فَقَالَ: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ سُنَّتَهُ فِي عَبِيدِهِ إِرْسَالُ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ، وَأَمْرُهُمْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَنَهْيُهُمْ عَنْ عِبَادَةِ الطَّاغُوتِ.
ثم قال: فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى وَإِنْ أَمَرَ الْكُلَّ بِالْإِيمَانِ، وَنَهَى الْكُلَّ عَنِ الْكُفْرِ، إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى هَدَى الْبَعْضَ وَأَضَلَّ الْبَعْضَ، فَهَذِهِ سُنَّةٌ قَدِيمَةٌ لِلَّهِ/ تَعَالَى مَعَ الْعِبَادِ، وَهِيَ أَنَّهُ يَأْمُرُ الْكُلَّ بِالْإِيمَانِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْكُفْرِ، ثُمَّ يَخْلُقُ الْإِيمَانَ فِي الْبَعْضِ وَالْكُفْرَ فِي الْبَعْضِ. وَلَمَّا كَانَتْ سُنَّةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذَا الْمَعْنَى سُنَّةً قَدِيمَةً فِي حَقِّ كُلِّ الْأَنْبِيَاءِ وَكُلِّ الْأُمَمِ وَالْمِلَلِ وَإِنَّمَا يَحْسُنُ مِنْهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِحُكْمِ كَوْنِهِ إِلَهًا مُنَزَّهًا عَنِ اعْتِرَاضَاتِ الْمُعْتَرِضِينَ وَمُطَالَبَاتِ الْمُنَازِعِينَ، كَانَ إِيرَادُ هَذَا السُّؤَالِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ مُوجِبًا لِلْجَهْلِ وَالضَّلَالِ وَالْبُعْدِ عَنِ اللَّهِ فَثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا حَكَمَ عَلَى هَؤُلَاءِ بِاسْتِحْقَاقِ الْخِزْيِ وَاللَّعْنِ، لَا لِأَنَّهُمْ كَذَبُوا فِي قَوْلِهِمْ: لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ بَلْ لِأَنَّهُمُ اعْتَقَدُوا أَنَّ كَوْنَ الْأَمْرِ كَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ بَعْثَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ وَهَذَا بَاطِلٌ، فَلَا جَرَمَ اسْتَحَقُّوا عَلَى هَذَا الِاعْتِقَادِ مَزِيدَ الذَّمِّ وَاللَّعْنِ. فَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ الصَّحِيحُ الَّذِي يُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْبَابِ. وَأَمَّا مَنْ تَقَدَّمَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْمُفَسِّرِينَ فَقَدْ ذَكَرُوا فِيهِ وَجْهًا آخَرَ فَقَالُوا: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ ذَكَرُوا هَذَا الْكَلَامَ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِهْزَاءِ كَمَا قَالَ قَوْمُ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهُ: إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [هُودٍ: ٨٧] وَلَوْ قَالُوا ذَلِكَ مُعْتَقِدِينَ لَكَانُوا مُؤْمِنِينَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى هَذِهِ الشُّبْهَةَ قَالَ: كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَيْ هؤلاء للكفار أَبَدًا كَانُوا مُتَمَسِّكِينَ بِهَذِهِ الشُّبْهَةِ.
ثم قال: فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَالُوا: مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا مَنَعَ أَحَدًا مِنَ الْإِيمَانِ وَمَا أَوْقَعَهُ فِي الْكُفْرِ، وَالرُّسُلُ لَيْسَ عَلَيْهِمْ إِلَّا التَّبْلِيغُ، فَلَمَّا بَلَّغُوا التَّكَالِيفَ وَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى مَا مَنَعَ أَحَدًا عَنِ الْحَقِّ كَانَتْ هَذِهِ الشُّبْهَةُ سَاقِطَةً. أَمَّا أَصْحَابُنَا فَقَالُوا: مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الرُّسُلَ بِالتَّبْلِيغِ. فَهَذَا التَّبْلِيغُ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ، فَأَمَّا أَنَّ الْإِيمَانَ هَلْ يَحْصُلُ أَمْ لَا يَحْصُلُ فَذَلِكَ لَا تَعَلُّقَ لِلرَّسُولِ بِهِ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ بِإِحْسَانِهِ وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ بخذلانه.
ثم قال: فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ يَعْنِي: فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ إِلَى الْإِيمَانِ وَالصِّدْقِ وَالْحَقِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَضَلَّهُ عَنِ الْحَقِّ وَأَعْمَاهُ عَنِ الصِّدْقِ وَأَوْقَعَهُ فِي الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُوَافِقُ إِرَادَتَهُ، بَلْ قَدْ يَأْمُرُ بِالشَّيْءِ وَلَا يُرِيدُهُ وَيَنْهَى عَنِ الشَّيْءِ وَيُرِيدُهُ كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ يَقُولُونَ: الْأَمْرُ وَالْإِرَادَةُ مُتَطَابِقَانِ أَمَّا الْعِلْمُ وَالْإِرَادَةُ فَقَدْ يَخْتَلِفَانِ، وَلَفْظُ هَذِهِ الْآيَةِ صَرِيحٌ فِي قَوْلِنَا وَهُوَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِيمَانِ عَامٌّ فِي حَقِّ الْكُلِّ أَمَّا إِرَادَةُ الْإِيمَانِ فَخَاصَّةٌ بِالْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ.
أَجَابَ الْجُبَّائِيُّ: بِأَنَّ الْمُرَادَ: فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ لِنَيْلِ ثَوَابِهِ وَجَنَّتِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ أَيِ الْعِقَابُ. قَالَ: وَفِي صِفَةِ قَوْلِهِ: حَقَّتْ عَلَيْهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهَا الْعَذَابُ دُونَ كَلِمَةِ الْكُفْرِ لِأَنَّ الْكُفْرَ وَالْمَعْصِيَةَ لَا يَجُوزُ وَصْفُهُمَا بِأَنَّهُ حَقٌّ. وَأَيْضًا قَالَ تَعَالَى بَعْدَهُ: فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ وَهَذِهِ الْعَاقِبَةُ هِيَ آثَارُ الْهَلَاكِ لِمَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأُمَمِ الَّذِينَ اسْتَأْصَلَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْعَذَابِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالضَّلَالِ الْمَذْكُورِ هُوَ عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ.
وَأَجَابَ الْكَعْبِيُّ عَنْهُ بِأَنَّهُ قَالَ: قَوْلُهُ: فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ أَيْ مَنِ اهْتَدَى فَكَانَ فِي حُكْمِ اللَّهِ مُهْتَدِيًا، وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ يُرِيدُ: مَنْ ظَهَرَتْ ضَلَالَتُهُ، كَمَا يُقَالُ لِلظَّالِمِ: حَقَّ ظُلْمُكَ وَتَبَيَّنَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: حَقَّ عَلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ أَنْ يُضِلَّهُمْ إذا ضلوا كقوله: وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ [إبراهيم: ٢٧].
وَاعْلَمْ أَنَّا بَيَّنَّا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ الْقَاطِعَةِ أَنَّ الْهُدَى وَالْإِضْلَالَ لَا يَكُونَانِ إِلَّا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ، وَهَذِهِ الْوُجُوهُ الْمُتَعَسِّفَةُ وَالتَّأْوِيلَاتُ الْمُسْتَكْرَهَةُ قَدْ بَيَّنَّا ضَعْفَهَا وَسُقُوطَهَا مِرَارًا، فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْإِعَادَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
المسألة الرَّابِعَةُ: فِي الطَّاغُوتِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ: اجْتَنِبُوا عِبَادَةَ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَسَمَّى الْكُلَّ طَاغُوتًا، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: اجْتَنِبُوا طَاعَةَ الشَّيْطَانِ فِي دُعَائِهِ لَكُمْ.
المسألة الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ يَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِنَا، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَخْبَرَ عَنْهُ أَنَّهُ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ امْتَنَعَ أَنْ لا يصدر منه الضلالة، وإلا لا نقلب خَبَرُ اللَّهِ الصِّدْقُ كَذِبًا، وَذَلِكَ مُحَالٌ وَمُسْتَلْزَمُ الْمُحَالِ مُحَالٌ، فَكَانَ عَدَمُ الضَّلَالَةِ مِنْهُمْ مُحَالًا، وَوُجُودُ الضَّلَالَةِ مِنْهُمْ وَاجِبًا عَقْلًا، فَهَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِنَا فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ الكثيرة والله علم. وَنَظَائِرُ هَذِهِ الْآيَةِ كَثِيرَةٌ مِنْهَا قَوْلَهُ: فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ [الْأَعْرَافِ: ٣٠] وَقَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ [يُونُسَ: ٩٦] وَقَوْلُهُ:
لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [يس: ٧].
ثم قال تَعَالَى: فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ وَالْمَعْنَى: سِيرُوا فِي الْأَرْضِ مُعْتَبِرِينَ لِتَعْرِفُوا أَنَّ الْعَذَابَ نَازِلٌ بِكُمْ كَمَا نَزَلَ بِهِمْ، ثُمَّ أَكَّدَ أَنَّ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَإِنَّهُ لَا يَهْتَدِي، فَقَالَ:
إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ أَيْ إِنْ تَطْلُبْ بِجُهْدِكَ ذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:
أَمَّا الْقِرَاءَةُ الْأُولَى: فَفِيهَا وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُرْشِدُ أَحَدًا أَضَلَّهُ، وَبِهَذَا فَسَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَالثَّانِي: أَنَّ يَهْدِي بِمَعْنَى يَهْتَدِي. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْعَرَبُ تَقُولُ: قَدْ هَدَى الرَّجُلُ يُرِيدُونَ قَدِ اهْتَدَى، وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ إِذَا أَضَلَّ أَحَدًا لَمْ يَصِرْ ذَلِكَ مُهْتَدِيًا.
وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ: فَالوجه فِيهَا إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ، أَيْ مَنْ يُضِلُّهُ، فَالرَّاجِعُ إِلَى الْمَوْصُولِ الَّذِي هُوَ مَنْ مَحْذُوفٌ مُقَدَّرٌ وَهَذَا كَقَوْلِهِ: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ [الْأَعْرَافِ: ١٨٦] وَكَقَوْلِهِ: فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ [الْجَاثِيَةِ: ٢٣] أَيْ مِنْ بَعْدِ إِضْلَالِ اللَّهِ إِيَّاهُ.
ثم قال تَعَالَى: وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ أي وليس لهم أحد ينصرهم أن يُعِينُهُمْ عَلَى مَطْلُوبِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَأَقُولُ أَوَّلُ هَذِهِ الْآيَاتِ مُوهِمٌ لِمَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَآخِرُهَا مُشْتَمِلٌ عَلَى الْوُجُوهِ الْكَثِيرَةِ الدَّالَّةِ عَلَى قَوْلِنَا، وأكثر الآيات كذلك مشتملة على الوجهين، والله أعلم.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٣٨ الى ٤٠]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٣٨) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (٣٩) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٠)
[في قوله تعالى وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إلى قوله أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ] وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الشُّبْهَةُ الرَّابِعَةُ لِمُنْكِرِي النُّبُوَّةِ فَقَالُوا الْقَوْلُ بِالْبَعْثِ وَالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ بَاطِلٌ، فَكَانَ الْقَوْلُ بِالنُّبُوَّةِ بَاطِلًا.
أَمَّا الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: فَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَيْسَ إِلَّا هَذِهِ الْبَيِّنَةَ الْمَخْصُوصَةَ، فَإِذَا مَاتَ وَتَفَرَّقَتْ أَجْزَاؤُهُ وَبَطَلَ ذَلِكَ الْمِزَاجُ وَالِاعْتِدَالُ امْتَنَعَ عَوْدُهُ بِعَيْنِهِ، لِأَنَّ الشَّيْءَ إِذَا عَدِمَ فَقَدْ فَنِيَ وَلَمْ يَبْقَ لَهُ ذَاتٌ وَلَا حَقِيقَةٌ بَعْدَ فِنَائِهِ وَعَدَمِهِ، فَالَّذِي يَعُودُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ شَيْئًا مُغَايِرًا لِلْأَوَّلِ فَلَا يَكُونُ عَيْنُهُ.
وَأَمَّا الْمَقَامُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا بَطَلَ الْقَوْلُ بِالْبَعْثِ بَطَلَ الْقَوْلُ بِالنُّبُوَّةِ وَتَقْرِيرُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: / الْأَوَّلُ: أَنَّ مُحَمَّدًا كَانَ دَاعِيًا إِلَى تَقْرِيرِ الْقَوْلِ بِالْمَعَادِ، فَإِذَا بَطَلَ ذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ دَاعِيًا إِلَى الْقَوْلِ الْبَاطِلِ وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ رَسُولًا صَادِقًا. الثَّانِي: أَنَّهُ يُقَرِّرُ نُبُوَّةَ نَفْسِهِ وَوُجُوبَ طَاعَتِهِ بِنَاءً عَلَى التَّرْغِيبِ فِي الثَّوَابِ وَالتَّرْهِيبِ عَنِ الْعِقَابِ، وَإِذَا بَطَلَ ذَلِكَ بَطَلَتْ نُبُوَّتُهُ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَدَّعُونَ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ بِأَنَّ الشَّيْءَ إِذَا فَنِيَ وَصَارَ عَدَمًا مَحْضًا وَنَفْيًا صِرْفًا، فَإِنَّهُ بَعْدَ هَذَا الْعَدَمِ الصِّرْفِ لَا يَعُودُ بِعَيْنِهِ بَلِ الْعَائِدُ يَكُونُ شَيْئًا آخَرَ غَيْرَهُ. وَهَذَا الْقَسَمُ وَالْيَمِينُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَدَّعُونَ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ بِأَنَّ عَوْدَهُ بِعَيْنِهِ بَعْدَ عَدَمِهِ مُحَالٌ فِي بَدِيهَةِ الْعَقْلِ: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ عَلَى أَنَّهُمْ يَجْحَدُونَ فِي قُلُوبِهِمْ وَعُقُولِهِمْ
الوجه الْأَوَّلُ: أَنَّهُ وَعْدٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَوَجَبَ تَحْقِيقُهُ، ثُمَّ بَيَّنَ السَّبَبَ الَّذِي لِأَجْلِهِ كَانَ وَعْدًا حَقًّا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْمُطِيعِ وَبَيْنَ الْعَاصِي، وَبَيْنَ الْمُحِقِّ وَالْمُبْطِلِ، وَبَيْنَ الظَّالِمِ وَالْمَظْلُومِ، وَهُوَ قَوْلُهُ:
لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ قَدْ بَالَغْنَا فِي شَرْحِهَا وَتَقْرِيرِهَا فِي سُورَةِ يُونُسَ.
وَالوجه الثَّانِي: فِي بَيَانِ إِمْكَانِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ أَنَّ كَوْنَهُ تَعَالَى مُوجِدًا لِلْأَشْيَاءِ وَمُكَوِّنًا لَهَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى سَبْقِ مَادَّةٍ وَلَا مُدَّةٍ وَلَا آلَةٍ، وَهُوَ تَعَالَى إِنَّمَا يُكَوِّنُهَا بِمَحْضِ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَلَيْسَ لِقُدْرَتِهِ دَافِعٌ وَلَا لِمَشِيئَتِهِ مَانِعٌ فَعَبَّرَ تَعَالَى عَنْ هَذَا النَّفَاذِ الْخَالِي عَنِ الْمُعَارِضِ بِقَوْلِهِ: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَكَمَا أَنَّهُ تَعَالَى قَدَرَ عَلَى الْإِيجَادِ فِي الِابْتِدَاءِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَيْهِ فِي الْإِعَادَةِ، فَثَبَتَ بِهَذَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ الْقَاطِعَيْنِ أَنَّ الْقَوْلَ بِالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ والبعث والقيامة حق وصدق، والقوم إِنَّمَا طَعَنُوا فِي صِحَّةِ النُّبُوَّةِ بِنَاءً عَلَى الطَّعْنِ فِي هَذَا الْأَصْلِ، فَلَمَّا بَطَلَ هَذَا الطَّعْنُ بَطَلَ أَيْضًا طَعْنُهُمْ فِي النُّبُوَّةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
المسألة الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ حِكَايَةٌ عَنِ الَّذِينَ أَشْرَكُوا، وَقَوْلُهُ: بَلى إِثْبَاتٌ لِمَا بَعْدَ النَّفْيِ، أَيْ بَلَى يَبْعَثُهُمْ، وَقَوْلُهُ: وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ أَيْ وَعَدَ بِالْبَعْثِ وَعْدًا حَقًّا لَا خُلْفَ فِيهِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ يَبْعَثُهُمْ دَلَّ عَلَى قَوْلِهِ وَعَدَ بِالْبَعْثِ، وَقَوْلُهُ: لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ مِنْ أُمُورِ الْبَعْثِ أَيْ بَلَى يَبْعَثُهُمْ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ فِيمَا أَقْسَمُوا فِيهِ.
ثم قَالَ تَعَالَى: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: قَوْلُهُ: كُنْ إِنْ كَانَ خِطَابًا مَعَ الْمَعْدُومِ فَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ كَانَ خِطَابًا مَعَ الْمَوْجُودِ كَانَ هَذَا أَمْرًا بِتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ وَهُوَ مُحَالٌ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا تَمْثِيلٌ لِنَفْيِ الْكَلَامِ وَالْمُعَايَاةِ وَخِطَابٌ مَعَ الْخَلْقِ بِمَا يَعْقِلُونَ، وَلَيْسَ خِطَابًا لِلْمَعْدُومِ، لِأَنَّ مَا أَرَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ كَائِنٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَعَلَى مَا أَرَادَهُ مِنَ الْإِسْرَاعِ، وَلَوْ أَرَادَ خَلْقَ الدنيا والآخرة بما فيهما من السموات وَالْأَرْضِ فِي قَدْرِ لَمْحِ الْبَصَرِ لَقَدَرَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَكِنَّ الْعِبَادَ خُوطِبُوا بِذَلِكَ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ.
المسألة الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: قَوْلُنا مُبْتَدَأٌ وأَنْ نَقُولَ خبره وكُنْ فَيَكُونُ مِنْ كَانَ التَّامَّةِ الَّتِي بِمَعْنَى الْحُدُوثِ وَالْوُجُودِ أَيْ إِذَا أَرَدْنَا حُدُوثَ شَيْءٍ فَلَيْسَ إِلَّا أَنْ نَقُولَ لَهُ احْدُثْ فَيَحْدُثُ عَقِيبَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ.
المسألة الثَّالِثَةُ: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ فَيَكُونُ بِنَصْبِ النُّونِ، وَالْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ قَالَ الْفَرَّاءُ: الْقِرَاءَةُ بِالرَّفْعِ وَجْهُهَا أَنْ يُجْعَلَ قَوْلُهُ: أَنْ نَقُولَ لَهُ كَلَامًا تَامًّا ثُمَّ يُخْبِرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ سَيَكُونُ كَمَا يُقَالُ: إِنَّ زَيْدًا يَكْفِيهِ إِنْ أُمِرَ فَيَفْعَلُ فَتَرْفَعُ قَوْلَكَ فَيَفْعَلُ عَلَى أَنْ تَجْعَلَهُ كَلَامًا مُبْتَدَأً، وأم الْقِرَاءَةُ بِالنَّصْبِ فَوَجْهُهُ أَنْ تَجْعَلَهُ عَطْفًا عَلَى أَنْ نَقُولَ، وَالْمَعْنَى: أَنْ نَقُولَ كُنْ فَيَكُونَ هَذَا قَوْلُ جَمِيعِ النَّحْوِيِّينَ، قَالَ الزَّجَّاجُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَصْبًا عَلَى جَوَابِ
المسألة الرَّابِعَةُ: احْتَجَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى قِدَمِ الْقُرْآنِ فَقَالُوا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِذَا أَرَادَ إِحْدَاثَ شَيْءٍ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، فَلَوْ كَانَ قَوْلُهُ كُنْ حَادِثًا لَافْتَقَرَ إِحْدَاثُهُ إِلَى أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ وَذَلِكَ يُوجِبُ التَّسَلْسُلَ، وَهُوَ مُحَالٌ فَثَبَتَ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ قَدِيمٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الدَّلِيلَ عِنْدِي لَيْسَ فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ:
الوجه الْأَوَّلُ: أَنَّ كَلِمَةَ إِذا لَا تُفِيدُ التَّكْرَارَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ إِذَا دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَدَخَلَتِ الدَّارَ مَرَّةً طُلِّقَتْ طَلْقَةً وَاحِدَةً فَلَوْ دَخَلَتْ ثَانِيًا لَمْ تُطَلَّقْ طَلْقَةً ثَانِيَةً فَعَلِمْنَا أَنَّ كَلِمَةَ إِذَا لَا تُفِيدُ التَّكْرَارَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ فِي كُلِّ مَا يُحْدِثُهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَلَمْ يَلْزَمِ التَّسَلْسُلُ.
وَالوجه الثَّانِي: أَنَّ هَذَا الدَّلِيلَ إِنْ صَحَّ لَزِمَ الْقَوْلُ بِقِدَمِ لَفْظَةِ «كُنْ» وَهَذَا مَعْلُومُ الْبُطْلَانِ/ بِالضَّرُورَةِ، لِأَنَّ لَفْظَةَ: كُنْ، مُرَكَّبَةٌ مِنَ الْكَافِ وَالنُّونِ، وَعِنْدَ حُضُورِ الْكَافِ لَمْ تَكُنِ النُّونُ حَاضِرَةً وَعِنْدَ مَجِيءِ النُّونِ تَتَوَلَّى الْكَافُ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَلِمَةَ كُنْ يَمْتَنِعُ كَوْنُهَا قَدِيمَةً، وَإِنَّمَا الَّذِي يَدَّعِي أَصْحَابُنَا كَوْنَهُ قَدِيمًا صِفَةٌ مُغَايِرَةٌ لِلَفْظَةِ كُنْ، فَالَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَةُ لَا يَقُولُ بِهِ أَصْحَابُنَا، وَالَّذِي يَقُولُونَ بِهِ لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَةُ فَسَقَطَ التَّمَسُّكُ بِهِ.
وَالوجه الثَّالِثُ: أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا قَالَ إِنَّ فُلَانًا لَا يُقْدِمُ عَلَى قَوْلٍ، وَلَا عَلَى فِعْلٍ إِلَّا وَيَسْتَعِينُ فِيهِ بِاللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ عَاقِلًا لَا يَقُولُ: إِنَّ اسْتِعَانَتَهُ بِاللَّهِ فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِهِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ اسْتِعَانَةٍ مَسْبُوقَةً بِاسْتِعَانَةٍ أُخْرَى إِلَى غَيْرِ النِّهَايَةِ لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ بِحَسَبِ الْعُرْفِ بَاطِلٌ فَكَذَلِكَ مَا قَالُوهُ.
وَالوجه الرَّابِعُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُشْعِرَةٌ بِحُدُوثِ الْكَلَامِ مِنْ وُجُوهٍ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ يَقْتَضِي كَوْنَ الْقَوْلِ وَاقِعًا بِالْإِرَادَةِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُحْدَثٌ.
وَالوجه الثَّانِي: أَنَّهُ عَلَّقَ الْقَوْلَ بِكَلِمَةِ إِذَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ لَفْظَةَ «إِذَا» تَدْخُلُ لِلِاسْتِقْبَالِ.
وَالوجه الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ: أَنْ نَقُولَ لَهُ لَا خِلَافَ أَنَّ ذَلِكَ يُنْبِئُ عَنِ الِاسْتِقْبَالِ.
وَالوجه الرَّابِعُ: أَنَّ قَوْلَهُ: كُنْ فَيَكُونُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُدُوثَ الْكَوْنِ حَاصِلٌ عَقِيبَ قَوْلِهِ: كُنْ فَتَكُونُ كَلِمَةُ «كُنْ» مُتَقَدِّمَةً عَلَى حُدُوثِ الْكَوْنِ بِزَمَانٍ وَاحِدٍ، وَالْمُتَقَدِّمُ عَلَى الْمُحْدَثِ بِزَمَانٍ وَاحِدٍ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُحْدَثًا.
وَالوجه الْخَامِسُ: أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا [النِّسَاءِ: ٤٧]، وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً [الْأَحْزَابِ: ٣٨]. اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ [الزُّمَرِ: ٢٣]. فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ [الطُّورِ: ٣٤]، وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً [الْأَحْقَافِ: ١٢].
فَإِنْ قِيلَ: فَهَبْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى قِدَمِ الْكَلَامِ، وَلَكِنَّكُمْ ذَكَرْتُمْ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى حُدُوثِ الْكَلَامِ فَمَا الْجَوَابُ عَنْهُ؟
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٤١ الى ٤٢]
وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٤٢)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ عَلَى إِنْكَارِ الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ تَمَادَوْا فِي الْغَيِّ، وَالْجَهْلِ، وَالضَّلَالِ، وَفِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يَبْعُدُ إِقْدَامُهُمْ عَلَى إِيذَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَضَرِّهِمْ، وَإِنْزَالِ الْعُقُوبَاتِ بِهِمْ، وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُهَاجِرُوا عَنْ تِلْكَ الدِّيَارِ وَالْمَسَاكِنِ، فَذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ حُكْمَ تِلْكَ الْهِجْرَةِ وَبَيَّنَ مَا لِهَؤُلَاءِ الْمُهَاجِرِينَ مِنَ الْحَسَنَاتِ فِي الدُّنْيَا، وَالْأَجْرِ فِي الْآخِرَةِ مِنْ حَيْثُ هَاجَرُوا وَصَبَرُوا وَتَوَكَّلُوا عَلَى اللَّهِ، وَذَلِكَ تَرْغِيبٌ لِغَيْرِهِمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:
نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي سِتَّةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ صُهَيْبٍ وَبِلَالٍ وَعَمَّارٍ وَخَبَّابٍ وَعَابِسٍ وَجُبَيْرٍ مَوْلَيَيْنِ لِقُرَيْشٍ فَجَعَلُوا يُعَذِّبُونَهُمْ لِيَرُدُّوهُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ، أَمَّا صُهَيْبٌ فَقَالَ لَهُمْ: أَنَا رَجُلٌ كَبِيرٌ إِنْ كُنْتُ لَكُمْ لَمْ أَنْفَعْكُمْ وَإِنْ كُنْتُ عَلَيْكُمْ لَمْ أَضُرَّكُمْ فَافْتَدَى مِنْهُمْ بِمَالِهِ فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ قَالَ: رَبِحَ الْبَيْعُ يَا صُهَيْبُ، وَقَالَ عُمَرُ: نِعْمَ الرَّجُلُ صُهَيْبٌ لَوْ لَمْ يَخَفِ اللَّهَ لَمْ يَعْصِهِ، وَهُوَ ثَنَاءٌ عَظِيمٌ يُرِيدُ لَوْ لَمْ يَخْلُقِ اللَّهُ النَّارَ لَأَطَاعَهُ فَكَيْفَ ظَنُّكَ بِهِ وَقَدْ خَلَقَهَا؟ وَأَمَّا سَائِرُهُمْ فَقَدْ قَالُوا بَعْضَ مَا أَرَادَ أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ كَلِمَةِ الْكُفْرِ وَالرُّجُوعِ عَنِ الْإِسْلَامِ فَتَرَكُوا عَذَابَهُمْ، ثُمَّ هَاجَرُوا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَةِ عِظَمَ مَحَلِّ الْهِجْرَةِ، وَمَحَلِّ الْمُهَاجِرِينَ فَالوجه فِيهِ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ بِسَبَبِ هِجْرَتِهِمْ ظَهَرَتْ قُوَّةُ الْإِسْلَامِ، كَمَا أَنَّ بِنُصْرَةِ الْأَنْصَارِ قَوِيَتْ شَوْكَتُهُمْ، وَدَلَّ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ أَنَّ الْهِجْرَةَ إِذَا لَمْ تَكُنْ لِلَّهِ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَوْقِعٌ، وَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الِانْتِقَالِ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، وَقَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ كَانُوا مَظْلُومِينَ فِي أَيْدِي الْكُفَّارِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُعَذِّبُونَهُمْ.
ثم قال: لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: حَسَنَةً صِفَةٌ لِلْمَصْدَرِ مِنْ قَوْلِهِ:
لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا وَالتَّقْدِيرُ: لَنُبَوِّئَنَّهُمْ تَبْوِئَةً حَسَنَةً،
وَفِي قِرَاءَةِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ إِبْوَاءَةً حَسَنَةً).
الثَّانِي: لَنُنْزِلَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا مَنْزِلَةً حَسَنَةً وَهِيَ الْغَلَبَةُ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ الَّذِينَ ظَلَمُوهُمْ، وَعَلَى الْعَرَبِ قَاطِبَةً، وَعَلَى أَهْلِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَعْطَى رَجُلًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ عَطَاءً قَالَ: خُذْ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهِ هَذَا مَا وَعَدَكَ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَمَا ذَخَرَ لَكَ فِي الْآخِرَةِ أَكْبَرُ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مَبَاءَةً حَسَنَةً وَهِيَ الْمَدِينَةُ حَيْثُ آوَاهُمْ أَهْلُهَا وَنَصَرُوهُمْ، وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ وَقَتَادَةَ، وَالتَّقْدِيرُ: لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا دَارًا حَسَنَةً أَوْ بَلْدَةً حَسَنَةً يَعْنِي الْمَدِينَةَ.
ثم قال تَعَالَى: وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ وَأَعْظَمُ وَأَشْرَفُ، لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ وَالضَّمِيرُ إِلَى مَنْ يَعُودُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْكُفَّارِ، أَيْ لَوْ عَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَجْمَعُ لِهَؤُلَاءِ الْمُسْتَضْعَفِينَ فِي أَيْدِيهِمُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ لَرَغِبُوا فِي دِينِهِمْ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْمُهَاجِرِينَ، أَيْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ لَزَادُوا فِي اجْتِهَادِهِمْ وصبرهم.
وَالَّذِينَ هاجَرُوا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: هُمُ الَّذِينَ صَبَرُوا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ التقدير: أعني الذين صبروا وكلا الوجهين مَدْحٌ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ صَبَرُوا عَلَى الْعَذَابِ وَعَلَى مُفَارَقَةِ الْوَطَنِ الَّذِي هُوَ حَرَمُ اللَّهِ، وَعَلَى الْمُجَاهَدَةِ وَبَذْلِ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدْ ذَكَرَ فِيهِ الصَّبْرَ وَالتَّوَكُّلَ. أَمَّا الصَّبْرُ فَلِلسَّعْيِ فِي قَهْرِ النَّفْسِ، وَأَمَّا التَّوَكُّلُ فَلِلِانْقِطَاعِ بِالْكُلِّيَّةِ مِنَ الْخَلْقِ وَالتَّوَجُّهِ بِالْكُلِّيَّةِ إِلَى الْحَقِّ، فَالْأَوَّلُ: هُوَ مَبْدَأُ السُّلُوكِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَالثَّانِي: آخِرُ هَذَا الطَّرِيقِ وَنِهَايَتُهُ، وَاللَّهُ أعلم.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٤٣ الى ٤٧]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٤٣) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٤٤) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (٤٥) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٤٦) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٤٧)
[فِي قَوْلُهُ تَعَالَى وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ] وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الشُّبْهَةُ الْخَامِسَةُ لِمُنْكِرِي النُّبُوَّةِ كَانُوا يَقُولُونَ: اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ رَسُولُهُ وَاحِدًا مِنَ الْبَشَرِ، بَلْ لَوْ أَرَادَ بِعْثَةَ رَسُولٍ إِلَيْنَا لَكَانَ يَبْعَثُ مَلَكًا، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَقْرِيرَ هَذِهِ الشُّبْهَةِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فلا نعيده هاهنا، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُمْ: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ [الْأَنْعَامِ: ٨] وَقَالُوا: أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا [الْمُؤْمِنُونَ: ٤٧] وَقَالُوا: مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ [الْمُؤْمِنُونَ: ٣٣، ٣٤] وَقَالَ: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ/ مِنْهُمْ [يُونُسَ: ٢] وَقَالُوا: لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً [الْفَرْقَانِ: ٧].
فَأَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ بِقَوْلِهِ: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ وَالْمَعْنَى: أَنَّ عَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَوَّلِ زَمَانِ الْخَلْقِ وَالتَّكْلِيفِ أَنَّهُ لَمْ يَبْعَثْ رَسُولًا إِلَّا مِنَ الْبَشَرِ، فَهَذِهِ الْعَادَةُ مُسْتَمِرَّةٌ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَطَعْنُ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالِ بِهَذَا السُّؤَالِ الرَّكِيكِ أَيْضًا طَعْنٌ قَدِيمٌ فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ.
المسألة الثَّانِيَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مَا أَرْسَلَ أَحَدًا مِنَ النِّسَاءِ، وَدَلَّتْ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ مَا أَرْسَلَ مَلَكًا، لَكِنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا [فَاطِرٍ: ١] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ رُسُلُ اللَّهِ إِلَى سَائِرِ الْمَلَائِكَةِ، فَكَانَ ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ مَا أَرْسَلَ رَسُولًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَى النَّاسِ. قَالَ الْقَاضِي: وَزَعَمَ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ أَنَّهُ لَمْ يَبْعَثْ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ إِلَّا مَنْ هُوَ بِصُورَةِ الرِّجَالِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. ثم قال الْقَاضِي: لَعَلَّهُ أَرَادَ أَنَّ الْمَلَكَ الَّذِي يُرْسَلُ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بِحَضْرَةِ أُمَمِهِمْ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَيْضًا بِصُورَةِ الرِّجَالِ، كَمَا
رُوِيَ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَضَرَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صُورَةِ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ وَفِي صُورَةِ سُرَاقَةَ،
وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَعْلُومَ مِنْ حَالِ الْمَلَائِكَةِ أَنَّ عِنْدَ إِبْلَاغِ الرِّسَالَةِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى الرَّسُولِ قَدْ يَبْقَوْنَ عَلَى صُورَتِهِمُ الْأَصْلِيَّةِ الْمَلَكِيَّةِ،
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا مَرَّتَيْنِ،
وَعَلَيْهِ تَأَوَّلُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى [النَّجْمِ: ١٣]
المسألة الْأُولَى: فِي الْمُرَادِ بِأَهْلِ الذِّكْرِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يُرِيدُ أَهْلَ التَّوْرَاةِ، وَالذِّكْرُ هُوَ التَّوْرَاةُ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ [الْأَنْبِيَاءِ: ١٠٥] يَعْنِي التَّوْرَاةَ. الثَّانِي: قَالَ الزَّجَّاجُ: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الْكُتُبِ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ مَعَانِيَ كُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُمْ يَعْرِفُونَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كُلَّهُمْ بَشَرٌ، وَالثَّالِثُ: أَهْلُ الذِّكْرِ أَهْلُ الْعِلْمِ بِأَخْبَارِ الْمَاضِينَ، إِذِ الْعَالِمُ بِالشَّيْءِ يَكُونُ ذَاكِرًا لَهُ. وَالرَّابِعُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ سَلُوا كُلَّ مَنْ يُذْكَرُ بِعِلْمٍ وَتَحْقِيقٍ. وَأَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الشُّبْهَةَ وَهِيَ قَوْلُهُمْ: اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ رَسُولُهُ وَاحِدًا مِنَ الْبَشَرِ إِنَّمَا تَمَسَّكَ بِهَا كُفَّارُ مَكَّةَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ كَانُوا مُقِرِّينَ بِأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَصْحَابُ الْعُلُومِ وَالْكُتُبِ فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ بِأَنْ يَرْجِعُوا فِي هَذِهِ المسألة إِلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لِيُبَيِّنُوا لَهُمْ ضَعْفَ هَذِهِ الشُّبْهَةِ وَسُقُوطَهَا، فَإِنَّ الْيَهُودِيَّ وَالنَّصْرَانِيَّ لَا بُدَّ لَهُمَا مِنْ تَزْيِيفِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ وَبَيَانِ سُقُوطِهَا.
المسألة الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ لِلْمُجْتَهِدِ تَقْلِيدُ الْمُجْتَهِدِ؟ مِنْهُمْ مَنْ حَكَمَ بِالْجَوَازِ/ وَاحْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: لَمَّا لَمْ يَكُنْ أَحَدُ الْمُجْتَهِدِينَ عَالِمًا وَجَبَ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ إِلَى الْمُجْتَهِدِ الْآخَرِ الَّذِي يكون عالما لقوله تعالى: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ فَإِنْ لَمْ يَجِبْ فَلَا أَقَلَّ مِنَ الْجَوَازِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ نُفَاةُ الْقِيَاسِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالُوا: الْمُكَلَّفُ إِذَا نَزَلَتْ بِهِ وَاقِعَةٌ فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِحُكْمِهَا لَمْ يَجُزْ لَهُ الْقِيَاسُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِحُكْمِهَا وَجَبَ عَلَيْهِ سُؤَالُ مَنْ كَانَ عَالِمًا بِهَا لِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَلَوْ كَانَ الْقِيَاسُ حُجَّةً لَمَا وَجَبَ عَلَيْهِ سُؤَالُ الْعَالِمِ لِأَجْلِ أَنَّهُ يُمْكِنُهُ اسْتِنْبَاطُ ذَلِكَ الحكم بِوَاسِطَةِ الْقِيَاسِ، فَثَبَتَ أَنَّ تَجْوِيزَ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ يُوجِبُ تَرْكَ الْعَمَلِ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَجَوَابُهُ: أن ثَبَتَ جَوَازُ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، وَالْإِجْمَاعُ أَقْوَى مِنْ هَذَا الدَّلِيلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثم قال تَعَالَى: بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
المسألة الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي الْجَالِبِ لِهَذِهِ الْبَاءِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّ التَّقْدِيرَ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ إِلَّا رِجَالًا يُوحَى إِلَيْهِمْ، وَأَنْكَرَ الْفَرَّاءُ ذَلِكَ وَقَالَ: إِنَّ صِلَةَ مَا قَبْلَ إِلَّا لَا يَتَأَخَّرُ إِلَى بَعْدُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنَّ الْمُسْتَثْنَى عَنْهُ هُوَ مَجْمُوعُ مَا قَبْلَ إِلَّا مَعَ صِلَتِهِ، فَمَا لَمْ يَصِرْ هَذَا الْمَجْمُوعُ مَذْكُورًا بِتَمَامِهِ امْتَنَعَ إِدْخَالُ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَيْهِ. الثَّانِي: أَنَّ التَّقْدِيرَ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا يُوحَى إِلَيْهِمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَقَوْلُهُ:
بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ مُتَعَلِّقٌ بِالْمُسْتَثْنَى. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْجَالِبَ لِهَذَا الْبَاءِ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ أَرْسَلْنَاهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَهَذَا قَوْلُ الْفَرَّاءِ. قَالَ: وَنَظِيرُهُ مَا مَرَّ إِلَّا أَخُوكَ بِزَيْدٍ مَا مَرَّ إِلَّا أَخُوكَ ثُمَّ يَقُولُ مَرَّ بِزَيْدٍ. الرَّابِعُ: أَنْ يُقَالَ: الذِّكْرُ بِمَعْنَى الْعِلْمِ، وَالتَّقْدِيرُ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ. الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ.
المسألة الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ لَفْظَةٌ جَامِعَةٌ لِكُلِّ مَا تَكَامَلَ بِهِ الرِّسَالَةُ، لِأَنَّ مَدَارَ أَمْرِهَا عَلَى الْمُعْجِزَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ مَنْ يَدَّعِي الرِّسَالَةَ وَهِيَ الْبَيِّنَاتُ وَعَلَى التَّكَالِيفِ الَّتِي يُبَلِّغُهَا الرَّسُولُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى الْعِبَادِ وَهِيَ الزُّبُرُ.
ثم قال تَعَالَى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وفيه مسائل:
وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْقُرْآنَ مِنْهُ مُحْكَمٌ، وَمِنْهُ مُتَشَابِهٌ، وَالْمُحْكَمُ يَجِبُ كَوْنُهُ مُبَيِّنًا فَثَبَتَ أَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ كُلُّهُ مُجْمَلًا بَلْ فِيهِ مَا يَكُونُ مُجْمَلًا فَقَوْلُهُ: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُجْمَلَاتِ.
المسألة الثَّانِيَةُ: ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْمُبَيِّنُ لِكُلِّ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْمُكَلَّفِينَ، فَعِنْدَ هَذَا قَالَ نُفَاةُ الْقِيَاسِ لَوْ كَانَ الْقِيَاسُ حُجَّةً لَمَا وَجَبَ عَلَى الرَّسُولِ بَيَانُ كُلِّ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْمُكَلَّفِينَ مِنَ الْأَحْكَامِ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يُبَيِّنَ الْمُكَلِّفُ ذَلِكَ الحكم بِطَرِيقَةِ الْقِيَاسِ، وَلَمَّا دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْمُبَيِّنَ لِكُلِّ التَّكَالِيفِ وَالْأَحْكَامِ، هُوَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمْنَا أَنَّ الْقِيَاسَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ.
وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ، فَمَنْ رَجَعَ فِي تَبْيِينِ الْأَحْكَامِ وَالتَّكَالِيفِ إِلَى الْقِيَاسِ، كَانَ ذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ رُجُوعًا إِلَى بَيَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ [إلى آخر الآية] الْمَكْرُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ السَّعْيِ بِالْفَسَادِ على سبيل الإخفاء، ولا بد هاهنا مِنْ إِضْمَارٍ، وَالتَّقْدِيرُ: الْمَكَرَاتِ السَّيِّئَاتِ، وَالْمُرَادُ أَهْلُ مَكَّةَ وَمَنْ حَوْلَ الْمَدِينَةِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: الْمُرَادُ بِهَذَا الْمَكْرِ اشْتِغَالُهُمْ بِعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْأَقْرَبُ أَنَّ الْمُرَادَ سَعْيُهُمْ فِي إِيذَاءِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي تَهْدِيدِهِمْ أُمُورًا أَرْبَعَةً: الْأَوَّلَ: أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ كَمَا خَسَفَ بِقَارُونَ. الثَّانِيَ: أَنْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ، وَالْمُرَادُ أَنْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ حَيْثُ يَفْجَؤُهُمْ فَيُهْلِكُهُمْ بَغْتَةً كَمَا فَعَلَ بِقَوْمِ لُوطٍ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ، وَفِي تَفْسِيرِ هَذَا التَّقَلُّبِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَأْخُذُهُمْ بِالْعُقُوبَةِ فِي أَسْفَارِهِمْ، فَإِنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى إِهْلَاكِهِمْ فِي السَّفَرِ كَمَا أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِهْلَاكِهِمْ فِي الْحَضَرِ وَهُمْ لَا يُعْجِزُونَ اللَّهَ بِسَبَبِ ضَرْبِهِمْ فِي الْبِلَادِ الْبَعِيدَةِ بَلْ يُدْرِكُهُمُ اللَّهُ حَيْثُ كَانُوا، وَحَمْلُ لَفْظِ التَّقَلُّبِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ [آلِ عِمْرَانَ: ١٩٦]. وَثَانِيهِمَا: تَفْسِيرُ هَذَا اللَّفْظِ بِأَنَّهُ يَأْخُذُهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِي أَحْوَالِ إِقْبَالِهِمْ وَإِدْبَارِهِمْ وَذَهَابِهِمْ وَمَجِيئِهِمْ وَحَقِيقَتُهُ فِي حَالِ تَصَرُّفِهِمْ فِي الْأُمُورِ الَّتِي يَتَصَرَّفُ فِيهَا أَمْثَالُهُمْ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي حَالِ مَا يَنْقَلِبُونَ فِي قَضَايَا أَفْكَارِهِمْ فَيَحُولُ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ إِتْمَامِ تِلْكَ الْحِيَلِ قَسْرًا كَمَا قَالَ: وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ [يس: ٦٦] وَحَمْلُ لَفْظِ التَّقَلُّبِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ: وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ [التَّوْبَةِ: ٤٨] فَإِنَّهُمْ إِذَا قَلَّبُوهَا فَقَدْ تَقَلَّبُوا فِيهَا.
وَالنوع الرَّابِعُ: مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّهْدِيدِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ وَفِي تَفْسِيرِ التَّخَوُّفِ قَوْلَانِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: التَّخَوُّفُ تَفَعُّلٌ مِنَ الْخَوْفِ، يُقَالُ خِفْتُ الشَّيْءَ وَتَخَوَّفْتُهُ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَأْخُذُهُمْ بِالْعَذَابِ أَوَّلًا بَلْ يُخِيفُهُمْ أَوَّلًا ثُمَّ يُعَذِّبُهُمْ بَعْدَهُ، وَتِلْكَ الْإِخَافَةُ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى يُهْلِكُ فِرْقَةً فَتَخَافُ التي تليها فيكون
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ التَّخَوُّفَ هُوَ التَّنَقُّصُ قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ يُقَالُ: تَخَوَّفْتُ الشَّيْءَ وَتَخَيَّفْتُهُ إِذَا تَنَقَّصْتَهُ، وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ عَلَى الْمِنْبَرِ: مَا تَقُولُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ؟ فَسَكَتُوا فَقَامَ شَيْخٌ مِنْ هُذَيْلٍ فَقَالَ: هَذِهِ لُغَتُنَا التَّخَوُّفُ التَّنَقُّصُ، فَقَالَ عُمَرُ: هَلْ تَعْرِفُ الْعَرَبُ ذَلِكَ فِي أَشْعَارِهَا؟ قَالَ نَعَمْ: قَالَ شَاعِرُنَا وَأَنْشَدَ:
تَخَوَّفَ الرَّحْلُ مِنْهَا تَامِكًا قَرِدًا | كَمَا تَخَوَّفَ عُودَ النَّبْعَةِ السَّفَنُ |
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: هَذَا التَّنَقُّصُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ مَا يَقَعُ فِي أَطْرَافِ بِلَادِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها [الْأَنْبِيَاءِ: ٤٤] وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُعَاجِلُهُمْ بِالْعَذَابِ وَلَكِنْ يَنْقُصُ مِنْ أَطْرَافِ بِلَادِهِمْ إِلَى الْقُرَى الَّتِي تُجَاوِرُهُمْ حَتَّى يَخْلُصَ الْأَمْرُ إِلَيْهِمْ فَحِينَئِذٍ يُهْلِكُهُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يَنْقُصُ أَمْوَالَهُمْ وَأَنْفُسَهُمْ قَلِيلًا قَلِيلًا حَتَّى يَأْتِيَ الْفَنَاءُ عَلَى الْكُلِّ فَهَذَا تَفْسِيرُ هذا الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ تَعَالَى خَوَّفَهُمْ بِخَسْفٍ يَحْصُلُ فِي الْأَرْضِ أَوْ بِعَذَابٍ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ أَوْ بِآفَاتٍ تَحْدُثُ دَفْعَةً وَاحِدَةً حَالَ مَا لَا يَكُونُونَ عَالِمِينَ بِعَلَامَاتِهَا وَدَلَائِلِهَا، أَوْ بِآفَاتٍ تَحْدُثُ قَلِيلًا قَلِيلًا إِلَى أَنْ يَأْتِيَ الْهَلَاكُ عَلَى آخِرِهِمْ ثُمَّ خَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ والمعنى أنه يمهل في أكثر الأمر لأنه رؤوف رحيم فلا يعاجل بالعذاب.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٤٨ الى ٥٠]
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (٤٨) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (٥٠)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى مَا خَلَقَ اللَّهُ إلى قوله وَهُمْ داخِرُونَ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَوَّفَ الْمُشْرِكِينَ بِالْأَنْوَاعِ الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ مِنَ الْعَذَابِ أَرْدَفَهُ بِذِكْرِ مَا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ فِي تَدْبِيرِ أَحْوَالِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ وَتَدْبِيرِ أَحْوَالِ الْأَرْوَاحِ وَالْأَجْسَامِ، لِيُظْهِرَ لَهُمْ أَنَّ مَعَ كَمَالِ هَذِهِ الْقُدْرَةِ الْقَاهِرَةِ، وَالْقُوَّةِ الْغَيْرِ الْمُتَنَاهِيَةِ لَا يَعْجِزُ عَنْ إِيصَالِ الْعَذَابِ إِلَيْهِمْ عَلَى أَحَدِ تِلْكَ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ.
المسألة الثَّانِيَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: أَوَلَمْ تَرَوْا بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ، وَكَذَلِكَ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ:
أَوَلَمْ تروا كيف يبدي اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [الْعَنْكَبُوتِ: ١٩] بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ، وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ فِيهِمَا كِنَايَةً عَنِ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ، وَأَيْضًا أَنَّ مَا قَبْلَهُ غَيْبَةٌ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ... أَوْ يَأْخُذَهُمْ [النَّحْلِ: ٤٥، ٤٦] فَكَذَا قَوْلُهُ: أَوَلَمْ يَرَوْا وقرأ أبو عمرو وحده: تتفيؤا بِالتَّاءِ وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ، وَكِلَاهُمَا جَائِزٌ لِتَقَدُّمِ الْفِعْلِ عَلَى الْجَمْعِ.
المسألة الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى مَا خَلَقَ اللَّهُ لَمَّا كَانَتِ الرُّؤْيَةُ هاهنا بِمَعْنَى النَّظَرِ وُصِلَتْ بِإِلَى، لِأَنَّ
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِذَا عُدِّيَ فَاءَ فَإِنَّهُ يُعَدَّى إِمَّا بِزِيَادَةِ الْهَمْزَةِ أَوْ بِتَضْعِيفِ الْعَيْنِ. أَمَّا التَّعْدِيَةُ بزيادة الهمزة فكقوله: ما أَفاءَ اللَّهُ وَأَمَّا بِتَضْعِيفِ الْعَيْنِ فَكَقَوْلِهِ فَيَّأَ اللَّهُ الظِّلَّ فَتَفَيَّأَ وَتَفَيَّأَ مُطَاوِعُ فَيَّأَ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ:
تَفَيُّؤُ الظِّلَالِ رُجُوعُهَا بَعْدَ انْتِصَافِ النَّهَارِ، فَالتَّفَيُّؤُ لَا يكون إلا بالعشي بعد ما انْصَرَفَتْ عَنْهُ الشَّمْسُ وَالظِّلُّ مَا يَكُونُ بِالْغَدَاةِ وَهُوَ مَا لَمْ تَنَلْهُ الشَّمْسُ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
فَلَا الظِّلُّ مِنْ بَرْدِ الضُّحَى تَسْتَطِيعُهُ | وَلَا الْفَيْءُ مِنْ بَرْدِ الْعَشِيِّ تَذُوقُ |
فَسَلَامُ الْإِلَهِ يَغْدُو عَلَيْهِمْ | وَفُيُوءُ الْغُرُوسِ ذَاتُ الظِّلَالِ |
البحث الْأَوَّلُ: فِي الْمُرَادِ بِالْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ قَوْلَانِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ يَمِينَ الْفَلَكِ هُوَ الْمَشْرِقُ وَشِمَالَهُ هُوَ الْمَغْرِبُ، وَالسَّبَبُ فِي تَخْصِيصِ هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ بِهَذَيْنِ الْجَانِبَيْنِ أَنَّ أَقْوَى جَانِبَيِ الْإِنْسَانِ يَمِينُهُ، وَمِنْهُ تَظْهَرُ الْحَرَكَةُ الْقَوِيَّةُ، فَلَمَّا كَانَتِ الْحَرَكَةُ الْفَلَكِيَّةُ الْيَوْمِيَّةُ آخِذَةً مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ، لَا جَرَمَ كَانَ الْمَشْرِقُ يَمِينَ الْفَلَكِ وَالْمَغْرِبُ شِمَالَهُ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ الشَّمْسَ عِنْدَ طُلُوعِهَا إِلَى وَقْتِ انْتِهَائِهَا إِلَى وَسَطِ الْفَلَكِ تَقَعُ الْأَظْلَالُ إِلَى الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، فَإِذَا انْحَدَرَتِ الشَّمْسُ مِنْ وَسَطِ الْفَلَكِ إِلَى الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ وَقَعَ الْأَظْلَالُ فِي الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ تَفَيُّؤِ الظِّلَالِ مِنَ الْيَمِينِ إِلَى الشِّمَالِ وَبِالْعَكْسِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: فَالْأَظْلَالُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ تَبْتَدِئُ من
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْبَلْدَةَ الَّتِي يَكُونُ عَرْضُهَا أَقَلَّ مِنْ مِقْدَارِ الْمِيلِ، فَإِنَّ فِي الصَّيْفِ تَحْصُلُ الشَّمْسُ عَلَى يَسَارِهَا، وَحِينَئِذٍ يَقَعُ الْأَظْلَالُ عَلَى يَمِينِهِمْ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنَ انْتِقَالِ الْأَظْلَالِ عَنِ الْأَيْمَانِ إِلَى الشَّمَائِلِ وَبِالْعَكْسِ. هَذَا مَا حَصَّلْتُهُ فِي هَذَا الْبَابِ، وَكَلَامُ الْمُفَسِّرِينَ فِيهِ غَيْرُ مُلَخَّصٍ.
البحث الثَّانِي: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: مَا السَّبَبُ فِي أَنْ ذَكَرَ الْيَمِينَ بِلَفْظِ الْوَاحِدِ، وَالشَّمَائِلَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ؟
وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ وَحَّدَ الْيَمِينَ وَالْمُرَادُ الْجَمْعُ وَلَكِنَّهُ اقْتَصَرَ فِي اللَّفْظِ عَلَى الْوَاحِدِ/ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [الْقَمَرِ: ٤٥]. وَثَانِيهَا: قَالَ الْفَرَّاءُ: كَأَنَّهُ إِذَا وَحَّدَ ذَهَبَ إِلَى وَاحِدَةٍ مِنْ ذَوَاتِ الْأَظْلَالِ، وَإِذَا جَمَعَ ذَهَبَ إِلَى كُلِّهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ لَفْظُهُ وَاحِدٌ، وَمَعْنَاهُ الْجَمْعُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فَيُحْتَمَلُ كِلَا الْأَمْرَيْنِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْعَرَبَ إِذَا ذَكَرَتْ صِيغَتَيْ جَمْعٍ عَبَّرَتْ عَنْ إِحْدَاهُمَا بِلَفْظِ الْوَاحِدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الْأَنْعَامِ: ١] وَقَوْلِهِ: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ [الْبَقَرَةِ: ٧].
وَرَابِعُهَا: أَنَّا إِذَا فَسَّرْنَا الْيَمِينَ بِالْمَشْرِقِ كَانَتِ النُّقْطَةُ الَّتِي هِيَ مَشْرِقُ الشَّمْسِ وَاحِدَةً بِعَيْنِهَا، فَكَانَتِ الْيَمِينُ وَاحِدَةً. وَأَمَّا الشَّمَائِلُ فَهِيَ عِبَارَةٌ عَنِ الِانْحِرَافَاتِ الْوَاقِعَةِ فِي تِلْكَ الْأَظْلَالِ بَعْدَ وُقُوعِهَا عَلَى الْأَرْضِ وَهِيَ كَثِيرَةٌ، فَلِذَلِكَ عَبَّرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا بِصِيغَةِ الْجَمْعِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
المسألة الرَّابِعَةُ: أما قوله: سُجَّداً لِلَّهِ فَفِيهِ احْتِمَالَاتٌ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ السُّجُودِ الِاسْتِسْلَامَ وَالِانْقِيَادَ يُقَالُ: سَجَدَ الْبَعِيرُ إِذَا طَأْطَأَ رَأْسَهُ لِيُرْكَبَ، وَسَجَدَتِ النَّخْلَةُ إِذَا مَالَتْ لِكَثْرَةِ الْحِمْلِ وَيُقَالُ: اسْجُدْ لِقِرْدِ السُّوءِ فِي زَمَانِهِ، أَيِ اخْضَعْ لَهُ قَالَ الشَّاعِرُ:
تَرَى الْأَكَمَ فِيهَا سُجَّدًا لِلْحَوَافِرِ
أَيْ مُتَوَاضِعَةً إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى دَبَّرَ النَّيِّرَاتِ الْفَلَكِيَّةَ، وَالْأَشْخَاصَ الْكَوْكَبِيَّةَ بِحَيْثُ يَقَعُ أَضْوَاؤُهَا عَلَى هَذَا الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ عَلَى وُجُوهٍ مَخْصُوصَةٍ. ثُمَّ إِنَّا نُشَاهِدُ أَنَّ تِلْكَ الْأَضْوَاءَ، وَتِلْكَ الْأَظْلَالَ لَا تَقَعُ فِي هَذَا الْعَالَمِ إِلَّا عَلَى وَفْقِ تَدْبِيرِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَقْدِيرِهِ، فَنُشَاهِدُ أَنَّ الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ وَقَعَتِ لِلْأَجْسَامِ الْكَثِيفَةِ أَظْلَالٌ مُمْتَدَّةٌ فِي الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ مِنَ الْأَرْضِ، ثُمَّ كُلَّمَا ازْدَادَتِ الشَّمْسُ طُلُوعًا وَارْتِفَاعًا، ازْدَادَتْ تِلْكَ الْأَظْلَالُ تَقَلُّصًا وَانْتِقَاصًا إِلَى الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ إِلَى أَنْ تَصِلَ الشَّمْسُ إِلَى وَسَطِ الْفَلَكِ، فَإِذَا انْحَدَرَتْ إِلَى الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ ابْتَدَأَتِ الْأَظْلَالُ بِالْوُقُوعِ فِي الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ، وَكُلَّمَا ازْدَادَتِ الشَّمْسُ انْحِدَارًا ازْدَادَتِ الْأَظْلَالُ تَمَدُّدًا وَتَزَايُدًا فِي الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ. وَكَمَا أَنَّا نُشَاهِدُ هَذِهِ الْحَالَةَ فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ، فَكَذَلِكَ نُشَاهِدُ أَحْوَالَ الْأَظْلَالِ مُخْتَلِفَةً فِي التَّيَامُنِ وَالتَّيَاسُرِ فِي طُولِ السَّنَةِ، بِسَبَبِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِ الشَّمْسِ فِي الْحَرَكَةِ مِنَ الْجَنُوبِ إِلَى الشَّمَالِ وَبِالْعَكْسِ، فَلَمَّا شَاهَدْنَا أَحْوَالَ هَذِهِ الْأَظْلَالِ مُخْتَلِفَةً بِسَبَبِ الِاخْتِلَافَاتِ الْيَوْمِيَّةِ الْوَاقِعَةِ فِي شَرْقِ الْأَرْضِ وَغَرْبِهَا، وَبِحَسَبِ الِاخْتِلَافَاتِ الْوَاقِعَةِ فِي طُولِ السَّنَةِ فِي يَمِينِ الْفَلَكِ وَيَسَارِهِ، وَرَأَيْنَا أَنَّهَا وَاقِعَةٌ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ وَتَرْتِيبٍ مُعَيَّنٍ، عَلِمْنَا أَنَّهَا مُنْقَادَةٌ لِقُدْرَةِ اللَّهِ خَاضِعَةٌ لِتَقْدِيرِهِ وَتَدْبِيرِهِ، فَكَانَتِ السَّجْدَةُ عِبَارَةً عَنْ هَذِهِ الْحَالَةِ.
قُلْنَا: قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ الْجِسْمَ لَا يَكُونُ مُتَحَرِّكًا لِذَاتِهِ، إِذْ لَوْ كَانَتْ ذَاتُهُ عِلَّةً لِهَذَا الْجُزْءِ الْمَخْصُوصِ مِنَ الْحَرَكَةِ، لَبَقِيَ هَذَا الْجُزْءُ مِنَ الْحَرَكَةِ لِبَقَاءِ ذَاتِهِ، وَلَوْ بَقِيَ ذَلِكَ الْجُزْءُ مِنَ الْحَرَكَةِ لَامْتَنَعَ حُصُولُ الْجُزْءِ الْآخَرِ مِنَ الْحَرَكَةِ، وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَكَانَ هَذَا سكونا لا حركة، فالقول بأن الجسم متحرك لِذَاتِهِ يُوجِبُ الْقَوْلَ بِكَوْنِهِ سَاكِنًا لِذَاتِهِ وَأَنَّهُ مُحَالٌ، وَمَا أَفْضَى ثُبُوتُهُ إِلَى نَفْيِهِ كَانَ بَاطِلًا، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْجِسْمَ يَمْتَنِعُ كَوْنُهُ مُتَحَرِّكًا لِذَاتِهِ، وَأَيْضًا فَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ الْأَجْسَامَ مُتَمَاثِلَةٌ فِي تَمَامِ الْمَاهِيَّةِ، فَاخْتِصَاصُ جِرْمِ الشَّمْسِ بِالْقُوَّةِ الْمُعَيَّنَةِ وَالْخَاصِّيَّةِ الْمُعَيَّنَةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بِتَدْبِيرِ الْخَالِقِ الْمُخْتَارِ الْحَكِيمِ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: هَبْ أَنَّ اخْتِلَافَ أَحْوَالِ الْأَظْلَالِ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ حَرَكَاتِ الشَّمْسِ، إِلَّا أَنَّا لَمَّا دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ مُحَرِّكَ الشَّمْسِ بِالْحَرَكَةِ الْخَاصَّةِ لَيْسَ إِلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ كَانَ هَذَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّ اخْتِلَافَ أَحْوَالِ الْأَظْلَالِ لَمْ يَقَعْ إِلَّا بِتَدْبِيرِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَخْلِيقِهِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا السُّجُودِ الِانْقِيَادُ وَالتَّوَاضُعُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ [الرَّحْمَنِ: ٦] وَقَوْلُهُ: وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ [الرَّعْدِ: ١٥] قَدْ مَرَّ بَيَانُهُ وَشَرْحُهُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ هَذَا السُّجُودِ، أَنَّ هَذِهِ الْأَظْلَالَ وَاقِعَةٌ عَلَى الْأَرْضِ مُلْتَصِقَةٌ بِهَا عَلَى هَيْئَةِ السَّاجِدِ. قَالَ أَبُو الْعَلَاءِ الْمُعَرِّي في صفة واد:
بحرف يُطِيلُ الْجُنْحُ فِيهِ سُجُودَهُ | وَلِلْأَرْضِ زِيُّ الرَّاهِبِ الْمُتَعَبِّدِ |
وَاعْلَمْ أَنَّ الوجه الْأَوَّلَ أَقْرَبُ إِلَى الْحَقَائِقِ الْعَقْلِيَّةِ، وَالثَّانِي أقرب إلى الشبهات الظاهرة.
المسألة الخامسة: وقوله: سُجَّداً حَالٌ مِنَ الظِّلَالِ وَقَوْلُهُ: وَهُمْ داخِرُونَ أَيْ صَاغِرُونَ، يُقَالُ: دَخَرَ يَدْخَرُ دُخُورًا، أَيْ صَغُرَ يَصْغُرُ صَغَارًا، وَهُوَ الَّذِي يَفْعَلُ مَا تَأْمُرُهُ شَاءَ أَمْ أَبَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مُنْقَادَةٌ لِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَدْبِيرِهِ وَقَوْلُهُ: وَهُمْ داخِرُونَ حَالٌ أَيْضًا مِنَ الظِّلَالِ.
فَإِنْ قِيلَ: الظِّلَالُ لَيْسَتْ مِنَ الْعُقَلَاءِ فَكَيْفَ جَازَ جَمْعُهَا بِالْوَاوِ وَالنُّونِ؟
قُلْنَا: لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَهُمْ بِالطَّاعَةِ وَالدُّخُورِ أَشْبَهُوا الْعُقَلَاءَ.
أما قوله تَعَالَى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ السُّجُودَ عَلَى نَوْعَيْنِ: سُجُودٌ هُوَ عِبَادَةٌ كَسُجُودِ الْمُسْلِمِينَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَسُجُودٌ هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الِانْقِيَادِ لِلَّهِ تَعَالَى وَالْخُضُوعِ، وَيَرْجِعُ حَاصِلُ هَذَا السُّجُودِ إِلَى أَنَّهَا/ فِي نَفْسِهَا مُمْكِنَةُ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ قَابِلَةٌ لَهُمَا، وَأَنَّهُ لَا يَتَرَجَّحَ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ عَلَى الْآخَرِ إِلَّا لِمُرَجِّحٍ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِالسُّجُودِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ السُّجُودُ بِالْمَعْنَى الثَّانِي
المسألة الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: مِنْ دابَّةٍ قَالَ الْأَخْفَشُ: يُرِيدُ مِنَ الدَّوَابِّ وَأَخْبَرَ بِالْوَاحِدِ كَمَا تَقُولُ مَا أَتَانِي مِنْ رَجُلٍ مِثْلُهُ، وَمَا أَتَانِي مِنَ الرِّجَالِ مِثْلُهُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ كُلَّ مَا دَبَّ عَلَى الْأَرْضِ.
المسألة الثَّالِثَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: مَا الوجه فِي تَخْصِيصِ الدَّوَابِّ وَالْمَلَائِكَةِ بِالذِّكْرِ؟ فَنَقُولُ فِيهِ وُجُوهٌ:
الوجه الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي آيَةِ الظِّلَالِ أَنَّ الْجَمَادَاتِ بِأَسْرِهَا مُنْقَادَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَبَيَّنَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْحَيَوَانَاتِ بِأَسْرِهَا مُنْقَادَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ أَخَسَّهَا الدَّوَابُّ وَأَشْرَفَهَا الْمَلَائِكَةُ، فَلَمَّا بَيَّنَ فِي أَخَسِّهَا وَفِي أَشْرَفِهَا كَوْنَهَا مُنْقَادَةً لِلَّهِ تَعَالَى كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهَا بِأَسْرِهَا مُنْقَادَةٌ خَاضِعَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى.
وَالوجه الثَّانِي: قَالَ حُكَمَاءُ الْإِسْلَامِ: الدَّابَّةُ اشْتِقَاقُهَا مِنَ الدَّبِيبِ، وَالدَّبِيبُ عِبَارَةٌ عَنِ الْحَرَكَةِ الْجُسْمَانِيَّةِ، فَالدَّابَّةُ اسْمٌ لِكُلِّ حَيَوَانٍ جُسْمَانِيٍّ يَتَحَرَّكُ وَيَدِبُّ، فَلَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَلَائِكَةَ عَنِ الدَّابَّةِ عَلِمْنَا أَنَّهَا لَيْسَتْ مِمَّا يَدِبُّ، بَلْ هِيَ أَرْوَاحٌ مَحْضَةٌ مُجَرَّدَةٌ، وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الْجَنَاحَ لِلطَّيَرَانِ مُغَايِرٌ لِلدَّبِيبِ بِدَلِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الْأَنْعَامِ: ٣٨] وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
أما قوله تَعَالَى: وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ شَرْحُ صِفَاتِ الْمَلَائِكَةِ وَهِيَ دَلَالَةٌ قَاهِرَةٌ قَاطِعَةٌ عَلَى عِصْمَةِ الْمَلَائِكَةِ عَنْ جَمِيعِ الذُّنُوبِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ مُنْقَادُونَ لِصَانِعِهِمْ وَخَالِقِهِمْ وَأَنَّهُمْ مَا خَالَفُوهُ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ [مَرْيَمَ: ٦٤] وَقَوْلُهُ: لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: ٢٧] وأما قوله: وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ فَهَذَا أَيْضًا/ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ فَعَلُوا كُلَّ مَا كَانُوا مَأْمُورِينَ بِهِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى عِصْمَتِهِمْ عَنْ كُلِّ الذُّنُوبِ.
فَإِنْ قَالُوا: هَبْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ فَعَلُوا كُلَّ مَا أُمِرُوا بِهِ فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ تَرَكُوا كُلَّ مَا نُهُوا عَنْهُ؟
قُلْنَا: لِأَنَّ كل ما نُهِيَ عَنْ شَيْءٍ فَقَدْ أُمِرَ بِتَرْكِهِ، وَحِينَئِذٍ يَدْخُلُ فِي اللَّفْظِ، وَإِذَا ثَبَتَ بِهَذِهِ الْآيَةِ كَوْنُ الْمَلَائِكَةِ مَعْصُومِينَ مِنْ كُلِّ الذُّنُوبِ، وَثَبَتَ أَنَّ إِبْلِيسَ مَا كَانَ مَعْصُومًا مِنَ الذُّنُوبِ بَلْ كَانَ كَافِرًا، لَزِمَ الْقَطْعُ بِأَنَّ إِبْلِيسَ مَا كَانَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ.
وَالوجه الثَّانِي: فِي بَيَانِ هَذَا الْمَقْصُودِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي صِفَةِ الْمَلَائِكَةِ: وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ثم قال لإبليس: أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ [ص: ٧٥] وَقَالَ أَيْضًا لَهُ: فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها [الْأَعْرَافِ: ١٣] فَثَبَتَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ وَثَبَتَ أَنَّ إِبْلِيسَ تَكَبَّرَ وَاسْتَكْبَرَ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مِنَ
وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى مُنْذِرُهُمْ مِنَ الْعِقَابِ فَقَالَ: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ [الْأَنْبِيَاءِ: ٢٩] وَهُمْ لِهَذَا الْخَوْفِ يَتْرُكُونَ الذَّنْبَ. وَالثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّ ذَلِكَ الْخَوْفَ خَوْفُ الْإِجْلَالِ هَكَذَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّتِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فَاطِرٍ: ٢٨] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كُلَّمَا كَانَتْ مَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى أَتَمَّ، كَانَ الْخَوْفُ مِنْهُ أَعْظَمَ، وَهَذَا الْخَوْفُ لَا يَكُونُ إِلَّا خَوْفَ الْإِجْلَالِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
المسألة الثَّانِيَةُ: قَالَتِ الْمُشَبِّهَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِلَهَ تَعَالَى فَوْقَهُمْ بِالذَّاتِ.
وَاعْلَمْ أَنَّا بَالَغْنَا فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ [الأنعام: ١٨] والذي نزيده هاهنا أَنَّ قَوْلَهُ: يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ مَعْنَاهُ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ أَنْ يُنْزِلَ عَلَيْهِمُ الْعَذَابَ مِنْ فَوْقِهِمْ، وَإِذَا كَانَ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لِهَذَا الْمَعْنَى سَقَطَ قَوْلُهُمْ، وَأَيْضًا يَجِبُ حَمْلُ هَذِهِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْفَوْقِيَّةِ بِالْقُدْرَةِ وَالْقَهْرِ كَقَوْلِهِ: وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ [الْأَعْرَافِ: ١٢٧] وَالَّذِي يُقَوِّي هَذَا الوجه أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُقْتَضَى لِهَذَا الْخَوْفِ هُوَ كَوْنُ رَبِّهِمْ فَوْقَهُمْ لِمَا ثَبَتَ/ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْحُكْمَ الْمُرَتَّبَ عَلَى الْوَصْفِ يُشْعِرُ بِكَوْنِ الْحُكْمِ مُعَلَّلًا بِذَلِكَ الْوَصْفِ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: هَذَا التَّعْطِيلُ إِنَّمَا يَصِحُّ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْفَوْقِيَّةِ الْفَوْقِيَّةَ بِالْقَهْرِ وَالْقُدْرَةِ لِأَنَّهَا هِيَ الْمُوجِبَةُ لِلْخَوْفِ، أَمَّا الْفَوْقِيَّةُ بِالْجِهَةِ وَالْمَكَانِ فَهِيَ لَا تُوجِبُ الْخَوْفَ بِدَلِيلِ أَنَّ حَارِسَ الْبَيْتِ فَوْقَ الْمَلِكِ بِالْمَكَانِ وَالْجِهَةِ مَعَ أَنَّهُ أَخَسُّ عَبِيدِهِ فَسَقَطَتْ هَذِهِ الشُّبْهَةُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ مُكَلَّفُونَ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ مُتَوَجِّهٌ عَلَيْهِمْ كَسَائِرِ الْمُكَلَّفِينَ، وَمَتَى كَانُوا كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونُوا قَادِرِينَ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ.
المسألة الرَّابِعَةُ: تَمَسَّكَ قَوْمٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي بَيَانِ أَنَّ الْمَلَكَ أَفْضَلُ مِنَ الْبَشَرِ مِنْ وُجُوهٍ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَذَكَرْنَا أَنَّ تَخْصِيصَ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ بِالذِّكْرِ إِنَّمَا يَحْسُنُ إِذَا كَانَ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ أَخَسَّ الْمَرَاتِبِ وَكَانَ الطَّرَفُ الثَّانِي أَشْرَفَهَا حَتَّى يَكُونَ ذِكْرُ هَذَيْنِ الطَّرَفَيْنِ مُنَبِّهًا عَلَى الْبَاقِي، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمَلَائِكَةُ أَشْرَفَ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى.
الوجه الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ تَكَبُّرٌ وَتَرَفُّعٌ وَقَوْلُهُ:
وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَعْمَالَهُمْ خَالِيَةٌ عَنِ الذَّنْبِ وَالْمَعْصِيَةِ، فَمَجْمُوعُ هَذَيْنِ الْكَلَامَيْنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَوَاطِنَهُمْ وَظَوَاهِرَهُمْ مُبَرَّأَةٌ عَنِ الْأَخْلَاقِ الْفَاسِدَةِ وَالْأَفْعَالِ الْبَاطِلَةِ، وَأَمَّا الْبَشَرُ فَلَيْسُوا كَذَلِكَ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ
فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَا مِنَّا إِلَّا وَقَدْ عَصَى أَوْ هَمَّ بِالْمَعْصِيَةِ غَيْرَ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا»
وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْمُبَرَّأَ عَنِ الْمَعْصِيَةِ وَالْهَمِّ بِهَا أَفْضَلُ مِمَّنْ عَصَى أَوْ هَمَّ بِهَا.
الوجه الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْمَلَائِكَةَ قَبْلَ الْبَشَرِ بِأَدْوَارٍ مُتَطَاوِلَةٍ وَأَزْمَانٍ مُمْتَدَّةٍ، ثُمَّ إِنَّهُ وَصَفَهُمْ بِالطَّاعَةِ وَالْخُضُوعِ وَالْخُشُوعِ طُولَ هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَطُولُ الْعُمُرِ مَعَ الطَّاعَةِ يُوجِبُ مَزِيدَ الْفَضِيلَةِ لِوَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ:
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الشَّيْخُ فِي قَوْمِهِ كَالنَّبِيِّ فِي أُمَّتِهِ»
فَضَّلَ الشَّيْخَ عَلَى الشَّابِّ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ عُمُرُهُ أَطْوَلَ فَالظَّاهِرُ أَنَّ طَاعَتَهُ أَكْثَرُ فَكَانَ أَفْضَلَ. وَالثَّانِي:
أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
فَلَمَّا كَانَ شُرُوعُ الْمَلَائِكَةِ فِي الطَّاعَاتِ قَبْلَ شُرُوعِ الْبَشَرِ فِيهَا لَزِمَ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ سَنُّوا هَذِهِ السُّنَّةَ الْحَسَنَةَ، وَهِيَ طَاعَةُ الْخَالِقِ الْقَدِيمِ الرَّحِيمِ، وَالْبَشَرُ إِنَّمَا جَاءُوا بَعْدَهُمْ وَاسْتَنُّوا سُنَّتَهُمْ، فَوَجَبَ بِمُقْتَضَى هَذَا الْخَبَرِ أَنَّ كُلَّ مَا حَصَلَ لِلْبَشَرِ مِنَ الثَّوَابِ فَقَدْ حَصَلَ مِثْلُهُ لِلْمَلَائِكَةِ وَلَهُمْ ثَوَابُ الْقَدْرِ الزَّائِدِ مِنَ الطَّاعَةِ فَوَجَبَ كَوْنُهُمْ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِمْ.
الوجه الرَّابِعُ: فِي دَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ: يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَقَدْ بَيَّنَّا بِالدَّلِيلِ أَنَّ هَذِهِ الْفَوْقِيَّةَ عِبَارَةٌ عَنِ الْفَوْقِيَّةِ بِالرُّتْبَةِ وَالشَّرَفِ وَالْقُدْرَةِ وَالْقُوَّةِ، فَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا شَيْءَ فَوْقَهُمْ فِي الشَّرَفِ وَالرُّتْبَةِ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كونهم أفضل المخلوقات والله أعلم.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٥١ الى ٥٥]
وَقالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٥١) وَلَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (٥٢) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (٥٣) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٥٤) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٥٥)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ عَالَمِ الْأَرْوَاحِ أَوْ مِنْ عَالَمِ الْأَجْسَامِ، فَهُوَ مُنْقَادٌ خَاضِعٌ لِجَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَكِبْرِيَائِهِ، أَتْبَعَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالنَّهْيِ عَنِ الشِّرْكِ وَبِالْأَمْرِ بِأَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ فَهُوَ مُلْكُهُ وَمِلْكُهُ وَأَنَّهُ غَنِيٌّ عَنِ الْكُلِّ فَقَالَ: لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ الْإِلَهَيْنِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَا اثْنَيْنِ، فَمَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ: إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ.
وَجَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: قَالَ صَاحِبُ «النَّظْمِ» : فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالتَّقْدِيرُ: لَا تَتَّخِذُوا اثْنَيْنِ إِلَهَيْنِ.
وَثَانِيهَا: وَهُوَ الْأَقْرَبُ عِنْدِي أَنَّ الشَّيْءَ إِذَا كَانَ مُسْتَنْكَرًا مُسْتَقْبَحًا، فَمَنْ أَرَادَ الْمُبَالَغَةَ فِي التَّنْفِيرِ عَنْهُ عَبَّرَ عَنْهُ بِعِبَارَاتٍ كَثِيرَةٍ لِيَصِيرَ تَوَالِي تِلْكَ الْعِبَارَاتِ سَبَبًا لِوُقُوفِ الْعَقْلِ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الْقُبْحِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَالْقَوْلُ بِوُجُودِ الْإِلَهَيْنِ قَوْلٌ مُسْتَقْبَحٌ فِي الْعُقُولِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى فَإِنَّ أَحَدًا مِنَ الْعُقَلَاءِ لَمْ يَقُلْ بِوُجُودِ إِلَهَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ فِي الْوُجُوبِ وَالْقِدَمِ وَصِفَاتِ الْكَمَالِ، فَقَوْلُهُ: لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ الْمَقْصُودُ
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ قَالَ: إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَمَّا دَلَّتِ الدَّلَائِلُ السَّابِقَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْعَالَمِ مِنَ الْإِلَهِ، وَثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ بِوُجُودِ الْإِلَهَيْنِ مُحَالٌ، ثَبَتَ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الْوَاحِدُ الْأَحَدُ الْحَقُّ الصَّمَدُ.
ثم قال بَعْدَهُ: فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ وَهَذَا رُجُوعٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْحُضُورِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ/ أَنَّ الْإِلَهَ وَاحِدٌ وَثَبَتَ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِهَذَا الْكَلَامِ إِلَهٌ، فَحِينَئِذٍ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا إِلَهَ لِلْعَالَمِ إِلَّا الْمُتَكَلِّمُ بِهَذَا الْكَلَامِ، فَحِينَئِذٍ يَحْسُنُ مِنْهُ أَنْ يَعْدِلَ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْحُضُورِ، وَيَقُولُ: فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ وَفِيهِ دَقِيقَةٌ أُخْرَى وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ يُفِيدُ الْحَصْرَ، وَهُوَ أَنْ لَا يَرْهَبَ الْخَلْقُ إِلَّا مِنْهُ، وَأَنْ لَا يَرْغَبُوا إِلَّا فِي فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ إِمَّا قَدِيمٌ وَإِمَّا مُحْدَثٌ، أَمَّا الْقَدِيمُ الَّذِي هُوَ الْإِلَهُ فَهُوَ وَاحِدٌ، وَأَمَّا مَا سِوَاهُ فَمُحْدَثٌ، وَإِنَّمَا حَدُثَ بِتَخْلِيقِ ذَلِكَ الْقَدِيمِ وَبِإِيجَادِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا رَغْبَةَ إِلَّا إِلَيْهِ وَلَا رَهْبَةَ إِلَّا مِنْهُ، فَبِفَضْلِهِ تَنْدَفِعُ الْحَاجَاتُ وَبِتَكْوِينِهِ وَبِتَخْلِيقِهِ تَنْقَطِعُ الضَّرُورَاتُ.
ثم قال بَعْدَهُ: وَلَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهَذَا حَقٌّ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْإِلَهُ وَاحِدًا، وَالْوَاجِبُ لِذَاتِهِ وَاحِدًا، كَانَ كُلُّ مَا سِوَاهُ حَاصِلًا بِتَخْلِيقِهِ وَتَكْوِينِهِ وَإِيجَادِهِ، فَثَبَتَ بِهَذَا الْبُرْهَانِ صِحَّةُ قَوْلِهِ: وَلَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مِنْ جُمْلَةِ ما في السموات وَالْأَرْضِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ أَفْعَالُ الْعِبَادِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ كَوْنِهَا لِلَّهِ تَعَالَى أنها
ثم قال بَعْدَهُ: وَلَهُ الدِّينُ واصِباً الدين هاهنا الطَّاعَةُ، وَالْوَاصِبُ الدَّائِمُ. يُقَالُ: وَصَبَ الشَّيْءُ يَصِبُ وُصُوبًا إِذَا دَامَ، قَالَ تَعَالَى: وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ [الصَّافَّاتِ: ٩] وَيُقَالُ: وَاظَبَ عَلَى الشَّيْءِ وَوَاصَبَ عَلَيْهِ إِذَا دَاوَمَ، وَمَفَازَةٌ وَاصِبَةٌ أَيْ بَعِيدَةٌ لَا غَايَةَ لَهَا. وَيُقَالُ لِلْعَلِيلِ وَاصِبٌ، لِيَكُونَ ذَلِكَ الْمَرَضُ لَازِمًا لَهُ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ:
لَيْسَ مِنْ أَحَدٍ يُدَانُ لَهُ وَيُطَاعُ، إِلَّا انْقَطَعَ ذَلِكَ بِسَبَبٍ فِي حَالِ الْحَيَاةِ أَوْ بِالْمَوْتِ إِلَّا الْحَقُّ سُبْحَانَهُ، فَإِنَّ طَاعَتَهُ وَاجِبَةٌ أَبَدًا.
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: واصِباً حَالٌ، وَالْعَامِلُ فِيهِ مَا فِي الظَّرْفِ مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ. وَأَقُولُ: الدِّينُ قَدْ يَعْنِي بِهِ الِانْقِيَادُ. يُقَالُ: يَا مَنْ دَانَتْ لَهُ الرِّقَابُ أَيِ انْقَادَتْ. فَقَوْلُهُ: وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَيِ انْقِيَادُ كُلِّ مَا سِوَاهُ لَهُ لَازِمٌ أَبَدًا، لِأَنَّ انْقِيَادَ غَيْرِهِ لَهُ مُعَلَّلٌ بِأَنَّ غَيْرَهُ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، وَالْمُمْكِنُ لِذَاتِهِ يَلْزَمُهُ أَنْ يَكُونَ مُحْتَاجًا إِلَى السَّبَبِ فِي طَرَفَيِ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ وَالْمَاهِيَّاتُ يَلْزَمُهَا الْإِمْكَانُ لُزُومًا ذَاتِيًّا، وَالْإِمْكَانُ يَلْزَمُهُ الِاحْتِيَاجُ إِلَى الْمُؤَثِّرِ لُزُومًا ذَاتِيًّا، يَنْتِجُ أَنَّ الْمَاهِيَّاتِ يَلْزَمُهَا الِاحْتِيَاجُ إِلَى الْمُؤَثِّرِ لُزُومًا ذَاتِيًّا فَهَذِهِ الْمَاهِيَّاتُ مَوْصُوفَةٌ بِالِانْقِيَادِ لِلَّهِ تَعَالَى اتِّصَافًا دَائِمًا وَاجِبًا لَازِمًا مُمْتَنِعَ التَّغَيُّرِ. وَأَقُولُ: فِي الْآيَةِ دَقِيقَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ الْعُقَلَاءَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُمْكِنَ حَالَ حُدُوثِهِ مُحْتَاجٌ إِلَى السَّبَبِ الْمُرَجِّحِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُمْكِنِ حَالَ بَقَائِهِ هَلْ هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى السَّبَبِ؟ قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: إِنَّهُ مُحْتَاجٌ لِأَنَّ عِلَّةَ الْحَاجَةِ هِيَ/ الْإِمْكَانُ وَالْإِمْكَانُ مِنْ لَوَازِمِ الْمَاهِيَّةِ فَيَكُونُ حَاصِلًا لِلْمَاهِيَّةِ حَالَ حُدُوثِهَا وَحَالَ بَقَائِهَا فَتَكُونُ عِلَّةَ الْحَاجَةِ حَالَ حُدُوثِ الْمُمْكِنِ وَحَالَ بَقَائِهِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْحَاجَةُ حَاصِلَةً حَالَ حُدُوثِهَا وَحَالَ بَقَائِهَا.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَقَوْلُهُ: وَلَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَعْنَاهُ: أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى الْحَقِّ فَإِنَّهُ مُحْتَاجٌ فِي انْقِلَابِهِ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ أَوْ مِنَ الْوُجُودِ إِلَى الْعَدَمِ إِلَى مُرَجِّحٍ وَمُخَصِّصٍ، وَقَوْلُهُ: وَلَهُ الدِّينُ واصِباً مَعْنَاهُ أَنَّ هَذَا الِانْقِيَادَ وَهَذَا الِاحْتِيَاجَ حَاصِلٌ دَائِمًا أَبَدًا، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمُمْكِنَ حَالَ بَقَائِهِ لَا يَسْتَغْنِي عَنِ الْمُرَجِّحِ وَالْمُخَصِّصِ، وَهَذِهِ دَقَائِقُ مِنْ أَسْرَارِ الْعُلُومِ الْإِلَهِيَّةِ مُودَعَةٌ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْفَائِضَةِ مِنْ عَالَمِ الْوَحْيِ وَالنُّبُوَّةِ.
ثم قال تَعَالَى: أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ والمعنى: أنكم بعد ما عَرَفْتُمْ أَنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ وَاحِدٌ وَعَرَفْتُمْ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ فِي وَقْتِ حُدُوثِهِ، وَمُحْتَاجٌ إِلَيْهِ أَيْضًا فِي وَقْتِ دَوَامِهِ وَبَقَائِهِ، فَبَعْدَ الْعِلْمِ بِهَذِهِ الْأُصُولِ كَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ لِلْإِنْسَانِ رَغْبَةٌ فِي غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ رَهْبَةٌ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى؟ فَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ عَلَى سَبِيلِ التَّعَجُّبِ:
أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ.
ثم قال: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: أنه لما بين بالآية الأولى أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ لَا يَتَّقِيَ غَيْرَ اللَّهِ، بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَشْكُرَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ تَعَالَى، لِأَنَّ الشُّكْرَ إِنَّمَا يَلْزَمُ عَلَى النِّعْمَةِ، وَكُلُّ نِعْمَةٍ حَصَلَتْ لِلْإِنْسَانِ فَهِيَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ الْعَاقِلَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَخَافَ وَأَنْ لَا يَتَّقِيَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَأَنْ لَا يَشْكُرَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ تَعَالَى.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: وَكُلُّ نِعْمَةٍ فَهِيَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ تُفِيدُ الْعُمُومَ، وَأَيْضًا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ نِعْمَةٍ فَهِيَ مِنَ اللَّهِ، لِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مَوْجُودًا فَهُوَ إِمَّا وَاجِبٌ لِذَاتِهِ، وَإِمَّا مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، وَالْوَاجِبُ لِذَاتِهِ لَيْسَ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَالْمُمْكِنُ لِذَاتِهِ لَا يُوجَدُ إِلَّا لِمُرَجِّحٍ، وَذَلِكَ الْمُرَجِّحُ إِنْ كَانَ وَاجِبًا لِذَاتِهِ كَانَ حُصُولُ ذَلِكَ الْمُمْكِنِ بِإِيجَادِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا لِذَاتِهِ عَادَ التَّقْسِيمُ الْأَوَّلُ فِيهِ، وَلَا يَذْهَبُ إِلَى التَّسَلْسُلِ، بَلْ يَنْتَهِي إِلَى إِيجَادِ الْوَاجِبِ لذته، فَثَبَتَ بِهَذَا الْبَيَانِ أَنَّ كُلَّ نِعْمَةٍ فَهِيَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.
المسألة الثَّالِثَةُ: النِّعَمُ إِمَّا دِينِيَّةٌ وَإِمَّا دُنْيَوِيَّةٌ، أَمَّا النِّعَمُ الدِّينِيَّةُ فَهِيَ إِمَّا مَعْرِفَةُ الْحَقِّ لِذَاتِهِ وَإِمَّا مَعْرِفَةُ الْخَيْرِ لِأَجْلِ الْعَمَلِ بِهِ، وَأَمَّا النِّعَمُ الدُّنْيَوِيَّةُ فَهِيَ إِمَّا نَفْسَانِيَّةٌ، وَإِمَّا بَدَنِيَّةٌ وَإِمَّا خَارِجِيَّةٌ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ جِنْسٌ تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ خَارِجَةٌ عَنِ الْحَصْرِ وَالتَّحْدِيدِ كَمَا قَالَ: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها [إِبْرَاهِيمَ: ٣٤] وَالْإِشَارَةُ إِلَى تَفْصِيلِ تِلْكَ الْأَنْوَاعِ قَدْ ذَكَرْنَاهَا مِرَارًا فَلَا نُعِيدُهَا.
المسألة الرَّابِعَةُ: إِنَّمَا دَخَلَتِ الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَمِنَ اللَّهِ لِأَنَّ الْبَاءَ فِي قَوْلِهِ: بِكُمْ مُتَّصِلَةٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، وَالْمَعْنَى: مَا يَكُنْ بِكُمْ أَوْ مَا حَلَّ بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ.
ثم قال تَعَالَى: ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ الأسقام والأمراض والحاجة: فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ أَيْ تَرْفَعُونَ أَصْوَاتَكُمْ بِالِاسْتِغَاثَةِ، وَتَتَضَرَّعُونَ إِلَيْهِ بِالدُّعَاءِ يُقَالُ: جَأَرَ يَجْأَرُ جُؤَارًا وَهُوَ الصَّوْتُ الشَّدِيدُ كَصَوْتِ الْبَقَرَةِ، وَقَالَ الْأَعْشَى يَصِفُ رَاهِبًا:
يُرَاوِحُ من صلوات المليك | طَوْرًا سُجُودًا وَطَوْرًا جُؤَارًا |
ثم قال تَعَالَى: لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَفِي هَذِهِ اللَّامِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا لَامُ كَيْ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ غَيْرَهُ فِي كَشْفِ ذَلِكَ الضُّرِّ عَنْهُمْ. وَغَرَضُهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْإِشْرَاكِ أَنْ يُنْكِرُوا كَوْنَ ذَلِكَ الْإِنْعَامِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، أَلَا
فِي الْيَوْمِ الَّذِي كُنْتُ أَكْتُبُ هَذِهِ الْأَوْرَاقَ وَهُوَ الْيَوْمُ الْأَوَّلُ مِنْ مُحَرَّمٍ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّمِائَةٍ حَصَلَتْ زَلْزَلَةٌ شَدِيدَةٌ، وَهَدَّةٌ عَظِيمَةٌ وَقْتَ الصُّبْحِ/ وَرَأَيْتُ النَّاسَ يَصِيحُونَ بِالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ، فَلَمَّا سَكَتَتْ وَطَابَ الْهَوَاءُ، وَحَسُنَ أَنْوَاعُ الْوَقْتِ نَسُوا فِي الْحَالِ تِلْكَ الزَّلْزَلَةَ وَعَادُوا إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ السَّفَاهَةِ والجهالة، وكانت هَذِهِ الْحَالَةَ الَّتِي شَرَحَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَجْرِي مَجْرَى الصِّفَةِ اللَّازِمَةِ لِجَوْهَرِ نَفْسِ الْإِنْسَانِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ اللَّامَ لَامِ الْعَاقِبَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [الْقَصَصِ: ٨] يَعْنِي أَنَّ عَاقِبَةَ تِلْكَ التَّضَرُّعَاتِ مَا كَانَتْ إِلَّا هَذَا الْكُفْرَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: بِما آتَيْناهُمْ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ كَشْفِ الضُّرِّ وَإِزَالَةِ الْمَكْرُوهِ.
وَالثَّانِي: قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ بِهِ الْقُرْآنُ وَمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالشَّرَائِعِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى تَوَعَّدَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ: فَتَمَتَّعُوا وَهَذَا لَفْظُ أَمْرٍ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّهْدِيدُ، كَقَوْلِهِ: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الْكَهْفِ: ٢٩] وَقَوْلِهِ: قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا [الْإِسْرَاءِ: ١٠٧].
ثم قال تَعَالَى: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ أَيْ عَاقِبَةَ أَمْرِكُمْ وَمَا يَنْزِلُ بِكُمْ مِنَ الْعَذَابِ والله أعلم.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٥٦ الى ٦٠]
وَيَجْعَلُونَ لِما لَا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (٥٦) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (٥٧) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٥٩) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٠)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَيَجْعَلُونَ لِما لَا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ إلى قوله وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ بِالدَّلَائِلِ الْقَاهِرَةِ فَسَادَ أَقْوَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَالتَّشْبِيهِ، شَرَحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَفَاصِيلَ أَقْوَالِهِمْ وَبَيَّنَ فَسَادَهَا وَسَخَافَتَهَا.
فَالنوع الْأَوَّلُ: مِنْ كَلِمَاتِهِمُ الْفَاسِدَةِ أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
المسألة الْأُولَى: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: لِما لَا يَعْلَمُونَ إِلَى مَاذَا يَعُودُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ الْمَذْكُورِينَ فِي قَوْلِهِ: إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ [النحل: ٥٤] وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يَعْلَمُونَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْأَصْنَامِ أَيْ لَا يَعْلَمُ الْأَصْنَامُ مَا يَفْعَلُ عُبَّادُهَا قَالَ بَعْضُهُمْ: الْأَوَّلُ أَوْلَى لِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ نَفْيَ الْعِلْمِ عَنِ الْحَيِّ حَقِيقَةٌ وَعَنِ الْجَمَادِ مَجَازٌ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: وَيَجْعَلُونَ عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ فَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: لِما لَا يَعْلَمُونَ يَجِبُ أَنْ يكون عائد إِلَيْهِمْ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: لِما لَا يَعْلَمُونَ جُمِعَ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ. وَهُوَ بِالْعُقَلَاءِ أَلْيَقُ مِنْهُ بِالْأَصْنَامِ الَّتِي هِيَ جَمَادَاتٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بَلِ الْقَوْلُ الثَّانِي أَوْلَى لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّا إِذَا قُلْنَا إِنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ افْتَقَرْنَا إِلَى إِضْمَارٍ، فَإِنَّ التَّقْدِيرَ: وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ إِلَهًا، أَوْ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ كَوْنَهُ نَافِعًا ضَارًّا، وَإِذَا قُلْنَا إِنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْأَصْنَامِ، لَمْ نَفْتَقِرْ إِلَى الْإِضْمَارِ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ:
وَاعْلَمْ أَنَّا إِذَا قُلْنَا بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ افْتَقَرْنَا فِيهِ إِلَى الْإِضْمَارِ، وَذَلِكَ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ لَهُ حَقًّا، وَلَا يَعْلَمُونَ فِي طَاعَتِهِ نَفْعًا وَلَا فِي الْإِعْرَاضِ عَنْهُ ضَرَرًا، قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُمْ وَيَضُرُّهُمْ وَيَنْفَعُهُمْ، ثُمَّ يَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ يَنْفَعُهُمْ وَيَضُرُّهُمْ نَصِيبًا. وَثَانِيهَا: وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ إِلَهِيَّتَهَا. وَثَالِثُهَا: وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ السَّبَبَ فِي صَيْرُورَتِهَا مَعْبُودَةً. وَرَابِعُهَا: الْمُرَادُ اسْتِحْقَارُ الْأَصْنَامِ حَتَّى كَأَنَّهَا لِقِلَّتِهَا لَا تَعْلَمُ.
المسألة الثَّانِيَةُ: فِي تَفْسِيرِ ذَلِكَ النَّصِيبِ احْتِمَالَاتٌ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُمْ جَعَلُوا لِلَّهِ نَصِيبًا مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ يَتَقَرَّبُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِهِ، وَنَصِيبًا إِلَى الْأَصْنَامِ يَتَقَرَّبُونَ بِهِ إِلَيْهَا، وَقَدْ شَرَحْنَا ذَلِكَ فِي آخِرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا النَّصِيبِ، الْبَحِيرَةُ، وَالسَّائِبَةُ، وَالْوَصِيلَةُ، وَالْحَامُ، وهو قَوْلُ الْحَسَنِ.
وَالثَّالِثُ: رُبَّمَا اعْتَقَدُوا فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ أَنَّهُ إِنَّمَا حَصَلَ بِإِعَانَةِ بَعْضِ تِلْكَ الْأَصْنَامِ، كَمَا أَنَّ الْمُنَجِّمِينَ يُوَزِّعُونَ مَوْجُودَاتِ هَذَا الْعَالَمِ عَلَى الْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ، فَيَقُولُونَ لِزُحَلَ كَذَا مِنَ الْمَعَادِنِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانَاتِ، وَلِلْمُشْتَرِي أَشْيَاءُ أُخْرَى فكذا هاهنا.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنِ الْمُشْرِكِينَ هذا المذهب قال: تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ وهذا في هؤلاء الأقوم خاصة/ بمنزلة قوله: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ [الْحِجْرِ: ٩٢، ٩٣] وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَأَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِنَفْسِهِ أَنَّهُ يَسْأَلُهُمْ، وَهَذَا تَهْدِيدٌ مِنْهُ شَدِيدٌ، لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ يَسْأَلُهُمْ سُؤَالَ تَوْبِيخٍ وَتَهْدِيدٍ، وَفِي وَقْتِ هَذَا السُّؤَالِ احْتِمَالَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَقَعُ ذَلِكَ السُّؤَالُ عِنْدَ الْقُرْبِ مِنَ الْمَوْتِ وَمُعَايَنَةِ مَلَائِكَةِ الْعَذَابِ، وَقِيلَ عِنْدَ عَذَابِ الْقَبْرِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَقَعُ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ، وَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ بِمَا يَجْرِي هُنَاكَ مِنْ ضُرُوبِ التَّوْبِيخِ عِنْدَ المسألة فَهُوَ إِلَى الْوَعِيدِ أَقْرَبُ.
النوع الثَّانِي: مِنْ كَلِمَاتِهِمُ الْفَاسِدَةِ أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً [الزُّخْرُفِ: ١٩] كَانَتْ خُزَاعَةُ وَكِنَانَةُ تَقُولُ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ. أَقُولُ أَظُنُّ أَنَّ الْعَرَبَ إِنَّمَا أَطْلَقُوا لَفْظَ الْبَنَاتِ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمَّا كَانُوا مُسْتَتِرِينَ عَنِ الْعُيُونِ أَشْبَهُوا النِّسَاءَ فِي الِاسْتِتَارِ فَأَطْلَقُوا عَلَيْهِمْ لَفْظَ الْبَنَاتِ. وَأَيْضًا قُرْصُ الشَّمْسِ يَجْرِي مَجْرَى الْمُسْتَتِرِ عَنِ الْعُيُونِ بِسَبَبِ ضَوْئِهِ الْبَاهِرِ وَنُورِهِ الْقَاهِرِ فَأَطْلَقُوا عَلَيْهِ لَفْظَ التَّأْنِيثِ فَهَذَا مَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ فِي سَبَبِ إِقْدَامِهِمْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْفَاسِدِ وَالْمَذْهَبِ الْبَاطِلِ، وَلَمَّا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ هَذَا الْقَوْلَ قَالَ سُبْحانَهُ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ تَنْزِيهَ ذَاتِهِ عَنْ نِسْبَةِ الْوَلَدِ إِلَيْهِ.
وَالثَّانِي: تَعْجِيبُ الْخَلْقِ مِنْ هَذَا الْجَهْلِ الْقَبِيحِ، وَهُوَ وَصْفُ الْمَلَائِكَةِ بِالْأُنُوثَةِ ثُمَّ نِسْبَتُهَا بِالْوَلَدِيَّةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.
وَالثَّالِثُ: قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ مَعْنَاهُ مَعَاذَ اللَّهِ وَذَلِكَ مُقَارِبٌ لِلْوَجْهِ الْأَوَّلِ.
ثم قال تَعَالَى: وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ أَجَازَ الْفَرَّاءُ فِي «مَا» وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلَ: أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى مَعْنَى وَيَجْعَلُونَ لِأَنْفُسِهِمْ مَا يَشْتَهُونَ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ رَفْعًا عَلَى الِابْتِدَاءِ كَأَنَّهُ تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: سُبْحانَهُ ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ يَعْنِي الْبَنِينَ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ [الطُّورِ: ٣٩] ثُمَّ اخْتَارَ الوجه الثَّانِيَ وَقَالَ: لَوْ كَانَ نَصِيبًا لَقَالَ وَلِأَنْفُسِهِمْ مَا يَشْتَهُونَ، لِأَنَّكَ تَقُولُ جَعَلْتَ لِنَفْسِكَ كذا وكذا، ولا
المسألة الْأُولَى: التَّبْشِيرُ فِي عُرْفِ اللُّغَةِ مُخْتَصٌّ بِالْخَبَرِ الَّذِي يُفِيدُ السُّرُورَ إِلَّا أَنَّهُ بِحَسَبِ أَصْلِ اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الْخَبَرِ الَّذِي يُؤَثِّرُ فِي تَغَيُّرِ بَشَرَةِ الوجه، وَمَعْلُومٌ أَنَّ السُّرُورَ كَمَا يُوجِبُ تَغَيُّرَ الْبَشَرَةِ فَكَذَلِكَ الْحُزْنُ يُوجِبُهُ.
فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَفْظَةُ التَّبْشِيرِ حَقِيقَةً فِي الْقِسْمَيْنِ، وَيَتَأَكَّدُ هَذَا بِقَوْلِهِ/ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [آلِ عِمْرَانَ: ٢١] وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: المراد بالتبشير هاهنا الْإِخْبَارُ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَدْخَلُ فِي التَّحْقِيقِ.
أما قوله: ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا فَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَصِيرُ مُتَغَيِّرًا تَغَيُّرَ مُغْتَمٍّ، وَيُقَالُ لِمَنْ لَقِيَ مَكْرُوهًا قَدِ اسْوَدَّ وَجْهُهُ غَمًّا وَحَزَنًا، وَأَقُولُ إِنَّمَا جَعَلَ اسْوِدَادَ الوجه كِنَايَةً عَنِ الْغَمِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا قَوِيَ فَرَحُهُ انْشَرَحَ صَدْرُهُ وَانْبَسَطَ رُوحُ قَلْبِهِ مِنْ دَاخِلِ الْقَلْبِ، وَوَصَلَ إِلَى الْأَطْرَافِ، وَلَا سِيَّمَا إِلَى الوجه لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّعَلُّقِ الشَّدِيدِ، وَإِذَا وَصَلَ الرُّوحُ إِلَى ظَاهِرِ الوجه أَشْرَقَ الوجه وَتَلَأْلَأَ وَاسْتَنَارَ، وَأَمَّا إِذَا قَوِيَ غَمُّ الْإِنْسَانِ احْتَقَنَ الرُّوحُ فِي بَاطِنِ الْقَلْبِ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ أَثَرٌ قَوِيٌّ فِي ظَاهِرِ الوجه، فَلَا جَرَمَ يُرَبَّدُ الوجه وَيَصْفَرُّ وَيَسْوَدُّ وَيَظْهَرُ فِيهِ أَثَرُ الْأَرْضِيَّةِ وَالْكَثَافَةِ، فَثَبَتَ أَنَّ مِنْ لَوَازِمِ الْفَرَحِ اسْتِنَارَةَ الوجه وَإِشْرَاقَهُ، وَمِنْ لَوَازِمَ الْغَمِّ كُمُودَةَ الوجه وَغُبْرَتَهُ وَسَوَادَهُ، فَلِهَذَا السَّبَبِ جُعِلَ بَيَاضُ الوجه إشراقه كِنَايَةً عَنِ الْفَرَحِ وَغُبْرَتُهُ وَكُمُودَتُهُ وَسَوَادُهُ كِنَايَةً عَنِ الْغَمِّ وَالْحَزَنِ وَالْكَرَاهِيَةِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ: ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ أَيْ مُمْتَلِئٌ غَمًّا وَحَزَنًا.
ثم قال تَعَالَى: يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ أَيْ يَخْتَفِي وَيَتَغَيَّبُ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا ظَهَرَ آثَارُ الطَّلْقِ بِامْرَأَتِهِ تَوَارَى وَاخْتَفَى عَنِ الْقَوْمِ إِلَى أَنْ يَعْلَمَ مَا يُولَدُ لَهُ فَإِنْ كَانَ ذَكَرًا ابْتَهَجَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى حَزِنَ وَلَمْ يَظْهَرْ لِلنَّاسِ أَيَّامًا يُدَبِّرُ فِيهَا أَنَّهُ مَاذَا يَصْنَعُ بِهَا؟ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ وَالْمَعْنَى: أَيَحْبِسُهُ؟ وَالْإِمْسَاكُ هاهنا بِمَعْنَى الْحَبْسِ كَقَوْلِهِ: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ [الْأَحْزَابِ: ٣٧] وَإِنَّمَا قَالَ: أَيُمْسِكُهُ ذَكَرَهُ بِضَمِيرِ الذُّكْرَانِ لِأَنَّ هَذَا الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى «مَا» فِي قَوْلِهِ: ما بُشِّرَ بِهِ وَالْهُونُ الْهَوَانُ قَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ يُقَالُ إِنَّهُ أَهْوَنُ عَلَيْهِ هُونًا وَهَوَانًا، وَأَهَنْتُهُ هُونًا وَهَوَانًا، وَذَكَرْنَا هَذَا فِي سُورَةِ الأنعام عند قوله، عَذابَ الْهُونِ [الأنعام: ٩٣] وَفِي أَنَّ هَذَا الْهُونَ صِفَةُ مَنْ؟ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ صِفَةُ الْمَوْلُودَةِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يُمْسِكُهَا عَنْ هُونٍ مِنْهُ لَهَا. وَالثَّانِي: قَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّهُ صِفَةٌ لِلْأَبِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يُمْسِكُهَا مَعَ الرِّضَا بِهَوَانِ نَفْسِهِ وَعَلَى رَغْمِ أَنْفِهِ.
ثم قال: أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ وَالدَّسُّ إِخْفَاءُ الشَّيْءِ فِي الشَّيْءِ. يُرْوَى أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَحْفِرُونَ حَفِيرَةً وَيَجْعَلُونَهَا فِيهَا حَتَّى تَمُوتَ.
وَرُوِيَ عَنْ قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي وَارَيْتُ ثَمَانِيَ بَنَاتٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَعْتِقْ عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ رَقَبَةً»، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنِّي ذُو إِبِلٍ، فَقَالَ: «أهد عن كل واحدة منهن هَدْيًا»
وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا أَجِدُ حَلَاوَةَ الْإِسْلَامِ مُنْذُ أَسْلَمْتُ، فَقَدْ كَانَتْ لِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ ابْنَةٌ فَأَمَرْتُ امْرَأَتِي أَنْ تُزَيِّنَهَا فَأَخْرَجَتْهَا إِلَيَّ فَانْتَهَيْتُ بِهَا إِلَى وَادٍ بَعِيدِ الْقَعْرِ فَأَلْقَيْتُهَا فِيهِ، فَقَالَتْ: يَا أَبَتِ قَتَلْتَنِي، فَكُلَّمَا ذَكَرْتُ قَوْلَهَا لَمْ يَنْفَعْنِي شَيْءٌ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَدْ هَدَمَهُ الْإِسْلَامُ وَمَا كَانَ
وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ كَانُوا/ مُخْتَلِفِينَ فِي قَتْلِ الْبَنَاتِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَحْفِرُ الْحَفِيرَةَ وَيَدْفِنُهَا فِيهَا إِلَى أَنْ تَمُوتَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْمِيهَا مِنْ شَاهِقِ جَبَلٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُغْرِقُهَا وَمِنْهُمْ مَنْ يَذْبَحُهَا، وَهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ تَارَةً لِلْغَيْرَةِ وَالْحَمِيَّةِ، وَتَارَةً خَوْفًا مِنَ الْفَقْرِ وَالْفَاقَةِ وَلُزُومِ النَّفَقَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ قَالَ: أَلا ساءَ مَا يَحْكُمُونَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ بَلَغُوا في الِاسْتِنْكَافِ مِنَ الْبِنْتِ إِلَى أَعْظَمِ الْغَايَاتِ، فَأَوَّلُهَا: أنه يَسْوَدَّ وَجْهُهُ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ يَخْتَفِي عَنِ الْقَوْمِ مِنْ شِدَّةِ نَفْرَتِهِ عَنِ الْبِنْتِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْوَلَدَ مَحْبُوبٌ بِحَسَبِ الطَّبِيعَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ بِسَبَبِ شِدَّةِ نَفْرَتِهِ عَنْهَا يُقْدِمُ عَلَى قَتْلِهَا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّفْرَةَ عَنِ الْبِنْتِ وَالِاسْتِنْكَافَ عَنْهَا قَدْ بَلَغَ مَبْلَغًا لَا يَزْدَادُ عَلَيْهِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَالشَّيْءُ الَّذِي بَلَغَ الِاسْتِنْكَافُ مِنْهُ إِلَى هَذَا الْحَدِّ الْعَظِيمِ كَيْفَ يَلِيقُ بِالْعَاقِلِ أَنْ يَنْسُبَهُ لِإِلَهِ الْعَالِمِ الْمُقَدِّسِ الْعَالِي عَنْ مُشَابَهَةِ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ؟ وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى [النَّجْمِ: ٢١، ٢٢].
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْقَاضِي: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ الْجَبْرِ، لِأَنَّهُمْ يُضِيفُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الظُّلْمِ وَالْفَوَاحِشِ مَا إِذَا أُضِيفَ إِلَى أَحَدِهِمْ أَجْهَدَ نَفْسَهُ فِي الْبَرَاءَةِ مِنْهُ وَالتَّبَاعُدِ عَنْهُ، فَحُكْمُهُمْ فِي ذَلِكَ مُشَابِهٌ لِحُكْمِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ، ثم قال: بَلْ أَعْظَمُ، لِأَنَّ إِضَافَةَ الْبَنَاتِ إِلَيْهِ إِضَافَةُ قُبْحٍ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ أَسْهَلُ مِنْ إِضَافَةِ كُلِّ الْقَبَائِحِ وَالْفَوَاحِشِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. فَيُقَالُ للقاضي: إنه لما ثبت بالدليل استحالة الصاعية وَالْوَلَدِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَرْدَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِذِكْرِ هَذَا الوجه الْإِقْنَاعِيِّ، وَإِلَّا فَلَيْسَ كُلُّ مَا قَبُحَ مِنَّا فِي الْعُرْفِ قَبُحَ مِنَ الله تعالى ألا ترى أن رَجُلًا زَيَّنَ إِمَاءَهُ وَعَبِيدَهُ وَبَالَغَ فِي تَحْسِينِ صُوَرِهِنَّ ثُمَّ بَالَغَ فِي تَقْوِيَةِ الشَّهْوَةِ فِيهِمْ وَفِيهِنَّ، ثُمَّ جَمَعَ بَيْنَ الْكُلِّ وَأَزَالَ الْحَائِلَ وَالْمَانِعَ فَإِنَّ هَذَا بِالِاتِّفَاقِ حَسَنٌ مِنَ اللَّهِ تعالى وقبيح من كل الخلق، فعلمنا أن التعويل على هذه الوجوه المبينة على العرف، إنما يحسن إذا كانت مسبوقة بالدلائل القطعية اليقينية، وقد ثبت بالبراهين القطعية امتناع الولد على الله، فَلَا جَرَمَ حَسُنَتْ تَقْوِيَتُهَا بِهَذِهِ الْوُجُوهِ الْإِقْنَاعِيَّةِ. أَمَّا أَفْعَالُ الْعِبَادِ فَقَدْ ثَبَتَ بِالدَّلَائِلِ الْيَقِينِيَّةِ الْقَاطِعَةِ أَنَّ خَالِقَهَا هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، فَكَيْفَ يُمْكِنُ إِلْحَاقُ أَحَدِ الْبَابَيْنِ بِالْآخَرِ لَوْلَا شِدَّةُ التَّعَصُّبِ؟ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثم قال تَعَالَى: لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَالْمَثَلُ السَّوْءُ عِبَارَةٌ عَنِ الصِّفَةِ السَّوْءِ وَهِيَ احْتِيَاجُهُمْ إِلَى الْوَلَدِ، وَكَرَاهَتُهُمُ الْإِنَاثَ خَوْفَ الْفَقْرِ وَالْعَارِ: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى أَيِ الصِّفَةُ الْعَالِيَةُ الْمُقَدَّسَةُ، وَهِيَ كَوْنُهُ تَعَالَى مُنَزَّهًا عَنِ الْوَلَدِ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ جَاءَ: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى مَعَ قَوْلِهِ: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ.
قُلْنَا: الْمَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُهُ اللَّهُ حَقٌّ وَصِدْقٌ وَالَّذِي يَذْكُرُهُ غَيْرُهُ فَهُوَ الْبَاطِلُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٦١ الى ٦٤]
وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٦١) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (٦٢) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٦٤)
المسألة الْأُولَى: احْتَجَّ الطَّاعِنُونَ فِي عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ قَالَ: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ فَأَضَافَ الظُّلْمَ إِلَى كُلِّ النَّاسِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الظُّلْمَ مِنَ الْمَعَاصِي، فَهَذَا يَقْتَضِي كَوْنَ كُلِّ إِنْسَانٍ آتِيًا بِالذَّنْبِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَالْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مِنَ النَّاسِ، فَوَجَبَ كَوْنُهُمْ آتِينَ بِالذَّنْبِ وَالْمَعْصِيَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ فَهُوَ آتٍ بِالظُّلْمِ وَالذَّنْبِ، حَتَّى يَلْزَمَ مِنْ إفناء كل ما كَانَ ظَالِمًا إِفْنَاءُ كُلِّ النَّاسِ. أَمَّا إِذَا قُلْنَا: الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لَمْ يَصْدُرْ عَنْهُمْ ظُلْمٌ فَلَا يَجِبُ إِفْنَاؤُهُمْ، وَحِينَئِذٍ لَا يَلْزَمُ مِنْ إِفْنَاءِ كُلِّ الظَّالِمِينَ إِفْنَاءُ كُلِّ النَّاسِ، وَأَنْ لَا يَبْقَى عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ دَابَّةٌ، وَلَمَّا لَزِمَ عَلِمْنَا أَنَّ كُلَّ الْبَشَرِ ظَالِمُونَ سَوَاءٌ كَانُوا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ لَمْ يَكُونُوا كَذَلِكَ.
وَالْجَوَابُ: ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ كُلَّ النَّاسِ لَيْسُوا ظَالِمِينَ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ [فَاطِرٍ: ٣٢] أَيْ فَمِنَ الْعِبَادِ مَنْ هُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ، وَلَوْ كَانَ الْمُقْتَصِدُ وَالسَّابِقُ ظَالِمًا لَفَسَدَ ذَلِكَ التَّقْسِيمُ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمُقْتَصِدِينَ وَالسَّابِقِينَ لَيْسُوا ظَالِمِينَ، فَثَبَتَ بِهَذَا الدَّلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ كُلُّ الْخَلْقِ ظَالِمُونَ.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: النَّاسُ الْمَذْكُورُونَ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ إِمَّا كُلُّ الْعُصَاةِ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلْعِقَابِ أَوِ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَمِنَ الَّذِينَ أَثْبَتُوا لِلَّهِ الْبَنَاتِ. وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَيَسْقُطُ الِاسْتِدْلَالُ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
المسألة الثَّانِيَةُ: مِنَ النَّاسِ مَنِ احْتَجَّ بهذه الآية على أن الأصل من الْمَضَارِّ الْحُرْمَةُ، فَقَالَ: لَوْ كَانَ الضَّرَرُ مَشْرُوعًا لَكَانَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ جَزَاءً عَلَى جُرْمٍ صَادِرٍ مِنْهُمْ أَوْ لَا عَلَى هَذَا الوجه، وَالْقِسْمَانِ بَاطِلَانِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مَشْرُوعًا أَصْلًا.
أَمَّا بَيَانُ فساد القسم الأول، فلقوله تَعَالَى: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ كَلِمَةَ «لَوْ» وُضِعَتْ لِانْتِفَاءِ الشَّيْءِ لِانْتِفَاءِ غَيْرِهِ. فَقَوْلُهُ: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ يَقْتَضِي أَنَّهُ تَعَالَى مَا أَخَذَهُمْ بِظُلْمِهِمْ وَأَنَّهُ تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ لَازِمَةَ أَخْذِ اللَّهِ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ هُوَ أَنْ لَا يَتْرُكَ عَلَى ظَهْرِهَا دَابَّةً، ثُمَّ إِنَّا نُشَاهِدُ أَنَّهُ تَعَالَى تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا دَوَابَّ كَثِيرِينَ، فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يُؤَاخِذُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ، فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمَضَارُّ مَشْرُوعَةً عَلَى وَجْهٍ تَقَعُ أَجِزْيَةً عَنِ الْجَرَائِمِ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا ابْتِدَاءً لَا عَلَى وَجْهٍ يَقَعُ أَجِزْيَةً عَنْ جُرْمٍ سَابِقٍ، فَهَذَا بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَثَبَتَ أَنَّ مُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَةِ تَحْرِيمُ الْمَضَارِّ مُطْلَقًا، وَيَتَأَكَّدُ هَذَا أَيْضًا بِآيَاتٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها [الْأَعْرَافِ: ٥٦] وَكَقَوْلِهِ: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ
[الْحَجِّ: ٧٨] وَكَقَوْلِهِ: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [الْبَقَرَةِ: ١٨٥]
وَكَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَامِ»وَكَقَوْلِهِ: «مَلْعُونٌ مَنْ ضَرَّ مُسْلِمًا»
فَثَبَتَ بِمَجْمُوعِ هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَضَارِّ الْحُرْمَةُ، فَنَقُولُ: إِذَا وَقَعَتْ حَادِثَةٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الضَّرَرِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، فَإِنْ وَجَدْنَا نَصًّا خَاصًّا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مَشْرُوعًا قَضَيْنَا بِهِ تَقْدِيمًا لِلْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، وَإِلَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ بِالْحُرْمَةِ بِنَاءً عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا يُرِيدُهُ الْإِنْسَانُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا فِي حَقِّهِ، لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْهُ ضَرَرٌ، وَالضَّرَرُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ بِمُقْتَضَى هَذَا الْأَصْلِ وَكُلُّ مَا يَكْرَهُهُ الْإِنْسَانُ وَجَبَ أَنْ يَحْرُمَ لِأَنَّ وُجُودَهُ ضَرَرٌ وَالضَّرَرُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْأَصْلَ يَتَنَاوَلُ/ جَمِيعَ الْوَقَائِعِ الْمُمْكِنَةِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ نَقُولُ الْقِيَاسُ الَّذِي يُتَمَسَّكُ بِهِ فِي إِثْبَاتِ الْأَحْكَامِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى وَفْقِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَوْ عَلَى خِلَافِهَا، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ:
لِأَنَّ هَذَا الْأَصْلَ يُغْنِي عَنْهُ، وَالثَّانِي بَاطِلٌ، لِأَنَّ النَّصَّ رَاجِحٌ عَلَى الْقِيَاسِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الظُّلْمَ وَالْمَعَاصِيَ لَيْسَتْ فِعْلًا لِلَّهِ تَعَالَى، بَلْ تَكُونُ أَفْعَالًا لِلْعِبَادِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى أَضَافَ ظُلْمَ الْعِبَادِ إِلَيْهِمْ، وَمَا أَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ. فَقَالَ: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ خَلْقًا لِلَّهِ تَعَالَى لَكَانَتْ مُؤَاخَذَتُهُمْ بِهَا ظُلْمًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَمَّا مَنَعَ اللَّهُ تَعَالَى الْعِبَادَ مِنَ الظُّلْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَبِأَنْ يَكُونَ مُنَزَّهًا عَنِ الظُّلْمِ كَانَ أَوْلَى، قَالُوا: وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ أَعْمَالَهُمْ مُؤَثِّرَةٌ فِي وُجُوبِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ أَنَّ قَوْلَهُ: بِظُلْمِهِمْ الْبَاءُ فِيهِ تَدُلُّ على العلية كما في قوله: لِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ
[الْأَنْفَالِ: ١٣].
وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ قَدْ ذَكَرْنَاهُ مِرَارًا فَلَا نُعِيدُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
المسألة الرَّابِعَةُ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِقْدَامَ النَّاسِ عَلَى الظُّلْمِ يُوجِبُ إِهْلَاكَ جَمِيعِ الدَّوَابِّ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّ الدَّابَّةَ لَمْ يَصْدُرْ عَنْهَا ذَنْبٌ، فَكَيْفَ يَجُوزُ إِهْلَاكُهَا بِسَبَبِ ظُلْمِ النَّاسِ؟
وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
الوجه الْأَوَّلُ: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ قَوْلَهُ: مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الدَّوَابِّ.
وَأَجَابَ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ عَنْهُ: أَنَّ الْمُرَادَ لَوْ يُؤَاخِذُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَسَبُوا مِنْ كُفْرٍ وَمَعْصِيَةٍ لَعَجَّلَ هَلَاكَهُمْ، وَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى لَهُمْ نَسْلٌ، ثُمَّ مِنَ المعلوم أنه لا أحدا إِلَّا وَفِي أَحَدِ آبَائِهِ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْعَذَابَ وَإِذَا هَلَكُوا فَقَدْ بَطَلَ نَسْلُهُمْ، فَكَانَ يَلْزَمُهُ أَنْ لَا يَبْقَى فِي الْعَالَمِ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، وَإِذَا بَطَلُوا وَجَبَ أَنْ لَا يَبْقَى أَحَدٌ مِنَ الدَّوَابِّ أَيْضًا، لِأَنَّ الدَّوَابَّ مَخْلُوقَةٌ لِمَنَافِعِ الْعِبَادِ وَمَصَالِحِهِمْ، فَهَذَا وَجْهٌ لَطِيفٌ حَسَنٌ.
وَالوجه الثَّانِي: أَنَّ الْهَلَاكَ إِذَا وَرَدَ عَلَى الظَّلَمَةِ وَرَدَ أَيْضًا عَلَى سَائِرِ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ، فَكَانَ ذَلِكَ الْهَلَاكُ فِي حَقِّ الظَّلَمَةِ عَذَابًا، وَفِي حَقِّ غَيْرِهِمُ امْتِحَانًا، وَقَدْ وَقَعَتْ هَذِهِ الْوَاقِعَةُ فِي زَمَانِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَالوجه الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ آخَذَهُمْ لَانْقَطَعَ الْقَطْرُ وفي انقطاعه النَّبْتِ فَكَانَ لَا تَبْقَى عَلَى ظَهْرِهَا دَابَّةٌ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ سمع رجلا يقول: إن الظالم لا يضر إِلَّا نَفْسَهُ، فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ بَلْ إِنَّ الْحُبَارَى فِي وَكْرِهَا لَتَمُوتَ بِظُلْمِ الظَّالِمِ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَادَ الْجَعْلُ يَهْلِكُ فِي جُحْرِهِ بِذَنْبِ ابْنِ آدَمَ، فَهَذِهِ الْوُجُوهُ الثَّلَاثَةُ مِنَ الْجَوَابِ مُفَرَّعَةٌ عَلَى تَسْلِيمِ أَنَّ لَفْظَةَ الدَّابَّةِ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الدَّوَابِّ.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ أَيْ مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ كَافِرٍ،
المسألة الْخَامِسَةُ: الْكِنَايَةُ فِي قَوْلِهِ: عَلَيْها عائدة إلى الْأَرْضِ، وَلَمْ يَسْبِقْ لَهَا ذِكْرٌ، إِلَّا أَنَّ ذِكْرَ الدَّابَّةِ يَدُلُّ عَلَى الْأَرْضِ، فَإِنَّ الدَّابَّةَ إِنَّمَا تَدِبُّ عَلَيْهَا. وَكَثِيرًا مَا يُكَنَّى عَنِ الْأَرْضِ، وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُهَا لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا عَلَيْهَا مِثْلُ فُلَانٍ وَمَا عَلَيْهَا أَكْرَمُ مِنْ فُلَانٍ، يَعْنُونَ عَلَى الْأَرْضِ.
ثم قال تَعَالَى: وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لِيَتَوَالَدُوا، وَفِي تَفْسِيرِ هَذَا الْأَجَلِ قَوْلَانِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ يُرِيدُ أَجَلَ الْقِيَامَةِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مُنْتَهَى الْعُمُرِ. وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ مُعْظَمَ الْعَذَابِ يُوَافِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أن المشركين يؤاخذون بِالْعُقُوبَةِ إِذَا انْقَضَتْ أَعْمَارُهُمْ وَخَرَجُوا مِنَ الدُّنْيَا.
النوع الثَّالِثُ: مِنَ الْأَقَاوِيلِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي كَانَ يَذْكُرُهَا الْكُفَّارُ وَحَكَاهَا اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، قَوْلُهُ: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: وَيَجْعَلُونَ أَيِ الْبَنَاتِ الَّتِي يَكْرَهُونَهَا لأنفسهم، ومعنى قوله: يَجْعَلُونَ يَصِفُونَ اللَّهَ بِذَلِكَ وَيَحْكُمُونَ بِهِ لَهُ كَقَوْلِهِ جَعَلْتُ زَيْدًا عَلَى النَّاسِ أَيْ حَكَمْتُ بِهَذَا الحكم وَذَكَرْنَا مَعْنَى الْجَعْلِ عِنْدَ قَوْلِهِ: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ [الْمَائِدَةِ: ١٠٣].
ثم قال تَعَالَى: وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى [إلى قوله وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ] قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: مَوْضِعُ «أَنْ» نَصْبٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى بَدَلٌ مِنَ الْكَذِبِ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمْ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى. وفي تفسير الْحُسْنى هاهنا قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنْهُ الْبَنُونَ، يَعْنِي أَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّهِ الْبَنَاتُ وَلَنَا الْبَنُونَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ مَعَ قَوْلِهِمْ بِإِثْبَاتِ الْبَنَاتِ لِلَّهِ تَعَالَى، يَصِفُونَ أَنْفُسَهُمْ بِأَنَّهُمْ فَازُوا بِرِضْوَانِ اللَّهِ تَعَالَى بِسَبَبِ هَذَا الْقَوْلِ، وَأَنَّهُمْ عَلَى الدِّينِ الْحَقِّ وَالْمَذْهَبِ الْحَسَنِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ حَكَمُوا لِأَنْفُسِهِمْ بِالْجَنَّةِ وَالثَّوَابِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَحْكُمُونَ بِذَلِكَ وَهُمْ كَانُوا مُنْكِرِينَ لِلْقِيَامَةِ؟
قُلْنَا: كُلُّهُمْ مَا كَانُوا مُنْكِرِينَ لِلْقِيَامَةِ، فَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ فِي الْعَرَبِ جَمْعٌ يُقِرُّونَ بِالْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَرْبُطُونَ الْبَعِيرَ النَّفِيسَ عَلَى قَبْرِ الْمَيِّتِ وَيَتْرُكُونَهُ إِلَى أَنْ يَمُوتَ وَيَقُولُونَ: إِنَّ ذَلِكَ الْمَيِّتَ إِذَا حُشِرَ فَإِنَّهُ يُحْشَرُ مَعَهُ مَرْكُوبُهُ، وَأَيْضًا فَبِتَقْدِيرِ أَنَّهُمْ كَانُوا مُنْكِرِينَ لِلْقِيَامَةِ فَلَعَلَّهُمْ قَالُوا: إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ صَادِقًا فِي قَوْلِهِ بِالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ لَنَا الْجَنَّةُ وَالثَّوَابُ بِسَبَبِ هَذَا/ الدِّينِ الْحَقِّ الَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: الْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ الْحُسْنى عَلَى هَذَا الوجه بِدَلِيلِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَهُ: لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ فَرَدَّ عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ وَأَثْبَتَ لَهُمُ النَّارَ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُمْ حَكَمُوا لِأَنْفُسِهِمْ بِالْجَنَّةِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: لَا رَدٌّ لِقَوْلِهِمْ، وَالْمَعْنَى لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا وَصَفُوا جَرَمَ فِعْلُهُمْ أَيْ كَسْبُ ذَلِكَ الْقَوْلِ لَهُمُ النَّارُ، فَعَلَى هَذَا لفظ «أَنَّ» فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بِوُقُوعِ الْكَسْبِ عَلَيْهِ. وَقَالَ قُطْرُبٌ (أَنَّ) فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَالْمَعْنَى: وَجَبَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَكَيْفَ كَانَ الْإِعْرَابُ فَالْمَعْنَى هُوَ أَنَّهُ يَحِقُّ لَهُمُ النَّارُ وَيَجِبُ وَيَثْبُتُ. وَقَوْلُهُ: وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ قَرَأَ نَافِعٌ وَقُتَيْبَةُ عَنِ الْكِسَائِيِّ: مُفْرَطُونَ بِكَسْرِ الرَّاءِ، وَالْبَاقُونَ: مُفْرَطُونَ بِفَتْحِ الرَّاءِ. أَمَّا قِرَاءَةُ نَافِعٍ فَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُفْرِطِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي الذُّنُوبِ، وَقِيلَ: أَفْرَطُوا فِي الِافْتِرَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: كَأَنَّهُ مِنْ أَفْرَطَ، أَيْ صَارَ ذَا فَرَطٍ
وَأَمَّا قِرَاءَةُ قَوْلِهِ: مُفْرَطُونَ بِفَتْحِ الرَّاءِ فَفِيهِ قَوْلَانِ:
القول الأول: المعنى: أنهم متروكون فِي النَّارِ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: يُقَالُ مَا أَفْرَطْتُ مِنَ الْقَوْمِ أَحَدًا، أَيْ مَا تَرَكْتُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: تَقُولُ الْعَرَبُ أَفْرَطْتُ مِنْهُمْ نَاسًا، أَيْ خَلَّفْتُهُمْ وَأُنْسِيتُهُمْ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: مُفْرَطُونَ أَيْ مُعَجَّلُونَ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهُوَ الِاخْتِيَارُ وَوَجْهُهُ مَا قَالَ أَبُو زَيْدٍ وَغَيْرُهُ: فَرَطَ الرَّجُلُ أَصْحَابَهُ يَفْرُطُهُمْ فَرَطًا وَفُرُوطًا إِذَا تَقَدَّمَهُمْ إِلَى الْمَاءِ لِيُصْلِحَ الدِّلَاءَ وَالْأَرْسَانَ، وَأَفْرَطَ الْقَوْمُ الْفَارِطَ، وَفَرَّطُوهُ إِذَا قَدَّمُوهُ فَمَعْنَى قَوْلِهِ: مُفْرَطُونَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ كَأَنَّهُمْ قُدِّمُوا إِلَى النَّارِ فَهُمْ فِيهَا فَرَطٌ لِلَّذِينِ يَدْخُلُونَ بَعْدَهُمْ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا الصُّنْعِ الَّذِي يَصْدُرُ مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ قَدْ صَدَرَ مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ السَّابِقِينَ فِي حَقِّ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، فَقَالَ: تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَهَذَا يَجْرِي مَجْرَى التَّسْلِيَةِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا كَانَ يَنَالُهُ مِنَ الْغَمِّ بِسَبَبِ جَهَالَاتِ الْقَوْمِ. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْمُجْبِرَةِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ إِذَا كَانَ خَالِقُ أَعْمَالِهِمْ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّزْيِينِ. وَالثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ التَّزْيِينَ لَمَّا كَانَ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَجُزْ ذَمُّ الشَّيْطَانِ بِسَبَبِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ التَّزْيِينَ هُوَ الَّذِي يَدْعُو الْإِنْسَانَ إِلَى الْفِعْلِ، وَإِذَا كَانَ حُصُولُ الْفِعْلِ فِيهِ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ ضَرُورِيًّا فَلَمْ يَكُنِ التَّزْيِينُ دَاعِيًا. وَالرَّابِعُ: أَنَّ عَلَى قَوْلِهِمْ، الْخَالِقُ لِذَلِكَ الْعَمَلِ، أَجْدَرُ أَنْ يَكُونَ وَلِيًّا لَهُمْ مِنَ الدَّاعِي إِلَيْهِ.
وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَضَافَ التَّزْيِينَ إِلَى الشَّيْطَانِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الْمُزَيِّنُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى لَكَانَتْ إِضَافَتُهُ إِلَى الشَّيْطَانِ كَذِبًا.
وَجَوَابُهُ: إِنْ كَانَ مُزَيِّنُ الْقَبَائِحِ فِي أَعْيُنِ الْكُفَّارِ هُوَ الشَّيْطَانُ، فَمُزَيِّنُ تِلْكَ الْوَسَاوِسِ فِي عَيْنِ/ الشَّيْطَانِ إِنْ كَانَ شَيْطَانًا آخَرَ لَزِمَ التَّسَلْسُلُ. وَإِنْ كَانَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
ثم قال تَعَالَى: فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَفِيهِ احْتِمَالَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ كُفَّارُ مَكَّةَ وَبِقَوْلِهِ: فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ أَيِ الشَّيْطَانُ وَيَتَوَلَّى إِغْوَاءَهُمْ وَصَرْفَهُمْ عَنْكَ، كَمَا فَعَلَ بِكُفَّارِ الْأُمَمِ قَبْلَكَ فَيَكُونُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ رَجَعَ عَنْ أَخْبَارِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ إِلَى الْأَخْبَارِ عَنْ كُفَّارِ مَكَّةَ. الثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ بِالْيَوْمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ فَهُوَ وَلِيُّ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا يُزَيِّنُ لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَطْلَقَ اسْمَ الْيَوْمِ عَلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِشُهْرَةِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِهِ: فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ هُوَ أَنَّهُ لَا وَلِيَّ لَهُمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَلَا نَاصِرَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ إِذَا عَايَنُوا الْعَذَابَ وَقَدْ نَزَلَ بِالشَّيْطَانِ كَنُزُولِهِ بِهِمْ، وَرَأَوْا أَنَّهُ لَا مُخَلِّصَ لَهُ مِنْهُ، كَمَا لَا مُخَلِّصَ لَهُمْ مِنْهُ، جَازَ أَنْ يُوَبَّخُوا بِأَنْ يُقَالَ لَهُمْ: هَذَا وَلِيُّكُمُ الْيَوْمَ عَلَى وَجْهِ السُّخْرِيَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أن مع هذا الوعيد الشديد قد أَقَامَ الْحُجَّةَ وَأَزَاحَ الْعِلَّةَ فَقَالَ: وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَفِيهِ مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: الْمَعْنَى: أَنَّا مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمْ بِوَاسِطَةِ بَيَانَاتِ هَذَا الْقُرْآنِ الْأَشْيَاءَ الَّتِي اخْتَلَفُوا فِيهَا، وَالْمُخْتَلِفُونَ هُمْ أَهْلُ الْمِلَلِ وَالْأَهْوَاءِ، وَمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، هُوَ الدِّينُ مِثْلَ التَّوْحِيدِ وَالشِّرْكِ وَالْجَبْرِ وَالْقَدَرِ، وَإِثْبَاتِ الْمَعَادِ وَنَفْيِهِ، وَمِثْلَ الْأَحْكَامِ، مِثْلَ أَنَّهُمْ حَرَّمُوا أَشْيَاءَ تَحِلُّ كَالْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَغَيْرِهِمَا وَحَلَّلُوا أَشْيَاءَ تَحْرُمُ كَالْمَيْتَةِ.
وَجَوَابُهُ: أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ بِالْعَقْلِ امْتِنَاعُ التَّعْلِيلِ وَجَبَ صَرْفُهُ إِلَى التَّأْوِيلِ.
المسألة الثَّالِثَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قوله: هُدىً وَرَحْمَةً مَعْطُوفَانِ عَلَى مَحَلِّ قَوْلِهِ: لِتُبَيِّنَ إِلَّا أَنَّهُمَا انْتَصَبَا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُمَا، لِأَنَّهُمَا فِعْلَا الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ، وَدَخَلَتِ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِتُبَيِّنَ لِأَنَّهُ فِعْلُ الْمُخَاطَبِ لَا فِعْلُ الْمُنْزِلِ، وَإِنَّمَا يَنْتَصِبُ مَفْعُولًا لَهُ مَا كَانَ فِعْلًا لِذَلِكَ الْفَاعِلِ.
المسألة الرَّابِعَةُ: قَالَ الْكَلْبِيُّ: وَصْفُ الْقُرْآنِ بِكَوْنِهِ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، لَا يَنْفِي كَوْنَهُ كَذَلِكَ فِي حَقِّ الْكُلِّ، كَمَا أَنَّ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَةِ: ٢] لَا يَنْفِي كَوْنَهُ هُدًى لِكُلِّ النَّاسِ، كَمَا ذَكَرَهُ فِي قَوْلِهِ: هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ [الْبَقَرَةِ: ١٨٥] وَإِنَّمَا خَصَّ الْمُؤْمِنِينَ بِالذِّكْرِ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُمْ قَبِلُوهُ فَانْتَفَعُوا بِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها [النَّازِعَاتِ: ٤٥] لِأَنَّهُ إِنَّمَا انْتَفَعَ بِإِنْذَارِهِ هَذَا الْقَوْمُ فَقَطْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٦٥ الى ٦٧]
وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٥) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (٦٦) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٦٧)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها] اعْلَمْ أَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَعْظَمَ مِنْ هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ تَقْرِيرُ أُصُولٍ أَرْبَعَةٍ: الْإِلَهِيَّاتِ وَالنُّبُوَّاتِ وَالْمَعَادِ، وَإِثْبَاتِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، وَالْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ مِنْ هَذِهِ الْأُصُولِ الْأَرْبَعَةِ تَقْرِيرُ الْإِلَهِيَّاتِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ كُلَّمَا امْتَدَّ الْكَلَامُ فِي فَصْلٍ مِنَ الْفُصُولِ فِي وَعِيدِ الْكُفَّارِ عَادَ إِلَى تَقْرِيرِ الْإِلَهِيَّاتِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَرَادَ ذِكْرَ دَلَائِلِ الْإِلَهِيَّاتِ ابْتَدَأَ بِالْأَجْرَامِ الْفَلَكِيَّةِ، وَثَنَّى بِالْإِنْسَانِ، وَثَلَّثَ بِالْحَيَوَانِ، وَرَبَّعَ بِالنَّبَاتِ، وَخَمَّسَ بِذِكْرِ أَحْوَالِ الْبَحْرِ وَالْأَرْضِ، فَهَهُنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَمَّا عَادَ إِلَى تَقْرِيرِ دَلَائِلِ الْإِلَهِيَّاتِ بَدَأَ أَوَّلًا بِذِكْرِ الْفَلَكِيَّاتِ فَقَالَ: وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ السَّمَاءَ عَلَى وَجْهٍ يَنْزِلُ مِنْهُ الْمَاءُ وَيَصِيرُ ذَلِكَ الْمَاءُ سَبَبًا لِحَيَاةِ الْأَرْضِ، وَالْمُرَادُ بِحَيَاةِ الْأَرْضِ نَبَاتُ الزَّرْعِ وَالشَّجَرِ وَالنَّوْرِ وَالثَّمَرِ بَعْدَ أَنْ كَانَ لَا يُثْمِرُ، وَيَنْفَعُ بَعْدَ أَنْ كَانَ لَا يَنْفَعُ، وَتَقْرِيرُ هَذِهِ الدَّلَائِلِ قَدْ ذَكَرْنَاهُ مِرَارًا كَثِيرَةً.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ سَمَاعَ إِنْصَافٍ وَتَدَبُّرٍ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَسْمَعْ بِقَلْبِهِ فكأنه أصم لم يسمع.
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ إلى قوله سائِغاً لِلشَّارِبِينَ] وَالنوع الثَّانِي: مِنَ الدَّلَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الِاسْتِدْلَالُ بِعَجَائِبِ أَحْوَالِ الْحَيَوَانَاتِ وَهُوَ قَوْلُهُ:
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ قَدْ ذَكَرْنَا مَعْنَى الْعِبْرَةِ فِي قَوْلِهِ: لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ [آلِ عِمْرَانَ: ١٣] وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: نُسْقِيكُمْ بِضَمِّ النُّونِ، وَالْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ،
المسألة الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: مِمَّا فِي بُطُونِهِ الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْأَنْعَامِ فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ مِمَّا فِي بُطُونِهَا، وَذَكَرَ النَّحْوِيُّونَ فِيهِ وُجُوهًا: الأول: أن لفظ الأنعام لفظ مُفْرِدٌ وُضِعَ لِإِفَادَةِ جَمْعٍ، كَالرَّهْطِ وَالْقَوْمِ وَالْبَقَرِ وَالنَّعَمِ، فَهُوَ بِحَسَبِ اللَّفْظِ لَفْظٌ مُفْرَدٌ فَيَكُونُ ضَمِيرُهُ ضَمِيرَ الْوَاحِدِ، وَهُوَ التَّذْكِيرُ، وَبِحَسَبِ الْمَعْنَى جَمْعٌ فَيَكُونُ ضَمِيرُهُ ضَمِيرَ الْجَمْعِ، وَهُوَ التَّأْنِيثُ، فلهذا السبب قال هاهنا فِي بُطُونِهِ، وَقَالَ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ: فِي بُطُونِها [المؤمنون: ٢١]. الثَّانِي: قَوْلُهُ: فِي بُطُونِهِ أَيْ فِي بُطُونِ مَا ذَكَرْنَا، وَهَذَا جَوَابُ الْكِسَائِيِّ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: هَذَا شَائِعٌ فِي الْقُرْآنِ. قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هَذَا رَبِّي [الْأَنْعَامِ: ٧٨] يعني هذا الشيء الطالع ربي. وقال: كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ [المدثر: ٥٤، ٥٥] أَيْ ذَكَرَ هَذَا الشَّيْءَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا إِنَّمَا يَجُوزُ فِيمَا يَكُونُ تَأْنِيثُهُ غَيْرَ حَقِيقِيٍّ، أَمَّا الَّذِي يَكُونُ تَأْنِيثُهُ حَقِيقِيًّا، فَلَا يَجُوزُ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي مُسْتَقِيمِ الْكَلَامِ أَنْ يقال جاريتك ذهب، ولا غلامك ذهب عَلَى تَقْدِيرٍ أَنْ نَحْمِلَهُ عَلَى النَّسَمَةِ. الثَّالِثُ:
أَنَّ فِيهِ إِضْمَارًا، وَالتَّقْدِيرُ: نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ اللَّبَنَ إِذْ لَيْسَ كُلُّهَا ذَاتَ لَبَنٍ.
المسألة الثَّالِثَةُ: الْفَرْثُ: سِرْجِينُ الْكَرِشِ. رَوَى الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا اسْتَقَرَّ الْعَلَفُ فِي الْكَرِشِ صَارَ أَسْفَلُهُ فَرْثًا وَأَعْلَاهُ دَمًا وَأَوْسَطُهُ لَبَنًا، فَيَجْرِي الدَّمُ فِي الْعُرُوقِ وَاللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ، وَيَبْقَى الْفَرْثُ كَمَا هُوَ، فَذَاكَ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً لَا يَشُوبُهُ الدَّمُ وَلَا الْفَرْثُ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الدَّمُ وَاللَّبَنُ لَا يَتَوَلَّدَانِ الْبَتَّةَ فِي الْكَرِشِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْحِسُّ فَإِنَّ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ تُذْبَحُ ذَبْحًا مُتَوَالِيًا، وَمَا رَأَى أَحَدٌ فِي كَرِشِهَا لَا دَمًا وَلَا لَبَنًا، وَلَوْ كَانَ تَوَلُّدُ الدَّمِ وَاللَّبَنِ فِي الْكِرْشِ لَوَجَبَ أَنْ يُشَاهَدَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، وَالشَّيْءُ الَّذِي دَلَّتِ الْمُشَاهَدَةُ عَلَى فَسَادِهِ لَمْ يَجُزِ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ، بَلِ الْحَقُّ أَنَّ الْحَيَوَانَ إِذَا تَنَاوَلَ الْغِذَاءَ وَصَلَ ذَلِكَ الْعَلَفُ إِلَى مَعِدَتِهِ إِنْ كَانَ إِنْسَانًا، وَإِلَى كَرِشِهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْأَنْعَامِ وَغَيْرِهَا، فَإِذَا طُبِخَ وَحَصَلَ الْهَضْمُ الْأَوَّلُ فِيهِ فَمَا كَانَ مِنْهُ صَافِيًا انْجَذَبَ إِلَى الْكَبِدِ، وَمَا كَانَ كَثِيفًا نَزَلَ إِلَى الْأَمْعَاءِ، ثُمَّ ذَلِكَ الَّذِي يَحْصُلُ مِنْهُ فِي الْكَبِدِ يَنْطَبِخُ فِيهَا/ وَيَصِيرُ دَمًا، وَذَلِكَ هُوَ الْهَضْمُ الثَّانِي، وَيَكُونُ ذَلِكَ الدَّمُ مَخْلُوطًا بِالصَّفْرَاءِ وَالسَّوْدَاءِ وَزِيَادَةِ الْمَائِيَّةِ، أَمَّا الصَّفْرَاءُ فَتَذْهَبُ إِلَى الْمَرَارَةِ، وَالسَّوْدَاءُ إِلَى الطِّحَالِ، وَالْمَاءُ إِلَى الْكُلْيَةِ، وَمِنْهَا إِلَى الْمَثَانَةِ، وَأَمَّا ذَلِكَ الدَّمُ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِي الْأَوْرِدَةِ، وَهِيَ الْعُرُوقُ النَّابِتَةُ مِنَ الْكَبِدِ، وَهُنَاكَ يَحْصُلُ الْهَضْمُ الثَّالِثُ، وَبَيْنَ الْكَبِدِ وَبَيْنَ الضَّرْعِ عُرُوقٌ كَثِيرَةٌ فَيَنْصَبُّ الدَّمُ فِي تِلْكَ الْعُرُوقِ إِلَى الضَّرْعِ، وَالضَّرْعُ لَحْمٌ غُدَدِيٌّ رَخْوٌ أَبْيَضُ فَيُقَلِّبُ اللَّهُ تَعَالَى الدَّمَ عِنْدَ انْصِبَابِهِ إِلَى ذَلِكَ اللَّحْمِ الْغُدَدِيِّ الرَّخْوِ الْأَبْيَضِ مِنْ صُورَةِ الدَّمِ إِلَى صُورَةِ اللَّبَنِ فَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الصَّحِيحُ فِي كَيْفِيَّةِ تَوَلُّدِ اللَّبَنِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَذِهِ الْمَعَانِي حَاصِلَةٌ فِي الْحَيَوَانِ الذَّكَرِ فَلِمَ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ اللَّبَنُ؟
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ السَّبَبَ الَّذِي لِأَجْلِهِ يَتَوَلَّدُ اللَّبَنُ مِنَ الدَّمِ فِي حَقِّ الْأُنْثَى غَيْرُ حَاصِلٍ فِي حَقِّ الذَّكَرِ فَظَهَرَ الْفَرْقُ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا التَّصْوِيرَ فَنَقُولُ: الْمُفَسِّرُونَ قَالُوا: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ هُوَ أَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ تَتَوَلَّدُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، فَالْفَرْثُ يَكُونُ فِي أَسْفَلِ الْكَرِشِ، وَالدَّمُ يَكُونُ فِي أَعْلَاهُ، وَاللَّبَنُ يَكُونُ فِي الْوَسَطِ، وَقَدْ دَلَلْنَا عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ عَلَى خِلَافِ الْحِسِّ وَالتَّجْرِبَةِ، وَلِأَنَّ الدَّمَ لَوْ كَانَ يَتَوَلَّدُ فِي أَعْلَى الْمَعِدَةِ وَالْكَرِشِ كَانَ يَجِبُ إِذَا قَاءَ أَنْ يَقِيءَ الدَّمَ وَذَلِكَ بَاطِلٌ قَطْعًا. وَأَمَّا نَحْنُ فَنَقُولُ: الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ هُوَ أَنَّ اللَّبَنَ إِنَّمَا يَتَوَلَّدُ مِنْ بَعْضِ أَجْزَاءِ الدَّمِ، وَالدَّمُ إِنَّمَا يَتَوَلَّدُ مِنَ الْأَجْزَاءِ اللَّطِيفَةِ الَّتِي فِي الْفَرْثِ، وَهُوَ الْأَشْيَاءُ الْمَأْكُولَةُ الْحَاصِلَةُ فِي الْكَرِشِ، وَهَذَا اللَّبَنُ مُتَوَلِّدٌ مِنَ الْأَجْزَاءِ الَّتِي كَانَتْ حَاصِلَةً فِيمَا بَيْنَ الْفَرْثِ أَوَّلًا، ثُمَّ كَانَتْ حَاصِلَةً فِيمَا بَيْنَ الدَّمِ ثَانِيًا، فَصَفَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ الْكَثِيفَةِ الْغَلِيظَةِ، وَخَلَقَ فِيهَا الصِّفَاتِ الَّتِي بِاعْتِبَارِهَا صَارَتْ لَبَنًا مُوَافِقًا لِبَدَنِ الطِّفْلِ، فَهَذَا مَا حَصَّلْنَاهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
المسألة الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ حُدُوثَ اللَّبَنِ فِي الثَّدْيِ وَاتِّصَافَهُ بِالصِّفَاتِ الَّتِي بِاعْتِبَارِهَا يَكُونُ مُوَافِقًا لِتَغْذِيَةِ الصَّبِيِّ مُشْتَمِلٌ عَلَى حِكَمٍ عَجِيبَةٍ وَأَسْرَارٍ بَدِيعَةٍ، يَشْهَدُ صَرِيحُ الْعَقْلِ بِأَنَّهَا لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِتَدْبِيرِ الْفَاعِلِ الْحَكِيمِ وَالْمُدَبِّرِ الرَّحِيمِ، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ فِي أَسْفَلِ الْمَعِدَةِ مَنْفَذًا يَخْرُجُ مِنْهُ ثِقَلُ الْغِذَاءِ، فَإِذَا تَنَاوَلَ الْإِنْسَانُ غِذَاءً أَوْ شَرْبَةً رَقِيقَةً انْطَبَقَ ذَلِكَ الْمَنْفَذُ انْطِبَاقًا كُلِّيًّا لَا يَخْرُجُ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ إِلَى أَنْ يَكْمُلَ انْهِضَامُهُ فِي الْمَعِدَةِ وَيَنْجَذِبُ مَا صَفَا مِنْهُ إِلَى الْكَبِدِ وَيَبْقَى الثِّقَلُ هُنَاكَ، فَحِينَئِذٍ يَنْفَتِحُ ذَلِكَ الْمَنْفَذُ وَيُتْرَكُ مِنْهُ ذَلِكَ الثِّقَلُ، وَهَذَا مِنَ الْعَجَائِبِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ حُصُولُهَا إِلَّا بِتَدْبِيرِ الْفَاعِلِ الْحَكِيمِ، لِأَنَّهُ مَتَّى كَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَى بَقَاءِ الْغِذَاءِ فِي الْمَعِدَةِ حَاصِلَةً انْطَبَقَ ذَلِكَ الْمَنْفَذُ، وَإِذَا حَصَلَتِ الْحَاجَةُ إِلَى خُرُوجِ ذَلِكَ الْجِسْمِ عَنِ الْمَعِدَةِ انْفَتَحَ، فَحُصُولُ الِانْطِبَاقِ تَارَةً وَالِانْفِتَاحُ أُخْرَى، بِحَسَبِ الْحَاجَةِ وَتَقْدِيرِ الْمَنْفَعَةِ، مِمَّا لَا يَتَأَتَّى إِلَّا بِتَقْدِيرِ الْفَاعِلِ الْحَكِيمِ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَوْدَعَ فِي الْكَبِدِ قُوَّةً تَجْذِبُ الْأَجْزَاءَ اللَّطِيفَةَ الْحَاصِلَةَ فِي ذَلِكَ الْمَأْكُولِ أَوِ الْمَشْرُوبِ، وَلَا تَجْذِبُ الْأَجْزَاءَ الْكَثِيفَةَ، وَخَلَقَ فِي الْأَمْعَاءِ قُوَّةً تَجْذِبُ تِلْكَ الْأَجْزَاءَ الْكَثِيفَةَ الَّتِي هِيَ الثِّقَلُ، وَلَا تَجْذِبُ الْأَجْزَاءَ اللَّطِيفَةَ الْبَتَّةَ. وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ لَاخْتَلَفَتْ مَصْلَحَةُ الْبَدَنِ وَلَفَسَدَ نِظَامُ هَذَا التَّرْكِيبِ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَوْدَعَ فِي الْكَبِدِ قُوَّةً هَاضِمَةً طَابِخَةً، حَتَّى أَنَّ تِلْكَ الْأَجْزَاءَ اللَّطِيفَةَ تَنْطَبِخُ فِي الْكَبِدِ وَتَنْقَلِبُ دَمًا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَوْدَعَ فِي الْمَرَارَةِ قُوَّةً جَاذِبَةً لِلصَّفْرَاءِ، وَفِي الطِّحَالِ قُوَّةً جَاذِبَةً لِلسَّوْدَاءِ، وَفِي الْكُلْيَةِ قُوَّةً جاذبة
أما قوله: سائِغاً لِلشَّارِبِينَ فَمَعْنَاهُ: جَارِيًا فِي حُلُوقِهِمْ لَذِيذًا هَنِيئًا. يُقَالُ: سَاغَ الشَّرَابُ فِي الْحَلْقِ وَأَسَاغَهُ صَاحِبُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ [إِبْرَاهِيمَ: ١٧].
المسألة الْخَامِسَةُ: قَالَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ: اعْتِبَارُ حُدُوثِ اللَّبَنِ كَمَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْمُخْتَارِ سُبْحَانَهُ، فَكَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى إِمْكَانِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا الْعُشْبَ الَّذِي يَأْكُلُهُ الْحَيَوَانُ إِنَّمَا يَتَوَلَّدُ مِنَ الْمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَخَالِقُ الْعَالَمِ دَبَّرَ تَدْبِيرًا، فَقَلَبَ ذَلِكَ الطِّينَ نَبَاتًا وَعُشْبًا، ثُمَّ إِذَا أَكَلَهُ الْحَيَوَانُ دَبَّرَ تَدْبِيرًا آخَرَ فَقَلَبَ ذَلِكَ الْعُشْبَ دَمًا، ثُمَّ دَبَّرَ تَدْبِيرًا آخَرَ فَقَلَبَ ذَلِكَ الدَّمَ لَبَنًا، ثُمَّ دَبَّرَ تَدْبِيرًا آخَرَ فَحَدَثَ مِنْ ذَلِكَ اللَّبَنِ الدُّهْنُ وَالْجُبْنُ، فَهَذَا يدل على أنه تعالى قادر على أن يُقَلِّبَ هَذِهِ الْأَجْسَامَ مِنْ صِفَةٍ إِلَى صِفَةٍ، وَمِنْ حَالَةٍ إِلَى حَالَةٍ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَمْتَنِعْ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَقْلِبَ أَجْزَاءَ أَبْدَانِ الْأَمْوَاتِ إِلَى صِفَةِ الْحَيَاةِ وَالْعَقْلِ كَمَا كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ، فَهَذَا الِاعْتِبَارُ يَدُلُّ مِنْ هَذَا الوجه عَلَى أَنَّ الْبَعْثَ وَالْقِيَامَةِ أَمْرٌ مُمْكِنٌ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ وَاللَّهُ أعلم.
المسألة الْأُولَى: فَإِنْ قِيلَ: بِمَ تَعَلَّقَ قَوْلُهُ: وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ.
قُلْنَا: بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: وَنُسْقِيكُمْ مِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ أَيْ مِنْ عَصِيرِهَا وَحُذِفَ لِدَلَالَةِ نُسْقِيكُمْ قَبْلَهُ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً بَيَانٌ وَكَشْفٌ عَنْ كُنْهِ الْإِسْقَاءِ.
المسألة الثَّانِيَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْأَعْنابِ عَطْفٌ عَلَى الثَّمَرَاتِ لَا عَلَى النَّخِيلِ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ: وَمِنْ ثَمَرَاتِ الْأَعْنَابِ، وَالْعِنَبُ نَفْسُهُ ثَمَرَةٌ وَلَيْسَتْ لَهُ ثَمَرَةٌ أُخْرَى.
المسألة الثَّالِثَةُ: فِي تَفْسِيرِ السَّكَرِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: السَّكَرُ الْخَمْرُ سُمِّيَتْ بِالْمَصْدَرِ مِنْ سَكِرَ سَكَرًا وَسَكْرًا نَحْوُ: رَشِدَ رَشَدًا وَرَشْدًا، وَأَمَّا الرِّزْقُ الْحَسَنُ فَسَائِرُ مَا يُتَّخَذُ مِنَ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ كَالرُّبِّ وَالْخَلِّ وَالدِّبْسِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ.
فَإِنْ قِيلَ: الْخَمْرُ مُحَرَّمَةٌ فَكَيْفَ ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي مَعْرِضِ الْإِنْعَامِ؟
أَجَابُوا عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ، وَتَحْرِيمُ الْخَمْرِ نَزَلَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، فَكَانَ نُزُولُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي كَانَتِ الْخَمْرُ فِيهِ غَيْرَ مُحَرَّمَةٍ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَى الْتِزَامِ هَذَا النَّسْخِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مَا في هذه الأشياء من المنافع، وَخَاطَبَ الْمُشْرِكِينَ بِهَا، وَالْخَمْرُ مِنْ أَشْرِبَتِهِمْ فَهِيَ مَنْفَعَةٌ فِي حَقِّهِمْ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى نَبَّهَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَيْضًا عَلَى تَحْرِيمِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَيَّزَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الرِّزْقِ الْحَسَنِ فِي الذِّكْرِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ السَّكَرُ رِزْقًا حَسَنًا، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ حَسَنٌ بِحَسَبِ الشَّهْوَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ الرُّجُوعُ عَنْ كَوْنِهِ حَسَنًا بِحَسَبِ الشَّرِيعَةِ، وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ إِذَا كَانَتْ مُحَرَّمَةً.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ السَّكَرَ هُوَ النَّبِيذُ، وَهُوَ عَصِيرُ الْعِنَبِ وَالزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ إِذَا طُبِخَ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ ثُمَّ يُتْرَكُ حَتَّى يَشْتَدَّ، وَهُوَ حَلَالٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إِلَى حَدِّ السُّكْرِ، وَيَحْتَجُّ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّكَرَ حَلَالٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرُهُ فِي مَعْرِضِ الْإِنْعَامِ وَالْمِنَّةِ، وَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ الْخَمْرَ حَرَامٌ
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْخَمْرُ حَرَامٌ لِعَيْنِهَا»
وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ السَّكَرُ شَيْئًا غَيْرَ الْخَمْرِ، وَكُلُّ مَنْ أَثْبَتَ هَذِهِ الْمُغَايَرَةَ قَالَ إِنَّهُ النَّبِيذُ الْمَطْبُوخُ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ السَّكَرَ هُوَ الطَّعَامُ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
جَعَلْتَ أَعْرَاضِ الْكِرَامِ سَكَرَا
أَيْ جَعَلْتَ ذَمَّهُمْ طَعَامًا لَكَ، قَالَ الزَّجَّاجُ: هَذَا بِالْخَمْرِ أَشْبَهُ مِنْهُ بِالطَّعَامِ، وَالْمَعْنَى أَنَّكَ جَعَلْتَ تَتَخَمَّرُ بِأَغْرَاضِ الْكِرَامِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ جَعَلَ شَغَفَهُ بِغَيْبَةِ النَّاسِ وَتَمْزِيقِ أَعْرَاضِهِمْ جَارِيًا مَجْرَى شُرْبِ الْخَمْرِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الْوُجُوهَ الَّتِي هِيَ دَلَائِلُ مِنْ وَجْهٍ، وَتَعْدِيدٌ لِلنِّعَمِ الْعَظِيمَةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، قَالَ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ كَانَ عَاقِلًا، عَلِمَ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ هَذِهِ الْأَحْوَالَ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا إِلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَيَحْتَجُّ بِحُصُولِهَا عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ الْقَادِرِ الْحَكِيمِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٦٨ الى ٦٩]
وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٨) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٦٩)
المسألة الْأُولَى: قَوْلُهُ: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ يُقَالُ وَحَى وَأَوْحَى، وَهُوَ الْإِلْهَامُ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْإِلْهَامِ أَنَّهُ تَعَالَى قَرَّرَ فِي أَنْفُسِهَا هَذِهِ الْأَعْمَالَ الْعَجِيبَةَ الَّتِي تَعْجِزُ عَنْهَا الْعُقَلَاءُ مِنَ الْبَشَرِ، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا تَبْنِي الْبُيُوتَ الْمُسَدَّسَةَ مِنْ أَضْلَاعٍ مُتَسَاوِيَةٍ، لَا يَزِيدُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ بِمُجَرَّدِ طِبَاعِهَا، وَالْعُقَلَاءُ مِنَ الْبَشَرِ لَا يُمْكِنُهُمْ بِنَاءُ مِثْلِ تِلْكَ الْبُيُوتِ إِلَّا بِآلَاتٍ وَأَدَوَاتٍ مِثْلَ الْمِسْطَرِ وَالْفِرْجَارِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ ثَبَتَ فِي الْهَنْدَسَةِ أَنَّ تِلْكَ الْبُيُوتَ لَوْ كَانَتْ مُشَكَّلَةً بِأَشْكَالٍ سِوَى الْمُسَدَّسَاتِ فَإِنَّهُ يَبْقَى بِالضَّرُورَةِ فِيمَا بَيْنَ تِلْكَ الْبُيُوتِ فُرَجٌ خَالِيَةٌ ضَائِعَةٌ، أَمَّا إِذَا كَانَتْ تِلْكَ الْبُيُوتُ مُسَدَّسَةً فَإِنَّهُ لَا يَبْقَى فِيمَا بَيْنَهَا فُرَجٌ ضَائِعَةٌ، فَإِهْدَاءُ ذَلِكَ الْحَيَوَانِ الضَّعِيفِ إِلَى هَذِهِ الْحِكْمَةِ الْخَفِيَّةِ وَالدَّقِيقَةِ اللَّطِيفَةِ/ مِنَ الْأَعَاجِيبِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ النَّحْلَ يَحْصُلُ فِيمَا بَيْنَهَا وَاحِدٌ يَكُونُ كَالرَّئِيسِ لِلْبَقِيَّةِ، وَذَلِكَ الْوَاحِدُ يَكُونُ أَعْظَمَ جُثَّةً مِنَ الْبَاقِي، وَيَكُونُ نَافِذَ الحكم عَلَى تِلْكَ الْبَقِيَّةِ، وَهُمْ يَخْدِمُونَهُ وَيَحْمِلُونَهُ عِنْدَ الطَّيَرَانِ، وَذَلِكَ أَيْضًا مِنَ الْأَعَاجِيبِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهَا إِذَا نَفَرَتْ مِنْ وَكْرِهَا ذَهَبَتْ مَعَ الْجَمْعِيَّةِ إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ، فَإِذَا أَرَادُوا عَوْدَهَا إِلَى وَكْرِهَا ضَرَبُوا الطُّنْبُورَ وَالْمَلَاهِي وَآلَاتِ الْمُوسِيقَى، وَبِوَاسِطَةِ تِلْكَ الْأَلْحَانِ يَقْدِرُونَ عَلَى رَدِّهَا إِلَى وَكْرِهَا، وَهَذَا أَيْضًا حَالَةٌ عَجِيبَةٌ، فَلَمَّا امْتَازَ هَذَا الْحَيَوَانُ بِهَذِهِ الْخَوَاصِّ الْعَجِيبَةِ الدَّالَّةِ عَلَى مَزِيدِ الذَّكَاءِ وَالْكِيَاسَةِ، وَكَانَ حُصُولُ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ مِنَ الْكِيَاسَةِ لَيْسَ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْإِلْهَامِ وَهِيَ حَالَةٌ شَبِيهَةٌ بِالْوَحْيِ، لَا جَرَمَ قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّهَا: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَحْيَ قَدْ وَرَدَ فِي حَقِّ الْأَنْبِيَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً [الشُّورَى: ٥١] وَفِي حَقِّ الْأَوْلِيَاءِ أَيْضًا قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ [الْمَائِدَةِ: ١١١] وَبِمَعْنَى الْإِلْهَامِ فِي حَقِّ الْبَشَرِ قَالَ تَعَالَى: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى [الْقَصَصِ: ٧] وَفِي حَقِّ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ مَعْنًى خَاصٌّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
المسألة الثَّانِيَةُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ سُمِّيَ هَذَا الْحَيَوَانُ نَحْلًا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَحَلَ النَّاسَ الْعَسَلَ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا، وَقَالَ غَيْرُهُ النَّحْلُ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ فِي لُغَةِ الْحِجَازِ، وَلِذَلِكَ أَنَّثَهَا اللَّهُ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ كَلُّ جَمْعٍ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَاحِدِهِ إِلَّا الْهَاءُ.
ثم قال تَعَالَى: أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : أَنِ اتَّخِذِي هِيَ «أَنِ» الْمُفَسِّرَةُ، لِأَنَّ الْإِيحَاءَ فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ، وَقُرِئَ: بِيُوتًا بِكَسْرِ الْبَاءِ وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ أَيْ يَبْنُونَ وَيَسْقُفُونَ، وَفِيهِ لُغَتَانِ قُرِئَ بِهِمَا، ضَمُّ الرَّاءِ وَكَسْرُهَا مِثْلُ يَعْكُفُونَ وَيَعْكِفُونَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ النَّحْلَ نَوْعَانِ:
وَالنوع الثَّانِي: الَّتِي تَسْكُنُ بُيُوتَ النَّاسِ وَتَكُونُ فِي تَعَهُّدَاتِ النَّاسِ، فَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ. وَالثَّانِي: هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَمِمَّا يَعْرِشُونَ وَهُوَ خَلَايَا النَّحْلِ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا مَعْنَى «مِنْ» فِي قَوْلِهِ: أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ وَهَلَّا قِيلَ فِي الْجِبَالِ وَفِي الشَّجَرِ؟
قُلْنَا: أُرِيدَ بِهِ مَعْنَى الْبَعْضِيَّةِ، وَأَنْ لَا تَبْنِيَ بُيُوتَهَا فِي كُلِّ جَبَلٍ وَشَجَرٍ، بَلْ فِي مَسَاكِنَ تُوَافِقُ مَصَالِحَهَا وَتَلِيقُ بِهَا.
المسألة الثَّانِيَةُ: ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً أَمْرٌ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ لِهَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ عُقُولٌ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَتَوَّجَهَ عَلَيْهَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَمْرٌ وَنَهْيٌ. وَقَالَ آخَرُونَ:
لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ فِيهَا غَرَائِزَ وَطَبَائِعَ تُوجِبُ هَذِهِ الْأَحْوَالَ، وَالْكَلَامُ الْمُسْتَقْصَى فِي هَذِهِ المسألة مذكور في تفسير قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ [النَّمْلِ: ١٨].
ثم قال تَعَالَى: ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ لَفْظَةُ «مِنْ» هاهنا لِلتَّبْعِيضِ أَوْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَرَأَيْتُ فِي «كُتُبِ الطِّبِّ» أَنَّهُ تَعَالَى دَبَّرَ هَذَا الْعَالَمَ عَلَى وَجْهٍ، وَهُوَ أَنَّهُ يَحْدُثُ فِي الْهَوَاءِ طَلٌّ لَطِيفٌ فِي اللَّيَالِي وَيَقَعُ ذَلِكَ الطَّلُّ عَلَى أَوْرَاقِ الْأَشْجَارِ، فَقَدْ تَكُونُ تِلْكَ الْأَجْزَاءُ الطَّلِّيَّةُ لَطِيفَةً صَغِيرَةً مُتَفَرِّقَةً عَلَى الْأَوْرَاقِ وَالْأَزْهَارِ، وَقَدْ تَكُونُ كَثِيرَةً بِحَيْثُ يَجْتَمِعُ مِنْهَا أَجْزَاءٌ مَحْسُوسَةٌ.
أَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: فَهُوَ مِثْلُ التَّرَنْجَبِينِ فَإِنَّهُ طَلٌّ يَنْزِلُ مِنَ الْهَوَاءِ وَيَجْتَمِعُ عَلَى أَطْرَافِ الطَّرْفَاءِ فِي بَعْضِ الْبُلْدَانِ وَذَلِكَ مَحْسُوسٌ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: فَهُوَ الَّذِي أَلْهَمَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا النَّحْلَ حَتَّى أَنَّهَا تَلْتَقِطُ تِلْكَ الذَّرَّاتِ مِنَ الْأَزْهَارِ وَأَوْرَاقِ الْأَشْجَارِ بِأَفْوَاهِهَا وَتَأْكُلُهَا وَتَغْتَذِي بِهَا، فَإِذَا شَبِعَتِ الْتَقَطَتْ بِأَفْوَاهِهَا مَرَّةً أُخْرَى شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ وَذَهَبَتْ بِهَا إِلَى بُيُوتِهَا وَوَضَعَتْهَا هُنَاكَ، لِأَنَّهَا تُحَاوِلُ أَنْ تَدَّخِرَ لِنَفْسِهَا غِذَاءَهَا، فَإِذَا اجْتَمَعَ فِي بُيُوتِهَا مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ الطَّلِّيَّةِ شَيْءٌ كَثِيرٌ فَذَاكَ هُوَ الْعَسَلُ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ النَّحْلَ تَأْكُلُ مِنَ الْأَزْهَارِ الطَّيِّبَةِ وَالْأَوْرَاقِ الْمُعَطَّرَةِ أَشْيَاءَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى يَقْلِبُ تِلْكَ الْأَجْسَامَ فِي دَاخِلِ بَدَنِهَا عَسَلًا، ثُمَّ إِنَّهَا تَقِيءُ مَرَّةً أُخْرَى فَذَاكَ هُوَ الْعَسَلُ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَقْرَبُ إِلَى الْعَقْلِ وَأَشَدُّ مُنَاسَبَةً إِلَى الِاسْتِقْرَاءِ، فَإِنَّ طَبِيعَةَ التَّرَنْجَبِينِ قَرِيبَةٌ مِنَ الْعَسَلِ فِي الطَّعْمِ وَالشَّكْلِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ طَلٌّ يَحْدُثُ فِي الْهَوَاءِ وَيَقَعُ عَلَى أَطْرَافِ الْأَشْجَارِ وَالْأَزْهَارِ فَكَذَا هاهنا. وَأَيْضًا فَنَحْنُ نُشَاهِدُ أَنَّ هَذَا النَّحْلَ إِنَّمَا يَتَغَذَّى بِالْعَسَلِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّا إِذَا اسْتَخْرَجْنَا الْعَسَلَ مِنْ بُيُوتِ النَّحْلِ نَتْرُكُ لَهَا بَقِيَّةً مِنْ ذَلِكَ لِأَجْلِ أَنْ تَغْتَذِيَ بِهَا فَعَلِمْنَا أَنَّهَا إِنَّمَا تَغْتَذِي بِالْعَسَلِ وَأَنَّهَا إِنَّمَا تَقَعُ عَلَى الْأَشْجَارِ وَالْأَزْهَارِ لِأَنَّهَا تَغْتَذِي بِتِلْكَ الْأَجْزَاءِ الطَّلِّيَّةِ الْعَسَلِيَّةِ الْوَاقِعَةِ مِنَ الْهَوَاءِ عَلَيْهَا.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كلمة (من) هاهنا تَكُونُ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَلَا تَكُونُ لِلتَّبْعِيضِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ.
ثم قال تَعَالَى: فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ وَالْمَعْنَى: ثُمَّ كُلِي كُلَّ ثَمَرَةٍ تَشْتَهِينَهَا فَإِذَا أَكَلْتِهَا فَاسْلُكِي سُبُلَ
ثم قال تَعَالَى: يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها وَفِيهِ بَحْثَانِ:
البحث الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا رُجُوعٌ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ أَنْ يَحْتَجَّ الْإِنْسَانُ الْمُكَلَّفُ بِهِ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَحِكْمَتِهِ وَحُسْنِ تَدْبِيرِهِ لِأَحْوَالِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَاطَبَ النَّحْلَ بِمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ خَاطَبَ الْإِنْسَانَ وَقَالَ: إِنَّا أَلْهَمْنَا هَذَا النَّحْلَ لِهَذِهِ الْعَجَائِبِ، لِأَجْلِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ.
البحث الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: الْعَسَلُ عِبَارَةٌ عَنْ أَجْزَاءٍ طَلِّيَّةٍ تَحْدُثُ فِي الْهَوَاءِ وَتَقَعُ عَلَى أَطْرَافِ الْأَشْجَارِ وَعَلَى الْأَوْرَاقِ وَالْأَزْهَارِ، فَيَلْقُطُهَا الزُّنْبُورُ بِفَمِهِ، فَإِذَا ذَهَبْنَا إِلَى هَذَا الوجه كَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها أَيْ مِنْ أَفْوَاهِهَا، وَكُلُّ تَجْوِيفٍ فِي دَاخِلِ الْبَدَنِ فَإِنَّهُ يُسَمَّى بَطْنًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: بُطُونُ الدِّمَاغِ وَعَنَوْا أَنَّهَا تَجَاوِيفُ الدِّمَاغِ، وكذا هاهنا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا أَيْ مِنْ أَفْوَاهِهَا، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَهُوَ أَنَّ النَّحْلَةَ تَأْكُلُ الْأَوْرَاقَ وَالثَّمَرَاتِ ثُمَّ تَقِيءُ فَذَلِكَ هُوَ الْعَسَلُ فَالْكَلَامُ ظَاهِرٌ.
ثم قال تَعَالَى: شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ الْعَسَلَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّلَاثَةِ:
فَالصِّفَةُ الْأُولَى: كَوْنُهُ شَرَابًا وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ تَارَةً يشرب وحده وتارة يتخذ منه الْأَشْرِبَةِ.
وَالصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ وَالْمَعْنَى: أَنَّ مِنْهُ أَحْمَرَ وَأَبْيَضَ وَأَصْفَرَ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ [فَاطِرٍ: ٢٧] وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ: إِبْطَالُ الْقَوْلِ بِالطَّبْعِ، لِأَنَّ هَذَا الْجِسْمَ مَعَ كَوْنِهِ مُتَسَاوِيَ الطَّبِيعَةِ لَمَّا حَدَثَ عَلَى أَلْوَانٍ مُخْتَلِفَةٍ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ حُدُوثَ تِلْكَ الْأَلْوَانِ بِتَدْبِيرِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، لَا لِأَجْلِ إِيجَادِ الطَّبِيعَةِ.
وَالصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ وَفِيهِ قَوْلَانِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ صِفَةٌ لِلْعَسَلِ.
فَإِنْ قَالُوا: كَيْفَ يَكُونُ شِفَاءً لِلنَّاسِ وهو يضر بالصفراء ويهيج المرار؟
قُلْنَا: إِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ إِنَّهُ شِفَاءُ لِكُلِّ النَّاسِ وَلِكُلِّ دَاءٍ وَفِي كُلِّ حَالٍ، بل لما كان شفاء للبعض/ ومن بَعْضِ الْأَدْوَاءِ صَلُحَ بِأَنْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ فِيهِ شِفَاءٌ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ شِفَاءٌ فِي الْجُمْلَةِ أَنَّهُ قَلَّ مَعْجُونٌ مِنَ الْمَعَاجِينِ إِلَّا وَتَمَامُهُ وَكَمَالُهُ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِالْعَجْنِ بِالْعَسَلِ، وَأَيْضًا فَالْأَشْرِبَةُ الْمُتَّخَذَةُ مِنْهُ فِي الْأَمْرَاضِ الْبَلْغَمِيَّةِ عَظِيمَةُ النَّفْعِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ أَنَّ الْمُرَادَ: أَنَّ الْقُرْآنَ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَقِصَّةُ تُوَلُّدِ الْعَسَلِ مِنَ النَّحْلِ تَمَّتْ عِنْدَ قَوْلِهِ: يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ ثُمَّ ابْتَدَأَ وَقَالَ: فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ أي في
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ ضَعِيفٌ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ يَجِبُ عَوْدُهُ إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورَاتِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا قَوْلُهُ: شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ وَأَمَّا الحكم بِعَوْدِ هَذَا الضَّمِيرِ إِلَى الْقُرْآنِ مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِيمَا سَبَقَ، فَهُوَ غَيْرُ مُنَاسِبٍ. وَالثَّانِي: مَا
رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: أَنَّهُ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: إِنَّ أَخِي يَشْتَكِي بَطْنَهُ فَقَالَ: «اسْقِهِ عَسَلًا» فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: قَدْ سَقَيْتُهُ فَلَمْ يُغْنِ عَنْهُ شَيْئًا، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «اذْهَبْ وَاسْقِهِ عَسَلًا» فَذَهَبَ فَسَقَاهُ، فَكَأَنَّمَا نُشِطَ مِنْ عِقَالٍ، فَقَالَ: «صَدَقَ اللَّهُ وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ»
وَحَمَلُوا
قَوْلَهُ: «صَدَقَ اللَّهُ وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ»
عَلَى قَوْلِهِ: فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ وَذَلِكَ إِنَّمَا يَصِحُّ لَوْ كَانَ هَذَا صِفَةً لِلْعَسَلِ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: مَا الْمُرَادُ
بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «صَدَقَ اللَّهُ وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ».
قُلْنَا: لَعَلَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلِمَ بِنُورِ الْوَحْيِ أَنَّ ذَلِكَ الْعَسَلَ سَيَظْهَرُ نَفْعُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَمَّا لَمْ يَظْهَرْ نَفْعُهُ فِي الْحَالِ مَعَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّهُ سَيَظْهَرُ نَفْعُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، كَانَ هَذَا جَارِيًا مَجْرَى الْكَذِبِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ أَطْلَقَ عَلَيْهِ هَذَا اللَّفْظَ.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَاعْلَمْ أَنَّ تَقْرِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وُجُوهٍ:
الْأَوَّلُ: اخْتِصَاصُ النَّحْلِ بِتِلْكَ الْعُلُومِ الدَّقِيقَةِ وَالْمَعَارِفِ الْغَامِضَةِ مِثْلُ بِنَاءِ الْبُيُوتِ الْمُسَدَّسَةِ وَسَائِرِ الْأَحْوَالِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا. وَالثَّانِي: اهْتِدَاؤُهَا إِلَى جَمِيعِ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ الْعَسَلِيَّةِ مِنْ أَطْرَافِ الْأَشْجَارِ وَالْأَوْرَاقِ. وَالثَّالِثُ: خَلْقُ اللَّهِ تَعَالَى الْأَجْزَاءَ النَّافِعَةَ فِي جَوِّ الْهَوَاءِ، ثُمَّ إِلْقَاؤُهَا عَلَى أَطْرَافِ الْأَشْجَارِ وَالْأَوْرَاقِ، ثُمَّ إِلْهَامُ النَّحْلِ إِلَى جَمْعِهَا بَعْدَ تَفْرِيقِهَا وَكُلُّ ذَلِكَ أُمُورٌ عَجِيبَةٌ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ بَنَى تَرْتِيبَهُ عَلَى رِعَايَةِ الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[سورة النحل (١٦) : آية ٧٠]
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٧٠)
المسألة الْأُولَى: لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى بَعْضَ عَجَائِبِ أَحْوَالِ الْحَيَوَانَاتِ، ذَكَرَ بَعْدَهُ بَعْضَ عَجَائِبِ أَحْوَالِ النَّاسِ، فَمِنْهَا مَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى مَرَاتِبِ عُمُرِ الْإِنْسَانِ، وَالْعُقَلَاءُ ضَبَطُوهَا فِي أَرْبَعِ مَرَاتِبَ: أَوَّلُهَا: سِنُّ النَّشْوِ وَالنَّمَاءِ. وَثَانِيهَا: سِنُّ الْوُقُوفِ وَهُوَ سِنُّ الشَّبَابِ. وَثَالِثُهَا: سِنُّ الِانْحِطَاطِ الْقَلِيلِ وَهُوَ سِنُّ الْكُهُولَةِ.
وَرَابِعُهَا: سِنُّ الِانْحِطَاطِ الْكَبِيرِ وَهُوَ سِنُّ الشَّيْخُوخَةِ. فَاحْتَجَّ تَعَالَى بِانْتِقَالِ الْحَيَوَانِ مِنْ بَعْضِ هَذِهِ الْمَرَاتِبِ إِلَى بَعْضٍ، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ النَّاقِلَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَالْأَطِبَّاءُ الطَّبَائِعِيُّونَ قَالُوا: الْمُقْتَضِي لِهَذَا الِانْتِقَالِ هُوَ طَبِيعَةُ الْإِنْسَانِ، وَأَنَا أَحْكِي كَلَامَهُمْ عَلَى الوجه الْمُلَخَّصِ وَأُبَيِّنُ ضَعْفَهُ وَفَسَادَهُ، وَحِينَئِذٍ يَبْقَى أَنَّ ذَلِكَ النَّاقِلَ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَصِحُّ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ مَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ. قَالَ الطَّبَائِعِيُّونَ: إِنَّ بَدَنَ الْإِنْسَانَ مَخْلُوقٌ مِنَ الْمَنِيِّ وَمِنْ دَمِ الطَّمْثِ، وَالْمَنِيُّ وَالدَّمُ جَوْهَرَانِ حَارَّانِ رَطْبَانِ، وَالْحَرَارَةُ إِذَا عَمِلَتْ فِي الْجِسْمِ الرَّطْبِ قَلَّلَتْ رُطُوبَتَهُ وَأَفَادَتْهُ نَوْعَ يُبْسٍ، وَهَذَا مُشَاهَدٌ مَعْلُومٌ، قَالُوا: فَلَا يَزَالُ مَا فِي هَذَيْنِ الْجَوْهَرَيْنِ مِنْ قُوَّةِ الْحَرَارَةِ يُقَلِّلُ مَا فِيهِ مِنَ الرُّطُوبَةِ حَتَّى تَتَصَلَّبَ الْأَعْضَاءُ وَيَظْهَرَ فِيهِ الِانْعِقَادُ، وَيَحْدُثَ الْعَظْمُ وَالْغُضْرُوفُ وَالْعَصَبُ وَالْوَتَرُ والرباط
الْحَالَةُ الْأُولَى: أَنْ تَكُونَ رُطُوبَةُ الْبَدَنِ زَائِدَةً عَلَى حَرَارَتِهِ، وَحِينَئِذٍ تَكُونُ الْأَعْضَاءُ قَابِلَةً لِلتَّمَدُّدِ وَالِازْدِيَادِ وَالنَّمَاءِ، وَذَلِكَ هُوَ سِنُّ النَّشْوِ وَالنَّمَاءِ وَنِهَايَتُهُ إِلَى ثَلَاثِينَ سَنَةً أَوْ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً.
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَصِيرَ رُطُوبَاتُ الْبَدَنِ أَقَلَّ مَا كَانَتْ فَتَكُونُ وَافِيَةً بِحِفْظِ الْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيَّةِ الْأَصْلِيَّةِ إِلَّا أَنَّهَا لَا تَكُونُ زَائِدَةً عَلَى هَذَا الْقَدْرِ، وَهَذَا هُوَ سِنُّ الْوُقُوفِ وَسِنُّ الشَّبَابِ وَغَايَتُهُ خَمْسُ سِنِينَ، وَعِنْدَ تَمَامِهِ يُتَمُّ الْأَرْبَعُونَ.
وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تَقِلَّ الرُّطُوبَاتُ وَتَصِيرُ بِحَيْثُ لَا تَكُونُ وَافِيَةً بِحِفْظِ الْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيَّةِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَظْهَرُ النُّقْصَانُ، ثُمَّ هَذَا النُّقْصَانُ قَدْ يَكُونُ خَفِيًّا وَهُوَ سِنُّ الْكُهُولَةِ وَتَمَامُهُ إِلَى سِتِّينَ سَنَةً وَقَدْ يَكُونُ ظَاهِرًا وَهُوَ سِنُّ الشَّيْخُوخَةِ وَتَمَامُهُ إِلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً فَهَذَا هُوَ الَّذِي حَصَّلَهُ الْأَطِبَّاءُ فِي هَذَا الْبَابِ، وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ ضَعِيفٌ وَيَدُلُّ عَلَى ضِعْفِهِ وُجُوهٌ:
الوجه الْأَوَّلُ: أَنَّا نَقُولُ إِنَّ فِي أَوَّلِ مَا كَانَ الْمَنِيُّ مَنِيًّا وَكَانَ الدَّمُ دَمًا كَانَتِ الرُّطُوبَاتُ غَالِبَةً وَكَانَتِ الْحَرَارَةُ الْغَرِيزِيَّةُ مَغْمُورَةً وَكَانَتْ ضَعِيفَةً بِهَذَا السَّبَبِ، ثُمَّ إِنَّهَا مَعَ ضَعْفِهَا قَوِيَتْ عَلَى تَحْلِيلِ أَكْثَرِ تِلْكَ الرُّطُوبَاتِ وَأَبَانَتْهَا مِنْ حَدِّ الدَّمَوِيَّةِ وَالْمَنَوِيَّةِ إِلَى أن صارت عظما وغضروفا وعصبا ورباطا، وعند ما تَوَلَّدَتِ الْأَعْضَاءُ وَكَمُلَ الْبَدَنُ قَلَّتِ الرُّطُوبَاتُ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ لِلْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيَّةِ قُوَّةٌ أَزَيْدُ مِمَّا كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَحْلِيلُ الرُّطُوبَاتِ بَعْدَ تَوَلُّدِ الْبَدَنِ وَكَمَالِهِ أَزْيَدَ مِنْ تَحَلُّلِهَا قَبْلَ تَوَلُّدِ الْبَدَنِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، لِأَنَّ قَبْلَ تَوَلُّدِ الْبَدَنِ انْتَقَلَ جِسْمُ الْمَنِيِّ وَالدَّمِ إِلَى أَنْ صَارَ عَظْمًا وَعَصَبًا، وَأَمَّا بَعْدَ تَوَلُّدِ الْبَدَنِ فَلَمْ يَحْصُلْ مِثْلُ هَذَا الِانْتِقَالِ وَلَا عُشْرُ عُشْرِهِ فَلَوْ كَانَ تَوَلُّدُ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ بِسَبَبِ تَأْثِيرِ الْحَرَارَةِ فِي الرُّطُوبَةِ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَحَلُّلُ الرُّطُوبَاتِ بَعْدَ كَمَالِ الْبَدَنِ أَكْثَرَ مِنْ تَحَلُّلِهَا قَبْلَ تَكَوُّنِ الْبَدَنِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ تَوَلُّدَ الْبَدَنِ إِنَّمَا كَانَ بِتَدْبِيرِ قَادِرٍ حَكِيمٍ يُدَبِّرُ أَبْدَانَ الْحَيَوَانَاتِ عَلَى وَفْقِ مَصَالِحِهَا، وَأَنَّهُ مَا كَانَ تَوَلُّدُ الْبَدَنِ لِأَجْلِ مَا قَالُوهُ مِنْ تَأْثِيرِ الْحَرَارَةِ فِي الرُّطُوبَةِ.
وَالوجه الثَّانِي: فِي إِبْطَالِ هَذَا الْكَلَامِ أَنْ نَقُولَ: إِنَّ الْحَرَارَةَ الْغَرِيزِيَّةَ الْحَاصِلَةَ فِي بَدَنِ الْإِنْسَانِ الْكَامِلِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ هِيَ عَيْنَ مَا كَانَ حَاصِلًا فِي جَوْهَرِ النُّطْفَةِ أَوْ صَارَتْ أَزْيَدَ مِمَّا كَانَتْ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْحَارَّ الْغَرِيزِيَّ الْحَاصِلَ فِي جَوْهَرِ النُّطْفَةِ كَانَ بِمِقْدَارِ جِرْمِ النُّطْفَةِ وَلَا شَكَّ أَنَّ جِرْمَ النُّطْفَةِ كَانَ قَلِيلًا صَغِيرًا، فَهَذَا الْبَدَنُ بَعْدَ كِبَرِهِ لَوْ لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ مِنَ الْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيَّةِ إِلَّا ذَلِكَ الْقَدْرُ كَانَ فِي غَايَةِ الْقِلَّةِ، وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ فِي هَذَا الْبَدَنِ أَثَرٌ أَصْلًا، وَأَمَّا الثَّانِي: فَفِيهِ تَسْلِيمٌ أَنَّ الْحَرَارَةَ الْغَرِيزِيَّةَ تَتَزَايَدُ بِحَسَبِ تَزَايُدِ الْجُثَّةِ وَالْبَدَنِ، وَإِذَا تَزَايَدْتِ الْحَرَارَةُ الْغَرِيزِيَّةُ سَاعَةً فَسَاعَةً، وَثَبَتَ أَنَّ تَزَايُدَهَا يُوجِبُ تَزَايُدَ الْقُوَّةِ وَالصِّحَّةِ سَاعَةً فَسَاعَةً، فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى الْبَدَنُ الْحَيَوَانِيُّ أَبَدًا فِي التَّزَايُدِ وَالتَّكَامُلِ، وَحَيْثُ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ ازْدِيَادَ حَالِ الْبَدَنِ الْحَيَوَانِيِّ وَانْتِقَاصَهُ لَيْسَ بِحَسَبِ الطَّبِيعَةِ، بَلْ بِسَبَبِ تَدْبِيرِ الفاعل المختار.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَقَدْ صَحَّ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ صِدْقُ قَوْلِهِ: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ خَالِقَ أَبْدَانِ النَّاسِ وَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ لَيْسَ هُوَ الطَّبَائِعَ بَلْ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَقَوْلُهُ: ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ السَّبَبَ الَّذِي ذَكَرُوهُ فِي صَيْرُورَةِ الْمَوْتِ فَاسِدٌ بَاطِلٌ، وَأَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَيْهِ الْقَوْلُ بِالدَّوْرِ، وَلَمَّا بَطَلَ ذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّ الْحَيَاةَ وَالْمَوْتَ إِنَّمَا حَصَلَا بِتَخْلِيقِ اللَّهِ، وَبِتَقْدِيرِهِ، وَقَوْلُهُ: وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ/ الْعُمُرِ قَدْ بَيَّنَّا بِالدَّلِيلِ أَنَّ الطَّبَائِعَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عِلَّةً لِانْتِقَالِ الْإِنْسَانِ مِنَ الْكَمَالِ إِلَى النُّقْصَانِ وَمِنَ الْقُوَّةِ إِلَى الضَّعْفِ فَلَزِمَ الْقَطْعُ بِأَنَّ انْتِقَالَ الْإِنْسَانِ مِنَ الشَّبَابِ إِلَى الشَّيْخُوخَةِ، وَمِنَ الصِّحَّةِ إِلَى الْهَرَمِ، وَمِنَ الْعَقْلِ الْكَامِلِ إِلَى أَنْ صَارَ خَرِفًا غَافِلًا لَيْسَ بِمُقْتَضَى الطَّبِيعَةِ بَلْ بِفِعْلِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، وَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا ظَهَرَ أَنَّ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُ الْقُرْآنِ قَدْ ثَبَتَ صِحَّتُهُ بِقَاطِعِ الْقُرْآنِ.
ثم قال تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ وَهَذَا كَالْأَصْلِ الَّذِي عَلَيْهِ تَفْرِيعُ كُلِّ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الطَّبِيعَةَ جَاهِلَةٌ لَا تُمَيِّزُ بَيْنَ وَقْتِ الْمَصْلَحَةِ وَوَقْتِ الْمَفْسَدَةِ، فَهَذِهِ الِانْفِعَالَاتُ فِي هَذَا الْإِنْسَانِ لَا يُمْكِنُ إِسْنَادُهَا إِلَيْهَا. أَمَّا إِلَهُ الْعَالَمِ وَمُدَبِّرُهُ وَخَالِقُهُ، فَهُوَ الْكَامِلُ فِي الْعِلْمِ، الْكَامِلُ فِي الْقُدْرَةِ، فَلِأَجْلِ كَمَالِ عِلْمِهِ يَعْلَمُ مَقَادِيرَ المصالح
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَفْسِيرِ أَلْفَاظِ الْآيَةِ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَلَمْ تَكُونُوا شَيْئًا ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ عِنْدَ انْقِضَاءِ آجَالِكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ، وَهُوَ أَرْدَؤُهُ وَأَضْعَفُهُ. يُقَالُ: رَذُلَ الشَّيْءُ يَرْذُلُ رَذَالَةً وَأَرْذَلَهُ غَيْرُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا [هُودٍ: ٢٧] وَمِنْهُ قَوْلُهُ: وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ [الشُّعَرَاءِ: ١١١] وَقَوْلُهُ: وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ هَلْ يَتَنَاوَلُ الْمُسْلِمَ أَوْ هُوَ مُخْتَصٌّ بِالْكَافِرِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَتَنَاوَلُهُ، قِيلَ: إِنَّهُ الْعُمُرُ الطَّوِيلُ، وَعَلَى هَذَا الوجه
نُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: أَرْذَلُ الْعُمُرِ خَمْسٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً.
وَقَالَ قَتَادَةُ: تِسْعُونَ سَنَةً. وَقَالَ السُّدِّيُّ: إِنَّهُ الْخَرَفُ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنَّ الْخَرَفَ مَعْنَاهُ زَوَالُ الْعَقْلِ، فَقَوْلُهُ: وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا رَدَّهُ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِأَجْلِ أَنْ يُزِيلَ عَقْلَهُ، فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ أَرْذَلِ الْعُمُرِ هُوَ زَوَالَ الْعَقْلِ لَصَارَ الشَّيْءُ عَيْنَ الْغَايَةِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْهُ وَإِنَّهُ بَاطِلٌ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا لَيْسَ فِي الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمُ لَا يَزْدَادُ بِسَبَبِ طُولِ الْعُمُرِ إِلَّا كَرَامَةً عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي حَقِّهِ إِنَّهُ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [التِّينِ: ٥، ٦] فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مَا رُدُّوا إِلَى أَسْفَلِ سَافِلِينَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ لَمْ يُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ بِمَا صَنَعَ أَوْلِيَاؤُهُ وَأَعْدَاؤُهُ قَدِيرٌ عَلَى مَا يُرِيدُ.
المسألة الثَّالِثَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ كَمَا تَدُلُّ عَلَى وُجُودِ إِلَهِ الْعَالَمِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، فَهِيَ أَيْضًا تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ كَانَ عَدَمًا مَحْضًا فَأَوْجَدَهُ اللَّهُ ثُمَّ أَعْدَمَهُ مَرَّةً ثَانِيَةً، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَعْدُومًا فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، وَكَانَ عَوْدُهُ إِلَى الْعَدَمِ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ جَائِزًا، فَكَذَلِكَ لَمَّا/ صَارَ مَوْجُودًا، ثُمَّ عُدِمَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَوْدُهُ إِلَى الْوُجُودِ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ جَائِزًا، وَأَيْضًا كَانَ مَيْتًا حِينَ كَانَ نُطْفَةً ثُمَّ صَارَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فَلَمَّا كَانَ الْمَوْتُ الْأَوَّلُ جَائِزًا كَانَ عَوْدُ الْمَوْتِ جَائِزًا، فَكَذَلِكَ لَمَّا كَانَتِ الْحَيَاةُ الْأُولَى جَائِزَةً، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَوْدُ الْحَيَاةِ جَائِزًا فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ، وَأَيْضًا الْإِنْسَانُ فِي أَوَّلِ طُفُولِيَّتِهِ جَاهِلٌ لَا يَعْرِفُ شَيْئًا، ثُمَّ صَارَ عَالِمًا عَاقِلًا فَاهِمًا، فَلَمَّا بَلَغَ أَرْذَلَ الْعُمُرِ عَادَ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي زَمَانِ الطُّفُولِيَّةِ، وَهُوَ عَدَمُ الْعَقْلِ وَالْفَهْمِ، فَعَدَمُ الْعَقْلِ وَالْفَهْمِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى عَادَ بِعَيْنِهِ فِي آخِرِ الْعُمُرِ، فَكَذَلِكَ الْعَقْلُ الَّذِي حَصَلَ، ثُمَّ زَالَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ جَائِزَ الْعَوْدِ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ، وَإِذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ ثَبَتَ أَنَّ الَّذِي مَاتَ وَعُدِمَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ عَوْدُ وُجُودِهِ وَعَوْدُ حَيَاتِهِ وَعَوْدُ عَقْلِهِ مَرَّةً أُخْرَى وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، ثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ بِالْبَعْثِ وَالْحَشْرِ والنشر حق والله أعلم.
[سورة النحل (١٦) : آية ٧١]
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٧١)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ] اعْلَمْ أَنَّ هَذَا اعْتِبَارُ حَالٍ أُخْرَى مِنْ أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ، وَذَلِكَ أَنَّا نَرَى أَكْيَسَ النَّاسِ وَأَكْثَرَهُمْ عَقْلًا وَفَهْمًا يُفْنِي عُمُرَهُ فِي طَلَبِ الْقَدْرِ الْقَلِيلِ مِنَ الدُّنْيَا وَلَا يَتَيَسَّرُ لَهُ ذَلِكَ، وَنَرَى أَجْهَلَ الْخَلْقِ وَأَقَلَّهُمْ عَقْلًا وَفَهْمًا تنفتح عليه
[الزُّخْرُفِ: ٣٢] وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى الْقَضَاءِ وَكَوْنِهِ | بُؤْسُ اللَّبِيبِ وَطِيبُ عَيْشِ الْأَحْمَقِ |
أما قوله: فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَفِيهِ قَوْلَانِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ تَقْرِيرُ مَا سَبَقَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ أَنَّ السَّعَادَةَ وَالنُّحُوسَةَ لَا يَحْصُلَانِ إِلَّا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمَوَالِيَ وَالْمَمَالِيكَ أَنَا رَازِقُهُمْ جَمِيعًا فَهُمْ فِي رِزْقِي سَوَاءٌ فَلَا يَحْسَبَنَّ الْمَوَالِي أَنَّهُمْ يَرُدُّونَ عَلَى مماليكهم من عنده شيئا من الرزق، وإنما ذلك رِزْقِي أَجْرَيْتُهُ إِلَيْهِمْ عَلَى أَيْدِيهِمْ.
وَحَاصِلُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ بَيَانُ أَنَّ الرَّازِقَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَنَّ الْمَالِكَ لَا يَرْزُقُ الْعَبْدَ بَلِ الرَّازِقُ لِلْعَبْدِ وَالْمَوْلَى هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ أَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ الْعَبْدُ أَكْمَلَ عَقْلًا وَأَقْوَى جِسْمًا وَأَكْثَرَ وُقُوفًا عَلَى الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ مِنَ الْمَوْلَى، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذِلَّةَ ذَلِكَ الْعَبْدِ وَعِزَّةَ ذَلِكَ الْمَوْلَى من الله تعالى كما قال: تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ [آلِ عِمْرَانَ: ٢٦].
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الرَّدُّ عَلَى مَنْ أَثْبَتَ شَرِيكًا لِلَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ هَذَا رَدًّا عَلَى عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّهُ تَعَالَى فَضَّلَ الْمُلُوكَ عَلَى مَمَالِيكِهِمْ، فَجَعَلَ الْمَمْلُوكَ لَا يَقْدِرُ عَلَى مُلْكٍ مَعَ مَوْلَاهُ، فَلَمَّا لَمْ تَجْعَلُوا عَبِيدَكُمْ مَعَكُمْ سَوَاءً فِي الْمُلْكِ، فَكَيْفَ تَجْعَلُونَ هَذِهِ الْجَمَادَاتِ مَعِي سَوَاءً فِي الْمَعْبُودِيَّةِ، وَالثَّانِي: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي نَصَارَى نَجْرَانَ حِينَ قَالُوا: إِنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ابْنُ اللَّهِ، فَالْمَعْنَى أَنَّكُمْ لَا تُشْرِكُونَ عَبِيدَكُمْ فِيمَا مَلَكْتُمْ فَتَكُونُوا سَوَاءً، فَكَيْفَ جَعَلْتُمْ عَبْدِي وَلَدًا لِي وَشَرِيكًا فِي الْإِلَهِيَّةِ؟
ثم قال تَعَالَى: فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ مَعْنَى الْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَهُمْ حَتَّى، وَالْمَعْنَى: فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِجَاعِلِي رِزْقِهِمْ لِعَبِيدِهِمْ، حَتَّى تَكُونَ عَبِيدُهُمْ فِيهِ مَعَهُمْ سَوَاءً فِي الْمُلْكِ.
ثم قال: أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بكر: يَجْحَدُونَ بالتاء على الخطاب لقوله: خَلَقَكُمْ وفَضَّلَ
وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ لِقَوْلِهِ: فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ وَأَبُو حَاتِمٍ لِقُرْبِ الْخَبَرِ عَنْهُ، وَأَيْضًا فَظَاهِرُ الْخِطَابِ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمُسْلِمُونَ لَا يُخَاطَبُونَ بِجَحْدِ نِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
المسألة الثَّانِيَةُ: لَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ الْإِنْكَارُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أَوْرَدَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَصِيرُونَ جَاحِدِينَ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ؟
قُلْنَا: فِيهِ وَجْهَانِ:
الوجه الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمُعْطِي لِكُلِّ الْخَيْرَاتِ هُوَ اللَّهَ تَعَالَى فَمَنْ أَثْبَتَ لِلَّهِ شَرِيكًا فَقَدْ أَضَافَ إِلَيْهِ بَعْضَ تِلْكَ الْخَيْرَاتِ فَكَانَ جَاحِدًا لِكَوْنِهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَيْضًا فَإِنَّ أَهْلَ الطَّبَائِعِ وَأَهْلَ النُّجُومِ يُضِيفُونَ أَكْثَرَ هَذِهِ النِّعَمِ إِلَى الطَّبَائِعِ وَإِلَى النُّجُومِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ كَوْنَهُمْ جَاحِدِينَ لِكَوْنِهَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَالوجه الثَّانِي: قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَرَّرَ هَذِهِ الدَّلَائِلَ وَبَيَّنَهَا وَأَظْهَرَهَا بِحَيْثُ يَفْهَمُهَا كُلُّ عَاقِلٍ، كَانَ ذَلِكَ إِنْعَامًا عَظِيمًا مِنْهُ عَلَى الْخَلْقِ، فَعِنْدَ هَذَا قَالَ: أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ فِي تَقْرِيرِهِ هَذِهِ الْبَيَانَاتِ وَإِيضَاحِ هَذِهِ الْبَيِّنَاتِ يَجْحَدُونَ.
المسألة الثَّالِثَةُ: الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ زَائِدَةً لِأَنَّ الْجُحُودَ لَا يُعَدَّى بِالْبَاءِ كَمَا تَقُولُ: خُذِ الْخِطَامَ وَبِالْخِطَامِ، وَتَعَلَّقْتُ زَيْدًا وَبِزَيْدٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْجُحُودِ الْكُفْرُ فَعُدِّيَ بالباء لكونه بمعنى الكفر والله أعلم.
[سورة النحل (١٦) : آية ٧٢]
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (٧٢)
[في قوله تَعَالَى وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً] اعْلَمْ أَنَّ هَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ، ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِيَسْتَدِلَّ بِهِ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ الْمُخْتَارِ الْحَكِيمِ، وَلِيَكُونَ ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى إِنْعَامِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عَبِيدِهِ بِمِثْلِ هَذِهِ النِّعَمِ، فَقَوْلُهُ: جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ حَوَّاءَ مِنْ ضِلْعِ آدَمَ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً خِطَابٌ مَعَ الْكُلِّ، فَتَخْصِيصُهُ بِآدَمَ وَحَوَّاءَ خِلَافُ الدَّلِيلِ، بِلْ هَذَا الحكم عَامٌّ فِي جَمِيعِ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ النِّسَاءَ لِيَتَزَوَّجَ بِهِنَّ الذُّكُورُ، وَمَعْنَى: مِنْ أَنْفُسِكُمْ مِثْلُ قَوْلِهِ: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [الْبَقَرَةِ: ٥٤] وَقَوْلُهُ: فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ [النُّورِ: ٦١] أَيْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً [الرُّومِ: ٢١] قَالَ الْأَطِبَّاءُ وَأَهْلُ الطَّبِيعَةِ: التَّفَاوُتُ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ أَسْخَنَ مِزَاجًا فَهُوَ الذَّكَرُ، وَكُلَّ مَنْ كَانَ/ أَكْثَرَ بردا ورطوبة فهو المرأة. ثم قالوا: الْمَنِيُّ إِذَا انْصَبَّ إِلَى الْخِصْيَةِ الْيُمْنَى مِنَ الذَّكَرِ، ثُمَّ انْصَبَّ مِنْهُ إِلَى الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ مِنَ الرَّحِمِ كَانَ الْوَلَدُ ذَكَرًا تَامًّا فِي الذُّكُورَةِ، وَإِنِ انْصَبَّ إِلَى الْخِصْيَةِ الْيُسْرَى مِنَ الرَّجُلِ، ثُمَّ انْصَبَّ مِنْهَا إِلَى الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ مِنَ الرَّحِمِ، كَانَ الْوَلَدُ أُنْثَى تَامًّا فِي الْأُنُوثَةِ، وَإِنِ انْصَبَّ إِلَى الْخِصْيَةِ الْيُمْنَى، ثُمَّ انْصَبَّ مِنْهَا إِلَى الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ مِنَ الرَّحِمِ، كَانَ الْوَلَدُ ذَكَرًا فِي طَبِيعَةِ الْإِنَاثِ وَإِنِ انصب إلى الخصية اليسرى من الرجل ثم انْصَبَّ مِنْهَا إِلَى الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ مِنَ الرَّحِمِ، كَانَ هَذَا الْوَلَدُ أُنْثَى فِي طَبِيعَةِ الذُّكُورِ.
ثم قال تَعَالَى: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً قَالَ الْوَاحِدِيُّ: أَصْلُ الْحَفَدَةِ مِنَ الْحَفَدِ وَهُوَ الْخِفَّةُ فِي الْخِدْمَةِ وَالْعَمَلِ. يُقَالُ: حَفَدَ يَحْفِدُ حَفَدًا وَحُفُودًا وَحَفَدَانًا إِذَا أَسْرَعَ، وَمِنْهُ فِي دُعَاءِ الْقُنُوتِ وَإِلَيْكَ نَسْعَى وَنَحْفِدُ، وَالْحَفَدَةُ جَمْعُ الْحَافِدِ، وَالْحَافِدُ كُلُّ مَنْ يَخِفُّ فِي خِدْمَتِكَ وَيُسْرِعُ فِي الْعَمَلِ بِطَاعَتِكَ، يُقَالُ فِي جَمْعِهِ الْحَفَدُ بِغَيْرِ هَاءٍ كَمَا يُقَالُ الرَّصَدُ، فَمَعْنَى الْحَفَدَةِ فِي اللُّغَةِ الْأَعْوَانُ وَالْخُدَّامُ، ثُمَّ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْحَفَدَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْأَعْوَانَ الَّذِينَ حَصَلُوا لِلرَّجُلِ مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً فَالْأَعْوَانُ الَّذِينَ لَا يَكُونُونَ مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ لَا يَدْخُلُونَ تَحْتَ هَذِهِ الْآيَةِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قِيلَ هُمُ الْأَخْتَانُ، وَقِيلَ: هُمُ الْأَصْهَارُ، وَقِيلَ: وَلَدُ الْوَلَدِ، وَالْأَوْلَى دُخُولُ الْكُلِّ فِيهِ، لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ اللَّفْظَ مُحْتَمِلٌ لِلْكُلِّ بِحَسَبِ الْمَعْنَى الْمُشْتَرَكِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ.
ثم قال تَعَالَى: وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى إِنْعَامَهُ عَلَى عَبِيدِهِ بِالْمَنْكُوحِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْمَصَالِحِ ذَكَرَ إِنْعَامَهُ عَلَيْهِمْ بِالْمَطْعُومَاتِ الطَّيِّبَةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ مِنَ النَّبَاتِ وَهِيَ الثِّمَارُ وَالْحُبُوبُ وَالْأَشْرِبَةُ أَوْ كَانَتْ مِنَ الْحَيَوَانِ، ثم قال: أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يَعْنِي بِالْأَصْنَامِ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي بِالشَّيْطَانِ، وَقَالَ عَطَاءٌ: يُصَدِّقُونَ أَنَّ لِي شَرِيكًا وَصَاحِبَةً وولدا: وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ أَيْ بِأَنْ يُضِيفُوهَا إِلَى غَيْرِ اللَّهِ وَيَتْرُكُوا إِضَافَتَهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وِفِي الْآيَةِ قَوْلٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ قَالَ بَعْدَهُ: أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ وَالْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُمْ يُحَرِّمُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ طَيِّبَاتٍ أَحَلَّهَا اللَّهُ لَهُمْ مِثْلَ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ/ وَيُبِيحُونَ لِأَنْفُسِهِمْ مُحَرَّمَاتٍ حَرَّمَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَهِيَ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ يَعْنِي لِمَ يَحْكُمُونَ بِتِلْكَ الْأَحْكَامِ الْبَاطِلَةِ، وَبِإِنْعَامِ اللَّهِ فِي تَحْلِيلِ الطَّيِّبَاتِ، وَتَحْرِيمِ الْخَبِيثَاتِ يَجْحَدُونَ وَيَكْفُرُونَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٧٣ الى ٧٤]
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (٧٣) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧٤)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ أَنْوَاعًا كَثِيرَةً فِي دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ، وَتِلْكَ الْأَنْوَاعُ كَمَا أَنَّهَا دَلَائِلُ عَلَى صِحَّةِ التَّوْحِيدِ، فَكَذَلِكَ بَدَأَ بِذِكْرِ أَقْسَامِ النِّعَمِ الْجَلِيلَةِ الشَّرِيفَةِ، ثُمَّ أَتْبَعَهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالرَّدِّ عَلَى عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ فَقَالَ:
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ أَمَّا الرِّزْقُ الَّذِي يَأْتِي مِنْ جَانِبِ السَّمَاءِ فَيَعْنِي بِهِ الْغَيْثَ الَّذِي يَأْتِي مِنْ جِهَةِ السَّمَاءِ، وَأَمَّا الَّذِي يَأْتِي مِنْ جَانِبِ الْأَرْضِ فَهُوَ النَّبَاتُ وَالثِّمَارُ الَّتِي تَخْرُجُ مِنْهَا وَقَوْلُهُ: مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مِنْ صِفَةُ النَّكِرَةِ الَّتِي هِيَ قَوْلُهُ: رِزْقاً كَأَنَّهُ قِيلَ: لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ الْغَيْثِ وَالنَّبَاتِ وَقَوْلُهُ: شَيْئاً قَالَ الْأَخْفَشُ: جَعَلَ قَوْلَهُ: شَيْئاً بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ: رِزْقاً وَالْمَعْنَى: لَا يَمْلِكُونَ رِزْقًا لَا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا، ثم قال: وَلا يَسْتَطِيعُونَ وَالْفَائِدَةُ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ أَنَّ مَنْ لا
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ فَعَبَّرَ عَنِ الْأَصْنَامِ بِصِيغَةِ «مَا» وَهِيَ لِغَيْرِ أُولِي الْعِلْمِ، ثم قال: وَلا يَسْتَطِيعُونَ وَالْجَمْعُ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ مُخْتَصٌّ بِأُولِي الْعِلْمِ فَكَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ؟
وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ عَبَّرَ عَنْهَا بِلَفْظِ «مَا» اعْتِبَارًا لِمَا هُوَ الْحَقِيقَةُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَذَكَرَ الْجَمْعَ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ اعْتِبَارًا لِمَا يَعْتَقِدُونَ فِيهَا أَنَّهَا آلِهَةٌ.
ثم قال تَعَالَى: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: يَعْنِي لَا تُشَبِّهُوهُ/ بِخَلْقِهِ.
الثَّانِي: قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ لَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ مَثَلًا، لِأَنَّهُ وَاحِدٌ لَا مِثْلَ لَهُ. الثَّالِثُ: أَقُولُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ أَجَلُّ وَأَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَعْبُدَهُ الْوَاحِدُ مِنَّا بَلْ نَحْنُ نَعْبُدُ الْكَوَاكِبَ أَوْ نَعْبُدُ هَذِهِ الْأَصْنَامَ، ثُمَّ إِنَّ الْكَوَاكِبَ وَالْأَصْنَامَ عَبِيدُ الْإِلَهِ الْأَكْبَرِ الْأَعْظَمِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْعُرْفُ، فَإِنَّ أَصَاغِرَ النَّاسِ يَخْدِمُونَ أَكَابِرَ حَضْرَةِ الْمَلِكِ، وَأُولَئِكَ الْأَكَابِرُ يخدمون الملك فكذا هاهنا فَعِنْدَ هَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ اتْرُكُوا عِبَادَةَ هَذِهِ الْأَصْنَامِ وَالْكَوَاكِبِ وَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا وَكُونُوا مُخْلِصِينَ فِي عِبَادَةِ الْإِلَهِ الْحَكِيمِ الْقَدِيرِ.
ثم قال: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَعْلَمُ مَا عَلَيْكُمْ مِنَ الْعِقَابِ الْعَظِيمِ، بِسَبَبِ عِبَادَةِ هَذِهِ الْأَصْنَامِ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ذَلِكَ، وَلَوْ عَلِمْتُمُوهُ لَتَرَكْتُمْ عِبَادَتَهَا. الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا نَهَاكُمْ عَنْ عِبَادَةِ هَذِهِ الْأَصْنَامِ فَاتْرُكُوا عِبَادَتَهَا، وَاتْرُكُوا دَلِيلَكُمُ الَّذِي عَوَّلْتُمْ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُكُمْ الِاشْتِغَالُ بِعِبَادَةِ عَبِيدِ الْمَلِكِ أَدْخَلُ فِي التَّعْظِيمِ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِعِبَادَةِ نَفْسِ الْمَلِكِ، لِأَنَّ هَذَا قِيَاسٌ، وَالْقِيَاسُ يَجِبُ تَرْكُهُ عِنْدَ وُرُودِ النَّصِّ، فَلِهَذَا قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ. ثم قال تعالى:
[سورة النحل (١٦) : آية ٧٥]
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لَا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٧٥)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَكَّدَ إِبْطَالَ مَذْهَبِ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ بِهَذَا الْمِثَالِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْمَثَلِ قَوْلَانِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّا لَوْ فَرَضْنَا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ، وَفَرَضْنَا حُرًّا كَرِيمًا غَنِيًّا كَثِيرَ الْإِنْفَاقِ سِرًّا وَجَهْرًا، فَصَرِيحُ الْعَقْلِ يَشْهَدُ بِأَنَّهُ لَا تَجُوزُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا فِي التَّعْظِيمِ والإجلال فلما لَمْ تَجُزِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا مَعَ اسْتِوَائِهِمَا فِي الْخِلْقَةِ وَالصُّورَةِ وَالْبَشَرِيَّةِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ لِلْعَاقِلِ أَنْ يُسَوِّي بَيْنَ اللَّهِ الْقَادِرِ عَلَى الرِّزْقِ وَالْإِفْضَالِ، وَبَيْنَ الْأَصْنَامِ الَّتِي لَا تَمْلِكُ وَلَا تَقْدِرُ الْبَتَّةَ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَبْدِ الْمَمْلُوكِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ هُوَ الْكَافِرُ، فَإِنَّهُ مِنْ حَيْثُ/ إِنَّهُ بَقِيَ مَحْرُومًا عَنْ عُبُودِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنْ طَاعَتِهِ صَارَ كَالْعَبْدِ الذَّلِيلِ الْفَقِيرِ الْعَاجِزِ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً هُوَ الْمُؤْمِنُ فَإِنَّهُ مُشْتَغِلٌ بِالتَّعْظِيمِ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالشَّفَقَةُ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمَا لَا يَسْتَوِيَانِ فِي الْمَرْتَبَةِ وَالشَّرَفِ وَالْقُرْبِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ تَعَالَى.
المسألة الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: عَبْداً مَمْلُوكاً لَا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ فَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الصَّنَمُ لِأَنَّهُ عَبْدٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً [مَرْيَمَ: ٩٣] وَأَمَّا أَنَّهُ مَمْلُوكٌ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ فَظَاهِرٌ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً عَابِدُ الصَّنَمِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَزَقَهُ الْمَالَ وَهُوَ يُنْفِقُ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى أَتْبَاعِهِ سِرًّا وَجَهْرًا.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: هُمَا لَا يَسْتَوِيَانِ فِي بَدِيهَةِ الْعَقْلِ، بَلْ صَرِيحُ الْعَقْلِ يَشْهَدُ بِأَنَّ ذَلِكَ الْقَادِرَ أَكْمَلُ حَالًا وَأَفْضَلُ مَرْتَبَةً مِنْ ذَلِكَ الْعَاجِزِ، فَهُنَا صَرِيحُ الْعَقْلِ يَشْهَدُ بِأَنَّ عَابِدَ الصَّنَمِ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ الصَّنَمِ فَكَيْفَ يَجُوزُ الحكم بِكَوْنِهِ مُسَاوِيًا لِرَبِّ الْعَالَمِينَ فِي الْعُبُودِيَّةِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: عَبْداً مَمْلُوكاً عَبْدٌ مُعَيَّنٌ، وَقِيلَ: هُوَ عَبْدٌ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَحَمَلُوا قَوْلَهُ: وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً عَلَى عُثْمَانَ خَاصَّةً.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ عَامٌّ فِي كُلِّ عَبْدٍ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَفِي كُلِّ حُرٍّ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْأَظْهَرُ، لِأَنَّهُ هُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا أَرَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ الْفُقَهَاءُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا.
فَإِنْ قَالُوا: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَبْدًا مِنَ الْعَبِيدِ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ، فَلِمَ قُلْتُمْ: إِنَّ كُلَّ عَبْدٍ كَذَلِكَ؟
فَنَقُولُ: الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ عَقِيبَ الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ الْوَصْفِ عِلَّةً لِذَلِكَ الحكم، وَكَوْنُهُ عَبْدًا وَصْفٌ مُشْعِرٌ بِالذُّلِّ وَالْمَقْهُورِيَّةِ. وَقَوْلُهُ: لَا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ حُكْمٌ مَذْكُورٌ عَقِيبَهُ فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْعِلَّةَ لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى شَيْءٍ هُوَ كَوْنُهُ عَبْدًا، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَثْبُتُ الْعُمُومُ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَهُ: وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَمَيَّزَ هَذَا الْقِسْمَ الثَّانِيَ عَنِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْعَبْدُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَهُوَ أَنَّهُ يَرْزُقُهُ رِزْقًا، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ هَذَا الْوَصْفُ لِلْعَبْدِ حَتَّى يَحْصُلَ الِامْتِيَازُ بَيْنَ الْقِسْمِ الثَّانِي وَبَيْنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَلَوْ مَلَكَ الْعَبْدُ لَكَانَ اللَّهُ قَدْ آتَاهُ رِزْقًا حَسَنًا، لِأَنَّ الْمِلْكَ الْحَلَالَ رِزْقٌ حَسَنٌ سَوَاءٌ كَانَ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا. فثبت بهذين الوجهين أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَلَا يَمْلِكُ شَيْئًا. ثُمَّ اخْتَلَفُوا/ فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ التَّشَدُّدُ فِي ذَلِكَ حَتَّى قَالَ: لَا يَمْلِكُ الطَّلَاقَ أَيْضًا. وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ قَالُوا:
يَمْلِكُ الطَّلَاقَ إِنَّمَا لَا يَمْلِكُ الْمَالَ وَلَا مَا لَهُ تَعَلُّقٌ بِالْمَالِ. وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْمَالِكَ إِذَا مَلَّكَهُ شَيْئًا فَهَلْ يَمْلِكُهُ أَمْ لَا؟ وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَنْفِيهِ، بَقِيَ فِي الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ قَالَ: مَمْلُوكاً لَا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَكُلُّ عَبْدٍ فَهُوَ مَمْلُوكٌ وَغَيْرُ قَادِرٍ عَلَى التَّصَرُّفِ؟
قُلْنَا: أَمَّا ذِكْرُ الْمَمْلُوكِ فَلِيَحْصُلَ الِامْتِيَازُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحُرِّ لِأَنَّ الْحُرَّ قَدْ يُقَالُ: إِنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَأما قوله: لَا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ قَدْ يَحْصُلُ الِامْتِيَازُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُكَاتَبِ وَبَيْنَ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ، لِأَنَّهُمَا لَا يَقْدِرَانِ عَلَى التَّصَرُّفِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: (مَنْ) فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ رَزَقْناهُ مَا هِيَ؟
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: لِمَ قَالَ: يَسْتَوُونَ عَلَى الْجَمْعِ؟
قُلْنَا: مَعْنَاهُ هَلْ يَسْتَوِي الْأَحْرَارُ وَالْعَبِيدُ. ثم قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَا فَعَلَ بِأَوْلِيَائِهِ وَأَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِالتَّوْحِيدِ. وَالثَّانِي: الْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ الْحَمْدِ لِلَّهِ، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْحَمْدِ لِلْأَصْنَامِ، لِأَنَّهَا لَا نِعْمَةَ لَهَا عَلَى أَحَدٍ. وَقَوْلُهُ: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ يَعْنِي أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ كُلَّ الْحَمْدِ لِلَّهِ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْهُ لِلْأَصْنَامِ. الثَّالِثُ:
قَالَ الْقَاضِي فِي «التفسير» : قال الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِمَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا أَنْ يَقُولَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى أَنْ مَيَّزَهُ فِي هَذِهِ الْقُدْرَةِ عَنْ ذَلِكَ الْعَبْدِ الضَّعِيفِ. الرَّابِعُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذَا الْمَثَلَ، وَكَانَ هَذَا مَثَلًا مُطَابِقًا لِلْغَرَضِ كَاشِفًا عَنِ الْمَقْصُودِ قَالَ بَعْدَهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ يَعْنِي الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى قُوَّةِ هَذِهِ الْحُجَّةِ وَظُهُورِ هَذِهِ الْبَيِّنَةِ. ثم قال:
بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ يَعْنِي أَنَّهَا مَعَ غَايَةِ ظُهُورِهَا وَنِهَايَةِ وُضُوحِهَا لَا يَعْلَمُهَا ولا يفهمها هؤلاء الضلال.
[سورة النحل (١٦) : آية ٧٦]
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٦)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَبْطَلَ قَوْلَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ بِهَذَا الْمَثَلِ الثَّانِي، وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّهُ كَمَا تَقَرَّرَ فِي أَوَائِلِ الْعُقُولِ أَنَّ الْأَبْكَمَ الْعَاجِزَ لَا يَكُونُ مُسَاوِيًا فِي الْفَضْلِ وَالشَّرَفِ لِلنَّاطِقِ الْقَادِرِ الْكَامِلِ مَعَ اسْتِوَائِهِمَا فِي الْبَشَرِيَّةِ، فَلَأَنْ يُحْكَمَ بِأَنَّ الْجَمَادَ لَا يَكُونُ مُسَاوِيًا لِرَبِّ الْعَالَمِينَ فِي الْمَعْبُودِيَّةِ كَانَ أَوْلَى، ثُمَّ نَقُولُ: فِي الْآيَةِ مَسْأَلَتَانِ:
المسألة الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ الرَّجُلَ الْأَوَّلَ بِصِفَاتٍ:
الصِّفَةُ الْأُولَى: الْأَبْكَمُ وَفِي تَفْسِيرِهِ أَقْوَالٌ نَقَلَهَا الْوَاحِدِيُّ. الْأَوَّلُ: قَالَ أَبُو زَيْدٍ رَجُلٌ أَبْكَمُ، وَهُوَ الْعَيِيُّ الْمُقْحَمُ، وَقَدْ بَكِمَ بَكَمًا وَبَكَامَةً، وَقَالَ أَيْضًا: الْأَبْكَمُ الْأَقْطَعُ اللِّسَانِ وَهُوَ الَّذِي لَا يُحْسِنُ الْكَلَامَ. الثَّانِي: رَوَى ثَعْلَبٌ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ: الْأَبْكَمُ الَّذِي لَا يَعْقِلُ. الثَّالِثُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: الْأَبْكَمُ الْمُطْبَقُ الَّذِي لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ.
الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: لَا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْعَجْزِ التَّامِّ وَالنُّقْصَانِ الْكَامِلِ.
وَالصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْ هَذَا الْأَبْكَمُ الْعَاجِزُ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ. قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: أَصْلُهُ مِنَ الْغِلَظِ الَّذِي هُوَ نَقِيضُ الْحِدَّةِ. يُقَالُ: كَلَّ السِّكِّينُ إِذَا غَلُظَتْ شَفْرَتُهُ فَلَمْ يَقْطَعْ، وَكَلَّ لِسَانُهُ إِذَا غَلُظَ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْكَلَامِ، وَكَلَّ فُلَانٌ عَنِ الْأَمْرِ إِذَا ثَقُلَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَنْبَعِثْ فِيهِ. فَقَوْلُهُ: كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْ غَلِيظٌ وَثَقِيلٌ على مولاه.
الصفة الرابعة: قوله: أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ أَيْ أَيْنَمَا يُرْسِلْهُ، وَمَعْنَى التَّوْجِيهِ أَنْ تُرْسِلَ صَاحِبَكَ فِي وَجْهٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الطَّرِيقِ. يُقَالُ: وَجَّهْتُهُ إِلَى مَوْضِعِ كَذَا فَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ مَعْنَاهُ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ لَا يُحْسِنُ وَلَا يَفْهَمُ. ثم قال تَعَالَى: هَلْ يَسْتَوِي هُوَ أَيْ هَذَا الْمَوْصُوفُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْأَرْبَعِ: وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْآمِرَ بِالْعَدْلِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَوْصُوفًا بِالنُّطْقِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ آمِرًا وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا، لِأَنَّ الْأَمْرَ مشعر بعلو الْمَرْتَبَةِ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا مَعَ كَوْنِهِ قَادِرًا، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا حَتَّى يُمْكِنُهُ التمييز بين
ثم قال تعالى: وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ مَعْنَاهُ كَوْنُهُ عَادِلًا مُبَرَّأً عَنِ الْجَوْرِ وَالْعَبَثِ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: ظَاهِرٌ فِي بَدِيهَةِ الْعَقْلِ أَنَّ الْأَوَّلَ والثاني لا يستويان، فكذا هاهنا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
المسألة الثَّانِيَةُ: فِي الْمُرَادِ بِهَذَا الْمَثَلِ أَقْوَالٌ كَمَا فِي الْمَثَلِ الْمُتَقَدِّمِ.
فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: قَالَ مُجَاهِدٌ: كُلُّ هَذَا مَثَلُ إِلَهِ الْخَلْقِ وَمَا يُدْعَى مِنْ دُونِهِ مِنَ الْبَاطِلِ. وَأَمَّا الْأَبْكَمُ فَمَثَلُ الصَّنَمِ، لِأَنَّهُ لَا يَنْطِقُ الْبَتَّةَ وَكَذَلِكَ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ، وَأَيْضًا كَلٌّ عَلَى عَابِدِيهِ لِأَنَّهُ لَا يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ وَهُمْ يُنْفِقُونَ عَلَيْهِ، وَأَيْضًا إِلَى أَيِّ مُهِمٍّ تَوَجَّهَ الصَّنَمُ لَمْ يَأْتِ بِخَيْرٍ، وَأَمَّا الَّذِي يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ فَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْأَبْكَمِ: هُوَ عَبْدٌ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ كَانَ ذَلِكَ الْعَبْدُ يَكْرَهُ الْإِسْلَامَ، وَمَا كَانَ فِيهِ خَيْرٌ، وَمَوْلَاهُ وَهُوَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ كَانَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ، وَكَانَ عَلَى الدِّينِ الْقَوِيمِ وَالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ: كُلُّ عَبْدٍ مَوْصُوفٍ بَهَذِهِ الصِّفَاتِ الْمَذْمُومَةِ وَكُلُّ حُرٍّ مَوْصُوفٍ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ الْحَمِيدَةِ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَوْلَى مِنَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ وَصْفَهُ تَعَالَى إِيَّاهُمَا بِكَوْنِهِمَا رَجُلَيْنِ يَمْنَعُ مِنْ حَمْلِ ذَلِكَ عَلَى الْوَثَنِ، وَكَذَلِكَ بالبكم وبالكل وبالتوجه فِي جِهَاتِ الْمَنَافِعِ وَكَذَلِكَ وَصْفُ الْآخَرِ بِأَنَّهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ يَمْنَعُ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَأَيْضًا فَالْمَقْصُودُ تَشْبِيهُ صُورَةٍ بِصُورَةٍ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ، وَذَلِكَ التَّشْبِيهُ لَا يتم إلا عند كون إحدى الصُّورَتَيْنِ مُغَايِرَةً لِلْأُخْرَى.
وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي: فَضَعِيفٌ أَيْضًا، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِبَانَةُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ رَجُلَيْنِ مَوْصُوفَيْنِ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِشَخْصٍ معين، بل أيما حَصَلَ التَّفَاوُتُ فِي الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ حَصَلَ الْمَقْصُودُ. والله أعلم.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٧٧ الى ٧٩]
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٧٧) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٨) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٧٩)
[في قوله تعالى وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إلى قوله عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى مَثَلَ الْكُفَّارِ بِالْأَبْكَمِ الْعَاجِزِ، وَمَثَلَ نَفْسِهِ بِالَّذِي يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ، وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ يُمْتَنَعُ أَنْ يَكُوُنَ آمِرًا بِالْعَدْلِ، وَأَنْ يَكُونَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ إِلَّا إِذَا كان كاملا في العلم والقدرة، وذكر فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيَانَ كَوْنِهِ كَامِلًا فِي الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، أَمَّا بَيَانُ كَمَالِ الْعِلْمِ فَهُوَ قَوْلُهُ:
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْمَعْنَى: عَلِمَ الله غيب السموات وَالْأَرْضِ وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُفِيدُ الْحَصْرَ مَعْنَاهُ: أَنَّ الْعِلْمَ بِهَذِهِ الْغُيُوبِ لَيْسَ إِلَّا لِلَّهِ وَأَمَّا بَيَانُ كَمَالِ الْقُدْرَةِ فَقَوْلُهُ: وَما أَمْرُ السَّاعَةِ
وَالسَّاعَةُ هِيَ الْوَقْتُ الَّذِي تَقُومُ فِيهِ الْقِيَامَةُ سُمِّيَتْ سَاعَةً لِأَنَّهَا تَفْجَأُ الْإِنْسَانَ فِي سَاعَةٍ فَيَمُوتُ الْخَلْقُ بِصَيْحَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقَوْلُهُ: إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ اللَّمْحُ النَّظَرُ بِسُرْعَةٍ يُقَالُ لَمَحَهُ بِبَصَرِهِ لَمْحًا ولمحانا، والمعنى: وما أمر قيام الْقِيَامَةِ فِي السُّرْعَةِ إِلَّا كَطَرْفِ الْعَيْنِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ تَقْرِيرُ كَمَالِ الْقُدْرَةِ، وَقَوْلُهُ:
أَوْ هُوَ أَقْرَبُ مَعْنَاهُ أَنَّ لَمْحَ الْبَصَرِ عِبَارَةٌ عَنِ انْتِقَالِ الْجِسْمِ الْمُسَمَّى بِالطَّرْفِ مِنْ أَعْلَى الْحَدَقَةِ إِلَى أَسْفَلِهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْحَدَقَةَ مُؤَلَّفَةٌ مِنْ أَجْزَاءٍ لَا تَتَجَزَّأُ، فَلَمْحُ الْبَصَرِ عِبَارَةٌ عَنِ الْمُرُورِ عَلَى جُمْلَةِ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ الَّتِي مِنْهَا تَأَلَّفَ سَطْحُ الْحَدَقَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ تِلْكَ الْأَجْزَاءَ كَثِيرَةٌ، وَالزَّمَانُ الَّذِي يَحْصُلُ فِيهِ لَمْحُ الْبَصَرِ مُرَكَّبٌ مِنْ آنَاتٍ مُتَعَاقِبَةٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى إِقَامَةِ الْقِيَامَةِ فِي آنٍ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْآنَاتِ فَلِهَذَا قَالَ: أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ أَسْرَعُ الْأَحْوَالِ وَالْحَوَادِثِ فِي عُقُولِنَا وَأَفْكَارِنَا هُوَ لَمْحَ الْبَصَرِ لَا جَرَمَ ذَكَرَهُ. ثم قال: أَوْ هُوَ أَقْرَبُ تَنْبِيهًا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَلَا شُبْهَةَ فِي أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ طَرِيقَةَ الشَّكِّ، بِلِ الْمُرَادُ: بَلْ هُوَ أَقْرَبُ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمُرَادُ بِهِ الْإِبْهَامُ عَنِ الْمُخَاطَبِينَ أَنَّهُ تَعَالَى يَأْتِي بِالسَّاعَةِ إِمَّا بِقَدْرِ لَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ بِمَا هُوَ أَسْرَعُ. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ إِقَامَةَ السَّاعَةِ لَيْسَتْ حَالَ تَكْلِيفٍ حَتَّى يُقَالُ إِنَّهُ تَعَالَى يَأْتِي بِهَا فِي زَمَانٍ، بَلِ الْوَاجِبُ أَنْ يَخْلُقَهَا دُفْعَةً وَاحِدَةً فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَيُفَارِقُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي ابتداء خلق السموات وَالْأَرْضِ لِأَنَّ تِلْكَ الْحَالَ حَالُ تَكْلِيفٍ، فَلَمْ يمتنع أن يخلقهما كَذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ مَصْلَحَةِ الْمَلَائِكَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الِاعْتِرَاضَ إِنَّمَا يَسْتَقِيمُ عَلَى مَذْهَبِ الْقَاضِي، أَمَّا عَلَى قَوْلِنَا فِي أَنَّهُ تَعَالَى يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيُحْكِمُ مَا يُرِيدُ فَلَيْسَ لَهُ قُوَّةٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى عَادَ إِلَى الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْمُخْتَارِ فَقَالَ:
وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ أُمَّهاتِكُمْ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَالْبَاقُونَ بِضَمِّهَا.
المسألة الثَّانِيَةُ: أُمَّهَاتِكُمْ أَصْلُهُ أُمَّاتِكُمْ، إِلَّا أَنَّهُ زِيدَ الْهَاءُ فِيهِ كَمَا زِيدَ فِي أَرَاقَ فَقِيلَ: أَهْرَاقَ وَشَذَّتْ زِيَادَتُهَا فِي الْوَاحِدَةِ فِي قَوْلِهِ:
أُمَّهَتِي خِنْدَفُ وَالْيَأْسُ أَبِي
المسألة الثَّالِثَةُ: الْإِنْسَانُ خُلِقَ فِي مَبْدَأِ الْفِطْرَةِ خَالِيًا عَنْ معرفة الأشياء.
ثم قال تعالى: وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ والمعنى: أَنَّ النَّفْسَ الْإِنْسَانِيَّةَ لَمَّا كَانَتْ فِي أَوَّلِ الْخِلْقَةِ خَالِيَةً عَنِ الْمَعَارِفِ وَالْعُلُومِ بِاللَّهِ، فَاللَّهُ أَعْطَاهُ هَذِهِ الْحَوَاسَّ لِيَسْتَفِيدَ بِهَا الْمَعَارِفَ وَالْعُلُومَ، وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْبَابِ يَسْتَدْعِي مَزِيدَ تَقْرِيرٍ فَنَقُولُ: التَّصَوُّرَاتُ وَالتَّصْدِيقَاتُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ كَسْبِيَّةً، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ بَدِيهِيَّةً، وَالْكَسْبِيَّاتُ إِنَّمَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهَا بِوَاسِطَةِ تَرْكِيبَاتِ الْبَدِيهِيَّاتِ، فَلَا بُدَّ مِنْ سَبْقِ هَذِهِ الْعُلُومِ الْبَدِيهِيَّةِ، وَحِينَئِذٍ لِسَائِلٍ أَنْ يَسْأَلَ فَيَقُولَ: هَذِهِ الْعُلُومُ الْبَدِيهِيَّةُ إِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهَا كَانَتْ حَاصِلَةً مُنْذَ خُلِقْنَا أَوْ مَا كَانَتْ حَاصِلَةً. وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّا بِالضَّرُورَةِ نَعْلَمُ أَنَّا حِينَ كُنَّا جَنِينًا فِي رَحِمِ الْأُمِّ مَا كُنَّا نَعْرِفُ أَنَّ النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ لَا يَجْتَمِعَانِ، وَمَا كُنَّا نَعْرِفُ أَنَّ الْكُلَّ أَعْظَمُ مِنَ الْجُزْءِ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ الْعُلُومَ الْبَدِيهِيَّةَ حَصَلَتْ فِي نُفُوسِنَا بَعْدَ أَنَّهَا مَا كَانَتْ حَاصِلَةً، فَحِينَئِذٍ لَا يُمْكِنُ حُصُولُهَا إِلَّا بِكَسْبٍ وَطَلَبٍ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَسْبِيًّا فَهُوَ مَسْبُوقٌ بِعُلُومٍ أُخْرَى، فَهَذِهِ الْعُلُومُ الْبَدِيهِيَّةُ
وَجَوَابُهُ أَنْ نَقُولَ: الْحَقُّ أَنَّ هَذِهِ الْعُلُومَ الْبَدِيهِيَّةَ مَا كَانَتْ حَاصِلَةً فِي نُفُوسِنَا، ثُمَّ إِنَّهَا حَدَثَتْ وَحَصَلَتْ، أما قوله فَيَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ كَسْبِيَّةً.
قُلْنَا: هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ مَمْنُوعَةٌ، بَلْ نَقُولُ: إِنَّهَا إِنَّمَا حَدَثَتْ فِي نُفُوسِنَا بَعْدَ عَدَمِهَا بِوَاسِطَةِ إِعَانَةِ الْحَوَاسِّ الَّتِي هِيَ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ النَّفْسَ كَانَتْ فِي مَبْدَأِ الْخِلْقَةِ خَالِيَةً عَنْ جَمِيعِ الْعُلُومِ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ، فَإِذَا أَبْصَرَ الطِّفْلُ شَيْئًا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى ارْتَسَمَ فِي خَيَالِهِ مَاهِيَّةُ ذَلِكَ الْمُبْصَرِ، وَكَذَلِكَ إِذَا سَمِعَ شَيْئًا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى ارْتَسَمَ فِي سَمْعِهِ وَخَيَالِهِ مَاهِيَّةُ ذَلِكَ الْمَسْمُوعِ وكذا القول فِي سَائِرِ الْحَوَاسِّ، فَيَصِيرُ حُصُولُ الْحَوَاسِّ سَبَبًا لِحُضُورِ مَاهِيَّاتِ الْمَحْسُوسَاتِ فِي النَّفْسِ وَالْعَقْلِ ثُمَّ إِنَّ تِلْكَ الْمَاهِيَّاتِ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُ الْقِسْمَيْنِ: مَا يَكُونُ نَفْسُ حُضُورِهِ مُوجِبًا تَامًّا فِي جَزْمِ الذِّهْنِ بِإِسْنَادِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ بِالنَّفْيِ أَوِ الْإِثْبَاتِ، مِثْلَ أَنَّهُ إِذَا حَضَرَ فِي الذِّهْنِ أَنَّ الْوَاحِدَ مَا هُوَ، / وَأَنَّ نِصْفَ الِاثْنَيْنِ مَا هُوَ كَانَ حُضُورُ هَذَيْنِ التَّصَوُّرَيْنِ فِي الذِّهْنِ عِلَّةً تَامَّةً فِي جَزْمِ الذِّهْنِ بِأَنَّ الْوَاحِدَ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ، وَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ عَيْنُ الْعُلُومِ الْبَدِيهِيَّةِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ وَهُوَ الْعُلُومُ النَّظَرِيَّةُ، مِثْلَ أَنَّهُ إِذَا حَضَرَ فِي الذِّهْنِ أَنَّ الْجِسْمَ مَا هُوَ وَأَنَّ الْمُحْدَثَ مَا هُوَ، فَإِنَّ مُجَرَّدَ هَذَيْنِ التَّصَوُّرَيْنِ فِي الذِّهْنِ لَا يَكْفِي فِي جَزْمِ الذِّهْنِ بِأَنَّ الْجِسْمَ مُحْدَثٌ، بَلْ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ دَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ وَعُلُومٍ سَابِقَةٍ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الْعُلُومَ الْكَسْبِيَّةَ إِنَّمَا يُمْكِنُ اكْتِسَابُهَا بِوَاسِطَةِ الْعُلُومِ الْبَدِيهِيَّةِ، وَحُدُوثُ هَذِهِ الْعُلُومِ الْبَدِيهِيَّةِ إِنَّمَا كَانَ عِنْدَ حُدُوثِ تَصَوُّرِ مَوْضُوعَاتِهَا وَتَصَوُّرِ مَحْمُولَاتِهَا. وَحُدُوثُ هَذِهِ التَّصَوُّرَاتِ إِنَّمَا كَانَ بِسَبَبِ إِعَانَةِ هَذِهِ الْحَوَاسِّ عَلَى جُزْئِيَّاتِهَا، فَظَهَرَ أَنَّ السَّبَبَ الْأَوَّلَ لِحُدُوثِ هَذِهِ الْمَعَارِفِ فِي النُّفُوسِ وَالْعُقُولِ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى أَعْطَى هَذِهِ الْحَوَاسَّ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ
لِيَصِيرَ حُصُولُ هَذِهِ الْحَوَاسِّ سَبَبًا لِانْتِقَالِ نُفُوسِكُمْ مِنَ الْجَهْلِ إِلَى الْعِلْمِ بِالطَّرِيقِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَهَذِهِ أَبْحَاثٌ شَرِيفَةٌ عَقْلِيَّةٌ مَحْضَةٌ مُدْرَجَةٌ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ. وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ لِتَسْمَعُوا مَوَاعِظَ اللَّهِ وَالْأَبْصارَ لِتُبْصِرُوا دَلَائِلَ اللَّهِ، وَالْأَفْئِدَةَ لِتَعْقِلُوا عَظَمَةَ اللَّهِ، وَالْأَفْئِدَةُ جَمْعُ فُؤَادٍ نَحْوَ أَغْرِبَةٍ وَغُرَابٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَلَمْ يُجْمَعْ فُؤَادٌ عَلَى أَكْثَرِ الْعَدَدِ، وَمَا قِيلَ فِيهِ فِئْدَانٌ كما قيل: غراب وغربان. وَأَقُولُ: لَعَلَّ الْفُؤَادَ إِنَّمَا جُمِعَ عَلَى بِنَاءِ جَمْعِ الْقِلَّةِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ كَثِيرَانِ وَأَنَّ الْفُؤَادَ قَلِيلٌ، لِأَنَّ الْفُؤَادَ إِنَّمَا خُلِقَ لِلْمَعَارِفِ الْحَقِيقِيَّةِ وَالْعُلُومِ الْيَقِينِيَّةِ، وَأَكْثَرُ الْخَلْقِ لَيْسُوا كَذَلِكَ بَلْ يَكُونُونَ مَشْغُولِينَ بِالْأَفْعَالِ الْبَهِيمِيَّةِ وَالصِّفَاتِ السَّبُعِيَّةِ، فَكَأَنَّ فُؤَادَهُمْ لَيْسَ بِفُؤَادٍ، فَلِهَذَا السَّبَبِ ذَكَرَ فِي جَمْعِهِ صِيغَةَ جَمْعِ الْقِلَّةِ.
فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: أَخْرَجَكُمْ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ جَعْلُ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ مُتَأَخِّرًا عَنِ الْإِخْرَاجِ عَنِ الْبَطْنِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ حَرْفَ الْوَاوِ لَا يُوجِبُ التَّرْتِيبَ، وَأَيْضًا إِذَا حَمَلْنَا السَّمْعَ عَلَى الِاسْتِمَاعِ وَالْأَبْصَارَ عَلَى الرُّؤْيَةِ زَالَ السُّؤَالُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
أما قوله: أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ فَفِيهِ مسألتان:
المسألة الثَّانِيَةُ: هَذَا دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى كَمَالِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَحِكْمَتِهِ، فَإِنَّهُ لَوْلَا أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الطَّيْرَ خِلْقَةً مَعَهَا يُمْكِنُهُ الطَّيَرَانُ وَخَلَقَ الْجَوَّ خِلْقَةً مَعَهَا يُمْكِنُ الطَّيَرَانُ فِيهِ لَمَا أَمْكَنَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ تَعَالَى/ أَعْطَى الطَّيْرَ جَنَاحًا يَبْسُطُهُ مَرَّةً وَيَكْسِرُهُ أُخْرَى مِثْلَ مَا يَعْمَلُهُ السَّابِحُ فِي الْمَاءِ، وَخَلَقَ الْهَوَاءَ خِلْقَةً لَطِيفَةً رَقِيقَةً يَسْهُلُ بِسَبَبِهَا خَرْقُهُ وَالنَّفَاذُ فِيهِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا كَانَ الطَّيَرَانُ مُمْكِنًا. وَأما قوله تَعَالَى: مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ فَالْمَعْنَى: أَنَّ جَسَدَ الطَّيْرِ جِسْمٌ ثَقِيلٌ، وَالْجِسْمُ الثَّقِيلُ يَمْتَنِعُ بَقَاؤُهُ فِي الْجَوِّ مُعَلَّقًا مِنْ غَيْرِ دِعَامَةٍ تَحْتَهُ وَلَا عَلَاقَةَ فَوْقَهُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُمْسِكُ له في ذلك الجو هو الله تعالى، ثم من الظاهر أن بقاء فِي الْجَوِّ مُعَلَّقًا فِعْلُهُ وَحَاصِلٌ بِاخْتِيَارِهِ، فَثَبَتَ أَنَّ خَالِقَ فِعْلِ الْعَبْدِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ الْقَاضِي: إِنَّمَا أَضَافَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْإِمْسَاكَ إِلَى نَفْسِهِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَعْطَى الْآلَاتِ الَّتِي لِأَجْلِهَا يُمَكِّنُ الطَّيْرَ مِنْ تِلْكَ الْأَفْعَالِ، فَلَمَّا كَانَ تَعَالَى هُوَ الْمُسَبِّبُ لِذَلِكَ لَا جَرَمَ صَحَّتْ هَذِهِ الْإِضَافَةُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا تَرْكٌ لِلظَّاهِرِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ، لَا سِيَّمَا وَالدَّلَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى.
ثم قال تَعَالَى فِي آخَرِ الْآيَةِ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ وَخَصَّ هَذِهِ الْآيَاتِ بِالْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُمْ هُمُ المنتفعون بها وإن كانت هذه الآيات آيات لكل العقلاء. والله أعلم.
[سورة النحل (١٦) : آية ٨٠]
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٨٠)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنْ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ، وَأَقْسَامِ النِّعَمِ والفضل، والسكن المسكن، وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ:
جَاءَ الشِّتَاءُ وَلَمَّا أَتَّخِذْ سَكَنًا | يَا وَيْحَ كَفِّي مِنْ حُفَرِ الْقَرَامِيصِ |
وَاعْلَمْ أَنَّ الْبُيُوتَ الَّتِي يَسْكُنُ الْإِنْسَانُ فِيهَا عَلَى قِسْمَيْنِ:
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: الْبُيُوتُ الْمُتَّخَذَةُ مِنَ الْخَشَبِ وَالطِّينِ وَالْآلَاتِ الَّتِي بِهَا يُمْكِنُ تَسْقِيفُ الْبُيُوتِ، / وَإِلَيْهَا الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَهَذَا الْقِسْمُ مِنَ الْبُيُوتِ لَا يُمْكِنُ نَقْلُهُ، بَلِ الْإِنْسَانُ يَنْتَقِلُ إِلَيْهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: الْقِبَابُ وَالْخِيَامُ وَالْفَسَاطِيطُ، وَإِلَيْهَا الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَهَذَا الْقِسْمُ مِنَ الْبُيُوتِ يُمْكِنُ نَقْلُهُ وَتَحْوِيلُهُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ الْأَنْطَاعُ، وَقَدْ تَعْمَلُ الْعَرَبُ الْبُيُوتَ مِنَ الْأَدَمِ وَهِيَ جُلُودُ الْأَنْعَامِ أَيْ يَخِفُّ عَلَيْكُمْ حَمْلُهَا فِي أَسْفَارِكُمْ.
قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: يَوْمَ ظَعْنِكُمْ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالْبَاقُونَ سَاكِنَةَ الْعَيْنِ. قَالَ الْوَاحَدِيُّ: وَهُمَا لُغَتَانِ كَالْشَّعْرِ وَالشَّعَرِ والنهر والنهر.
ظَاعِنٌ، وَهُوَ ضِدُّ الْخَافِضِ. وَقَوْلُهُ: وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ بِمَعْنَى لَا يَثْقُلُ عَلَيْكُمْ فِي الْحَالَيْنِ. وَقَوْلُهُ: وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها قَالَ الْمُفَسِّرُونَ وَأَهْلُ اللُّغَةِ: الْأَصْوَافُ لِلضَّأْنِ وَالْأَوْبَارُ لِلْإِبِلِ وَالْأَشْعَارُ لِلْمَعِزِ.
وَقَوْلُهُ: أَثاثاً الْأَثَاثُ أَنْوَاعُ مَتَاعِ الْبَيْتِ مِنَ الْفُرُشِ وَالْأَكْسِيَةِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَلَا وَاحِدَ لَهُ، كَمَا أَنَّ الْمَتَاعَ لَا وَاحِدَ لَهُ. قَالَ: وَلَوْ جَمَعْتَ، فَقُلْتَ: آثِثَةٌ فِي الْقَلِيلِ وَأُثُثٌ فِي الْكَثِيرِ لَمْ يَبْعُدْ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: وَاحِدُهَا أَثَاثَةٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَثاثاً يُرِيدُ طَنَافِسَ وَبُسُطًا وَثِيَابًا وَكُسْوَةً. قَالَ الْخَلِيلُ: وَأَصْلُهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: أث النبات والشعر إذا كثر. وقوله: مَتاعاً أَيْ مَا يَتَمَتَّعُونَ بِهِ. وَقَوْلُهُ: إِلى حِينٍ يُرِيدُ إِلَى حِينِ الْبَلَا، وَقِيلَ: إِلَى حِينِ الموت. وقيل: إلى حين بعد الحين، وَقِيلَ: إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: عَطَفَ الْمَتَاعَ عَلَى الْأَثَاثِ وَالْعَطْفُ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ، وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَثَاثِ وَالْمَتَاعِ؟
قُلْنَا: الْأَقْرَبُ أَنَّ الْأَثَاثَ مَا يَكْتَسِي بِهِ الْمَرْءُ وَيَسْتَعْمِلُهُ فِي الْغِطَاءِ وَالْوِطَاءِ، وَالْمَتَاعَ مَا يُفْرَشُ فِي الْمَنَازِلِ ويزين به.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٨١ الى ٨٣]
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (٨١) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٨٢) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (٨٣)
اعْلَمْ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُقِيمًا أَوْ مُسَافِرًا، وَالْمُسَافِرُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ غَنِيًّا يُمْكِنُهُ اسْتِصْحَابُ الْخِيَامِ وَالْفَسَاطِيطِ، أَوْ لَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ فَهَذِهِ أَقْسَامٌ ثَلَاثَةٌ:
أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: فَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: فَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً.
وأما الْقِسْمُ الثَّالِثُ: فَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ خَيْمَةٌ يَسْتَظِلُّ بِهَا فَإِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَسْتَظِلَّ بِشَيْءٍ آخَرَ كَالْجُدْرَانِ وَالْأَشْجَارِ وَقَدْ يَسْتَظِلُّ بِالْغَمَامِ كَمَا قَالَ: وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ [الْبَقَرَةِ: ٥٧].
ثم قال: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً واحد الأكنان كِنٌّ عَلَى قِيَاسِ أَحْمَالٍ وَحِمْلٍ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ كُلُّ شَيْءٍ وَقَى شَيْئًا، وَيُقَالُ اسْتَكَنَ وَأَكَنَّ إِذَا صَارَ فِي كِنٍّ.
وَاعْلَمْ أَنَّ بِلَادَ الْعَرَبِ شَدِيدَةُ الْحَرِّ، وَحَاجَتُهُمْ إِلَى الظِّلِّ وَدَفْعِ الْحَرِّ شَدِيدَةٌ، فَلِهَذَا السَّبَبِ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْمَعَانِيَ فِي مَعْرِضِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ، وَأَيْضًا الْبِلَادُ الْمُعْتَدِلَةُ وَالْأَوْقَاتُ الْمُعْتَدِلَةُ نَادِرَةٌ جِدًّا وَالْغَالِبُ إِمَّا غَلَبَةُ الْحَرِّ أَوْ غَلَبَةُ الْبَرْدِ. وَعَلَى كُلِّ التَّقْدِيرَاتِ فَلَا بُدَّ لِلْإِنْسَانِ مِنْ مَسْكَنٍ يَأْوِي إِلَيْهِ، فَكَانَ الْإِنْعَامُ بِتَحْصِيلِهِ عَظِيمًا، وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَمْرَ الْمَسْكَنِ ذَكَرَ بَعْدَهُ أَمْرَ الْمَلْبُوسِ فَقَالَ: وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ
السَّرَابِيلُ الْقُمُصُ وَاحِدُهَا سِرْبَالٌ، قَالَ الزَّجَّاجُ: كُلُّ مَا لَبِسْتَهُ فَهُوَ سِرْبَالٌ مِنْ قَمِيصٍ أَوْ دِرْعٍ أَوْ جَوْشَنٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ جَعَلَ السَّرَابِيلَ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا يَكُونُ وَاقِيًا مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ. وَالثَّانِي: مَا يُتَّقَى بِهِ عَنِ الْبَأْسِ وَالْحُرُوبِ، وَذَلِكَ هُوَ الْجَوْشَنُ وَغَيْرُهُ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْقِسْمَيْنِ مِنَ السَّرَابِيلِ.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ ذَكَرَ الْحَرَّ وَلَمْ يَذْكُرِ الْبَرْدَ؟
أَجَابُوا عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ:
الوجه الْأَوَّلُ: قَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: الْمُخَاطَبُونَ بِهَذَا الْكَلَامِ هُمُ الْعَرَبُ وَبِلَادُهُمْ حَارَّةٌ فَكَانَتْ حَاجَتُهُمْ إِلَى مَا يَدْفَعُ الْحَرَّ فَوْقَ حَاجَتِهِمْ إِلَى مَا يَدْفَعُ الْبَرْدَ كَمَا قَالَ: وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها [النحل: ٨٠] وَسَائِرُ أَنْوَاعِ الثِّيَابِ أَشْرَفُ، إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى ذكر ذلك النوع لِأَنَّهُ كَانَ إِلْفَتُهُمْ بِهَا أَشَدَّ، وَاعْتِيَادُهُمْ لِلُبْسِهَا/ أَكْثَرَ، وَلِذَلِكَ قَالَ: وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ [النُّورِ: ٤٣] لِمَعْرِفَتِهِمْ بِذَلِكَ وَمَا أَنْزَلَ مِنَ الثَّلْجِ أَعْظَمُ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَهُ.
وَالوجه الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ قَالَ الْمُبَرِّدُ: إِنَّ ذِكْرَ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ تَنْبِيهٌ عَلَى الْآخَرِ، قُلْتُ ثَبَتَ فِي الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ أَنَّ الْعِلْمَ بِأَحَدِ الضِّدَّيْنِ يَسْتَلْزِمُ الْعِلْمَ بِالضِّدِّ الْآخَرِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ مَتَى خَطَرَ بِبَالِهِ الْحَرُّ خَطَرَ بِبَالِهِ أَيْضًا الْبَرْدُ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي النُّورِ وَالظُّلْمَةِ وَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ، فَلَمَّا كَانَ الشُّعُورُ بِأَحَدِهِمَا مستتبعا للشعور بالآخر، كان ذكر أحدها مُغْنِيًا عَنْ ذِكْرِ الْآخَرِ.
وَالوجه الثَّالِثُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: مَا وَقَى مِنَ الْحَرِّ وَقَى مِنَ الْبَرْدِ، فَكَانَ ذِكْرُ أَحَدِهِمَا مُغْنِيًا عَنْ ذِكْرِ الْآخَرِ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا بِالضِّدِّ أَوْلَى، لِأَنَّ دَفْعَ الْحَرِّ يَكْفِي فِيهِ السَّرَابِيلُ الَّتِي هِيَ الْقُمُصُ مِنْ دُونِ تَكَلُّفِ زِيَادَةٍ، وَأَمَّا الْبَرْدُ فَإِنَّهُ لَا يَنْدَفِعُ إِلَّا بِتَكَلُّفٍ زَائِدٍ.
قُلْنَا: الْقَمِيصُ الْوَاحِدُ لَمَّا كَانَ دَافِعًا لِلْحَرِّ كَانَ الاستكثار من القميص دافعا لِلْبَرْدِ فَصَحَّ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَقَوْلُهُ:
وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ يَعْنِي دُرُوعَ الْحَدِيدِ، وَمَعْنَى الْبَأْسِ الشِّدَّةُ ويريد هاهنا شِدَّةَ الطَّعْنِ وَالضَّرْبِ وَالرَّمْيِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَدَّدَ أَقْسَامَ نِعْمَةِ الدُّنْيَا قَالَ: كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ أَيْ مِثْلَ مَا خَلَقَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَكُمْ وَأَنْعَمَ بِهَا عَلَيْكُمْ فَإِنَّهُ يُتِمُّ نِعْمَةَ الدُّنْيَا وَالدِّينِ عَلَيْكُمْ: لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَعَلَّكُمْ يَا أَهْلَ مَكَّةَ تُخْلِصُونَ لِلَّهِ الرُّبُوبِيَّةَ، وَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى هَذِهِ الْإِنْعَامَاتِ أَحَدٌ سِوَاهُ، وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ:
لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ بِفَتْحِ التَّاءِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّا أَعْطَيْنَاكُمْ هَذِهِ السَّرَابِيلَاتِ لِتَسْلَمُوا عَنْ بَأْسِ الْحَرْبِ، وَقِيلَ أَعْطَيْتُكُمْ هَذِهِ النِّعَمَ لِتَتَفَكَّرُوا فِيهَا فَتُؤْمِنُوا فَتَسْلَمُوا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ.
ثم قال تَعَالَى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ أَيْ فَإِنْ تَوَلَّوْا يَا مُحَمَّدُ وَأَعْرَضُوا وَآثَرُوا لَذَّاتِ الدُّنْيَا وَمُتَابَعَةَ الْآبَاءِ وَالْمُعَادَاةَ فِي الْكُفْرِ فَعَلَى أَنْفُسِهِمْ جَنَوْا ذَلِكَ، وَلَيْسَ عَلَيْكَ إِلَّا مَا فَعَلْتَ مِنَ التَّبْلِيغِ التَّامِّ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَمَّهُمْ بِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا، وَذَلِكَ نِهَايَةٌ فِي كُفْرَانِ النعمة.
فإن قيل: ما عني ثم؟
ثم قال تَعَالَى: وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ، وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ مَعَ أَنَّهُ كَانَ كُلُّهُمْ كَافِرِينَ.
قُلْنَا: الْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: إِنَّمَا قَالَ: وَأَكْثَرُهُمُ لِأَنَّهُ كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ مِمَّنْ لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ التَّكْلِيفِ أَوْ كَانَ نَاقِصَ الْعَقْلِ مَعْتُوهًا، فَأَرَادَ بِالْأَكْثَرِ الْبَالِغِينَ الْأَصِحَّاءَ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْكَافِرِ الْجَاحِدَ الْمُعَانِدَ، وَحِينَئِذٍ نَقُولُ إِنَّمَا قَالَ: وَأَكْثَرُهُمُ لِأَنَّهُ كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ مُعَانِدًا بَلْ كَانَ جَاهِلًا بِصِدْقِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَمَا ظَهَرَ لَهُ كونه نبيا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ ذَكَرَ الْأَكْثَرَ وَالْمُرَادُ الْجَمِيعُ، لِأَنَّ أَكْثَرَ الشَّيْءِ يَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ، فَذِكْرُ الْأَكْثَرِ كَذِكْرِ الْجَمِيعِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [لقمان: ٢٥] والله أعلم.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٨٤ الى ٨٥]
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٨٤) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٥)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ مِنْ حَالِ الْقَوْمِ أَنَّهُمْ عَرَفُوا نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ أَنْكَرُوهَا وَذَكَرَ أَيْضًا مِنْ حَالِهِمْ أَنَّ أَكْثَرَهُمُ الْكَافِرُونَ أَتْبَعَهُ بِالْوَعِيدِ، فَذَكَرَ حَالَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَقَالَ: وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أُولَئِكَ الشُّهَدَاءَ يَشْهَدُونَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ الْإِنْكَارِ وَبِذَلِكَ الْكُفْرِ، وَالْمُرَادُ بِهَؤُلَاءِ الشُّهَدَاءِ الْأَنْبِيَاءُ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النِّسَاءِ: ٤١] وَقَوْلُهُ: ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا فِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: لَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فِي الِاعْتِذَارِ لِقَوْلِهِ: وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [الْمُرْسَلَاتِ: ٣٦].
وَثَانِيهَا: لَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فِي كَثْرَةِ الْكَلَامِ. وَثَالِثُهَا: لَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فِي الْرُجُوعِ إِلَى دَارِ الدُّنْيَا وَإِلَى التَّكْلِيفِ. وَرَابِعُهَا:
لَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فِي حَالِ شَهَادَةِ الشُّهُودِ، بَلْ يَسْكُتْ أَهْلُ الْجَمْعِ كُلُّهُمْ لِيَشْهَدَ الشُّهُودُ. وَخَامِسُهَا: لَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فِي كَثْرَةِ الْكَلَامِ لِيَظْهَرَ لَهُمْ كَوْنُهُمْ/ آيِسِينَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى. ثم قال: وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ الِاسْتِعْتَابُ طَلَبُ الْعِتَابِ، وَالرَّجُلُ يَطْلُبُ الْعِتَابَ مِنْ خَصْمِهِ إِذَا كَانَ عَلَى جَزْمِ أَنَّهُ إِذَا عَاتَبَهُ رَجَعَ إِلَى الرِّضَا، فَإِذَا لَمْ يَطْلُبِ الْعِتَابَ مِنْهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ رَاسِخٌ فِي غَضَبِهِ وَسَطْوَتِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَكَّدَ هَذَا الْوَعِيدَ فَقَالَ: وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمُشْرِكِينَ إِذَا رَأَوُا الْعَذَابَ وَوَصَلُوا إِلَيْهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ أَيْضًا يُنْظَرُونَ أَيْ لَا يُؤَخَّرُونَ وَلَا يُمْهَلُونَ، لِأَنَّ التَّوْبَةَ هُنَاكَ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ، وَتَحْقِيقُهُ مَا يَقُولُهُ الْمُتَكَلِّمُونَ مِنْ أَنَّ الْعَذَابَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ خَالِصًا عَنْ شَوَائِبِ النَّفْعِ، وَهُوَ المراد من قوله: فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ العذاب [البقرة: ١٦٢] وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْعَذَابُ دَائِمًا وَهُوَ الْمُرَادُ من قوله: وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٨٦ الى ٨٧]
وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (٨٦) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ (٨٧)اعْلَمْ أَنَّ هَذَا أَيْضًا مِنْ بَقِيَّةِ وَعِيدِ الْمُشْرِكِينَ، وَفِي الشُّرَكَاءِ قَوْلَانِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى يَبْعَثُ الْأَصْنَامَ الَّتِي كَانَ يَعْبُدُهَا الْمُشْرِكُونَ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ إِعَادَتِهَا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ يُشَاهِدُونَهَا فِي غَايَةِ الذِّلَّةِ وَالْحَقَارَةِ. وَأَيْضًا أَنَّهَا تُكَذِّبُ الْمُشْرِكِينَ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ زِيَادَةَ الْغَمِّ وَالْحَسْرَةِ فِي قُلُوبِهِمْ، وَإِنَّمَا وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِكَوْنِهِمْ شُرَكَاءَ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوْلُ: أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يُسَمُّونَهَا بِأَنَّهَا شُرَكَاءُ اللَّهِ. وَالثَّانِي:
أَنَّ الْكُفَّارَ جَعَلُوا لَهُمْ نَصِيبًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالشُّرَكَاءِ الشَّيَاطِينُ الَّذِينَ دَعَوُا الْكُفَّارَ إِلَى الْكُفْرِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَإِنَّمَا ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ أُولَئِكَ الشُّرَكَاءِ أَنَّهُمْ أَلْقَوْا إِلَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ، وَالْأَصْنَامُ جَمَادَاتٌ فَلَا يَصِحُّ مِنْهُمْ هَذَا الْقَوْلِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ الشُّرَكَاءِ الشَّيَاطِينَ حَتَّى يَصِحَّ مِنْهُمْ هَذَا الْقَوْلُ وَهَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ الْحَيَاةِ فِي تِلْكَ الْأَصْنَامِ وَعَلَى خَلْقِ الْعَقْلِ وَالنُّطْقِ فِيهَا، وَحِينَئِذٍ يَصِحُّ مِنْهَا هَذَا الْقَوْلُ، ثُمَّ حَكَى تَعَالَى عَنِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ إِذَا رَأَوْا تِلْكَ الشُّرَكَاءَ قَالُوا: رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا فَائِدَتُهُمْ فِي هَذَا الْقَوْلِ؟
قُلْنَا: فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ: مَقْصُودُ الْمُشْرِكِينَ إِحَالَةُ الذَّنْبِ عَلَى هَذِهِ الْأَصْنَامِ وَظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ يُنْجِيهِمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ يُنْقِصُ مِنْ عَذَابِهِمْ، فَعِنْدَ هَذَا تُكَذِّبُهُمْ تِلْكَ الْأَصْنَامُ. قَالَ الْقَاضِي:
هَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّ الْكُفَّارَ يَعْلَمُونَ عِلْمًا ضَرُورِيًّا فِي الْآخِرَةِ أَنَّ الْعَذَابَ سَيَنْزِلُ بِهِمْ وَأَنَّهُ لَا نُصْرَةَ وَلَا فِدْيَةَ وَلَا شَفَاعَةَ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ يَقُولُونَ هَذَا الْكَلَامَ تَعَجُّبًا مِنْ حُضُورِ تِلْكَ الْأَصْنَامِ مَعَ أَنَّهُ لَا ذَنْبَ لَهَا وَاعْتِرَافًا بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُخْطِئِينَ فِي عِبَادَتِهَا. ثُمَّ حَكَى تَعَالَى أَنَّ الْأَصْنَامَ يُكَذِّبُونَهُمْ، فَقَالَ: فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ الْحَيَاةَ وَالْعَقْلَ وَالنُّطْقَ فِي تِلْكَ الْأَصْنَامِ حَتَّى تَقُولَ هَذَا الْقَوْلَ، وَقَوْلُهُ:
إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ بَدَلٌ مِنَ الْقَوْلِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمْ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ مَا قَالُوا إِلَّا أَنَّهُمْ لَمَّا أَشَارُوا إِلَى الْأَصْنَامِ قَالُوا: إِنَّ هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ وَقَدْ كَانُوا صَادِقِينَ فِي كُلِّ ذَلِكَ، فَكَيْفَ قَالَتِ الْأَصْنَامُ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ؟
قُلْنَا: فِيهِ وُجُوهٌ: وَالْأَصَحُّ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِمْ هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا هُوَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كُنَّا نَقُولُ أَنَّهُمْ شُرَكَاءُ اللَّهِ فِي الْمَعْبُودِيَّةِ، فَالْأَصْنَامُ كَذَّبُوهُمْ فِي إِثْبَاتِ هَذِهِ الشَّرِكَةِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ فِي قَوْلِكُمْ إِنَّا نَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ [مَرْيَمَ: ٨٢].
ثم قال تَعَالَى: وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ قَالَ الْكَلْبِيُّ: اسْتَسْلَمَ الْعَابِدُ وَالْمَعْبُودُ وَأَقَرُّوا لِلَّهِ بالربوبية
[سورة النحل (١٦) : آية ٨٨]
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (٨٨)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ وَعِيدَ الَّذِينَ كَفَرُوا، أَتْبَعَهُ بِوَعِيدِ مَنْ ضَمَّ إِلَى كُفْرِهِ صَدَّ الْغَيْرِ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. وَفِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَجْهَانِ: قِيلَ: مَعْنَاهُ الصَّدُّ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ جُمْلَةَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالرَّسُولِ وَبِالشَّرَائِعِ، لِأَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ فَلَا مَعْنَى لِلتَّخْصِيصِ/ وَقَوْلُهُ: زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ زَادُوا عَلَى كُفْرِهِمْ صَدَّ غَيْرِهِمْ عَنِ الْإِيمَانِ فَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ ازْدَادُوا كُفْرًا عَلَى كُفْرٍ، فَلَا جَرَمَ يَزِيدُهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَذَابًا عَلَى عَذَابٍ، وَأَيْضًا أَتْبَاعُهُمْ إِنَّمَا اقْتَدَوْا بِهِمْ فِي الْكُفْرِ، فَوَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ لَهُمْ مِثْلُ عِقَابِ أَتْبَاعِهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ [الْعَنْكَبُوتِ: ١٣]
وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»،
وَمِنْ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ ذَكَرَ تَفْصِيلَ تِلْكَ الزِّيَادَةِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
الْمُرَادُ بِتِلْكَ الزِّيَادَةِ خَمْسَةُ أَنْهَارٍ مِنْ نَارٍ تَسِيلُ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ يُعَذَّبُونَ بِهَا ثَلَاثَةٌ بِاللَّيْلِ وَاثْنَانِ بِالنَّهَارِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا بِحَيَّاتٍ وَعَقَارِبَ كَأَمْثَالِ الْبُخْتِ، فَيَسْتَغِيثُونَ بِالْهَرَبِ مِنْهَا إِلَى النَّارِ وَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ لِكُلِّ عَقْرَبٍ ثَلَاثُمِائَةِ فَقْرَةٍ فِي كل فقرة ثَلَاثِمِائَةِ قُلَّةٍ مِنْ سُمٍّ. وَقِيلَ: عَقَارِبُ لَهَا أَنْيَابُ كَالنَّخْلِ الطُّوَالِ.
ثم قال تَعَالَى: بِما كانُوا يُفْسِدُونَ أَيْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ مِنَ الْعَذَابِ إِنَّمَا حَصَلَتْ مُعَلَّلَةً بِذَلِكَ الصَّدِّ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ دَعَا غَيْرَهُ إِلَى الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ فَقَدْ عَظُمَ عَذَابُهُ، فَكَذَلِكَ إِذَا دَعَا إِلَى الدِّينِ وَالْيَقِينِ، فَقَدْ عَظُمَ قَدْرُهُ عِنْدَ الله تعالى والله أعلم.
[سورة النحل (١٦) : آية ٨٩]
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (٨٩)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ] اعْلَمْ أَنَّ هَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنَ التَّهْدِيدَاتِ الْمَانِعَةِ لِلْمُكَلَّفِينَ عَنِ الْمَعَاصِي. وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ عِبَارَةٌ عَنِ الْقَرْنِ وَالْجَمَاعَةِ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: فِي الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ شَاهِدٌ عَلَى أُمَّتِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ كُلَّ جَمْعٍ وَقَرْنٍ يَحْصُلُ فِي الدُّنْيَا فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَحْصُلَ فِيهِمْ وَاحِدٌ يَكُونُ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ. أَمَّا الشَّهِيدُ عَلَى الَّذِينَ كَانُوا فِي عَصْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ الرَّسُولُ بِدَلِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [الْبَقَرَةِ: ١٤٣] وَثَبَتَ أَيْضًا أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي كُلِّ زَمَانٍ بَعْدَ زَمَانِ الرَّسُولِ مِنَ الشَّهِيدِ فَحَصَلَ مِنْ هَذَا أَنَّ عَصْرًا مِنَ الْأَعْصَارِ لَا يَخْلُو/ مِنْ شَهِيدٍ عَلَى النَّاسِ وَذَلِكَ الشَّهِيدُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ غَيْرَ جَائِزِ الْخَطَأِ، وَإِلَّا لَافْتَقَرَ إِلَى شَهِيدٍ آخَرَ وَيَمْتَدُّ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِ النِّهَايَةِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي كُلِّ عَصْرٍ مِنْ أَقْوَامٍ تَقُومُ الْحُجَّةُ بِقَوْلِهِمْ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ حُجَّةً. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ الشَّهِيدِ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى يُنْطِقُ عَشَرَةً مِنْ أعضاء الإنسان حتى إِنَّهَا تَشْهَدُ عَلَيْهِ وَهِيَ: الْأُذُنَانِ وَالْعَيْنَانِ وَالرِّجْلَانِ وَالْيَدَانِ وَالْجِلْدُ وَاللِّسَانُ.
قَالَ: وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ فِي صِفَةِ الشَّهِيدِ أَنَّهُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَهَذِهِ الْأَعْضَاءُ لَا شَكَّ أَنَّهَا مِنْ أَنْفُسِهِمْ.
أَجَابَ الْقَاضِي عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: شَهِيداً عَلَيْهِمْ أَيْ عَلَى الْأُمَّةِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ
ثم قال تَعَالَى: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: وَجْهُ تَعَلُّقِ هَذَا الْكَلَامِ بِمَا قَبْلَهُ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ بَيَّنَ أَنَّهُ أَزَاحَ عِلَّتَهُمْ فِيمَا كُلِّفُوا فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ وَلَا مَعْذِرَةَ.
المسألة الثَّانِيَةُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: الْقُرْآنُ تِبْيَانٌ لِكُلِّ شَيْءٍ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعُلُومَ إِمَّا دِينِيَّةٌ أَوْ غَيْرُ دِينِيَّةٍ، أَمَّا الْعُلُومُ الَّتِي لَيْسَتْ دِينِيَّةً فَلَا تَعَلُّقَ لَهَا بِهَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا مَدَحَ الْقُرْآنَ بِكَوْنِهِ مُشْتَمِلًا عَلَى عُلُومِ الدِّينِ فَأَمَّا مَا لَا يَكُونُ مِنْ عُلُومِ الدِّينِ فَلَا الْتِفَاتَ إِلَيْهِ، وَأَمَّا عُلُومُ الدِّينِ فَإِمَّا الْأُصُولُ، وَإِمَّا الْفُرُوعُ، أَمَّا عِلْمُ الْأُصُولِ فَهُوَ بِتَمَامِهِ مَوْجُودٌ فِي الْقُرْآنِ وَأَمَّا عِلْمُ الْفُرُوعِ فَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ إِلَّا مَا وَرَدَ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا تَكْلِيفَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا مَا وَرَدَ فِي هَذَا الْقُرْآنِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْقَوْلُ بِالْقِيَاسِ بَاطِلًا، وَكَانَ الْقُرْآنُ وَافِيًا بِبَيَانِ كُلِّ الْأَحْكَامِ، وَأَمَّا الْفُقَهَاءُ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: الْقُرْآنُ إِنَّمَا كَانَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ، لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ وَخَبَرَ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسَ حُجَّةٌ، فَإِذَا ثَبَتَ حُكْمٌ مِنَ الْأَحْكَامِ بِأَحَدِ هَذِهِ الْأُصُولِ كَانَ ذَلِكَ الحكم ثَابِتًا بِالْقُرْآنِ، وَهَذِهِ المسألة قَدْ سَبَقَ ذِكْرُهَا بِالِاسْتِقْصَاءِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
المسألة الثَّالِثَةُ: رَوَى الْوَاحِدِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنِ الزَّجَّاجِ أَنَّهُ قَالَ: تِبْيَانًا فِي مَعْنَى اسْمِ الْبَيَانِ وَمِثْلُ التِّبْيَانِ الْتِلْقَاءُ، وَرَوَى ثَعْلَبٌ عَنِ الْكُوفِيِّينَ، وَالْمُبَرِّدُ عَنِ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَمْ يَأْتِ مِنَ الْمَصَادِرِ عَلَى تِفْعَالٍ إِلَّا حَرْفَانِ تِبْيَانًا وَتِلْقَاءً، وَإِذَا تَرَكْتَ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ اسْتَوَى لَكَ الْقِيَاسُ فَقُلْتُ: فِي كُلِّ/ مَصْدَرٍ تَفْعَالٌ بِفَتْحِ التَّاءِ مِثْلُ تَسْيَارٍ وَتَذْكَارٍ وَتَكْرَارٍ، وَقُلْتُ: فِي كُلِّ اسْمٍ تِفْعَالٌ بِكَسْرِ التَّاءِ مثل تقصار وتمثال.
[سورة النحل (١٦) : آية ٩٠]
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠)
[فِي قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ] وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا اسْتَقْصَى فِي شَرْحِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ فَجَمَعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَتَّصِلُ بِالتَّكْلِيفِ فَرْضًا وَنَفْلًا، وَمَا يَتَّصِلُ بِالْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ عُمُومًا وَخُصُوصًا، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: فِي بَيَانِ فَضَائِلِ هَذِهِ الْآيَةِ
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ الْجُمَحِيَّ قَالَ: مَا أَسْلَمْتُ أَوَّلًا إِلَّا حَيَاءً مِنْ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَمْ يَتَقَرَّرِ الْإِسْلَامُ فِي قَلْبِي فَحَضَرْتُهُ ذَاتَ يَوْمٍ فَبَيْنَمَا هُوَ يُحَدِّثُنِي إِذْ رَأَيْتُ بَصَرَهُ شَخَصَ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ خَفَضَهُ عَنْ يَمِينِهِ، ثُمَّ عَادَ لِمِثْلِ ذَلِكَ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: «بَيْنَمَا أَنَا أُحَدِّثُكَ إِذَا بِجِبْرِيلَ نَزَلَ عَنْ يَمِينِي فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ، الْعَدْلُ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَالْإِحْسَانُ الْقِيَامُ بِالْفَرَائِضِ وَإِيتَاءُ ذِي الْقُرْبَى، أَيْ صِلَةُ ذِي الْقَرَابَةِ وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ الزِّنَا، وَالْمُنْكَرِ مَا لَا يُعْرَفُ فِي شَرِيعَةٍ وَلَا سُنَّةٍ وَالْبَغْيِ الِاسْتِطَالَةِ». قَالَ عُثْمَانُ: فَوَقَعَ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِي فَأَتَيْتُ أَبَا طَالِبٍ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ أَجْمَعَ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ لِخَيْرٍ وَشَرٍّ هَذِهِ الْآيَةُ، وَعَنْ قَتَادَةَ لَيْسَ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُعْمَلُ وَيُسْتَحَبُّ إِلَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَلَيْسَ مِنْ خلق سيء إِلَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ،
وَرَوَى الْقَاضِي فِي «تَفْسِيرِهِ» عَنِ ابْنِ مَاجَهْ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ أَنْ يَعْرِضَ نَفْسَهُ عَلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ، فَخَرَجَ وَأَنَا مَعَهُ وَأَبُو بَكْرٍ فَوَقَفْنَا عَلَى مَجْلِسٍ عَلَيْهِمُ الْوَقَارُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مِمَّنِ الْقَوْمُ؟ فَقَالُوا: مِنْ شَيْبَانَ بْنِ ثَعْلَبَةَ فَدَعَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الشَّهَادَتَيْنِ وَإِلَى أَنْ يَنْصُرُوهُ فَإِنَّ قُرَيْشًا كَذَّبُوهُ فَقَالَ/ مَقْرُونُ بْنُ عَمْرٍو: إِلَامَ تَدْعُونَا أَخَا قُرَيْشٍ فَتَلَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ الْآيَةَ فَقَالَ مَقْرُونُ بْنُ عَمْرٍو: دَعَوْتَ وَاللَّهِ إِلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ وَلَقَدْ أَفِكَ قَوْمٌ كَذَّبُوكَ وَظَاهَرُوا عَلَيْكَ،
وَعَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى الْوَلِيدِ فَاسْتَعَادَهُ، ثم قال: إِنَّ لَهُ لَحَلَاوَةً وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً،
وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ»
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
المسألة الثَّانِيَةُ: فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، أَكْثَرَ النَّاسُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الْعَدْلُ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَالْإِحْسَانُ أَدَاءُ الْفَرَائِضِ وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: الْعَدْلُ خَلْعُ الْأَنْدَادِ وَالْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ وَأَنْ تُحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا أَحْبَبْتَ أَنْ يَزْدَادَ إِيمَانًا، وَإِنْ كَانَ كَافِرًا أَحْبَبْتَ أَنْ يَصِيرَ أَخَاكَ فِي الْإِسْلَامِ. وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ ثَالِثَةٍ: الْعَدْلُ هُوَ التَّوْحِيدُ وَالْإِحْسَانُ الْإِخْلَاصُ فِيهِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: يَعْنِي بِالْعَدْلِ فِي الْأَفْعَالِ وَالْإِحْسَانِ فِي الْأَقْوَالِ، فَلَا تَفْعَلْ إِلَّا مَا هُوَ عَدْلٌ وَلَا تَقُلْ إِلَّا مَا هُوَ إِحْسَانٌ وَقَوْلُهُ: وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى يُرِيدُ صِلَةَ الرَّحِمِ بِالْمَالِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَبِالدُّعَاءِ،
رَوَى أَبُو مُسْلِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ أَعْجَلَ الطَّاعَةِ ثَوَابًا صِلَةُ الرَّحِمِ إِنَّ أَهْلَ البيت ليكونوا فُجَّارًا فَتَنْمَى أَمْوَالُهُمْ وَيَكْثُرُ عَدَدُهُمْ إِذَا وَصَلُوا أَرْحَامَهُمْ»
وَقَوْلُهُ: وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ قِيلَ: الزِّنَا، وَقِيلَ: الْبُخْلُ، وَقِيلَ: كُلُّ الذُّنُوبِ سَوَاءٌ كَانَتْ صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً، وَسَوَاءٌ كَانَتْ فِي الْقَوْلِ أَوْ فِي الْفِعْلِ، وَأَمَّا الْمُنْكَرُ فَقِيلَ، إِنَّهُ الْكُفْرُ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَقِيلَ: الْمُنْكَرُ مَا لَا يُعْرَفُ فِي شَرِيعَةٍ وَلَا سُنَّةٍ، وَأَمَّا الْبَغْيُ فَقِيلَ: الْكِبْرُ وَالظُّلْمُ، وَقِيلَ: أَنْ تَبْغِيَ عَلَى أَخِيكَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الْمَأْمُورَاتِ كَثْرَةً وَفِي الْمَنْهِيَّاتِ أَيْضًا كَثْرَةً، وَإِنَّمَا حَسُنَ تَفْسِيرُ لَفْظٍ مُعَيَّنٍ لِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ إِذَا حَصَلَ بَيْنَ ذَلِكَ اللَّفْظِ وَبَيْنَ ذَلِكَ الْمَعْنَى مُنَاسَبَةٌ. أَمَّا إِذَا لَمْ تَحْصُلْ هَذِهِ الْحَالَةُ كَانَ ذَلِكَ التَّفْسِيرُ فَاسِدًا، فَإِذَا فَسَّرْنَا الْعَدْلَ بِشَيْءٍ وَالْإِحْسَانَ بِشَيْءٍ آخَرَ وَجَبَ أَنْ نُبَيِّنَ أَنَّ لَفْظَ الْعَدْلِ يُنَاسِبُ ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَلَفْظُ الْإِحْسَانِ يُنَاسِبُ هَذَا الْمَعْنَى، فَلَمَّا لَمْ نُبَيِّنْ هَذَا الْمَعْنَى كَانَ ذَلِكَ مُجَرَّدَ التَّحَكُّمِ، وَلَمْ يَكُنْ جَعْلُ بَعْضِ تلك المعنى تَفْسِيرًا لِبَعْضِ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا لَيْسَتْ قَوِيَّةً فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَأَقُولُ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ، وَهِيَ الْعَدْلُ وَالْإِحْسَانُ وَإِيتَاءُ ذِي الْقُرْبَى وَنَهَى عَنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ وَهِيَ: الْفَحْشَاءُ، وَالْمُنْكَرُ، وَالْبَغْيُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعَدْلُ وَالْإِحْسَانُ وَإِيتَاءُ ذِي الْقُرْبَى ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ مُتَغَايِرَةً وَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْفَحْشَاءُ وَالْمُنْكَرُ وَالْبَغْيُ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ مُتَغَايِرَةً، لِأَنَّ الْعَطْفَ يُوجِبُ الْمُغَايَرَةَ فَنَقُولُ:
أَمَّا الْعَدْلُ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْأَمْرِ الْمُتَوَسِّطِ بَيْنَ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، وَذَلِكَ أَمْرٌ وَاجِبُ الرِّعَايَةِ في جميع
أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْإِلَهَ غَيْرُ مَوْصُوفٍ بِالصِّفَاتِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ تَعْطِيلٌ مَحْضٌ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّ صِفَاتَهُ حَادِثَةٌ مُتَغَيِّرَةٌ تَشْبِيهٌ مَحْضٌ. وَالْعَدْلُ هُوَ إِثْبَاتُ أَنَّ الْإِلَهَ عَالِمٌ قَادِرٌ حَيٌّ مَعَ الِاعْتِرَافِ بِأَنَّ صِفَاتَهُ لَيْسَتْ حَادِثَةً وَلَا مُتَغَيِّرَةً.
وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ لَهُ قُدْرَةٌ وَلَا اخْتِيَارٌ جَبْرٌ مَحْضٌ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْعَبْدَ مُسْتَقِلٌّ بِأَفْعَالِهِ قَدَرٌ مَحْضٌ وَهُمَا مَذْمُومَانِ، وَالْعَدْلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْعَبْدَ يَفْعَلُ الْفِعْلَ لَكِنْ بِوَاسِطَةِ قُدْرَةٍ وَدَاعِيَةٍ يَخْلُقُهُمَا اللَّهُ تعالى فيه، وخامسها: القول بأن اللَّهَ تَعَالَى لَا يُؤَاخِذُ عَبْدَهُ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الذُّنُوبِ مُسَاهَلَةٌ عَظِيمَةٌ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ تَعَالَى يُخَلِّدُ فِي النَّارِ عَبْدَهُ الْعَارِفَ بِالْمَعْصِيَةِ الْوَاحِدَةِ تَشْدِيدٌ عَظِيمٌ، وَالْعَدْلُ أَنَّهُ يُخْرِجُ مِنَ النَّارِ كُلَّ مَنْ قَالَ وَاعْتَقَدَ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَهَذِهِ أَمْثِلَةٌ ذَكَرْنَاهَا فِي رِعَايَةِ مَعْنَى الْعَدْلِ فِي الِاعْتِقَادَاتِ، وَأَمَّا رِعَايَةُ الْعَدْلِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَفْعَالِ الْجَوَارِحِ، فَنَذْكُرُ سِتَّةَ أَمْثِلَةٍ مِنْهَا: أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْمًا مِنْ نُفَاةِ التَّكَالِيفِ يَقُولُونَ: لَا يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ الِاشْتِغَالُ بِشَيْءٍ مِنَ الطَّاعَاتِ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الِاحْتِرَازُ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْمَعَاصِي، وَلَيْسَ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَكْلِيفٌ أَصْلًا وَقَالَ قَوْمٌ مِنَ الْهِنْدِ، وَمِنَ الْمَانَوِيَّةِ إِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَجْتَنِبَ عَنْ كُلِّ الطَّيِّبَاتِ وَأَنْ يُبَالِغَ فِي تَعْذِيبِ نَفْسِهِ وَأَنْ يَحْتَرِزَ عَنْ كُلِّ مَا يَمِيلُ الطَّبْعُ إِلَيْهِ حَتَّى أَنَّ الْمَانَوِيَّةَ يُخْصُونَ أَنْفُسَهُمْ وَيَحْتَرِزُونَ عَنِ التَّزَوُّجِ وَيَحْتَرِزُونَ عَنْ أَكْلِ الطَّعَامِ الطَّيِّبِ وَالْهِنْدُ يَحْرِقُونَ أَنْفُسَهُمْ وَيَرْمُونَ أَنْفُسَهُمْ مِنْ شَاهِقِ الْجِبَلِ، فَهَذَانِ الطَّرِيقَانِ مَذْمُومَانِ، وَالْوَسَطُ الْمُعْتَدِلُ هُوَ هَذَا الشَّرْعُ الَّذِي جَاءَنَا بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَثَانِيهَا: أَنَّ التَّشْدِيدَ فِي دِينِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ غَالِبٌ جِدًّا، وَالتَّسَاهُلَ فِي دِينِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ غَالِبٌ جِدًّا وَالْوَسَطُ الْعَدْلُ شَرِيعَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قِيلَ: كَانَ شَرْعُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ اسْتِيَفَاءَ الْقَصَاصِ لَا مَحَالَةَ، وَفِي شَرْعِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْعَفْوُ. أَمَّا فِي شَرْعِنَا فَإِنْ شَاءَ اسْتَوْفَى الْقَصَاصَ عَلَى سَبِيلِ الْمُمَاثَلَةِ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَوْفَى الدِّيَةَ وَإِنْ شَاءَ عَفَا، وَأَيْضًا شَرْعُ مُوسَى يَقْتَضِي/ الِاحْتِرَازَ الْعَظِيمَ عَنِ الْمَرْأَةِ حَالَ حَيْضِهَا وَشَرْعُ عِيسَى يَقْتَضِي حِلَّ وَطْءِ الْحَائِضِ، وَالْعَدْلُ مَا حَكَمَ بِهِ شَرْعُنَا وَهُوَ أَنَّهُ يَحْرُمُ وَطْؤُهَا احْتِرَازًا عَنِ التَّلَطُّخِ بِتِلْكَ الدِّمَاءِ الْخَبِيثَةِ أَمَّا لَا يَجِبُ إِخْرَاجُهَا عَنِ الدَّارِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [الْبَقَرَةِ: ١٤٣] يَعْنِي مُتَبَاعِدِينَ عَنْ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ فِي كُلِّ الْأُمُورِ، وَقَالَ: وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً [الْفُرْقَانِ: ٦٧] وَقَالَ: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ [الْإِسْرَاءِ: ٢٩] وَلَمَّا بَالَغَ رسول الله ﷺ في الْعِبَادَاتِ قَالَ تَعَالَى: طه مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى [طه: ١، ٢] وَلَمَّا أَخَذَ قَوْمٌ فِي الْمُسَاهَلَةِ قَالَ: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً [الْمُؤْمِنُونَ: ١١٥] وَالْمُرَادُ مِنَ الْكُلِّ رِعَايَةُ الْعَدْلِ وَالْوَسَطِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ شَرِيعَتَنَا أَمَرَتْ بِالْخِتَانِ، وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّ رَأْسَ الْعُضْوِ جِسْمٌ شَدِيدُ الْحِسِّ وَلِأَجْلِهِ عَظُمَ الالتذاذ عند الوقاع، فلو بقيت تلك الْجِلْدَةُ عَلَى ذَلِكَ الْعُضْوِ بَقِيَ ذَلِكَ الْعُضْوُ عَلَى كَمَالِ الْقُوَّةِ وَشِدَّةِ الْإِحْسَاسِ فَيَعْظُمُ الِالْتِذَاذُ أما إذا قطعت تلك الجلدة بقي ذَلِكَ الْعُضْوُ عَارِيًا فَيَلْقَى الثِّيَابَ وَسَائِرَ الْأَجْسَامِ فَيَتَصَلَّبُ وَيَضْعُفُ حِسُّهُ وَيَقِلُّ شُعُورُهُ فَيَقِلُّ الِالْتِذَاذُ بِالْوِقَاعِ فَتَقِلُّ الرَّغْبَةُ فِيهِ، فَكَأَنَّ الشَّرِيعَةَ إِنَّمَا أمرت
إِسَاءَةً مِثَالُهُ: أَنَّ الْعَدْلَ فِي الطَّاعَاتِ هُوَ أَدَاءُ الْوَاجِبَاتِ أَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى الْوَاجِبَاتِ فَهِيَ أَيْضًا طَاعَاتٌ وَذَلِكَ مِنْ بَابِ الْإِحْسَانِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمُبَالَغَةُ فِي أَدَاءِ الطَّاعَاتِ بِحَسَبِ الْكِمِّيَّةِ وَبِحَسَبِ الْكَيْفِيَّةِ هُوَ الْإِحْسَانُ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ:
أَنَّ جِبْرِيلَ لَمَّا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْإِحْسَانِ قَالَ: «الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ».
فَإِنْ قَالُوا: لِمَ سُمِّيَ هَذَا الْمَعْنَى بِالْإِحْسَانِ؟
قُلْنَا: كَأَنَّهُ بِالْمُبَالَغَةِ فِي الطَّاعَةِ يُحْسِنُ إِلَى نَفْسِهِ وَيُوصِلُ الْخَيْرَ وَالْفِعْلَ الْحَسَنَ إِلَى نَفْسِهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعَدْلَ عِبَارَةٌ عَنِ الْقَدْرِ الْوَاجِبِ مِنَ الْخَيْرَاتِ، وَالْإِحْسَانَ عِبَارَةٌ عَنِ الزِّيَادَةِ فِي تِلْكَ الطَّاعَاتِ بِحَسَبِ الْكِمِّيَّةِ وَبِحَسَبِ الْكَيْفِيَّةِ، وَبِحَسَبِ الدَّوَاعِي وَالصَّوَارِفِ، وَبِحَسَبِ الِاسْتِغْرَاقِ فِي شُهُودِ مَقَامَاتِ الْعُبُودِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ، فَهَذَا هُوَ الْإِحْسَانُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِحْسَانَ بِالتَّفْسِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ دَخَلَ فِيهِ التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالشَّفَقَةُ عَلَى خَلْقِ الله، وَمِنَ الظَّاهِرِ أَنَّ الشَّفَقَةَ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ أَقْسَامٌ كَثِيرَةٌ وَأَشْرَفُهَا وَأَجَلُّهَا صِلَةُ الرَّحِمِ لَا جَرَمَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَفْرَدَهُ بِالذِّكْرِ فَقَالَ:
وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى فَهَذَا تَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا. وَأَمَّا الثَّلَاثَةُ الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَنْهَا، وَهِيَ الْفَحْشَاءُ وَالْمُنْكَرُ وَالْبَغْيُ فَنَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى أَوْدَعَ فِي النَّفْسِّ الْبَشَرِيَّةِ قُوًى أَرْبَعَةً، وَهِيَ الشَّهْوَانِيَّةُ الْبَهِيمِيَّةُ وَالْغَضَبِيَّةُ السَّبُعِيَّةُ وَالْوَهْمِيَّةُ الشَّيْطَانِيَّةُ وَالْعَقْلِيَّةُ الْمَلَكِيَّةُ وَهَذِهِ الْقُوَّةُ الرَّابِعَةُ أَعْنِي الْعَقْلِيَّةَ الْمَلَكِيَّةَ لَا يَحْتَاجُ الْإِنْسَانُ إِلَى تَأْدِيبِهَا وَتَهْذِيبِهَا، لِأَنَّهَا مِنْ جَوَاهِرِ الْمَلَائِكَةِ، وَمِنْ نَتَائِجِ الْأَرْوَاحِ الْقُدْسِيَّةِ الْعُلْوِيَّةِ، إِنَّمَا الْمُحْتَاجُ إِلَى التَّأْدِيبِ وَالتَّهْذِيبِ تِلْكَ الْقُوَى الثَّلَاثَةُ الأولى. أَمَّا الْقُوَّةُ الشَّهْوَانِيَّةُ، فَهِيَ إِنَّمَا تُرَغِّبُ فِي تَحْصِيلِ اللَّذَّاتِ الشَّهْوَانِيَّةِ، وَهَذَا النوع مَخْصُوصٌ بِاسْمِ الْفُحْشِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّى الزِّنَا فَاحِشَةً فَقَالَ: إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلًا [النساء: ٢٢] فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ الْمُرَادُ مِنْهُ الْمَنْعُ مِنْ تَحْصِيلِ اللَّذَّاتِ الشَّهْوَانِيَّةِ الْخَارِجَةِ عَنْ إِذْنِ الشَّرِيعَةِ، وَأَمَّا الْقُوَّةُ الْغَضَبِيَّةُ السَّبُعِيَّةُ فَهِيَ: أَبَدًا تَسْعَى فِي إِيصَالِ الشَّرِّ وَالْبَلَاءِ وَالْإِيذَاءِ إِلَى سَائِرِ النَّاسِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ النَّاسَ يُنْكِرُونَ تِلْكَ الْحَالَةَ، فَالْمُنْكَرُ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِفْرَاطِ الْحَاصِلِ فِي آثَارِ الْقُوَّةِ الْغَضَبِيَّةِ. وَأَمَّا الْقُوَّةُ الْوَهْمِيَّةُ الشَّيْطَانِيَّةُ فَهِيَ أَبَدًا تَسْعَى فِي الِاسْتِعْلَاءِ عَلَى النَّاسِ وَالتَّرَفُّعِ وَإِظْهَارِ الرِّيَاسَةِ وَالتَّقَدُّمِ، وَذَلِكَ هو المراد
ثم قال تَعَالَى: يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَعِظُكُمْ أَمْرُهُ تَعَالَى بِتِلْكَ الثَّلَاثَةِ وَنَهْيُهُ عَنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ [النَّحْلِ: ٨٩] أَرْدَفَهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ مُشْتَمِلَةً عَلَى الْأَمْرِ بِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ، وَالنَّهْيِ عَنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، كَانَ ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِكَوْنِ الْقُرْآنِ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ هُوَ هَذِهِ التَّكَالِيفُ السِّتَّةُ وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ كَذَلِكَ، لِأَنَّ جَوْهَرَ النَّفْسِ مِنْ زُمْرَةِ الْمَلَائِكَةِ وَمِنْ نَتَائِجِ الْأَرْوَاحِ الْعَالِيَةِ الْقُدْسِيَّةِ إِلَّا أَنَّهُ دَخَلَ فِي هَذَا الْعَالَمِ خَالِيًا عَارِيًا عَنِ التَّعَلُّقَاتِ فَتِلْكَ الثَّلَاثَةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا هِيَ الَّتِي تُرَقِّيهَا بِالْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَتِلْكَ الْمَعَارِفُ وَالْأَعْمَالُ هِيَ الَّتِي تُرَقِّيهَا إِلَى عَالَمِ الْغَيْبِ وَسُرَادِقَاتِ الْقُدْسِ، وَمُجَاوَرَةِ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ فِي جِوَارِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَتِلْكَ الثَّلَاثَةُ الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَنْهَا هِيَ الَّتِي تَصُدُّهَا عَنْ تِلْكَ السَّعَادَاتِ وَتَمْنَعُهَا عَنِ الْفَوْزِ بِتِلْكَ الْخَيْرَاتِ، فَلَمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِتِلْكَ الثَّلَاثَةِ، وَنَهَى عَنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فَقَدْ نَبَّهَ عَلَى كُلِّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُسَافِرُونَ مِنْ عَالَمِ الدُّنْيَا إِلَى مَبْدَأِ عَرْصَةِ الْقِيَامَةِ.
المسألة الثَّانِيَةُ: قَالَ الْكَعْبِيُّ: الْآيَةُ تَدُّلُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَخْلُقُ الْجَوْرَ وَالْفَحْشَاءَ، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى كَيْفَ يَنْهَاهُمْ عَمَّا يَخْتَرِعُهُ فِيهِمْ، وَكَيْفَ يَنْهَى عَمَّا يُرِيدُ تَحْصِيلَهُ فِيهِمْ وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَالُوا لَكَانَ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَفْعَلُوا خِلَافَ مَا خَلَقَهُ فِيكُمْ وَيَنْهَاكُمْ عَنْ أَفْعَالٍ خَلَقَهَا فِيكُمْ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ فِي بَدِيهَةِ الْعَقْلِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَنَهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ، فَلَوْ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِتِلْكَ الثَّلَاثَةِ ثُمَّ إِنَّهُ مَا فَعَلَهَا لَدَخَلَ تَحْتَ قَوْلِهِ: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ [الْبَقَرَةِ: ٤٤] وَتَحْتَ قَوْلُهُ: لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصَّفِّ: ٢، ٣]. الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّرَجِّي وَالتَّمَنِّي، فَإِنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى يَعِظُكُمْ لِإِرَادَةِ أَنْ تَتَذَكَّرُوا طَاعَتَهُ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُرِيدُ الْإِيمَانَ مِنَ الْكُلِّ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ صَرَّحَ وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القربي، ولكنه تمنع مِنْهُ وَيَصُدُّ عَنْهُ وَلَا يُمَكِّنُ الْعَبْدَ مِنْهُ. ثم قال: وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ وَلَكِنَّهُ يُوجِدُ كُلَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فِي الْعَبْدِ شَاءَ أَمْ أَبَى وَأَرَادَهُ مِنْهُ وَمَنَعَهُ مِنْ تَرْكِهِ، وَمِنَ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ لَحَكَمَ كُلُّ أَحَدٍ عَلَيْهِ بِالرَّكَاكَةِ وَفَسَادِ النَّظْمِ وَالتَّرْكِيبِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ سُبْحَانَهُ مُتَعَالِيًا عَنْ فِعْلِ الْقَبَائِحِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا النوع مِنَ الِاسْتِدْلَالِ كَثِيرٌ، وَقَدْ مَرَّ الْجَوَابُ عَنْهُ وَالْمُعْتَمَدُ فِي دَفْعِ هَذِهِ الْمُشَاغَبَاتِ التَّعْوِيلُ عَلَى سُؤَالِ الدَّاعِي وَسُؤَالِ الْعِلْمِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْوَعْظِ أَنْ يُقْدِمُوا عَلَى تَحْصِيلِ ذَلِكَ التَّذَكُّرِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنِ التَّذَكُّرُ فِعْلًا لَهُ فَكَيْفَ طَلَبَ مِنْهُ تَحْصِيلَهُ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَحْتَجُّ بِهِ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُرِيدُ منه ذلك. والله أعلم.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٩١ الى ٩٢]
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (٩١) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٩٢)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا جَمَعَ كُلَّ الْمَأْمُورَاتِ وَالْمَنْهِيَّاتِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَعْضَ تِلْكَ الْأَقْسَامِ، فَبَدَأَ تَعَالَى بِالْأَمْرِ بِالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: بِعَهْدِ اللَّهِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : عَهْدُ اللَّهِ هِيَ الْبَيْعَةُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْإِسْلَامِ لِقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الْفَتْحِ: ١٠] أَيْ وَلَا تَنْقُضُوا أَيْمَانَ الْبَيْعَةِ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا، أَيْ بَعْدَ تَوْثِيقِهَا بِاسْمِ اللَّهِ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ كُلُّ عَهْدٍ يَلْتَزِمُهُ الْإِنْسَانُ بِاخْتِيَارِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَالْوَعْدُ مِنَ الْعَهْدِ، وَقَالَ/ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ مَنْ عاهدته ف بِعَهْدِهِ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا فَإِنَّمَا الْعَهْدُ لِلَّهِ تَعَالَى. الثَّالِثُ: قَالَ الْأَصَمُّ: الْمُرَادُ مِنْهُ الْجِهَادُ وَمَا فَرَضَ اللَّهُ فِي الْأَمْوَالِ مِنْ حَقٍّ. الرَّابِعُ: عَهْدُ اللَّهِ هُوَ الْيَمِينُ بِاللَّهِ، وَقَالَ هَذَا الْقَائِلُ: إِنَّمَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِالْيَمِينِ إِذَا لَمْ يَكُنِ الصَّلَاحُ فِي خِلَافِهِ،
لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ ثُمَّ لْيُكَفِّرْ».
الْخَامِسُ: قَالَ الْقَاضِي الْعَهْدُ يَتَنَاوَلُ كُلَّ أَمْرٍ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِمُقْتَضَاهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَدِلَّةَ الْعَقْلِ وَالسَّمْعِ أَوْكَدُ فِي لُزُومِ الْوَفَاءِ بِمَا يَدُلَّانِ عَلَى وُجُوبِهِ مِنَ الْيَمِينِ وَلِذَلِكَ لَا يَصِحُّ فِي هَذَيْنِ الدَّلِيلَيْنِ التَّغَيُّرُ وَالِاخْتِلَافُ، وَيَصِحُّ ذَلِكَ فِي الْيَمِينِ وَرُبَّمَا نَدَبَ فِيهِ خِلَافَ الْوَفَاءِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ فَهَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُخْتَصًّا بِالْعُهُودِ الَّتِي يَلْتَزِمُهَا الْإِنْسَانُ بِاخْتِيَارِ نَفْسِهِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِذا عاهَدْتُمْ يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى وَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي مُعْتَبَرًا وَلِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ: وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ وَارِدَةٌ فِيمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولِ، وَأَيْضًا يَجِبُ أَنْ لَا يُحْمَلَ هَذَا الْعَهْدُ عَلَى الْيَمِينِ، لِأَنَّا لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَيْهِ لَكَانَ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها تَكْرَارًا لِأَنَّ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ وَالْمَنْعَ مِنَ النَّقْضِ مُتَقَارِبَانِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْفِعْلِ يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنِ التَّرْكِ إِلَّا إِذَا قِيلَ إِنَّ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ عَامٌّ فَدَخَلَ تَحْتَهُ الْيَمِينُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خص اليمين بالذر تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ أَوْلَى أَنْوَاعِ الْعَهْدِ بِوُجُوبِ الرِّعَايَةِ، وَعِنْدَ هَذَا نَقُولُ الْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ هَذَا الْعَهْدُ عَلَى مَا
البحث الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: يُقَالُ وَكَّدْتُ وَأَكَّدْتُ لُغَتَانِ جَيِّدَتَانِ، وَالْأَصْلُ الْوَاوُ، وَالْهَمْزَةُ بَدَلٌ مِنْهَا.
البحث الثَّانِي: قَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَمِينُ اللَّغْوِ هِيَ يَمِينُ الْغَمُوسِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها فَنَهَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَنْ نَقْضِ الْأَيْمَانِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ يَمِينٍ قَابِلًا لِلْبِرِّ وَالْحِنْثِ، وَيَمِينُ الْغَمُوسِ غَيْرُ قَابِلَةٍ لِلْبِرِّ وَالْحِنْثِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَكُونَ مِنَ الْأَيْمَانِ. وَاحْتَجَّ الْوَاحِدِيُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ يَمِينَ اللَّغْوِ هِيَ قَوْلُ الْعَرَبِ لَا وَاللَّهِ وَبَلَى وَاللَّهِ. قَالَ إِنَّمَا قَالَ تَعَالَى: بَعْدَ تَوْكِيدِها لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْأَيْمَانِ الْمُؤَكَّدَةِ بِالْعَزْمِ وَبِالْعَقْدِ وَبَيْنَ لَغْوِ الْيَمِينِ.
البحث الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها عَامٌّ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ، لِأَنَّا بَيَّنَّا/ أَنَّ الْخَبَرَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَتَى كَانَ الصَّلَاحُ فِي نَقْضِ الْأَيْمَانِ جَازَ نَقْضُهَا.
ثم قال: وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا هَذِهِ وَاوُ الْحَالِ، أَيْ لَا تَنْقُضُوهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ كَفِيلًا عَلَيْكُمْ بِالْوَفَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ حَلَفَ بِاللَّهِ تَعَالَى فَكَأَنَّهُ قَدْ جَعَلَ اللَّهَ كَفِيلًا بِالْوَفَاءِ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْحَلِفِ.
ثم قال: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وَفِيهِ تَرْغِيبٌ وَتَرْهِيبٌ، وَالْمُرَادُ فَيُجَازِيكُمْ عَلَى مَا تَفْعَلُونَ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَكَّدَ وُجُوبَ الْوَفَاءِ، وَتَحْرِيمَ النَّقْضِ وَقَالَ: وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً وَفِيهِ مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: فِي الْمُشَبَّهِ بِهِ قَوْلَانِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ يُقَالُ لَهَا رَايِطَةُ، وَقِيلَ رَيْطَةُ، وَقِيلَ تُلَقَّبُ جَعْرَاءَ وَكَانَتْ حَمْقَاءَ تَغْزِلُ الْغَزْلَ هِيَ وَجَوَارِيهَا فَإِذَا غَزَلَتْ وَأَبْرَمَتْ أَمَرَتْهُنَّ فَنَقَضْنَ مَا غَزَلْنَ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَثَلِ الْوَصْفُ دُونَ التَّعْيِينِ، لِأَنَّ الْقَصْدَ بِالْأَمْثَالِ صَرْفُ الْمُكَلَّفِ عَنْهُ إِذَا كَانَ قَبِيحًا، وَالدُّعَاءُ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ حَسَنًا، وَذَلِكَ يَتِمُّ بِهِ مِنْ دُونِ التَّعْيِينِ.
المسألة الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أي من به قُوَّةِ الْغَزْلِ بِإِبْرَامِهَا وَفَتْلِهَا.
المسألة الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: أَنْكاثاً قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: وَاحِدُهَا: نِكْثٌ وَهُوَ الْغَزْلُ مِنَ الصُّوفِ وَالشَّعْرِ يُبْرَمُ وَيُنْسَجُ فَإِذَا أَحْكَمَتِ النَّسِيجَةَ قَطَعَتْهَا وَنَكَثَتْ خُيُوطَهَا الْمُبْرَمَةَ وَنَفَشَتْ تِلْكَ الْخُيُوطَ وَخَلَطَتْ بِالصُّوفِ ثُمَّ غَزَلَتْ ثَانِيَةً، وَالنَّكْثُ الْمَصْدَرُ، وَمِنْهُ يُقَالُ نَكَثَ فُلَانٌ عَهْدَهُ إِذَا نَقَضَهُ بَعْدَ إِحْكَامِهِ كَمَا يُنْكَثُ خَيْطُ الصُّوفِ بَعْدَ إِبْرَامِهِ.
المسألة الرَّابِعَةُ: فِي انْتِصَابِ قَوْلِهِ: أَنْكاثاً وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: أَنْكَاثًا مَنْصُوبٌ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ لِأَنَّ مَعْنَى نَكَثَتْ نَقَضَتْ وَمَعْنَى نَقَضَتْ نَكَثَتْ، وَهَذَا غَلَطٌ مِنْهُ، لِأَنَّ الْأَنْكَاثَ جَمْعُ نِكْثٍ وَهُوَ اسْمٌ لَا مَصْدَرٌ فَكَيْفَ يَكُونُ قَوْلُهُ: أَنْكاثاً بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ؟ الثَّانِي: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: أَنْكَاثًا مَفْعُولٌ ثَانٍ كَمَا تَقُولُ كسره
المسألة الْخَامِسَةُ: قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: هَذِهِ الْآيَةُ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا، وَالتَّقْدِيرُ: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا، فَإِنَّكُمْ إِنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ كُنْتُمْ مِثْلَ الْمَرْأَةِ الَّتِي غَزَلَتْ غَزْلًا وَأَحْكَمَتْهُ فَلَمَّا اسْتَحْكَمَ نَقَضَتْهُ فَجَعَلَتْهُ أَنْكَاثًا.
ثم قال تَعَالَى: تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الدَّخَلُ وَالدَّغَلُ الْغِشُّ وَالْخِيَانَةُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: كُلُّ مَا دَخَلَهُ عَيْبٌ قِيلَ هُوَ مَدْخُولٌ وَفِيهِ دَخَلٌ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الدَّخَلُ مَا أُدْخِلَ فِي الشَّيْءِ عَلَى فَسَادٍ.
ثم قال: أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ أَرْبَى أَيْ أَكْثَرُ مِنْ رَبَا الشَّيْءُ يَرْبُو إِذَا زَادَ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ قَدْ تَكُونُ فِي الْعَدَدِ وَفِي الْقُوَّةِ وَفِي الشَّرَفِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانُوا يُحَالِفُونَ الْحُلَفَاءَ ثُمَّ يَجِدُونَ مَنْ كَانَ أَعَزَّ مِنْهُمْ وَأَشْرَفَ فَيَنْقُضُونَ حِلْفَ الْأَوَّلِينَ وَيُحَالِفُونَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ أَعَزُّ، فَنَهَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: أَنْ تَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّكُمْ تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ بِسَبَبِ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ فِي الْعَدَدِ وَالْقُوَّةِ وَالشَّرَفِ.
فَقَوْلُهُ: تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ، وَالْمَعْنَى: أَتَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ بِسَبَبِ أَنَّ أُمَّةً أَزْيَدُ فِي الْقُوَّةِ وَالْكَثْرَةِ مِنْ أُمَّةٍ أُخْرَى.
ثم قال تَعَالَى: إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ أَيْ بِمَا يَأْمُرُكُمْ وَيَنْهَاكُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ: وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فَيَتَمَيَّزُ الْمُحِقُّ مِنَ الْمُبْطِلِ بِمَا يَظْهَرُ مِنْ دَرَجَاتِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[سورة النحل (١٦) : آية ٩٣]
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٣)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا كَلَّفَ الْقَوْمَ بِالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَتَحْرِيمِ نَقْضِهِ، أَتْبَعَهُ بِبَيَانِ أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَجْمَعَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَفَاءِ وَعَلَى سَائِرِ أَبْوَابِ الْإِيمَانِ، وَلَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ بِحُكْمِ الْإِلَهِيَّةِ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ. أَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ: فَإِنَّهُمْ حَمَلُوا ذَلِكَ عَلَى الْإِلْجَاءِ، أَيْ لَوْ أَرَادَ أَنْ يُلْجِئَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ أَوْ إِلَى الْكُفْرِ لَقَدَرَ عَلَيْهِ، إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ يُبْطِلُ التَّكْلِيفَ، فَلَا جَرَمَ مَا أَلْجَأَهُمْ إِلَيْهِ وَفَوَّضَ الْأَمْرَ إِلَى اخْتِيَارِهِمْ فِي هَذِهِ التَّكَالِيفِ، وَأَمَّا قَوْلُ أَصْحَابِنَا فِيهِ فَهُوَ ظَاهِرٌ، وَهَذِهِ الْمُنَاظَرَةُ قَدْ تَكَرَّرَتْ مرارا كثيرة،
وروى الواحدي أن عزيزا قَالَ: يَا رَبِّ خَلَقْتَ الْخَلْقَ فَتُضِلُّ مَنْ تشاء وتهدي من تشاء، فقال: يا عزير أَعْرِضْ عَنْ هَذَا، فَأَعَادَهُ ثَانِيًا. فَقَالَ: أَعْرِضْ عَنْ هَذَا، فَأَعَادَهُ ثَالِثًا، فَقَالَ: أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَإِلَّا مَحَوْتُ اسْمَكَ مِنَ النُّبُوَّةِ.
قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْمَشِيئَةِ مَشِيئَةُ الْإِلْجَاءِ، أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بعده: وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فَلَوْ كَانَتْ أَعْمَالُ الْعِبَادِ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى لَكَانَ سُؤَالُهُمْ عَنْهَا عَبَثًا، وَالْجَوَابُ عَنْهُ قَدْ سَبَقَ مِرَارًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٩٤ الى ٩٧]
وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٩٤) وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩٥) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٦) مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٧)
وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا يُرِيدُ عَرَضَ الدُّنْيَا وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا، إِلَّا أَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، يَعْنِي أَنَّكُمْ وَإِنْ وَجَدْتُمْ عَلَى نَقْضِ عَهْدِ الْإِسْلَامِ خَيْرًا مِنْ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا، فَلَا تَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ، لِأَنَّ الَّذِي أَعَدَّهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْبَقَاءِ عَلَى الْإِسْلَامِ خَيْرٌ وَأَفْضَلُ وَأَكْمَلُ مِمَّا يَجِدُونَهُ فِي الدُّنْيَا عَلَى نَقْضِ عَهْدِ الْإِسْلَامِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ التَّفَاوُتَ بَيْنَ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا وَبَيْنَ خَيْرَاتِ الْآخِرَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ الدَّلِيلَ الْقَاطِعَ عَلَى أَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِمَّا يَجِدُونَهُ مِنْ طَيِّبَاتِ الدُّنْيَا فَقَالَ: مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَفِيهِ بَحْثَانِ:
البحث الْأَوَّلُ: الْحِسُّ شَاهِدٌ بِأَنَّ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا مُنْقَطِعَةٌ، وَالْعَقْلُ دَلَّ عَلَى أَنَّ خَيْرَاتِ الْآخِرَةِ بَاقِيَةٌ، وَالْبَاقِي خَيْرٌ مِنَ الْمُنْقَطِعِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ هَذَا الْمُنْقَطِعَ إِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ كَانَ خَيْرًا عَالِيًا شَرِيفًا أَوْ كَانَ خَيْرًا دَنِيًّا خَسِيسًا، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ كَانَ خَيْرًا عَالِيًا شَرِيفًا فَالْعِلْمُ بِأَنَّهُ سَيَنْقَطِعُ يَجْعَلُهُ مُنَغَّصًا حَالَ حُصُولِهِ، وَأَمَّا حَالَ حُصُولِ ذَلِكَ الِانْقِطَاعِ فَإِنَّهَا تَعْظُمُ الْحَسْرَةُ وَالْحُزْنُ، وَكَوْنُ تِلْكَ النِّعْمَةِ الْعَالِيَةِ الشَّرِيفَةِ كَذَلِكَ يُنَغِّصُ فِيهَا وَيُقَلِّلُ مَرْتَبَتَهَا وَتَفْتُرُ الرَّغْبَةُ فِيهَا، وَأَمَّا إِنْ قُلْنَا: إِنَّ تِلْكَ النِّعْمَةَ الْمُنْقَطِعَةَ كَانَتْ مِنَ الْخَيْرَاتِ الْخَسِيسَةِ فَهَمُّنَا مِنَ الظَّاهِرِ أَنَّ ذَلِكَ الْخَيْرَ الدَّائِمَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ الْخَيْرِ الْمُنْقَطِعِ، فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ بُرْهَانٌ قَاطِعٌ عَلَى أَنَّ خَيْرَاتِ الْآخِرَةِ أَفْضَلُ مِنْ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا.
البحث الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نَعِيمَ أَهْلِ الْجَنَّةِ بَاقٍ لَا يَنْقَطِعُ. وَقَالَ جَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ: إِنَّهُ مُنْقَطِعٌ وَالْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا آمَنَ بِاللَّهِ فَقَدِ الْتَزَمَ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ، وَحِينَئِذٍ يَجِبُ عَلَيْهِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَصْبِرَ عَلَى ذَلِكَ الِالْتِزَامِ وَأَنْ لَا يَرْجِعَ عَنْهُ وَأَنْ لَا يَنْقُضَهُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ، وَالثَّانِي: أَنْ يَأْتِيَ بِكُلِّ مَا هُوَ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَلَوَازِمِهِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى رَغَّبَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الصَّبْرُ عَلَى مَا الْتَزَمُوهُ، فقال:
مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ وَفِي الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لَفْظَةُ «مَنْ» فِي قَوْلِهِ: مَنْ عَمِلَ صالِحاً تُفِيدُ الْعُمُومَ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى؟
وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لِلْوَعْدِ بِالْخَيْرَاتِ وَالْمُبَالَغَةُ فِي تَقْرِيرِ الْوَعْدِ مِنْ أَعْظَمِ دَلَائِلِ الْكَرَمِ وَالرَّحْمَةِ إِثْبَاتًا لِلتَّأْكِيدِ وَإِزَالَةً لِوَهْمِ التَّخْصِيصِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: هَلْ تَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ مُغَايِرٌ لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ؟
وَالْجَوَابُ: نَعَمْ لِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْإِيمَانَ شَرْطًا فِي كَوْنِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ مُوجِبًا لِلثَّوَابِ. وَشَرْطُ الشَّيْءِ مُغَايِرٌ لِذَلِكَ الشَّيْءِ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ إِنَّمَا يُفِيدُ الْأَثَرَ بِشَرْطِ الْإِيمَانِ، فَظَاهِرُ قَوْلِهِ: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ يُفِيدُ الْأَثَرَ سَوَاءٌ كَانَ مَعَ الْإِيمَانِ أَوْ كَانَ مَعَ عَدَمِهِ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ إِفَادَةَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ لِلْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ مَشْرُوطٌ بِالْإِيمَانِ، أَمَّا إِفَادَتُهُ لِأَثَرٍ غَيْرِ هَذِهِ الْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ وَهُوَ تَخْفِيفُ الْعِقَابِ فَإِنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِيمَانِ.
السُّؤَالُ الرَّابِعُ: هَذِهِ الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ تَحْصُلُ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْقَبْرِ أَوْ فِي الْآخِرَةِ.
وَالْجَوَابُ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: قَالَ الْقَاضِي: الْأَقْرَبُ أَنَّهَا تَحْصُلُ فِي الدُّنْيَا بِدَلِيلِ أَنَّهُ تَعَالَى أَعْقَبَهُ بِقَوْلِهِ: وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ وَلَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ مَا يَكُونُ فِي الْآخِرَةِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ مَا يَحْصُلُ فِي الْآخِرَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ وَعَدَهُمُ اللَّهُ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يَجْزِيهِمْ عَلَى مَا هُوَ أَحْسَنُ أَعْمَالِهِمْ فَهَذَا لَا امْتِنَاعَ فِيهِ.
فَإِنْ قِيلَ: بِتَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ إِنَّمَا تَحْصُلُ فِي الدُّنْيَا فَمَا هِيَ؟
وَالْجَوَابُ: ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا قِيلَ: هُوَ الرِّزْقُ الْحَلَالُ الطَّيِّبُ، وَقِيلَ: عِبَادَةُ اللَّهِ مَعَ أَكْلِ الْحَلَالِ، وَقِيلَ:
الْقَنَاعَةُ، وَقِيلَ: رِزْقُ يَوْمٍ بِيَوْمٍ
كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: «قَنِّعْنِي بِمَا رَزَقْتَنِي»
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو: «اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ كَفَافًا»
قَالَ الْوَاحِدِيُّ وَقَوْلُ من يقول: إن الْقَنَاعَةُ حَسَنٌ مُخْتَارٌ لِأَنَّهُ لَا يَطِيبُ عَيْشُ أَحَدٍ فِي الدُّنْيَا إِلَّا عَيْشَ الْقَانِعِ وَأَمَّا الْحَرِيصُ فَإِنَّهُ يَكُونُ أَبَدًا فِي الْكَدِّ وَالْعَنَاءِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ عَيْشَ الْمُؤْمِنِ فِي الدَّنْيَا أَطْيَبُ مِنْ عَيْشِ الْكَافِرِ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَمَّا عَرَفَ أَنَّ رِزْقَهُ إِنَّمَا حَصَلَ
وَاعْلَمْ أَنَّ مَا كَانَ وَاجِبَ التَّغَيُّرِ فَإِنَّهُ عِنْدَ وُصُولِهِ إِلَيْهِ لَا تَنْقَلِبُ حَقِيقَتُهُ وَلَا تَتَبَدَّلُ مَاهِيَّتُهُ، فَعِنْدَ وُصُولِهِ إِلَيْهِ يَكُونُ أَيْضًا وَاجِبَ التَّغَيُّرِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يَطْبَعُ الْعَاقِلُ قَلْبَهُ عَلَيْهِ وَلَا يُقِيمُ لَهُ فِي قَلْبِهِ وَزْنًا بِخِلَافِ الْجَاهِلِ فَإِنَّهُ يَكُونُ غَافِلًا عَنْ هَذِهِ الْمَعَارِفِ فَيَطْبَعُ قَلْبَهُ عَلَيْهَا وَيُعَانِقُهَا مُعَانَقَةَ الْعَاشِقِ لِمَعْشُوقِهِ فَعِنْدَ فَوْتِهِ وَزَوَالِهِ يَحْتَرِقُ قَلْبُهُ وَيَعْظُمُ الْبَلَاءُ عِنْدَهُ، فَهَذِهِ وُجُوهٌ كَافِيَةٌ فِي بَيَانِ أَنَّ عَيْشَ الْمُؤْمِنِ الْعَارِفِ أَطْيَبُ مِنْ عَيْشِ الْكَافِرِ هَذَا كُلُّهُ إِذَا فَسَّرْنَا الْحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ بِأَنَّهَا فِي الدُّنْيَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ السُّدِّيِّ إِنَّ هَذِهِ الْحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ إِنَّمَا تَحْصُلُ فِي الْقَبْرِ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ إِنَّ هَذِهِ الْحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا فِي الْآخِرَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ [الِانْشِقَاقِ: ٦] فَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْكَدْحَ بَاقٍ إِلَى أَنْ يَصِلَ إِلَى رَبِّهِ وَذَلِكَ مَا قُلْنَاهُ، وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ الْحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ فِي الْجَنَّةِ فَلِأَنَّهَا حَيَاةٌ بِلَا مَوْتٍ وَغِنًى بِلَا فَقْرٍ، وَصِحَّةٌ بِلَا مَرَضٍ، وَمُلْكٌ بِلَا زَوَالٍ، وَسَعَادَةٌ بِلَا شَقَاءٍ، فَثَبَتَ أَنَّ الْحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ لَيْسَتْ إِلَّا تِلْكَ الْحَيَاةَ، ثَمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ وقد سبق تفسيره والله أعلم.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٩٨ الى ١٠٠]
فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٩٨) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (١٠٠)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ: وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: ٩٧] أَرْشَدَ إِلَى الْعَمَلِ الَّذِي بِهِ تَخْلُصُ أَعْمَالُهُ عَنِ الْوَسَاوِسِ فَقَالَ: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: الشَّيْطَانُ سَاعٍ فِي إِلْقَاءِ الْوَسْوَسَةِ فِي الْقَلْبِ حَتَّى فِي حَقِّ الْأَنْبِيَاءِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الْحَجِّ: ٥٢] وَالِاسْتِعَاذَةُ بِاللَّهِ مَانِعَةٌ لِلشَّيْطَانِ مِنْ إِلْقَاءِ الْوَسْوَسَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ
[الْأَعْرَافِ: ٢٠١] فَلِهَذَا السَّبَبِ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ بِالِاسْتِعَاذَةِ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ حَتَّى تَبْقَى تِلْكَ الْقِرَاءَةُ مَصُونَةً عَنِ الْوَسْوَسَةِ.
المسألة الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ خِطَابٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْكُلُّ، لِأَنَّ الرَّسُولَ لَمَّا كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى الِاسْتِعَاذَةِ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ فَغَيْرُ الرَّسُولِ أَوْلَى بِهَا.
المسألة الثَّالِثَةُ: الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ لِلتَّعْقِيبِ فَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ بَعْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَمَالِكٍ وَدَاوُدَ قَالُوا:
وَالْفَائِدَةُ فِيهِ أَنَّهُ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ اسْتَحَقَّ بِهِ ثَوَابًا عَظِيمًا، فَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِالِاسْتِعَاذَةِ وَقَعَتِ الْوَسْوَسَةُ فِي قَلْبِهِ، وَتِلْكَ الْوَسْوَسَةُ تُحْبِطُ ثَوَابَ الْقِرَاءَةِ أَمَّا إِذَا اسْتَعَاذَ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ انْدَفَعَتِ الْوَسَاوِسُ وَبَقِيَ الثَّوَابُ مَصُونًا عَنِ الْإِحْبَاطِ. أَمَّا الْأَكْثَرُونَ مِنْ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْقِرَاءَةِ، وَقَالُوا: مَعْنَى الْآيَةِ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَقْرَأَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ اسْتَعِذْ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ، وَمِثْلُهُ إِذَا أَكَلْتَ فَقُلْ: بِسْمِ اللَّهِ وَإِذَا سَافَرْتَ فَتَأَهَّبْ، وَنَظِيرُهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا [الْمَائِدَةِ: ٦] أَيْ إِذَا أَرَدْتُمُ الْقِيَامَ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا، وَأَيْضًا لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الشَّيْطَانَ أَلْقَى الْوَسْوَسَةَ فِي أَثْنَاءِ قِرَاءَةِ الرَّسُولِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الْحَجِّ: ٥٢] وَمِنَ الظَّاهِرِ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَمَرَ الرَّسُولَ بِالِاسْتِعَاذَةِ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ لِدَفْعِ تِلْكَ الْوَسَاوِسِ، فَهَذَا الْمَقْصُودُ إِنَّمَا يَحْصُلُ عِنْدَ تَقْدِيمِ الِاسْتِعَاذَةِ.
المسألة الرَّابِعَةُ: مَذْهَبُ عَطَاءٍ: أَنَّهُ تَجِبُ الِاسْتِعَاذَةُ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ سَوَاءٌ كَانَتِ الْقِرَاءَةُ/ فِي الصَّلَاةِ أَوْ غَيْرِهَا، وَسَائِرُ الْفُقَهَاءِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَتَعَوَّذْ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ، فَصَلَاتُهُ مَاضِيَةٌ، وَكَذَلِكَ حَالُ الْقِرَاءَةِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ لَكِنْ حَالُ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ آكَدُ.
المسألة الْخَامِسَةُ: الْمُرَادُ بِالشَّيْطَانِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قِيلَ إِبْلِيسُ، وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ لِلْجِنْسِ، لِأَنَّ لِجَمِيعِ الْمَرَدَةِ مِنَ الشَّيَاطِينِ حَظًّا فِي الْوَسْوَسَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ رَسُولَهُ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنَ الشَّيْطَانِ وَكَانَ ذَلِكَ يُوهِمُ أَنَّ لِلشَّيْطَانِ قُدْرَةً عَلَى التَّصَرُّفِ فِي أَبْدَانِ النَّاسِ، فَأَزَالَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْوَهْمَ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَهُ الْبَتَّةَ إِلَّا عَلَى الْوَسْوَسَةِ فَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وَيَظْهَرُ مِنْ هَذَا أَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ إِنَّمَا تُفِيدُ إِذَا حَضَرَ فِي قَلْبِ الْإِنْسَانِ كَوْنُهُ ضَعِيفًا، وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ التَّحَفُّظُ عَنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ إِلَّا بِعِصْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: لَا حَوْلَ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا بِعِصْمَةِ اللَّهِ، وَلَا قُوَّةَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ إِلَّا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالتَّفْوِيضُ الْحَاصِلُ عَلَى هَذَا الوجه هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ.
ثم قال: إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُطِيعُونَهُ يُقَالُ: تَوَلَّيْتُهُ أَيْ أَطَعْتُهُ وَتَوَلَّيْتُ عَنْهُ أَيْ أَعْرَضْتُ عَنْهُ: وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: (بِهِ) إِلَى مَاذَا يَعُودُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى رَبِّهِمْ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الشَّيْطَانِ وَالْمَعْنَى بِسَبَبِهِ، وَهَذَا كَمَا تَقُولُ لِلرَّجُلِ إِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ مُؤَدِّيَةٍ إِلَى الْكُفْرِ كَفَرْتَ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ أَيْ مِنْ أَجْلِهَا، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ أَيْ مِنْ أَجْلِهِ وَمِنْ أَجْلِ حَمْلِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى الشِّرْكِ بالله صاروا مشركين.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١٠١ الى ١٠٢]
وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (١٠١) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (١٠٢)اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى شَرَعَ مِنْ هذا الموضع فِي حِكَايَةِ شُبُهَاتِ مُنْكِرِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كَانَ إِذَا نَزَلَتْ آيَةٌ فِيهَا شِدَّةٌ، ثُمَّ نَزَلَتْ آيَةٌ أَلْيَنُ مِنْهَا تَقُولُ كُفَّارُ قُرَيْشٍ: وَاللَّهِ مَا مُحَمَّدٌ إِلَّا يَسْخَرُ بِأَصْحَابِهِ، الْيَوْمَ يَأْمُرُ بِأَمْرٍ وَغَدًا يَنْهَى عَنْهُ، وَإِنَّهُ لَا يَقُولُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ إِلَّا مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلَهُ: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَمَعْنَى التَّبْدِيلِ، رَفْعُ الشَّيْءِ مَعَ وَضْعِ غَيْرِهِ مَكَانَهُ. وَتَبْدِيلُ الْآيَةِ رَفْعُهَا بِآيَةٍ أُخْرَى غَيْرِهَا، وَهُوَ نَسْخُهَا بِآيَةٍ سِوَاهَا، وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ اعْتِرَاضٌ دَخَلَ فِي الْكَلَامِ، وَالْمَعْنَى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ مِنَ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ وَالتَّغْلِيظِ وَالتَّخْفِيفِ، أَيْ هُوَ أَعْلَمُ بِجَمِيعِ ذَلِكَ فِي مَصَالِحِ الْعِبَادِ، وَهَذَا تَوْبِيخٌ لِلْكُفَّارِ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ أَيْ إِذَا كَانَ هُوَ أَعْلَمَ بِمَا يُنَزِّلُ فَمَا بَالُهُمْ ينسبون محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الِافْتِرَاءِ لِأَجْلِ التَّبْدِيلِ وَالنَّسْخِ، وَقَوْلُهُ: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَيْ لَا يَعْلَمُونَ حَقِيقَةَ الْقُرْآنِ وَفَائِدَةَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ وَأَنَّ ذَلِكَ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ كَمَا أَنَّ الطَّبِيبَ يَأْمُرُ الْمَرِيضَ بِشَرْبَةٍ، ثُمَّ بَعْدَ مُدَّةٍ يَنْهَاهُ عَنْهَا، وَيَأْمُرُهُ بِضِدِّ تِلْكَ الشَّرْبَةِ، وَقَوْلُهُ: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ تَفْسِيرُ رُوحِ الْقُدُسِ مَرَّ ذِكْرُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : رُوحُ الْقُدُسِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أُضِيفَ إِلَى الْقُدُسِ وَهُوَ الطُّهْرُ كَمَا يُقَالُ:
حَاتِمُ الْجُودِ وَزَيْدُ الْخَيْرِ، وَالْمُرَادُ الرُّوحُ الْمُقَدَّسُ، وَحَاتِمٌ الْجَوَادُ وَزَيْدٌ الْخَيْرُ، وَالْمُقَدَّسُ الْمُطَهَّرُ مِنَ الْمَاءِ وَ «مِنْ» فِي قَوْلِهِ: مِنْ رَبِّكَ صِلَةٌ لِلْقُرْآنِ أَيْ أَنَّ جِبْرِيلَ نَزَّلَ الْقُرْآنَ مِنْ رَبِّكَ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا أَيْ لِيَبْلُوَهُمْ بِالنَّسْخِ حَتَّى إِذَا قَالُوا فِيهِ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا حُكِمَ لَهُمْ بِثَبَاتِ الْقَدَمِ فِي الدِّينِ وَصِحَّةِ الْيَقِينِ بِأَنَّ اللَّهَ حَكِيمٌ فَلَا يَفْعَلُ إِلَّا مَا هُوَ حِكْمَةٌ وَصَوَابٌ: وَهُدىً وَبُشْرى مَفْعُولٌ لَهُمَا مَعْطُوفٌ عَلَى مَحَلِّ لِيُثَبِّتَ، وَالتَّقْدِيرُ: تَثْبِيتًا لَهُمْ وَإِرْشَادًا وَبِشَارَةً. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِحُصُولِ أَضْدَادِ هَذِهِ الصِّفَاتِ لِغَيْرِهِمْ.
المسألة الثَّانِيَةُ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ: أَنَّ النَّسْخَ غَيْرُ وَاقِعٍ فِي هَذِهِ الشريعة، فقال المراد هاهنا: إِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِثْلَ أَنَّهُ حَوَّلَ الْقِبْلَةَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى الْكَعْبَةِ، قَالَ الْمُشْرِكُونَ: أَنْتَ مُفْتَرٍ فِي هَذَا التَّبْدِيلِ، وَأَمَّا سَائِرُ الْمُفَسِّرِينَ فَقَالُوا: النَّسْخُ وَاقِعٌ فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ، وَالْكَلَامُ فِيهِ عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ فِي سَائِرِ السُّوَرِ.
المسألة الثَّالِثَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْقُرْآنُ لَا يُنْسَخُ بِالسُّنَّةِ، وَاحْتَجَّ عَلَى صِحَّتِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْآيَةَ لَا تَصِيرُ مَنْسُوخَةً إِلَّا بِآيَةٍ أُخْرَى، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ هَذِهِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُبَدِّلُ آيَةً بِآيَةٍ أُخْرَى وَلَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُبَدِّلُ آيَةً إِلَّا بِآيَةٍ، وَأَيْضًا فَجِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ يَنْزِلُ بِالسُّنَّةِ كَمَا يَنْزِلُ بِالْآيَةِ، وَأَيْضًا فَالسُّنَّةُ قَدْ تَكُونُ مُثْبِتَةً لِلْآيَةِ، وَأَيْضًا فَهَذَا حِكَايَةُ كَلَامِ الْكُفَّارِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ التَّعَلُّقُ بِهِ؟ وَاللَّهُ أعلم.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١٠٣ الى ١٠٥]
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (١٠٣) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٠٥)[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ] اعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ حِكَايَةُ شُبْهَةٍ أُخْرَى مِنْ شُبُهَاتِ مُنْكِرِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ إِنَّ مُحَمَّدًا إِنَّمَا يَذْكُرُ هَذِهِ الْقِصَصَ وَهَذِهِ الْكَلِمَاتِ لِأَنَّهُ يَسْتَفِيدُهَا مِنْ إِنْسَانٍ آخَرَ وَيَتَعَلَّمُهَا مِنْهُ. وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْبَشَرِ الَّذِي نَسَبَ الْمُشْرِكُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى التَّعَلُّمِ مِنْهُ قِيلَ: هُوَ عَبْدٌ لِبَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ يُقَالُ لَهُ يَعِيشُ، وَكَانَ يَقْرَأُ الْكُتُبَ، وَقِيلَ: عَدَّاسٌ غُلَامُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَقِيلَ: عَبْدٌ لِبَنِي الْحَضْرَمِيِّ صَاحِبُ كُتُبٍ، وَكَانَ اسْمُهُ جَبْرًا، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَقُولُ: عَبْدُ بَنِي الْحَضْرَمِيِّ يُعَلِّمُ خَدِيجَةَ وَخَدِيجَةُ تُعَلِّمُ مُحَمَّدًا، وَقِيلَ: كَانَ بِمَكَّةَ نَصْرَانِيٌّ أَعْجَمِيُّ اللِّسَانِ اسْمُهُ بَلْعَامٌ وَيُقَالُ لَهُ أَبُو مَيْسَرَةَ يَتَكَلَّمُ بِالرُّومِيَّةِ وَقِيلَ: سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ، وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا فَائِدَةَ فِي تَعْدِيدِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْقَوْمَ اتَّهَمُوهُ بِأَنَّهُ يَتَعَلَّمُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ مِنْ غَيْرِهِ ثُمَّ إِنَّهُ يُظْهِرُهَا مِنْ نَفْسِهِ وَيَزْعُمُ أَنَّهُ إِنَّمَا عَرَفَهَا بِالْوَحْيِ وَهُوَ كَاذِبٌ فِيهِ.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَجَابَ عَنْهُ بِأَنْ قَالَ: لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ وَمَعْنَى الْإِلْحَادِ فِي اللُّغَةِ الْمَيْلُ يُقَالُ: لَحَدَ وَأَلْحَدَ إِذَا مَالَ عَنِ الْقَصْدِ، وَمِنْهُ يُقَالُ لِلْعَادِلِ عَنِ الْحَقِّ مُلْحِدٌ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: يُلْحِدُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْحَاءِ، وَالْبَاقُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْحَاءِ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَالْأَوْلَى ضَمُّ الْيَاءِ لِأَنَّهُ لُغَةُ الْقُرْآنِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ [الْحَجِّ: ٢٥] وَالْإِلْحَادُ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الْإِمَالَةِ، وَمِنْهُ يُقَالُ: أَلْحَدْتُ لَهُ لَحْدًا إِذَا حَفَرْتَهُ فِي جَانِبِ الْقَبْرِ مَائِلًا عَنِ الِاسْتِوَاءِ وَقَبْرٌ مُلْحَدٌ وَمَلْحُودٌ، وَمِنْهُ الْمُلْحِدُ لِأَنَّهُ أَمَالَ مَذْهَبَهُ عَنِ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا لَمْ يُمِلْهُ عَنْ دِينٍ إِلَى دِينٍ آخَرَ وَفُسِّرَ الْإِلْحَادُ/ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالْقَوْلَيْنِ:
قَالَ الْفَرَّاءُ: يَمِيلُونَ مِنَ الْمَيْلِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يَمِيلُونَ مِنَ الْإِمَالَةِ، أَيْ لِسَانُ الَّذِينَ يَمِيلُونَ الْقَوْلَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ، وَأما قوله: أَعْجَمِيٌّ فَقَالَ أَبُو الْفَتْحِ الْمَوْصِلِيُّ: تَرْكِيبُ ع ج م وُضِعَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لِلْإِبْهَامِ وَالْإِخْفَاءِ، وَضِدِّ الْبَيَانِ وَالْإِيضَاحِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: رَجَلٌ أَعْجَمُ وَامْرَأَةٌ عَجْمَاءُ إِذَا كَانَا لَا يُفْصِحَانِ، وَعَجَمُ الذَّنَبِ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِاسْتِتَارِهِ وَاخْتِفَائِهِ، وَالْعَجْمَاءُ الْبَهِيمَةُ لِأَنَّهَا لَا تُوَضِّحُ مَا فِي نَفْسِهَا، وَسَمَّوْا صَلَاتَيِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ عَجْمَاوَيْنِ، لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ حَاصِلَةٌ فِيهِمَا بِالسِّرِّ لَا بالجهر، فأما قولهم: أَعْجَمْتُ الْكِتَابَ فَمَعْنَاهُ أَزَلْتُ عُجْمَتَهُ، وَأَفْعَلْتُ قَدْ يَأْتِي وَالْمُرَادُ مِنْهُ السَّلْبُ كَقَوْلِهِمْ: أَشْكَيْتُ فُلَانًا إِذَا أَزَلْتَ مَا يَشْكُوهُ، فَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ، ثُمَّ إِنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي كُلَّ مَنْ لَا يَعْرِفُ لُغَتَهُمْ وَلَا يَتَكَلَّمُ بِلِسَانِهِمْ أَعْجَمَ وَأَعْجَمِيًّا. قَالَ الْفَرَّاءُ وَأَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى: الْأَعْجَمُ الَّذِي فِي لِسَانِهِ عُجْمَةٌ وَإِنْ كَانَ مِنَ الْعَرَبِ، وَالْأَعْجَمِيُّ وَالْعَجَمِيُّ الَّذِي أَصْلُهُ مِنَ الْعَجَمِ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ:
الْأَعْجَمُ الَّذِي لَا يُفْصِحُ سَوَاءٌ كَانَ مِنَ الْعَرَبِ أَوْ مِنَ الْعَجَمِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ قَالُوا: زِيَادٌ الْأَعْجَمِ لِأَنَّهُ كَانَتْ فِي لِسَانِهِ عُجْمَةٌ مَعَ أَنَّهُ كَانَ عَرَبِيًّا، وَأَمَّا مَعْنَى الْعَرَبِيِّ وَاشْتِقَاقِهِ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ: الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً [التَّوْبَةِ: ٩٧] وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ يُقَالُ عَرُبَ لِسَانُهُ عَرَابَةً وَعُرُوبَةً هَذَا تَفْسِيرُ أَلْفَاظِ الْآيَةِ.
وَأَمَّا تَقْرِيرُ وَجْهِ الْجَوَابِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ إِنَّمَا يَظْهَرُ إِذَا قُلْنَا: الْقُرْآنُ إِنَّمَا كَانَ مُعْجِزًا لِمَا فِيهُ مِنَ الفصاحة العائدة
وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَمَّا تَرَكُوا الْإِيمَانَ بِاللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ إِلَى الْجَنَّةِ بَلْ يَسُوقُهُمْ إِلَى النَّارِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ كَوْنَهُمْ كَذَّابِينَ فِي ذَلِكَ الْقَوْلِ فَقَالَ: إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: الْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ أَنَّ الَّذِي قَالُوهُ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَصِحَّ لَمْ يَقْدَحْ فِي الْمَقْصُودِ، ثم إنه تعالى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الَّذِي قَالُوهُ لَمْ يَصِحَّ وَهُمْ كَذَبُوا فِيهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى كَوْنِهِمْ كَاذِبِينَ فِي ذَلِكَ الْقَوْلِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَهُمْ كَافِرُونَ، وَمَتَى كَانَ/ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانُوا أَعْدَاءً لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَلَامُ الْعِدَا ضَرْبٌ مِنَ الْهَذَيَانِ وَلَا شَهَادَةَ لِمُتَّهَمٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ أَمْرَ التَّعَلُّمِ لَا يَتَأَتَّى فِي جَلْسَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَا يَتِمُّ فِي الْخُفْيَةِ، بَلِ التَّعَلُّمُ إِنَّمَا يَتِمُّ إِذَا اخْتَلَفَ الْمُعَلِّمُ إِلَى الْمُتَعَلِّمِ أَزْمِنَةً مُتَطَاوِلَةً وَمُدَدًا مُتَبَاعِدَةً، وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَاشْتُهِرَ فِيمَا بَيْنَ الْخَلْقِ أَنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَامُ يَتَعَلَّمُ الْعُلُومَ مِنْ فُلَانٍ وَفُلَانٍ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْعُلُومَ الْمَوْجُودَةَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ وَتَعَلُّمَهَا لَا يَتَأَتَّى إِلَّا إِذَا كَانَ الْمُعَلِّمُ فِي غَايَةِ الْفَضْلِ وَالتَّحْقِيقِ، فَلَوْ حَصَلَ فِيهِمْ إِنْسَانٌ بَلَغَ فِي التَّعْلِيمِ وَالتَّحْقِيقِ إِلَى هَذَا الْحَدِّ لَكَانَ مُشَارًا إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ فِي التَّحْقِيقِ وَالتَّدْقِيقِ فِي الدُّنْيَا، فَكَيْفَ يُمْكِنُ تَحْصِيلُ هَذِهِ الْعُلُومِ الْعَالِيَةِ وَالْمَبَاحِثِ النَّفِيسَةِ مِنْ عِنْدِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ؟
وَاعْلَمْ أَنَّ الطَّعْنَ فِي نُبُوَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَمْثَالِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الرَّكِيكَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُجَّةَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ ظَاهِرَةً بَاهِرَةً، فَإِنَّ الْخُصُومَ كَانُوا عَاجِزِينَ عَنِ الطَّعْنِ فِيهَا، وَلِأَجْلِ غَايَةِ عَجْزِهِمْ عَدَلُوا إِلَى هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الرَّكِيكَةِ.
المسألة الثَّانِيَةُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ قَوِيَّةٌ عَلَى أَنَّ الْكَذِبَ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ وَأَفْحَشِ الْفَوَاحِشِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ كَلِمَةَ «إِنَّمَا» لِلْحَصْرِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْكَذِبَ وَالْفِرْيَةَ لَا يَقْدُمُ عَلَيْهِمَا إِلَّا مَنْ كَانَ غَيْرَ مُؤْمِنٍ بِآيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِلَّا مَنْ كَانَ كَافِرًا وَهَذَا تَهْدِيدٌ فِي النِّهَايَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: لَا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ فِعْلٌ وَقَوْلُهُ: وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ اسْمٌ وَعَطْفُ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ عَلَى الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ قبيح فما السبب في حصوله هاهنا؟
قُلْنَا: الْفِعْلُ قَدْ يَكُونُ لَازِمًا وَقَدْ يَكُونُ مُفَارِقًا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ [يُوسُفَ: ٣٥] ذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْفِعْلِ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ السِّجْنَ لَا يَدُومُ. وَقَالَ فِرْعَوْنُ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ [الشُّعَرَاءِ: ٢٩] ذَكَرَهُ بِصِيغَةِ الِاسْمِ تَنْبِيهًا عَلَى الدَّوَامِ، وَقَالَ أَصْحَابُنَا: إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى [طه: ١٢١] وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ آدَمَ عَاصٍ وَغَاوٍ، لِأَنَّ صِيغَةَ الْفِعْلِ لَا تُفِيدُ الدَّوَامَ، وَصِيغَةُ الِاسْمِ تُفِيدُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَاذِبَ الْمُفْتَرِيَ الَّذِي لَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِ اللَّهِ وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلْكُفْرِ إِلَّا إِنْكَارُ الْإِلَهِيَّةِ وَنُبُوَّةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَهَذَا الْإِنْكَارُ مُشْتَمِلٌ عَلَى/ الْكَذِبِ وَالِافْتِرَاءِ.
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيلَ لَهُ: هَلْ يَكْذِبُ الْمُؤْمِنُ؟ قَالَ: «لَا» ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١٠٦ الى ١٠٩]
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٦) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (١٠٧) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٠٨) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٠٩)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَظَّمَ تَهْدِيدَ الْكَافِرِينَ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَفْصِيلًا فِي بَيَانِ من يكفر بلسانه لا يقلبه، وَمَنْ يَكْفُرُ بِلِسَانِهِ وَقَلْبِهِ مَعًا، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: قَوْلُهُ: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ غَيْرُ مَذْكُورٍ، فَلِهَذَا السَّبَبِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: مَنْ كَفَرَ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ: الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّمَا يَفْتَرِي مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ، وَاسْتَثْنَى مِنْهُمُ الْمُكْرَهَ فَلَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ حُكْمِ الِافْتِرَاءِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: فَقَوْلُهُ: وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ اعْتِرَاضٌ وَقَعَ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ مِنْهُ. الثَّانِي: يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ الْخَبَرِ الَّذِي هُوَ الْكَاذِبُونَ، وَالتَّقْدِيرُ: وَأُولَئِكَ هُمْ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ، وَالثَّالِثُ: يَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الذَّمِّ، وَالتَّقْدِيرُ: وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ، أَعْنِي مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ وَهُوَ أَحْسَنُ الْوُجُوهِ عِنْدِي وَأَبْعَدُهَا عَنِ التَّعَسُّفِ، وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ شَرْطًا مُبْتَدَأً وَيُحْذَفُ جَوَابُهُ، لِأَنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ بَعْدَهُ يَدُلُّ عَلَى جَوَابِهِ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ/ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ: وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ.
المسألة الثَّانِيَةُ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّكَلُّمُ بِالْكُفْرِ يَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: أحدها: أنا روينا أن بلالا صبر على ذَلِكَ الْعَذَابِ، وَكَانَ يَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ.
رُوِيَ أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فُتِنُوا فَارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ دُخُولِهِمْ فِيهِ، وَكَانَ فِيهِمْ مَنْ أُكْرِهَ فَأَجْرَى كَلِمَةَ الْكُفْرِ عَلَى لِسَانِهِ، مَعَ أَنَّهُ كَانَ بِقَلْبِهِ مُصِرًّا عَلَى الْإِيمَانِ، مِنْهُمْ:
عَمَّارٌ، وَأَبَوَاهُ يَاسِرٌ وَسُمَيَّةُ، وَصُهَيْبٌ، وَبِلَالٌ، وَخَبَّابٌ، وَسَالِمٌ، عُذِّبُوا، فَأَمَّا سُمَيَّةُ فَقِيلَ: رُبِطَتْ بين بعيرين ووخزت في قلبها بِحَرْبَةٍ وَقَالُوا: إِنَّكِ أَسْلَمْتِ مِنْ أَجْلِ الرِّجَالِ وَقُتِلَتْ، وَقُتِلَ يَاسِرٌ وَهُمَا أَوَّلُ قَتِيلَيْنِ قُتِلَا في
المسألة الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ لَيْسَ بِاسْتِثْنَاءٍ، لِأَنَّ الْمُكْرَهَ لَيْسَ بِكَافِرٍ فَلَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنَ الْكَافِرِ، لَكِنَّ الْمُكْرَهَ لَمَّا ظَهَرَ مِنْهُ بَعْدَ الْإِيمَانِ مَا مِثْلُهُ يَظْهَرُ مِنَ الْكَافِرِ طَوْعًا صَحَّ هَذَا الاستثناء لهذه المشاكلة.
المسألة الرابعة: يجب هاهنا بَيَانُ الْإِكْرَاهِ الَّذِي عِنْدَهُ يَجُوزُ التَّلَفُّظُ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ، وَهُوَ أَنْ يُعَذِّبَهُ بِعَذَابٍ لَا طَاقَةَ لَهُ بِهِ، مِثْلَ التَّخْوِيفِ بِالْقَتْلِ، وَمِثْلَ الضَّرْبِ الشَّدِيدِ وَالْإِيلَامَاتِ الْقَوِيَّةِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: أَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ سَبْعَةٌ، رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَخَبَّابٌ، وَصُهَيْبٌ، وَبِلَالٌ، وَعَمَّارٌ، وَسُمَيَّةٌ. أَمَّا الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَمَنَعَهُ أَبُو طَالِبٍ، وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَمَنَعَهُ قَوْمُهُ، وَأُخِذَ الْآخَرُونَ وَأُلْبِسُوا دُرُوعَ الْحَدِيدِ، ثُمَّ أُجْلِسُوا فِي الشَّمْسِ فَبَلَغَ مِنْهُمُ الْجَهْدُ بِحَرِّ الْحَدِيدِ وَالشَّمْسِ، وَأَتَاهُمْ أَبُو جَهْلٍ يَشْتِمُهُمْ وَيُوَبِّخُهُمْ وَيَشْتِمُ سُمَيَّةَ، ثُمَّ طَعَنَ الْحَرْبَةَ فِي فَرْجِهَا.
وَقَالَ الْآخَرُونَ: مَا نَالُوا مِنْهُمْ غَيْرَ بِلَالٍ فَإِنَّهُمْ جَعَلُوا يُعَذِّبُونَهُ فَيَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ، حَتَّى مَلُّوا فَكَتَّفُوهُ وَجَعَلُوا فِي عُنُقِهِ حَبْلًا مِنْ لِيفٍ وَدَفَعُوهُ إِلَى صِبْيَانِهِمْ يَلْعَبُونِ بِهِ حَتَّى مَلُّوهُ فَتَرَكُوهُ. قَالَ عَمَّارٌ: كُلُّنَا تَكَلَّمَ بِالَّذِي أَرَادُوا غَيْرَ بِلَالٍ، فَهَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فَتَرَكُوهُ. قَالَ خَبَّابٌ: لَقَدْ أَوْقَدُوا لِي نَارًا مَا أَطْفَأَهَا إِلَّا وَدَكُ ظَهْرِي.
المسألة الْخَامِسَةُ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ عِنْدَ ذِكْرِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُبَرِّئَ قَلْبَهُ مِنَ الرِّضَا بِهِ وَأَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى التَّعْرِيضَاتِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ مُحَمَّدًا كَذَّابٌ، وَيَعْنِي عِنْدَ الْكُفَّارِ أَوْ يَعْنِي بِهِ مُحَمَّدًا/ آخَرَ أَوْ يَذْكُرُهُ عَلَى نِيَّةِ الاستفهام بمعنى الإنكار وهاهنا بَحْثَانِ:
البحث الْأَوَّلُ: أَنَّهُ إِذَا أَعْجَلَهُ مَنْ أَكْرَهَهُ عَنْ إِحْضَارِ هَذِهِ النِّيَّةِ أَوْ لِأَنَّهُ لَمَّا عَظُمَ خَوْفُهُ زَالَ عَنْ قَلْبِهِ ذِكْرُ هَذِهِ النِّيَّةِ كَانَ مَلُومًا وَعَفْوُ اللَّهِ مُتَوَقَّعٌ.
البحث الثَّانِي: لَوْ ضَيَّقَ الْمُكْرِهُ الْأَمْرَ عَلَيْهِ وَشَرَحَ لَهُ كُلَّ أَقْسَامِ التَّعْرِيضَاتِ وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يُصَرِّحَ بِأَنَّهُ مَا أَرَادَ شَيْئًا مِنْهَا، وَمَا أَرَادَ إِلَّا ذَلِكَ الْمَعْنَى، فَهَهُنَا يَتَعَيَّنُ إِمَّا الْتِزَامُ الْكَذِبِ، وَإِمَّا تَعْرِيضُ النَّفْسِ لِلْقَتْلِ. فَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: يُبَاحُ لَهُ الْكَذِبُ هُنَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْقَاضِي. قَالَ: لِأَنَّ الْكَذِبَ إِنَّمَا يَقْبُحُ لِكَوْنِهِ كَذِبًا، فَوَجَبَ أَنْ يَقْبُحَ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يَخْرُجَ عَنِ الْقَبِيحِ لِرِعَايَةِ بَعْضِ الْمَصَالِحِ لَمْ يَمْنَعْ أَنْ يَفْعَلَ اللَّهُ الْكَذِبَ لِرِعَايَةِ بَعْضِ الْمَصَالِحِ وحينئذ لا يبقى وُثُوقٌ بِوَعْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا بِوَعِيدِهِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ الْكَذِبَ لِرِعَايَةِ بَعْضِ الْمَصَالِحِ الَّتِي لَا يَعْرِفُهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى.
المسألة السَّادِسَةُ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّكَلُّمُ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أنا روينا أن بلالا صبر على ذلك الْعَذَابِ، وَكَانَ يَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ، وَلَمْ يَقُلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِئْسَ مَا صَنَعْتَ بَلْ عَظَّمَهُ عَلَيْهِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ التَّكَلُّمُ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ، وَثَانِيهَا: مَا
رُوِيَ أَنَّ مُسَيْلَمَةَ الْكَذَّابَ أَخَذَ رَجُلَيْنِ فَقَالَ لِأَحَدِهِمَا: مَا تَقُولُ فِي مُحَمَّدٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ: مَا تَقُولُ فِيَّ؟ قَالَ أَنْتَ أَيْضًا، فَخَلَّاهُ وَقَالَ لِلَآخَرَ: مَا تقول
وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا الْخَبَرِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ سَمَّى التَّلَفُّظَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ رُخْصَةً. وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَظَّمَ حَالَ مَنْ أَمْسَكَ عَنْهُ حَتَّى قُتِلَ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ بَذْلَ النَّفْسِ فِي تَقْرِيرِ الْحَقِّ أَشَقُّ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ ثَوَابًا
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ أَحْمَزُهَا»
أَيْ أَشَقُّهَا. وَرَابِعُهَا: أَنَّ الَّذِي أَمْسَكَ عَنْ كَلِمَةِ الْكُفْرِ طَهَّرَ قَلْبَهُ وَلِسَانَهُ عَنِ الْكُفْرِ. أَمَّا الَّذِي تَلَفَّظَ بِهَا فَهَبْ أَنَّ قَلْبَهُ طَاهِرٌ عَنْهُ إِلَّا أَنَّ لِسَانَهُ فِي الظَّاهِرِ قَدْ تَلَطَّخَ بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ الْخَبِيثَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَالُ الْأَوَّلِ أَفْضَلَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
المسألة السَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ لِلْإِكْرَاهِ مَرَاتِبَ.
الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: أَنْ يَجِبَ الْفِعْلُ الْمُكْرَهُ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا إِذَا أَكْرَهَهُ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ وَأَكْلِ الْخِنْزِيرِ وَأَكْلِ الْمَيْتَةِ فَإِذَا أَكْرَهَهُ عَلَيْهِ بِالسَّيْفِ فَهَهُنَا يَجِبُ الْأَكْلُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ صَوْنَ الرُّوحِ عَنِ الْفَوَاتِ وَاجِبٌ، وَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ إِلَّا بِهَذَا الْأَكْلِ، وَلَيْسَ فِي هَذَا الْأَكْلِ ضَرَرٌ عَلَى حَيَوَانٍ وَلَا فِيهِ إِهَانَةٌ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَوَجَبَ أَنْ يَجِبَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [الْبَقَرَةِ: ١٩٥].
الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَصِيرَ ذَلِكَ الْفِعْلُ مُبَاحًا وَلَا يَصِيرَ وَاجِبًا، وَمِثَالُهُ مَا إِذَا أَكْرَهَهُ عَلَى التَّلَفُّظِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ فَهَهُنَا يُبَاحُ لَهُ وَلَكِنَّهُ لَا يَجِبُ كَمَا قَرَّرْنَاهُ.
الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ لَا يَجِبَ وَلَا يُبَاحَ بَلْ يَحْرُمُ، وَهَذَا مِثْلُ مَا إِذَا أَكْرَهَهُ إِنْسَانٌ عَلَى قَتْلِ إِنْسَانٍ آخَرَ أَوْ عَلَى قَطْعِ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ فَهَهُنَا يَبْقَى الْفِعْلُ عَلَى الْحُرْمَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَهَلْ يَسْقُطُ الْقَصَاصُ عَنِ الْمُكْرَهِ أَمْ لَا؟ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ يَجِبُ الْقَصَاصُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ قَتَلَهُ عَمْدًا عدوانا فيجب عليه القصاص لقوله تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى [الْبَقَرَةِ: ١٧٨]. وَالثَّانِي: أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الْمُكْرَهَ إِذَا قَصَدَ قَتْلَهُ فَإِنَّهُ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ عَنْ نَفْسِهِ وَلَوْ بِالْقَتْلِ، فَلَمَّا كَانَ تَوَهُّمُ إِقْدَامِهِ عَلَى الْقَتْلِ يُوجِبُ إِهْدَارَ دَمِهِ، فَلَأَنْ يَكُونَ عِنْدَ صُدُورِ الْقَتْلِ مِنْهُ حَقِيقَةً يَصِيرُ دَمُهُ مُهْدَرًا كَانَ أَوْلَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
المسألة الثَّامِنَةُ: مِنَ الْأَفْعَالِ مَا يَقْبَلُ الْإِكْرَاهَ عَلَيْهِ كَالْقَتْلِ وَالتَّكَلُّمِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ، وَمِنْهُ مَا لَا يَقْبَلُ الْإِكْرَاهَ عَلَيْهِ قِيلَ: وَهُوَ الزِّنَا. لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ يُوجِبُ الْخَوْفَ الشَّدِيدَ وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنَ انْتِشَارِ الْآلَةِ، فَحَيْثُ دَخَلَ الزِّنَا فِي الْوُجُودِ عُلِمَ أَنَّهُ وَقَعَ بِالِاخْتِيَارِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْإِكْرَاهِ.
المسألة التَّاسِعَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: طَلَاقُ الْمُكْرَهِ لَا يَقَعُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَقَعُ، وَحُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: قوله: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ نَفْيَ ذَاتِهِ لِأَنَّ ذَاتَهُ مَوْجُودَةٌ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى نَفْيِ آثَارِهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا أَثَرَ لَهُ وَلَا عِبْرَةَ بِهِ، وَأَيْضًا
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ»
وَأَيْضًا
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا طَلَاقَ فِي إِغْلَاقٍ»
أَيْ إِكْرَاهٍ فَإِنْ قَالُوا: طَلَّقَهَا فَتَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ [الْبَقَرَةِ: ٢٣٠] فَالْجَوَابُ لَمَّا تَعَارَضَتِ الدَّلَائِلُ، وَجَبَ أَنْ يَبْقَى مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ عَلَى مَا هُوَ قَوْلُنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
المسألة الْعَاشِرَةُ: قَوْلُهُ: وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَحَلَّ الْإِيمَانِ هُوَ الْقَلْبُ وَالَّذِي مَحَلُّهُ
ثم قال تَعَالَى: وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً أَيْ فَتَحَهُ وَوَسَّعَهُ لِقَبُولِ الْكُفْرِ وَانْتُصِبَ صدرا على أنه مفعول لشرح، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرَهُ، وَحَذَفَ الضَّمِيرَ لِأَنَّهُ لَا يُشْكِلُ بِصَدْرِ غَيْرِهِ إِذِ الْبَشَرُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَرْحِ صَدْرِ غَيْرِهِ فَهُوَ نَكِرَةٌ يُرَادُ بِهَا الْمَعْرِفَةُ.
ثم قال: فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالْعَذَابِ ثُمَّ وَصَفَ ذَلِكَ الْعَذَابَ فَقَالَ:
وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ.
ثم قال تَعَالَى: ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ أَيْ رَجَّحُوا الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ ذَلِكَ الِارْتِدَادَ وَذَلِكَ الْإِقْدَامَ عَلَى الْكُفْرِ لِأَجْلِ أَنَّهُ تَعَالَى مَا هَدَاهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ وَمَا عَصَمَهُمْ عَنِ الْكُفْرِ. قَالَ الْقَاضِي: الْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِيهِمْ إِلَى الْجَنَّةِ فَيُقَالُ لَهُ هَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ:
وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ عِلَّةً وَسَبَبًا مُوجِبًا لِإِقْدَامِهِمْ عَلَى ذَلِكَ الِارْتِدَادِ، وَعَدَمُ الْهِدَايَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى الْجَنَّةِ لَيْسَ سَبَبًا لِذَلِكَ الِارْتِدَادِ، وَلَا عِلَّةً لَهُ بَلْ مُسَبَّبًا عَنْهُ وَمَعْلُولًا لَهُ فَبَطَلَ هَذَا التَّأْوِيلُ، ثُمَّ أَكَّدَ بَيَانَ أَنَّهُ تَعَالَى صَرَفَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ فَقَالَ: أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ قَالَ الْقَاضِي: الطَّبْعُ لَيْسَ يَمْنَعُ مِنَ الْإِيمَانِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ لَهُمْ، وَلَوْ كَانُوا عَاجِزِينَ عَنِ الْإِيمَانِ بِهِ لَمَا اسَّتَحَقُّوا الذَّمَّ بِتَرْكِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَشْرَكَ بَيْنَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَبَيْنَ الْقَلْبِ فِي هَذَا الطَّبْعِ وَمَعْلُومٌ مِنْ حَالِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ أَنَّ مَعَ فَقْدِهِمَا قَدْ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا فَضْلًا عَنْ طَبْعٍ يَلْحَقُهُمَا فِي الْقَلْبِ.
وَالثَّالِثُ: وَصَفَهُمْ بِالْغَفْلَةِ. وَمَنْ مُنِعَ مِنَ الشَّيْءِ لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ غَافِلٌ عَنْهُ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الطَّبْعِ السِّمَةُ وَالْعَلَامَةُ الَّتِي يَخْلُقُهَا فِي الْقَلْبِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ مَعْنَى الطَّبْعِ وَالْخَتْمِ، وَأَقُولُ هَذِهِ الْكَلِمَاتُ مَعَ التَّقْرِيرَاتِ الْكَثِيرَةِ، وَمَعَ الْجَوَابَاتِ الْقَوِيَّةِ مَذْكُورَةٌ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَفِي سَائِرِ الْآيَاتِ فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ عَمَّا يُرَادُ بِهِمْ فِي الْآخِرَةِ.
ثم قال: لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُوجِبَ لِهَذَا الْخُسْرَانِ هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَهُمْ فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِصِفَاتٍ سِتَّةٍ.
الصِّفَةُ الْأُولَى: أَنَّهُمُ اسْتَوْجَبُوا غَضَبَ اللَّهِ.
وَالصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ.
وَالصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ.
وَالصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَرَمَهُمْ مِنَ الْهِدَايَةِ.
وَالصِّفَةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى طَبَعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ.
وَالصِّفَةُ السَّادِسَةُ: أَنَّهُ جَعَلَهُمْ مِنَ الْغَافِلِينَ عَمَّا يُرَادُ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلَا جَرَمَ لَا يَسْعَوْنَ
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١١٠ الى ١١١]
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٠) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١١١)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا إلى قوله لَغَفُورٌ رَحِيمٌ] وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ حَالَ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ وَحَالَ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ، فَذَكَرَ بِسَبَبِ الْخَوْفِ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَحَالَ مَنْ لَمْ يَذْكُرْهَا، ذَكَرَ بَعْدَهُ حَالَ مَنْ هَاجَرَ مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنَ فَقَالَ:
إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا.
المسألة الثَّانِيَةُ: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: فَتَنُوا بِفَتْحِ الْفَاءِ عَلَى إِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى الْفَاعِلِ، وَالْبَاقُونَ بِضَمِّ الْفَاءِ عَلَى فِعْلِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. أَمَّا وَجْهُ الْقِرَاءَةِ الْأُولَى فَأُمُورٌ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ أَكَابِرَ الْمُشْرِكِينَ وَهُمُ الَّذِينَ آذَوْا فُقَرَاءَ الْمُسْلِمِينَ لَوْ تَابُوا وَهَاجَرُوا وَصَبَرُوا فَإِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَتَهُمْ. وَالثَّانِي: أَنَّ فَتَنَ وَأَفْتَنَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، كَمَا يُقَالُ:
مَانَ وَأَمَانَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَالثَّالِثُ: أَنَّ أُولَئِكَ الضُّعَفَاءَ لَمَّا ذَكَرُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ عَلَى سَبِيلِ التَّقِيَّةِ فَكَأَنَّهُمْ فَتَنُوا أَنْفُسَهُمْ، وَإِنَّمَا جَعَلَ ذَلِكَ فِتْنَةً، لِأَنَّ الرُّخْصَةَ فِي إِظْهَارِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ مَا نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَأَمَّا وَجْهُ الْقِرَاءَةِ بِفِعْلِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ فَظَاهِرٌ، لِأَنَّ أُولَئِكَ الْمَفْتُونِينَ هُمُ الْمُسْتَضْعَفُونَ الَّذِينَ حَمَلَهُمْ أَقْوِيَاءُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الرِّدَّةِ وَالرُّجُوعِ عَنِ الْإِيمَانِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ إِذَا هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا وَصَبَرُوا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَغْفِرُ لَهُمْ تَكَلُّمَهُمْ بكلمة الكفر.
المسألة الثالثة: قَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْفِتْنَةِ هُوَ أَنَّهُمْ عُذِّبُوا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ أَنَّهُمْ خُوِّفُوا بِالتَّعْذِيبِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ أُولَئِكَ الْمُسْلِمِينَ ارْتَدُّوا. قَالَ الْحَسَنُ:
هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هَاجَرُوا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا بِمَكَّةَ، فَعَرَضَتْ لَهُمْ فِتْنَةٌ فَارْتَدُّوا/ وَشَكُّوا فِي الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ إِنَّهُمْ أَسْلَمُوا وَهَاجَرُوا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِمْ،
وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ ارْتَدَّ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفِتْحِ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِهِ فَاسْتَجَارَ لَهُ عُثْمَانُ فَأَجَارَهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ إِنَّهُ أَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ،
وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ إِنَّمَا تَصِحُّ لَوْ جَعَلْنَا هَذِهِ السُّورَةَ مَدَنِيَّةً أَوْ جَعَلْنَا هَذِهِ الْآيَةَ مِنْهَا مَدَنِيَّةً، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ أُولَئِكَ الضُّعَفَاءَ الْمُعَذَّبِينَ تَكَلَّمُوا بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى سَبِيلِ التَّقِيَّةِ، فَقَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا يَحْتَمِلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ، وَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّعْيِينِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ نَازِلَةً فِيمَنْ أَظْهَرَ الْكُفْرَ، فَالْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا إِثْمَ فِيهِ، وَأَنَّ حَالَهُ إِذَا هَاجَرَ وَجَاهَدَ وَصَبَرَ كَحَالِ مَنْ لَمْ يُكْرَهْ، وَإِنْ كَانَتْ وَارِدَةً فِيمَنِ ارْتَدَّ فَالْمُرَادُ أَنَّ التَّوْبَةَ وَالْقِيَامَ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ يُزِيلُ ذَلِكَ الْعِقَابَ وَيَحْصُلُ لَهُ الْغُفْرَانُ وَالرَّحْمَةُ، فَالْهَاءُ فِي قَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِها تَعُودُ إِلَى الْأَعْمَالِ الْمَذْكُورَةِ فِيمَا قَبْلُ، وَهِيَ الْهِجْرَةُ والجهاد والصبر.
البحث الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: (يَوْمَ) مَنْصُوبٌ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدَهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ يَوْمَ تَأْتِي يَعْنِي أَنَّهُ تَعَالَى يُعْطِي الرحمة والغفران في ذلك ليوم الَّذِي يَعْظُمُ احْتِيَاجُ الْإِنْسَانِ فِيهِ إِلَى الرَّحْمَةِ وَالْغُفْرَانِ، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَذَكِّرْهُمْ أَوِ اذْكُرْ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، لِأَنَّ مَعْنَى الْقُرْآنِ الْعَظَمَةُ وَالْإِنْذَارُ وَالتَّذْكِيرُ.
البحث الثَّانِي: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: النَّفْسُ لَا تَكُونُ لَهَا نَفْسٌ أُخْرَى، فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها.
وَالْجَوَابُ: النَّفْسُ قَدْ يُرَادُ بِهِ بَدَنُ الْحَيِّ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ ذَاتُ الشَّيْءِ وَحَقِيقَتُهُ، فَالنَّفْسُ الْأُولَى هِيَ الْجُثَّةُ وَالْبَدَنُ. وَالثَّانِيَةُ: عَيْنُهَا وَذَاتُهَا، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: يَوْمَ يَأْتِي كُلُّ إِنْسَانٍ يُجَادِلُ عَنْ ذَاتِهِ وَلَا يُهِمُّهُ شَأْنُ غَيْرِهِ. قَالَ تَعَالَى:
لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عَبَسَ: ٣٧] وَعَنْ بَعْضِهِمْ: تَزْفِرُ جَهَنَّمُ زَفْرَةً لَا يَبْقَى مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ إِلَّا جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ يَقُولُ: يَا رَبِّ نَفْسِي نَفْسِي حَتَّى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَفْعَلُ ذَلِكَ. وَمَعْنَى الْمُجَادَلَةِ عَنْهَا الِاعْتِذَارُ عنها كقولهم: هؤُلاءِ أَضَلُّونا [الأعراف: ٣٨] وَقَوْلِهِمْ: وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الْأَنْعَامِ: ٢٣].
ثم قال تَعَالَى: وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ فِيهِ مَحْذُوفٌ، وَالْمَعْنَى: تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ جَزَاءَ مَا عَمِلَتْ مِنْ غَيْرِ بَخْسٍ وَلَا نُقْصَانٍ، وَقَوْلُهُ: وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: مَعْنَاهُ لَا يُنْقَضُونَ. قَالَ الْقَاضِي: هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَقْوَى مَا يَدُلُّ عَلَى مَا نَذْهَبُ إِلَيْهِ فِي الْوَعِيدِ، لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُوصِلُ إِلَى كُلِّ أَحَدٍ/ حَقَّهُ مِنْ غَيْرِ نُقْصَانٍ، وَلَوْ أَنَّهُ تَعَالَى أَزَالَ عِقَابَ الْمُذْنِبِ بِسَبَبِ الشَّفَاعَةِ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ.
وَالْجَوَابُ: لَا نِزَاعَ أَنَّ ظَاهِرَ الْعُمُومَاتِ يَدُلُّ عَلَى قَوْلِكُمْ، إِلَّا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّ التَّمَسُّكَ بِظَوَاهِرِ الْعُمُومَاتِ لَا يُفِيدُ الْقَطْعَ، وَأَيْضًا فَظَوَاهِرُ الْوَعِيدِ مُعَارَضَةٌ بِظَوَاهِرِ الْوَعْدِ، ثُمَّ بَيَّنَّا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ [الْبَقَرَةِ: ٨١] أَنَّ جَانِبَ الْوَعْدِ رَاجِحٌ عَلَى جَانِبِ الْوَعِيدِ مِنْ وُجُوهٍ كثيرة، والله أعلم.
[سورة النحل (١٦) : آية ١١٢]
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١١٢)
وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا هَدَّدَ الْكُفَّارَ بِالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ فِي الْآخِرَةِ هَدَّدَهُمْ أَيْضًا بِآفَاتِ الدُّنْيَا وَهُوَ الْوُقُوعُ فِي الْجُوعِ وَالْخَوْفِ، كَمَا ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
المسألة الثَّانِيَةُ: الْمَثَلُ قَدْ يُضْرَبُ بِشَيْءٍ مَوْصُوفٍ بِصِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ مَوْجُودًا أَوْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا وَقَدْ يُضْرَبُ بِشَيْءٍ مَوْجُودٍ مُعَيَّنٍ، فَهَذِهِ الْقَرْيَةُ الَّتِي ضَرَبَ اللَّهُ بِهَا هَذَا الْمَثَلَ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ شَيْئًا مَفْرُوضًا وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ قَرْيَةً مُعَيَّنَةً، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الثَّانِي فَتِلْكَ الْقَرْيَةُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَكَّةَ أَوْ غيرها،
المسألة الثَّالِثَةُ: ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى لِهَذِهِ الْقَرْيَةِ صِفَاتٍ:
الصِّفَةُ الْأُولَى: كَوْنُهَا آمِنَةً أَيْ ذَاتَ أَمْنٍ لَا يُغَارُ عَلَيْهِمْ كَمَا قَالَ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [الْعَنْكَبُوتِ: ٦٧] وَالْأَمْرُ فِي مَكَّةَ كَانَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَ يُغِيرُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ. أَمَّا أَهْلُ مَكَّةَ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ حَرَمِ اللَّهِ، وَالْعَرَبُ كَانُوا يَحْتَرِمُونَهُمْ وَيَخُصُّونَهُمْ بِالتَّعْظِيمِ وَالتَّكْرِيمِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَجُوزُ وَصْفُ الْقَرْيَةِ بِالْأَمْنِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِأَهْلِهَا لِأَجْلِ أَنَّهَا مَكَانُ الْأَمْنِ وَظَرْفٌ/ لَهُ، وَالظُّرُوفُ مِنَ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ تُوصَفُ بِمَا حَلَّهَا، كَمَا يُقَالُ: طَيَّبٌ وَحَارٌّ وَبَارِدٌ.
وَالصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: مُطْمَئِنَّةً قَالَ الْوَاحِدِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّهَا قَارَّةٌ سَاكِنَةٌ فَأَهْلُهَا لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى الِانْتِقَالِ عَنْهَا لِخَوْفٍ أَوْ ضِيقٍ. أَقُولُ: إِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ كَوْنِهَا مُطْمَئِنَّةً أَنَّهُمْ لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى الِانْتِقَالِ عَنْهَا بِسَبَبِ الْخَوْفِ، فَهَذَا هُوَ مَعْنَى كَوْنِهَا آمِنَةً، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى الِانْتِقَالِ عَنْهَا بِسَبَبِ الضِّيقِ، فَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ التَّكْرَارُ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْعُقَلَاءَ قَالُوا:
ثَلَاثَةٌ لَيْسَ لَهَا نِهَايَةٌ | الْأَمْنُ وَالصِّحَّةُ وَالْكِفَايَةُ |
وَالْجَوَابُ: الْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى يَعْنِي أَنَّ كُفْرَانَ النِّعَمِ الْقَلِيلَةِ لَمَّا أَوْجَبَ الْعَذَابَ فَكُفْرَانُ النِّعَمِ الْكَثِيرَةِ أَوْلَى بِإِيجَابِ الْعَذَابِ، وَهَذَا مِثْلُ أَهْلِ مَكَّةَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْأَمْنِ وَالطُّمْأَنِينَةِ وَالْخِصْبِ، ثُمَّ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِالنِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ، وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَفَرُوا بِهِ وَبَالَغُوا فِي إِيذَائِهِ فَلَا جَرَمَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْبَلَاءَ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: عَذَّبَهُمُ اللَّهُ بِالْجُوعِ سَبْعَ سِنِينَ حَتَّى أَكَلُوا الْجِيَفَ وَالْعِظَامَ وَالْعِلْهِزَ وَالْقَدَّ، أَمَّا الْخَوْفُ فَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَبْعَثُ إِلَيْهِمُ السَّرَايَا فَيُغِيرُونَ عَلَيْهِمْ. وَنُقِلَ أَنَّ ابْنَ الرَّاوَنْدِيِّ قَالَ لِابْنِ الْأَعْرَابِيِّ الْأَدِيبِ: هَلْ يُذَاقُ اللِّبَاسُ؟ قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: لَا بَاسَ وَلَا لِبَاسَ يَا أَيُّهَا النِّسْنَاسُ، هَبْ أَنَّكَ تَشُكُّ أَنَّ مُحَمَّدًا مَا كَانَ نَبِيًّا أَمَا كَانَ عَرَبِيًّا وَكَانَ مَقْصُودُ ابْنِ الرَّاوَنْدِيِّ الطَّعْنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ أَنَّ اللِّبَاسَ لَا يُذَاقُ بَلْ يُلْبَسُ فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ:
فَكَسَاهُمُ اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ، أَوْ يُقَالَ: فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ طَعْمَ الْجُوعِ. وَأَقُولُ جَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ:
الوجه الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَحْوَالَ الَّتِي حَصَلَتْ لَهُمْ عِنْدَ الْجُوعِ نَوْعَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَذُوقَ هُوَ/ الطعم فلما
وَالوجه الثَّانِي: أَنَّ التَّقْدِيرَ أَنَّ اللَّهَ عَرَّفَهَا لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى عَبَّرَ عَنِ التَّعْرِيفِ بِلَفْظِ الْإِذَاقَةِ وَأَصْلُ الذَّوْقِ بِالْفَمِ، ثُمَّ قَدْ يُسْتَعَارُ فَيُوضَعُ مَوْضِعَ التَّعَرُّفِ وَهُوَ الِاخْتِبَارُ، تَقُولُ: نَاظِرْ فُلَانًا وَذُقْ مَا عِنْدَهُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
وَمَنْ يَذُقِ الدُّنْيَا فَإِنِّي طَعِمْتُهَا | وَسِيقَ إِلَيْنَا عَذْبُهَا وَعَذَابُهَا |
وَالوجه الثَّالِثُ: أَنْ يُحْمَلَ لَفْظُ اللُّبْسِ عَلَى الْمُمَاسَّةِ، فَصَارَ التَّقْدِيرُ: فَأَذَاقَهَا اللَّهُ مَسَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ.
ثم قال تَعَالَى: بِما كانُوا يَصْنَعُونَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ بِفِعْلِهِمْ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ كَذَّبُوهُ وَأَخْرَجُوهُ مِنْ مَكَّةَ وَهَمُّوا بِقَتْلِهِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَلَمْ يَقُلْ بِمَا صَنَعَتْ، وَمِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ [الْأَعْرَافِ: ٤] وَلَمْ يَقُلْ قَائِلَةٌ، وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ الْقَرْيَةَ بِأَنَّهَا مُطْمَئِنَّةٌ يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ، فَكُلُّ هَذِهِ الصِّفَاتِ، وَإِنْ أُجْرِيَتْ بِحَسْبِ اللَّفْظِ عَلَى الْقَرْيَةِ، إِلَّا أَنَّ الْمُرَادَ فِي الْحَقِيقَةِ أَهْلُهَا، فَلَا جَرَمَ قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ: بِما كانُوا يَصْنَعُونَ والله أعلم.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١١٣ الى ١١٤]
وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١١٣) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١١٤)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْمَثَلَ ذَكَرَ الْمُمَثَّلَ فَقَالَ: وَلَقَدْ جاءَهُمْ يَعْنِي أَهْلَ مَكَّةَ: رَسُولٌ مِنْهُمْ يَعْنِي مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَعْرِفُونَهُ بِأَصْلِهِ وَنَسَبِهِ: فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يَعْنِي الْجُوعَ الَّذِي كَانَ بِمَكَّةَ. وَقِيلَ: الْقَتْلُ يَوْمَ بَدْرٍ، وَأَقُولُ قَوْلُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَوْلَى لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَهُ: فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ... إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ الْجُوعَ إِنَّمَا كَانَ بِسَبَبِ كُفْرِكُمْ فَاتْرُكُوا الْكُفْرَ حَتَّى تَأْكُلُوا، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ: فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: فَكُلُوا يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ يُرِيدُ مِنَ الْغَنَائِمِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: إِنَّ رُؤَسَاءَ مَكَّةَ كَلَّمُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ جَهِدُوا وَقَالُوا عَادَيْتَ الرِّجَالَ فَمَا بَالُ النِّسْوَانِ وَالصِّبْيَانِ. وَكَانَتِ الْمِيرَةُ قَدْ قُطِعَتْ عَنْهُمْ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَذِنَ فِي حَمْلِ الطَّعَامِ إليهم فحمل إليهم العظام فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً وَالْقَوْلُ مَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ [النحل: ١١٥] الْآيَةَ يَعْنِي أَنَّكُمْ لَمَّا آمَنْتُمْ وَتَرَكْتُمُ الْكُفْرَ فَكُلُوا الْحَلَالَ الطَّيِّبَ وَهُوَ الْغَنِيمَةُ وَاتْرُكُوا الْخَبَائِثَ وهي الميتة والدم.
[سورة النحل (١٦) : آية ١١٥]
إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٥)اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِلَى آخِرِهَا مَذْكُورَةٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ مُفَسَّرَةٌ هُنَاكَ وَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ وَأَقُولُ إِنَّهُ تَعَالَى حَصَرَ الْمُحَرَّمَاتِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْأَرْبَعَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ لِأَنَّ لَفْظَةَ: (إِنَّمَا) تُفِيدُ الْحَصْرَ وَحَصَرَهَا أَيْضًا فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ [الْأَنْعَامِ: ١٤٥] وَهَاتَانِ السُّورَتَانِ مَكِّيَّتَانِ، وَحَصَرَهَا أَيْضًا فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ وَرَدَتْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَحَصَرَهَا أَيْضًا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ [الْمَائِدَةِ: ١] فَأَبَاحَ الْكُلَّ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: عَلَيْكُمْ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي تِلْكَ السُّورَةِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [المائدة: ٣] فَذَكَرَ تِلْكَ الْأَرْبَعَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي تِلْكَ السُّوَرِ الثَّلَاثَةِ ثم قال: وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ [الْمَائِدَةِ: ٣] وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ دَاخِلَةٌ فِي الْمَيْتَةِ، ثم قال: وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَهُوَ أَحَدُ الْأَقْسَامِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ قَوْلِهِ: وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ السُّوَرَ الْأَرْبَعَةَ دَالَّةٌ عَلَى/ حَصْرِ الْمُحَرَّمَاتِ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعِ سُورَتَانِ مَكِّيَّتَانِ، وَسُورَتَانِ مَدَنِيَّتَانِ، فَإِنَّ سُورَةَ الْبَقَرَةِ مَدَنِيَّةٌ. وَسُورَةَ الْمَائِدَةِ مِنْ آخِرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْمَدِينَةِ، فَمَنْ أَنْكَرَ حَصْرَ التَّحْرِيمِ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعِ إِلَّا مَا خَصَّهُ الْإِجْمَاعُ وَالدَّلَائِلُ الْقَاطِعَةُ كَانَ فِي مَحَلِّ أَنْ يُخْشَى عَلَيْهِ، لِأَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ حَصْرَ الْمُحَرَّمَاتِ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعِ كَانَ شَرْعًا ثَابِتًا فِي أَوَّلِ أَمْرِ مَكَّةَ وَآخِرِهَا، وَأَوَّلِ الْمَدِينَةِ وَآخِرِهَا وَأَنَّهُ تَعَالَى أَعَادَ هَذَا الْبَيَانَ فِي هَذِهِ السُّوَرِ الْأَرْبَعِ قَطْعًا للأعذار وإزالة للشبهة، والله أعلم.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١١٦ الى ١١٧]
وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (١١٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١١٧)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ] وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَصَرَ الْمُحَرَّمَاتِ فِي تِلْكَ الْأَرْبَعِ بَالَغَ فِي تَأْكِيدِ ذَلِكَ الْحَصْرِ وَزَيْفِ طَرِيقَةِ الكفار في الزيادة على هذه الأربع، وَفِي النُّقْصَانِ عَنْهَا أُخْرَى، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُحَرِّمُونَ الْبَحِيرَةَ وَالسَّائِبَةَ وَالْوَصِيلَةَ وَالْحَامَ، وَكَانُوا يَقُولُونَ مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا، فَقَدْ زَادُوا فِي الْمُحَرَّمَاتِ وَزَادُوا أَيْضًا فِي الْمُحَلَّلَاتِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ حَلَّلُوا الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَاللَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ هِيَ هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْأَشْيَاءَ الَّتِي يَقُولُونَ إِنَّ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ كَذِبٌ وَافْتِرَاءٌ عَلَى اللَّهِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ عَلَى هَذَا الْكَذِبِ، وَأَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ هَذَا الْحَصْرَ فِي هَذِهِ السُّوَرِ الْأَرْبَعِ، ثُمَّ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَيْهَا وَالنُّقْصَانَ عَنْهَا كَذِبٌ وَافْتِرَاءٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَمُوجِبٌ لِلْوَعِيدِ الشَّدِيدِ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَا مَزِيدَ عَلَى هَذَا الْحَصْرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَإِنْ قَالُوا: حَمْلُ الْآيَةِ عَلَيْهِ يُؤَدِّي إِلَى التَّكْرَارِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ عَيْنُ ذَلِكَ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ قَوْلَهُ: لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ لَيْسَ فِيهِ بَيَانُ كَذِبٍ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَأَعَادَ قَوْلَهُ:
لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لِيَحْصُلَ فِيهِ هَذَا الْبَيَانُ الزَّائِدُ وَنَظَائِرُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ. وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى يَذْكُرُ كَلَامًا ثُمَّ يُعِيدُهُ بِعَيْنِهِ مَعَ فَائِدَةٍ زَائِدَةٍ. الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ (مَا) مَوْصُولَةً، وَالتَّقْدِيرُ وَلَا تَقُولُوا لِلَّذِي تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ فِيهِ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ، وَحُذِفَ لَفْظُ فِيهِ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا.
المسألة الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ مِنْ فَصِيحِ الْكَلَامِ وَبَلِيغِهِ كَأَنَّ مَاهِيَّةَ الْكَذِبِ وَحَقِيقَتَهُ مَجْهُولَةٌ وَكَلَامُهُمُ الْكَذِبُ يَكْشِفُ حَقِيقَةَ الْكَذِبِ وَيُوَضِّحُ مَاهِيَّتَهُ، وَهَذَا مبالغ فِي وَصْفِ كَلَامِهِمْ بِكَوْنِهِ كَذِبًا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ أَبِي الْعَلَاءِ الْمَعَرِّي:
سَرَى بَرْقُ الْمَعَرَّةِ بَعْدَ وَهَنٍ | فَبَاتَ بِرَامَةٍ يَصِفُ الْكَلَالَا |
ثم قال تَعَالَى: لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ الْمَعْنَى: أَنَّهُمْ كَانُوا يَنْسِبُونَ ذَلِكَ التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَيَقُولُونَ: إِنَّهُ أَمَرَنَا بِذَلِكَ. وَأَظُنُّ أَنَّ هَذَا اللَّامَ لَيْسَ لَامَ الْغَرَضِ، لِأَنَّ ذَلِكَ الِافْتِرَاءَ مَا كَانَ غَرَضًا لَهُمْ بَلْ كَانَ لَامَ الْعَاقِبَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [الْقَصَصِ: ٨] قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَقَوْلُهُ: لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ لِأَنَّ وَصْفَهُمُ الْكَذِبَ هُوَ افْتِرَاءٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَفَسَّرَ وَصْفَهُمُ الْكَذِبَ بِالِافْتِرَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ أَوْعَدَ الْمُفْتَرِينَ، وَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ نَعِيمِ الدُّنْيَا يزول عنهم عن قَرِيبٍ، فَقَالَ: مَتاعٌ قَلِيلٌ قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى مَتَاعُهُمْ مَتَاعٌ قَلِيلٌ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَلْ مَتَاعُ كُلِّ الدُّنْيَا مَتَاعٌ قَلِيلٌ، ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ أَلِيمٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ:
وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ.
[سورة النحل (١٦) : آية ١١٨]
وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا مَا قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٨)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ مَا يَحِلُّ وَمَا يَحْرُمُ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ، أَتْبَعَهُ بِبَيَانِ مَا خَصَّ الْيَهُودَ بِهِ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ/ فَقَالَ: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا مَا قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَهُوَ الَّذِي سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ.
ثم قال تَعَالَى: وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ وَتَفْسِيرُهُ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلُهُ تَعَالَى:
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء: ١٦٠].
[سورة النحل (١٦) : آية ١١٩]
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٩)
ثُمَّ أَعَادَ قَوْلَهُ: إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ. ثم قال: لَغَفُورٌ رَحِيمٌ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ لِذَلِكَ السُّوءِ الَّذِي صَدَرَ عَنْهُمْ بِسَبَبِ الْجَهَالَةِ، وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّ الْإِنْسَانَ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَقْدَمَ عَلَى الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي دَهْرًا دَهِيرًا وَأَمَدًا مَدِيدًا، فَإِذَا تَابَ عَنْهُ وَآمَنَ وَأَتَى بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، يَقْبَلُ توبته ويخلصه من العذاب.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١٢٠ الى ١٢٣]
إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٠) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٢١) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٢٢) ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٣)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا زَيَّفَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مَذَاهِبَ الْمُشْرِكِينَ فِي أَشْيَاءَ، مِنْهَا قَوْلُهُمْ بِإِثْبَاتِ الشُّرَكَاءِ وَالْأَنْدَادِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَمِنْهَا طَعْنُهُمْ فِي نُبُوَّةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَقَوْلُهُمْ لَوْ أَرْسَلَ اللَّهُ رَسُولًا لَكَانَ ذَلِكَ الرَّسُولُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَمِنْهَا قَوْلُهُمْ بِتَحْلِيلِ أَشْيَاءَ حَرَّمَهَا اللَّهُ، وَتَحْرِيمِ أَشْيَاءَ أَبَاحَهَا اللَّهُ تَعَالَى، فَلَمَّا بَالَغَ فِي إِبْطَالِ مَذَاهِبِهِمْ فِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَئِيسَ الْمُوَحِّدِينَ وَقُدْوَةَ الْأُصُولِيِّينَ، وَهُوَ الَّذِي دَعَا النَّاسَ إِلَى التَّوْحِيدِ وَإِبْطَالِ الشِّرْكِ وَإِلَى الشَّرَائِعِ. وَالْمُشْرِكُونَ كَانُوا مُفْتَخِرِينَ بِهِ مُعْتَرِفِينَ بِحُسْنِ طَرِيقَتِهِ مُقِرِّينَ بِوُجُوبِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ، لَا جَرَمَ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَحَكَى عَنْهُ طَرِيقَتَهُ فِي التَّوْحِيدِ لِيَصِيرَ ذَلِكَ حَامِلًا لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالتَّوْحِيدِ وَالرُّجُوعِ عَنِ الشِّرْكِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِصِفَاتٍ:
الصِّفَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ كَانَ أُمَّةً، وَفِي تَفْسِيرِهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ كَانَ وَحْدَهُ أُمَّةً مِنَ الْأُمَمِ لِكَمَالِهِ فِي صِفَاتِ الْخَيْرِ كَقَوْلِهِ:
لَيْسَ عَلَى اللَّهِ بِمُسْتَنْكَرٍ | أَنْ يَجْمَعَ الْعَالَمَ فِي وَاحِدٍ |
وَكَانَ رَسُولُ
الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ أُمَّةٌ فُعْلَةً بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَالرُّحْلَةِ وَالْبُغْيَةِ، فَالْأُمَّةُ هُوَ الَّذِي يُؤْتَمُّ بِهِ، وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً [الْبَقَرَةِ: ١٢٤]. الرَّابِعُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ السَّبَبُ الَّذِي لِأَجْلِهِ جُعِلَتْ أُمَّتُهُ مُمْتَازِينَ عَمَّنْ سِوَاهُمْ بِالتَّوْحِيدِ وَالدِّينِ الْحَقِّ، وَلَمَّا جَرَى مَجْرَى السَّبَبِ لِحُصُولِ تِلْكَ الْأُمَّةِ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْأُمَّةِ إِطْلَاقًا/ لِاسْمِ الْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ، وَعَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ لَمْ تَبْقَ أَرْضٌ إِلَّا وَفِيهَا أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهِمْ عَنْ أَهْلِ الْأَرْضِ إِلَّا زَمَنَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُ كَانَ وَحْدَهُ.
الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: كَوْنُهُ قَانِتًا لِلَّهِ، وَالْقَانِتُ هُوَ الْقَائِمُ بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:
مَعْنَاهُ كَوْنُهُ مُطِيعًا لِلَّهِ.
الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: كَوْنُهُ حَنِيفًا وَالْحَنِيفُ الْمَائِلُ إِلَى مِلَّةِ الْإِسْلَامِ مَيْلًا لَا يَزُولُ عَنْهُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّهُ أَوَّلُ مَنِ اخْتَتَنَ وَأَقَامَ مَنَاسِكَ الْحَجِّ وَضَحَّى، وَهَذِهِ صِفَةُ الْحَنِيفِيَّةِ.
الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ فِي الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ وَالَّذِي يُقَرِّرُ كَوْنَهُ كَذِلَكَ أَنَّ أَكْثَرَ هِمَّتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ فِي تَقْرِيرِ عِلْمِ الْأُصُولِ فَذَكَرَ دَلِيلَ إِثْبَاتِ الصَّانِعِ مَعَ مَلِكِ زَمَانِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [الْبَقَرَةِ: ٢٥٨] ثُمَّ أَبْطَلَ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ وَالْكَوَاكِبِ بِقَوْلِهِ: لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ [الْأَنْعَامِ: ٧٦] ثُمَّ كَسَرَ تِلْكَ الْأَصْنَامَ حَتَّى آلَ الْأَمْرُ إِلَى أَنْ أَلْقَوْهُ فِي النَّارِ، ثُمَّ طَلَبَ مِنَ اللَّهِ أَنْ يريد كَيْفِيَّةَ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى لِيَحْصُلَ لَهُ مَزِيدُ الطُّمَأْنِينَةِ، وَمَنْ وَقَفَ عَلَى عِلْمِ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ غَارِقًا فِي بَحْرِ التَّوْحِيدِ.
الصِّفَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ، شاكِراً لِأَنْعُمِهِ
رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ لَا يَتَغَدَّى إِلَّا مَعَ ضَيْفٍ فَلَمْ يَجِدْ ذَاتَ يَوْمٍ ضَيْفًا فَأَخَّرَ غَدَاءَهُ فَإِذَا هُوَ بِقَوْمٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فِي صُورَةِ الْبَشَرِ فَدَعَاهُمْ إِلَى الطَّعَامِ فَأَظْهَرُوا أَنَّ بِهِمْ عِلَّةَ الْجُذَامِ فَقَالَ: الْآنَ يَجِبُ عَلَيَّ مُؤَاكَلَتُكُمْ فَلَوْلَا عِزَّتُكُمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لَمَا ابْتَلَاكُمْ بِهَذَا الْبَلَاءِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَفْظُ الْأَنْعُمِ جَمْعُ قِلَّةٍ، وَنِعَمُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَتْ كَثِيرَةً. فَلِمَ قَالَ: شاكِراً لِأَنْعُمِهِ.
قُلْنَا: الْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ شَاكِرًا لِجَمِيعِ نِعَمِ اللَّهِ إِنْ كَانَتْ قَلِيلَةً فَكَيْفَ الْكَثِيرَةُ.
الصِّفَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ: اجْتَباهُ أَيِ اصْطَفَاهُ لِلنُّبُوَّةِ. وَالِاجْتِبَاءُ هُوَ أَنْ تَأْخُذَ الشَّيْءَ بِالْكُلِّيَّةِ وَهُوَ افْتِعَالٌ مِنْ جَبَيْتُ، وَأَصْلُهُ جَمْعُ الْمَاءِ فِي الْحَوْضِ وَالْجَابِيَةُ هِيَ الْحَوْضُ.
الصِّفَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أَيْ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ وَالتَّرْغِيبِ فِي الدِّينِ الْحَقِّ وَالتَّنْفِيرِ عَنِ الدِّينِ الْبَاطِلِ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ [الْأَنْعَامِ: ١٥٣].
الصِّفَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْلُهُ: وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً قَالَ قَتَادَةُ: إِنَّ اللَّهَ حَبَّبَهُ إِلَى كُلِّ الْخَلْقِ فَكُلُّ أَهْلِ الْأَدْيَانِ يُقِرُّونَ بِهِ، أَمَّا الْمُسْلِمُونَ وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا كُفَّارُ قُرَيْشٍ وَسَائِرُ الْعَرَبِ فَلَا فَخْرَ لَهُمْ إِلَّا بِهِ، وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ أَنَّ اللَّهَ أَجَابَ دُعَاءَهُ فِي قَوْلِهِ: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ/ فِي الْآخِرِينَ [الشُّعَرَاءِ: ٨٤] وَقَالَ آخَرُونَ:
هُوَ قَوْلُ الْمُصَلِّي مِنَّا كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَقِيلَ الصِّدْقُ، وَالْوَفَاءُ وَالْعِبَادَةُ.
الصِّفَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْلُهُ: وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ.
قُلْنَا: لِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [البقرة: ١٣٠] فقال هاهنا: وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَجَابَ دُعَاءَهُ ثُمَّ إِنَّ كَوْنَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ فِي أَعْلَى مَقَامَاتِ الصَّالِحِينَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ ذَلِكَ فِي آيَةٍ أُخْرَى وَهِيَ قَوْلُهُ: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ [الْأَنْعَامِ: ٨٣].
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْعَالِيَةِ الشَّرِيفَةِ قَالَ: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَفِيهِ مَبَاحِثُ:
البحث الْأَوَّلُ: قَالَ قَوْمٌ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَلَى شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَيْسَ لَهُ شَرْعٌ هُوَ بِهِ مُنْفَرِدٌ، بَلِ الْمَقْصُودُ مِنْ بَعْثَتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِحْيَاءُ شَرْعِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَوَّلَ فِي إِثْبَاتِ مَذْهَبِهِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّهُ مَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَلَمَّا قَالَ: اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ كَانَ الْمُرَادُ ذَلِكَ.
فَإِنْ قِيلَ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا نَفَى الشِّرْكَ وَأَثْبَتَ التَّوْحِيدَ بِنَاءً عَلَى الدَّلَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُتَابِعًا لَهُ فَيَمْتَنِعُ حَمْلُ قَوْلِهِ: أَنِ اتَّبِعْ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الشَّرَائِعِ الَّتِي يَصِحُّ حُصُولُ الْمُتَابَعَةِ فِيهَا.
قُلْنَا: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْأَمْرَ بِمُتَابَعَتِهِ فِي كَيْفِيَّةِ الدَّعْوَةِ إِلَى التَّوْحِيدِ وَهُوَ أَنْ يَدْعُوَ إِلَيْهِ بِطَرِيقِ الرِّفْقِ وَالسَّهُولَةِ وَإِيرَادِ الدَّلَائِلِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى بِأَنْوَاعٍ كَثِيرَةٍ عَلَى مَا هُوَ الطَّرِيقَةُ الْمَأْلُوفَةُ فِي الْقُرْآنِ.
البحث الثَّانِي: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : لَفْظَةُ «ثُمَّ» فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ تَدُلُّ عَلَى تَعْظِيمِ مَنْزِلَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِجْلَالِ مَحَلِّهِ وَالْإِيذَانِ بِأَنَّ أَشْرَفَ مَا أُوتِيَ خَلِيلُ اللَّهِ مِنَ الْكَرَامَةِ وَأَجَلَّ مَا أُوتِيَ مِنَ النِّعْمَةِ اتِّبَاعُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِلَّتَهُ من قبل، إن هَذِهِ اللَّفْظَةَ دَلَّتْ عَلَى تَبَاعُدِ هَذَا النَّعْتِ فِي الْمَرْتَبَةِ عَنْ سَائِرِ الْمَدَائِحِ الَّتِي مَدَحَهُ الله بها.
[سورة النحل (١٦) : آية ١٢٤]
إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٢٤)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمُتَابَعَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ اخْتَارَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَهَذِهِ الْمُتَابَعَةُ إِنَّمَا تَحْصُلُ إِذَا قُلْنَا إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ قَدِ اخْتَارَ فِي شَرْعِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَعِنْدَ هذا المسائل أَنْ يَقُولَ: فَلِمَ اخْتَارَ الْيَهُودُ يَوْمَ السَّبْتِ؟
فَأَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَفِي الْآيَةِ قَوْلَانِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ:
رَوَى الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: أَمَرَهُمْ مُوسَى بِالْجُمُعَةِ وَقَالَ: تَفَرَّغُوا لِلَّهِ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا وَاحِدًا وَهُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ لَا تَعْمَلُوا فِيهِ شَيْئًا مِنْ أَعْمَالِكُمْ، فَأَبَوْا أَنْ يَقْبَلُوا ذَلِكَ، وَقَالُوا: لَا نُرِيدُ إِلَّا الْيَوْمَ الَّذِي فَرَغَ فِيهِ مِنَ الْخَلْقِ وَهُوَ يَوْمُ السَّبْتِ، فَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى السَّبْتَ لَهُمْ وَشَدَّدَ
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَنَا فَاخْتَلَفُوا فِيهِ وَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ، فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ، الْيَهُودُ غَدًا وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ».
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ أَيْ عَلَى نَبِيِّهِمْ مُوسَى حَيْثُ أَمَرَهُمْ بِالْجُمُعَةِ فَاخْتَارُوا السَّبْتَ، فَاخْتِلَافُهُمْ فِي السَّبْتِ كَانَ اخْتِلَافًا عَلَى نَبِيِّهِمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَيْ لِأَجْلِهِ، وَلَيْسَ مَعْنَى قَوْلِهِ:
اخْتَلَفُوا فِيهِ أَنَّ الْيَهُودَ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِالسَّبْتِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِهِ، لِأَنَّ الْيَهُودَ اتَّفَقُوا عَلَى ذَلِكَ فَلَا يُمْكِنُ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: اخْتَلَفُوا فِيهِ بِهَذَا، بَلِ الصَّحِيحُ مَا قَدَّمْنَاهُ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: هَلْ فِي الْعَقْلِ وَجْهٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَفْضَلُ مِنْ يَوْمِ السَّبْتِ؟ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَهْلَ الْمِلَلِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْعَالَمَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، وَبَدَأَ تَعَالَى بِالْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ مِنْ يَوْمِ الْأَحَدِ وَتَمَّ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَكَانَ يَوْمُ السَّبْتِ يَوْمَ الْفَرَاغِ، فَقَالَتِ الْيَهُودُ نَحْنُ نُوَافِقُ رَبَّنَا فِي تَرْكِ الْأَعْمَالِ، فَعَيَّنُوا السَّبْتَ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَقَالَتِ النَّصَارَى: مَبْدَأُ الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ هُوَ يَوْمُ الْأَحَدِ، فَنَجْعَلُ هَذَا الْيَوْمَ عِيدًا لَنَا، فهذان الوجهان مَعْقُولَانِ، فَمَا الوجه فِي جَعْلِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ عِيدًا لَنَا؟
قُلْنَا: يَوْمُ الْجُمُعَةِ هُوَ يَوْمُ الْكَمَالِ وَالتَّمَامِ وَحُصُولُ التَّمَامِ وَالْكَمَالِ يُوجِبُ الْفَرَحَ الْكَامِلَ وَالسُّرُورَ الْعَظِيمَ، فَجَعْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ يَوْمَ الْعِيدِ أَوْلَى مِنْ هَذَا الوجه وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي اخْتِلَافِهِمْ فِي السَّبْتِ، أَنَّهُمْ أَحَلُّوا الصَّيْدَ فِيهِ تَارَةً وَحَرَّمُوهُ تَارَةً، وَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَّفِقُوا فِي تَحْرِيمِهِ عَلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ.
ثم قال تَعَالَى: وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى سَيَحْكُمُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ للمحقين بالثواب وللمبطلين بالعقاب.
[سورة النحل (١٦) : آية ١٢٥]
ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١٢٥)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاتِّبَاعِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، بَيَّنَ الشَّيْءَ الَّذِي أَمَرَهُ بِمُتَابَعَتِهِ فِيهِ، فَقَالَ:
ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ رَسُولَهُ أَنْ يَدْعُوَ النَّاسَ بِأَحَدِ هَذِهِ الطُّرُقِ الثَّلَاثَةِ وَهِيَ الْحِكْمَةُ وَالْمَوْعِظَةُ الْحَسَنَةُ وَالْمُجَادَلَةُ بِالطَّرِيقِ الْأَحْسَنِ، وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْجَدَلَ فِي آيَةٍ أُخْرَى فَقَالَ: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الْعَنْكَبُوتِ: ٤٦] وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الطُّرُقَ الثَّلَاثَةَ وَعَطَفَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَجَبَ أَنْ تَكُونَ طُرُقًا مُتَغَايِرَةً مُتَبَايِنَةً، وَمَا رَأَيْتُ لِلْمُفَسِّرِينَ فِيهِ كَلَامًا مُلَخَّصًا مَضْبُوطًا.
وَاعْلَمْ أَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى الْمَذْهَبِ وَالْمَقَالَةِ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ مَبْنِيَّةً عَلَى حُجَّةٍ وَبَيِّنَةٍ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ الْحُجَّةِ، إِمَّا تَقْرِيرُ ذَلِكَ الْمَذْهَبِ وَذَلِكَ الِاعْتِقَادِ فِي قُلُوبِ الْمُسْتَمِعِينَ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ إِلْزَامَ الْخَصْمِ وَإِفْحَامَهُ.
وَثَالِثُهَا: الدَّلَائِلُ الَّتِي يَكُونُ الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِهَا إِلْزَامَ الْخُصُومِ وَإِفْحَامَهُمْ، وَذَلِكَ هُوَ الْجَدَلُ، ثُمَّ هَذَا الْجَدَلُ عَلَى قِسْمَيْنِ:
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا مُرَكَّبًا مِنْ مُقَدِّمَاتٍ مُسَلَّمَةٍ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، أَوْ مِنْ مُقَدَّمَاتٍ مُسَلَّمَةٍ عِنْدَ ذَلِكَ الْقَائِلِ، وَهَذَا الْجَدَلُ هو الجدل الواقع على الوجه الأحسن.
والقسم الثَّانِي: أَنْ يَكُوُنَ ذَلِكَ الدَّلِيلُ مُرَكَّبًا مِنْ مُقَدِّمَاتٍ بَاطِلَةٍ فَاسِدَةٍ إِلَّا أَنَّ قَائِلَهَا يُحَاوِلُ تَرْوِيجَهَا عَلَى الْمُسْتَمِعِينَ بِالسَّفَاهَةِ وَالشَّغَبِ، وَالْحِيَلِ الْبَاطِلَةِ، وَالطُّرُقِ الْفَاسِدَةِ، وَهَذَا الْقِسْمُ لَا يَلِيقُ بِأَهْلِ الْفَضْلِ إِنَّمَا اللَّائِقُ بِهِمْ هُوَ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ، وَذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا انْحِصَارُ الدَّلَائِلِ وَالْحُجَجِ فِي هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: أَهْلُ الْعِلْمِ ثَلَاثُ طَوَائِفَ: الْكَامِلُونَ الطَّالِبُونَ لِلْمَعَارِفِ الْحَقِيقِيَّةِ وَالْعُلُومِ الْيَقِينِيَّةِ، وَالْمُكَالَمَةُ مَعَ هَؤُلَاءِ لَا تُمْكِنُ إِلَّا بِالدَّلَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ الْيَقِينِيَّةِ وَهِيَ الْحِكْمَةُ، وَالْقِسْمُ الثاني الذي تَغْلِبُ عَلَى طِبَاعِهِمُ الْمُشَاغَبَةُ وَالْمُخَاصَمَةُ لَا طَلَبُ الْمَعْرِفَةِ الْحَقِيقِيَّةِ وَالْعُلُومِ الْيَقِينِيَّةِ، وَالْمُكَالَمَةُ اللَّائِقَةُ بِهَؤُلَاءِ الْمُجَادَلَةُ الَّتِي تُفِيدُ الْإِفْحَامَ وَالْإِلْزَامَ، وَهَذَانِ الْقِسْمَانِ هُمَا الطَّرَفَانِ. فَالْأَوَّلُ: هُوَ طَرَفُ الْكَمَالِ، وَالثَّانِي: طَرَفُ النُّقْصَانِ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: فَهُوَ الْوَاسِطَةُ، وَهُمُ الَّذِينَ مَا بَلَغُوا فِي الْكَمَالِ إِلَى حَدِّ الْحُكَمَاءِ الْمُحَقِّقِينَ، وَفِي النُّقْصَانِ وَالرَّذَالَةِ إِلَى حَدِّ الْمُشَاغِبِينَ الْمُخَاصِمِينَ، بَلْ هُمْ أَقْوَامٌ بَقُوا عَلَى الْفِطْرَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَالسَّلَامَةِ الْخِلْقِيَّةِ، وَمَا بَلَغُوا إِلَى دَرَجَةِ الِاسْتِعْدَادِ لِفَهْمِ الدَّلَائِلِ الْيَقِينِيَّةِ وَالْمَعَارِفِ الْحُكْمِيَّةِ، وَالْمُكَالَمَةُ مَعَ هَؤُلَاءِ لَا تُمْكِنُ إِلَّا بِالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَأَدْنَاهَا الْمُجَادَلَةُ، وَأَعْلَى مَرَاتِبِ الْخَلَائِقِ الْحُكَمَاءُ الْمُحَقِّقُونَ، وَأَوْسَطُهُمْ عَامَّةُ الْخَلْقِ وَهُمْ أَرْبَابُ السَّلَامَةِ، وَفِيهِمُ الْكَثْرَةُ وَالْغَلَبَةُ، وَأَدْنَى الْمَرَاتِبِ الَّذِينَ جُبِلُوا عَلَى طَبِيعَةِ الْمُنَازَعَةِ وَالْمُخَاصَمَةِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى:
ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ مَعْنَاهُ ادْعُ الْأَقْوِيَاءَ الْكَامِلِينَ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ بِالْحِكْمَةِ، وَهِيَ الْبَرَاهِينُ الْقَطْعِيَّةُ الْيَقِينِيَّةُ وَعَوَامَّ الْخَلْقِ بِالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَهِيَ الدَّلَائِلُ الْيَقِينِيَّةُ الْإِقْنَاعِيَّةُ الظَّنِّيَّةُ، وَالتَّكَلُّمُ مَعَ الْمُشَاغِبِينَ بِالْجَدَلِ عَلَى الطَّرِيقِ الْأَحْسَنِ الْأَكْمَلِ.
وَمِنْ لَطَائِفِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ قَالَ: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ فَقَصَرَ الدَّعْوَةَ على ذكر هذين القسمين لأن الدعوة إذا كَانَتْ بِالدَّلَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ فَهِيَ الْحِكْمَةُ، وَإِنْ كَانَتْ بِالدَّلَائِلِ الظَّنِّيَّةِ فَهِيَ الْمَوْعِظَةُ الْحَسَنَةُ، أَمَّا الْجَدَلُ فَلَيْسَ مِنْ بَابِ الدَّعْوَةِ، بَلِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ غَرَضٌ آخَرُ مُغَايِرٌ/ لِلدَّعْوَةِ وَهُوَ الْإِلْزَامُ وَالْإِفْحَامُ فَلِهَذَا السَّبَبِ لَمْ يَقُلْ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَالْجَدَلِ الْأَحْسَنِ، بَلْ قَطَعَ الْجَدَلَ عَنْ بَابِ الدَّعْوَةِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ الدَّعْوَةُ، وَإِنَّمَا الْغَرَضُ مِنْهُ شَيْءٌ آخَرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ وَالْمَعْنَى: أَنَّكَ مُكَلَّفٌ بِالدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِهَذِهِ الطُّرُقِ الثَّلَاثَةِ، فَأَمَّا حُصُولُ الْهِدَايَةِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِكَ، فَهُوَ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالضَّالِّينَ وَأَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ، وَالَّذِي عِنْدِي فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ جَوَاهِرَ النُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ مُخْتَلِفَةٌ بِالْمَاهِيَّةِ، فَبَعْضُهَا نُفُوسٌ مُشْرِقَةٌ صَافِيَةٌ قَلِيلَةُ التَّعَلُّقِ بِالْجُسْمَانِيَّاتِ كَثِيرَةُ الِانْجِذَابِ إِلَى عَالَمِ الرُّوحَانِيَّاتِ وَبَعْضُهَا مُظْلِمَةٌ كَدِرَةٌ قَوِيَّةُ التَّعَلُّقِ بِالْجُسْمَانِيَّاتِ عَدِيمَةُ الِالْتِفَاتِ إِلَى الرُّوحَانِيَّاتِ، وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الِاسْتِعْدَادَاتُ مِنْ لَوَازِمِ جَوَاهِرِهَا، لَا جَرَمَ يَمْتَنِعُ انْقِلَابُهَا وَزَوَالُهَا، فَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: اشْتَغِلْ أَنْتَ بِالدَّعْوَةِ وَلَا تَطْمَعُ فِي حُصُولِ الْهِدَايَةِ لِلْكُلِّ، فَإِنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْعَالِمُ بِضَلَالِ النُّفُوسِ الضَّالَّةِ الْجَاهِلَةِ وَبِإِشْرَاقِ النُّفُوسِ الْمُشْرِقَةِ الصَّافِيَةِ فَلِكُلِّ نَفْسٍ فِطْرَةٌ مَخْصُوصَةٌ وَمَاهِيَّةٌ مَخْصُوصَةٌ، كَمَا قال: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم: ٣٠] والله أعلم.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١٢٦ الى ١٢٨]
وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (١٢٦) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (١٢٧) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (١٢٨)
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْعَامَّةُ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَأَى حَمْزَةَ وَقَدْ مَثَّلُوا بِهِ قَالَ: «وَاللَّهِ لَأُمَثِّلَنَّ بِسَبْعِينَ مِنْهُمْ مَكَانَكَ» فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِخَوَاتِيمِ سُورَةِ النَّحْلِ فَكَفَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمْسَكَ عَمَّا أَرَادَ.
وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَالشَّعْبِيِّ
وَعَلَى هَذَا قَالُوا: إِنَّ سُورَةَ النَّحْلِ كُلَّهَا مَكِّيَّةٌ إِلَّا هَذِهِ الْآيَاتِ الثَّلَاثَ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ الْأَمْرِ بِالسَّيْفِ وَالْجِهَادِ، حِينَ كَانَ الْمُسْلِمُونَ قَدْ أمروا بالقتال مع من يقاتلهم ولا يبدؤا بِالْقِتَالِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [الْبَقَرَةِ: ١٩٠] وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ أَمَرَ اللَّهُ بِأَنْ يُعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا يُصِيبُهُمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ وَلَا يَزِيدُوا.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ نَهْيُ الْمَظْلُومِ عَنِ اسْتِيفَاءِ الزِّيَادَةِ مِنَ الظَّالِمِ، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالنَّخَعِيِّ وَابْنِ سِيرِينَ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: إِنْ أَخَذَ مِنْكَ رَجَلٌ شَيْئًا فَخُذْ مِنْهُ مِثْلَهُ، وَأَقُولُ: إِنَّ حَمْلَ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى قِصَّةٍ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِمَا قَبْلَهَا يُوجِبُ حُصُولَ سُوءِ التَّرْتِيبِ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ يُطْرِقُ الطَّعْنَ إِلَيْهِ وَهُوَ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ، بَلِ الْأَصْوَبُ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْعُوَ الْخَلْقَ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ بِأَحَدِ الطُّرُقِ الثَّلَاثَةِ وَهِيَ الْحِكْمَةُ وَالْمَوْعِظَةُ الْحَسَنَةُ، وَالْجِدَالُ بِالطَّرِيقِ الْأَحْسَنِ، ثُمَّ إِنَّ تِلْكَ الدَّعْوَةَ تَتَضَمَّنُ أَمْرَهُمْ بِالرُّجُوعِ عَنْ دِينِ آبَائِهِمْ وَأَسْلَافِهِمْ، وَبِالْإِعْرَاضِ عَنْهُ وَالحكم عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ وَالضَّلَالَةِ وَذَلِكَ مِمَّا يُشَوِّشُ الْقُلُوبَ وَيُوحِشُ الصُّدُورَ، وَيَحْمِلُ أَكْثَرَ الْمُسْتَمِعِينَ عَلَى قَصْدِ ذَلِكَ الدَّاعِي بِالْقَتْلِ تَارَةً، وَبِالضَّرْبِ ثَانِيًا وَبِالشَّتْمِ ثَالِثًا، ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ
فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ تَقْدَحُونَ فِيمَا
رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَرَكَ الْعَزْمَ عَلَى الْمُثْلَةِ وَكَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ بِسَبَبِ هَذِهِ الْآيَةِ؟
قُلْنَا: لَا حَاجَةَ إِلَى الْقَدْحِ فِي تِلْكَ الرِّوَايَةِ، لِأَنَّا نَقُولُ: تِلْكَ الْوَاقِعَةُ دَاخِلَةٌ فِي عُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ فَيُمْكِنُ التَّمَسُّكُ فِي تِلْكَ الْوَاقِعَةِ بِعُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ، إِنَّمَا الَّذِي يُنَازَعُ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَصْرُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى هَذِهِ الْوَاقِعَةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ سُوءَ التَّرْتِيبِ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى.
المسألة الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِرِعَايَةِ الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَرَتَّبَ ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعِ مَرَاتِبَ:
الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ يَعْنِي إِنْ رَغِبْتُمْ فِي اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فَاقْنَعُوا بِالْمِثْلِ وَلَا تَزِيدُوا عَلَيْهِ، فَإِنَّ اسْتِيفَاءِ الزِّيَادَةِ ظُلْمٌ وَالظُّلْمُ مَمْنُوعٌ مِنْهُ فِي عَدْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ وَفِي قَوْلِهِ:
وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَوْلَى لَهُ أَنْ لَا يَفْعَلَ، كَمَا أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ لِلْمَرِيضِ: إِنْ كُنْتَ تَأْكُلُ الْفَاكِهَةَ فَكُلِ التُّفَّاحَ، كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْأَوْلَى بِكَ أَنْ لَا تَأْكُلَهُ، فَذَكَرَ تَعَالَى بِطَرِيقِ الرَّمْزِ وَالتَّعْرِيضِ عَلَى أَنَّ الْأَوْلَى تَرْكُهُ.
وَالْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: الِانْتِقَالُ مِنَ التَّعْرِيضِ إِلَى التَّصْرِيحِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ الْأَوْلَى تَرْكُ ذَلِكَ الِانْتِقَامِ، لِأَنَّ الرَّحْمَةَ أَفْضَلُ مِنَ الْقَسْوَةِ وَالْإِنْفَاعَ أَفْضَلُ مِنَ الْإِيلَامِ.
الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: وَهُوَ وُرُودُ الْأَمْرِ بِالْجَزْمِ بِالتَّرْكِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَاصْبِرْ لِأَنَّهُ فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ ذَكَرَ أَنَّ التَّرْكَ خَيْرٌ وَأَوْلَى، وَفِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ الثَّالِثَةِ صَرَّحَ بِالْأَمْرِ بِالصَّبْرِ، وَلَمَّا كَانَ الصَّبْرُ فِي هَذَا الْمَقَامِ شَاقًّا شَدِيدًا ذَكَرَ بَعْدَهُ مَا يُفِيدُ سُهُولَتَهُ فَقَالَ: وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ أَيْ بِتَوْفِيقِهِ وَمَعُونَتِهِ وَهَذَا هُوَ السَّبَبُ الْكُلِّيُّ الْأَصْلِيُّ الْمُفِيدُ فِي حُصُولِ الصَّبْرِ وَفِي حُصُولِ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ. وَلَمَّا ذَكَرَ هَذَا السَّبَبَ الْكُلِّيَّ الْأَصْلِيَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ مَا هُوَ السَّبَبُ الْجُزْئِيُّ الْقَرِيبُ فَقَالَ: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ وَذَلِكَ لِأَنَّ إِقْدَامَ الْإِنْسَانِ عَلَى الِانْتِقَامِ، وَعَلَى إِنْزَالِ الضَّرَرِ بِالْغَيْرِ لَا يَكُونُ إِلَّا عِنْدَ هَيَجَانِ الْغَضَبِ، وَشِدَّةُ الْغَضَبِ لَا تَحْصُلُ إِلَّا لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ:
أَحَدَهُمَا: فَوَاتُ نَفْعٍ كَانَ حَاصِلًا فِي الْمَاضِي وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ قِيلَ مَعْنَاهُ: وَلَا تَحْزَنْ عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ، وَمَعْنَاهُ لَا تَحْزَنْ بِسَبَبِ فَوْتِ أُولَئِكَ الْأَصْدِقَاءِ. وَيَرْجِعُ حَاصِلُهُ إِلَى فَوْتِ النَّفْعِ. وَالسَّبَبُ الثَّانِي:
لِشِدَّةِ الْغَضَبِ تَوَقُّعُ ضَرَرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ وَمَنْ وَقَفَ عَلَى هَذِهِ اللَّطَائِفِ عَرَفَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ كَلَامٌ أَدْخَلُ فِي الْحُسْنِ وَالضَّبْطِ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ بَقِيَ فِي لَفْظِ الْآيَةِ مَبَاحِثُ:
البحث الْأَوَّلُ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ بِكَسْرِ الضَّادِ، وَفِي النَّمْلِ مِثْلُهُ، وَالْبَاقُونَ: بِفَتْحِ الضَّادِ فِي الْحَرْفَيْنِ. أَمَّا الوجه فِي الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ فَأُمُورٌ: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الضِّيقُ بِالْكَسْرِ فِي قِلَّةِ الْمَعَاشِ وَالْمَسَاكِنِ، وَمَا كَانَ فِي الْقَلْبِ فَإِنَّهُ الضَّيْقُ. وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو: الضِّيقُ بِالْكَسْرِ الشِّدَّةُ وَالضَّيْقُ بِفَتْحِ الضَّادِ الْغَمُّ. وَقَالَ الْقُتَيْبِيُّ:
ضَيْقٌ تَخْفِيفُ ضَيِّقٍ مِثْلُ هَيْنٍ وَهَيِّنٍ وَلَيْنٍ وَلَيِّنٍ. وَبِهَذَا الطَّرِيقِ قُلْنَا: إِنَّهُ تَصِحُّ قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ.
البحث الثَّانِي: قُرِئَ: وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ.
الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ وَهَذَا يَجْرِي مَجْرَى التَّهْدِيدِ لِأَنَّ فِي الْمَرْتَبَةِ الْأُولَى رَغَّبَ فِي تَرْكِ الِانْتِقَامِ عَلَى سَبِيلِ الرَّمْزِ، وَفِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ عَدَلَ عَنِ الرَّمْزِ إِلَى التَّصْرِيحِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ وَفِي الْمَرْتَبَةِ الثَّالِثَةِ أَمَرَنَا بِالصَّبْرِ عَلَى سَبِيلِ الْجَزْمِ، وَفِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ الرَّابِعَةِ كَأَنَّهُ ذَكَرَ الْوَعِيدَ فِي فِعْلِ الِانْتِقَامِ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا عَنِ اسْتِيفَاءِ الزِّيَادَةِ: وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ فِي تَرْكِ أَصْلِ الِانْتِقَامِ، فَإِنْ أَرَدْتَ أَنْ أَكُونَ مَعَكَ فَكُنْ مِنَ الْمُتَّقِينَ وَمِنَ الْمُحْسِنِينَ. وَمَنْ وَقَفَ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ عَرَفَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَى سَبِيلِ الرِّفْقِ وَاللُّطْفِ مَرْتَبَةً فَمَرْتَبَةً، وَلَمَّا قَالَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ذَكَرَ هَذِهِ الْمَرَاتِبَ الْأَرْبَعَةَ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الدَّعْوَةَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ وَاقِعَةً عَلَى هَذَا الوجه، وَعِنْدَ الْوُقُوفِ عَلَى هَذِهِ اللَّطَائِفِ يَعْلَمُ الْعَاقِلُ أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ الْكَرِيمَ بَحْرٌ لَا سَاحِلَ لَهُ.
المسألة الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا مَعِيَّتُهُ بِالرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ وَالرُّتْبَةِ، وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ اتَّقَوْا إِشَارَةٌ إِلَى التَّعْظِيمِ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَوْلُهُ: وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ إِشَارَةٌ إِلَى الشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَمَالَ السَّعَادَةِ لِلْإِنْسَانِ فِي هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ أَعْنِي التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالشَّفَقَةُ عَلَى خَلْقِ الله، وَعَبَّرَ عَنْهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ فَقَالَ: كَمَالُ الطَّرِيقِ صِدْقٌ مَعَ الْحَقِّ وَخُلُقٌ مَعَ الْخَلْقِ، وَقَالَ الْحُكَمَاءُ: كَمَالُ الْإِنْسَانِ فِي أَنْ يَعْرِفَ الْحَقَّ لِذَاتِهِ، وَالْخَيْرَ لِأَجْلِ الْعَمَلِ بِهِ، وَعَنْ هَرِمِ بْنِ حَيَّانَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ عِنْدَ الْقُرْبِ مِنَ الْوَفَاةِ أَوْصِ، فَقَالَ:
إِنَّمَا الْوَصِيَّةُ مِنَ الْمَالِ وَلَا مَالَ لِي، وَلَكِنِّي أُوصِيكُمْ بِخَوَاتِيمِ سُورَةِ النَّحْلِ.
المسألة الرَّابِعَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَهَذَا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ تَعْلِيمُ حُسْنِ الْأَدَبِ فِي كَيْفِيَّةِ الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَتَرْكِ التَّعَدِّي وَطَلَبِ الزِّيَادَةِ، وَلَا تَعَلُّقَ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ مَشْغُوفُونَ بِتَكْثِيرِ الْقَوْلِ بِالنَّسْخِ، وَلَا أَرَى فِيهِ فَائِدَةً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: تَمَّ تَفْسِيرُ هَذِهِ السُّورَةِ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ بَعْدَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ بِزَمَانٍ مُعْتَدِلٍ، وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْحَقُّ عَزِيزٌ وَالطَّرِيقُ بَعِيدٌ وَالْمَرْكَبُ ضَعِيفٌ وَالْقُرْبُ بُعْدٌ وَالْوَصْلُ هَجْرٌ وَالْحَقَائِقُ مَصُونَةٌ وَالْمَعَانِي فِي غَيْبِ الْغَيْبِ مَحْصُونَةٌ وَالْأَسْرَارُ فِيمَا وَرَاءَ الْعِزِّ مَخْزُونَةٌ، وَبِيَدِ الْخَلْقِ الْقِيلُ وَالْقَالُ وَالْكَمَالُ لَيْسَ إِلَّا لِلَّهِ ذِي الْإِكْرَامِ وَالْجَلَالِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَاتُهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.