تفسير سورة النحل

أوضح التفاسير
تفسير سورة سورة النحل من كتاب أوضح التفاسير المعروف بـأوضح التفاسير .
لمؤلفه محمد عبد اللطيف الخطيب . المتوفي سنة 1402 هـ

﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ﴾ بمعنى سيأتي؛ وعبر تعالى بالماضي: لتيقن وقوعه؛ وهو البعث والنشور والحساب ﴿فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ﴾ وتقولوا: متى؟ وأين؟ وأيان؟ ﴿سُبْحَانَهُ﴾ تقدس وتنزه (انظر آية صلى الله عليه وسلّم من سورة الإسراء)
﴿يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالْرُّوحِ﴾ بالوحي ﴿مِنْ أَمْرِهِ﴾ بإرادته ﴿عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ الذين اصطفاهم لنبوته، واختارهم لرسالته
﴿خَلَقَ الإِنْسَانَ مِن نُّطْفَةٍ﴾ مني (انظر آية ٢١ من الذاريات) ﴿فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ﴾ خصم شديد الخصومة لمن خلقه ورزقه
﴿وَالأَنْعَامَ﴾ الإبل والبقر والغنم ﴿خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ﴾ من أصوافها وأوبارها وأشعارها؛ تصنعون كساء، ورداء، وغطاء لكم فيها ﴿مَنَافِعُ﴾ تنتفعون بركوبها، وتشربون من ألبانها
﴿وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ﴾ زينة ﴿حِينَ تُرِيحُونَ﴾ من الإراحة؛ أي حين تردونها في العشي من مسارحها ومراعيها؛ إلى مراحها ومنازلها التي تأوي إليها ﴿وَحِينَ تَسْرَحُونَ﴾ بها، وتخرجونها من مراحها إلى مرعاها في الصباح
﴿وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ﴾ بعيد ﴿لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ﴾ بجهدها ومشقتها
﴿وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ من وسائل النقل والركوب: كالقاطرات، والسيارات، والطائرات، وغيرها
﴿وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ﴾ أي وعليه تعالى هداية الطريق المستقيم ﴿وَمِنْهَا جَآئِرٌ﴾ أي ومن هذه السبل ما هو مائل عن الاستقامة ﴿وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ قسراً وجبراً؛ ولكنه تعالى أراد أن تهتدوا بالحجة والبرهان
﴿فِيهِ تُسِيمُونَ﴾ أي من الشجر تأكلون؛ وهو من سامت الماشية: إذا رعت
﴿يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ﴾ أي بالماء النازل من السماء ﴿الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ﴾ (انظر آية ٢٦٦ من سورة البقرة) ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ الإنزال، والإنبات ﴿لآيَةً﴾ دالة على قدرة الخالق ووحدانيته وعظمته ﴿لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ أي لهم عقول يفكرون بها في الأسباب ومسبباتها، والخالق تعالى ومخلوقاته
﴿وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ﴾ ما خلق لكم ﴿فِي الأَرْضِ﴾ من الحيوان، والنبات، وغيره ﴿مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ﴾ كالأحمر، والأصفر، والأخضر، والأسود، والأبيض. ويجوز أن يكون معنى «مختلفاً ألوانه» أي متعدداً أصنافه وأشكاله
﴿وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ﴾ أي من البحر ﴿حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا﴾ كاللؤلؤ والمرجان ﴿وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ﴾ أي جواري في البحر؛ تمخر الماء: أي تشقه ﴿وَلِتَبْتَغُواْ﴾ لتطلبوا بواسطة هذه الفلك ﴿مِن فَضْلِهِ﴾ من رزقه تعالى؛ بالانتقال للاتجار من بلد إلى بلد
﴿وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ﴾ جبالاً ثوابت ﴿أَن تَمِيدَ بِكُمْ﴾ أي لئلا تميد الأرض بكم وتضطرب ﴿وَسُبُلاً﴾ طرقاً تسيرون فيها.
﴿وَعَلامَاتٍ﴾ تستدلون بها - في سيركم - على الطرقات؛ كالجبال، والوديان، والأنهار ﴿وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ﴾ إلى الطرق، وإلى الجهات، وإلى القبلة
﴿أَفَمَن يَخْلُقُ﴾ جميع ذلك، ويديره، ويدبره، ويحفظه، ويكلؤه؛ وهو الله الكبير المتعال ﴿كَمَن لاَّ يَخْلُقُ﴾ شيئاً أصلاً؛ بل يفتقر إلى خالق يخلقه، وموجد يوجده؛ وهو الصنم الذي تعبدونه ﴿أَفَلا تَذَكَّرُونَ﴾ أفلا تتذكرون ذلك؛ فتؤمنوا ب الله الخالق البارىء المصور
﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ﴾ عليكم ﴿لاَ تُحْصُوهَآ﴾ وكيف تحصى أنعمه تعالى؛ وهي لا يحدها حد، ولا يحصيها عد؛ ويكفينا من أنعمه تعالى: واسع رحمته؛ ومزيد مغفرته ﴿إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ﴾ لكم ﴿رَّحِيمٌ﴾ بكم قال الحسن رضي الله تعالى عنه: إن لله في كل عضو نعمة؛ فيستعين بها الإنسان على المعصية. اللهم لا تجعلنا ممن يتقوى بنعمتك على معصيتك؛ وهب لنا لساناً ذاكراً، وقلباً خاشعاً، وجوارح لا تعمل إلا في طاعتك؛ وجنبنا معصيتك، وأدخلنا جنتك؛ بمنك ورحمتك (انظر آية ٣٤ من سورة إبراهيم)
﴿وَالَّذِينَ يَدْعُونَ﴾ يعبدون ﴿مِن دُونِ اللَّهِ﴾ غيره ﴿لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ﴾ أرأيت إلى الصنم: هل يستطيع أن يوجد بنفسه؛ من غير موجد له؟
﴿أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾ أي لا يعلمون في أي وقت يبعث عبدتهم
﴿فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ﴾ وما فيها من بعث وحساب، ونعيم وعذاب ﴿قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ﴾ جاحدة: لا تقبل الوعظ، ولا ينفع معها النصح؛ لأنهم أصروا على عدم الاستماع، ولأن الذي لا يؤمن بالآخرة: لا يرجو ثواباً، ولا يخشى عقاباً ﴿وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ﴾ عن الاستماع والانتفاع
﴿لاَ جَرَمَ﴾ أي لا بد ولا محالة أن يؤول حالهم إلى ما آل إليه، وأن تنكر قلوبهم الوعظ، وتأبى الرشاد، وأن يستكبروا عن الإيمان؛ ووٌوٍوَوُوِ} في قلوبهم
﴿وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ بألسنتهم وجوارحهم
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَّاذَآ أَنْزَلَ رَبُّكُمْ﴾ على محمد ﴿قَالُواْ أَسَاطِيرُ﴾ أباطيل وأكاذيب ﴿الأَوَّلِينَ﴾ الأمم الماضية
﴿لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ﴾ ذنوبهم ﴿وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ﴾ أي وليحملوا أوزاراً أخرى مع أوزارهم؛ وهي أوزار الناس الذين تسببوا في إضلالهم ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ ممن ضلوا بسببهم بأنهم ضلال ﴿أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ﴾ أي بئس ما يحملونه من ذنوبهم وآثامهم، وذنوب وآثام غيرهم
﴿قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ كفروا مثل كفرهم، وأضلوا مثل إضلالهم ﴿فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ﴾ قوضه وخربه ﴿مِّنَ الْقَوَاعِدِ﴾ من الأساس؛ حتى لا تقوم له قائمة بعد ﴿فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ﴾ أي وهم تحته فهلكوا. وقد ذهب أكثر المفسرين إلى أن هذا الكلام على حقيقته؛ وأن المراد به نمرود بن كنعان - الذي حاج إبراهيم في ربه - أو جباراً آخر من جبابرة
-[٣٢٢]- النبط أو بختنصر، أو هامان. والذي أراه أن الله تعالى شبه هلاك الأمم المتقدمة واستئصالهم: بمن أقاموا في بيت انهارت أسسه؛ فخر عليهم سقفه ﴿وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ﴾ ولا يتوقعون
ويصح أن يكون الكلام على حقيقته؛ إذا أطلق على الأمم المتقدمة: كقرى قوم لوط، قال تعالى في وصف تعذيبهم ﴿فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا﴾ وذلك بأن أتى قواعدها؛ بأن زلزل أرضها زلزالاً عنيفاً، ورفعها بما فيها ومن فيها؛ وجعل عاليها سافلها: فصارت سماؤها أرضاً، وأرضها سقفاً ﴿فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ﴾
﴿ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ﴾ يذلهم ﴿وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ﴾ الذين كنتم تشركونهم معي في العبادة، و ﴿الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ﴾ أي تعادون وتخاصمون المؤمنين ﴿قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ﴾ هم الملائكة، أو الأنبياء، أو المؤمنون {إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالْسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ *
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} الموكلون بقبض الأرواح؛ حال كونهم ﴿ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾ بالكفر والعصيان، وتعريضها للعقاب ﴿فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ﴾ استسلموا على خلاف عادتهم في الدنيا من العناد والمكابرة؛ وقالوا: ﴿مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ﴾ أنكروا السوء يوم القيامة؛ وقد انغمسوا فيه طوال حياتهم؛ فتقول لهم الملائكة ﴿بَلَى﴾ قد كنتم تعملون السوء وتنشرونه ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ فمجازيكم عليه
﴿فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ﴾ بئس المقام مقامهم
﴿وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ﴾ أنزل ﴿خَيْراً﴾ وصدقاً وسموا ما أنزله الله تعالى ﴿خَيْراً﴾ لأنه قد تسبب لهم في خيري الدنيا والآخرة فبعث فيهم الطمأنينة في الدنيا، وهدوء النفس، وسعادة الروح وذلك بما أمدهم به من إخوة إنسانية، ومن مكارم أخلاق ومن تضحية بمصالح الفرد في سبيل المجتمع، ومن حب للخير، وحث على الإحسان والبذل كما أن القرآن الكريم قد تسبب أيضاً في دخول الجنان، ورضا الرحمن وهما الأجر الذي أعده الله تعالى لمن اتبع قرآنه، وأطاع نبيه
﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذِهِ الْدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ﴾ مما يناله الإنسان في الدنيا ﴿وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ﴾ الذين يخشون ربهم، ويخافون سوء الحساب
﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ﴾ جنات الإقامة؛ من عدن في المكان: إذا أقام فيه
﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ﴾ بقبض أرواحهم ﴿طَيِّبِينَ﴾ مؤمنين، طاهرين من الكفر ﴿يَقُولُونَ﴾ أي يقول الملائكة لهم عند الموت ﴿سَلامٌ عَلَيْكُمُ﴾ وقد ورد أنهم يقولون للمؤمن قبل قبض روحه: ربك يقرئك السلام؛ فتنفرج
-[٣٢٣]- أساريره، ويضيء وجهه بالابتسام؛ ويقال لهم في الآخرة ﴿ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ﴾ أي تقول لهم الملائكة ذلك عند الموت؛ لأن المؤمن وقتذاك يرى مقعده من الجنة {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ *
هَلْ يَنْظُرُونَ} أي ما ينتظر الكفار ﴿إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ﴾ لقبض أرواحهم بالعنف والشدة ﴿أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ﴾ بالعذاب ﴿وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ﴾ بتعذيبهم ﴿وَلكِن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ بكفرهم وتعريضها للعقاب
﴿فَأَصَابَهُمْ﴾ أي فالذي أصابهم هو ﴿سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ﴾ أي جزاؤها ﴿وَحَاقَ بِهِم﴾ نزل وأحاط
﴿وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ﴾ عبث يقولونه، وباطل يزعمونه: فقد أرسل الله تعالى رسله، وأمرهم بتبليغ دينه الذي ارتضاه لعباده، وخلق لهم العقل الذي به يفهمون ما ينفعهم فيتبعونه، ويدركون ما يضرهم فيجتنبونه ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ﴾ وبعد ذلك قال تعالى: ﴿فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ فهل بعد ذلك عذر لمعتذر؟ وهل بعد هذا قول لقائل ﴿لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ﴾ ﴿وَلاَ حَرَّمْنَا﴾ البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحامي. وقولهم هذا يحمل بين طياته الاستهزاء، والتحدي، والسخرية؛ وإلا فهو إيمان مشوب بعصيان؛ لأنه اعتراف ب الله تعالى وقد عبدوا غيره، وإقرار بمشيئته وقد أنكروا وجوده ﴿كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ مثل فعلهم، واحتجوا بمثل احتجاجهم، وتناسوا كسبهم لكفرهم ومعاصيهم، وأن جميع ذلك قد كان بمحض اختيارهم؛ بعد أن أنذرتهم رسلهم مغبة أعمالهم، وحذرتهم غضب ربهم وعقابه
﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً﴾ لإقامة الحجة عليهم ﴿أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطَّاغُوتَ﴾ الشيطان؛ أو هو كل رأس في الكفر والضلال، أو هو كل ما يؤدي إلى الطغيان إلى الإيمان ﴿وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ﴾ وجبت بإصراره على الكفر، واستكباره عن الإيمان
﴿وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾ أي نهاية طاقتهم في الأيمان ﴿لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ﴾ أي لا يحييه ثانية للحساب والجزاء (انظر مبحث التعطيل بآخر الكتاب).
﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ هو تقريب للأذهان؛ والحقيقة أنه تعالى لو أراد شيئاً لكان؛ بغير حاجة للفظ «كن»
﴿لَنُبَوِّئَنَّهُمْ﴾ لنسكننهم ﴿فِي الْدُّنْيَا حَسَنَةً﴾ أي لنبوئنهم تبوئة حسنة؛ وهي سكنى المدينة المنورة؛ على ساكنها أفضل الصلاة وأتم السلام وأي تبوئة حسنة أفضل من أن ينزل الإنسان بين من يحب، وأن يعيش بين الأطهار الأخيار
﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن﴾ العلماء بالتوراة والإنجيل؛ عمن أرسلنا من قبل محمد ﴿إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ﴾ بمن أرسلنا من قبل: من رسل؛ ليسوا بالملائكة، بل رجالاً من البشر نوحي إليهم؛ كما أوحينا إلى رسولكم محمد
﴿بِالْبَيِّنَاتِ﴾ الحجج الواضحات ﴿وَالزُّبُرِ﴾ الكتب ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ﴾ يا محمد ﴿الذِّكْرِ﴾ القرآن؛ كما أنزلنا على من قبلك من الرسل ﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ فيه: من الحلال والحرام، والأوامر والنواهي، والوعد والوعيد، وغير ذلك
﴿أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ﴾ أي مكروا بالسيئات. والمكر: الاحتيال والخديعة؛ وقد يقصد بهم الذين يعلنون بالإيمان؛ وليسوا بمؤمنين، ويتباهون بالطاعة؛ وليسوا بطائعين، ويتظاهرون بالعبادة؛ وليسوا بعابدين أفأمن هؤلاء ﴿أَن يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ﴾ كما خسفها بقارون ﴿أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ﴾ أي من حيث لا يتوقعون؛ كما فعل بأصحاب الظلة. وقد أمطرتهم السحابة ناراً؛ عند توقعهم الماء والرخاء
﴿أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ﴾ في ذهابهم ومجيئهم، وسفرهم للتجارة ﴿فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ﴾ الله، أو فائتين العذاب الذي يريد إنزاله بهم
﴿أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ﴾ أي حال كونهم خائفين مترقبين متوقعين العذاب
-[٣٢٥]- ﴿فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ﴾ بالناس ﴿رَّحِيمٌ﴾ بهم؛ حيث لم يعاجلهم بالعقوبة؛ بل ويعفو عن كثير من ذنوبهم، ويملي لهم علهم يرجعوا عن غيهم وبغيهم
﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ﴾ قائم: كجبل وشجرة، ونحوهما؛ مما له ظل متحرك ﴿يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ﴾ يرجع من موضع إلى موضع؛ تبعاً لسير الشمس؛ فهو في أول النهار - عند طلوع الشمس - على حال، وفي وسطه - عند الزوال - على حال، وفي آخر النهار - عند الغروب - على حال أخرى مغايرة
﴿عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ﴾ أي عن جانبيهما؛ بالغدو والآصال ﴿سُجَّداً لِلَّهِ﴾ تسجد له صباحاً ومساءًا: عند شروق الشمس وعند غروبها. وقيل: ظل كل شيء: سجوده؛ يسجد ظل المؤمن طوعاً، ويسجد ظل الكافر كرهاً ﴿وَهُمْ دَاخِرُونَ﴾ صاغرون، مطيعون
﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ﴾ وهي كل ما يدب دبيباً ﴿وَالْمَلائِكَةُ﴾ وهم أهل الملإ الأعلى، وأعيان المخلوقات؛ يسجدون أيضاً ﴿وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ﴾ عن عبادة ربهم؛ كما يستكبر بعض حثالة البشر عن عبادته تعالى
﴿وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً﴾ أي واجباً ثابتاً دائماً
﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ﴾ أيّ نعمة: صغرت أو كبرت، قلّت أو جلّت ﴿فَمِنَ اللَّهِ﴾ هو وحده مصدرها وهو وحده - جل شأنه - مبدعها ومنشئها، والمتفضل بها أليس هو المتفضل بحسن الخلق وسعة الرزق؟ وصحة الجسم، وبرء السقم؟
﴿ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ﴾ المرض، أو الفقر ﴿فَإِلَيْهِ﴾ وحده لا إلى غيره ﴿تَجْأَرُونَ﴾ تتضرعون. والجؤار: رفع الصوت بالدعاء والاستغاثة
﴿وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ﴾ من الأصنام؛ أي لا يعلمون أنها آلهة ﴿نَصِيباً مِّمّا رَزَقْنَاهُمْ﴾ من الأنعام والحرث ﴿فَقَالُواْ هَذَا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا﴾ ﴿تَاللَّهِ﴾ قسم فيه معنى التعجب ﴿لَتُسْأَلُنَّ﴾ يوم القيامة ﴿عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ﴾ على الله؛ بنسبة الشريك إليه
﴿وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ﴾ كانوا يقولون: إن الملائكة بنات الله. تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً ﴿سُبْحَانَهُ﴾ تقدس وتنزه (انظر آية صلى الله عليه وسلّم من سورة الإسراء) ﴿وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ﴾ أي ﴿وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ﴾
ويتمنون لأنفسهم الذكران الذين يشتهونهم؛ ذلك لأنهم
﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى﴾ ولدت له ﴿ظَلَّ﴾ صار وبقي ﴿وَجْهُهُ مُسْوَدّاً﴾ من الحزن والغم الذي اعتراه ﴿وَهُوَ كَظِيمٌ﴾ مملوء حنقاً وغيظاً
﴿يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ﴾ خجلاً ﴿مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ﴾ مما لا يريده ولا يرغب فيه. ومن عجب أن هذا شأن بعض الجهال والسفهاء في هذه الأيام؛ وقد تكون الأنثى خيراً من الذكر عاقبة؛ وأتقى وأنجب؛ وما يرسل ربك الإناث إلا بقدر، ولا يرسل الذكران إلا بسبب ﴿ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ الذي ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ﴾ ﴿أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ﴾ أي أيمسك ذلك المولود الأنثى على ذل وهوان ﴿أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ﴾ وهوالوأد. وقد كانوا يدفنونهن أحياء؛ خشية ما يتوهمونه من عار وفقر غير محققين (انظر آية ٨ من سورة التكوير) ﴿أَلاَ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ أي ساء هذا الحكم الذي يحكمونه، على شيء لا يعلمونه وهم بفعلهم هذا لا يؤمنون بالآخرة؛ ولو آمنوا بها ما فعلوا فعلتهم هذه
﴿لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ﴾ أي صفة السوء: وهو الجهل، والكفر (انظر مبحث التعطيل بآخر الكتاب) ﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى﴾ الصفة العليا، والمثل الكاملة؛ التي لا يتصف بها المخلوقون: فاتصافه تعالى بالعلم والكرم؛ ليس كاتصاف سائر البشر بهما؛ إذ أن علم البشر وكرمهم محدودان. وعلمه تعالى وكرمه لا يحد. واتصافه جل شأنه بالكبرياء والجبروت؛ ليس ككبرياء البشر وجبروتهم؛ إذ أن تكبرهم وتجبرهم مذموم مؤاخذ عليه، وكبرياؤه تعالى وجبروته لازمة من لوازم ربوبيته ووحدانيته، فإذا ما استطاع إنسان أن يفهم الكمال الإلهي حق الفهم: ازداد ب الله معرفة، ومنه قرباً والتعرف إليه تعالى يحتاج إلى استعداد مخصوص فكلما ازداد تمسك العارف ب الله بأهداب الفضائل الإنسانية؛ التي أمر بها الشرع، وحث عليها الدين نما حبه لله، وأحبه الله
وإنه مما لا شك فيه أن الإنسان الكريم: أحسن فهماً، وأصدق عبادة، وأرق قلباً من البخيل. وكذلك الإنسان الرحيم: أشد خوفاً لله من القاسي. والصبور: أكثر إيماناً من الأحمق النافد الصبر. والعالم: أشد معرفة من الجاهل.
وهكذا كلما ازداد الإنسان تعلقاً بالفضائل والمثل العليا: كان أكثر محبة لله، وأكبر معرفة به،
-[٣٢٧]- وأشد قرباً منه وأمكنه بواسطة هذه الطاقات والإمكانيات أن يتذوق الحب الإلهي ويستشعر ما أعده الله تعالى له من نعيم مقيم؛ فيظل طوال حياته سعيداً بإيمانه، سعيداً بقربه، سعيداً بحبه لأنه علم علم اليقين: أن ﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى﴾ وأنه جل شأنه: الواحد الأحد، الفرد الصمد، القادر المقتدر، الجبار المتكبر، الخالق الرازق، المعطي المانع، الخافض الرافع؛ الذي لا إله إلا هو ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ﴾ في ملكه، الغالب الذي لا يغلب ﴿الْحَكِيمُ﴾ في خلقه؛ المدبر لأمورهم
﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ﴾ بكفرهم، وفسقهم، وعدوانهم ﴿مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ﴾ وهي كل ما يدب على الأرض: من إنسان، وحيوان، وغيرهما ﴿وَلكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ وهو انتهاء آجالهم ﴿فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً﴾ المراد بالساعة هنا: أي زمن؛ طال أو قصر ﴿وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ﴾ ساعة
﴿وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ﴾ بزعمهم أن الملائكة بنات الله ﴿وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ﴾ تقوله وتشيعه؛ يزعمون ﴿أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى﴾ الجنة. ومن ذلك قولهم: ﴿وَلَئِن رُّجِّعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى﴾ ﴿لاَ جَرَمَ﴾ لا بد ولا محالة ﴿أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ﴾ لا الجنة كما يزعمون ﴿وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ﴾ مهملون يوم القيامة؛ لا يعبأ بهم، متروكون من رحمة الله تعالى ومغفرته قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا﴾ ﴿تَاللَّهِ﴾ قسم فيه معنى التعجب
﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَآ﴾ رسلنا ﴿إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ﴾
كفرهم؛ فلم يؤمنوا برسلهم، كما لم يؤمن قومك بك ﴿فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ﴾ أي متولي أمورهم في الدنيا: يسوق لهم فيها ما يشتهونه. أو المراد باليوم: يوم القيامة؛ أي هو متولي أمورهم فيه؛ ولما كان الشيطان عاجزاً عن إنجاء نفسه فيه؛ فهو عن إنجاء غيره أعجز
﴿فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ﴾ بالإنبات ﴿بَعْدَ مَوْتِهَآ﴾ بالجدب
﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ﴾ الإبل والبقر والغنم ﴿لَعِبْرَةً﴾ لعظة واعتبار ﴿نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ﴾ وهو ما يحتويه الكرش ﴿وَدَمٍ﴾ وهو ما يجري في العروق ﴿لَّبَناً خَالِصاً﴾ من الشوائب؛ لم يختلط بالفرث، ولم يؤثر فيه الدم ﴿سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ﴾ سهل المرور في حلوقهم؛ لا يغص به شاربه أبداً
﴿وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ﴾ (انظر آية ١٦٦ من سورة البقرة) ﴿تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً﴾ خمراً؛ نزلت قبل تحريمها. وقيل: السكر: الخل. ﴿وَرِزْقاً حَسَناً﴾ كالبلح المجفف، والزبيب، وما شاكلهما.
والمعنى: لقد أنعم الله تعالى عليكم بثمرات النخيل والأعناب؛ فاتخذتم منه ما حرم الله عليكم - اعتداء منكم - وطعمتم منه حلالاً طيباً؛ فكيف تقلبون أنعم الله تعالى عليكم نقماً، وتستبدلون شكره كفراً؟
﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ﴾ وحي إلهام؛ أي ألهمه ﴿وَمِمَّا يَعْرِشُونَ﴾
-[٣٢٨]- أي ومما تبنيه الناس من الخلايا؛ لأن العرش: يطلق على عش الطائر
﴿فَاسْلُكِي سُبُلَ﴾ طرق ﴿رَبُّكَ﴾ التي رسمها لك، وألهمك باتباعها ﴿ذُلُلاً﴾ سهلة مذللة ﴿يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ﴾ هو العسل ﴿مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ﴾ اختلافاً كثيراً؛ يرجع إلى عوامل عدة؛ منها: نوع النحل، وما يطعمه من رحيق الأزهار والفاكهة، وزمن الانتاج، وغير ذلك ﴿فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ﴾ فقد ثبت بالتجربة أنه دواء نافع، وعلاج ناجع لكثير من الأدواء الفتاكة؛ ويفسده شرب الماء عقبه. وقد أثبت الطب الحديث: أن العسل يحوي مقداراً كبيراً من الجلوكوز. والجلوكوز هذا قد أصبح سلاحاً للطبيب في كثير من الحالات؛ والعسل: شفاء فعال للضعف العام، والتسمم، وأمراض الكبد، والاضطرابات المعوية، والالتهاب الرئوي، والذبحة الصدرية، وسائر أنواع الحميات، واحتقان المخ، وضعف القلب، والحصبة؛ وغير ذلك من الأمراض المستعصية؛ فسبحان من أودع فيه كل هذه الخواص، ونبهنا للانتفاع بها (انظر آية ٣٨ من سورة الأنعام)
﴿وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ﴾ أردئه؛ وهو الكبر، والمؤدي إلى الهرم والخرف ﴿لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً﴾ أي لينسى ما علمه، أو لعدم استطاعته الفهم: لذهوله. قال عكرمة: من قرأ القرآن: لم يصر بهذه الحالة
﴿وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ﴾ فجعل منكم الأغنياء والفقراء، والسادة والعبيد ﴿فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ﴾ وهم السادة ﴿بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ﴾ أي ليسوا برازقي عبيدهم ومواليهم ﴿فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ﴾
أي فالسادة ومواليهم في الرزق سواء؛ لأن الله تعالى هو الرزاق للجميع: يرزق السيد برزق عبيده وكان ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يطعم خادمه مما يطعم، ويلبسه مما يلبس، ويقول: ﴿فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ﴾ ﴿أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ﴾ وفضله عليهم ﴿يَجْحَدُونَ﴾ ينكرونها، فيتوهمون أنهم رازقوا عبيدهم ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً﴾ الحفدة: أبناء الأبناء. وقيل: هم الأصهار، وقيل: هم بنو الزوجة: من رجل آخر
﴿أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ﴾ أي بالأصنام، وبأنها تشفع لهم ﴿وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ﴾ الإسلام ﴿هُمْ يَكْفُرُونَ﴾ أو بأنعمه المتوالية عليهم في كل وقت وحين
﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً﴾ له وللأصنام، أو للمؤمن والكافر ﴿عَبْداً مَّمْلُوكاً﴾ حقيراً ﴿لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ﴾ لا يملك شيئاً، ولا يستطيع التصرف في شيء ﴿وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً﴾ حلالاً طيباً ﴿فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً﴾ أو هو مثل للبخيل - عبد المال وأسيره ومملوكه - والكريم المنفق
﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً﴾ آخر؛ للمؤمن والكافر، أوله تعالى وللأصنام ﴿رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ﴾ أخرس: لا ينطق
-[٣٢٩]- ﴿لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ﴾ فلا ينطق بكلمة التوحيد، أو لا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر ﴿وَهُوَ كَلٌّ﴾ عالة ﴿عَلَى مَوْلاهُ﴾ على سيده ﴿أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ﴾ سيده لقضاء مصلحة، أو لدفع ضرر عن نفسه ﴿لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ﴾ يعود عليه ﴿هَلْ يَسْتَوِي﴾ هذا الأبكم العاجز العالة ﴿هُوَ وَمَن﴾ يرى ويسمع وينطق، و ﴿يَأْمُرُ﴾
الناس وينهاهم عن المنكر ﴿وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ طريق سوي
﴿وَمَآ أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ﴾ كطرفة العين ﴿أَوْ هُوَ أَقْرَبُ﴾ من ذلك؛ لأن أمر الساعة يكون بلفظ «كن»
﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً﴾ فعلمكم كل ما تحتاجون إليه ﴿عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ﴾ الذي تسمعون به؛ ولا تعلمون كنهه ﴿وَالأَبْصَارَ﴾ التي تبصرون بها؛ ولا تدرون ماهيتها ﴿وَالأَفْئِدَةَ﴾ القلوب التي تفقهون بها ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ الله تعالى على أنعمه التي لا تعد، ولا تحد،
﴿مَا يُمْسِكُهُنَّ﴾ في الهواء أن يقعن على الأرض ﴿إِلاَّ اللَّهُ﴾ فهو تعالى مسخر الهواء الذي يسبح فيه الطير، وهو الذي ألهمه وعلمه كيف يقبض أجنحته ويبسطها
﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً﴾ موضع سكون وراحة ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً﴾ هي الخيام والقباب والمظلات ﴿تَسْتَخِفُّونَهَا﴾ تحملونها بسهولة لخفتها ﴿يَوْمَ ظَعْنِكُمْ﴾ سفركم ﴿وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ أَثَاثاً﴾ هو متاع البيت ﴿وَمَتَاعاً﴾ كل ما يتمتع به؛ كالبسط، والأكسية، وشبههما ﴿إِلَى حِينٍ﴾ تبلى، أو إلى حين تموتون ﴿مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً﴾ من البيوت والشجر ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً﴾ الكن: ما يستر؛ من كهف وغار ونحوهما
﴿وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ﴾ ثياباً؛ واحدها سربال: كسراويل وسروال ﴿تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾ نبه تعالى إلى أن اللباس؛ كما أنه يمنع أذى البرد فإنه يمنع أذى الحر أيضاً ﴿وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ﴾ وهي الدروع والزرد من الحديد؛ ترد عنكم سلاح عدوكم
﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ﴾ أعرضوا عن الإيمان
-[٣٣٠]- ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ﴾ إبلاغ ما أنزلته عليك إليهم ﴿الْمُبِينُ﴾ الواضح؛ المذهب لكل شك، الدافع لكل ريب
﴿يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ﴾ محمداً عليه الصلاة والسلام؛ لأنه وارد في كتبهم، بشرت به أنبياؤهم ﴿ثُمَّ يُنكِرُونَهَا﴾ بتكذيبه، وعدم الإيمان به. أو ﴿يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ﴾ التي عددها وبيّنها في هذه السورة وغيرها من السور ﴿ثُمَّ يُنكِرُونَهَا﴾ بترك الشكر عليها، أو يعرفونها في الشدة، وينكرونها في الرخاء، أو يعرفونها بقلوبهم، ويجحدونها بألسنتهم؛ ونظيره قوله تعالى: ﴿وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ﴾
﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً﴾ يوم القيامة: وهو نبيها؛ يشهد لها أو عليها
﴿ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ في الكلام أو الاعتذار ﴿وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ﴾ أي ولا يعاتبون؛ لأن العتاب لا يكون إلا بين الأحباء؛ وهو نعمة حرم الله تعالى على الكافرين نيلها
﴿وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ﴾ لا يمهلون
﴿وَإِذَا رَأى الَّذِينَ أَشْرَكُواْ شُرَكَآءَهُمْ﴾ الذين كانوا يعبدونهم: من الشياطين والأصنام وغيرها ﴿فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ﴾ أي قال المعبودون للعابدين ﴿إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ ينطقهم الله تعالى: ﴿الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ زيادة في خزي المشركين وفضيحتهم وهوانهم
﴿وَأَلْقَوْاْ إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ﴾ أي استسلموا لحكمه: العابد والمعبود ﴿وَضَلَّ عَنْهُم﴾ غاب عنهم ﴿مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾ من الأرباب التي كانوا لها عابدين
﴿الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾ منعوا الناس عن دينه
﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ﴾ هو نبيهم ﴿وَجِئْنَا بِكَ﴾ يا محمد ﴿شَهِيداً عَلَى هَؤُلآءِ﴾ على قومك، أو على جميع المخلوقات ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ﴾ بياناً لكل ما يحتاجون إليه في معاشهم ومعادهم. ونظيره قوله تعالى: ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ﴾
﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ﴾ والعدل: يتناول القول، والفعل، والإشارة؛ بل يتناول كل المعاملات في شتى صورها. والعدل: جماع الفضائل كلها؛ فمن جعل العدل ديدنه: أحاطه الحب من كل جانب، وصار في عداد الأبرار، الأخيار، الأطهار قال تعالى: ﴿اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾.
ولما كان العدل قرين الإحسان، والإحسان: هو صلب العدل وأساسه؛ أمر الله تعالى به أيضاً فقال ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ﴾ والإحسان: يشمل كل خير يصل إلى الإنسان والحيوان، وهو أيضاً يشمل الأقوال والأفعال.
ولما كان العدل والإحسان لا يتمان إلا بصلة ذي القربى قال تعالى: ﴿وَإِيتَآءِ ذِي الْقُرْبَى﴾ وهو صلة الرحم، أو هو كل قريب منك: في النسب، أو الجوار؛ ووصلهم: بأن يبر فقيرهم، ويزور غنيهم، ويعود مريضهم، ويشيع موتاهم، متحبباً إليهم لذاتهم وقربهم؛ لا لمالهم وجاههم
لما أمر الله تعالى بالعدل والإحسان وبر الأقرباء؛ نهى عن أضداد هذه الصفات؛ فقال جل شأنه ﴿وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ﴾ والفحشاء: كل قبيح من قول أو فعل، أو هو الزنا «والمنكر» كل ما ينكره الشرع والعرف والذوق السليم؛ وهو شامل لجميع المعاصي، والرذائل، والدناءات؛ «والبغي» الظلم والكبر، والاعتداء؛ وهو إجمالاً تجاوز الحد
﴿وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ﴾ الناس؛ سمى الله تعالى العهود، والعقود، والمواثيق: عهوداً معه جل شأنه. (انظر آيتي صلى الله عليه وسلّم من سورة المائدة، و٧٢ من سورة الأنفال) ﴿وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ﴾ أي لا تحنثوا في أيمانكم وتكذبوا فيها ﴿بَعْدَ تَوْكِيدِهَا﴾ بعد إبرامها مع الغير، وبعد أن ترتبت لذلك الغير حقوق والتزامات في أعناقكم ﴿وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً﴾ أي شاهداً ورقيباً، أو متكفلاً بالوفاء؛ حيث حلفتم به
﴿وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ﴾ أي كالمرأة التي أفسدت غزلها من بعد أن تعبت فيه وأحكمته ﴿أَنكَاثاً﴾ أنقاضاً. وهو ما ينكث فتله: أي يحل نسجه ﴿تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ﴾ أي خديعة وفساداً، وتغريراً بالمحلوف له؛ ليطمئن إليكم؛ وأنتم مضمرون له الغدر وترك الوفاء. والدخل: ما يدخل في الشيء فيفسده؛ لأنه ليس منه ﴿أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى﴾ أنمى وأكثر وأقوى ﴿مِنْ أُمَّةٍ﴾ فتنقضون العهود، وتحنثون في الأيمان: مرضاة للأمة الأقوى ﴿إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ﴾ يختبركم بالوفاء بالعهد والأيمان
﴿وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾
بطريق القسر والجبر ﴿وَلكِن يُضِلُّ﴾ الله تعالى ﴿مَن يَشَآءُ﴾ إضلاله؛ بعد أن يعرض
-[٣٣٢]- عليه الإيمان فيأباه، ويسلكه في قلبه فيرفضه، ويسوق له الدليل تلو الدليل على ألوهيته ووحدانيته؛ فيزداد تمسكاً بما كان عليه آباؤه وأجداده
﴿وَلاَ تَتَّخِذُواْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ﴾ كرره تعالى للتأكيد. أي لا تجعلوها للغش والخداع ﴿فَتَزِلَّ قَدَمٌ﴾ أي تزل أقدام الحالفين عن محجة الصواب. وعن طريق الإسلام، الذي رسمه الله تعالى للأنام ﴿بَعْدَ ثُبُوتِهَا﴾ استقامتها وهدايتها ﴿وَتَذُوقُواْ الْسُّوءَ﴾ هو في الدنيا ما يلقاه الكاذب من ازدراء الناس له، وكراهتهم لقياه ومعاملته، وانصرافهم عن صحبته ﴿بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أي بصدكم عن الوفاء بالعهد والعقد، أو بصدكم الناس عن الوفاء لاقتدائهم بكم، واتباعهم سنتكم ﴿وَلَكُمْ﴾ في الآخرة ﴿عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ شديد أليم
﴿وَلاَ تَشْتَرُواْ﴾ لا تستبدلوا ﴿بِعَهْدِ اللَّهِ﴾ أوامره ونواهيه، أو ما عاقدتم الناس عليه ﴿ثَمَناً قَلِيلاً﴾ بأن تنقضوه من أجل قليل المال؛ الذي تأكلونه سحتاً وحراماً وهو قليل - وإن كثر - لانعدام بركته، وكثرة إثمه ﴿إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ﴾ من الثواب والأجر ﴿هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ من الدنيا وما فيها
﴿مَا عِندَكُمْ﴾ من مال - حلال أو حرام - كثير أو قليل ﴿يَنفَدُ﴾ يفنى؛ لأن مآله إلى الزوال؛ ولو من أيديكم لأيدي غيركم ﴿وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ﴾ دائم، لا يزول ولا ينقطع ﴿وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ﴾ على الطاعات، وعن المعاصي، وعلى الوفاء بالعهود والعقود، وصبروا على ما أصابهم من المحن. لنجزينهم ﴿أَجْرَهُمْ﴾ ثوابهم على ذلك في الدنيا بالحب والود والذكر الحسن، وفي الآخرة بالنعيم المقيم ﴿بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾
أي إن جزاءهم سيكون خيراً من عملهم وأحسن منه؛ ولا بدع فهو جزاء الملك الكريم الرحيم
﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ في الدنيا. والمراد بطيب الحياة: هدوء البال، وانشراح الصدر (انظر آية ١٢٤ من سورة طه) ﴿وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ﴾ في الآخرة ﴿بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ أي جزاء خيراً مما عملوا
﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ﴾ أي أردت قراءته ﴿فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ وهو دليل على وجوب الاستعاذة قبل القراءة؛ وذهب الأكثرون إلى أنها غير واجبة، بل مندوبة. ودليل الوجوب أقوى: فقد ورد عن الرسول الكريم صلوات الله تعالى وسلامه عليه: أن جبريل عليه الصلاة والسلام أقرأها له «أعوذ ب الله من الشيطان الرجيم» وقد ثبت أنه كان يستعيذ قبل القراءة في الصلاة؛ وعلى ذلك كثير من الصحابة والتابعين
﴿إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ﴾ قدرة وتسلط ﴿عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ في سائر أمورهم
﴿إِنَّمَا سُلْطَانُهُ﴾ تسلطه وإغواؤه ﴿عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ﴾ يطيعونه فيما يوسوس إليهم به؛ مما يخالف ما جاء به الرسل. يقال: توليته؛ إذا أطعته، وتوليت عنه؛
-[٣٣٣]- إذا أعرضت ﴿وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ﴾ أي بربهم
﴿وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ﴾ أي شريعة مكان أخرى؛ أو حكماً مكان آخر، أو نسخنا آية، وأنزلنا غيرها مكانها؛ لمصلحة العباد ﴿بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ﴾ مختلق؛ بدليل إتيانك بشريعة أو حكم؛ غير ما عرفنا من الشرائع والأحكام، أو آية غير ما جئت به من الآيات
﴿قُلْ نَزَّلَهُ﴾ أي نزل هذا القرآن الذي تنكرونه، وتنسبون إليّ افتراءه ﴿رُوحُ الْقُدُسِ﴾ جبريل عليه الصَّلاة والسَّلام ﴿لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ﴾ بما فيه من الحجج الظاهرات، والآيات البينات
﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ﴾ أي إنما يعلم محمداً القرآن ﴿بُشِّرَ﴾ زعموا - لعنهم الله تعالى - أن غلام الفاكهبن المغيرة - وكان نصرانياً وأسلم - كان يعلم محمداً ما يقوله للناس زاعماً أنه قرآن منزل من عند الله فرد الله تعالى عليهم بقوله: ﴿لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ﴾ أي يميلون بالقول إليه ويقصدونه بزعمهم ﴿أَعْجَمِيٌّ﴾ لا يكاد يبين ﴿وَهَذَا﴾ القرآن ﴿لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ﴾ واضح فصيح؛ فكيف يعلمه أعجمي؟
﴿إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ حججه وبراهينه، أو المراد: قرآنه ﴿لاَ يَهْدِيهِمُ اللَّهُ﴾ سبيل الرشاد في الدنيا؛ بل يضلهم ولا يوفقهم لإصابة الحق عقوبة لهم (انظر آية ٢٠٠ من سورة الشعراء)
﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ﴾ أي ليس محمد بمفتر ولا كاذب؛ وإنما المفترون هم ﴿الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ ويقولون «إنما يعلمه بشر» ﴿وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾ بقالتهم هذه، وافترائهم هذا
﴿إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ﴾ على الكفر: بالسيف والبغي؛ فله أن يتظاهر به اتقاء الموت والعذاب ﴿وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ﴾ لا يعتريه أدنى شك أو ارتياب ﴿وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً﴾ وطابت به نفسه، واتسع له صدره ﴿فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ بالغ الإيلام
﴿ذلِكَ﴾ العذاب ﴿بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا﴾ اختاروها وفضلوها ﴿عَلَى الآخِرَةِ﴾ وما فيها من نعيم مقيم
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ﴾ غطى وختم ﴿عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ فلا يفهمون الحق ﴿وَسَمْعِهِمْ﴾ فلا يسمعون النصح ﴿وَأَبْصَارِهِمْ﴾ فلا يبصرون الهدى
﴿لاَ جَرَمَ﴾ لا بد ولا محالة ﴿أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرونَ﴾ لأنهم لم يعملوا لها
﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ﴾ مع الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام إلى المدينة ﴿مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ﴾ أوذوا وعذبوا ﴿ثُمَّ جَاهَدُواْ﴾ المشركين ﴿وَصَبَرُواْ﴾ على الطاعة، وعن المعصية ﴿إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا﴾ أي بعد هذه الأعمال الصالحات، أو بعد الفتنة ﴿لَغَفُورٌ﴾ لهم ﴿رَّحِيمٌ﴾ بهم
﴿يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ﴾ يوم القيامة
-[٣٣٤]- ﴿تُجَادِلُ﴾ تحاج ﴿عَن نَّفْسِهَا﴾ لا يهمها غيرها؛ ﴿يَوْماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً﴾ ﴿وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ﴾ أي تعطى جزاء أعمالها
﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً﴾ هي مكة المكرمة؛ والمراد أهلها ﴿كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً﴾ من أن يغير عليها أحد، أو يعلن العداء لأهلها ﴿يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً﴾ واسعاً. قال تعالى: ﴿يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ ﴿فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ﴾ أي لم تشكره على ما آتاها من خير، وما وهبها الله من رزق (انظر آية ٧ من سورة إبراهيم) ﴿فَأَذَاقَهَا اللَّهُ﴾ أي أذاق أهلها ﴿لِبَاسَ الْجُوعِ﴾ دعا عليهم الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه؛ فقال: (اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف) فابتلاهم الله تعالى بالقحط سبع سنين؛ حتى أكلوا العظام والجيف أذاقها الله تعالى أيضاً لباس ﴿الْخَوْفِ﴾ فكانت سرايا رسولالله تطيف بهم ليلاً ونهاراً. ووصف الله تعالى الجوع والخوف باللباس: لأنهما خالطا أجسامهم مخالطة اللباس ﴿بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ﴾ أي بسبب ما صنعوا من المعاصي. وقيل: هذا المثل مضروب لكل قرية هذه صفتها، وتلك حالها وذهب بعضهم إلى أن المراد بالقرية: المدينة المنورة؛ وليس بشيء
﴿وَلَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ﴾ هو خاتم الرسل عليه الصَّلاة والسَّلام} الله
﴿عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ﴾ المسفوح
﴿وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾ أي ما ذبح على النصب، وما ذكر اسم غير الله تعالى عليه ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ﴾ إلى تناول شيء من هذه المحرمات؛ خشية هلاك محقق ﴿غَيْرَ بَاغٍ﴾ على المسلمين ﴿وَلاَ عَادٍ﴾ معتد عليهم. أو «غير باغ» في أكلها؛ بأن يأكلها مستطيباً لها، متلذذاً تناولها «ولا عاد» باستيفاء الأكل إلى حد الشبع؛ بل يتناول منها ما يسد رمقه، ويمنع تلفه
﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ﴾ أي لما تصف من الكذب ﴿هَذَا حَلاَلٌ﴾ وهو ليس بحلال ﴿وَهَذَا حَرَامٌ﴾ لما ليس بحرام
﴿مَتَاعٌ قَلِيلٌ﴾ في الدنيا لهؤلاء الكاذبين المفترين ﴿وَلَهُمْ﴾ في الآخرة ﴿عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ مؤلم.
﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ﴾ اليهود ﴿مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ﴾ في قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ﴾ (انظر آية ١٤٦ من سورة الأنعام)
﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ﴾ بجهل ﴿ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ﴾ السوء الذي عملوه بجهلهم ﴿وَأَصْلَحُواْ﴾ أعمالهم؛ فلم يقعوا فيما وقعوا فيه من قبل ﴿إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا﴾ أي من بعد توبتهم ﴿لَغَفُورٌ﴾ لذنوبهم ﴿رَّحِيمٌ﴾ بهم
﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً﴾ إماماً؛ والأمة: الرجل الجامع للخير والفضائل ﴿قَانِتاً﴾ مطيعاً عابداً ﴿حَنِيفاً﴾ مائلاً إلى الإسلام
﴿شَاكِراً لأَنْعُمِهِ﴾ أي مقدراً لأنعم الله تعالى عليه. وأولى هذه الأنعم: الإسلام ﴿اجْتَبَاهُ﴾ اختاره مولاه واصطفاه ﴿وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ طريق قويم؛ وهو الإسلام
﴿وَآتَيْنَاهُ فِي الْدُّنْيَا حَسَنَةً﴾ النبوة، والثناء الحسن، والذرية المباركة - وناهيك بمن كان رسولالله من نسله - وآتاه الله تعالى أيضاً تخليد اسمه والصلاة عليه في كل صلاة؛ مقروناً اسمه باسم سيد الخلق عليهما الصلاة والسلام
﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ﴾ يا محمد ﴿أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ وذلك لأنها أصل الملة الحنيفية
﴿إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ﴾ أي فرض تعظيم يوم السبت ﴿عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ﴾ روي أن موسى عليه السلام طلب من بني إسرائيل أن يفردوا يوماً للعبادة، وأن يكون ذلك اليوم يوم الجمعة؛ فأبى أكثرهم إلا يوم السبت، وارتضى الأقلون بيوم الجمعة
﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ﴾ دينه ﴿بِالْحِكْمَةِ﴾ القرآن ﴿وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾ القول الرفيق الرقيق، الذي ينفذ في القلوب، ويحبب إلى النفوس ﴿وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ أي بالرفق واللين؛ وإذا كان الكفار يجادلون بالرفق واللين؛ فما بالك بالمؤمنين الموحدين؟
﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾ ليس معنى ذلك أن من قتل ابني جاز لي أن أقتل ابنه، ومن قتل أبي جاز لي أن أقتل أباه، ومن سمم إبلي جاز لي أن أسمم إبله؛ بل المراد: معاقبة الآثم نفسه بمثل إثمه؛ فإن قتل: قتل.
وإن ألحق بالغير غرماً: غرم بغرم مماثل لما ألحقه بالآخرين ﴿وَلَئِن صَبَرْتُمْ﴾ عن الانتقام والمعاقبة ﴿لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ﴾ في الدنيا بترك الحزازات، ومنع الثأر والبغضاء الكامنة في النفوس؛ وفي الآخرة بما أعده الله تعالى للصابرين من جزيل لأجر، وواسع المغفرة ﴿وَاصْبِرْ﴾ يا محمد على أذى قومك
﴿وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ﴾ بمعونته وتوفيقه.
336
سورة الإسراء

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

336
Icon