تفسير سورة النحل

الهداية الى بلوغ النهاية
تفسير سورة سورة النحل من كتاب الهداية الى بلوغ النهاية المعروف بـالهداية الى بلوغ النهاية .
لمؤلفه مكي بن أبي طالب . المتوفي سنة 437 هـ
تفسير سورة النحل
سورة النحل مكية
١قال ابن عباس : هي مكية إلا ثلاث ٢ آيات نزلت ٣ بين مكة والمدينة ٤، حين رجع النبي صلى الله عليه وسلم من أحد، وقد قتل حمزة، وقد مثل ٥ به، فقال النبي [ صلى الله عليه وسلم ٦ ] " لأمثلن بثلاثين منهم ". وقال المسلمون : " لنمثلن بهم ". فأنزل الله ﴿ وإن عاقبتم ٧ فعاقبوا بمثل ما عوقبتم ٨ [ به ٩ ] ﴾ [ ١٢٦ ] إلى آخر السورة ١٠.
[ ويقال لسورة النحل سورة النعم لكثرة ما نبه الله فيها على نعمه، وعدد فيها من منته على خلقه ١١ ] ١٢.
١ ط: "وقال"..
٢ في النسختين معا كتبت "ثلاثة" وهو خطأ..
٣ ط: "نزلن"..
٤ انظر: في مكية السورة والخلاف في ذلك: معاني الزجاج ٣/١٦٩. والكشف ٢/٣٥ والكشاف ٢//٤٠٠ والمحرر ١٠/١٥٧، والتفسير الكبير ١٩/٢٢٢. وفيه "وحكى الأصم عن بعضهم أن كلها مدنية" وعن قتادة أن السورة من أولها إلى قوله "كن فيكون" مكي وما سواه مدني، وقال آخرون عكس قول قتادة " وفي الجامع ١٠/٤٤ عن الحسن وعكرمة وعطاء وجابر أنها كلها مكية. واختلف أيضا في الآيات المستثناة من مكية السورة، انظر: نفس المراجع والصفحات السابقة..
٥ ط: "ومثل" دون"قد" ولعله الأصوب..
٦ ساقط من ق..
٧ ق: وإن عاقبتم وإن عاقبتم... " وهو سهو من الناسخ. ٨ ساقط من ق..
٨ ٩ تتمة لازمة..
٩ ؟؟؟؟؟.
١٠ سيأتي هذا الخبر في مواضع أخرى من تفسير هذه السورة، وأخرجه بالفاظ متقاربة مع بعض الزيادة ابن هشام في السيرة ٣/٩٥-٩٦، والترمذي في السنن رقم ٥١٣٦ عن أبي بن كعب وقال "هذا حديث حسن غريب"، والحاكم في المستدرك ٢/٣٥٩، وانظر: أيضا أحكام ابن العربي ٣/١١٩٠ والدر ٥/١٧٩ ولباب النقول ١٣٥..
١١ ساقط من ق..
١٢ ورد هذا القول بألفاظ متقاربة في: الكشاف ٢/٤٠٠ والمحرر ١٠/١٥٧ والتفسير الكبير ١٩/٢٢٢ والجامع ١٠/٤٤ والتحرير ٤/٩٣ عن قتادة. وبعد هذه الكلمة في ط: بسم الله الرحمن الرحيم.
.

[ويقال لسورة النحل سورة النعم لكثرة ما نبه الله فيها على نعمه، وعدد ما فيها من منته على خلقه]

قوله [تعالى] ﴿أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ﴾.
ومعنى أتى أمر الله: يأتي. ولا يحسبن عند سيبويه في أخبار الناس وما يجري بينهم: فَعَل بمعنى يَفعل إلا في الشرط.
وقيل: إنما أتى بالماضي لأنه أمر سيكون لا بد منه، فأتى فيه بالماضي الذي قد كان في موضع ما سيكون.
وقيل: إنما جاء كذلك لأنهم استبعدوا ما وعدهم الله من عذاب، فأتى
3944
بالماضي في موضع المستقبل لقربه من الإتيان، ولصدق المخبر به.
وقد قال الضحاك: ﴿أَمْرُ الله﴾: فرائضه وحدوده وأحكامه.
وقيل: هو وعيد من الله لأهل الشرك على ما تقدم.
قال ابن جريج: لما نزلت ﴿أتى أَمْرُ الله﴾ الآية، قال رجل من المنافقين بعضهم لبعض: إن هذا يزعم أن أمر الله قد أتى فامسكوا عن بعض ما كنتم تعملون حتى ننظر ما هو كائن. فلما رأوا أنه لا ينزل شيئاً، قالوا: ما نراه ينزل شيئاً، فنزلت [الآية]: ﴿اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ﴾ [الأنبياء: ١] الآية. فقالوا: إن هذا يزعم مثلها أيضاً. فلما رأوا ألاّ ينزل شيئاً، قالوا: ما نراه ينزل شيئاً فنزلت ﴿[وَ] لَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ [لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ]﴾ [هود: ٨] الآية. وروي عن اضحاك ﴿أتى أَمْرُ الله﴾ يعني القرآن: أي أتى بفرائضه
3945
وحدوده وأحكامه، وهو القول الأول عنه.
وقيل: أمر الله نصر النبي عليه السلام. وقيل هو يوم القيامة.
وقال الزجاج: ﴿أَمْرُ الله﴾ ما وعدهم به من المجازاة على كفرهم بمنزلة قوله:
﴿حتى [إِذَا جَآءَ] أَمْرُنَا وَفَارَ التنور﴾ [هود: ٤٠] وقوله: ﴿أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً﴾ [يونس: ٢٤]. ومعناه: أنهم استبطأوا العذاب فأخبرهم الله بقربه.
ويدل على أنه وعيد وتهدد للمشركين قوله بعد: ﴿سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾.
وأمر الله قديم غير محدث وغير مخلوق، بدلالة قوله: ﴿أَلاَ لَهُ الخلق والأمر﴾ [الأعراف: ٥٤] فالأمر غير الخلق. وبدلالة قوله: ﴿لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ﴾ [الروم: ٤] أي: من قبل كل ئيء ومن بعد كل شيء، فهو/ غير محدث. وأمره صفة له هو كلامه غير مخلوق.
3946
وقيل معنى: ﴿أتى أَمْرُ الله﴾ أي أتت أشراط الساعة، وما يدل على قرب القايمة. وقيل: هو قيام الساعة. وقيل: هو جواب لقولهم بمكة: ﴿[فَأَمْطِرْ] عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء﴾ [الأنفال: ٣٢] الآية.
قال [تعالى]: ﴿سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾.
من قرأ: ﴿يُشْرِكُونَ﴾ بالتاء جعل الاستعجال للمشركين. ومن قرأ بالياء جعل الاستعجال لأصحاب محمد ﷺ.
قال تعالى: ﴿يُنَزِّلُ الملائكة بالروح مِنْ أَمْرِهِ﴾. أي: ينزل الملائكة بالوحي من أمره ﴿على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ أي: عليه السلام على المرسلين بأن ينذروا العباد بأن لا إله إلا أنا.
3947
وقيل: " من " بمعنى الباء. أي: بالروح [بأمره]، أي بالوحي بأمره. فالباء متعلقة بينزل.
وقال قتادة: المعنى ينزل الملائكة بالرحمة والوحي من أمره على من اختار من خلقه لرسالته لينذر الناس. لينذر [ب] أن لا إله إلا الله فاعبدوه.
وقال الربيع بن أنس: كل شيء تكلم به ربنا فهو روح منه، ومنه قوله: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا﴾.
وعن ابن عباس، أيضاً أنه قال: الروح خلق من خلق الله، وأمر من أمره صوره على صورة آدم لا ينزل من السماء ملك إلا ومعه واحد منهم. وقال الحسن: ﴿بالروح﴾: بالنبوة.
وقال الزجاج: الروح ما كان فيه من أمر الله حياة للقلوب، بالإرشاد، إلى
3948
أمر الله [ تعالى].
﴿ فاتقون﴾.
أي: فأطيعوا أمري، واجتنبوا معصيتي.
ووقع الإنذار في هذا الموضع في غير موضعه. وأصله أن يقع تنبيهاً وتحذيراً مما يخاف منه. وضده البشرى. وليس لا إله إلا الله مما يخاف منه ويحذر. ولكن في الكلام معنى النهي عما كانوا عليه من عبادة غير الله [سبحانه]، فحسن الاتيان به مع ما لا يخاف منه، ولا يحذر. ودل على ذلك قوله: ﴿فاتقون﴾ وقوله بعد ذلك: ﴿عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾.
قال تعالى: ﴿خَلَقَ السماوات والأرض بالحق﴾.
أي: من خلق هذا وابتدعه، فلا تصلح الألوهيم إلا له. ومعنى ﴿بالحق﴾: بالعدل، أي: للعدل. وقيل: ﴿بالحق﴾ بقوله: كن فكانتا ﴿بالحق﴾. فالحق كناية عن قوله: " كن ". والقول الأول أبين.
أي: خلق الإنسان من ماء مهين، وصوره ونقله من حال إلى حال، وأخرجه إلى ضياء الدنيا وغذاه ورزقه وقواه. حتى إذا استوى، كفر بخالقه وجحد نعمته وعبد ما لا يضره و [ما] لا ينفعه وخاصم الله [سبحانه] في قدرته [جلت عظمته]، فقال: ﴿مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ﴾ [يس: ٧٨] ونسي خلقه، وانتقاله من ماء إلى علقة إلى مضغة إلى عظم إلى تصوير إلى خروج إلى الدنيا، وضعف إلى قوة [وضعف] بعد قوة.
ومعنى ﴿مُّبِينٌ﴾ أي: مبين عن خصومته بمنطقه، ومجادل بلسانه. والإنسان هنا جميع الناس. وقيل: عني به أبي بن خلف، ثم هو عام ف [ي [من كان مثله.
قوله: ﴿والأنعام خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ﴾.
فالمعنى: وخلق الأنعام لكم فيها ما يدفئكم، أي ما يمنع عنكم ضر البرد، وضر الحر. لأن ما يستر من الحر يستر من البرد. وذلك ما ينتفع به من الأصواف والأوبار والأشعار. ثم جعل لكم فيها منافع، يعني من ألبانها، وركوبها، وأكل لحومها، والانتفاع بنسلها. وعن ابن عباس: الدفء نسل كل دابة.
فهذا كله حجة على الخلق احتج عليهم بنعمته عندهم ولطفه بهم. قال ابن عباس: ﴿لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ﴾ يعني الثياب.
قال تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ﴾.
أي: تتجملون بها إذا وردت بالعشي من مسارحها إلى مراحها التي تأوي إليها. ﴿وَحِينَ تَسْرَحُونَ﴾ أي: وتتجملون بها حين تسرح بالغدو ومن مراحها إلى مسارحها.
قال قتادة: أعجب ما تكون النعم إذا راحت عظاماً ضروعها، طوالاً أسمنتها. يعني: إذا رجعت من مرعاها.
قال تعالى: ﴿وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إلى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأنفس﴾.
أي: تحمل لكم هذه الأنعام أثقالكم إلى بلد بعيد لا تبلغو [نه] إلا بجهد شديد ومشقة عظيمة لو وكلتم [إلى] أنفسكم، قاله: مجاهد.
وقيل الأثقال يراد بها في هذا الموضع الأبدان بدلالة قوله: ﴿وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا﴾ [الزلزلة: ٢] أي: ما فيها من الموتى. ومنه سمي الجن والإنس
3952
الثقلان.
وروى المسيِّبي عن نافع " بشَقَ " بفتح الشين، وبه قرأ أبو جعفر. وهو مصدر. ومن كسر جعله اسماً. وقيل معنى الكسر: إلا بنقص من القوة، أي ذهاب شق منها، أي: ذهاب نصفها.
﴿إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾:
3953
أي: لذو رأفة بكم وذو رحمة، ومن رحمته خلقه الأنعام لكم لمنافعكم ومصالحكم، وخلقه السماوات والأرض، وغير ذلك مما يقوم به أمركم فليس يجب الشكر والحمد إلا له.
قال تعالى: ﴿والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا [وَ] زِينَةً﴾ أي: وخلق لكم أيضاً هذه، نعمة بعد نعمة وفضلاً بعد فضل.
وبهذه الآية يحتج من منع أكل لحوم الخيل لأنه تعالى ذكر ما يؤكل أولاً، وهي الأنعام، ثم ذكر ما يركب ولا يؤكل وهي الخيل وما بعدها.
وأجاز جماعة أكل لحوم الخيل ورووا فيها أحاديث وآثار. واحتجوا بأنه لا دليل من لفظ الآية على تحريمها وإن قوله: ﴿قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ﴾ [الأنعام: ١٤٥]
3954
الآية، يدل [على] تحليلها.
والذين [ر] ووا تحريمها، رووا في ذلك أحاديث عن النبي عليه السلام في النهي عن أكلها. فيكون تركها كلها عندهم بالسنة وبدليل هذه الآية.
وقوله ﴿وَزِينَةً﴾.
[أي: وللزينة. فهو] مفعول لأجله. وقيل: المعنى وجعلها زينة، فهو مفعول به.
وقرأ أبو عياض: " لتركبوها زينة " بغير واو.
3955
ثم قال تعالى: ﴿وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾.
أي يخلق مع خلقه لهذه الأشياء ﴿مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ وهو ما أعد الله لأهل الجنة في الجنة، ولأهل النار في النار، مما لا تراه عين ولا خطر على قلب بشر.
وعن ابن عباس أنه قال: خلق الله ألف أمة، منها ست مائة في البحر، وأربع مائة في البر، فليس شيء في البر إلا وفي البحر مثله، وفضل البحر بمائتين.
وعن وهب بن منبه أنه قال: إن لله ثمانية عشر ألف عالم، الدنيا منها عالم واحد. وما العمران في الخراب إلا كفسطاط في الجنان. وما الخلق كله في قبضة الله [ تعالى] إلا كخردلة في كف أحدكم.
وعن وهب أيضاً، يرفعه إلى النبي عليه السلام، أنه قال: " إن لله [ تعالى] ثمانية
3956
[عشر] [ألف] عالم، الدنيا منها عالم واحد، وإن لله في الدنيا ألف أمة سوى الانس والجن والشياطين، أربع مائة في البر، وست مائة في البحر ".
وقد قال بعض المفسرين: إن هذا [هو] تأويل ﴿الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين﴾ [الفاتحة: ٢] فجمع العالم لكثرة ذلك، وقد قال تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ﴾ [المدثر: ٣١].
وروي أنه: نهر عن يمين العرش من نور السماوات السبع والأرضين السبع والبحار السبع، يدخل فيه جبريل عليه السلام كل سحر فيغتسل فيزداد نوراً إلى نوره، وجمالاً إلى جماله، وعظماً إلى عظمه. ثم ينتفض فيخلق الله جلّ ذكره من كل نقطة تقع منه كذا وكذا ألف ملك. يدخل منهم كل يوم سبت المعمور سبعون ألفاً، وسبعون ألفاً في الكعبة ثم لا يعودون إليه أبداً إلى أن تقوم الساعة. تصديقه:
﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ﴾ [المدثر: ٣١].
3957
وقال السدي: هو خلق السوس في الثياب.
والأحسن في هذه الآية: كونها على العموم، أن الله يخلق الأشياء لا يعلمها ولا يعرفها [أحد] وأنه هو العالم بها وحده لا إله إلا هو.
قال تعالى: ﴿وعلى الله قَصْدُ السبيل﴾.
أي: وعلى الله تبيين الطريق المستقيم إليه بالحجج والبراهين. فالسبيل الطريق، والقصد الاستقامة.
وقيل معناه: رجوعكم ومصيركم [إلي] كما قال: ﴿هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ﴾ ﴿إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد﴾ [الفجر: ١٤].
والقول الأول: أحسن لدلالة قوله: ﴿وَمِنْهَا جَآئِرٌ﴾ أي: من السب [ي] ل ما
3958
هو جائر عن الحق.
والسبيل هنا جمع [في المعنى بدلالة قوله: ﴿وَمِنْهَا جَآئِرٌ﴾] فدخول " مِن " يدل على أن السبيل جمع. أي: من السب [ي] ل سبيل جائر. أي: غير قاصد للحق. يعني ما خالف دين الإسلام من الأديان.
قال ابن عباس: قصد السبيل: تبين الهدى من الضلالة.
وقال مجاهد: هو طريق الحق إلى الله. قال قتادة: ﴿وَمِنْهَا جَآئِرٌ﴾ أي: ومن السبيل، سبيل الشيطان. وقال الضحاك: يعني السبيل التي تفرقت عن سبيل الله [سبحانه]. وقال ابن زيد: جائر عن الحق.
والجائر في اللغة: العادل عن الحق.
3959
وفي قراءة عبد الله: ﴿وَمِنْهَا جَآئِرٌ﴾ ورواية عن علي أيضاً، ويقويها: ﴿وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ معناه: ولو شاء [الله] للطف بكم بتوفيقه فكنتم تهتدون إلى طريقه المستقيم. ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء، لا معقب لأمره ومشيئته.
وقال الزجاج: معناه. لو شاء لأنزل آية يضطر الخلق [بها] إلى الإيمان به.
قوله: / ﴿هُوَ الذي أَنْزَلَ مِنَ السماء مَآءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ﴾.
والمعنى: الذي أنعم عليكم بالنعم المتقدم ذكرها، هو الذل أنزل من السماء ماء تشربون منه وأنعامكم، وينبت لكم به الشجر ويسقي به النبات والزرع وجميع الثمار. والمعنى: لكم منه شراب وسقي شجر. وفي ذلك الشجر تسيمون أي: ترعون أنعامكم. ومن قيل للمواشي المطلقة: السائمة، أي: الراعية. وهو من
السومة. وهي العلامة. لأنها إذا رعت أثرت في الأرض.
وقيل السوم في البيع مأخوذ من السائمة لأن كل واحد من المتابعين يقول ما شاء عند السوم، كما أن الأنعام ترعى حيث شاءت.
فكل هذا تنبيه على نعمه علينا وفضله لدينا وحجة على من عبد غيره.
قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾.
أي: [إن] في هذه النعم التي وصفت لدلالة واضحة وعلامة بينة على قدرة الله [سبحانه]، وتوحيده [جلّ وعزّ] لقوم يعتبرون مواعظ الله [جلت عظمته] ويتذكرون حججه تعالى.
قال تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ اليل والنهار والشمس والقمر﴾ الآية.
أي: وأنعم عليكم أيضاً مع النعم المتقدمة، بهذه الأشياء. فسخرها لكم،
يتعاقب عليكم الليل والنهار والشمس والقمر لمصالحكم وقوام أموركم. إن في ذلك لدلالات واضحات لقوم يعقلون حجج الله [سبحانه] ويفهمون تنبيهه [تعالى] إياهم.
قال تعالى: ﴿وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأرض مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ﴾.
أي: وسخّر [لكم] ما خلق في الأرض مختلفاً ألوانه. قال قتادة: يعني: ما خلق من الدواب، والأشجار والثمار.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ﴾.
أي: يتذكرون قدرة الله ونعمه عليهم فلا يشكرون إلا إياه.
قوله: ﴿وَهُوَ الذي سَخَّرَ البحر لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً﴾.
المعنى: وهو الذي سخر لكم البحر المالح والعذب، مع ما تقدم من النعم
3962
المذكورة، سخره لكم لتأكلوا من صيده لحماً طرياً ولتستخرجوا منه حلية تلبسونها: اللؤلؤ والمرجان من المالح خاصة.
ثم قال: ﴿وَتَرَى الفلك مَوَاخِرَ فِيهِ﴾.
قال الحسن: يعني: مواخر مشحونة. وقال عكرمة: ما أخذ عن يمين السفينة ويسارها من الماء فهو المواخر. قال مجاهد: تمخر السفن الرياح. وعن الحسن، أيضاً: ﴿مَوَاخِرَ﴾ جواري. وقيل معنى ﴿مَوَاخِرَ﴾ معترضة تجري. وعن قتادة: مواخر تجر [ي] بريح واحدة مقبلة ومدبرة.
والمخر في اللغة: الشق. يقال: مخرت السفينة الماء، أي شقته ولها صوت أي عند هبوب الريح. ومخر الأرض أيضاً هو شق الماء إياها. وقيل: مواخر مُلَجِّجَة
3963
في داخل البحر.
ثم قال تعالى: ﴿وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ﴾.
أي: لتتصرفوا فيه لطلب معايشكم في التجارة. قال مجاهد: هي تجارة البر والبحر. ﴿[وَ] لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ أي: تشكرون ربكم [ تعالى] على هذه النعم التي أنعم عليكم بها.
قال تعالى: ﴿وألقى فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ﴾.
أي: ومن نعمه/ أيضاً أن ألقى في الأرض رواسي، لئلا تميد بكم الأرض، وقد كانت تميد قبل كون الجبال على ظهرها.
والراسي: الثابت. والرواسي: جمع راسية. يقال: رست، ترسو، إذا ثبتت. والمرسى اسم المكان.
[و] قال قيس بن عباد: إن الله جلّ ذكره لما خلق الأرض جعلت تمور،
3964
فقالت الملائكة: ما هذه بمقرة على ظهرها أحداً فأصبحت ضحى وفيها رواسيها.
وقال علي بن أبي طالب [عليه السلام]: لما خلق الله الأرض قَمَصت، وقالت: أي رب، أتجعل عليّ بني آدم يعملون عليَّ الخطايا ويجعلون [عليَّ] الخبث. فأرسى الله [ تعالى] فيها من الجبال ما ترون وما لا ترون.
ثم قال تعالى: ﴿وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً﴾.
أي: وجعل لكم أنهاراً وسبلاً. ولا يحسن حمله على " ألقى " لأنه لا يقال: ألقى الله الأنهار والسبل ولكن حمل على المعنى. لأن معنى ﴿وألقى فِي الأرض رَوَاسِيَ﴾ جعل فيها رواسي، فعطف ﴿وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً﴾ على هذا المعنى.
3965
والسبل: الطرق. ليسلكوا فيها في حوائجهم وأسفارهم. ولو عماها عليكم لهلكتم حيرة وضلالة.
[و] ﴿لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ أي: تهتدون إلى المواضع التي تريدون الوصول إليها فلا تضلون ولا تتحيرون.
قال ابن عباس: العلامات معالم الطرق بالنهار ﴿وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ﴾ يعني: بالليل. وقال مجاهد: هي النجوم منها ما يكون علامات ومنها ما يهتدون به.
وقال قتادة: خلق الله [ تعالى] هذه النجوم لثلاث خصال: جعلها زينة للسماء، وجعلها تهتدون بها، وجعلها رجوماً للشياطين، فمن تعاطى فيها غير ذلك، سفه رأية، وأخطأ حظه، وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به.
[و] قال الكلبي: [﴿وَعَلامَاتٍ﴾] يعني: الجبال.
والنجوم عند الفراء: الجدي والفرقدان. وغيره من العلماء يقول: النجم هنا بمعنى النجوم.
قال [تعالى] ذكره: ﴿أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ﴾.
أي: الله الخالق لهذِهِ الأشياء كلها الذي قد عددها وقدم ذكرها، الرازق لكم ولها، كالأوثان التي لا تخلق ولا ترزق.
3967
ومعنى الآية التقريع والتوبيخ للمشركين الذين عبدوا ما لا ينفع ولا يضر وهي الأوثان والأصنام.
﴿أَفَلا تَذَكَّرُونَ﴾.
أي: تذكرون ما يتلى عليكم من النعم والقدرة والسلطان و [أن] الله هو المنفرد بذلك، لا يقدر عليه غيره فيدعوكم ذلك إلى عبادة الله [ تعالى]، وترك عبادة الأوثان، وتعرفوا خطأ ما أنتم عليه من عبادتكم إياها، وإقراركم لها بالألوهية، كل هذا تنبيه وتوبيخ لهم لتقوم عليهم الحجة.
وقوله: ﴿كَمَن لاَّ يَخْلُقُ﴾.
يريد به الوثن، وهو لا يعقل فرقعت له " من ". وإنما ذلك لأن العرب إذا أخبرت عمن لا يعقل بفعل من يعقل أجرت لفظه كلفظ من يعقل. فلما أنزلوا الأوثان في العبادة لها منزلة من يعقل، أخبر عنها كما يخبر عمن يعقل. ومنها قوله ﴿وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي﴾ [النور: ٤٥] / فأتى بمن، لما أخبر عنها بالمشي كما أخبر عمن يعقل، وكذا تفعل
3968
العرب: إذا خلطت من يعقل بمن لا يعقل غلبت من يعقل. وحكي عن العرب: " اشتبه عليَّ الراكب وحمله، فما أدري مَنْ ذا مِنْ ذا ".
قال تعالى ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَآ﴾.
أي: إن تعدوا نعم الله لا تطيقوا إذاً شكرها. إن الله لغفور لما كان منكم من تقصير في أداء الشكر على نعمه عندكم، رحيم بكم أن يعذبكم بعد الإنابة إليه والتوبة.
والنعمة هنا بمعنى الجمع دَلَّ عليه قوله: ﴿تَعُدُّواْ﴾ والعدد لا يكون إلا في كثرة.
المعنى: أنه تعالى نبه الخلق على معرفته بسرهم وضمائرهم وعلى نيتهم وأنه مَحَّصَ ذلك كله، فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
قال: ﴿والذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله﴾.
يعني: أوثانهم التي يعبدونها ﴿لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً﴾ وهي مخلوقة، فكيف يعبد من لا يضر ولا ينفع ومن هو مخلوق مصنوع.
قال: ﴿أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ﴾.
يعني: أوثانهم، أي لا أرواح لها.
ثم قال: ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾.
أي: وما يشعر [هؤلاء الأوثان متى يبعث] المشركون. وقيل الضميران للمشركين، أي: وما يشعر المشركون متى يبعثون. وقوله: ﴿أَيَّانَ﴾ في موضع نصب. وهو مبني لأنه فيه معنى الاستفهام، ولذلك لم يعمل فيه ما قبله.
3970
ثم قال تعالى: ﴿إلهكم إله وَاحِدٌ﴾.
معناه: معبودكم الذي يستحق العبادة واحد، ﴿فالذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم﴾ أي: منكرة ما يقص عليهم من قدرة الله [ تعالى] وتوحيده [سبحانه] وهم مستكبرون عنه.
ثم قال تعالى: ﴿لاَ جَرَمَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾.
معناه: لا محالة ولا بد أن الله يعلم، وقيل معناه: حق أن الله يعلم سرهم وعلانيتهم، قال أبو إسحاق: و " لا " رد لفعلهم.
وقوله: ﴿إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المستكبرين﴾.
أي: المستكبرين عليه أن يوحدوه ويكفروا بما دونه من الأصنام والأوثان.
3971
وكان الحسن بن علي رضي الله عنهما يجلس إلى المساكين ثم يقول ﴿إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المستكبرين﴾. ورويَ عن النبي ﷺ [ أنه] قال " من سجد لله سجدة فقد برئ من الكفر ".
" ما " رفع بالابتداء و " ذا " بمعنى: الذي، خبر ل " ما " و " أساطير " رفع على إضمار مبتدأ، أي: هو أساطير الأولين. والمعنى: وإذا قيل لهؤلاء الذين لا يؤمنون من المشركين ماذا أنزل ربكم؟ قالوا: الذي أنزله هو ما سطره الأولون من قبلنا من الأباطيل. قال قتادة: أساطير الأولين أحاديث الأولين وأباطيلهم. قال: ذلك قوم من مشركي العرب كانوا يقعدون بطريق من يأتي نبي الله ﷺ فإذا مر أحد من
المؤمنين يريد النبي ﷺ قالوا لهم أساطير الأولين/ أي: أحاديثهم.
قال ابن عباس: نزلت في النضر بن الحارث، وكان من شياطين قريش، وكان ممن يؤذي رسول الله ﷺ. روي أنه خرج إلى الحيرة فاشترى أخبار العجم وأحاديث كليلة، وكان يقرؤها على قريش، ويقول: ما يقرأ محمد على أصحابه إلا أساطير الأولين.
قال [تعالى]: ﴿لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ الآية.
هذه اللام في " ليحملوا " يجوز أن تكون لام الأمر، ويكون معنى الكلام التهدد والوعيد، ويجوز أن تكون لام كي فتتعلق بما قبلها.
ومعناها: أنهم يحملون ذنوب أنفسهم وذنوب من أضلوا وصدوا عن الإيمان بغير علم من غير أن ينقص من ذنوب من أضلوا شيء. ومثله قوله:
3973
﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ﴾ [العنكبوت: ١٣].
وقد قال النبي عليه السلام: " أيما داع دعا ضلالة فاتبع، كان عليه مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيء، وأيما داع دعا إلى هدى غاتبع، فله مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيء ".
وقال زيد بن أسلم: بلغني، أنه يمثل للكافر عمله في صورة أقبح ما خلق الله [ تعالى] وجهاً وأنتنه ريحاً، فيجلس إلى جنبه، كلما أفزعه شيء زاده فزعاً، وكلما تخوف شيئاً زاده خوفاً. فيقول: بئس الصاحب أنت [ومن أنت]؟ فيقول: وما تعرفني؟ فيقول: لا. فيقول: أنا عملك كان قبيحاً فكذلك تراني قبيحاً، وكان منتناً فلذلك تراني منتناً. فتطأطأ لي حتى أركبك، فطال ما ركبتني في دار الدنيا، فيركبه. وهو قوله: ﴿لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة﴾.
3974
قوله: ﴿قَدْ مَكَرَ الذين مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى الله بُنْيَانَهُمْ مِّنَ القواعد﴾ إلى قوله ﴿فَلَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين﴾.
المعنى: قد مكر الذين كانوا قبل هؤلاء المشركين: يعني الذين أرادوا الارتقاء إلى السماء بالنسرين لحرب من فيها. وقد مضى ذكر ذلك في إبراهيم أنّه نمرود بن كنعان تجبر إذ ملك الأرض.
قال مجاهد: ملك الأرض، شرقها وغربها، أربعة: مؤمنان وكافران. فالمؤمنان: ذو القرنين وسليمان، والكافران نمرود بن كنعان وبختنصر، وقيل هو نخ تنِصْرٍ. ونذكرها هنا قول السدي في ذلك وما روى فيه، قال السدي: أمر الذي حاج إبراهيم في ربه بإبراهيم، فأخرج من مدينته، فلما خرج لقي لوطاً على باب المدينة فدعاه فآمن به، وقال: ﴿إِنِّي مُهَاجِرٌ إلى ربي﴾ [العنكبوت: ٢٦] وحلف نمرود ليطلبن إله إبراهيم. فذهب فأخذ أربعة أفراخ من النسور، فرباها باللحم والخمر، حتى إذا كبرن، وغلظن، واستعجلن، قرنهن بتابوت، وقعد في ذلك التابوت. ثم رفع رجلاً من
3975
لحم لهن، فطرن به حتى ذهبن في السماء. فأشرف ينظر إلى الأرض. فرأى الجبال تدب كدبيب النمل. ثم رفع لهن اللحم، ثم نظر فرأى الأرض محيطاً بها بحر كأنها فلكه في ماء. ثم رفع طويلاً فوقع في ظلمة / فلم ير ما فوقه ولم ير ما تحته. ففزع فألقى اللحم / فاتبعه منقضات. فلما نظرت الجبال إليهن وقد أقبلن منقضات وتسمعن حفيفهن، فزعت الجبال وكادت أن تزول من أمكنتها، ولم تزل. وذلك قوله ﴿وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال﴾ [إبراهيم: ٤٦]. وكان إذا طرن به من بيت المقدس ووقوعهن به على جبل الدخان، فلما رأى أنه لا يطيق شيئاً أخذ في بنيان الصرح. فبنى حتى أسند به إلى السماء، وارتقى فوقه ينظر بزعمه إلى إله إبراهيم فأحدث ولم يكن وقت حدثه. وأخذ الله بنيانه من القواعد
3976
﴿فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ﴾ أي: من مأمنهم. فلما سقط تبلبلت ألسن الناس يومئذٍ من الفزع فتكلموا بثلاثة وسبعين لساناً فلذلك سميت بابل وإنما كان لسان الناس قبل بالسريانية.
قال ابن عباس في: ﴿فَأَتَى الله بُنْيَانَهُمْ مِّنَ القواعد﴾ وهو نمرود حين بنى الصرح. قال زيد بن أسلم: أول جبار كان في الأرض نمرود فبعث الله بعوضة فدخلت منخره فمكث أربع مائة سنة [يضرب رأسه بالمطارق وأرحم الناس به من جمع يديه فضرب بهما رأسه بالمطارق، وكان جباراً أربع ماشة سنة] فعذبه الله [ تعالى] في الدنيا أربع مائة سنة كملكه. ثم أماته الله [ تعالى] وهو الذي بنى صرحاً. وهو
3977
الذي أتى الله بنيانه من القواعد.
وقيل: معنى ﴿فَأَتَى الله بُنْيَانَهُمْ مِّنَ القواعد﴾ استأصلهم بالهلاك.
وقيل: هو مثل لأعمالهم التي أحبطها الله. كأن [أعمالهم] التي عملوها حبطت بمنزلة [بناء] سقط من قواعده.
ومعنى: ﴿فَأَتَى الله بُنْيَانَهُمْ مِّنَ القواعد﴾ أي: أتى أمر الله بنيانهم.
ومعنى ﴿فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ﴾: خرت عليهم [أعالي البيوت] فهلكوا. وقال ابن عباس: معناه أتاهم العذاب من السماء. ومعنى ﴿مِن فَوْقِهِمْ﴾: توكيد أنهم تحته، لأنه قد يقال: سقط على منزل كذا، إذا كان يملكه. فقال ﴿مِن فَوْقِهِمْ﴾ ليزول
3978
هذا المعنى منه.
وروي أن نمرود بن كنعان بنى بناء ليصل به السماء فبعث الله ريحاً فهدمته، ويقال: إن من يومئذٍ لم تدع الريح بناء على وجه الأرض يكون ارتفاعه أكثر من ثمانين ذراعاً إلا هدمته.
ثم قال [تعالى]: ﴿ثُمَّ يَوْمَ القيامة يُخْزِيهِمْ﴾.
أي: ثم يذلهم يوم القيامة مع ما فعل بهم في الدنيا.
ويقول لهم: ﴿أَيْنَ شُرَكَآئِيَ﴾ الذين زعمتم في الدنيا أنهم شركائي فما لهم لا ينقذونكم من العذاب. وقال ابن عباس ﴿كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ﴾: تخالفون فيهم. وقيل معناه: تحاربون. وأصله من شاققت فلاناً، إذا فعل كل واحد منهما بصاحبه ما يشق عليه.
3979
ثم قال تعالى: ﴿قَالَ الذين أُوتُواْ العلم إِنَّ الخزي اليوم﴾ أي: الذل والهوان ﴿عَلَى الكافرين * الذين تَتَوَفَّاهُمُ الملائكة ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾ [أي]: وهم على كفرهم. وقيل: عنى بذلك من قتل ببدر من قريش. وقد أخرج إليها كرهاً، قاله: عكرمة.
ثم قال / ﴿مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سواء﴾ أي: قالوا ما كنا نعمل من سوء. وأخبر الله [ تعالى] عنهم: أنهم كذبوا، وقالوا: ما كنا نعصي الله في الدنيا، فكذبهم الله، وقال: ﴿بلى إِنَّ الله عَلِيمٌ﴾ أي: بلى عملتم السوء، إن الله عليم بعملكم.
ومعنى: ﴿فَأَلْقَوُاْ السلم﴾ أي: الاستسلام لأمر الله [ تعالى] لما عاينوا الموت. وقيل معناه: ألقوا الصلح لأنه قد تقدم ذكر المشاقة، وبإزاء المشاقة - وهي العداوة - الصلح.
ثم قال [تعالى] ﴿فادخلوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا﴾ أي: طبقاتها ماكثين فيها.
3980
﴿فَلَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين﴾ أي: بئس منزل من تكبر على الله سبحانه، ولم يقر بالوحدانية. وروي عن النبي عليه السلام أنه قال: " الكبر أن يسفه الحق ويغمط الخلق ".
قوله: ﴿وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتقوا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً﴾ إلى قوله ﴿يَسْتَهْزِئُونَ﴾.
قوله: ﴿مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ﴾ ما: في موضع نصب. قالوا: وهي مع " ذا " اسم واحد في موضع نصب. ﴿قَالُواْ خَيْراً﴾ أي: قالوا أنزل خيراً. والمعنى: وقيل لأهل الإيمان والتقوى: ماذا أنزل ربكم؟ قالوا خيراً. ثم بينوا الخير ما هو فقالوا:
﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ﴾ ويجوز حسنة في غير القرآن بالنصب على معنى أنزل للذين أحسنوا حسنة.
ثم قال: ﴿وَلَدَارُ الآخرة خَيْرٌ﴾.
3981
أي: خير من الأولى ﴿وَلَنِعْمَ دَارُ المتقين﴾ دار الآخرة. ثم بين دار المتقين ما هي، فقال: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ﴾ أي: بساتين إقامة. فجنات: مرفوعة على الابتداء ﴿يَدْخُلُونَهَا﴾ الخبر. ويجوز رفعها على إضمار مبتدأ. أي: هي جنات عدن، و ﴿يَدْخُلُونَهَا﴾ حال.
ثم قال: ﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ أي: من تحت أشجارها. ﴿لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤونَ﴾.
أي ما تشتهيه أنفسهم. ﴿كَذَلِكَ يَجْزِي الله المتقين﴾. أي: كما جزى الله هؤلاء الذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة، كذلك يجزي الله من اتقاه فآمن به وأدى فرائضه واجتنب معاصيه. ثم بيّن المتقين فقال ﴿الذين تَتَوَفَّاهُمُ الملائكة طَيِّبِينَ﴾. أي: تقبض الملائكة أرواحهن طيبين، لتطييب الله إياها. ﴿يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادخلوا﴾ أي: تقول لهم الملائكة: سلام عليكم صيروا إلى الجنة وهذه بشارة من الله للمؤمنين.
3982
وروى أنس بن مالك وتميم الداري عن النبي ﷺ أنه قال: " يقول الله لملك الموت: انطلق إلى عبدي إذا جاز أجله فاتني به. فلأريحنه من الدنيا، فإني قد ضربته بالبأساء والضراء فيها فوجدته حيث أُحِبْ. فينطلق ملك الموت، ومعه خمس مائة من الملائكة، يحملون معه كفناً، وخيوطاً من الجنة، وضبائر الريحان، أصل الريحانة واحد وفي رأسها عشرون لوناً، لكل لون من ذلك ريح طيبة سوى ريح أصحابها، والحرير الأبيض، فيه المسك الأذفر. فيجلس ملك الموت عند رأسه ويحتويه الملائكة. فيضع كل ملك منهم يده على عضو من أعضائه ويبسطون/ ذلك الحرير الأبيض والمسك الأذفر تحت ذقنه. فإن نفسه لتعلل عند ذلك بطرف الجنة مرة، وبأزواجها مرة وبسكوتها مرة، وبثمارها [مرة] كما يعلل الصبي أهله إذا بكى. وإن روحه ليهش عند ذلك هشاً. قال: يقول: ينزو نزواً ليخرج يقول ملك الموت لنفسه: أخرجي أيتها النفس الطيبة إلى سدر مخضود، وطلح منضود، وظل ممدود وماء
3983
مسكوب. فلملك الموت أشد به ألطافاً من الوالدة بولدها. يعرف أن ذلك الروح حبيب لربه [ تعالى] فهو يلتمس بلطف حبيب ربه [ تعالى] رضاء الرب [سبحانه]. فيسل روحه كما تسل الشعرة من العجين. قال الله [ تعالى] :﴿ الذين تَتَوَفَّاهُمُ الملائكة طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادخلوا الجنة بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ ".
قال محمد بن كعب القرظي: إذا استنقعت نفس المؤمن، يعني في صدره، جاء ملك الموت، فقال: السلام عليك ولي الله، الله يقرأ عليك السلام، ثم نزع بهذه الآية. وهو معنى قوله: ﴿سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ﴾ [يس: ٥٨]. قال البراء [بن عازب]: يسلم عليهم ملك الموت.
وعن ابن عباس في قوله: ﴿فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين﴾ [الواقعة: ٩١] قال: الملائكة
3984
يأتونه بالسلام من قبل الله [ تعالى] وتخبره أنه من أصحاب اليمين.
وقوله ﴿بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أي: بعملكم في الدنيا وطاعتكم لله [ تعالى].
ثم قال [تعالى]: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الملائكة أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ﴾.
أي: هل ينظر هؤلاء المشركون إلا أن تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم وبما وعدوا به من العذاب. أو يأتي أمر ربك لحشرهم [لموقف] يوم القيامة. وقيل: أو يأتي أمر ربك بالعذاب والقتل في الدنيا.
﴿كَذَلِكَ فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِمْ﴾ أي: كما فعل هؤلاء من انتظارهم الملائكة لقبض أرواحهم وإتيان أمر الله [ تعالى] إليهم بالعذاب كما فعل أسلافهم من الكفار بالله فجاءهم ما كانوا ينتظرون ﴿وَمَا ظَلَمَهُمُ الله﴾ في إحلال العذاب بهم
3985
﴿ولكن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ بمعصيتهم لأمر الله وكفرهم به.
قال مجاهد: أن تأتيهم الملائكة من عند الموت ويأتي أمر ربك يوم القيامة.
ثم قال تعالى: ﴿فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ﴾.
أي: أصاب هؤلاء الذين تقدم ذكرهم من الأمم الماضية عقاب ذنوبهم ونقم معاصيهم ﴿وَحَاقَ بِهِم﴾ أي: وحل بهم العذاب الذين كانوا به يستهزؤون ويسخرون إذا أنذرتهم الرسل.
[و] قوله: ﴿وَقَالَ الذين أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ الله مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ﴾.
معناه: وقال الذين عبدوا مع الله [سبحانه] غيره من الأوثان والأصنام من قريش وغيرهم، قد رضي الله عنافي عبادتنا ما عبدنا. لأنه لو شاء، ما عبدناها، ولو شاء ما حرمنا البحائر والسوائب، وما بقينا على ما نحن عليه، إلا لأن الله [ تعالى] قد رضي ذلك. ولو لم يرض عنا لغير ذلك ببعض عقوباته ولهدانا إلى غيره / من الأفعال.
قال الله [ تعالى] ﴿ كذلك فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِمْ﴾ من الأمم المشركة
3986
فاستن هؤلاء بسنتهم وسلكوا سبيلهم في تكذيب الرسل.
﴿فَهَلْ عَلَى الرسل إِلاَّ البلاغ المبين﴾.
أي: البلاغ الظاهر المعنى المفهوم عند الرسل إليه. وهذا القول الذي قالوه إنما قالوه على طريق الهزء والاستخفاف. كما قال قوم شعيب عليه السلام له: ﴿إِنَّكَ لأَنتَ الحليم الرشيد﴾ [هود: ٨٧] على طريق الهزء. ولو قالوه على طريق الجد لكانوا مؤمنين. وكذلك، لو قال قائل مذنب على طريق الجد: لو شاء الله ما أذنبت، ولو شاء الله ما قتلت النفس، لم يكن بذلك كافراً ولا منقوصاً، وكان كلامه حسناً.
3987
وإنما قبح [كلام] أولئك وكان كفراً لأنهم قالوه على طريق الهزء لا على طريق الجد. وقد اتفقت الأمة أن الله لو شاء ألا يعبد غيره لم يكن إلا ذلك. ولكنه تبارك وتعالى وفق من أحب إلى ما يرضيه بتوفيقه، وأضل من أحب ضلاله بخذلانه له.
ثم قال [تعالى] ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعبدوا الله﴾.
أي: بعثنا إلى كل أمة تقدمت وسلفت [رسولاً] بأن يعبدوا الله ويخلصوا له العبادة، ويبعدوا من طاعة الطاغوت، وهو الشيطان، ويحذروه أن يغويهم ويصدهم عن سبيل الله [ تعالى] فمنهم من هدى الله، ففعل ما أمر به، وذلك
بتوفيق الله [ تعالى] له. ومنهم من حقت عليه الضلالة فضل ولم يؤمن وذلك خذلان الله [سبحانه] له.
﴿فَسِيرُواْ فِي الأرض﴾.
فسيروا يا مشركي قريش في الأرض التي [كان] يسكنها الأمم قبلكم، إن كنتم غير مصدقين لما يتلى عليكم من هلاك الأمم الماضية بتكذيبهم الرسل. فانظروا آثارهم وديارهم واتعظوا وارجعوا إلى الإيمان بما جاءكم به رسولكم واحذروا أن ينزل بكم ما نزل بهم.
ثم قال [تعالى]: ﴿إِن تَحْرِصْ على هُدَاهُمْ﴾.
أي: إن تحرص يا محمد على هدى هؤلاء المشركين من قومك، فإن من أضله الله منهم فلا هادي له ﴿وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ﴾ أي: ليس لهم ناصر ينصرهم من الله [ تعالى]
3989
إذا أراد عقوبتهم. وفي قراءة أُبَيّ " فإن الله لا هادي لمن أضل " وقرأ ابن مسعود: " فإن الله لا يهدي من يُضل " بضم الياء من (يضل) فكسر الدال والضاد. وقرأ الكوفيون: " لا يهد [ي] " بفتح الياء. وقرأ الحرميان والشامي والبصري " لا يُهْدَى " بضم الياء وفتح الدال.
ومعنى قراءة نافع ومن تابعه: من أضله فلا هادي له. ومعنى قراءة الكوفيين: فإن الله لا يهدي من أضله، أي: من أضله الله لا يهديه، أي: من سبق في
3990
علمه له الضلالة فإنه لا يهديه الله. وفيها معنى آخر وهو: فإن الله [لا] يهتدي من أضله: أي: من أضله الله لا يهتدي.
حكى الفراء أنه يقال: هدَّى يهدِّي بمعنى اهتدى يهتدي.
قوله ﴿وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾.
معناه: وحلف هؤلاء / المشركون من قريش بالله جهد حلفهم لا يبعث [الله] من يموت بعد موته، وكذبوا في أيمانهم ﴿بلى﴾ سيبعث الله من يموت بعد مماته. ﴿وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً﴾ أي: وعد عباده ذلك، والله لا يخلف الميعاد ﴿ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أي: أكثر قريش لا يعلمون أن الله يبعث الموتى بعد موتهم.
وتأول قوم من أهل البدع أن علياً رضي الله عنهـ يبعث قبل يوم القيامة بهذه الآية، فسئل عن ذلك ابن عباس، فقال: كذب أولئك، إنما هذه الآية للناس عامة، ولعمري لو كان
3991
علي مبعوثاً قبل يوم القيامة ما أنكحنا نساءه، ولا قسمنا ميراثه.
قال أبو العالية: كان لرجل من المسلمين على رجل من المشركين دين فأتاه يتقاضاه وكان مما تكلم به المسلم أن قال: والذي أرجوه بعد الموت أنه لكذا. فقال المشرك: تزعم أنك تبعث بعد الموت؟ فأقسم بالله جهد [يمينه لا يبعث الله من يموت. فأنزل الله تعالى ﴿ وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾ الآية. وقال أبو هريرة: قال الله تعالى: " يسبني ابن آدم ولم يكن ينبغي له أن يسبني. وكذبني، ولم يكن ينبغي له أن يكذبني. فأما تكذيبه إياي: فقسمه بالله جهد يمينه لا يبعث الله من يموت. فقلت ﴿بلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً﴾. وأما سبه إياي: فقال ﴿إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ﴾ [المائدة: ٧٣] وقلت:
﴿قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: ١] [إلى آخر] السورة ".
3992
قال تعالى: ﴿لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الذي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ﴾.
هذه اللام: متعلقة بالبعث المضمر بعد " بلى ". والمعنى: بلى يبعثهم الله ليبين لهم اختلافهم. وقيل: هي متعلقة بـ " بعثنا " من قوله ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً﴾ ليبين لهم اختلافهم وأنهم كانوا من قبل الرسول على ضلالة، وليعلم الذين جحدوا بعث الأموات من قريش أنهم كانوا كاذبين في قولهم ﴿لاَ يَبْعَثُ [الله] مَن يَمُوتُ﴾.
وقال قتادة ﴿لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الذي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ﴾ يعني: الناس عامة. والذي يختلفون فيه هو البعث: منهم من يقربه ومنهم من ينكره.
معناه: إنما قولنا لشيء مراد، قلنا له كن فيكون. وهذا إنما هو مخاطبة للعباد بما يعقلون، وإلا فما أراده تعالى فهو كائن على كل حال، على ما راده من الإسراع. لو أراد، تعالى ذكره خلق الدنيا والسماوات والأرض وما بين ذلك في قدر لمح البصر، لقدر على ذلك. ولكن خوطب العباد بما يعقلون فأعلمهم بسهولة خلق الأشياء عليه وأنه متى أراد الشيء كان. وإذا قال [له] كن [ف] كان، أي: فيكون على حسب الإرادة
3993
وليس هذا الشيء المذكور موجوداً قبل أن يقول له كن. وإنما المعنى: إذا أردنا الشيء قلنا من أجله كن أيها الشيء فيكون على قدر / الإرادة لأن المشركين أنكروا البعث فأخبرهم الله بقدرته على حدوث الأشياء. وهذا يدل على أن المعدوم يسمى شيئاً، لأنه قد سماه شيئاً قبل حدوثه. ومثله ﴿لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً﴾ [الإنسان: ١] فأما قوله: ﴿وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً﴾ [مريم: ٩] فمعنا [هـ] لم تك شيئاً مذكوراً ولا موجوداً.
ومن إنكارهم البعث قوله: ﴿وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى الحنث العظيم﴾ [الواقعة: ٤٦] أي: كانوا يحلفون أنهم لا يبعثون. وتحقيق الآية أنه أعلمهم أنه أراد أن يبعث من مات فلا تعب عليه في ذلك لأنه إنما يقول له كن: فيكون ما يريد بلا معاناة ولا كلفة.
ومن رفع " فيكون " فعلى القطع، أي: فهو يكون. نصبه عطفه على " أن
3994
نقول " أي: أن يقول فيكون. ولا يجوز النصب على [ال] جواب ل " كن " لأنه خبر وليس بأمر.
قوله: ﴿والذين هَاجَرُواْ فِي الله﴾.
المعنى: والذين فارقوا دورهم وأوطانهم عداوة للمشركين في الله [ تعالى] من بعد ما ظلمهم المشركون وأوذوا في ذات الله [سبحانه].
﴿لَنُبَوِّئَنَّهُمْ﴾.
أي: لنسكنهم في الدنيا مسكناً صالحاً يرضونه. وهم أصحاب النبي ﷺ.
3995
ظلمهم أهل مكة وأخرجوهم من ديارهم، حتى لحق طوائف منهم بالحبشة ثم بوأهم الله [ تعالى] المدينة بعد ذلك، فجعلها لهم دار هجرة وجعل لهم أنصاراً من المؤمنين، قال ذلك قتادة وابن عباس.
وقال الضحاك: ﴿لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدنيا حَسَنَةً﴾ هو النصر والفتح.
﴿وَلأَجْرُ الآخرة أَكْبَرُ﴾ الجنة.
فالآية: فيمن هاجر من المسلمين من مكة إلى أرض الحبشة. ليست الهجرة في هذا الموضع: الهجرة إلى المدينة، لأن هذا أنزل بمكة إلى أرض الحبشة.
قال الشعبي: ﴿لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدنيا [حَسَنَةً]﴾ المدينة، وقال ابن
3996
[أبي] نجيح: ﴿لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدنيا حَسَنَةً﴾ أي: لنرزقهم في الدنيا رزقاً حسناً.
وكان عمر رضي الله عنهـ إذا أعطى لرجل من المهاجرين عطاء يقول: بارك الله لك فيه، هذا ما وعدك الله [ تعالى] في الدنيا، وما أخّر لك في الآخرة أفضل ثم يتلوه هذه الآية: ﴿والذين هَاجَرُواْ فِي الله﴾.
وقال الضحاك: الحسنة: النصر والفتح. وقال مجاهد: الحسنة: هنا لسان صدق.
ومعنى بوأت فلاناً منزلاً: أحللته فيه. ومنه قوله: ﴿وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بني إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ﴾ [يونس: ٩٣].
3997
وقيل: إن هذه الآية نزلت في أبي جندل بن سهل.
ثم قال تعالى: ﴿وَلأَجْرُ الآخرة أَكْبَرُ﴾.
أي: ولثواب الآخرة على الهجرة، أكبر من ثواب الدنيا.
وقيل: الحسنة هنا، كونهم مؤمنين وسماعهم ثناء الله [ تعالى] عليهم.
وقيل: إن هذه الآية نزلت في قوم من المؤمنين عذبهم المشركون على إيمانهم وأخذوا أموالهم، منهم: صهيب وبلال. وذلك أن صهيباً قال للمشركين: أنا رجل / كبير 'ن كنت معكم ام أنفعكم، وإن كنت عليكم لم أضرَّ بكم. فخذوا مالي ودعوني. فأعطاهم ماله وهاجر إلى النبي عليه السلام. فقال له أبو بكر: ربح البيع يا صهيب. وقال عمر [Bهـ]: نعم الرجل صهيب لو لم يخف الله لم يعصه. أي: لو أمن عذاب الله [سبحانه] لما ترك الطاعة ولا جنح إلى المعصية.
3998
ثم بيَّن الله هؤلاء القوم فقال: ﴿الذين صَبَرُواْ﴾ في الله على ما نالهم في الدنيا من الكفار. ﴿وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ أي: به يثقون في أمورهم.
قال تعالى: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ﴾.
وما أرسلنا من قبلك يا محمد إلى أمة من الأمم بالدعاء إلى توحيد الله وقبول أمر الله [سبحانه] إلا رجالاً من بني آدم وليسوا بملائكة، ولم يرسل إلى قومك إلا مثل من أرسل إلى من كان قبلكم من الأمم.
ثم قال تعالى: ﴿فاسألوا أَهْلَ الذكر﴾.
أي: فاسألوا يا قريش أهل الذكر: يعني الذين قرؤوا التوراة والإنجيل. قال
3999
الأعمش: هم من آمن من أهل التوراة والإنجيل. أي فاسألوهم فيخبرونكم أن الرسل التي تقدمت إلى الأمم أنهم كانوا رجالاً من بني آدم. وقال ابن عباس: فاسألوهم هل ذكر محمد [ ﷺ] في التوراة والإنجيل. يعني: سألوا من آمن من قبلهم عن ذلك.
وقال ابن زيد: أهل الذكر أهل القرآن. يعني: من آمن بمحمد [ ﷺ] وبما جاء به. وقال أبو إسحاق: معناه: فاسألوا كل من يذكر بعلم، وافق هذه الملة أو خالفها.
قال ابن عباس: لما بعث الله محمداً عليه السلام رسولاً، أنكرت العرب ذلك. وقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشراً. فأنزل الله [ تعالى] ﴿ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ﴾ [يونس: ٢] الآية، وأنزل: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً﴾.
4000
ثم قال [تعالى] ﴿بالبينات والزبر﴾.
أي: بالدلالة الواضحة، والزبر الكتب. جمع زبور. مأخوذ من زبرت الكتاب إذا كتبته.
الباء من ﴿بالبينات﴾ متعلقة بفعل مضمر. التقدير: أرسلناهم بالبينات ودل " أرسلنا " الأول على هذا المحذوف.
وقال قوم: الباء متعلقة بأرسلنا المذكور. وأجازوا تقدم الإيجاب على أن تكون " إلا " بمعنى: " غير ". فأجازوا: ما ضرب إلا أخوك عمراً، وما كلم إلا أبوك بكراً، على معنى: " غير "، وعلى ذلك أنشدوا:
4001
أنشدوه بخفض يد بعد " إلا " على مهنى " غير يد ". ولا يحسن أن تكون " إلا " هنا بغير معنى: " غير " لأنه يفسد الكلام، إذ الذي خفض اليد قبل " إلا " لا يمكن إعادته بعد " إلا "، ومنه قول الله [ تعالى] :﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله [لَفَسَدَتَا]﴾ [الأنبياء: ٢٢] أي: غير الله.
ومن لا يجيز هذا، ينشد البيت بالنصب " إلا يدا " على البدل من موضع بيد. ويجوز عندهم: ما ضرب إلا أخوك عمراً على كلامين كأنه قال ضرب عمر [و].
ثم قال تعالى ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر﴾ [أي القرآن] ﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ﴾ أي
4002
لتعرفهم: ﴿مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾، من ذلك يعني. من الفرائض / والأحكام والحدود ﴿[وَ] لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ أي: يطيعون، قاله مجاهد. وقيل معنى ذلك: لعلهم يعتبرون [م] اأنزلناه.
قوله: ﴿أَفَأَمِنَ الذين مَكَرُواْ السيئات﴾.
والمعنى أفأمن الذين ظلموا المؤمنين من أصحاب النبي عليه السلام، وقالوا في القرآن: هو أساطير الأولين ﴿أَن يَخْسِفَ الله بِهِمُ الأرض﴾ كما فعل بقوم لوط، أو يأتيهم العذاب من حيث يأمنوا كما أتى نمرود بن كنعان وقومه.
﴿أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ﴾.
أي أو يهلكهم في تصرفهم في البلاد في أسفارهم، قاله: ابن عباس وقتادة. وقال ابن جريج: ﴿فِي تَقَلُّبِهِمْ﴾ بالليل والنهار.
﴿أَوْ يَأْخُذَهُمْ على تَخَوُّفٍ﴾.
4003
أي: أو يهلكهم الله بتخوف. وذلك نقص من أطرافهم ونواحيهم الشيء بعد الشيء حتى يهلك جميعهم. وقال الزجاج معناه: أو يأخذهم بعد أن يخوفهم بأن يهلك قرية فتخاف التي تليها. وقال الضحاك: معناه أو أخذ طائفة وادع طائفة فتخاف الباقية أن ينزل بها ما نزل بصاحبتها. وقال ابن عباس ومجاهد ﴿على تَخَوُّفٍ﴾ على تنقص. أي ينقص من أموالهم وزروعهم حتى يهلكهم.
وروى مالك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنهـ قرأ هذه الآية فقال: ما التخوف؟ فأقام بذلك أياماً، فأتاه غلام من أعراب قيس فقال: يا أمير المؤمنين أراني يتخوفني مالي: فقال له عمر: كيف يتخوفك مالك؟ فقال ينتقصني مالي. فقال عمر ﴿أَوْ يَأْخُذَهُمْ على تَخَوُّفٍ﴾ على تنقص. وقيل معنى: ﴿على تَخَوُّفٍ﴾ أي: يأخذهم بالهلاك
4004
فيخوف بهم غيرهم ليتعظوا، وهوقوله الضحاك. وقال الليث: ﴿على تَخَوُّفٍ﴾ على عجل.
ويروى عن عمر [Bهـ] أنه [قال] ما كنت أدري ما معنى ﴿على تَخَوُّفٍ﴾ حتى سمعت قول الشاعر:
ابني لُبَيْنَى لَسْتُم بيد إلا يد ليست لها عضد
4005
يصف ناقته أن السير نقص سنامها بعد تمكنه.
ثم قال تعالى: ﴿فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾.
أي: رؤوف أن آخر هؤلاء الذين مكروا السيئات فلم يعجل لهم بالعقوبة، رحيم بعباده، إذ لم يعجل عقوبتهم، وجعل لهم فسحة في التوبة.
قال ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ إلى مَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ﴾ الآية: أي: أولم ير هؤلاء الذين مكروا السيئات إلى ما خلق الله من جسم قائم شجراً أو جبالاً أو غير ذلك ﴿يَتَفَيَّؤُاْ ظِلاَلُهُ﴾ أي: يرجع من موضع إلى موضع [و] يكون في أول النهار على حال، ثم يعود إلى حال آخر في آخر النهار. قال قتادة: أما اليمين فأول النهار، والشمال: آخر النهار.
وقال ابن جريج: اليمين والشمال الغدو والآصال، فإذا فاءت الظلال سجدت لله بالغدو والآصال. قال الضحاك: سجد ظل المؤمن طوعاً. وقال
4006
الضحاك إذا فاء الفيء توجه كل شيء ساجداً قبل القبلة من نبت أو شجر، قال مجاهد إذا زالت الشمس سجد كل شيء لله [ تعالى].
وعن مجاهد: أن السجود في / هذا الموضع سجود الظلال دون التي لها الظلال.
وعن ابن عباس أنه قال: الكافر يسجد لغير الله [سبحانه] وظله يسجد لله [ تعالى]. أي ينقاد دليلاً على دبره الله [ تعالى] عليه.
فتحقيق المعنى في هذه الآية: أن ظلال الأشياء هي التي تسجد، وسجودها: ميلانها ودورانها من جانب إلى جانب. يقال سجدت النخلة إذا مالت. وسجد البعير، وأسجد، إذا طؤطئ ليركب. ومن هذا قيل لمن وضع جبهته في الأرض ساجد، لأنه تطامن. وقد يستعار السجود في موضع الاستسلام والطاعة والذل، كما
4007
يستعار التطامن والتطأطأ فيوضعان موضع الخضوع والانقياد فيقال: تطامن للحق وتطأطأ أي: انقاد وخضع.
فأما قوله: ﴿عَنِ اليمين﴾ فوحّد ﴿والشمآئل﴾ فجمع: فإن " اليمين " وإن كان موحداً، فإنه في موضع جمع ومعناه. وقيل: إنه رد " اليمين " على لفظ " ما " ورد " الشمائل " على المعنى، كما قال: ﴿وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ﴾ [يونس: ٤٢] فرد على المعنى، ثم قال
﴿وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ﴾ [يونس: ٤٣] فرده على اللفظ. وهذا كثير.
وقال الزجاج: معنى " ظله " ها هنا جسمه الذي يكون له الظل. فالمعنى: أن جسمه ولحمه وعظامه منقادات لله [ تعالى] دالة عليه، عليها الخضوع والذل.
قال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض مِن دَآبَّةٍ والملائكة﴾.
المعنى: ولله يسجد ما في السماوات من الملائكة وما في الأرض من دابة ومن الملائكة. إلا أنه حمل " والملائكة " من الاعراب على " ما " لأنها ساجدة. ومعناها تخضع وتذل وتستسلم لأمر الله ﴿وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ﴾ أي لا يستكبرون عن التذلل [لله تعالى].
ودخلت " من " لأن معنى " دابة " الجمع، أي: من الدواب. وقيل دخلت لما في " ما " من الإبهام فأشبهت الشرط. والشرط تدخل " من " فيه تقول: من ضربك من رجل فاضربه.
قال تعالى: ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ﴾.
أي يخاف هؤلاء الملائكة التي في السموات والأرض والدواب ربهم أن يعذبهم إن عصوا أمره. ﴿وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ أي: يطيعونه فيما أمرهم به. قال أبو إسحاق: معناه يخافون ربهم خوف مطيعين مجلين له، لا يجاوزون أمره.
قوله: ﴿وَقَالَ الله لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين﴾ إلى قوله (فسوف تعلمون) [٥١ - ٥٥].
المعنى: قال الله لا تتخذوا لي شريكاً فلا تعبدوا معبودين ﴿إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ﴾ أي: معبود واحد، وأنا ذلك المعبود. ﴿فَإيَّايَ فارهبون﴾. أي فاتقون وخافون. أمرهم الله [ تعالى] بذلك لأنهم قالوا في الأصنام: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى﴾ [الزمر: ٣] فأعلمهم أنه: لا يجوز أن يعبد غيره.
وقوله: " اثنين " تأكيد. كما قال: ﴿إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ﴾ فأكده بواحد.
وقيل / التقدير: اثنين إلهَين. فلما لم يتعرف معنى اثنين لعمومها في كل شيء بين بإلهين، وإذا تقدم إلهين لم يحتج إلى اثنين، لخصوص اللفظ بالألوهية.
قال تعالى: ﴿وَلَهُ مَا فِي السماوات والأرض﴾.
4010
أي: له ملك ما فيهما لا شريك له في ذلك.
﴿وَلَهُ الدين وَاصِباً﴾ أي: له الطاعة والإخلاص دائماً. قال: ابن عباس ومجاهد وعكرمة والضحاك. ومنه قوله: ﴿عَذابٌ وَاصِبٌ﴾ [الصافات: ٩] أي دائم، والوصوب الدوام. وعن ابن عباس أيضاً: الواصب: الواجب. قال مجاهد: الدين هنا: الإخلاص.
ثم قال تعالى: ﴿فَغَيْرَ الله تَتَّقُونَ﴾.
أي: ترهبون وتخافون أن يسلبكم نعمة الله عليكم إذا أفردتم العبادة لله [سبحانه].
وقال الزجاج: معناه: أفغير الذي أبان لكم أنه واحد، وأنه خالق كل شيء تخافون.
4011
قال تعالى: ﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله﴾.
التقدير: وما حل بكم من نعمة فمن الله هي. وقال الفراء: التقدير: وما [يكن] بكم من نعمة. وقال قوم: " ما " بمعنى: الذي، فلا يحتاج إلى إضمار فعل. ودخلت الفاء في الخبر للإبهام الذي في " ما ".
ومعنى الآية ما أعطاكم الله [سبحانه] من مال وصحة جسم وولد فهو من فضله، لا من فضل غيره.
﴿ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضر فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ﴾.
أي: إذا مسكم في أبدانكم ضر وشدة، فإلى الله تصرخون بالدعاء، وبه تستغيثون في كشف ذلك [عنكم]. يقال: جأر، إذا رفع صوته شديداً من جوع
أو غيره، والأصوات مبنية على فُعَال وعلى فَعِيل نحو الصراخ والخوار والبكاء. ونحو العويل والزفير، والفعال أكثر.
أي ثم إذا وهبكم العافية وفرج عنكم إذا جماعة منكم يشركون بربهم. أي: يجعلون له أنداداً يعبدونها ويذبحون لها الذبائح شكراً لغير من أنعم عليهم بالفرج.
﴿لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ﴾.
ليجحدوا بما أتاهم الله [ تعالى] من نعمته، التي فرج عنهم بها.
﴿فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾.
هذا وعيد وتهدد من الله [ تعالى] لهؤلاء الذين تقدم وصفهم، أي: فتمتعوا في هذه الحياة الدنيا إلى أن توافيكم آجالكم وتلقون ربكم.
قال الزجاج: و ﴿إِذَا فَرِيقٌ مِّنْكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ﴾ [النحل: ٥٤] هذا خاص لمن كفر.
قوله: ﴿وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ [نَصِيباً]﴾.
المعنى: ويجعل هؤلاء المشركون لما لا يعلمون، أنه لا يضرهم ولا ينفعهم نصيباً مما رزقهم الله، يعني: لأوثانهم. قال قتادة: هم مشركو العرب جعلوا لأوثانهم نصيباً وجزءاً مما رزقهم الله من أموالهم.
وقيل: يعلمون الآلهة التي كانوا يعبدونها، وهي " ما " فيعلمون ردها على معنى " ما ". / وأتى بالواو والنون لأنهم كانوا قد أجروها مجرى من يعقل في
4014
جعلهم لها نصيباً من [م [زروعهم. فمفعول " يعلم " محذوف. تقديره: ويجعل هؤلاء الكفار للأصنام التي لا تعلم شيئاً نصيباً. وعلى القول الأول " يعلمون " للكفار. وفيه ضميرهم، أي: هؤلاء الكفار يجعلون نصيباً للأصنام التي يعلم الكفار أنها لا تنفع ولا تضر. ومثله في الأخبار عن الأصنام بالواو والنون قوله:
﴿وتراهم يَنظُرُونَ إِلَيْكَ﴾ [الأعراف: ١٩٨] فالنظر للأصنام. وقيل للكفار وقد تقدم شرحه.
وقال ابن زيد: جعلوا لآلهتهم نصيباً من الحرث والأنعام يسمون عليها [أ] سماءها ويذبحون عليها. وهو قوله تعالى في الأنعام عنهم: ﴿بِزَعْمِهِمْ وهذا لِشُرَكَآئِنَا﴾ [الأنعام: ١٣٦].
ثم قال تعالى: ﴿تالله لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ﴾.
أي: والله يا أيها المشركون لتسئلن يوم القيامة عما كنتم تختلفون في الدنيا علي
4015
من الكذب فتعاقبون على ذلك.
قال الزجاج: معناه لتسئلن توبيخ حتى تعترفوا به على أنفسكم وتلزموها الحجة.
قال تعالى: ﴿وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البنات سُبْحَانَهُ﴾ أي: ومن جهل هؤلاء المشركين، وافترائهم على ربهم [سبحانه] أنهم يجعلون له البنات ولا ينبغي أن يكون له ولد لا ذكر ولا أنثى ﴿سُبْحَانَهُ﴾ أي تنزيهاً له عما يقولون.
ثم قال [تعالى]: ﴿وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ﴾.
أي: أضافوا إليه ما يكرهون، فما كفاهم ما أضافوه إليه من الولد حتى جعلوا له ما لا يرضونه لأنفسهم وما يقتلونه إذا أتاهم، فأضافوا إليه ما يكرهون لأنفسهم وهن البنات، وجعلوا لأنفسهم ما يشتهون وهم البنون.
قال تعالى: ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بالأنثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً﴾.
4016
أي: وإذا بشر أحد هؤلاء المشركين بولادة ما قد أضافه إلى الله [سبحانه] ظل وجهه مسوداً كراهية لذلك ﴿وَهُوَ كَظِيمٌ﴾ أي: قد كظمه الحزن وامتلأ غماً بولادتها وهو لا يظهر ذلك. والكظيم الذي يخفي غيظه ولا يشكو ما به، وهو فعيل بمعنى فاعل، كعليم. قيل الذي حسب في نفسه وعظمه هو ما فسره بعد ذلك من قوله: ﴿أَيُمْسِكُهُ على هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التراب﴾ فهذا عظم في نفسه.
وقيل معنى: ﴿ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً﴾ أي: ظل كئيباً مغموماً بذلك. والعرب تقول لكل مغموم قد تغير لونه من الغم، واسودّ وجهه: كظيم.
وقال قتادة أخبرهم الله [ تعالى] بخبيث أعمالهم، فأما المؤمنون فراضون بما
4017
قسم الله [ تعالى] لهم. قال ابن عباس: الكظيم الحزين. وقال الضحاك: هو الكمد.
ثم قال تعالى: ﴿يتوارى مِنَ القوم مِن سواء مَا بُشِّرَ بِهِ﴾.
أي: يستتر هذا المبشر / بالأنثى من القوم فيغيب عن أبصارهم من سوء ما بشر به عنده.
رويَ أن [ال] رجل كان في الجاهلية يتوارى إذا حضر وقت الولادة أو قبله فإن ولد له ذكر سر به وظهر، وإن كانت أنثى استتر وربما وأدها، أي دفنها حية، وربما أمسكها على كراهية وهوان. وهو قوله: ﴿أَيُمْسِكُهُ على هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التراب﴾.
ثم قال [تعالى]: ﴿أَلاَ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾.
أي: بئس الحكم حكمهم، يجعلون لله ما لا يرضون لأنفسهم، وما لا يجوز
4018
أن يكون له ويجعلون لأنفسهم ما يشتهون.
والهون والهوان في لغة قريش. وبعض [بني] تميم يجعل الهون مصدراً للشيء الهين.
وقرأ عاصم الجحدري " أم يدسها ورده على الأنثى.
وكان يلزمه أن يقرأ: ﴿أَيُمْسِكُهُ﴾. وقرأ عيسى بن عمر " أيمسكها على هوان " وقرأ الأعمش: " أيمسكه على سوء ".
4019
ثم قال تعالى :﴿ يتوارى من القوم من سوء ما بشر به ﴾ [ ٥٨ ].
أي : يستتر هذا المبشر/بالأنثى من القوم فيغيب عن١ أبصارهم من سوء ما بشر به عنده٢.
روي أن [ ال٣ ]رجل كان في الجاهلية يتوارى إذا حضر وقت الولادة أو قبلة فإن ولد له ذكر سر٤ به وظهر، وإن كانت أنثى استتر وربما وأدها، أي دفنها حية، وربما أمسكها على كراهية وهوان. وهو قوله :﴿ أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ﴾ [ ٥٩ ]٥.
ثم قال [ تعالى٦ ] :﴿ ألا ساء ما يحكمون ﴾ [ ٥٩ ]٧.
أي : بئس٨ الحكم حكمهم، يجعلون لله ما لا يرضون لأنفسهم، وما لا يجوز أن يكون له ويجعلون لأنفسهم ما يشتهون٩.
والهون والهوان في لغة١٠ قريش. وبعض [ بني١١ ] تميم يجعل الهون مصدرا للشيء١٢ الهين١٣.
وقرأ عاصم الجحدري١٤ " أم يدسها ورده على الأنثى ".
وكان يلزمه أن يقرأ :﴿ أيمسكه ﴾١٥. وقرأ عيسى بن عمر١٦ " أيمسكها على هوان١٧ ". وقرأ الأعمش : " أيمسكه على سوء " ١٨.
١ ق: على أبصارهم..
٢ وهو تفسير ابن جرير، انظر: جامع البيان ١٤/١٢٤..
٣ ساقط من ق..
٤ ط: "صر" بالصاد..
٥ روى هذا الأثر الزجاج، انظر: معاني الزجاج ٣/٢٠٦..
٦ ساقط من ط..
٧ ط: "صر" بالصاد..
٨ ق: أي ليس..
٩ ق: ما لا يشتهون..
١٠ ط: اللغة..
١١ ساقط من ق..
١٢ ق: "لمسي" هكذا..
١٣ وهو حكاية الفراء، انظر: معاني الفراء ٢/١٠٦، وجامع البيان ١٤/١٢٤، والجامع ١٠/١٧، والدر ٥/١٣٩، واللسان (هون)..
١٤ وهو عاصم بن أبي الصباح البصري، أخد عن الحسن ويحيى بن بعمرو، وتوفي سنة ١٢٣ هـ.
انظر: ترجمته في: غاية النهاية ١/٣٤٩..

١٥ انظر: قراءة عاصم في إعراب النحاس ٢/٣٨٨، وشواذ القرآن ٧٧ وفيه أنه يقرأ "يمسكها على هون" فلا داعي اذن لاستدراك المؤلف على عاصم بأنه يلزمه أن يقرأ "ايمسكها"، والجامع ١٠/٧٨..
١٦ وهو عيسى بن عمر الثقفي بالولاء، أبو سليمان من أئمة اللغة، وهو شيخ الخليل وسبيويه وأول من هذب النحو ورتبه، له نحو سبعين مصنفا احترف أكثرها، وفيات الأعيان ٣/٤٨٦ وخزانة الأدب ١/٥٦ وطبقات النحويين ٤/٣٥، والأعلام ٥/١٠٦..
١٧ انظر: هذه القراءة في شواذ القرآن ٧٧ منسوبة للجحدري، والجامع ١٠/٧٧..
١٨ انظر: هذه القراءة في الجامع ١٠/٧٨..
قال تعالى ﴿لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة مَثَلُ السوء﴾.
والمعنى: للذين لا يصدقون بالآخرة المثل السوء، وهو القبيح، وهو ما يسوء من ضرب له.
﴿وَلِلَّهِ المثل الأعلى﴾.
[أي]: الأفضل والأكمل والأحسن وهو التوحيد. قال قتادة: ﴿وَلِلَّهِ المثل الأعلى﴾ شهادة أن لا إله إلا الله. وقيل: [هو] الواحد الصمد الحليم الفرد العزيز الذي لم يلد ولم يولد.
﴿وَهُوَ العزيز﴾.
أي: ذو العزة الذي لا يمتنع عليه معها عقوبة هؤلاء وغيرهم ممن يريد عقوبته على عصيانهم. ﴿الحكيم﴾ في تدبيره، فلا يدخل تدبير [هـ] خلل ولا خطأ.
وقيل هي كلمة الوحدانية وصفتها أحد، صمد، فرد، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفواً، أحد.
قال تعالى: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ﴾.
أي: لو أخذ الله عصاة بني آدم لمعاصيهم، ما ترك على الأرض أحداً ممن [يدب] ﴿ولكن يُؤَخِّرُهُمْ إلى أَجَلٍ مسمى﴾ أي: إلى وقتهم الذي كتب لهم ووقت. فإذا جاء ذلك الأجل الذي وقت لهلاكهم، لم يستأخروا عن الهلاك ساعة ولم يستقدموا ساعة قبله. قال بعضهم: كاد الجُعَل أن يعذب بذنب بني آدم وقرأ:
﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِظُلْمِهِمْ﴾ الآية. وسمع أبو هريرة رجلاً يقول: أن الظالم لا يضر إلا بنفسه. فالتفت إليه أبو هريرة فقال: بلى والله، إن الحبارى لتموت في
وكرها هزالاً بظلم الظالم. وقال ابن مسعود: خطيئة ابن آدم قتلت الجعل.
قوله ﴿وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ﴾.
قوله: ﴿أَلْسِنَتُهُمُ﴾ جمع لسان على لغة من ذكره. ويجمع إلى ألسن على لغة من أنثه. ولو سميت بالسن لم ينصرف في المعرفة خاصة للتعريف ولأنه على وزن الفعل إذا قلت: أنا أخرج وأنا أدخل، ولو سميت بالسنة لم تنصرف على كل حال.
ومعنى الآية: ويجعل هؤلاء المشركون لله ما يكرهون لأنفسهم. وذلك جعلهم له البنات وهم يكرهونها ﴿وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكذب أَنَّ لَهُمُ الحسنى﴾ أي الجنة: أي: يكذبون فيدعون أن لهم الجنة.
﴿لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار﴾.
أي: وجب أن لهم النار، وقال مجاهد: ﴿أَنَّ لَهُمُ الحسنى﴾ هو: قول كفار قريش لنا البنون / ولله البنات. وقال قتادة: الحسنى هنا الغلمان.
4022
وقرأ بعض الشاميين " ألسنتُهم الكُذْب " بالرفع، جعله نعتاً للألسنة، وبناه على فُعُل جعله جمع كذوب " وأن " عند قطرب في موضع رفع بجرم لأنه بمعنى: وجب أن لهم. وعند غيره في موضع نصب بجرم لأنه بمعنى كسب، أي: كسب لهم ذلك أن لهم النار، وما بعدها رد لما قبلها، وقد تقدم ذكره ﴿لاَ جَرَمَ﴾ في سورة هود بأشيع من هذا.
وقال ابن عباس ﴿لاَ جَرَمَ﴾ معناه: بلى أن لهم. وقيل: واجباً أن لهم.
وقوله: ﴿وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ﴾.
4023
من قرأ بفتح الراء، فمعناه عند الحسن: معجلون إلى النار. وقال ابن جبير، منسيون فيها، متركون فيها. قال مجاهد: منسيون. وفي الحديث " أنا فَرْطُكُم على الحوض " [أي] متقدمكم إليه حتى تردوا علي. وأفرطته أقدمته. وقال أبو عبيدة والكسائي معناه: متركون في النار.
فأما من قرأ بكسر الراء فمعناه: مبالغون في الإساءة. يقال: أفرط فلان على فلان إذا أربى عليه وبالغه في الشر.
4024
وقرا أبو جعفر " مفرِّطون "، بالتشديد وكسر الراء ومعناه: مضيعون ما ينفعهم في الآخرة. وتصديقه قوله: ﴿أَن تَقُولَ نَفْسٌ ياحسرتا على مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ الله﴾ [الزمر: ٥٦].
قال تعالى: ﴿تالله لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إلى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ﴾.
أي: والله يا محمد لقد أرسلنا رسلاً من قبلك إلى أممها بمثل ما أرسلناك به إلى أمتك ﴿فَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ﴾ أي: حسنها لهم حتى كذبوا الرسل.
﴿فَهُوَ وَلِيُّهُمُ اليوم﴾.
أي: والشيطان وليهم، أي: ناصرهم اليوم في الدنيا. ولهم في الآخرة عذاب أليم. وقيل: إنه يقال لهم: هذا الذي أطعتموه فاسألوه حتى يخلصكم [تبكيتاً
لهم و] تأنيباً وتوبيخاً لهم. فيكون قوله: ﴿فَهُوَ وَلِيُّهُمُ اليوم﴾ إشارة إلى يوم القيامة.
وهذا كله تعزية للنبي [ ﷺ] وتصبير له إذا كذبه قومه، فأعلمه الله [ تعالى] أنه قد فعل ذلك بمن أرسل قبله فيتأسى النبي [ ﷺ] بذلك ويزداد صبراً.
قال تعالى ذكره ﴿وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الذي اختلفوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً﴾.
أي: وما أنزلنا عليكم الكتاب يا محمد وجعلناك رسولاً إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه من دين الله [ تعالى] فتعرفهم الصواب منه من الباطل والهدى والرحمة. فهدى ورحمة مفعولان من أجلهما.
قال تعالى: ﴿والله أَنْزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَآ﴾.
أي: والله أنزل من السماء مطراً فأحيى به الأرض الميتة وهي التي لا نبات فيها
وحياتها بكون النبات فيها.
وهذا كله تنبيه من الله [ تعالى] لخلقه على صنعه ولطفه ونعمه وإلا لا يفعل ذلك غيره وأن من كان مفرداً / باختراع هذه الأشياء لا تصلح العبادة إلا له لا إله إلا هو، وفيه إشارة على إحياء الموتى كما أحيى الأرض بعد موتها.
ثم قال: ﴿إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾.
أي: [إن] في أحياء الأرض بالنبات بعد أن كانت ميتة لا نبات فيها لعلامة ودليلاً على توحيد الله [ تعالى]، وإحياء الموتى لقوم يسمعون هذا القول فيتدبرونه.
قوله: ﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ﴾.
قوله: ﴿نُّسْقِيكُمْ﴾ مَنْ ضَمَّ النون، أو فَتَح، فهما لغتان عند أبي
4027
عبيدة. وقال الخليل وسيبويه: سقيته ناولته، وأسقيته جعلت له سقياً.
وقوله: ﴿مِّمَّا فِي بُطُونِهِ﴾ يذهب سيبويه أن العرب تخبر عن الأنعام بخير الواحد. وقال [الكسائي معناه نسقيكم مما في بطون ما ذكرنا. فذكر على ذلك. وقال] الفراء: الأنعام والنعم واحد فرجع هنا إلى تذكير النعم. وحكى عن العرب: هذا نعم وارد.
وقال أبو عبيدة: معناه نسقيكم مما في بطون أيها كان [ذا] لبن لأنها ليست كلها لها [لبن]. وعن الكسائي أن التذكير على البعض أي نسقيكم مما في
4028
بطون بعض الأنعام. وقيل: المعنى: أن التذكير إنما جيء به لأنه راجع على ذكر النعم، لأن اللبن للذكر منسوب. ولذلك قال النبي ﷺ: " اللبن للفحل " وبذلك يحكم أهل المدينة وغيرهم في حكم الرضاع.
ومعنى الآية: وأن لكم لعظة في الأنعام التي نسقيكم مما في بطونها من بين فرث ودم. والفرث ما يكون في الكرش من غذائها. ويقال: أفرثت الكرش إذا أخرجت ما فيها. لبنا خالصاً: أي خلص من مخالطة الفرث والدم.
والمعنى: أن الطعام يكون منه [ما] في الكرش، ويكون منه الدم، فيخلص اللبن من الدم.
4029
ومعنى: ﴿خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ﴾ أي: يسوغ لمن شربه، ولا يغص به. وقيل: معناه: سهلاً لا يشجى به من شربه متساغ في الحلق لا يساحه [فيه] مرارة.
وقيل: إنه لم يغص أحد باللبن قط.
وهذه الآية تدل على فساد قول من يقول: أن المني إنما نجس لسلوكه مسلك البول [فهذا اللبن يسلك مسلك البول] وهو طاهر. وهذا إنما يصح على قول: من يرى أن أبوال الإبل والبقر والغنم غير طاهرة. ولا يلزم من قال: إن أبوالها
4030
طاهرة.
قال تعالى: ﴿وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً﴾.
معناه: ولكم أيضاً أيها الناس عبرة فيما نسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب. و " ما " محذوفة من الكلام. والمعنى من ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون. وإنما جاز الحذف لدلالة " من " عليها لأن " من " تقتضي التبعيض، فدلت على الاسم المبعض فحذف.
وقال بعض البصريين التقدير: ومن ثمرات النخيل والأعناب شيء تتخذون، وحذف شيء لدلالة الهاء في " منه " عليه.
فأما " السكر " [ف] قال / ابن عباس: " السكر " ما حرم الله [ تعالى] من
4031
شرابه، و " الرزق الحسن " ما أحل من ثمرته، يعني: الزبيب والتمر. وقال [به] ابن جبير ومجاهد. وقال الحسن: ذكر نعمته في السكر قبل تحريم الخمر. وقال قتادة: السكر خمور الأعاجم، والرزق الحسن مما تنتبذون وما تخللون وما تأكلون.
وهذا منسوخ عند أكثر العلماء، وهو قول: مجاهد وابن جبير والشعبي.
والذي عليه أهل النظر: إن هذا لا يجوز نسخه لأنه خبر، وليس بأمر فينسخ، وإنما نزلت هذه الآية قبل أن تحرم الخمر. أخبرنا الله [ تعالى] أنهم يتخذون [به] ذلك. فلم يأمرنا بشربها، إنما هو خبر عما أنعم عليهم به وقد قال أبو عبيدة
4032
السكر: الطعم يعني: الزبيب، والعنب، والثمر والرطب. وقال غيره السكر ما يسد الجوع مشتق من سكرت النهر إذا سددته.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾.
أي: إن في ما ذكر من النعم التي أنعمها عليهم لدلالة واضحة لقوم يعقلون عن الله [ تعالى] حججه [و] يفهمون عنه [سبحانه] مواعظه [جلت عظمته].
قال تعالى: ﴿وأوحى رَبُّكَ إلى النحل أَنِ اتخذي مِنَ الجبال بُيُوتاً﴾.
أي: ألهم ربك يا محمد النحل بأن تتخذ من الجبال بيوتاً ﴿وَمِنَ الشجر وَمِمَّا يَعْرِشُونَ﴾.
يعني الكروم، وقيل: " يعرشون " يبنون من السقوف.
﴿فاسلكي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً﴾.
أي: طرق ربك، ﴿ذُلُلاً﴾ أي: متذللة. وقال مجاهد: لا يتوعر عليها مكان سلكته. فيكون على هذا التأويل " ذللاً " حالاً من السبل، وعلى القول الأول: حالاً من الضمير في اسلكي، وهو قول: قتادة، لأنه قال: معناه: فاسلكي سبل ربك مطيعة. وقال ابن زيد: الذلول: الذي يقاد ويذهب به حيث أراد صاحبه، قال: فهم يخرجون بالنحل ينتجعون بها ويذهبون وهي بينهم. ثم قرأ:
﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ﴾ [يس: ٧١]. فيكون ذللاً على هذا
4034
التأويل حالاً من النحل. واختار الطبري أن يكون حالاً من السبل لقربه منها.
وقوله: ﴿مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ﴾، أي: منه أبيض وأحمر.
وقوله: ﴿فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ﴾.
قال مجاهد: الهاء في فيه ل [ل] قرآن، وقال [به] الحسن والضحاك، أي: فيما قصصنا عليك من الآيات شفاء للناس، وقيل: الهاء عائدة على العسل، قال: قتادة.
وقيل " للناس ": عام يراد به الخصوص. والمعنى: لبعض الناس، لمن قدر الله [ تعالى] له أن يشفى بالعسل.
4035
وقد روي عن النبي ﷺ في ذلك أخبار أنه العسل، وهو قول: ابن عباس. وقال: ابن مسعود: عليكم بالشفاءين فإن الله جعل في القرآن شفاء وفي العسل شفاء. وقال: " العسل شفاء من كل داء، والقرآن شفاء لما في الصدور " وكان ابن عمر لا يشكو قرحة، ولا شيئاً، إلا وجعل عليها العسل حتى الدمل إذا كان به طلاه بعسل، / فقيل له في ذلك فقال: أليس الله [ تعالى] يقول: ﴿فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ﴾.
وروي أن عوف بن مالك الأشجعي مرض، فقيل له: ألا نعالجك؟ فقال [نعم]: ايتوني بماء سماء فإن الله يقول: ﴿وَنَزَّلْنَا مِنَ السمآء مَآءً مباركا﴾ [ق: ٩]. وايتوني بزيت فإن الله يقول:
4036
﴿مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ﴾ [النور: ٣٥] فجاء بذلك، فخلطه جميعاً [ثم شربه] فبرئ.
ثم قال [تعالى] ﴿إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾.
أي: إن في إخراج العسل من أفواه النحل كما يخرج الريق من فم أحدكم على اختلاف مطاعمها ومراعيها إذ ترعى حامضاً ومراً وما لا طعم له، ثم تهتد [ي] إلى سلوك السبل وترجع إلى بيوتها، لدلالة وحجة لمن تفكر في ذلك فيعلم أن الله على كل شيء قدير، وأن العبادة لا تكون إلا له، لا إله إلا هو.
قوله: ﴿والله خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ﴾.
أي: والله خلقكم أيها الناس فأوجدكم ولم تكونوا شيئاً، ثم يتوفاكم أي: يميتكم ﴿وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر﴾.
4037
[أي]: ومنكم من يهرم فيصير إلى أرذل العمر، أي: إلى أرداه. وقيل: إنه يصير كذلك في خمس وسبعين سنة. قال علي بن أبي طالب [Bهـ]: أرذل العمر خمس وسبعون سنة.
لكن المسلم إذا صار إلى أرذل العمر ازداد مع طول العمر عند الله كرامة وأجراً، كما قال [في] سورة والتين والزيتون: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ [التين: ٤] يعني: آدم خلقه في أحسن صورة، ثم قال: ﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾ [التين: ٥] يعني: الكافر من ولد آدم ثم استثنى المؤمنين من ولد آدم فقال: ﴿إِلاَّ الذينءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ [التين: ٦]. أي: غير مقطوع عنهم وذلك إذا ضعف الرجل المسلم عن الصلاة النافلة والصيام النافلة وما هو رضى
4038
لله [ تعالى] أجرى الله [سبحانه] عليه ثواب ذلك في كبره ولذلك قال: ﴿أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحاكمين﴾ [التين: ٨] أي: إذا فعل ذلك بالمؤمنين فهو أعدل العادلين.
ثم قال: ﴿لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً﴾.
أي: يرد إلى الهرم ليصير جاهلاً بعد أن كان عالماً. يعني: الخرف والخفة التي تدخل الشيوخ، وتحدث فيهم فيصيرون كالصبيان.
فهذا تنبيه من الله تعالى للخلق أن الله [سبحانه] نقلهم من جهل إلى علم. ثم من علم إلى جهل، ومن ضعف إلى قوة، ثم من قوة إلى ضعف. فهو يقدر على أن ينقلكم من حياة إلى موت ثم من [موت إلى] حياة، فكل ذلك بيده.
ثم قال: ﴿إِنَّ الله عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾.
أي، أنه عليم [قدير] لا ينسى شيئاً ولا يتغير علمه بعلم ما كان وما يكون،
4039
قدير على ما يشاء.
قال تعالى: ﴿والله فَضَّلَ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ فِي الرزق﴾.
أي: فضل بعضكم على بعض في الرزق الذي رزقكم في الدنيا فما الذين فضلهم الله [ تعالى] على غيرهم في الرزق براد [ي] رزقهم على مماليكهم فيستوون فيه [هم] و/ مماليكهم، فهذا لا يرضونه لأنفسهم فيما رزقهم الله [ تعالى] من المال والأزواج [وقد جعلوا] عبيد الله [سبحانه] شركاء في ملكه، فجعلوا له ما لا يرضونه لأنفسهم.
هذا كله مثل ضربه الله [ تعالى] لهم في عبادتهم الأصنام من دون الله [سبحانه]. فهو خطاب وتوبيخ وتقريع للمشركين. فالمعنى أنتم لا
4040
يش [ر] ككم عبيدكم فيما أنعم الله به عليكم من المال ولا ترضون بذلك لأنفسكم فتكونون أنتم وعبيدكم في ذلك سواء، فكيف رضيتم بأن جعلتم لله [سبحانه] شركاء من خلقه، فعبدتم معه غيره؟ فإذا كنتم تأنفون من مساواة عبيدكم بكم فيما في أيديكم [من رزق الله] فكيف رضيتم لرب العالمين بمساواة خلقه له فعبدتموهم؟
وقيل: عنى بذلك الذين قالوا المسيح ابن الله من النصارى.
ثم قال [تعالى] ﴿أَفَبِنِعْمَةِ الله يَجْحَدُونَ﴾.
[أي]: يجحدون نعمة الله عليهم فيجعلون له شركاء من خلقه. قال ابن عباس في الآية: معناها: لم يكونوا ليشركوا عبيدهم في أموالهم ونسائهم فكيف يشركون عبيدي معي في سلطاني، وهو معنى قول قتادة. وقيل: معنى الآية أن
4041
من فضله الله [ تعالى] في الرزق لا يشارك فيه مملوكه وهو بشر مثله، فكيف شركتم بين الله [ تعالى] وبين الأصنام فجعلتم له نصيباً وللأصنام نصيباً؟ فلم يحسن عندكم أن تشاركوا عبيدكم [فيما رزقهم] [وأنتم] كلكم بشر ويحسن أن تشاركوا بين الله [سبحانه] والأصنام وليست كمثله، لأنها مخلوقة. فإذا نزهتم أنفسكم عن مشاركة عبيدكم فيما رزقهم الله [سبحانه] فالله [ تعالى] أحق أن تنزهوه عن مشاركة الأصنام.
قال تعالى: ﴿والله جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً﴾، [أي]: والله خلق زوجة آدم من ضلعه، قاله: قتادة.
وقيل معناه: جعل لكم من جنسكم أزواجاً.
ثم قال: ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً﴾.
4042
قال ابن مسعود: الحفدة: الاختان. وهو قول ابن عباس وابن جبير. وعن ابن عباس: أنهم الأصهار. وقال محمد بن الحسن: الختن الزوج ومن كان من ذوي رحمه، والصهر من كان من قبل المرأة من الرجل. وقال ابن الأعربي ضد هذا القول في الأختان والأصهار. وقال [الأ] صمعي الختن من كان من الرجال من قبل المرأة والأصهار منهما جميعاً، وقيل: الحفدة أعوان الرجل
4043
وخدمه.
وروي عن ابن عباس أنه سئل عن الحفدة في الآية فقال: من أعانك فقد حفدك. [و] قال عكرمة: الحفدة الخدام.
[و] عنه أيضاً الحفدة من خدمك من ولدك. وعن مجاهد أنه قال: الحفدة ابن الرجل وخادمه وأعوانه. وعن ابن عباس أيضاً هم ولد الرجل وولد ولده. وقال ابن زيد وغيره: هم ولد الرجل [و] الذين يخدمونه. وعن ابن عباس: أنه قال: هم بنو امرأة الرجل من غيره.
والحفدة: جمع حافد كفاسق / وفسقة، والحافد في كلام العرب المتخفف في الخدمة والعمل ومنه قولهم، وإليك نسعى ونحفده، أي: نسرع في العمل بطاعتك.
4044
ثم قال [تعالى] ﴿وَرَزَقَكُم مِّنَ الطيبات﴾.
أي: من خلال المعاش.
﴿أفبالباطل يُؤْمِنُونَ﴾.
أي: [أ] فبما يحرم عليهم الشيطان من البحائر والوصائل يصدق هؤلاء المشركون.
وقيل معناه: أفبالأوثان والأصنام يؤمنون.
﴿وَبِنِعْمَتِ الله هُمْ يَكْفُرُونَ﴾.
أي: وبما أحل الله لهم من ذلك يكفرون، وأنعم عليهم بإحلاله لهم، هم يكفرون أي ينكرون تحليله ويسترونه.
4045
قوله: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً﴾:
المعنى: ويعبد هؤلاء المشركون من دون الله [سبحانه]، أوثاناً لا يملكون لهم رزقاً " من السماوات " أي: لا تنزل مطراً لإحياء الأرض. " والأرض " أي: ولا تملك لهم أيضاً رزقاً من الأرض، لأنها لا تقدر على إخراج نباتها وثمارها لهم.
﴿وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ﴾.
أي: لا تملك أوثانهم شيئاً من السماوات والأرض.
و ﴿رِزْقاً﴾ نصب بيملك. و ﴿شَيْئاً﴾ نصب برزق. وكان أصله: رزق شيء كما يقول: ضرب زيد فلما فرق بينهما انتصب شيء لأنه مفعول به برزق. وهو مثل قول الشاعر:
فلم أنكل عن الضرب مسمعاً.... كان أصله: عن ضرب مسمع، فلما [أ] دخل الألف واللام امتنعت الإضافة فانتصب المفعول به ومثله في التنوين: ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض كِفَاتاً * أَحْيَآءً وأمواتا﴾ [المرسلات: ٢٥ - ٢٦] كان أصله كفاتاً إحياء وأموات [أي جمع أحياء وأموات]. والكفت الجمع والضم، أي: تجمعهم وتضمهم على ظهرها أحياءً وفي بطنها أمواتاً فلما نون ﴿كِفَاتاً﴾ انتصب ﴿أحْيَآء وأموات﴾ على المفعول به، والعطف عليه، وله نظائر، وهو أصل من أصول العربية.
وقد منع بعض البصريين أن يعمل " رزق " في " شيء " لأنه اسم، وليس بمصدر، وقال ينتصب " شيء " على البدل من " رزق ".
قال [تعالى] ﴿فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأمثال﴾.
قال الضحاك، معناه: لا تعبدوا من دون الله ما لا ينفعكم، ولا يضركم، ولا يرزقكم. وقال ابن عباس: هو اتخاذكم الأصنام. يقول تعالى ذكره: لا تجعلوا معي
إلهاً غيري.
وقيل معناه: لا تمثلوا الله [سبحانه] بخلقه فتقولوا: هو يحتاج إلى شريك ومشاور فإن هذا إنما يكون لمن لا يعلم ودل على هذا المعنى قوله [ تعالى] :
﴿ إِنَّ الله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾.
وقيل معناه: لا تمثلوا خلق الله به، فتجعلوا له من العبادة مثل ما لله [سبحانه].
قال تعالى: ﴿ضَرَبَ الله مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ على شَيْءٍ﴾ الآية.
هذا مثل ضربه الله [ تعالى] للكافر والمؤمن، قال قتادة: قوله: ﴿عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ على شَيْءٍ﴾، هذا مثل ضربه الله [ تعالى] للكافر رزقه الله مالاً، فلم يقدر فيه على [خير]، ولم يعمل فيه بطاعة الله [ تعالى] ثم قال [تعالى]: ﴿وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً﴾
4048
فهذا للمؤمن أعطاه الله مالاً يعمل فيه بطاعته فأخذ فيه بالشكر ومعرفة الله [ تعالى]، فأثابه الله [سبحانه] على / ما رزقه [في] الجنة.
ثم قال: ﴿هَلْ يَسْتَوُونَ﴾.
أي: هل يستوي هذان وهما بشران؟ فكيف سويتم أيها المشركون بين الله وبين الحجارة التي لا تعقل ولا تنفع ولا تضر.
وقيل: " العبد المملوك " أبو جهل بن هشام، و ﴿وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً﴾ أبو بكر الصديق رضي الله عنهـ لا يستويان.
وقيل: " العبد المملوك " الصبي لأنه عاجز مربوب ﴿وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً﴾ مثل لله رب العالمين، لأنه يرزق المخلوقين ويلطف بهم من حيث [يعلمون ومن حيث] لا يعلمون، وهذا قول: مجاهد، قال مجاهد: هو مثل لله الخالق ومن يدعى
4049
من دونه من الباطل.
ثم ضرب لهم مثلاً آخر فقال: ﴿وَضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ﴾ وهو المطبق الذي لا ينطق ولا يسمع. ﴿وَهُوَ كَلٌّ على مَوْلاهُ﴾ أي: على وليه ﴿هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بالعدل وَهُوَ على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ أي: هل يستوي القادر التام التمييز، والعاجز الذي لا يسمع ولا يتكلم ولا يأتي بخير؟ فهما لا يستويان عندكم لاختلاف أحوالهما، وهما بشران، فكيف سويتهم بين الله [سبحانه] والأحجار؟.
وقال مجاهد والضحاك: هذا مثل لله [ تعالى] ومن عبد من دونه. وقال
4050
قتادة: هو للمؤمن والكافر.
وقال ابن عباس: أنزلت هذه الآية: ﴿ضَرَبَ الله مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ على شَيْءٍ﴾ في هشام بن عمر، وهو الذي لا ينفق، ومولاه أبو الجوزاء الذي كان ينهاه.
وقوله: ﴿[وَ] ضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ﴾ الأبكم منهما: الكل على مولاه أسيد بن أبي العاصي، والذي يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم عثمان بن عفان.
وقيل: الأبكم يعني به أبي بن خلف هو كالأبكم إذ لا ينطق بخير، وهو كل على قومه كان يؤذيهم ويؤذي عثمان بن مظعون.
﴿هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بالعدل﴾ يعني: حمزة بن عبد المطلب.
4051
وقيل: هو مثل ضربه الله [ تعالى] لنفسه والصنم المعبود من دونه وهو الأبكم والفاض هو مثل لله.
وقيل الفاضل من الرجلين عثمان بن عفان رضي الله [عنه] والأبكم مولى له كافر، قال: ابن عباس.
وقال مجاهد: الذي يأمر بالعدل، هو الله [ تعالى] والأبكم ما يدعون / من دونه من الأصنام.
قوله: ﴿الحمد لِلَّهِ﴾.
أي: الحمد الكامل لله دون من يدعا من دونه من الأوثان.
قوله: ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾.
أي: فعلهم فعل من لا يعلم، وإن كانوا يعلمون. وقيل معناه: أنهم لا يعلمون وعليهم أن يعلموا.
وقيل إن قوله: ﴿رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ﴾ إنما هو مثل للصنم لا يسمع ولا ينطق.
4052
﴿وَهُوَ كَلٌّ على مَوْلاهُ﴾ أي: كَلُّ على من يعبده ويلي أمره، يحتاج أن يخدمه ويحمله ويضعه.
﴿أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ﴾.
أي: لا يفهم ما يقال له فيأتمر لمن أمره، ولا يأمر ولا ينهى.
﴿هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بالعدل﴾.
أي: هل يستوي هذا الصنم، والله الواحد القهار الذي يدعو إلى التوحيد وهو على صراط مستقيم. قاله: قتادة. وقيل: هذا المثل أيضاً إنما هو للمؤمن والكافر.
واستدل بعض الفقهاء بهذه الآية أن العبد لا يملك. ومن جعل الآية مثلاً
4053
لله [سبحانه] والصنم لم يكن فيها حجة [له] في العبد.
قوله: ﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض﴾.
المعنى: [لله] ما غاب عن أبصاركم في السماوات والأرض دون ما سواه.
﴿وَمَآ أَمْرُ الساعة إِلاَّ [كَلَمْحِ] البصر﴾.
أي: وما قيام الساعة، التي ينشر فيها الخلائق للبعث، إلا كنظرة من البصر، أو أقرب من نظرة. لأن ذلك إنما هو، أن يقال له: كن، فيكون. وهذا إنما هوصفة لسرعة القدرة على بعث الخلق وإحيائهم، كما يقال في تمثيل السرعة ما بين الشيء والشيء: ما بين الحر والقر إلا نومة، وما بين السنة والسنة إلا لحظة. فهذا يراد به السرعة. والمعنى: أن الساعة في مجيئها للوقت الذي لا مدفع له بمنزلة لمح البصر. ومثله
4054
في القرب على التمثيل ﴿سَيَعْلَمُونَ غَداً﴾ [القمر: ٢٦] فسمي يوم القيامة [غداً] على تمثيل القرب إذ لا مدفع له عن وقته. فالقيامة كغد لوقوعها لا محالة كوقوع غد. وقيل: إنها تقوم على الحقيقة في أقرب من لمح البصر، ودلأل] على ذلك قوله: ﴿لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً﴾ [الأعراف: ١٨٧].
وقيل معناه: وما أمر الساعة عندنا إلا كلمح البصر لا عندكم، كقوله:
﴿وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ﴾ [الرعد: ٥] أي: عجب عندكم وعند من سمعه لا عندي ويدل على هذا التأويل قوله: ﴿يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً﴾ [المعارج: ٦ - ٧].
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
أي: [إن] الله قدير على إقامة الساعة في أقرب من لمح البصر، وعلى ما يشاء لا يمتنع عليه شيء من الأشياء كلها.
4055
قال [تعالى]: ﴿والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً﴾.
معناه: والله علمكم ما لم تكونوا تعلمون وأنتم في بطون أمهاتكم، ورزقكم عقولاً تفهمون بها الأشياء، وتميزون بين الخير والشر، وجعل لكم السمع لتسمعوا به أوامر الله، ونواهيه، ومواعظه، فتعلمون وتتعظون.
وهذا يدل على أن الواو لا توجب رتبة لأنه ذكر جعله للسمع والبصر والفؤاد / بعد الخروج من البطن، وذلك لم يكن إلا في البطن. فالواو لا توجب رتبة، بل ما بعدها يكون قبل ما قبلها. لا يجوز إلا هذا بهذه الآية، ونظيرها كثير في القرآن يدل على أنها لا ترتب ما بعدها بعدما قبلها، بل قد يكون بعده وقبله. ويجوز أن يكون الباقي مبتدأ غير معطوف. والأبصار لتبصروا بها آياته ونعمه فتشكروا وتعلموا أن الله الخالق وحده لا إله إلا هو، والأفئدة ليفهموا بها، وهي القلوب.
﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾.
أي: فعل ذلك بكم لعلكم تشكرون نعمه عليكم.
قال: ﴿أَلَمْ يَرَوْاْ إلى الطير مسخرات فِي جَوِّ السمآء﴾.
أي: ألم يَرَ هؤلاء المشركون إلى الطير، تطير في جو السماء أي: في هواء السماء وهو ما بَعُدَ من الأرض وأبعد منه من الأرض السكاك واحدها سكاكة.
﴿مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الله﴾.
أي: [ما طيرانهن إلا بالله] وبما أعطاهن من القدرة على ذلك ولو سلبهن القدرة لم يطرن.
﴿إِنَّ فِي ذلك لأيات﴾.
أي: إن في تسخير الله الطير في الهواء لعلامات على توحيد الله [ تعالى] لقوم يؤمنون بالله [سبحانه]، قال قتادة: في جو السماء في كبد السماء.
قوله: ﴿والله جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ [سَكَناً]﴾.
[أي]: جعل لكم موضعاً تسكنون فيه أيام مقامكم.
وقيل: معناه جعل لكم من بيوتكم ما تسكن إليه أنفسكم من ستر العورة والحرم فتهدأ فيه جوارحكم.
﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ الأنعام﴾ يعني: من جلود الإبل والبقر والغنم ﴿بُيُوتاً﴾ خفافاً عليكم تحملونها معكم في أسفاركم وهو: الظعن. وتنتفعون بها في إقامتكم، وهي: البيوت من الأنطاع والشعر والوبر والصوف.
ثم قال: ﴿وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ أَثَاثاً﴾.
أي: جعل لكم من هذه الأشياء متاعاً.
4058
وواحد الأثاث أثَاثَة، والأثاث متاع البيت. وقيل: لا واحد له.
وعن ابن عباس: الأثاث: المال. وكذلك قال قتادة. وقيل الأثاث: الثياب.
وهو متاع البيت عند أهل اللغة، كالأكسية والفرش، وهو مأخوذ من قولهم: شعر أثيث، إذا كان كثيراً ملتفاً. ويقال أث الشعر يئث أثاً إذا كثر والتف. وقد أث البيت يئث أثاً إذا صار ذا أثاث. فسمي متاع البيت أثاثاً لكثرته واجتماعه. والأصواف للضأن، والأوبار للإبل، والأشعار للمعز.
وقوله: ﴿وَمَتَاعاً إلى حِينٍ﴾.
أي: تتمتعون به وتنتفعون إلى آجالكم.
4059
قال تعالى: ﴿والله جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً﴾.
يعني: الأشجار والجبال تستظلون بها من الحر والبرد والمطر وقيل: هو السحاب والغمام يظل الناس.
﴿مِّنَ الجبال أَكْنَاناً﴾.
أي: جعل لكم من الجبال والسهل، ولكن حذف السهل لدلالة الكلام عليه. ﴿أَكْنَاناً﴾ جمع: كن يعني غيرانا يسكن فيها.
﴿وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر﴾ والبرد وحذف / البرد لدلالة الحر عليه.
[كما قال أريد الخير أيهما يليني
فحذف الشر لدلالة الخير] [عليه].
4060
والسرابيل جمع سربال. والسربال كل ما لبسته من قميص ودرع وغيره، يعني: من القطن، والكتان والصوف.
﴿وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ﴾.
يعني: الدروع من الحديد. والبأس هنا الحرب. والمعنى في هذا: خلق لكم ما تتخذون منه هذه السرابيل وأقدركم على عمله وألهمكم ذلك.
فهذه كلها نعم من الله ينبه خلقه عليها ليشكروا الله على ذلك ويعلموا أنه المنفرد بخلق ذلك المدبر لمصالح عباده، فلا تجب العبادة إلا له.
وإنما خص الجبال بالذكر لأنهم كانوا أصحاب [جبال] في بلدهم فخوطبوا بما يعرفون. وترك السهولَ وما فيها أيضاً من الأكنان لدلالة الكلام عليه. وخص ذكر الحر: لأن أكثر زمان العرب في أرض الحجاز وما يليها الحر. فخص ذلك لما
4061
يعلمون من ضرره عندهم وترك ذكر البرد لدلالة الحر عليه. وخص ذكر الأصواف والأوبار والأشعار لأنهم كانا أصحاب إبل وغنم ومعز فخوطبوا بما بعقلون. وترك ذكر القطن، والكتان، وغيره، مما يستعمل منه اللباس لدلالة الكلام عليه. ومن هذا قوله ﴿وَيُنَزِّلُ مِنَ السمآء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ﴾ [النور: ٤٣] فذكر البَرَد لأنهم كانوا يعرفونه فخوطبوا بما يعرفون وترك ذكر الثلج وهو أكثر نزولاً من البَرَد لأنهم كانوا يعرفونه في بلادهم.
ثم قال [تعالى] ﴿كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ﴾.
أي: أتم نعمته عليكم في هذه النعم المذكورة لتخضعوا لله بالطاعة. وروي عن ابن عباس أنه قرأ: " تَسْلَمون " بفتح التاء واللام، أي لتسلموا من الحر والجرحات وغيرها.
أي: فإن أدبر هؤلاء المشركون عما أرسلناك [له] يا محمد من الحق فإنما عليك
أن تبلغ الرسالة وتبين ما أرسلت له لمن سمعه حتى يفهمه.
قال [تعالى]: ﴿يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ الله ثُمَّ يُنكِرُونَهَا﴾.
قال السدي: النعمة هنا: محمد [ ﷺ] [ يعرفون أنه نبي مرسل وينكرون ذلك. ودل على أنها محمد]. قوله: قبل ذلك: ﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ المبين﴾ [النحل: ٨٢] يخاطب محمداً ﷺ.
وقيل: هي ما عدده الله [ تعالى] في هذه السورة من النعم يعرفون أن الكل من عند الله وهم ينكرون ذلك ويزعمون أنهم ورثوه عن آبائهم، قال: مجاهد. وقيل:
إنكارهم هنا للنعمة، قولهم: لولا فلان ما كان كذا. وقيل معناه: أن الكفار إذا قيل لهم من رزقكم؟ أقروا بأنه الله [ تعالى]، ثم ينكرون ذلك بقولهم: إنما رزقنا ذلك بشفاعة آلهتنا.
ثم قال /: ﴿وَأَكْثَرُهُمُ الكافرون﴾.
أي: أكثر قومك يا محمد الجاحدون للنعم ولنبوتك.
قوله: ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيد﴾.
المعنى: ثم ينكرونها وسينكرونها يوم نبعث من كل أمة شهيداً، أي: شهد عليهما بما أجابت به داعي الله [ تعالى] وهو رسولهم الذي أرسل إليهم
﴿ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ يعني: لا يؤذن لهم في الاعتذار، ﴿وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ﴾. أي: ولا يتركون الرجوع إلى الدنيا فيتوبوا ومثله قوله تعالى: ﴿هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ﴾ [المرسلات: ٣٥] أي: بعذر ﴿وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ﴾ [المرسلات: ٣٦].
قال: ﴿وَإِذَا رَأى الذين ظَلَمُواْ العذاب فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ﴾ أي: إذا عاين الذين كذبوا محمداً [ ﷺ] عذاب الله [ تعالى] فلا ينجيهم منه شيء ﴿وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ﴾ أي: يؤخرون.
ثم قال تعالى: ﴿وَإِذَا رَأى الذين أَشْرَكُواْ شُرَكَآءَهُمْ﴾.
أي: إذا رأى المشركون يوم القيامة ما كانوا يعبدون من دون الله سبحانه من الآلهة والأوثان ﴿قَالُواْ رَبَّنَا هؤلاء شُرَكَآؤُنَا الذين كُنَّا نَدْعُوْا مِن دُونِكَ﴾. أي: هؤلاء آلهتنا الذين
4065
عبدنا من دونك حشر الله [ تعالى] معهم أصنامهم وأوثانهم ليوبخهم ويعذبهم بها في النار وسموا شركاءهم لأنهم جعلوا لهم نصيباً من أموالهم وزروعهم وأنعامهم.
وقيل: سموا بذلك على معنى: هؤلاء شركاؤنا في الكفر [بك]، وقيل: إنما سموا بذلك لأنهم أحدثوا عبادتهم، أشركوهم في عبادة الله [سبحانه] فأضيفوا إليهم، إذ هم اخترعوا ذلك، [وقد] قال في موضع آخر: ﴿شُرَكَآئِيَ﴾ [الكهف: ٥٢، القصص: ٦٢و٧٤، فصلت: ٤٧]. فأضافهم إلى نفسه تعالى عن ذلك على طريق ما فعلوا: أي: شركائي عندكم وفيما زعمتم.
قوله تعالى: ﴿فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ القول﴾.
أي: ألقت الآلهة إليهم القول، أي: انطلقوا فقالوا: إنكم لكاذبون، ما كنا
4066
ندعوكم إلى عبادتنا ولا كنا آلهة.
قال مجاهد ﴿فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ القول﴾: قالوا بهم، ونظير هذا قوله:
﴿سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً﴾ [مريم: ٨٢].
وقيل: هم الملائكة الذين عبدوا من دون الله [سبحانه] قالوا للكفار إنكم لكاذبون في عبادتكم إيانا.
قال تعالى: ﴿وَأَلْقَوْاْ إلى الله يَوْمَئِذٍ السلم﴾.
أي: استسلموا له وذلوا لحكمه فيهم، ولم تغن عنهم آلهتهم شيئاً
﴿وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾ وأخطأهم من آلهتهم ما كانوا يأملون من الشفاعة عند الله [ تعالى].
قال تعالى: ﴿الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ العذاب﴾.
أي: الذين كفروا بالله [سبحانه] وبرسوله [ ﷺ] وصدوا عن الإسلام من أراده، زدناهم في جهنم عذاباً فوق العذاب الذي هم فيه قبل أن يزادوا.
وقال ابن مسعود: الزيادة عقارب لها أنياب كالنخل الطوال تنهشهم. وَرَوَى عنه مُرة أنه قال / أفاعي. وعن ابن عمر أنه قال: لجهنم سواحل فيها حيات وعقارب أعناقها كأعناق البخت. وقيل: إنهم يخرجون من حر النار [إلى] برد الزمهرير فيتبادرون من شدة برد [هـ إلى النار] أعاذنا الله من ذلك. وقال السدي: الزيادة عقارب في النار أمثال: البغال، وحيات أمثال: الفيلة.
4068
وروى البراء بن عازب أن النبي ﷺ قال: " زيدوا عقارب أمثال النخل تنهشهم في جهنم ".
قال مجاهد إن لجنهم جناباً، يعني: جانباً كالساحل، فيها حيات كأمثال أعناق [البخت]، وأنياباً لها كأنياب البغال فيهرب أهل النار من النار إلى جنابها فتشد عليهم العقارب فتأخذ شفاههم فتسقط ما بين الشفر إلى الظفر فما ينجيهم منها إلا الهرب إلى النار.
قال ابن مسعود: إنه ليسمع للهوام بين أطباق جلد الكافر في النار جلبة كما تسمع جلبة الوحش في البر. وإن غلظ جلده أربعون ذراعاً بذراع الجبار يعني: الملك.
4069
وروى مجاهد عن ابن عمر أن النبي عليه السلام قال: " إنهم ليعظمون في النار حتى يصير ما بين شحمة أذن أحدهم إلى عاتقه مسيرة كذا وكذا، وإن جلد أحدهم أربعون ذراعاً، وضرسه أعظم من جبل أحد ".
وقوله: ﴿بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ﴾.
أي: يفسدون في الدنيا بصدهم الناس عن الإسلام.
قال [تعالى]: ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً﴾.
أي: [واذكر يا محمد يوم نبعث من كل أمة شهيداً، أي]: نبعث إليهم نبيهم الذي أرسل إليها. ومعنى ﴿مِّنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ أي: من قبيلتهم لأنه تعالى أكثر ما أرسل الرسل إلى الأمم من قبيلتها.
ثم قال: ﴿وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً على هؤلاء﴾.
أي: على أمتك يا محمد الذين أرسلت إليهم ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب﴾ أي: القرآن.
﴿تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ﴾ أي: بياناً للناس لما بهم إليه من الحاجة [من معرفة] الحلال والحرام والثواب والعقاب ﴿وَهُدًى﴾ أي: هدى من الضلالة ﴿وَرَحْمَةً﴾ أي: ورحمة لمن صدق به وعمل بما فيه ﴿وبشرى لِلْمُسْلِمِينَ﴾، أي: وبشارة لمن أطاع الله وخضع له بالتوحيد.
قوله: ﴿إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان﴾.
المعنى: أن الله [ تعالى] يأمر في الكتاب الذي أنزل على محمد [ ﷺ] بالعدل وهو الفرض والإحسان النافلة، وقيل: العدل الإنصاف. ومن الإنصاف الإقرار لمن أنعم علينا بنعمته، والشكر له على أفضاله وإخلاص العبادة له. وكذلك قال
4071
بعض المفسرين: العدل هنا شهادة أن لا إله إلا الله. وروي ذلك عن ابن عباس.
وقال ابن عيينة: العدل هنا استواء السريرة والعلانية من كل من عمل لله [ تعالى] عملاً.
وقوله: ﴿والإحسان﴾ قال ابن عباس هو أداء الفرائض.
وقال ابن عينية الإحسان أن تكون سريرته أفضل من علانيته.
وقوله: ﴿وَإِيتَآءِ ذِي القربى﴾.
أي: إعطاؤهم الحق الذي أوجبه اله لهم في الفرائض وصلة الرحم.
﴿وينهى عَنِ الفحشاء﴾.
أي: عن كل قول وفعل قيبح. وعن ابن عباس الفحشاء هنا الزنى. وقال
4072
ابن عيينة الفحشاء والمنكر هنا / أن تكون علانيته أحسن من سريرته.
والمنكر في اللغة: كل ما ينكر من قول أو فعل.
وقوله: ﴿والبغي﴾ قال ابن عباس: البغي: الكبر والظلم. والبغي في اللغة: أشد الفساد. وقيل: البغي التعدي ومجاوزة القدر والحد.
ثم قال تعالى: ﴿يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾، أي: يوصيكم لعلكم تذكرون فتنتهوا إلى أمره ونهيه.
قال ابن مسعود: أجمع آية في القرآن لخيرٍ وشرٍ آية في النحل ﴿إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان﴾ الآية.
وقال قتادة: ليس من خلق حسن، كان أهل الجاهلية يعملون به ويستحسنونه
4073
إلا أمر الله [ تعالى] به وليس من خلق سيىء كانوا يتعايرونه بينهم إلا نهى الله [ تعالى] عنه.
وقيل في قوله: ﴿بالعدل﴾ بألا يعبد إلا الله وحده لا شريك له فهذا هو العدل الحق: ﴿والإحسان﴾ هو أن تعبده كأنك تراه فإن لم تره فإنه يراك. ومن الإحسان أن تحب لولد آدم كلهم ما تحب لنفسك وتكره لهم ما تكره لنفسك، إن كان مؤمناً أحببت له أن يزداد إيماناً، وإن كان كافراً أحببت له أن يؤمن فيكون أخاك في الإسلام. ﴿وَإِيتَآءِ ذِي القربى﴾ صلة الرحم والقرابة بمالك أو بنفسك أو بدعائك له وبشرك في وجهه، ﴿وينهى عَنِ الفحشاء﴾ أي: عن ركوب المعاصي. ﴿والمنكر﴾ هو الشرك بالله ﴿والبغي﴾ هو أن تبغي على أخيك فتظلمه أو تغتابه فتبهته.
قال تعالى: ﴿وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله إِذَا عَاهَدتُّمْ﴾.
المعنى: وأوفوا أيها الناس بميثاق الله [ تعالى] إذا أوثقتموه وبعقده إذا عاقدتموه
4074
فأوجبتم على أنفسكم حقاً لمن عاقدتمه.
﴿وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا﴾.
أي: لا تخالفوا الأمر الذي تعاقدتم فيه بالإيمان بالله [ تعالى] ﴿ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا﴾، أي: بعدما شددتم الإيمان فتحنثوا في أيمانكم وتكذبوا فيها وتنقضوها. ﴿وَقَدْ جَعَلْتُمُ الله عَلَيْكُمْ كَفِيلاً﴾ أي: جعلتموه كفيلاً عليكم في أيمانكم، [فلا تكذبوا فيها ولا تنقصوها].
وقد قيل: إنها عامة في كل عقد ويمين، وإن الأيمان منسوخة بإجازة الكفارة في المائدة عن اليمين.
وهذه الآية: نزلت فيمن بايع النبي [عليه السلام] على الإسلام لئلا تحملهم قلة من مع محمد [ ﷺ]، وكثرة المشركين على نقض ما عاهدوه عليه من البيعة.
4075
وقال مجاهد: نزلت في الحلف الذي كان بينهم في الجاهلية أمرهم الله [ تعالى] في [الإسلام] أن يوفوا به ولا ينقضوه.
وقال ابن زيد: هؤلاء قوم كانو حلف [اء] لقوم، وقد تحالفوا وأعطى بعضهم بعضاً الميثاق، فجاءهم قوم فقالوا: نحن أكثر وأعز وأمنع فانقضوا عهد هؤلاء، فارجعوا إلينا وح [ا] لفونا، ففعلوا، فنهى الله [ تعالى] عن ذلك بهذه الآية وهو قوله: ﴿أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أربى مِنْ أُمَّةٍ﴾ [النحل: ٩٢].
ففي الكلم تقديم وتأخير وتقديره: وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً أن تكون أمة هي أربى من أمة، أي هي أكثر من أجل أن كان هؤلاء أكثر عدداً نقضتم العهد فيما بينكم وبين هؤلاء /.
4076
وكذلك قال مجاهد أيضاً في رواية أخرى عنه. والكفيل الوكيل.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ الله يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾.
[أي: ما تفعلون] في عقودكم وعهودك [م].
قوله: ﴿وَلاَ تَكُونُواْ كالتي نَقَضَتْ غَزْلَهَا﴾.
والمعنى: أن الله [ تعالى] نهى عباده عن نقض الأيمان بعد توكيدها فيكونون كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أي من بعد إحكامه وإبرامه.
روي أن امرأة حمقاء كانت تفعل ذلك بمكة فكانت إذا أبرمت غزلها نقضته. وقيل: هي امرأة يقال لها ريطة بنت سعد كانت تغزل بمغزل كبير فإذا أبرمته وأحكمته أمرت جاريتها فنقضته. وقيل: هي امرأة اسمها حطية كانت بمكة
4077
وكان بها وسوسة، وكانت تغزل عند الحجر يومها ثم تغدو فتنقضه، أي: تغزله جوانيا [ثم تنقضه برانيا].
وقيل: [هو] مثل، ولم يرد امرأة بعينها. والمعنى: لا تفعلوا هذا الفعل فتكونوا كامرأة نقضت غزلها بعد أن أحكمته. فلو بلغكم أن امرأة فعلت هذا لقلتم [ما] في الأرض أحمق من هذه. [هذا] معنى قول قتادة.
وقال قتادة: هو مثل ضربه الله [ تعالى] لمن نقض العهد.
ومعنى: ﴿دَخَلاً بَيْنَكُمْ﴾ خديعة وغروراً. أي: لا تجعلوا أيمانكم خديعة وغروراً بينكم ليطمئن إليكم وأنتم مصرون على الغدر، وترك الوفاء فتنقضونها ولا توفون بها.
وقال الزجاج: ﴿دَخَلاً﴾ أي: غشاً و [غلاً]. وهو منصوب لأنه مفعول له.
4078
أي: تتخذون الأيمان للدخل، أي: للغش والخديعة.
والدخل في اللغة [كل] عيب. يقال: هو مدخول أي معيب، وفيه دخل [أي] عيب.
ثم قال: ﴿أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أربى مِنْ أُمَّةٍ﴾.
أي: تفعلون الغدر في أيمانكم لأجل كون أمة أكثر من أمة فتنقضون عهد الأ [ول] لقلتهم وتحالفون ألكثر لكثرتهم.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ الله بِهِ﴾.
أي: إنما يختبركم [الله] بأمره إياكم بالوفاء والعهد بالأيمان ليتبين منكم
4079
المطيع المنتهي إلى أمر الله [ تعالى] من العاصي المخالف أمره ونهيه.
ثم قال: ﴿وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ القيامة مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾.
أي: وليبين الله لكم يوم القيامة مجازاة كل فريق منكم على عمله في الدنيا.
واختلافهم هنا كون هؤلاء مؤمنين وهؤلاء كافرين. فهذا الذي اختلفوا فيه، فيوم القيامة يتبين لهم المصيب من المخطئ. فهو وعيد [لهم] من الله [ تعالى].
قال [تعالى]: ﴿وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾.
أي ولو شاء الله للطف بكم بتوفيق من عنده فتصيرون أهل ملة واحدة. ولكنه خالف بينكم فجعلكم أهل ملل شتى، فوفق من يشاء لما يرضيه من الإيمان به وبرسله وكتبه، وخذل من شاء عن ذلك فكفر [به].
ثم قال: ﴿وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾.
أي: تسألون عما عملتم في الدنيا في [ما] أمركم به ونهاكم / عنه.
قال: ﴿وَلاَ تتخذوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ﴾.
أي: لا تتخذوا أيمانكم دخلاً وخديعة بينكم فت [غرون] بها الناس.
﴿فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا﴾.
فتهلكون بعد أن كنتم من الهلاك آمنين، وهذا [مثل] لكل مبتلى بعد عافية أو ساقط في ورطة بعد سلامة. يقولون زلت به قدمه.
ثم قال: ﴿وَتَذُوقُواْ السوء بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ الله﴾.
أي: وتذوقوا عذاب الله [ تعالى] بصكم عن سبيل الله، أي: بمنعكم من أراد
[عن] الإيمان ﴿وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ أي: في الآخرة.
قال: ﴿وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ الله ثَمَناً قَلِيلاً﴾.
أي: لا تنقضوا عهودكم بعرض من عرض الدنيا وهو قليل: أنه لا بقاء له، إن الذي عند الله من الثواب في الآخرة لمن وفى بعهده ﴿هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ فضل ما بين العوضين.
قوله: ﴿مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ﴾.
والمعنى: ما عندكم أيها الناس مما تأخذونه على نقض الأيمان والعهود يفنى، وما عند الله باق لمن أوفى بعهده.
ثم قال: ﴿وَلَنَجْزِيَنَّ الذين صبروا﴾.
أي: وليثيبن الذين صبروا على الطاعة في السراء والضراء بأحسن ما كانوا يعملون من الأعمال دون أسوئها.
قال: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾.
[أي]: من عمل بطاعة الله [ تعالى] وهو مصدق بثواب الله [ تعالى] وعقابه [جلت عظمته] فلنحيينه حياة طيبة: قال ابن عباس: الحياة الطيبة، الرزق الحلال في الدنيا، وكذلك قال الضحاك. وقال علي بن أبي طالب [Bهـ]: هي القناعة في الدنيا. وعن الضحاك أنها أن يحيي مؤمناً عاملاً بطاعة الله. وعن ابن عباس أيضاً: أنها السعادة. وقال الحسن: هي الجنة ولا تطيب لأحد حياة دون الجنة، وهو قول قتادة ومجاهد.
وقوله بعد ذلك: ﴿وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ يدل على [أن]
الحياة الطيبة في الدنيا هي، لأنه أخبر بما يفعل بهم في الدنيا ثم أعقبه بما يفعل بهم [في] الآخرة. ومعناه: لنجزينهم أجرهم في الآخرة بأحسن عملهم في الدنيا لا بأسوئه.
وروي: أن هذه الآية: نزلت بسبب قوم من أهل ملل شتى تفاخروا، فقال أهل كل ملة نحن أفضل، فبين الله [ تعالى] فضل هذه الملل بهذه الآية، وروى ذلك أبو صالح.
معناه: إذا أردت يا محمد قراءة القرآن فاستعذ بالله. ومثله: إذا أكلت فقل بسم الله. أي إذا أردت الأكل. فحذف هذا لعلم السامع بمعناه. ومثله:
﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وُجُوهَكُمْ﴾ [المائدة: ٦] الآية. أي: إذا أردتم القيام إليها. لأن الوضوء إنما يكون قبل الصلاة لا بعدها.
قال تعالى: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ على الذين آمَنُواْ﴾.
أي: ليس له حجة على المؤمنين المتوكلين على الله [ تعالى] في مهم أمورهم المتعوذين به من الشيطان.
﴿إِنَّمَا سُلْطَانُهُ على الذين يَتَوَلَّوْنَهُ﴾.
أي إنما حجته على الذين يعبدونه ويطيعونه ﴿والذين هُم بِهِ مُشْرِكُونَ﴾، أي: [هم] بالله مشركون قاله مجاهد. وقيل: الهاء للشيطان أي: ﴿والذين هُم بِهِ مُشْرِكُونَ﴾ أي: [أ] شركوه في أعمالهم. وقيل معناه: والذين هم من أجله مشركون. قال سفيان: ليس له سلطان على أن يحمل المؤمن على ذنب لا يغفر. وقيل: الاستعاذة بالله تمنع الشيطان من أذى المؤمن. وقيل: إن قوله: ﴿لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ على الذين آمَنُواْ﴾ هو قوله:
﴿إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين﴾ [الحجر: ٤٠] فهؤلاء لم: يجعل للشيطان عليهم سبيلاً.
قوله: ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ﴾.
المعنى عند مجاهد: وإذا رفعنا آية وأنزلنا أخرى. وعنه [أيضاً]: وإذا رفعنا آية فنسخناها وأثبتنا غيرها. وقال قتادة وهو قوله: ﴿مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا﴾ [البقرة: ١٠٦]. وقيل معناه: وإذا بدلنا حكم آية بحكم آية أخرى ﴿والله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ﴾ مما هو أصلح لخلقه. قال المشركون لك يا محمد ﴿إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ﴾ أي: متخرص الكذب على الله ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ حقيقة ذلك لجهالتهم.
قال: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القدس مِن رَّبِّكَ بالحق﴾.
أي: قل لهم يا محمد: نزَّل هذا القرآن ناسخه ومنسوخه جبريل [ ﷺ] من عند الله ﴿بالحق لِيُثَبِّتَ الذين آمَنُواْ﴾ أي: ليقوي إيمانهم ويتضاعف تصديقهم إذا آمنوا بناسخه ومنسوخه.
﴿وَهُدًى﴾ من الضلالة ﴿وبشرى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ وبشرى للذين استسلموا لأمر الله [ تعالى] ونهيه وما أنزله في كتابه.
قال [تعالى]: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ﴾.
أي: ولقد نعلم يا محمد أن هؤلاء المشركين يقولون جهلاً منهم إنما يعلم محمداً هذا الذي يتلو علينا بشر من بني آدم وما هو من عند الله. فقال الله مكذباً لهم: ﴿لِّسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ﴾. أي لسان الذي يميلون إليه أنه يعلم محمداً [ ﷺ] أعجمي ﴿وهذا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ﴾ لأنهم زعموا أن الذي يعلم محمداً عبد رومي.
قال ابن عباس: كان رسول الله ﷺ يعلم فتى بمكة، وكان اسمه بلعام، وكان أعجمي اللسان فلما رأى المشركون النبي ﷺ، يدخل عليه ويخرج، قالوا [له] إنما يعلمه
4087
بلعام، فأنزل الله [ تعالى] الآية.
وقيل: كان اسمه يعيش، [قال عكرمة: كان النبي عليه السلام يقرئ غلاماً لبني المغيرة اسمه يعيش] أعجمياً، فقال / المشركون إنه يعلم محمداً. وقيل: هو [عبد] لبني الحضرمي يقال له يعيش. وقيل: كان اسمه جبراً. كان رسول الله ﷺ كثيراً ما يجلس عنده عند المروة. فقال المشركون هو يعلم محمداً [ ﷺ] ما يتلو علينا، وكان جبر أَعجمي اللسان، فاحتج الله عليهم أنه أعجمي وأن القرآن عربي والعجمي، لا يعلم العربي.
وقيل: كانا غلامين اسم أحدهما جبر، والآخر يسار يقرآن التوراة
4088
وكان النبي ﷺ يجلس إليهما. فقال كفار قريش إنما يجلس إليهما يتعلم منهما. وقال الضحاك: هو سلمان الفارسي.
وروي أن الذي قال هذا رجل كاتب لرسول الله ﷺ ارتد عن الإسلام وكان يملي عليه النبي ﷺ: ﴿ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ أو ﴿عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ أو غير ذلك من خواتم الآي، ويشتغل النبي ﷺ فيبدل هو في موضع سميع عليم وعزيز حكيم ويقوله للنبي ﷺ، فيقول له النبي عليه السلام، أي ذلك كتبت فهو كذلك ففتنه ذلك. وقال [إن] محمداً يكل ذلك إلي وأكتب ما شئت فارتد. وقال للمشركين أنا أفظن الناس بمحمد والله ما يعلمه إلا عبد بني فلان. فنزلت الآية في كذبه لهم.
أي: إن الذين يجحدون بآيات الله لا يوفقهم الله لإصابة الحق ولهم في الآخرة عذاب مؤلم.
﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الكذب الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ الله﴾ أي: الذين يجحدون آياته، ويفتري بمعنى يتخرص.
وقال بعض أهل المعاني إنما أعاد الكاذبين، و [قد] تقدم الإخبار عنهم بالكذب لأن الثاني صفة، والصفة ألزم من الخبر، لأن من نعت بصفة فهي لازمة له، ومن أخبر عنه بخبر فقد يحول عنه. فأعاد ذكر الكذب لأنه ألزم في أكثر الأحوال من الخبر. وهذا الذي قال إنما يلزم إذا كانت الصفة صفة ذات فهي لا تتغير كالأحمر والأسود. ويتغير الخبر بالأفعال. وإذا كانت الصفة صفة فعل فهي تتغير أيضاً كتغيير الخبر بالفعل. والصفة في هذه صفة فعل لا صفة ذات، فلا يلزم قوله، ولا يستقيم، ولكن أعيد ذكر الكذب عنهم للتأكيد.
قوله: ﴿مَن كَفَرَ بالله مِن بَعْدِ إيمَانِهِ﴾.
هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر [ووالده ياسر] وأمه سمية وخباب بن الأرت، وسلمة بن هشام، والوليد بن الوليد، وعياش بن أبي ربيعة والمقداد بن
4091
الأسود وقوم أسلموا ففتنهم المشركون عن دينهم فثبت على الإسلام بعضهم وافتتن بعضهم. فمن ابتداء ﴿ولكن مَّن شَرَحَ﴾ ابتداء [أيضاً]، وخبرهما ﴿فَعَلَيْهِمْ﴾.
وقيل: ﴿مَن كَفَرَ﴾ في موضع [رفع] على / البدل من " الكاذبين ". وفيه بعد.
وقال ابن عباس وقتادة: نزلت في عمار بن ياسر، قال قتادة: أخذه بنو
4092
المغيرة فغطوه في بئر ميمون، وقالوا: أكفر بمحمد ﷺ فتابعهم على ذلك وقلبه كاره موقن بأن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله جاء بالحق من عنده، فأنزل الله [ تعالى] ﴿ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان﴾.
وقوله: ﴿ولكن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً﴾.
أي: من كفر على اختيار منه واستحباب ﴿فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ الله﴾، قال عكرمة نزلت الآية في قوم أسلموا بمكة ولم يمكنهم الخروج، فلما كان يوم بدر أخرجهم المشركون فقتلوا وفيهم نزلت ﴿إِلاَّ المستضعفين مِنَ الرجال والنسآء﴾ [النساء: ٩٨] الآيتين.
[وقيل إنهم كانوا بمكة لا يقدرون على الخروج فلما نزلت: ﴿إِلاَّ المستضعفين مِنَ الرجال والنسآء﴾ [النساء: ٩٨] الآيتين]، كتب بها المسلمون الذين بالمدينة إلى إخوانهم الذين يخبرونهم بما نزل فيهم فلما وصل إليهم الكتاب، خرج ناس كانوا أقروا
4093
بالإسلام فطلبهم المشركون فأدركوهم فرجعوا وأعطوهم الفتنة، قولاً دون اعتقاد. فأنزل الله [ تعالى] فيهم: ﴿وَمِنَ الناس مَن يِقُولُ آمَنَّا بالله فَإِذَآ أُوذِيَ فِي الله جَعَلَ فِتْنَةَ الناس كَعَذَابِ الله﴾ [العنكبوت: ١٠]، وأنزل فيهم ﴿إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان﴾، وأنزل فيهم: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ﴾ [النحل: ١١٠] الآية فسمع ذلك رجل من بني بكر كان مريضاً، فقال لأهله: أخرجوني إلى الروح، يعني المدينة. فأخرجوه فمات قبل الليل، فأنزل الله [ تعالى] :﴿ وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الموت﴾ [النساء: ١٠٠] الآية.
قال مجاهد: أول من أظهر الإسلام سبعة: رسول الله [ ﷺ]، وأبو بكر الصديق وبلال وخباب وصهيب، وعمار، وسمية أم عمار. فأما رسول الله عليه السلام فمنعه أبو طالب، وأما أبو بكر فمنعه قومه، وأخذ الآخرون فألبسوهم أدراع الحديد، وصهروهم في الشمس، فبلغ منهم الجهد ما شاء الله أن يبلغ من حر الحديد والشمس، فلما كان من العشاء أتاهم أبو جهل ومعه حربة، فجعل يسبهم ويوبخهم، ثم أتى
4094
سمية فطعن بالحربة في فرجها، فقتلها. فهي أول شهيد استشهد في الإسلام. قال: وقال الآخرون ما سألوهم، إلا بلالاً فإنه هانت عليه نفسه، فجعلوا يعذبونه وهو يقول: أحد أحد، حتى ملوه، ثم كتفوه، وجعلوا في عنقه حبلاً من ليف، ودفعوه إلى صبيانهم يلعبون به بين أخشبي مكة، حتى ملوه فتركوه.
فقال عمار: كلنا قد تكلم بالذي قالوا له، فلولا أن الله تداركنا - غير بلال - فإنه هانت عليه نفسه في الله [ تعالى] فهان على قومه حتى تركوه، وملوه، فنزلت هذه الآية في هؤلاء.
قال ابن عباس: والله إن كانوا ليضربون أحدهم ويخنقونه ويعطشونه ويجوعونه / حتى [ما] يقدر أن يستوي جالساً من شدة الضر الذي به حتى أنه ليعطيهم ما سألوا من الفتنة التي رمي بها، وحتى يقولوا له: اللات والعزى إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم. وحتى أن الجُعل ليمر بهم فيقولون: هذا الجُعل إلهك ن دون الله؟ فيقول: نعم، افتداء منهم لما يبلغون من جهده فنزلت فيهم: ﴿مَن كَفَرَ بالله مِن بَعْدِ إيمَانِهِ﴾ الآية.
4095
و [قيل] معنى ﴿مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً﴾، أي: قبله وانفسح له صدره.
قال: ﴿ذلك بِأَنَّهُمُ استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة﴾ أي: وجب العذاب لهم لاختيارهم زينة الحياة الدنيا على الآخرة ﴿وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين﴾ أي: لا يوفقهم بجحودهم آيات الله وتوحيده، وعبادتهم غيره.
قوله: ﴿أولئك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ﴾.
معناه: أولئك الذين تقدمت صفتهم، هم طبع الله على قلوبهم، أي ختم عليها بطابعه فلا يؤمنون ولا يهتدون، وأصم أسماعهم، فلا يسمعون داعي الله [ تعالى] سماع قبول، وأعمى أبصارهم، فلا يبصرون بصر مهتد معتبر. ﴿وأولئك هُمُ الغافلون﴾ أي: هم الساهون عما أعد الله [ تعالى] لأمثالهم من أهل الكفر وعما يراد بهم.
ثم قال: (لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ) [١٠٩].
قال الطبري: لا جرم معناه لا بد أنهم في الآخرة هم الهالكون الذين غبنوا أنفسهم حظوظها.
قال تعالى: ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ﴾.
أي: هاجروا إلى المدينة وتركوا ديارهم وأموالهم، أي من بعدما عذبوا على الإسلام بمكة ثم جاهدوا المشركين في الله [ تعالى] مع نبيه [ ﷺ] وصبروا في الجهاد، وعلى طاعة الله [ تعالى] إن ربك من بعد ذلك: أي: من بعد الفعلة التي
4096
فعلوها ﴿لَغَفُورٌ﴾ أي لساتر على ذنوبهم ﴿رَّحِيمٌ﴾ بهم. وقد تقدم الكلام فيمن نزلت هذه الآيات.
ومن قرأ ﴿فُتِنُواْ﴾ بالفتح، وهي قراءة ابن عامر، فمعناه: عذبوا غيرهم على الإيمان ثم آمنوا هم من بعدما فعلوا ذلك بالمؤمنين، إن ربك من بعد الفعلة التي
4097
فعلوها ساتر لذنوبهم، رحيم بهم.
قال ابن عباس وقتادة: نزلت في قوم خرجوا إلى المدينة فأدركهم المشرطون ففتنوهم فكفروا مكرهين.
وقال الحسن وعكرمة: نزلت في شأن ابن أبي سرح: فتنه المشركون فكفر، فنزلت: ﴿مَن كَفَرَ بالله مِن بَعْدِ إيمَانِهِ﴾ [النحل: ١٠٦]. [الآية، ثم استثنى إلا من أكره] ثم نسخ واستثنى بقوله: ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ﴾ الآية، وهو عبد الله بن أبي سرح كان يكتب للنبي ﷺ فلحق بالمشركين، وأمر به النبي [ ﷺ] يوم فتح مكة، بأن يقتل فاستجار له عمر فأجاره رسول الله / ﷺ.
4098
قال: ﴿يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا﴾.
يوم منصوب برحيم. وقيل انتصب على إضمار: [و] اذكر ﴿يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا﴾.
ومعنى الآية: أن الله أعلمنا أن كل إنسان [منهم] يوم القيامة منشغل بنفسه، يطلب خلاصها. وروي أن كعباً قال لعمر [Bهـ]: تزفر جهنم يوم القيامة زفرة، فلا يبقى ملك مقرب، ولا نبي مرسل، إلا جثا على ركبتيه، يقول: يا رب نفسي، حتى أن إبراهيم، خليل الرحمن، ليجثو على ركبتيه. ويقول: لا أسألك إلا نفسي، ثم قال كعب: إن هذا لفي كتاب الله، ثم تلى: ﴿يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا﴾ الآية.
قوله: ﴿وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّ﴾.
4099
أي: ضرب الله مثلاً، مثل قرية، ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وقوله: ﴿آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً﴾ خبر بعد خبر. و ﴿رَغَداً﴾ مصدر في موضع الحال.
والمعنى: [و] مثل الله مثلاً لمكة التي سكنها أهل الشرك. والقرية مكة، في قول: ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد. وعن حفصة أم المؤمنين [Bها]: هي المدينة، والأول أشهر.
قال ابن شهاب: الغاسق إذا وقب: الشمس إذا غربت. والقرية التي أرسل
4100
إليهم اثنتان انطاكية، والقرية التي بحاضرة البحر، طبرية. والقرية التي كانت آمنة مطمئنة هي يثرب.
وقوله: ﴿كَانَتْ آمِنَةً﴾ أي: لا يخاف فيها أحد، لأن العرب كانت يسبي بعضها بعضاً، وأهل مكة لا يغار عليهم ولا يحاربوا في بلدهم.
ومعنى ﴿مُّطْمَئِنَّةً﴾: قارة بأهلها لا ينتجع أهلها من البلدان كما ينتجع أهل البوادي.
﴿يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً﴾ أي: يأتي أهلها معائشهم واسعة كثيرة ﴿مِّن كُلِّ مَكَانٍ﴾ من البلدان.
ومعنى: ﴿فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله﴾ أي: كفر أهلها بأنعم الله. وواحد الأنعم على
4101
مذهب سيبويه نعمة. وقال قطرب: واحدها نَعْم [مثل] وُدّ وأَوُدّ، وقال بعض الكوفيين: وأحدها نَعْماء [كبأ] ساء وأبْؤُس وضراء و [أ] ضر.
﴿فَأَذَاقَهَا الله﴾.
أي: أذاق أهلها ﴿لِبَاسَ الجوع﴾ أي: أذاقهم جوعاً خالط أجسامهم فجعل ذلك لمخالطته [جسادهم بمنزلة اللباس لها، وذلك أنه سلط عليهم الجوع سبع سنين متواليات حتى أكلوا العِلْهزَ. والعِلْهِزُ أن تُؤْخذ الحَلَمَة فَتُفْقأ على الوبر
4102
حتى يبتل بدمها، ثم يغلى ويؤكل. ويروى: أنهم أكلوا لحوم الكلاب. وأصل الذوق بالفم ولكنه استُعمِلَ هنا للآبتداء والاختبار.
وقوله: ﴿والخوف﴾. [هو] ما كان يلحقهم من سرايا رسول الله ﷺ وجيوشه كانت تطيف بهم.
وقوله: ﴿بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ﴾.
أي: بكفرهم وجحدهم للنعم.
وإنما قال: ﴿والخوف بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ﴾ ولم يقل: بما كانت تصنع لأنه رده على المعنى. لأن معنى ذكر / القرية في الآية: يراد به أهلها. فرجع " يصنعون " على المعنى: [و] مثله قوله ﴿وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ﴾ [الأعراف: ٤]. فرجع، آخر الكلام إلى
4103
الأهل، وقد جرى أوله على الأخبار عن القرية والمراد بها أهلها. وهذا هو قوله في السجدة: ﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنَ العذاب الأدنى دُونَ العذاب الأكبر﴾ [السجدة: ٢١] فالعذاب الأدنى [هو الجوع] والأكبر ما حل بهم يوم بدر من القتل والأسر. وهو أيضاً قوله: ﴿فارتقب يَوْمَ تَأْتِي السمآء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ﴾ [الدخان: ١٠] وهو الجوع، كان الرجل يرى بينه وبين السماء دخاناً من شدة الجوع.
قوله: ﴿وَلَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ﴾.
أي: ولقد جاء أهل هذه القرية، يعني مكة، ﴿رَسُولٌ مِّنْهُمْ﴾ أي: من أنفسهم يعرفونه ويعرفون نسبه وصدق لهجته فدعاهم إلى الحق ﴿فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ العذاب﴾ وهو: لباس الجوع والخوف، وقتلهم يوم بدر بالسيف ﴿وَهُمْ ظَالِمُونَ﴾ أي: مشركون.
قال [تعالى]: ﴿فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حلالا طَيِّباً﴾.
أي: فكلوا من الأنعام التي رزقكم الله خلالاً، أي: مذكاة على اسم الله ولا تَحرِّموها كما حَرَّمَتِ العرب الوصائل والسوائب والحامي وغير ذلك
4104
﴿واشكروا نِعْمَتَ الله﴾ أي: واشكروه على ما خلق لكم من ذلك، وما أحل لكم من أكله على غيره من النعم ﴿إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ أي: تطيعون.
وقيل: إنما عني بقوله: ﴿فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله﴾ الآية: المشركين وذلك أن النبي ﷺ لحقته رقة في أيام القحط فوجه إليهم طعاماً يرتفقون به، فأمرهم الله بأكله وبالشكر عليه إن كانوا يعبدون الله.
والقول الأول: [أولى] لأن بعده: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة﴾ وهذا إنما هو مخاطبة للمؤمنين بلا اختلاف.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمَ الخنزير﴾.
أي: إنما حرم عليكم ما مات من النعم حتف أنفه، والدم السائل وهو
4105
ثم قال تعالى :﴿ إنما حرم عليكم الميتة والدم٤ ولحم٥ والخنزير ﴾ [ ١١٥ ].
أي : إنما حرم عليكم ما مات من النعم حتف أنفه، والدم٦ السائل وهو المسفوح، ولحم٧ الخنزير ﴿ وما أهل لغير الله به ﴾ [ ١١٥ ] أي : ما ذبح للأنصاب٨ وسمي٩ عليه غير الله، فمن اضطر إلى شيء من ذلك في مخمصة وهي : المجاعة. حل له.
وقوله :﴿ غير باغ ولا عاد ﴾ [ ١١٥ ].
أي : باغ في أكله، ﴿ ولا عاد ﴾ أي : لا يتعدى حلالا إلى حرام، وهو يجد عنه مندوحة. ﴿ فإن الله غفور [ رحيم١٠ ] ﴾ [ ١١٥ ] أي : ساتر عليه ذنبه فلا يؤاخذه رحيم به أن يعاقبه على ذلك، وقد تقدم تفسير ﴿ غير باغ ولا عاد ﴾ في البقرة١١ بأبين من هذا.
٤ ط: وادم..
٥ ط: واللحم..
٦ ط: وادم..
٧ ط: واللحم..
٨ ط: الأصنام..
٩ ط: فسمي..
١٠ ساقط من ط..
١١ انظر: تفسير سورتي الفاتحة والبقرة ٢/٤٥٨..
المسفوح، ولحم الخنزير ﴿وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ﴾ أي: ما ذبح للأنصاب وسمي عليه غير الله، فمن اضطر إلى شيء من ذلك في مخمصة وهي: المجاعة. حل له.
وقوله: ﴿غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ﴾.
أي: باغ في أكله، ﴿وَلاَ عَادٍ﴾ أي: لا يتعدى حلالاً إلى حرام، وهو يجد عنه مندوحة. ﴿فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي: ساتر عليه ذنبه فلا يؤاخذه رحيم به أن يعاقبه على ذلك، وقد تقدم تفسير ﴿غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ﴾ في البقرة بأبين من هذا.
قال [تعالى]: ﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب هذا حَلاَلٌ وهذا حَرَامٌ﴾.
قرأ الحسن والأعرج وطلحة وأبو معمر: " الكَذِبِ " بالخفض على أنه
4106
نعت لما، أو بدل منه. ومن نصب جعله مفعولاً بتصف. وقرأ بعض أهل الشام: " الكُذُبُ " بضم الكاف والذل والباء، نعت للألسنة، جمع كذوب، مثل: شكور، وشكر.
ومعنى الآية: ولا تقولوا لوصف ألسنتكم الكذب فيما رزق الله عباده من المطاعم، هذا حلال وهذا حرام لكي تفتروا على الله الكذب فإنه لم يحرم من ذلك كثيراً مما تحرمون ولا أحل كثيراً مما تحلون. وذلك أن اليهود والمشركين أحلوا الميتة فقال المشركون: ﴿مَا فِي بُطُونِ هذه الأنعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أزواجنا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَآءُ﴾ [الأنعام: ١٣٩] يأكله الرجال والنساء.
ثم قال: ﴿إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ على الله الكذب﴾.
4107
أي: يتخرصونه ويختلقونه ﴿لاَ يُفْلِحُونَ﴾ أي: لا يخلدون في الدنيا ولا يبقون فيها. ﴿مَتَاعٌ قَلِيلٌ﴾ أي: الذي هم فيه من هذه الدنيا متاع قليل.
قال: ﴿وعلى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ﴾.
أي: وحرمنا يا محمد على اليهود ما قد أنبأناك به في سورة الأنعام. وهي: كل ذي ظفر والشحوم. قاله: عكرمة والحسن وقتادة.
وقوله: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ﴾.
[أي: وما ظلمناهم] بتحريمنا ذلك [عليهم] ﴿ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾.
ثم قال تعالى: ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السوء بِجَهَالَةٍ﴾، أي: للذين عصوا الله
[سبحانه] فجهلوا ثم راجعوا طاعة الله [ تعالى] والندم على ما عملوا والاستغفار منه ﴿وأصلحوا﴾ أي: عملوا ما يجب عليهم. ﴿إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا﴾ أي: من بعد ذنوبهم لهم " غفور رحيم ".
قال: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ﴾.
أي: [كان] معلم [خير] يأتم به أهل الهدى. قال مجاهد كان أمة على حدة. وروي عنه أنه قال: كان مؤمناً وحده والناس كلهم كفار. قال ابن مسعود: " الأمة " معلم الخير. ورواه مالك عن ابن مسعود أن [هـ] قال: " الأمة "
4109
الذي يعلم الناس الخير، " والقانت " المطيع لله تعالى ولرسوله ﷺ، " والحنيف " المخلص. قال مالك: وذكر عبد الله بن مسعود معاذ بن جبل فقال: يرحم [الله] معاذاً لقد كان أمة قانتاً لله [ تعالى] حنيفاً.
وأصل القنوت الطاعة. فكان إبراهيم عليه السلام قائماً لله [ تعالى]، ودعا إلى عبادته، ولم تأخذه في الله لومة لائم، فأعطاه الله تعالى ألا يبعث نبياً من بعده إلا من ذريته. وأعطاه الله تعالى ألا يسافر في جميع الأرض فتخطر سارة على قلبه إلا هتك الله ما بينه وبينها من الحجب حتى يراها ما تصنع. وكان ﷺ أول من اختتن، وأقام مناسك الحج، وضحى، وعمل بالسنن، نحو: قص الشارب والأظفار ونتف الإبط
4110
وحلق العنة وشبهه.
و" الحنيف ": الحاج في قول الضحاك، وعن ابن عباس: " الحنيف " المسلم. ويدل عليه قوله: ﴿وَمَا كَانَ مِنَ المشركين﴾ [النحل: ١٢٣] وقيل حنيفاً على دين الإسلام.
﴿وَلَمْ يَكُ مِنَ المشركين * شَاكِراً لأَنْعُمِهِ﴾ أي: مخلصاً بشكر الله [ تعالى] فيما أنعم عليه " واجتباه [واختاره] واصطفاه لخلته ﴿وَهَدَاهُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ أي: ارشده إلى الطريق المستقيم وذلك دين الإسلام.
قال تعالى: ﴿وَآتَيْنَاهُ فِي الدنيا حَسَنَةً﴾.
أي: ذكر [اً] جميلاً حسناً باقياً على الأيام ﴿وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين﴾ أي: أنه
4111
في الآخرة لمن صلح أمره وشأنه عند الله [ تعالى] وحسنت منزلته.
وقيل: معناه، وأنه في ثواب الآخرة / لمن الصالحين لأن الآخرة ليست بدار عمل إنما هي دار جزاء. فالمعنى: أنه وإن أعطي أجره في الدنيا، فإنه في الآخرة على مثل ثواب الصالحين، لا ينقصه من ثوابه شيء لأجل إيتائه أجره في الدنيا.
وقيل في الآية: تقديم وتأخير، والتقدير: وآتيناه أجره في الدنيا والآخرة وإنه لمن الصالحين. [و] في هذا القول: بعد، لأن ما بعد [إن] لا يقوى بها التقديم وما بعد: " إن " منتظر [لما] لم يكن، وما قبلها قد كان ووقع فلا يدخل أحدهما في الآخر.
وقيل المعنى: وأنه في أجر الآخرة والعمل لها لمن الصالحين. وهذا: قول صالح حسن.
قال مجاهد: الحسنة هنا لسان صدق. وقال قتادة: الحسنة أنه ليس أهل دين ألا يتولاه ويرضاه.
4112
قوله: ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾.
أي: أوحينا إليك يا محمد بأن تتبع دين إبراهيم مائلاً عن كل الأديان إلا عنه.
قال [تعالى]: ﴿إِنَّمَا جُعِلَ السبت على الذين اختلفوا فِيهِ﴾.
[أي: إنما فرض تعظيم السبت على الذين اختلفوا فيه].
فقال بعضهم: هو أفضل الأيام، لأن الله فرغ من خلق الأشياء يوم الجمعة، ثم سبت يوم السبت، وقال آخرون: أفضل الأيام [يوم] الأحد، لأنه [ال] يوم الذي ابتدأ فيه خلق الأشياء. واختلفوا في تعظيم غير ما فرض عليهم تعظيمه ثم استحلوه.
قال مجاهد: جعل السبت على الذين اختلفوا فيه فاتبعوه وتركوا يوم الجمعة. وقال قتادة: " اختلفوا فيه ": استحله بعضهم وحرمه بعضهم، وهو قول:
4113
ابن جبير.
وقال ابن زيد: كانوا يطلبون يوم الجمعة فأخطؤوه وأخذوا يوم السبت [فجعل عليهم، وقيل: إنهم ألزموا يوم الجمعة عيداً فخالفوا، وقالوا: نريد يوم السبت] لأنه يوم فرغ الله فيه من خلق السماوات.
وروي: أن عيسى [بن مريم] عليه السلام أمر النصارى أن يتخذوا يوم الجمعة عيداً فقالوا لا يكون عيدنا إلا بعد عيد اليهود فجعلوه الأحد. ويروى أن موسى عليه السلام قال لبني إسرائيل: تفرغوا لله في سبعة أيام في يوم تعبدونه ولا تعملون فيه شيئاً من أمور الدنيا، فاختاروا السبت فأمرهم موسى [ ﷺ] بالجمعة فأبوا إلا السبت، فجعله الله [ تعالى] عليهم.
ثم قال: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾.
أي: من هذه الأيام وفي استحلالهم للسبت.
4114
قال تعالى: ﴿ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة﴾.
أي: ادع يا محمد من أرسلت إليه إلى طاعة الله [ تعالى] والإقرار له بوحدانيته.
و" الحكمة " هنا: كتاب الله [سبحانه]. و " الموعظة الحسنة ": العبر التي هي حجة عليهم مما ذكرهم به من الآيات في كتابه.
﴿وجادلهم بالتي هِيَ أَحْسَنُ﴾ أي: جادلهم بالمجادلة التي هي أحسن من غيرها، وهي الصفح عنهم.
وقال الزجاج: " الحكمة " هنا: النبوة / و " الموعظة ": القرآن: ﴿وجادلهم بالتي هِيَ أَحْسَنُ﴾ غير فظ ولا غليظ القلب، أي: ألن لهم جناحك، وهي منسوخة عند جماعة من العلماء نسخها المر بالقتال.
وقيل: هي محكمة غير منسوخة، ومعناه: الانتهاء إلى ما أمر الله [ تعالى] به، وهذا لا ينسخ.
ثم قال: ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ﴾.
أي: بما حاد عن طريق الهدى من المختلفين في السبت وغيره.
﴿وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين﴾ أي: يسلك الطريق المستقيم.
قوله: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾ إلى آخر السورة.
المعنى: وإن ظفرتم أيها المؤمنون بالمشركين فافعلوا بكم
﴿وَلَئِن صَبَرْتُمْ﴾ عن عقوبتهم وأحسنتم [واحتسبتم] عند الله [ تعالى] ما نالكم منهم للصبر خير للصابرين.
وهذه الآيات الثلاث: نزلن بالمدينة دون سائر السورة. نزلت حين
4116
أقسم النبي ﷺ وأصحابه ليمثلن بالمشركين إن ظفروا بهم كما فعل المشركون بحمزة وغير [هـ] يوم أحد من التمثيل [بهم. وروي عن النبي ﷺ " لما بلغه ما فعلوا بحمزة من التمثيل].
قال: " لئن ظهرنا عليهم لنمثلن بثلاثين رجلاً منهم " فلما سمع ذلك المسلمون قالوا: والله لئن أظهرنا الله عليهم لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب فأمرهم الله [ تعالى] أن يفعلوا بهم مثل ما فعلوا، ولا يتجاوزوا إلى أكثر، ثم أعلمهم أن الصبر وترك الانتقام بالمثلة خير وأحسن.
وقيل: إنها منسوخة بقوله: ﴿واصبر وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بالله﴾
وقيل: هي منسوخة بالقتال والأمر به، وإنما كان هذا أمر الله [ تعالى] نبيه [ ﷺ] ألا يقاتل إلا من قاتله لقوله: ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تعتدوا﴾ [البقرة: ١٩٠].
4117
أي: تقاتلوا من لم يقاتلكم. فقال المسلمون إن قاتلونا وأظهرنا الله تعالى عليهم لنمثلن بهم فنسخ ذلك في براءة بقوله ﴿فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ﴾ [التوبة: ٥] وهذا القول: مروي عن ابن عباس.
ومن قال: إن هذه الآية، قال: عني بقوله ﴿واصبر وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بالله﴾ نبي الله [ تعالى] وحده ثم نسخ ذلك بالأمر بالقتال في براءة وهو قول ابن زيد.
وعن ابن سيرين والنخعي وسفيان: إن الآية عامة معناها من ظلم بظلامة فلا يحل [له] أن يأخذ من ظالمه أكثر مما ناله منه ولا يتجاوز إلى أكثر من حقه.
وروى أبو هريرة: " أن النبي ﷺ وقف على حمزة بن عبد المطلب حيث استشهد فنظر إلى شيء لم ينظر قط إلى شيء كان أوجع منه لقلبه ونظر إليه، قد مثل به، فقال:
4118
رحمة الله عليك، فإنك كنت ما علمتك، فعولاً للخيرات، وصولاً للرحم، ولولا حزن من بعدك لسرني أن أدعك حتى تحشر من أفواه شتى. أما والله، مع ذلك، لأمثلن بسبعين منهم. فنزل جبريل [والنبي صلى الله / عليهما] واقف بخواتم النحل ".
﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ﴾ الآية. فصبر النبي ﷺ، وكفر عن يمينه، ولم يمثل بأحد.
ثم قال تعالى: ﴿واصبر وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بالله﴾.
أي: اصبر يا محمد على أذى من أذاك، وما صبرك إذا صبرت إلا بمعونة الله [لك] وتوفيقه إياك لذلك.
﴿وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ﴾ أي: على هؤلاء المشركين الذين يكذبون ويمثلون بالمسلمين. ﴿وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ﴾ أي: لا يضيق صدرك من قولهم فيما جئتهم به أنه سحر، وأنه شعر، والمكر الخديعة. ﴿إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا﴾ [أي: الذين اتقوا] محارمة ﴿والذين هُم مُّحْسِنُونَ﴾ أي: الذين احسنوا فيما فرض الله عليهم.
4119
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
تَخَوَّفَ السَّيْرُ مِنْهَا تَامِكاً قَرِداً كَمَا تَخَوَّفَ عُودَ النَّبْعَةِ السَّفِنُ